الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع

فصل فِي صَلَاة الْعِيدَيْنِ
والعيد مُشْتَقّ من الْعود لتكرره كل عَام وَقيل لِكَثْرَة عوائد الله تَعَالَى فِيهِ على عباده وَقيل لعود السرُور بعوده وَجمعه أعياد وَإِنَّمَا جمع بِالْيَاءِ وَإِن كَانَ أَصله الْوَاو للزومها فِي الْوَاحِد وَقيل للْفرق بَينه وَبَين أَعْوَاد الْخشب وَالْأَصْل فِي صلَاته قبل الْإِجْمَاع مَعَ الْأَخْبَار الْآتِيَة قَوْله تَعَالَى {فصل لِرَبِّك وانحر} راد بِهِ صَلَاة الْأَضْحَى وَالذّبْح
وَأول عيد صلاه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عيد الْفطر فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة فَهِيَ سنة كَمَا قَالَ
(وَصَلَاة الْعِيدَيْنِ سنة) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للسَّائِل عَن الصَّلَاة خمس صلوَات كتبهن الله على عباده قَالَ لَهُ هَل عَليّ غَيرهَا قَالَ لَا إِلَّا أَن تطوع (مُؤَكدَة) لمواظبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهَا
وتشرع جمَاعَة وَهِي أفضل فِي حق غير الْحَاج بمنى أما هُوَ فَلَا تسن لَهُ صلَاتهَا جمَاعَة وَتسن لَهُ مُنْفَردا وتشرع أَيْضا للمنفرد وَالْعَبْد وَالْمَرْأَة وَالْخُنْثَى وَالْمُسَافر فَلَا تتَوَقَّف على شُرُوط الْجُمُعَة ووقتها مَا بَين طُلُوع الشَّمْس وزوالها يَوْم الْعِيد وَيسن تَأْخِيرهَا لترتفع الشَّمْس كرمح لِلِاتِّبَاعِ (وَهِي رَكْعَتَانِ) بِالْإِجْمَاع وَحكمهَا فِي الْأَركان والشروط وَالسّنَن كَسَائِر الصَّلَوَات يحرم بهَا بنية صَلَاة عيد الْفطر أَو الْأَضْحَى هَذَا أقلهَا وَبَيَان أكملها مَذْكُور فِي قَوْله (يكبر فِي) الرَّكْعَة (الأولى سبعا) بِتَقْدِيم السِّين على

(1/186)


الْمُوَحدَة (سوى تَكْبِيرَة الْإِحْرَام) بعد دُعَاء الِافْتِتَاح وَقبل التَّعَوُّذ لما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَحسنه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كبر فِي الْعِيدَيْنِ فِي الأولى سبعا قبل الْقِرَاءَة وَفِي الثَّانِيَة خمْسا قبل الْقِرَاءَة وَعلم من عبارَة المُصَنّف أَن تَكْبِيرَة الْإِحْرَام لَيست من السَّبع وَجعلهَا مَالك والمزني وَأَبُو ثَوْر مِنْهَا يقف ندبا بَين كل اثْنَتَيْنِ مِنْهَا كآية معتدلة يهلل وَيكبر ويمجد وَيحسن فِي ذَلِك أَن يَقُول سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر لِأَنَّهُ لَائِق بِالْحَال وَهِي الْبَاقِيَات الصَّالِحَات ثمَّ يتَعَوَّذ بعد التَّكْبِيرَة الْأَخِيرَة وَيقْرَأ الْفَاتِحَة كَغَيْرِهَا من الصَّلَوَات (و) يكبر (فِي) الرَّكْعَة (الثَّانِيَة) بعد تَكْبِيرَة الْقيام (خمْسا سوى تَكْبِيرَة الْقيام) بِالصّفةِ السَّابِقَة قبل التَّعَوُّذ وَالْقِرَاءَة للْخَبَر الْمُتَقَدّم ويجهر وَيرْفَع يَدَيْهِ ندبا فِي الْجَمِيع كَغَيْرِهَا من تَكْبِير الصَّلَوَات
وَيسن أَن يضع يمناه على يسراه تَحت صَدره بَين كل تكبيرتين كَمَا فِي تَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَلَو شكّ فِي عدد التَّكْبِيرَات أَخذ بِالْأَقَلِّ كَمَا فِي عدد الرَّكْعَات وَهَذِه التَّكْبِيرَات من الهيئات كالتعوذ وَدُعَاء الِافْتِتَاح فلسن فرضا وَلَا بَعْضًا فَلَا يسْجد لتركهن وَإِن كَانَ التّرْك لكلهن أَو بَعضهنَّ مَكْرُوها وَيكبر فِي قَضَاء صَلَاة الْعِيد مُطلقًا لِأَنَّهُ من هيئاتها كَمَا مر وَلَو نسي التَّكْبِيرَات وَشرع فِي الْقِرَاءَة وَلَو لم يتم الْفَاتِحَة لم يتداركها وَلَو تذكرها بعد التَّعَوُّذ وَلم يقْرَأ كبر بِخِلَاف مَا لَو تعوذ قبل الِافْتِتَاح لَا يَأْتِي بِهِ لِأَنَّهُ بعد التَّعَوُّذ لَا يكون مستفتحا وَينْدب أَن يقْرَأ بعد الْفَاتِحَة فِي الرَّكْعَة الأولى ق وَفِي الثَّانِيَة {اقْتَرَبت السَّاعَة} أَو {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} فِي الأولى والغاشية فِي الثَّانِيَة جَهرا لِلِاتِّبَاعِ
(ويخطب بعدهمَا) أَي الرَّكْعَتَيْنِ (خطبتين) لجَماعَة لَا لمنفرد كخطبتي الْجُمُعَة فِي أَرْكَان وَسنَن لَا فِي شُرُوط خلافًا للجرجاني وَحُرْمَة قِرَاءَة الْجنب آيَة فِي إِحْدَاهمَا لَيْسَ لكَونهَا ركنا فِيهَا بل لكَون الْآيَة قُرْآنًا لَكِن لَا يخفى أَنه يعْتَبر فِي أَدَاء السّنة الإسماع وَالسَّمَاع وَكَون الْخطْبَة عَرَبِيَّة وَيسن أَن يعلمهُمْ فِي عيد الْفطر الْفطْرَة وَفِي عيد الْأَضْحَى الْأُضْحِية
فرع قَالَ أَئِمَّتنَا الْخطب الْمَشْرُوعَة عشر خطْبَة الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ والكسوفين وَالِاسْتِسْقَاء وَأَرْبع فِي الْحَج وَكلهَا بعد الصَّلَاة إِلَّا خطبتي الْجُمُعَة وعرفة فقبلها وكل مِنْهَا اثْنَتَانِ إِلَّا الثَّلَاثَة الْبَاقِيَة فِي الْحَج ففرادى
(وَيكبر) ندبا (فِي) افْتِتَاح الْخطْبَة (الأولى تسعا) بِتَقْدِيم الْمُثَنَّاة على السِّين (و) يكبر (فِي) افْتِتَاح (الثَّانِيَة سبعا) بِتَقْدِيم السِّين على الْمُوَحدَة وَلَاء إفرادا فِي الْجَمِيع تَشْبِيها للخطبتين بِصَلَاة الْعِيد فَإِن الرَّكْعَة الأولى تشْتَمل على تسع تَكْبِيرَات فَإِن فِيهَا سبع تَكْبِيرَات وَتَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَتَكْبِيرَة الرُّكُوع والركعة الثَّانِيَة على سبع تَكْبِيرَات فَإِن فِيهَا خمس تَكْبِيرَات وَتَكْبِيرَة الْقيام وَتَكْبِيرَة الرُّكُوع وَالْوَلَاء سنة فِي التَّكْبِيرَات وَكَذَا الْإِفْرَاد فَلَو تخَلّل ذكر بَين كل تكبيرتين أَو قرن بَين كل تكبيرتين جَازَ
والتكبيرات الْمَذْكُورَات لَيست من الْخطْبَة بل مُقَدّمَة لَهَا كَمَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وافتتاح الشَّيْء قد يكون بمقدمته الَّتِي لَيست مِنْهُ
وَسن غسل للعيدين وَإِن لم يرد لحضور لِأَنَّهُ يَوْم زِينَة وَيدخل وقته بِنصْف اللَّيْل وتبكير بعد الصُّبْح لغير إِمَام وَأَن يحضر الإِمَام وَقت الصَّلَاة ويعجل الْحُضُور فِي أضحى ويؤخره فِي فطر قَلِيلا وحكمته اتساع وَقت التَّضْحِيَة وَوقت صَدَقَة الْفطر قبل الصَّلَاة وفعلها بِمَسْجِد أفضل لشرفه إِلَّا لعذر كضيقه وَإِذا خرج لغير الْمَسْجِد اسْتخْلف ندبا من يُصَلِّي ويخطب فِيهِ وَأَن يذهب للصَّلَاة فِي طَرِيق طَوِيل مَاشِيا بسكينة وَيرجع فِي آخر قصير كجمعة وَأَن يَأْكُل قبلهَا فِي عيد فطر وَالْأولَى أَن يكون على تمر وَأَن يكون وترا ويمسك عَن الْأكل فِي عيد الْأَضْحَى وَلَا يكره نفل قبلهَا بعد ارْتِفَاع الشَّمْس لغير إِمَام أما بعْدهَا فَإِن لم يسمع الْخطْبَة فَكَذَلِك وَإِلَّا كره لِأَنَّهُ بذلك معرض عَن الْخَطِيب بِالْكُلِّيَّةِ وَأما الإِمَام فَيكْرَه لَهُ التَّنَفُّل قبلهَا وَبعدهَا لاشتغاله بِغَيْر أَي عيد الْفطر والأضحى بِرَفْع صَوت فِي الْمنَازل والأسواق وَغَيرهمَا
وَدَلِيله فِي الأول قَوْله تَعَالَى {ولتكملوا الْعدة} أَي عدَّة صَوْم رَمَضَان الأهم

(1/187)


(وَيكبر) ندبا كل أحد غير حَاج (من غرُوب الشَّمْس من لَيْلَة الْعِيد) {ولتكبروا الله} أَي عِنْد إكمالها وَفِي الثَّانِي الْقيَاس على الأول وَفِي رفع الصَّوْت إِظْهَار شعار الْعِيد
وَاسْتثنى الرَّافِعِيّ مِنْهُ الْمَرْأَة وَظَاهر أَن مَحَله إِذا حضرت مَعَ غير محارمها وَنَحْوهم وَمثلهَا الْخُنْثَى
وَيسْتَمر التَّكْبِير (إِلَى أَن يدْخل الإِمَام فِي الصَّلَاة) أَي صَلَاة الْعِيد إِذْ الْكَلَام مُبَاح إِلَيْهِ فالتكبير أولى مَا يشْتَغل بِهِ لِأَنَّهُ ذكر الله تَعَالَى وشعار الْيَوْم فَإِن صلى مُنْفَردا فَالْعِبْرَة بإحرامه (و) يكبر (فِي) عيد (الْأَضْحَى خلف صَلَاة الْفَرَائِض) والنوافل وَلَو فَائِتَة وَصَلَاة جَنَازَة (من) بعد صَلَاة (صبح يَوْم عَرَفَة إِلَى) بعد صَلَاة (الْعَصْر فِي آخر أَيَّام التَّشْرِيق) الثَّلَاث لِلِاتِّبَاعِ وَأما الْحَاج فيكبر عقب كل صَلَاة من ظهر يَوْم النَّحْر لِأَنَّهَا أول صلَاته بعد انْتِهَاء وَقت التَّلْبِيَة إِلَى عقب صبح آخر أَيَّام التَّشْرِيق لِأَنَّهَا آخر صلَاته بمنى وَقبل ذَلِك لَا يكبر بل يُلَبِّي لِأَن التَّلْبِيَة شعاره وَخرج بِمَا ذكر الصَّلَوَات فِي عيد الْفطر فَلَا يسن التَّكْبِير عَقبهَا لعدم وُرُوده وَالتَّكْبِير عقب الصَّلَوَات يُسمى مُقَيّدا وَمَا قبله مُطلقًا ومرسلا وصيغته المحبوبة الله أكبر الله أكبر الله أكبر لَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر الله أكبر وَللَّه الْحَمد وَاسْتحْسن فِي الْأُم أَن يزِيد بعد التَّكْبِيرَة الثَّالِثَة الله أكبر كَبِيرا وَالْحَمْد لله كثيرا وَسُبْحَان الله بكرَة وَأَصِيلا لَا إِلَه إِلَّا الله وَلَا نعْبد إِلَّا إِيَّاه مُخلصين لَهُ الدّين وَلَو كره الْكَافِرُونَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده صدق وعده وَنصر عَبده وأعز جنده وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده لَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر وَتقبل شَهَادَة هِلَال شَوَّال يَوْم الثَّلَاثِينَ فنفطر ثمَّ إِن كَانَت شَهَادَتهم قبل الزَّوَال بِزَمن يسع الِاجْتِمَاع وَالصَّلَاة أَو رَكْعَة مِنْهَا صلى الْعِيد حِينَئِذٍ أَدَاء وَإِلَّا فتصلى قَضَاء مَتى أُرِيد قَضَاؤُهَا أما شَهَادَتهم بعد الْيَوْم بِأَن شهدُوا بعد الْغُرُوب فَلَا تقبل فِي صَلَاة الْعِيد فتصلى من الْغَد أَدَاء وَتقبل فِي غَيرهَا كوقوع الطَّلَاق وَالْعِتْق المعلقين بِرُؤْيَة الْهلَال وَالْعبْرَة فِيمَا لَو شهدُوا قبل الزَّوَال وَعدلُوا بعده بِوَقْت التَّعْدِيل
تَتِمَّة قَالَ الْقَمُولِيّ لم أر لأحد من أَصْحَابنَا كلَاما فِي التهنئة بالعيد والأعوام وَالْأَشْهر كَمَا يَفْعَله النَّاس لَكِن نقل الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ عَن الْحَافِظ الْمَقْدِسِي أَنه أجَاب عَن ذَلِك بِأَن النَّاس لم يزَالُوا مُخْتَلفين فِيهِ وَالَّذِي أرَاهُ أَنه مُبَاح لَا سنة فِيهِ وَلَا بِدعَة
وَأجَاب الشهَاب ابْن حجر بعد اطِّلَاعه على ذَلِك بِأَنَّهَا مَشْرُوعَة وَاحْتج لَهُ بِأَن الْبَيْهَقِيّ عقد لذَلِك بَابا فَقَالَ بَاب مَا رُوِيَ فِي قَول النَّاس بَعضهم لبَعض فِي الْعِيد تقبل الله منا ومنك
وسَاق مَا ذكر من أَخْبَار وآثار ضَعِيفَة لَكِن مجموعها يحْتَج بِهِ فِي مثل ذَلِك ثمَّ قَالَ ويحتج لعُمُوم التهنئة بِمَا يحدث من نعْمَة أَو ينْدَفع من نقمة بمشروعية سُجُود الشُّكْر والتعزية وَبِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن كَعْب بن مَالك فِي قصَّة تَوْبَته لما تخلف عَن غَزْوَة تَبُوك أَنه لما بشر بِقبُول تَوْبَته وَمضى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَامَ إِلَيْهِ طَلْحَة بن عبيد الله فهنأه
وَينْدب إحْيَاء لَيْلَة الْعِيد بِالْعبَادَة وَيحصل ذَلِك بإحياء مُعظم اللَّيْل

(1/188)


فصل فِي صَلَاة الْكُسُوف للشمس والخسوف للقمر
وَهَذَا هُوَ الْأَفْصَح كَمَا فِي الصِّحَاح وَيُقَال فيهمَا كسوفان وخسوفان
قَالَ عُلَمَاء الْهَيْئَة إِن كسوف الشَّمْس لَا حَقِيقَة لَهُ لعدم تغيرها فِي نَفسهَا لاستفادة ضوئها من جرمها وَإِنَّمَا الْقَمَر يحول بظلمته بَيْننَا وَبَينهَا مَعَ بَقَاء نورها فَيرى لون الْقَمَر كمدا فِي وَجه الشَّمْس فيظن ذهَاب ضوئها وَأما خُسُوف الْقَمَر فحقيقتة بذهاب ضوئه لِأَن ضوءه من ضوء الشَّمْس وكسوفه بحيلولة ظلّ الأَرْض بَين الشَّمْس وَبَينه فَلَا يبْقى فِيهِ ضوء الْبَتَّةَ
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {لَا تسجدوا للشمس وَلَا للقمر واسجدوا لله} عِنْد كسوفهما وأخبار كَخَبَر مُسلم إِن الشَّمْس وَالْقَمَر آيتان من آيَات الله لَا ينكسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فصلوا وَادعوا حَتَّى ينْكَشف مَا بكم
(وَصَلَاة الْكُسُوف) الشَّامِل الخسوف (سنة) للدليل الْمَذْكُور وَغَيره (مُؤَكدَة) لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعلهَا لكسوف الشَّمْس كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ ولخسوف الْقَمَر كَمَا رَوَاهُ ابْن حبَان فِي كِتَابه عَن الثِّقَات وواظب عَلَيْهِمَا وَإِنَّمَا لم تجب لخَبر الصَّحِيحَيْنِ هَل عَليّ غَيرهَا أَي الْخمس قَالَ لَا إِلَّا أَن تطوع وَلِأَنَّهَا ذَات رُكُوع وَسُجُود لَا أَذَان لَهَا كَصَلَاة الاسْتِسْقَاء
وَأما قَول الشَّافِعِي فِي الْأُم لَا يجوز تَركهَا فَمَحْمُول على كَرَاهِيَة لتأكدها ليُوَافق كَلَامه فِي مَوَاضِع أخر وَالْمَكْرُوه قد يُوصف بِعَدَمِ الْجَوَاز من جِهَة إِطْلَاق الْجَائِز على مستوى الطَّرفَيْنِ (فَإِن فَاتَت) وفوات صَلَاة كسوف الشَّمْس بالإنجلاء وبغروبها كاسفة وفوات صَلَاة خُسُوف الْقَمَر بالإنجلاء وبطلوع الشَّمْس لَا بِطُلُوع الْفجْر (لم تقض) لزوَال الْمَعْنى الَّذِي لأَجله شرعت فَإِن حصل الإنجلاء أَو الْغُرُوب فِي الشَّمْس أَو طُلُوع الشَّمْس فِي الْقَمَر فِي أَثْنَائِهَا لم تبطل بِلَا خلاف
(وَيُصلي) الشَّخْص (لكسوف الشَّمْس وخسوف الْقَمَر رَكْعَتَيْنِ) فِي كل رَكْعَة ركوعان كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامه فَيحرم بنية صَلَاة الْكُسُوف وَيقْرَأ بعد الِافْتِتَاح والتعوذ الْفَاتِحَة ويركع ثمَّ يعتدل ثمَّ يقْرَأ الْفَاتِحَة ثَانِيًا ثمَّ يرْكَع ثَانِيًا ثمَّ يعتدل ثَانِيًا ثمَّ يسْجد السَّجْدَتَيْنِ وَيَأْتِي بالطمأنينة فِي محلهَا فَهَذِهِ رَكْعَة ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَة ثَانِيَة كَذَلِك لِلِاتِّبَاعِ
وَقَوْلهمْ إِن هَذَا أقلهَا أَي إِذا شرع فِيهَا بنية هَذِه الزِّيَادَة وَإِلَّا فَفِي الْمَجْمُوع عَن مُقْتَضى كَلَام الْأَصْحَاب أَنه لَو صلاهَا كَسنة الظّهْر صحت وَكَانَ تَارِكًا للأفضل وَيحمل على أَنه أقل الْكَمَال
وَلَا يجوز زِيَادَة رُكُوع ثَالِث فَأكْثر لطول مكث الْكُسُوف وَلَا يجوز إِسْقَاط رُكُوع للإنجلاء كَسَائِر الصَّلَوَات لَا يُزَاد على أَرْكَانهَا وَلَا ينقص مِنْهَا وَورد ثَلَاث ركوعات وَأَرْبع ركوعات فِي كل رَكْعَة
وَأجَاب الْجُمْهُور بِأَن أَحَادِيث الركوعين فِي الصَّحِيحَيْنِ فَهِيَ أشهر وَأَصَح فَقدمت على بَقِيَّة الرِّوَايَات وأكملها (فِي كل رَكْعَة قيامان) قبل السُّجُود (يُطِيل الْقِرَاءَة فيهمَا) فَيقْرَأ فِي الْقيام الأول كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم بعد الْفَاتِحَة وسوابقها من افْتِتَاح وتعوذ الْبَقَرَة بكمالها إِن أحْسنهَا وَإِلَّا فقدرها وَيقْرَأ فِي الْقيام الثَّانِي كمائتي آيَة مِنْهَا وَفِي الْقيام الثَّالِث كمائة وَخمسين مِنْهَا وَفِي الْقيام الرَّابِع كمائة آيَة مِنْهَا تَقْرِيبًا فِي الْجَمِيع
وَنَصّ فِي الْبُوَيْطِيّ أَنه يقْرَأ فِي الْقيام الثَّانِي آل عمرَان أَو قدرهَا وَفِي الثَّالِث النِّسَاء أَو قدرهَا وَفِي الرَّابِع الْمَائِدَة أَو قدرهَا والمحققون على أَنه لَيْسَ باخْتلَاف بل هُوَ للتقريب (وَفِي) كل رَكْعَة (ركوعان يُطِيل التَّسْبِيح فيهمَا) فيسبح فِي الرُّكُوع الأول من الركوعات الْأَرْبَعَة فِي الرَّكْعَتَيْنِ قدر مائَة من الْبَقَرَة وَفِي الرُّكُوع الثَّانِي قدر ثَمَانِينَ مِنْهَا وَفِي الرُّكُوع الثَّالِث قدر سبعين مِنْهَا بِتَقْدِيم السِّين على الْمُوَحدَة كَمَا فِي الْمِنْهَاج خلافًا لما فِي التَّنْبِيه من تَقْدِيم الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة على السِّين وَفِي الرُّكُوع الرَّابِع قدر خمسين مِنْهَا تَقْرِيبًا فِي الْجَمِيع لثُبُوت التَّطْوِيل

(1/189)


من الشَّارِع بِلَا تَقْدِير (دون السجدات) أَي فَلَا يطيلها كالجلوس بَينهَا والاعتدال من الرُّكُوع الثَّانِي وَالتَّشَهُّد وَهَذَا مَا جرى عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ وَالصَّحِيح كَمَا قَالَه ابْن الصّلاح وَتَبعهُ النَّوَوِيّ وَثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكسوف الشَّمْس
وَنَصّ فِي كتاب الْبُوَيْطِيّ أَنه يطيلها نَحْو الرُّكُوع الَّذِي قبلهَا
قَالَ الْبَغَوِيّ السُّجُود الأول كالركوع الأول وَالسُّجُود الثَّانِي كالركوع الثَّانِي وَاخْتَارَهُ فِي الرَّوْضَة
وَظَاهر كَلَامهم اسْتِحْبَاب هَذِه الإطالة وَإِن لم يرض بهَا المأمومون وَيفرق بَينهَا وَبَين الْمَكْتُوبَة بالندرة
وَلَو نوى صَلَاة الْكُسُوف وَأطلق هَل يحمل على أقلهَا وَهِي كَسنة الظّهْر أَو على أدنى الْكَمَال وَهُوَ أَن تكون بركوعين قِيَاس مَا قَالُوهُ فِي صَلَاة الْوتر إِنَّه مُخَيّر بَين الْأَقَل وَغَيره أَن يكون هُنَا كَذَلِك وَلم أر من ذكره
وَتسن الْجَمَاعَة فِيهَا لِلِاتِّبَاعِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَتسن للمنفرد وَالْعَبْد وَالْمَرْأَة وَالْمُسَافر كَمَا فِي الْمَجْمُوع وَتسن للنِّسَاء غير ذَوَات الهيئات الصَّلَاة مَعَ الإِمَام وَذَوَات الهيئات يصلين فِي بُيُوتهنَّ منفردات فَإِن اجْتَمعْنَ فَلَا بَأْس وَيسن صلَاتهَا فِي الْجَامِع كَنَظِيرِهِ فِي الْعِيد (ويخطب) الإِمَام (بعْدهَا) أَي بعد الصَّلَاة (خطبتين) كخطبتي عيد كَمَا مر لَكِن لَا يكبر تَكْبِير فيهمَا لعدم وُرُوده وَإِنَّمَا تسن الْخطْبَة للْجَمَاعَة وَلَو مسافرين بِخِلَاف الْمُنْفَرد ويحث فيهمَا السامعين على فعل الْخَيْر من تَوْبَة وَصدقَة وَعتق وَنَحْوهَا لِلْأَمْرِ بذلك فِي البُخَارِيّ وَغَيره
وَيسن الْغسْل لصَلَاة الْكُسُوف
وَأما التَّنْظِيف بحلق الشّعْر وقلم الظفر فَلَا يسن لَهَا كَمَا صرح بِهِ بعض فُقَهَاء الْيمن فَإِنَّهُ يضيق الْوَقْت وَيظْهر أَنه يخرج فِي ثِيَاب بذلة قِيَاسا على الاسْتِسْقَاء لِأَنَّهُ اللَّائِق بِالْحَال وَلم أر من تعرض لَهُ
وَمن أدْرك الإِمَام فِي ركع أول من الرَّكْعَة الأولى أَو الثَّانِيَة أدْرك الرَّكْعَة كَمَا فِي سَائِر الصَّلَوَات أَو أدْركهُ فِي رُكُوع ثَان أَو فِي قيام ثَان من أَي رَكْعَة فَلَا يدْرك شَيْئا مِنْهَا لِأَن الأَصْل هُوَ الرُّكُوع الأول وقيامه وَالرُّكُوع الثَّانِي وقيامه فِي حكم التَّابِع
(وَيسر فِي) قِرَاءَة (كسوف الشَّمْس) لِأَنَّهَا نهارية (ويجهر فِي) قِرَاءَة (خُسُوف الْقَمَر) لِأَنَّهَا صَلَاة ليل أَو مُلْحقَة بهَا وَهُوَ إِجْمَاع وَلَو اجْتمع عَلَيْهِ صلاتان فَأكْثر وَلم يَأْمَن الْفَوات قدم الأخوف فواتا ثمَّ الآكد فعلى هَذَا لَو اجْتمع عَلَيْهِ كسوف وجمعة أَو فرض آخر غَيرهَا قدم الْفَرْض جُمُعَة أَو غَيرهَا لِأَن فعله محتم فَكَانَ أهم هَذَا إِن خيف فَوَاته لضيق وقته فَفِي الْجُمُعَة يخْطب لَهَا ثمَّ يُصليهَا ثمَّ الْكُسُوف إِن بَقِي ثمَّ يخْطب لَهُ وَفِي غير الْجُمُعَة يُصَلِّي الْفَرْض ثمَّ يفعل بالكسوف مَا مر فَإِن لم يخف فَوت الْفَرْض قدم الْكُسُوف لتعرضها للفوات بالإنجلاء ويخففها كَمَا فِي الْمَجْمُوع فَيقْرَأ فِي كل قيام الْفَاتِحَة وَنَحْو سُورَة الْإِخْلَاص كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم
ثمَّ يخْطب للْجُمُعَة فِي صورتهَا متعرضا للكسوف وَلَا يَصح أَن يَقْصِدهُ مَعهَا للخطبة لِأَنَّهُ تشريك بَين فرض وَنفل مَقْصُود وَهُوَ مُمْتَنع ثمَّ يُصَلِّي الْجُمُعَة وَلَا يحْتَاج إِلَى أَربع خطب لِأَن خطْبَة الْكُسُوف مُتَأَخِّرَة عَن صلَاتهَا وَالْجُمُعَة بِالْعَكْسِ
وَلَو اجْتمع عيد وجنازة أَو كسوف وجنازة قدمت الْجِنَازَة فيهمَا خوفًا من تغير الْمَيِّت وَلَكِن مَحل تَقْدِيمهَا إِذا حضرت وَحضر الْوَلِيّ وَإِلَّا أفرد الإِمَام جمَاعَة ينتظرونها واشتغل مَعَ البَاقِينَ بغَيْرهَا
والعيد مَعَ الْكُسُوف كالفرض مَعَه لِأَن الْعِيد أفضل مِنْهُ لَكِن يجوز أَن يقصدهما مَعًا بالخطبتين لِأَنَّهُمَا سنتَانِ وَالْقَصْد مِنْهُمَا وَاحِد مَعَ أَنَّهُمَا تابعان للمقصود فَلَا تضر نيتهما بِخِلَاف الصَّلَاة
تَتِمَّة يسن لكل أحد أَن يتَضَرَّع بِالدُّعَاءِ وَنَحْوه عِنْد الزلازل وَنَحْوهَا كالصواعق وَالرِّيح الشَّدِيدَة والخسف وَأَن يُصَلِّي فِي بَيته مُنْفَردا كَمَا قَالَه ابْن الْمقري لِئَلَّا يكون غافلا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا عصفت الرّيح قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك خَيرهَا وَخير مَا فِيهَا وَخير مَا أرْسلت بِهِ وَأَعُوذ بك من شَرها وَشر مَا فِيهَا وَشر مَا أرْسلت بِهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رياحا وَلَا تجعلها ريحًا

(1/190)


فصل فِي صَلَاة الاسْتِسْقَاء
هُوَ لُغَة طلب السقيا وَشرعا طلب سقيا الْعباد من الله تَعَالَى عِنْد حَاجتهم إِلَيْهَا
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قبل الْإِجْمَاع الِاتِّبَاع رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيرهمَا ويستأنس لذَلِك بقوله تَعَالَى {وَإِذ استسقى مُوسَى لِقَوْمِهِ} وَصَلَاة الاسْتِسْقَاء مسنونة مُؤَكدَة لما مر وَإِنَّمَا لم تجب لخَبر هَل عَليّ غَيرهَا
وينقسم أَي الاسْتِسْقَاء إِلَى ثَلَاثَة أَنْوَاع أدناها يكون بِالدُّعَاءِ مُطلقًا عَمَّا يَأْتِي فُرَادَى أَو مُجْتَمعين وأوسطها يكون بِالدُّعَاءِ خلف الصَّلَوَات فَرضهَا كَمَا فِي شرح مُسلم ونفلها كَمَا فِي الْبَيَان وَفِي خطْبَة الْجُمُعَة وَنَحْو ذَلِك وَالْأَفْضَل أَن يكون بِالصَّلَاةِ وَالْخطْبَة وَيَأْتِي بيانهما وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الْمُقِيم وَلَو بقرية أَو بادية وَالْمُسَافر وَلَو سفر قصر لِاسْتِوَاء الْكل فِي الْحَاجة وَإِنَّمَا تصلى لحَاجَة من انْقِطَاع المَاء أَو قلته بِحَيْثُ لَا يَكْفِي أَو ملوحته ولاستزادة بهَا نفع بِخِلَاف مَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَلَا نفع بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت
وَشَمل مَا ذكر مَا لَو انْقَطع عَن طَائِفَة من الْمُسلمين واحتاجت إِلَيْهِ فَيسنّ لغَيرهم أَيْضا أَن يستسقوا لَهُم ويسألوا الزِّيَادَة النافعة لأَنْفُسِهِمْ وتكرر الصَّلَاة مَعَ الْخطْبَتَيْنِ حَتَّى يسقوا فَإِن سقوا قبلهَا اجْتَمعُوا لشكر وَدُعَاء وصلوا وخطب لَهُم الإِمَام شكرا لله تَعَالَى وطلبا للمزيد قَالَ تَعَالَى {لَئِن شكرتم لأزيدنكم} وَإِذا أَرَادوا الْخُرُوج للصَّلَاة (فيأمرهم الإِمَام) الْأَعْظَم أَو نَائِبه قبل الْخُرُوج إِلَيْهَا (بِالتَّوْبَةِ) من جَمِيع الْمعاصِي الفعلية والقولية الْمُتَعَلّقَة بِحُقُوق الله تَعَالَى بشروطها الثَّلَاثَة وَهِي النَّدَم والإقلاع والعزم على أَن لَا يعود (و) بالإكثار (من الصَّدَقَة) على المحاويج (و) بِالتَّوْبَةِ من حُقُوق الْآدَمِيّين (و) هِيَ الْمُبَادرَة إِلَى (الْخُرُوج من الْمَظَالِم) الْمُتَعَلّقَة بهم من دم أَو عرض أَو مَال مُضَافا ذَلِك إِلَى الشُّرُوط الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة (و) بالمبادرة إِلَى (مصالحة الْأَعْدَاء) المتشاحنين لأمر دُنْيَوِيّ ولحظ نفس لتَحْرِيم الهجران حِينَئِذٍ فَوق ثَلَاث (و) بالمبادرة إِلَى (صِيَام ثَلَاثَة أَيَّام) متتابعة ويصوم مَعَهم وَذَلِكَ قبل ميعاد الْخُرُوج فَهِيَ بِهِ أَرْبَعَة لِأَن لكل من هَذِه الْمَذْكُورَات أثرا فِي إِجَابَة الدُّعَاء قَالَ تَعَالَى {وَيَا قوم اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا} يكون منع الْغَيْث بترك ذَلِك فقد روى الْبَيْهَقِيّ وَلَا منع قوم الزَّكَاة إِلَّا حبس عَنْهُم الْمَطَر وَفِي خبر التِّرْمِذِيّ ثَلَاثَة لَا ترد دعوتهم الصَّائِم حَتَّى يفْطر وَالْإِمَام الْعَادِل والمظلوم وروى الْبَيْهَقِيّ دَعْوَة الصَّائِم وَالْوَالِد وَالْمُسَافر وَإِذا أَمرهم الإِمَام بِالصَّوْمِ لَزِمَهُم امْتِثَال أمره كَمَا أفتى بِهِ النَّوَوِيّ وَسَبقه إِلَى ذَلِك ابْن عبد السَّلَام لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله} الْآيَة
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَالْقِيَاس طرده فِي جَمِيع

(1/191)


الْمَأْمُور بِهِ هُنَا انْتهى
وَيدل لَهُ قَوْلهم فِي بَاب الْإِمَامَة الْعُظْمَى تجب طَاعَة الإِمَام فِي أمره وَنَهْيه مَا لم يُخَالف حكم الشَّرْع
وَاخْتَارَ الْأَذْرَعِيّ عدم وجوب الصَّوْم كَمَا لَو أَمرهم بِالْعِتْقِ وَصدقَة التَّطَوُّع
قَالَ الْغَزِّي وَفِي الْقيَاس نظر لِأَن ذَلِك إِخْرَاج مَال وَقد قَالُوا إِذا أَمرهم بالاستسقاء فِي الجدب وَجَبت طَاعَته فيقاس الصَّوْم على الصَّلَاة فَيُؤْخَذ من كَلَامهمَا أَن الْأَمر بِالْعِتْقِ وَالصَّدَََقَة لَا يجب امتثاله وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وَإِن كَانَ كَلَامهم فِي الْإِمَامَة شَامِلًا لذَلِك إِذْ نفس وجوب الصَّوْم مُنَازع فِيهِ فَمَا بالك بِإِخْرَاج المَال الشاق على أَكثر النَّاس وَإِذا قيل بِوُجُوب الصَّوْم وَجب فِيهِ تبييت النِّيَّة كَمَا قَالَه الأسنوي وَإِن اخْتَار الْأَذْرَعِيّ عدم الْوُجُوب وَقَالَ يبعد عدم صِحَة صَوْم من لم ينْو لَيْلًا كل الْبعد (ثمَّ يخرج بهم) أَي بِالنَّاسِ (الإِمَام) أَو نَائِبه إِلَى الصَّحرَاء حَيْثُ لَا عذر تأسيا بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِأَن النَّاس يكثرون فَلَا يسعهم الْمَسْجِد غَالِبا
وَظَاهر كَلَامهم أَنه لَا فرق بَين مَكَّة وَغَيرهَا وَإِن اسْتثْنى بَعضهم مَكَّة وَبَيت الْمُقَدّس لفضل الْبقْعَة وسعتها ولأنا مأمورون بإحضار الصّبيان ومأمورون بِأَن نجنبهم الْمَسَاجِد (فِي) الْيَوْم (الرَّابِع) من صِيَامهمْ صياما لحَدِيث ثَلَاثَة لَا ترد دعوتهم الْمُتَقَدّم
وَيَنْبَغِي للْخَارِج أَن يُخَفف أكله وشربه تِلْكَ اللَّيْلَة مَا أمكن وَيخرجُونَ غير متطيبين وَلَا متزينين بل (فِي ثِيَاب بذلة) بِكَسْر الْمُوَحدَة وَسُكُون الْمُعْجَمَة أَي مهنة وَهُوَ من إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صفته أَي مَا يلبس من الثِّيَاب فِي وَقت الشّغل ومباشرة الْخدمَة وَتصرف الْإِنْسَان فِي بَيته (و) فِي (استكانة) أَي خشوع وَهُوَ حُضُور الْقلب وَسُكُون الْجَوَارِح وخفض الصَّوْت وَيُرَاد بِهِ أَيْضا التذلل (و) فِي (تضرع) إِلَى الله تَعَالَى وَيسن لَهُم التَّوَاضُع فِي كَلَامهم ومشيهم وجلوسهم لِلِاتِّبَاعِ ويتنظفون بِالسِّوَاكِ وَقطع الروائح الكريهة وجالغسل وَيخرجُونَ من طَرِيق ويرجعون فِي أُخْرَى مشَاة فِي ذهابهم إِن لم يشق عَلَيْهِم لَا حُفَاة مكشوفي الرؤوس وَيخرجُونَ مَعَهم ندبا الصّبيان والشيوخ والعجائز وَمن لَا هَيْئَة لَهُ من النِّسَاء وَالْخُنْثَى الْقَبِيح المنظر كَمَا قَالَه بعض الْمُتَأَخِّرين لِأَن دعاءهم أقرب إِلَى الْإِجَابَة إِذْ الْكَبِير أرق قلبا وَالصَّغِير لَا ذَنْب عَلَيْهِ وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهل ترزقون وتنصرون إِلَّا بضعفائكم رَوَاهُ البُخَارِيّ وَرُوِيَ بِسَنَد ضَعِيف لَوْلَا شباب خشع وبهائم رتع وشيوخ ركع وَأَطْفَال رضع لصب عَلَيْكُم الْعَذَاب صبا ونظم بَعضهم ذَلِك فَقَالَ لَوْلَا عباد للإله ركع وصبية من الْيَتَامَى رضع ومهملات فِي الفلاة رتع صب عَلَيْكُم الْعَذَاب الأوجع وَالْمرَاد بالركع الَّذين انحنت ظُهُورهمْ من الْكبر وَقيل من الْعِبَادَة وَيسن إِخْرَاج الْبَهَائِم لِأَن الجدب قد أَصَابَهَا أَيْضا
وَفِي الحَدِيث إِن نَبيا من الْأَنْبِيَاء خرج ليستسقي وَإِذا هُوَ بنملة رَافِعَة بعض قَوَائِمهَا إِلَى السَّمَاء فَقَالَ ارْجعُوا فقد اسْتُجِيبَ لكم من أجل شَأْن النملة رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَفِي الْبَيَان وَغَيره أَن هَذَا النَّبِي هُوَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام وَأَن النملة وَقعت على ظهرهَا وَرفعت يَديهَا وَقَالَت اللَّهُمَّ أَنْت خلقتنا فارزقنا وَإِلَّا فأهلكنا قَالَ وَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَت اللَّهُمَّ إِنَّا خلق من خلقك لَا غنى لنا عَن رزقك فَلَا تُهْلِكنَا بذنوب بني آدم وتقف الْبَهَائِم معزولة عَن النَّاس وَيفرق بَين الْأُمَّهَات وَالْأَوْلَاد حَتَّى يكثر الصياح والضجة والرقة فَيكون أقرب إِلَى الْإِجَابَة وَلَا يمْنَع أهل الذِّمَّة الْحُضُور لأَنهم مسترزقون وَفضل الله وَاسع وَقد يُجِيبهُمْ استدراجا لَهُم وَيكرهُ إخراجهم للاستسقاء لأَنهم رُبمَا كَانُوا سَبَب الْقَحْط
قَالَ الشَّافِعِي وَلَا أكره من إِخْرَاج صبيانهم مَا أكره من إِخْرَاج كبارهم لِأَن ذنوبهم أقل لَكِن يكره لكفرهم
قَالَ النَّوَوِيّ وَهَذَا يَقْتَضِي كفر أَطْفَال الْكفَّار
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فيهم إِذا مَاتُوا فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّهُم فِي النَّار وَطَائِفَة لَا نعلم حكمهم والمحققون إِنَّهُم فِي الْجنَّة وَهُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار لأَنهم غير مكلفين وولدوا على الْفطْرَة انْتهى
وتحرير

(1/192)


هَذَا أَنهم فِي أَحْكَام الدُّنْيَا كفار فَلَا يصلى عَلَيْهِم وَلَا يدفنون فِي مَقَابِر الْمُسلمين وَفِي الْآخِرَة مُسلمُونَ فَيدْخلُونَ الْجنَّة
وَيسن لكل أحد مِمَّن يَسْتَسْقِي أَن يستشفع بِمَا فعله من خير بِأَن يذكرهُ فِي نَفسه فَيَجْعَلهُ شافعا لِأَن ذَلِك لَائِق بالشدائد كَمَا فِي خبر الثَّلَاثَة الَّذين أووا فِي الْغَار وَأَن يستشفع بِأَهْل الصّلاح لِأَن دعاءهم أقرب إِلَى الْإِجَابَة لاسيما أقَارِب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا استشفع عمر بِالْعَبَّاسِ رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّمَا كُنَّا إِذا قحطنا نتوسل إِلَيْك بنبينا فتسقينا وَإِنَّا نتوسل إِلَيْك بعم نَبينَا فاسقنا فيسقون
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
(وَيُصلي) الإِمَام (بهم رَكْعَتَيْنِ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ (كَصَلَاة الْعِيدَيْنِ) فِي كيفيتهما من التَّكْبِير بعد الِافْتِتَاح وَقبل التَّعَوُّذ وَالْقِرَاءَة سبعا فِي الأولى وخمسا فِي الثَّانِيَة بِرَفْع يَدَيْهِ ووقوفه بَين كل تكبيرتين كآية معتدلة وَالْقِرَاءَة فِي الأولى جَهرا بِسُورَة ق وَفِي الثَّانِيَة {اقْتَرَبت السَّاعَة} أَو {سبح} والغاشية قِيَاسا لَا نصا وَلَا تؤقت بِوَقْت عيد وَلَا غَيره فتصلى فِي أَي وَقت كَانَ من ليل أَو نَهَار لِأَنَّهَا ذَات سَبَب فدارت مَعَ سَببهَا (ثمَّ يخْطب) الإِمَام (بعدهمَا) أَي الرَّكْعَتَيْنِ وتجزىء الخطبتان قبلهمَا لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره ويبدل تكبيرها باستغفار أَولهمَا فَيَقُول أسْتَغْفر الله الْعَظِيم الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم وَأَتُوب إِلَيْهِ بدل كل تَكْبِيرَة وَيكثر فِي أثْنَاء الْخطْبَتَيْنِ من قَول {اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين وَيجْعَل لكم جنَّات وَيجْعَل لكم أَنهَارًا} وَمن دُعَاء الكرب وَهُوَ لَا إِلَه إِلَّا الله الْعَظِيم الْحَلِيم لَا إِلَه إِلَّا الله رب الْعَرْش الْعَظِيم لَا إِلَه إِلَّا الله رب السَّمَوَات وَرب الْأَرْضين وَرب الْعَرْش الْكَرِيم
وَيتَوَجَّهُ للْقبْلَة من نَحْو ثلث الْخطْبَة الثَّانِيَة (ويحول) الْخَطِيب (رِدَاءَهُ) عِنْد اسْتِقْبَال الْقبْلَة للتفاؤل بتحويل الْحَال من الشدَّة إِلَى الرخَاء فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحب الفأل الْحسن وَفِي رِوَايَة لمُسلم وَأحب الفأل الصَّالح وَيجْعَل يَمِين رِدَائه يسَاره وَعَكسه (وَيجْعَل أَعْلَاهُ أَسْفَله) وَعَكسه وَالْأول تَحْويل وَالثَّانِي تنكيس وَذَلِكَ لِلِاتِّبَاعِ فِي الأول ولهمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالثَّانِي فِيهِ فَإِنَّهُ استسقى وَعَلِيهِ خميصة سَوْدَاء فَأَرَادَ أَن يَأْخُذ بأسفلها أَعْلَاهَا فَلَمَّا ثقلت عَلَيْهِ قَلبهَا على عَاتِقه ويحصلان مَعًا بِجعْل الطّرف الْأَسْفَل الَّذِي على شقَّه الْأَيْمن على عَاتِقه الْأَيْسَر وَعَكسه وَهَذَا فِي الرِّدَاء المربع وَأما المدور والمثلث فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّحْوِيل
قَالَ الْقَمُولِيّ لِأَنَّهُ لَا يتهيأ فِيهِ التنكيس وَكَذَا الرِّدَاء الطَّوِيل وَمرَاده كَغَيْرِهِ أَن ذَلِك متعسر لَا مُتَعَذر وَيفْعل النَّاس وهم جُلُوس مثله تبعا لَهُ وكل ذَلِك مَنْدُوب (وَيكثر) فِي الْخطْبَتَيْنِ (من الدُّعَاء) ويبالغ فِيهِ سرا وجهرا وَيرْفَع الْحَاضِرُونَ أَيْديهم بِالدُّعَاءِ مشيرين بِظُهُور أكفهم إِلَى السَّمَاء لِلِاتِّبَاعِ وَالْحكمَة فِيهِ أَن الْقَصْد رفع الْبلَاء بِخِلَاف القاصد حُصُول شَيْء (و) من (الاسْتِغْفَار) وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا لِأَن ذَلِك أَرْجَى لحُصُول الْمَقْصُود (وَيَدْعُو) فِي الْخطْبَة الأولى (بِدُعَاء) سيدنَا (رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الَّذِي أسْندهُ إمامنا الشَّافِعِي فِي الْمُخْتَصر وَهُوَ (اللَّهُمَّ سقيا رَحْمَة) بِضَم السِّين أَي اسقنا سقيا رَحْمَة فمحله نصب بِالْفِعْلِ الْمُقدر (وَلَا سقيا عَذَاب) أَي وَلَا تسقنا سقيا عَذَاب (وَلَا محق) بِفَتْح الْمِيم وَإِسْكَان الْمُهْملَة هُوَ الْإِتْلَاف وَذَهَاب الْبركَة (وَلَا بلَاء) بِفَتْح الْمُوَحدَة وبالمد هُوَ الاختبار وَيكون بِالْخَيرِ وَالشَّر كَمَا فِي الصِّحَاح وَالْمرَاد هُنَا الثَّانِي (وَلَا هدم) بِإِسْكَان الْمُهْملَة أَي ضار يهدم المساكن وَلَو تضرروا بِكَثْرَة الْمَطَر فَالسنة أَن يسْأَلُوا الله رَفعه بِأَن يَقُولُوا كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين اشْتَكَى إِلَيْهِ ذَلِك (اللَّهُمَّ على الظراب والآكام) بِكَسْر الْمُعْجَمَة جمع ظرب بِفَتْح أَوله وَكسر ثَانِيه جبل صَغِير والآكام بِالْمدِّ جمع أكم بِضَمَّتَيْنِ جمع أكام بِوَزْن كتاب جمع أكم بِفتْحَتَيْنِ جمع أكمة وَهُوَ التل الْمُرْتَفع من الأَرْض إِذا لم يبلغ أَن يكون جبلا

(1/193)


(ومنابت الشّجر وبطون الأودية) جمع وَاد وَهُوَ اسْم للحفرة على الْمَشْهُور (اللَّهُمَّ) اجْعَل الْمَطَر (حوالينا) بِفَتْح اللَّام (وَلَا) تَجْعَلهُ (علينا) فِي الْأَبْنِيَة والبيوت وهما فِي مَوضِع نصب على الظَّرْفِيَّة أَو المغولية كَمَا قَالَه ابْن الْأَثِير
وَلَا يصلى لذَلِك لعدم وُرُود الصَّلَاة لَهُ وَيَدْعُو فِي الْخطْبَة الأولى أَيْضا بِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْأُم والمختصر عَن سَالم بن عبد الله بن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا استسقى قَالَ (اللَّهُمَّ) أَي يَا الله (أسقنا) بِقطع الْهمزَة من أسْقى وَوَصلهَا من سقى فقد ورد الْمَاضِي ثلاثيا ورباعيا قَالَ تَعَالَى {لأسقيناهم مَاء غدقا} {وسقاهم رَبهم شرابًا طهُورا} غيثا بمثلثة أَي مَطَرا (مغيثا) بِضَم الْمِيم أَي منقذا من الشدَّة بإروائه (هَنِيئًا) بِالْمدِّ والهمز أَي طيبا لَا ينغصه شَيْء (مريئا) بِوَزْن هَنِيئًا أَي مَحْمُود الْعَاقِبَة (مريعا) بِفَتْح الْمِيم وَكسر الرَّاء وياء مثناة من تَحت أَي ذَا ربع أَي نَمَاء مَأْخُوذ من المراعة
وَرُوِيَ بِالْمُوَحَّدَةِ من تَحت من قَوْلهم أَربع الْبَعِير يربع إِذا أكل الرّبيع وَرُوِيَ أَيْضا بِالْمُثَنَّاةِ من فَوق من قَوْلهم رتعت الْمَاشِيَة إِذا أكلت مَا شَاءَت
وَالْمعْنَى وَاحِد (غدقا) بغين مُعْجمَة ودال مُهْملَة مَفْتُوحَة أَي كثير المَاء وَالْخَيْر وَقيل الَّذِي قطره كبار (مجللا) بِفَتْح الْجِيم وَكسر اللَّام يُجَلل الأَرْض أَي يعمها كجل الْفرس وَقيل هُوَ الَّذِي يُجَلل الأَرْض بالنبات (سَحا) بِفَتْح السِّين وَتَشْديد الْحَاء الْمُهْملَة أَي شَدِيد الوقع على الأَرْض يُقَال سح المَاء يسح إِذا سَالَ من فَوق إِلَى أَسْفَل وساح يسيح إِذا جرى على وَجه الأَرْض (طبقًا) بِفَتْح الطَّاء وَالْبَاء أَي مطبقا على الأَرْض أَي مستوعبا لَهَا فَيصير كالطبق عَلَيْهَا يُقَال هَذَا مُطَابق لَهُ أَي مسَاوٍ لَهُ (دَائِما) أَي مستمرا نَفعه إِلَى انْتِهَاء الْحَاجة إِلَيْهِ فَإِن دَوَامه عَذَاب (اللَّهُمَّ اسقنا الْغَيْث) تقدم شَرحه (وَلَا تجعلنا من القانطين) أَي الآيسين بِتَأْخِير الْمَطَر (اللَّهُمَّ) يَا الله (إِن بالعباد والبلاد) والبهائم والخلق كَمَا فِي سِيَاق الْمُخْتَصر (من الْجهد) بِفَتْح الْجِيم وَضمّهَا أَي الْمَشَقَّة وَقيل الْبلَاء كَذَا فِي مُخْتَصر الْكِفَايَة وَقيل هُوَ قلَّة الْخَيْر والهزال وَسُوء الْحَال (والجوع) لفظ الحَدِيث واللأواء وَهُوَ بِفَتْح اللَّام الْمُشَدّدَة وبالهمزة الساكنة بِالْهَمْز السَّاكِن وَالْمدّ شدَّة الْجُوع فَعبر عَنهُ المُصَنّف بِمَعْنَاهُ (والضنك) بِفَتْح الْمُعْجَمَة الْمُشَدّدَة وَإِسْكَان النُّون أَي الضّيق (مَا لَا نشكو إِلَّا إِلَيْك) لِأَنَّك الْقَادِر على النَّفْع والضر ونشكو بالنُّون فِي أَوله (اللَّهُمَّ أنبت لنا الزَّرْع وأدر لنا الضَّرع) بِاللَّبنِ وَهُوَ بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء الْمُشَدّدَة من الإدرار وَهُوَ الْإِكْثَار والضرع بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة يُقَال أضرعت الشَّاة أَي نزل لَبنهَا قبل النِّتَاج قَالَه فِي الصَّحِيح (وَأنزل علينا من بَرَكَات السَّمَاء) أَي خيراتها هُوَ الْمَطَر (وَأنْبت لنا من بَرَكَات الأَرْض) أَي خيراتها وَهُوَ النَّبَات وَالثِّمَار وَفِيهِمَا بَرَكَات أَقْوَال أخر حَكَاهَا الشَّيْخ أَبُو حَامِد ثمَّ قَالَ وَذَلِكَ أَن السَّمَاء تجْرِي مجْرى الْأَب وَالْأَرْض تجْرِي مجْرى الْأُم ومنهما حصل جَمِيع الْخيرَات بِخلق الله وتدبيره (واكشف عَنَّا من الْبلَاء) بِالْمدِّ أَي الْحَالة الشاقة (مَا لَا يكشفه غَيْرك) وَفِي الحَدِيث قبل قَوْله واكشف عَنَّا اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجهد والجوع والعري (اللَّهُمَّ إِنَّا نستغفرك) أَي نطلب مغفرتك بكرمك وفضلك (إِنَّك كنت غفارًا) أَي كثير الْمَغْفِرَة
فَائِدَة ذكر الثَّعْلَبِيّ فِي قَوْله تَعَالَى {إِن الله كَانَ على كل شَيْء حسيبا} أَن كل مَوضِع وجد فِيهِ ذكر كَانَ مَوْصُولا بِاللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يصلح للماضي وَالْحَال والمستقبل وَإِذا كَانَ مَوْصُولا بِغَيْر الله تَعَالَى يكون على خلاف هَذَا الْمَعْنى
(فَأرْسل السَّمَاء) أَي المظلة لِأَن الْمَطَر ينزل مِنْهَا إِلَى السَّحَاب أَو السَّحَاب نَفسه أَو الْمَطَر (علينا مدرارا) بِكَسْر الْمِيم أَي كثير الدّرّ وَالْمعْنَى أرسل علينا مَاء كثيرا
وَيسن لكل أحد أَن يظْهر لأوّل مطر السّنة ويكشف عَن جسده غير عَوْرَته ليصيبه شَيْء من الْمَطَر تبركا وللاتباع (ويغتسل) أَو يتَوَضَّأ ندبا كل أحد (فِي الْوَادي) وَمر تَفْسِيره (إِذا سَالَ) مَاؤُهُ وَالْأَفْضَل أَن يجمع بَين الْغسْل وَالْوُضُوء قَالَ فِي الْمَجْمُوع فَإِن لم يجمع فَليَتَوَضَّأ وَالْمُتَّجه كَمَا فِي الْمُهِمَّات الْجمع فِي الِاقْتِصَار على الْغسْل ثمَّ على الْوضُوء
وَالْغسْل وَالْوُضُوء لَا يشْتَرط فيهمَا النِّيَّة وَإِن قَالَ الْإِسْنَوِيّ فِيهِ نظر إِلَّا أَن يُصَادف وَقت وضوء أَو غسل لِأَن الْحِكْمَة فِيهِ

(1/194)


هِيَ الْحِكْمَة فِي كشف الْبدن لينال أول مطر السّنة وبركته (ويسبح للرعد) أَي عِنْد الرَّعْد (والبرق) فَيَقُول سُبْحَانَ من يسبح الرَّعْد بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَة من خيفته كَمَا رَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن عبد الله بن الزبير وَقيس بالرعد الْبَرْق وَالْمُنَاسِب أَن يَقُول عِنْده سُبْحَانَ من يريكم الْبَرْق خوفًا وَطَمَعًا
وَنقل الشَّافِعِي فِي الْأُم عَن الثِّقَة عَن مُجَاهِد أَن الرَّعْد ملك والبرق أجنحته يَسُوق بهَا السَّحَاب وعَلى هَذَا فالمسموع صَوته أَو صَوت سوقه على اخْتِلَاف فِيهِ وَإِطْلَاق ذَلِك على الرَّعْد مجَاز
وَرُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بعث الله السَّحَاب فنطقت أحسن النُّطْق وضحكت أحسن الضحك فالرعد نطقها والبرق ضحكها وَينْدب أَلا يتبع بَصَره الْبَرْق لِأَن السّلف الصَّالح كَانُوا يكْرهُونَ الْإِشَارَة إِلَى الرَّعْد والبرق وَيَقُولُونَ عِنْد ذَلِك لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ سبوح قدوس قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فيختار الِاقْتِدَاء بهم فِي ذَلِك وَأَن يَقُول عِنْد نزُول الْمَطَر كَمَا فِي البُخَارِيّ اللَّهُمَّ صيبا بصاد مُهْملَة وَتَشْديد الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة أَي مَطَرا شَدِيدا نَافِعًا وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ لما روى الْبَيْهَقِيّ إِن الدُّعَاء يُسْتَجَاب فِي أَرْبَعَة مَوَاطِن عِنْد التقاء الصُّفُوف ونزول الْغَيْث وَإِقَامَة الصَّلَاة ورؤية الْكَعْبَة
وَأَن يَقُول فِي أثر الْمَطَر مُطِرْنَا بِفضل الله علينا وَرَحمته لنا وَكره مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا بِفَتْح نونه وهمز آخِره أَي بِوَقْت النَّجْم الْفُلَانِيّ على عَادَة الْعَرَب فِي إِضَافَة الأطار إِلَى الأنواء لإيهامه أَن النوء فَاعل الْمَطَر حَقِيقَة فَإِن اعْتقد أَنه الْفَاعِل لَهُ حَقِيقَة كفر
تَتِمَّة يكره سبّ الرّيح وَيجمع على ريَاح وأرواح بل يسن الدُّعَاء عِنْدهَا لخَبر الرّيح من روح الله أَي رَحمته تَأتي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ فَإِذا رأيتموها فَلَا تسبوها واسألوا الله خَيرهَا واستعيذوا بِاللَّه من شَرها وروى الْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن حَاتِم قَالَ قلت ل أبي بكر الْوراق عَلمنِي شَيْئا يقربنِي إِلَى الله تَعَالَى ويبعدني عَن النَّاس
فَقَالَ أما الَّذِي يقربك إِلَى الله تَعَالَى فمسألته وَأما الَّذِي يبعدك عَن النَّاس فَترك مسألتهم ثمَّ رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من لم يسْأَل الله يغْضب عَلَيْهِ ثمَّ أنْشد لَا تسألن بني آدم حَاجَة وسل الَّذِي أبوابه لَا تحجب الله يغْضب إِن تركت سُؤَاله وَبني آدم حِين يسْأَل يغْضب