الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع

فصل فِي كَيْفيَّة صَلَاة الْخَوْف
وَهُوَ ضد الْأَمْن وَحكم صلَاته حكم صَلَاة الْأَمْن وَإِنَّمَا أفرد بفصل لِأَنَّهُ يحْتَمل فِي الصَّلَاة عِنْده فِي الْجَمَاعَة وَغَيرهَا مَا لَا يحْتَمل فِيهَا عِنْد غَيره على مَا سَيَأْتِي بَيَانه
وَالْأَصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى {وَإِذا كنت فيهم فأقمت لَهُم الصَّلَاة} الْآيَة وَالْأَخْبَار الْآتِيَة مَعَ خبر صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي

(1/195)


وَتجوز فِي الْحَضَر كالسفر خلافًا لمَالِك
(وَصَلَاة الْخَوْف على ثَلَاثَة أضْرب) بل أَرْبَعَة كَمَا ستراها ذكر الشَّافِعِي رَابِعهَا وَجَاء بِهِ الْقُرْآن وَاخْتَارَ بقيتها من سِتَّة عشر نوعا مَذْكُورَة فِي الْأَخْبَار وَبَعضهَا فِي الْقُرْآن
(أَحدهَا أَن يكون الْعَدو فِي غير جِهَة الْقبْلَة) أَو فِيهَا وَثمّ سَاتِر وَهُوَ قَلِيل وَفِي الْمُسلمين كَثْرَة وَخيف هجومه (فيفرقهم الإِمَام فرْقَتَيْن) بِحَيْثُ تكون كل فرقة تقاوم الْعَدو (فرقة تقف فِي وَجه الْعَدو) للحراسة (وَفرْقَة) تقف (خَلفه فَيصَلي بالفرقة الَّتِي خَلفه رَكْعَة) من الثنائية بعد أَن ينحاز بهم إِلَى حَيْثُ لَا يبلغهم سِهَام الْعَدو (ثمَّ) إِذا قَامَ الإِمَام للثَّانِيَة فارقته بِالنِّيَّةِ بعد الانتصاب ندبا وَقَبله بعد الرّفْع من السُّجُود جَوَازًا و (تتمّ لنَفسهَا) الرَّكْعَة الثَّانِيَة (وتمضي) بعد سلامها (إِلَى وَجه الْعَدو) للحراسة
وَيسن للْإِمَام تَخْفيف الأولى لاشتغال قُلُوبهم بِمَا هم فِيهِ وَيسن لَهُم كلهم تَخْفيف الثَّانِيَة الَّتِي انفردوا بهَا لِئَلَّا يطول الِانْتِظَار (وتجيء الطَّائِفَة) أَي الْفرْقَة (الْأُخْرَى) بعد ذهَاب أُولَئِكَ إِلَى جِهَة الْعَدو وَالْإِمَام قَائِم فِي الثَّانِيَة ويطيل الْقيام ندبا إِلَى لحوقهم (فَيصَلي بهَا) بعد اقتدائها بِهِ (رَكْعَة) فَإِذا جلس الإِمَام للتَّشَهُّد قَامَت (وتتم لنَفسهَا) ثانيتها وَهُوَ منتظر لَهَا وَهِي غير مُنْفَرِدَة عَنهُ بل مقتدية بِهِ وَلَحِقتهُ وَهُوَ جَالس (ثمَّ يسلم بهَا) لتحوز فَضِيلَة التَّحَلُّل مَعَه كَمَا حازت الأولى فَضِيلَة التَّحَرُّم مَعَه
وَهَذِه صفة صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذَات الرّقاع مَكَان من نجد بِأَرْض غطفان
رَوَاهَا الشَّيْخَانِ وَسميت بذلك لِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم لفوا بأرجلهم الْخرق لما تقرحت وَقيل باسم شَجَرَة هُنَاكَ وَقيل باسم جبل فِيهِ بَيَاض وَحُمرَة يُقَال لَهُ الرّقاع وَقيل لترقع صلَاتهم فِيهَا
وَيقْرَأ الإِمَام بعد قِيَامه للركعة الثَّانِيَة الْفَاتِحَة وَسورَة بعْدهَا فِي زمن انْتِظَاره الْفرْقَة الثَّانِيَة ويتشهد فِي جُلُوسه لانتظارها فَإِن صلى الإِمَام مغربا على كَيْفيَّة ذَات الرّقاع فبفرقة رَكْعَتَيْنِ وبالثانية رَكْعَة وَهُوَ أفضل من عَكسه الْجَائِز أَيْضا وينتظر مَجِيء الثَّانِيَة وَلَهُم فِي جُلُوس تشهده أَو قيام الثَّالِثَة وَهُوَ أفضل أَو صلى ربَاعِية فبكل رَكْعَتَيْنِ فَلَو فرقهم أَربع فرق وَصلى بِكُل فرقة رَكْعَة صحت صَلَاة الْجَمِيع
وسهو كل فرقة مَحْمُول فِي أولاهم لاقتدائهم فِيهَا وَكَذَا ثَانِيَة الثَّانِيَة لَا ثَانِيَة الأولى لانفرادهم وسهو الإِمَام فِي الرَّكْعَة الأولى يلْحق الْجَمِيع وَفِي الثَّانِيَة لَا يلْحق الأولى لمفارقتهم قبل السَّهْو
(و) الضَّرْب (الثَّانِي أَن يكون الْعَدو فِي جِهَة الْقبْلَة) وَلَا سَاتِر بَيْننَا وَبينهمْ وَفينَا كَثْرَة بِحَيْثُ تقاوم كل فرقة الْعَدو (فيصفهم الإِمَام صفّين) فَأكْثر خَلفه (وَيحرم بهم) جَمِيعًا ويستمرون مَعَه إِلَى اعْتِدَال الرَّكْعَة الأولى لِأَن الحراسة الْآتِيَة محلهَا الِاعْتِدَال لَا الرُّكُوع كَمَا يعلم من قَوْله (فَإِذا سجد) الإِمَام فِي الرَّكْعَة الأولى (سجد مَعَه أحد الصفين) سجدتيه (ووقف الصَّفّ الآخر) على حَالَة الِاعْتِدَال (يحرسهم) أَي الساجدين مَعَ الإِمَام (فَإِذا رفع) الصَّفّ الساجد من السَّجْدَة الثَّانِيَة (سجدوا) أَي الحارسون لإكمال ركعتهم (ولحقوه) فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة وَسجد مَعَ الإِمَام فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة من حرس أَولا وحرست الْفرْقَة

(1/196)


الساجدة أَولا مَعَ الإِمَام فَإِذا جلس الإِمَام للتَّشَهُّد سجد من حرس فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة وَتشهد الإِمَام بالصفين وَسلم بهم وَهَذِه صفة صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسلم بعسفان بِضَم الْعين وَسُكُون السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ قَرْيَة بِقرب خليص بَينهَا وَبَين مَكَّة أَرْبَعَة برد سميت بذلك لعسف السُّيُول فِيهَا وَعبارَة المُصَنّف كَغَيْرِهِ فِي هَذَا صَادِقَة بِأَن يسْجد الصَّفّ الأول فِي الرَّكْعَة الأولى وَالثَّانِي فِي الثَّانِيَة وكل مِنْهُمَا فِيهَا بمكانه أَو تحول بمَكَان آخر وبعكس ذَلِك فَهِيَ أَربع كيفيات وَكلهَا جَائِزَة إِذا لم تكْثر أفعالهم فِي التَّحَوُّل وَالَّذِي فِي خبر مُسلم سُجُود الأول فِي الأولى وَسُجُود الثَّانِي فِي الثَّانِيَة مَعَ التَّحَوُّل فِيهَا وَله أَن يرتبهم صُفُوفا ثمَّ يحرس صفان فَأكْثر وَإِنَّمَا اخْتصّت الحراسة بِالسُّجُود دون الرُّكُوع لِأَن الرَّاكِع تمكنه الْمُشَاهدَة وَلَا يشْتَرط أَن يحرس جَمِيع من فِي الصَّفّ بل لَو حرس فِي الرَّكْعَتَيْنِ فرقتا صف على المناوبة ودام غَيرهمَا على الْمُتَابَعَة جَازَ بِشَرْط أَن تكون الحارسة مقاومة لِلْعَدو حَتَّى لَو كَانَ الْجُلُوس وَاحِدًا يشْتَرط أَن لَا يزِيد الْكفَّار على اثْنَيْنِ وَكَذَا يجوز لَو حرست فرقة وَاحِدَة لحُصُول الْغَرَض بِكُل ذَلِك مَعَ قيام الْعذر وَيكرهُ أَن يُصَلِّي بِأَقَلّ من ثَلَاثَة وَأَن يحرس أقل مِنْهَا
(و) الضَّرْب (الثَّالِث أَن يكون) فعلهم الصَّلَاة (فِي شدَّة الْخَوْف) وَإِن لم يلتحم الْقِتَال بِحَيْثُ لم يأمنوا هجوم الْعَدو لَو ولوا عَنهُ أَو انقسموا (والتحام الْحَرْب) أَي الْقِتَال بِأَن لم يتمكنوا من تَركه وَهَذَا كِنَايَة عَن شدَّة اختلاطهم بِحَيْثُ يلتصق لحم بَعضهم بِبَعْض أَو يُقَارب التصاقه (فَيصَلي) كل وَاحِد حِينَئِذٍ (كَيفَ أمكنه رَاجِلا) أَي مَاشِيا (أَو رَاكِبًا) لقَوْله تَعَالَى {فَإِن خِفْتُمْ فرجالا أَو ركبانا} وَلَيْسَ لَهُ تَأْخِير الصَّلَاة عَن وَقتهَا (مُسْتَقْبل الْقبْلَة وَغير مُسْتَقْبل لَهَا) فيعذر كل مِنْهُم فِي ترك توجه الْقبْلَة عِنْد الْعَجز عَنهُ بِسَبَب الْعَدو للضَّرُورَة
قَالَ ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فِي تَفْسِير الْآيَة مستقبلي الْقبْلَة وَغير مستقبليها
قَالَ نَافِع لَا أرَاهُ إِلَّا مَرْفُوعا بل قَالَ الشَّافِعِي إِن ابْن عمر رَوَاهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَو انحرف عَنْهَا بجماح الدَّابَّة وَطَالَ الزَّمَان بطلت صلَاته وَيجوز اقْتِدَاء بَعضهم بِبَعْض وَإِن اخْتلفت الْجِهَة وتقدموا على الإِمَام كَمَا صرح بِهِ ابْن الرّفْعَة وَغَيره للضَّرُورَة وَالْجَمَاعَة أفضل من انفرادهم كَمَا فِي الْأَمْن لعُمُوم الْأَخْبَار فِي فضل الْجَمَاعَة
ويعذر أَيْضا فِي الْأَعْمَال الْكَثِيرَة كالضربات والطعنات المتوالية لحَاجَة الْقِتَال قِيَاسا على مَا ورد من الْمَشْي وَترك الِاسْتِقْبَال وَلَا يعْذر فِي الصياح لعدم الْحَاجة إِلَيْهِ لِأَن السَّاكِت أهيب وَيجب أَن يلقِي السِّلَاح إِذا دمي دَمًا لَا يُعْفَى عَنهُ فَإِن عجز عَن ذَلِك شرعا بِأَن احْتَاجَ إِلَى إِمْسَاكه أمْسكهُ للْحَاجة وَيَقْضِي خلافًا لما فِي الْمِنْهَاج لندرة عذره كَمَا فِي الْمَجْمُوع عَن الْأَصْحَاب فَإِن عجز عَن رُكُوع أَو سُجُود أَوْمَأ بهما للضَّرُورَة وَجعل السُّجُود أَخفض من الرُّكُوع ليحصل التَّمْيِيز بَينهمَا
وَله حَاضرا كَانَ أَو مُسَافِرًا صَلَاة شدَّة الْخَوْف فِي كل مُبَاح قتال وهرب كقتال عَادل لباغ وَذي مَال لقاصد أَخذه ظلما وهرب من حريق وسيل وَسبع لَا معدل عَنهُ وغريم لَهُ عِنْد إِعْسَاره وَهَذَا كُله إِن خَافَ فَوت الْوَقْت كَمَا صرح بِهِ ابْن الرّفْعَة وَغَيره
وَلَيْسَ لمحرم خَافَ فَوت الْحَج بفوت وُقُوفه بِعَرَفَة إِن صلى الْعشَاء ماكثا أَن يُصليهَا سائرا لِأَنَّهُ لم يخف فَوت حَاصِل كفوت نفس وَهل لَهُ أَن يُصليهَا ماكثا ويفوت الْحَج لعظم حُرْمَة الصَّلَاة أَو يحصل الْوُقُوف لصعوبة قَضَاء الْحَج وسهولة قَضَاء الصَّلَاة وَجْهَان رجح الرَّافِعِيّ مِنْهُمَا الأول وَالنَّوَوِيّ الثَّانِي بل صَوبه وَهُوَ الْمُعْتَمد وَعَلِيهِ فتأخيرها وَاجِب كَمَا فِي الْكِفَايَة وَلَو صلوا صَلَاة شدَّة الْخَوْف لشَيْء ظنوه عدوا أَو أَكثر من ضعفهم فَبَان خِلَافه قضوا إِذْ لَا عِبْرَة بِالظَّنِّ الْبَين خَطؤُهُ
وَالضَّرْب الرَّابِع الَّذِي أسْقطه المُصَنّف أَن يكون الْعَدو فِي غير جِهَة الْقبْلَة أَو فِيهَا وَثمّ سَاتِر وَهُوَ قَلِيل وَفِي الْمُسلمين كَثْرَة وَخيف هجومه فيرتب الإِمَام الْقَوْم فرْقَتَيْن وَيُصلي بهم مرَّتَيْنِ كل مرّة بفرقة جَمِيع الصَّلَاة سَوَاء أَكَانَت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ أم ثَلَاثًا أم أَرْبعا وَتَكون الْفرْقَة الْأُخْرَى تجاه الْعَدو وتحرس ثمَّ تذْهب الْفرْقَة المصلية إِلَى جِهَة الْعَدو وَتَأْتِي الْفرْقَة الحارسة فَيصَلي بهَا مرّة أُخْرَى جَمِيع الصَّلَاة وَتَقَع الصَّلَاة الثَّانِيَة للْإِمَام نفلا وَهَذِه صفة صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبَطن نخل مَكَان من نجد بِأَرْض

(1/197)


غطفان وَهِي وَإِن جَازَت فِي غير الْخَوْف فَهِيَ مَنْدُوبَة فِيهِ عِنْد كَثْرَة الْمُسلمين وَقلة عدوهم وَخَوف هجومهم عَلَيْهِم فِي الصَّلَاة
تَتِمَّة تصح الْجُمُعَة فِي الْخَوْف حَيْثُ وَقع بِبَلَد كَصَلَاة عسفان وكذات الرّقاع لَا كَصَلَاة بطن نخل إِذْ لَا تُقَام مجمعة بعد أُخْرَى وَيشْتَرط فِي صَلَاة ذَات الرّقاع أَن يسمع الْخطْبَة عدد تصح بِهِ الْجُمُعَة من كل فرقة بِخِلَاف مَا لَو خطب بفرقة وَصلى بِأُخْرَى وَلَو حدث نقص من السامعين فِي الرَّكْعَة الأولى من الصَّلَاة بطلت أَو فِي الثَّانِيَة فَلَا للْحَاجة مَعَ سبق انْعِقَادهَا وتجهر الطَّائِفَة الأولى فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة لأَنهم منفردون وَلَا تجْهر الثَّانِيَة فِي الثَّانِيَة لأَنهم مقتدون بِهِ وَيَأْتِي ذَلِك فِي كل صَلَاة جهرية

فصل فِيمَا يجوز لبسه من الْحَرِير للمحارب وَغَيره
وَمَا لَا يجوز وَبَدَأَ بِهَذَا فَقَالَ (وَيحرم على الرِّجَال) الْمُكَلّفين فِي حَال الِاخْتِيَار وَكَذَا الخناثى خلافًا للقفال (لبس الْحَرِير) وَهُوَ مَا يحل عَن الدودة بعد مَوتهَا والقز وَهُوَ مَا قطعته الدودة وَخرجت مِنْهُ وَهُوَ كمد اللَّوْن
وَمثل اللّبْس سَائِر أَنْوَاع الِاسْتِعْمَال بفرش وتدثر وجلوس عَلَيْهِ واستناد إِلَيْهِ وتستر بِهِ كَمَا فِي الرَّوْضَة وَمِنْه يعلم تَحْرِيم النّوم فِي الناموسية الَّتِي وَجههَا حَرِير
أما لبسه للرِّجَال فمجمع على تَحْرِيمه وَأما للخنثى فاحتياط وَأما مَا سواهُ فلقول حُذَيْفَة نَهَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن لبس الْحَرِير والديباج وَأَن نجلس عَلَيْهِ رَوَاهُ البُخَارِيّ
وَعلل الإِمَام وَالْغَزالِيّ الْحُرْمَة على الرِّجَال بِأَن فِي الْحَرِير خنوثة لَا تلِيق بشهامة الرِّجَال أما فِي حَال للضَّرُورَة كحر وَبرد مهلكين أَو مضرين كالخوف على عُضْو أَو مَنْفَعَة فَيجوز إِزَالَة للضَّرُورَة وَيُؤْخَذ من جَوَاز اللّبْس جَوَاز اسْتِعْمَاله فِي غَيره بطرِيق الأولى لِأَنَّهُ أخف وَيجوز أَيْضا لفجأة حَرْب وَلم يجد غَيره يقوم مقَامه ولحاجة كجرب وَدفع قمل لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرخص لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف فِي لبسه لذَلِك وَستر عَوْرَته فِي الصَّلَاة وَعَن عُيُون النَّاس وَفِي الْخلْوَة إِذا أوجبناه وَهُوَ الْأَصَح إِذا لم يجد غير الْحَرِير
(و) كَذَا يحرم على الرِّجَال وَمثلهمْ الخناثى (التَّخَتُّم بِالذَّهَب) لخَبر أبي دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ فِي يَمِينه قِطْعَة حَرِير وَفِي شِمَاله قِطْعَة ذهب وَقَالَ هَذَانِ أَي استعمالهما حرَام على ذُكُور أمتِي حل لإناثهم وَألْحق بالذكور الخناثى احْتِيَاطًا
وَاحْترز بالتختم عَن اتِّخَاذ أنف أَو أُنْمُلَة أَو سنّ فَإِنَّهُ لَا يحرم اتخاذها من ذهب على مقطوعها وَإِن أمكن اتخاذها من الْفضة (وَيحل للنِّسَاء) لبس الْحَرِير واستعماله بفرش أَو غَيره والتختم بِالذَّهَب والتحلي بِهِ للْحَدِيث الْمَار (ويسير الذَّهَب وَكَثِيره فِي) حكم (التَّحْرِيم) على من حرم عَلَيْهِ (سَوَاء) بِلَا فرق (وَإِذا كَانَ بعض الثَّوْب إبريسيما) وَهُوَ بِكَسْر الْهمزَة وبفتح الرَّاء وفتحهما وَكسر الرَّاء ثَلَاث لُغَات الْحَرِير (وَبَعضه قطنا أَو كتانا جَازَ لبسه مَا لم يكن الإبريسم غَالِبا) فَإِنَّهُ يحرم تَغْلِيبًا للْأَكْثَر بِخِلَاف مَا أَكْثَره من غَيره والمستوى مِنْهُمَا لِأَن كلا مِنْهُمَا لَا يُسمى ثوب حَرِير وَالْأَصْل الْحل وتغليبا للْأَكْثَر فِي الأولى
وللولي إلباس مَا ذكر من الْحَرِير

(1/198)


وَمَا أَكْثَره مِنْهُ صَبيا إِذا لَيْسَ لَهُ شهامة تنَافِي خنوثة الْحَرِير بِخِلَاف الرجل وَلِأَنَّهُ غير مُكَلّف وَألْحق بِهِ الْغَزالِيّ فِي الْإِحْيَاء الْمَجْنُون
وَيحل مَا طرز أَو رقع بحرير قدر أَربع أَصَابِع لوروده فِي خبر مُسلم أَو طرف ثَوْبه بِأَن جعل طرف بِهِ مسجفا بِهِ قدر عَادَة أَمْثَاله لوروده فِي خبر مُسلم وَفرق بَينه وَبَين أَربع أَصَابِع فِيمَا مر بِأَن التطريف مَحل الْحَاجة وَقد تمس الْحَاجة للزِّيَادَة على الْأَرْبَع بِخِلَاف مَا مر فَإِنَّهُ مُجَرّد زِينَة فيتقيد بالأربع
تَتِمَّة يحل استصباح بدهن نجس كالمتنجس لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن فَأْرَة وَقعت فِي سمن فَقَالَ إِن كَانَ جَامِدا فألقوها وَمَا حولهَا وَإِن كَانَ مَائِعا فاستصبحوا بِهِ أَو فانتفعوا بِهِ لَا دهن نَحْو كلب كخنزير فَلَا يحل الاستصباح بِهِ لغلظ نَجَاسَته وَيحل لبس شَيْء مُتَنَجّس وَبلا رُطُوبَة لِأَن نَجَاسَته عارضة سهلة الْإِزَالَة لَا لبس نجس كَجلْد ميتَة لما عَلَيْهِ من التَّعَبُّد باجتناب النَّجس لإِقَامَة الْعِبَادَة إِلَّا لضَرُورَة كحر وَنَحْوه مِمَّا مر
وَلَا يحرم اسْتِعْمَال النشا وَهُوَ الْمُتَّخذ من الْقَمْح فِي الثَّوْب وَالْأولَى تَركه وَترك دق الثِّيَاب وصقلها قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَيَنْبَغِي طي الثِّيَاب أَي وَذكر اسْم الله عَلَيْهَا لما روى الطَّبَرَانِيّ إِذا طويتم ثيابكم فاذكروا اسْم الله تَعَالَى عَلَيْهَا لِئَلَّا يلبسهَا الْجِنّ بِاللَّيْلِ وَأَنْتُم بِالنَّهَارِ فتبلى سَرِيعا

فصل فِي صَلَاة الْجِنَازَة
بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا لُغَتَانِ مشهورتان اسْم للْمَيت فِي النعش فَإِن لم يكن عَلَيْهِ الْمَيِّت فَهُوَ سَرِير ونعش وَهُوَ من جنزه يجنزه إِذا ستره وَلما اشْتَمَل هَذَا الْفَصْل على الصَّلَاة ذكره المُصَنّف هُنَا دون الْفَرَائِض فَقَالَ (وَيلْزم فِي الْمَيِّت) الْمُسلم غير الشَّهِيد (أَرْبَعَة أَشْيَاء) على جِهَة فرض الْكِفَايَة الأول (غسله) إِذا تَيَقّن مَوته بِظُهُور شَيْء من أماراته كاسترخاء قدم وميل أنف وانخساف صدغ فَإِن شكّ فِي مَوته أخر وجوبا كَمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع إِلَى الْيَقِين بِتَغَيُّر الرَّائِحَة أَو غَيره
وَأَقل الْغسْل تَعْمِيم بدنه بِالْمَاءِ مرّة لِأَن ذَلِك هُوَ الْفَرْض كَمَا فِي

(1/199)


الْغسْل من الْجَنَابَة فِي حق الْحَيّ فَلَا يشْتَرط تقدم إِزَالَة النَّجَاسَة عَنهُ كَمَا يلوح بِهِ كَلَام الْمَجْمُوع خلافًا لما توهمه عبارَة الْمِنْهَاج من أَنه يشْتَرط تقدم إِزَالَتهَا وَلَا تجب نِيَّة الْغَاسِل لِأَن الْقَصْد بِغسْل الْمَيِّت النَّظَافَة وَهِي لَا تتَوَقَّف على نِيَّة فَيَكْفِي غسل كَافِر لَا غرق لأَنا مأمورون بِغسْلِهِ فَلَا يسْقط الْفَرْض عَنَّا إِلَّا بفعلنا وأكمله أَن يغسلهُ فِي خلْوَة لَا يدخلهَا إِلَّا الْغَاسِل وَمن يُعينهُ وَالْوَلِيّ وَفِي قَمِيص بَال أَو سخيف لِأَنَّهُ أستر لَهُ وعَلى مُرْتَفع كلوح لِئَلَّا يُصِيبهُ الرشاش بِمَاء بَارِد لِأَنَّهُ يشد الْبدن إِلَّا لحَاجَة إِلَى المسخن كوسخ أَو برد وَأَن يجلسه الْغَاسِل على الْمُرْتَفع بِرِفْق مائلا إِلَى وَرَائه وَيَضَع يَمِينه على كتفه وإبهامه فِي نقرة قَفاهُ لِئَلَّا تميل رَأسه ويسند ظَهره بركبته الْيُمْنَى ويمر يسَاره على بَطْنه بمبالغة ليخرج مَا فِيهِ من الفضلات ثمَّ يضجعه لقفاه وَيغسل بِخرقَة ملفوفة على يسَاره سوأتيه ثمَّ يلقيها ويلف خرقَة أُخْرَى على الْيَد وينظف أَسْنَانه وَمنْخرَيْهِ ثمَّ يوضئه كالحي ثمَّ يغسل رَأسه فلحيته بِنَحْوِ سدر ويسرح شعرهما إِن تلبد بِمشْط وَاسع الْأَسْنَان بِرِفْق وَيرد المنتف من شعرهما إِلَيْهِ ثمَّ يغسل شقَّه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر ثمَّ يحرفه إِلَى شقَّه الْأَيْسَر فَيغسل شقَّه الْأَيْمن مِمَّا يَلِي قَفاهُ ثمَّ يحرفه إِلَى شقَّه الْأَيْمن فَيغسل شقَّه الْأَيْسَر كَذَلِك مستعينا فِي ذَلِك كُله بِنَحْوِ سدر ثمَّ يُزِيلهُ بِمَاء من فرقه إِلَى قَدَمَيْهِ ثمَّ يعمه كَذَلِك بِمَاء قراح فِيهِ قَلِيل كافور كَمَا سَيَأْتِي بِحَيْثُ لَا يُغير المَاء
فَهَذِهِ الأغسال الْمَذْكُورَة غسلة وَتسن ثَانِيَة وثالثة كَذَلِك وَلَو خرج بعد الْغسْل نجس وَجب إِزَالَته عَنهُ
وَينْدب أَن لَا ينظر الْغَاسِل من غير عَوْرَته إِلَّا قدر الْحَاجة وَأما عَوْرَته فَيحرم النّظر إِلَيْهَا وَأَن يُغطي وَجهه بِخرقَة وَأَن يكون الْغَاسِل أَمينا فَإِن رأى خيرا سنّ ذكره أَو ضِدّه حرم ذكره إِلَّا لمصْلحَة كبدعة ظَاهِرَة وَمن تعذر غسله يمم كَمَا فِي غسل الْجَنَابَة
وَلَا يكره لنَحْو جنب غسله وَالرجل أولى بِالرجلِ وَالْمَرْأَة أولى بِالْمَرْأَةِ وَله غسل حليلته من زَوْجَة غير رَجْعِيَّة وَلَو نكح غَيرهَا وَأمة وَلَو كِتَابِيَّة ولزوجة غير رَجْعِيَّة غسل زَوجهَا وَلَو نكحت غَيره بِلَا مس مِنْهَا لَهُ وَلَا من الزَّوْج أَو السَّيِّد لَهَا فَإِن لم يحضر إِلَّا أَجْنَبِي فِي الْميتَة الْمَرْأَة وَإِلَّا أَجْنَبِيَّة فِي الرجل يمم الْمَيِّت
نعم الصَّغِير الَّذِي لم يبلغ حد الشَّهْوَة يغسلهُ الرِّجَال وَالنِّسَاء وَمثله الْخُنْثَى الْكَبِير عِنْد فقد الْمحرم
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَيغسل فَوق ثوب ويحتاط الْغَاسِل فِي غض الْبَصَر والمس وَالْأولَى بِالرجلِ فِي غسله الأولى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ دَرَجَة وهم رجال الْعصبَة من النّسَب ثمَّ الْوَلَاء ثمَّ الإِمَام أَو نَائِبه إِن انتظم بَيت المَال ثمَّ ذَوُو الْأَرْحَام وَخرج بِدَرَجَة الأولى بِالصَّلَاةِ صفة إِذْ الأفقه أولى من الأسن وَالْأَقْرَب والبعيد الْفَقِيه أولى من الْأَقْرَب غير الْفَقِيه هُنَا عكس مَا فِي الصَّلَاة وَالْأولَى بهَا فِي غسلهَا قراباتها

(1/200)


وأولاهن ذَات محرمية وَهِي من لَو قدرت ذكرا لم يحل لَهُ نِكَاحهَا وَبعد الْقرَابَات ذَات وَلَاء فأجنبية فزوج فرجال محارم كترتيب صلَاتهم فَإِن تنَازع مستويان أَقرع بَينهمَا وَالْكَافِر أَحَق بقريبه الْكَافِر
ولنحو أهل الْمَيِّت كأصدقائه تَقْبِيل وَجهه وَلَا بَأْس بالإعلام بِمَوْتِهِ بِخِلَاف نعي الْجَاهِلِيَّة وَهُوَ النداء بِمَوْت الشَّخْص وَذكر مآثره ومفاخره
(و) الثَّانِي (تكفينه) بعد غسله بِمَا لَهُ لبسه حَيا من حَرِير وَغَيره وَكره مغالاة فِيهِ وَكره لأنثى نَحْو معصفر من حَرِير ومزعفر وَأَقل الْكَفَن ثوب وَاحِد وَاخْتلف فِي قدره هَل هُوَ مَا يستر الْعَوْرَة أَو جَمِيع الْبدن إِلَّا رَأس الْمحرم وَوجه الْمُحرمَة وَجْهَان صحّح فِي الرَّوْضَة وَالْمَجْمُوع وَالشَّرْح الصَّغِير الأول فيختلف قدره بالذكورة وَالْأُنُوثَة كَمَا صرح بِهِ الرَّافِعِيّ لَا بِالرّقِّ وَالْحريَّة
وَصحح النَّوَوِيّ فِي مَنَاسِكه الثَّانِي وَاخْتَارَهُ ابْن الْمقري فِي شرح إرشاده كالأذرعي تبعا لجمهور الخراسانيين وَجمع بَينهمَا فِي روضه فَقَالَ وَأقله ثوب يعم جَمِيع الْبدن وَالْوَاجِب ستر الْعَوْرَة فَحمل الأول على أَنه حق الله تَعَالَى وَالثَّانِي على أَنه حق للْمَيت وَلَا تنفذ وَصيته بإسقاطه على الأول وَكَذَا على الثَّانِي فقد صرح فِي الْمَجْمُوع عَن التَّقْرِيب وَالْإِمَام الْغَزالِيّ وَغَيرهم أَنه لَو أوصى بساتر الْعَوْرَة فَقَط لم تصح وَصيته أَي مُرَاعَاة للْخلاف وَلَو لم يوص فَقَالَ بعض الْوَرَثَة يُكفن بِثَوْب يستر جَمِيع الْبدن وَبَعْضهمْ بساتر الْعَوْرَة فَقَط وَقُلْنَا بِجَوَازِهِ كفن بِثَوْب ذكره فِي الْمَجْمُوع أَي لِأَنَّهُ حق للْمَيت وَلَو قَالَ بَعضهم يُكفن بِثَوْب وَبَعْضهمْ بِثَلَاثَة كفن بهَا لما مر وَقيل بِثَوْب وَلَو اتَّفقُوا على ثوب فَفِي التَّهْذِيب يجوز وَفِي التَّتِمَّة أَنه على الْخلاف قَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ أَقيس أَي فَيجب أَن يُكفن بِثَلَاثَة أَثوَاب وَلَو كَانَ عَلَيْهِ دين مُسْتَغْرق فَقَالَ الْغُرَمَاء يُكفن فِي ثوب وَالْوَرَثَة فِي ثَلَاثَة أُجِيب الْغُرَمَاء وَلَو قَالَ الْغُرَمَاء يُكفن بساتر الْعَوْرَة وَالْوَرَثَة بساتر جَمِيع الْبدن أُجِيب الْوَرَثَة وَلَو اتّفقت الْغُرَمَاء وَالْوَرَثَة على ثَلَاثَة جَازَ بِلَا خلاف
وَحَاصِله أَن الْكَفَن بِالنِّسْبَةِ لحق الله تَعَالَى ستر الْعَوْرَة فَقَط وبالنسبة للْغُرَمَاء ستر جَمِيع الْبدن وبالنسبة للْوَرَثَة ثَلَاثَة فَلَيْسَ للْوَارِث الْمَنْع مِنْهَا تَقْدِيمًا لحق الْمَالِك وَفَارق الْغَرِيم بِأَن حَقه سَابق وَبِأَن مَنْفَعَة صرف المَال لَهُ تعود إِلَى الْمَيِّت بِخِلَاف الْوَارِث فيهمَا هَذَا إِذا كفن من تركته أما إِذا كفن من غَيرهَا فَلَا يلْزم من يجهزه من قريب وَسيد وَزوج وَبَيت مَال إِلَّا ثوب وَاحِد سَاتِر لجَمِيع بدنه بل لَا تجوز الزِّيَادَة عَلَيْهِ من بَيت المَال كَمَا يعلم من كَلَام الرَّوْضَة وَكَذَا إِذا كفن مِمَّا وقف للتكفين كَمَا أفتى بِهِ ابْن الصّلاح قَالَ وَيكون سابغا أَي فَلَا يَكْفِي ستر الْعَوْرَة لِأَن الزَّائِد عَلَيْهَا حق للْمَيت كَمَا مر وَأما الْأَفْضَل للرجل وَالْمَرْأَة فَسَيَأْتِي وَسن مغسول لِأَنَّهُ للصديد وَأَن يبسط أحسن اللفائف وأوسعها وَالْبَاقِي فَوْقهَا وَأَن يذر على كل وعَلى الْمَيِّت حنوط وَأَن يوضع الْمَيِّت فَوْقهَا مُسْتَلْقِيا وَأَن تشد ألياه بِخرقَة وَأَن يَجْعَل على منافذه قطن عَلَيْهِ حنوط وَتلف عَلَيْهِ اللفائف وتشد اللفائف

(1/201)


بشداد خوف الانتشار عِنْد الْحمل إِلَّا أَن يكون محرما وَيحل الشداد فِي الْقَبْر
وَمحل تجهيز الْمَيِّت تركته إِلَّا زَوْجَة وخادمها فتجهيزهما على زوج غَنِي عَلَيْهِ نفقتهما فَإِن لم يكن للْمَيت تَرِكَة فتجهيزه على من عَلَيْهِ نَفَقَته حَيا فِي الْجُمْلَة من قريب وَسيد فَإِن لم يكن للْمَيت من تلْزمهُ نَفَقَته فتجهيزه على بَيت المَال
(و) الثَّالِث (الصَّلَاة عَلَيْهِ) وَهِي من خَصَائِص هَذِه الْأمة كَمَا قَالَه الْفَاكِهَانِيّ فِي شرح الرسَالَة
قَالَ وَكَذَا الْإِيصَاء بِالثُّلثِ
وَشرط لصحتها شُرُوط غَيرهَا من الصَّلَوَات وَتقدم طهر الْمَيِّت لِأَنَّهُ الْمَنْقُول عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَو تعذر كَأَن وَقع فِي حُفْرَة وَتعذر إِخْرَاجه وطهره لم يصل عَلَيْهِ
وَتكره الصَّلَاة عَلَيْهِ قبل تكفينه لما فِيهِ من الازدراء بِالْمَيتِ وَلَا يشْتَرط فِيهَا الْجَمَاعَة كالمكتوبة بل تسن لخَبر مُسلم مَا من رجل مُسلم يَمُوت يقوم على جنَازَته أَرْبَعُونَ رجلا لَا يشركُونَ بِاللَّه شَيْئا إِلَّا شفعهم الله فِيهِ وَيَكْفِي فِي إِسْقَاط فَرضهَا ذكر وَلَو صَبيا مُمَيّزا لحُصُول الْمَقْصُود بِهِ وَلِأَن الصَّبِي يصلح أَن يكون إِمَامًا للرجل لَا غَيره من خُنْثَى وَامْرَأَة مَعَ وجود الذّكر لِأَن الذّكر أكمل من غَيره فدعاؤه أقرب للإجابة وَيجب تَقْدِيمهَا على الدّفن وَتَصِح على قبر غير نَبِي لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَتَصِح على غَائِب عَن الْبَلَد وَلَو دون مَسَافَة الْقصر
قَالُوا وَإِنَّمَا تصح الصَّلَاة على الْقَبْر وَالْغَائِب عَن الْبَلَد مِمَّن كَانَ فِي أهل فَرضهَا وَقت مَوته قَالُوا لِأَن غَيره متنفل وَهَذِه لَا يتَنَفَّل بهَا
وَنَازع الْإِسْنَوِيّ فِي اعْتِبَار وَقت الْمَوْت قَالَ وَمُقْتَضَاهُ أَنه لَو بلغ أَو أَفَاق بعده وَقبل الْغسْل لم يُؤثر وَالصَّوَاب خِلَافه بل لَو زَالَ بعد الْغسْل أَو الصَّلَاة وَأدْركَ زَمنا يُمكنهُ فعلهَا فِيهِ فَكَذَلِك انْتهى
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وَالتَّعْبِير بِالْمَوْتِ جرى على الْغَالِب
وَالْأولَى بإمامة صَلَاة الْمَيِّت أَب وَإِن أوصى بهَا لغيره فأبوه وَإِن علا فَابْن فابنه وَإِن سفل فباقي الْعصبَة بترتيب الْإِرْث فذو رحم وَيقدم حر عدل على عبد أقرب مِنْهُ وَلَو أفقه وأسن لِأَنَّهَا ولَايَة فَلَا حق فِيهَا للزَّوْج وَلَا للْمَرْأَة لَكِن مَحَله إِذا وجد مَعَ الزَّوْج غير الْأَجَانِب وَمَعَ الْمَرْأَة ذكر أَو خُنْثَى وَإِلَّا فالزوج مقدم على الْأَجَانِب وَالْمَرْأَة تصلي وَتقدم بترتيب الذّكر وَيقدم العَبْد الْقَرِيب على الْحر الْأَجْنَبِيّ وَالْعَبْد الْبَالِغ على الْحر الصَّبِي وَشرط الْمُقدم أَن لَا يكون قَاتلا كَمَا فِي الْغسْل فَلَو اسْتَوَى اثْنَان فِي دَرَجَة قدم الأسن فِي الْإِسْلَام الْعدْل على الأفقه مِنْهُ عكس سَائِر الصَّلَوَات لِأَن الْغَرَض هُنَا الدُّعَاء وَدُعَاء الأسن أقرب إِلَى الْإِجَابَة وَينْدب أَن يقف غير الْمَأْمُوم من إِمَام ومنفرد عِنْد رَأس ذكر وعجيزة غَيره من أُنْثَى وَخُنْثَى لِلِاتِّبَاعِ وَتجوز على جنائز صَلَاة وَاحِدَة بِرِضا أوليائها لِأَن الْغَرَض مِنْهَا الدُّعَاء وَيقدم إِلَى الإِمَام الأسبق من الذُّكُور أَو الْإِنَاث أَو الخناثى وَإِن كَانَ الْمُتَأَخر أفضل فَلَو سبقت أُنْثَى ثمَّ حضر رجل أَو صبي أخرت عَنهُ وَمثلهَا الْخُنْثَى وَلَو حضر خناثى مَعًا أَو مرتبين جعلُوا صفا عَن يَمِينه رَأس كل

(1/202)


مِنْهُم عِنْد رجل الآخر لِئَلَّا تتقدم أُنْثَى على ذكر وَلَو وجد جُزْء ميت مُسلم غير شَهِيد صلى عَلَيْهِ بعد غسله وستره بِخرقَة وَدفن كالميت الْحَاضِر وَإِن كَانَ الْجُزْء ظفرا أَو شعرًا لَكِن لَا يصلى على الشعرة الْوَاحِدَة كَمَا قَالَه فِي الْعدة وَإِن خَالفه بعض الْمُتَأَخِّرين وَإِنَّمَا يصلى على الْجُزْء بِقصد الْجُمْلَة لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَة صَلَاة على غَائِب
(و) الرَّابِع (دَفنه) فِي قبر وَأقله حُفْرَة تمنع بعد ردمها ظُهُور رَائِحَة مِنْهُ فتؤذي الْحَيّ وتمنع نبش سبع لَهَا فيأكل الْمَيِّت فتنتهك حرمته
قَالَ الرَّافِعِيّ وَالْغَرَض من ذكرهمَا إِن كَانَا متلازمين بَيَان فَائِدَة الدّفن وَإِلَّا فبيان وجوب رعايتهما فَلَا يَكْفِي أَحدهمَا
اه
وَالظَّاهِر الثَّانِي
وَخرج بِالْحُفْرَةِ مَا لَو وضع الْمَيِّت على وَجه الأَرْض وَجعل عَلَيْهِ مَا يمْنَع ذَلِك حَيْثُ لم يتَعَذَّر الْحفر وَسَيَأْتِي أكمله فِي كَلَامه
(وَاثْنَانِ لَا يغسلان وَلَا يصلى عَلَيْهِمَا) لتَحْرِيم ذَلِك فِي حَقّهمَا
الأول (الشَّهِيد) وَلَو أُنْثَى ورقيقا أَو غير بَالغ إِذا مَاتَ (فِي معركة الْمُشْركين) لخَبر البُخَارِيّ عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر فِي قَتْلَى أحد بدفنهم بدمائهم وَلم يغسلوا وَلم يصل عَلَيْهِم وَأما خبر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج فصلى على قَتْلَى أحد صلَاته على الْمَيِّت فَالْمُرَاد جمعا بَين الْأَدِلَّة دَعَا لَهُم كدعائه للْمَيت كَقَوْلِه تَعَالَى {وصل عَلَيْهِم} أَي ادْع لَهُم وَسمي شَهِيدا لشهادة الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ بِالْجنَّةِ وَقيل غير ذَلِك وَهُوَ من لم تبْق فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة قبل انْقِضَاء حَرْب الْمُشْركين بِسَبَبِهَا كَأَن قَتله كَافِر أَو أَصَابَهُ سلَاح مُسلم خطأ أَو عَاد إِلَيْهِ سلاحه أَو رمحته دَابَّته أَو سقط عَنْهَا أَو تردى حَال قِتَاله فِي بِئْر أَو انْكَشَفَ عَنهُ الْحَرْب وَلم يعلم سَبَب قَتله وَإِن لم يكن عَلَيْهِ أثر دم لِأَن الظَّاهِر أَن مَوته بِسَبَب الْحَرْب بِخِلَاف من مَاتَ بعد انْقِضَائِهَا وَفِيه حَيَاة مُسْتَقِرَّة بجراحة فِيهِ وَإِن قطع بِمَوْتِهِ مِنْهَا أَو قبل انْقِضَائِهَا لَا بِسَبَب حَرْب الْمُشْركين كَأَن مَاتَ بِمَرَض أَو فَجْأَة أَو فِي قتال بغاة فَلَيْسَ بِشَهِيد وَيعْتَبر فِي قتال الْمُشْركين كَونه مُبَاحا وَهُوَ ظَاهر أما الشَّهِيد العاري عَمَّا ذكر كالغريق والمبطون والمطعون وَالْمَيِّت عشقا وَالْميتَة مُطلقًا والمقتول فِي غير الْقِتَال الْمَذْكُور ظلما فَيغسل وَيصلى عَلَيْهِ وَيجب غسل نجس أَصَابَهُ غير دم الشَّهَادَة وَإِن أدّى ذَلِك إِلَى زَوَال دَمهَا وَيسن تكفينه فِي ثِيَابه الَّتِي مَاتَ فِيهَا إِذا اُعْتِيدَ لبسهَا غَالِبا أما ثِيَاب الْحَرْب كدرع وَنَحْوهمَا مِمَّا لَا يعْتَاد لبسه غَالِبا كخف وفروة فَينْدب نَزعهَا كَسَائِر الْمَوْتَى فَإِن لم تكفه ثِيَابه وَجب تتميمها بِمَا يستر جَمِيع بدنه لِأَنَّهُ حق للْمَيت كَمَا مر
(و) الثَّانِي (السقط) بِتَثْلِيث السِّين (الَّذِي لم يستهل صَارِخًا) أَي بِأَن لم تعلم حَيَاته وَلم يظْهر خلقه فَلَا تجوز الصَّلَاة عَلَيْهِ وَلَا يجب غسله وَيسن ستره بِخرقَة وَدَفنه دون غَيرهمَا أما إِذا علمت حَيَاته بصياح أَو غَيره أَو ظَهرت أماراتها كاختلاج أَو تحرّك فككبير فَيغسل ويكفن وَيصلى عَلَيْهِ ويدفن لتيقن حَيَاته وَمَوته بعْدهَا فِي الأولى وَظُهُور أماراتها فِي الثَّانِيَة وَإِن لم تعلم حَيَاته وَظهر خلقه وَجب تَجْهِيزه بِلَا صَلَاة عَلَيْهِ وَفَارَقت الصَّلَاة غَيرهَا بِأَنَّهُ أوسع بَابا مِنْهَا بِدَلِيل أَن الذِّمِّيّ يغسل ويكفن ويدفن وَلَا يصلى عَلَيْهِ والسقط مُشْتَقّ من السُّقُوط وَهُوَ النَّازِل قبل تَمام أشهره فَإِن بلغَهَا فكالكبير كَمَا أفتى بِهِ بعض الْمُتَأَخِّرين والاستهلال الصياح عِنْد الْولادَة كَمَا قَالَه أهل اللُّغَة فَقَوله صَارِخًا تَأْكِيد

(1/203)


(وَيغسل الْمَيِّت وترا) ندبا كَمَا مر (وَيكون فِي أول غسله سدر) أَو خطمي (وَفِي آخِره) الَّذِي يكون وترا (شَيْء من كافور) تَقْوِيَة للجسد ومنعا للهوام وللنتن وَهُوَ مَنْدُوب فِي كل غسلة إِلَّا أَنه فِي الْأَخِيرَة آكِد
وَمحله فِي غير الْمحرم أما الْمحرم فَلَا يقرب طيبا كَمَا فِي الرَّوْضَة وَغَيرهَا وَصفَة أكمل الْغسْل قد تقدّمت
(ويكفن) الْمَيِّت الذّكر (فِي ثَلَاثَة أَثوَاب بيض) لخَبر البسوا من ثيابكم الْبيَاض فَإِنَّهَا خير ثيابكم وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم (لَيْسَ فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَة) هَذَا هُوَ الْأَفْضَل فِي حَقه وَيجوز رَابِع وخامس فيزاد قَمِيص إِن لم يكن محرما وعمامة تَحت اللفائف وَالْأَفْضَل فِي حق الْمَرْأَة وَمثلهَا الْخُنْثَى خَمْسَة إِزَار فقميص فخمار وَهُوَ مَا يغطى بِهِ الرَّأْس فلفافتان
وَأما الْوَاجِب فقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ
ثمَّ اعْلَم أَن أَرْكَان الصَّلَاة على الْمَيِّت سَبْعَة ذكر المُصَنّف بَعْضهَا الرُّكْن الأول النِّيَّة كنية غَيرهَا من الصَّلَوَات وَلَا يجب فِي الْمَيِّت الْحَاضِر تَعْيِينه باسمه أَو نَحوه وَلَا مَعْرفَته بل يكفى تَمْيِيزه نوع تَمْيِيز كنية الصَّلَاة على هَذَا الْمَيِّت أَو على من يُصَلِّي عَلَيْهِ الإِمَام فَإِن عينه كزيد أَو رجل وَلم يشر إِلَيْهِ وَأَخْطَأ فِي تَعْيِينه فَبَان عمرا أَو امْرَأَة لم تصح صلَاته فَإِن أَشَارَ إِلَيْهِ صحت كَمَا فِي زِيَادَة الرَّوْضَة تَغْلِيبًا للْإِشَارَة فَإِن حضر موتى نوى الصَّلَاة عَلَيْهِم وَإِن لم يعرف عَددهمْ قَالَ الرَّوْيَانِيّ فَلَو صلى على بَعضهم وَلم يُعينهُ ثمَّ صلى على الْبَاقِي لم تصح وَلَو أحرم الإِمَام بِالصَّلَاةِ على جَنَازَة ثمَّ حضرت أُخْرَى وَهُوَ فِي الصَّلَاة تركت حَتَّى يفرغ ثمَّ يُصَلِّي على الثَّانِيَة لِأَنَّهُ لم ينوها أَولا ذكره فِي الْمَجْمُوع
وَلَو صلى على حَيّ وميت صحت على الْمَيِّت إِن جهل الْحَال وَإِلَّا فَلَا وَيجب على الْمَأْمُوم نِيَّة الِاقْتِدَاء
والركن الثَّانِي قيام قَادر عَلَيْهِ كَغَيْرِهَا من الْفَرَائِض
(و) الرُّكْن الثَّالِث (يكبر عَلَيْهِ أَربع تَكْبِيرَات) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فَلَو زَاد عَلَيْهَا لم تبطل صلَاته لِأَنَّهُ إِنَّمَا زَاد ذكرا وَإِذا زَاد إِمَامه عَلَيْهَا لم يسن لَهُ مُتَابَعَته فِي الزَّائِد لعدم سنه للْإِمَام بل يُفَارِقهُ وَيسلم أَو ينتظره ليسلم مَعَه وَهُوَ أفضل
والركن الرَّابِع قِرَاءَة الْفَاتِحَة كَغَيْرِهَا من الصَّلَوَات ولعموم خبر لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب وَقَوله (يقْرَأ الْفَاتِحَة بعد) التَّكْبِيرَة (الأولى) هُوَ ظَاهر كَلَام الْغَزالِيّ وَتَبعهُ الرَّافِعِيّ صَححهُ النَّوَوِيّ فِي تبيانه وَلَكِن الرَّاجِح كَمَا رَجحه النَّوَوِيّ فِي منهاجه من زِيَادَته أَنَّهَا تجزىء فِي غير الأولى من الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة وَالرَّابِعَة وَجزم بِهِ فِي الْمَجْمُوع وَفِي الْمَجْمُوع يجوز أَن يجمع فِي التَّكْبِيرَة الثَّانِيَة بَين الْقِرَاءَة وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي الثَّالِثَة بَين الْقِرَاءَة وَالدُّعَاء للْمَيت وَيجوز إخلاء التَّكْبِيرَة الأولى من الْقِرَاءَة اه
وَلَا يشْتَرط التَّرْتِيب بَين الْفَاتِحَة وَبَين الرُّكْن الَّذِي قُرِئت الْفَاتِحَة فِيهِ وَلَا يجوز أَن يقْرَأ بَعْضهَا فِي ركن وَبَعضهَا فِي ركن آخر كَمَا يُؤْخَذ من كَلَام الْمَجْمُوع لِأَن هَذِه الْخصْلَة لم تثبت وكالفاتحة فِيمَا ذكر عِنْد الْعَجز بدلهَا
(و) الرُّكْن الْخَامِس (يُصَلِّي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد) التَّكْبِيرَة (الثَّانِيَة) لِلِاتِّبَاعِ وأقلها اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وَتسن الصَّلَاة على الْآل كالدعاء للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات عَقبهَا وَالْحَمْد لله قبل الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(و) الرُّكْن السَّادِس (يَدْعُو للْمَيت) بِخُصُوصِهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُود الْأَعْظَم من الصَّلَاة وَمَا قبله مُقَدّمَة لَهُ فَلَا يَكْفِي الدُّعَاء للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات وَالْوَاجِب مَا ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم كاللهم ارحمه واللهم اغْفِر لَهُ وَأما الْأَكْمَل فَسَيَأْتِي وَقَول الْأَذْرَعِيّ الْأَشْبَه أَن غير الْمُكَلف لَا يجب الدُّعَاء لَهُ لعدم تَكْلِيفه
قَالَ الْغَزِّي بَاطِل
وَيجب أَن يكون الدُّعَاء (بعد) التَّكْبِيرَة (الثَّالِثَة) فَلَا يجزىء فِي غَيرهَا بِلَا خلاف
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَلَيْسَ لتخصيص ذَلِك إِلَّا مُجَرّد الِاتِّبَاع
اه
وَيَكْفِي ذَلِك
وَيسن رفع يَدَيْهِ

(1/204)


فِي تكبيراتها حَذْو مَنْكِبَيْه وَيَضَع يَدَيْهِ تَحت صَدره كَغَيْرِهَا من الصَّلَوَات وتعوذ للْقِرَاءَة وإسرار بِهِ وبقراءة لَيْلًا أَو نَهَارا وَترك افْتِتَاح وَسورَة لطولهما
وَظَاهر كَلَامهم أَن الحكم كَذَلِك
وَلَو صلى على قبر أَو غَائِب لِأَنَّهَا مَبْنِيَّة على التَّخْفِيف
وَأما أكمل الدُّعَاء (فَيَقُول) بعد قَوْله اللَّهُمَّ اغْفِر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وَكَبِيرنَا وَذكرنَا وأنثانا اللَّهُمَّ من أحييته منا فأحيه على الْإِسْلَام وَمن توفيته منا فتوفه على الْإِيمَان (اللَّهُمَّ) أَي يَا الله (هَذَا) الْمَيِّت (عَبدك وَابْن عبديك) بالتثنية تَغْلِيبًا للمذكر (خرج من روح الدُّنْيَا) بِفَتْح الرَّاء وَهُوَ نسيم الرّيح (وسعتها) بِفَتْح السِّين أَي الاتساع وبالجر عطفا على الْمَجْرُور والمضاف (ومحبوبه وأحبائه فِيهَا) أَي مَا يُحِبهُ وَمن يُحِبهُ (إِلَى ظلمَة الْقَبْر وَمَا هُوَ لاقيه) من هول مُنكر وَنَكِير كَذَا فِي الْمَجْمُوع عَن القَاضِي حُسَيْن قَالَ فِي الْمُهِمَّات لَكِن اللَّفْظ يتَنَاوَل مَا يلقاه فِي الْقَبْر وَفِيمَا بعده (كَأَن يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت وَحدك لَا شريك لَك وَأَن) سيدنَا (مُحَمَّدًا) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (عَبدك وَرَسُولك) إِلَى جَمِيع خلقك (وَأَنت أعلم بِهِ) أَي منا (اللَّهُمَّ إِنَّه نزل بك) أَي ضيفك وَأَنت أكْرم الأكرمين وضيف الْكِرَام لَا يضام (وَأَنت خير منزول بِهِ) وَيذكر اللَّفْظ مُطلقًا سَوَاء كَانَ الْمَيِّت ذكرا أم أُنْثَى لِأَنَّهُ عَائِد على الله تَعَالَى
قَالَ الدَّمِيرِيّ وَكَثِيرًا مَا يغلظ فِي ذَلِك (وَأصْبح فَقِيرا إِلَى رحمتك) الواسعة (وَأَنت غَنِي عَن عَذَابه وَقد جئْنَاك) أَي قصدناك (راغبين إِلَيْك شُفَعَاء لَهُ) عنْدك (اللَّهُمَّ إِن كَانَ محسنا) لنَفسِهِ (فزد فِي إحسانه) أَي إحسانك إِلَيْهِ (وَإِن كَانَ مسيئا) عَلَيْهَا (فَتَجَاوز عَنهُ) بكرمك (ولقه) أَي أنله (بِرَحْمَتك رضاك) عَنهُ (وقه) بِفَضْلِك (فتْنَة) السُّؤَال فِي (الْقَبْر) بإعانته على التثبيت فِي جَوَابه (وقه) (عَذَابه) الْمَعْلُوم صحتهما من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة (وافسح لَهُ) بِفَتْح السِّين أَي وسع لَهُ (فِي قَبره) مد الْبَصَر كَمَا صَحَّ فِي الْخَبَر (وجاف الأَرْض) أَي ارفعها (عَن جَنْبَيْهِ) بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون النُّون بعْدهَا تَثْنِيَة جنب كَمَا هُوَ عبارَة الْأَكْثَرين
وَفِي بعض نسخ الْأُم الصَّحِيحَة عَن جثته بِضَم الْجِيم وَفتح الْمُثَلَّثَة الْمُشَدّدَة
قَالَ فِي الْمُهِمَّات وَهِي أحسن لدُخُول الجنبين والبطن وَالظّهْر اه
(ولقه بِرَحْمَتك الْأَمْن من عذابك) الشَّامِل لما فِي الْقَبْر وَلما فِي الْقِيَامَة وأعيد بِإِطْلَاقِهِ بعد تَقْيِيده بِمَا تقدم اهتماما بِشَأْنِهِ إِذْ هُوَ الْمَقْصُود من هَذِه الشَّفَاعَة (حَتَّى تبعثه) من قَبره بجسده وروحه (آمنا) من هول الْموقف مساقا فِي زمرة الْمُتَّقِينَ (إِلَى جنتك بِرَحْمَتك يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ) جمع ذَلِك الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى من الْأَخْبَار وَاسْتَحْسنهُ الْأَصْحَاب وَوجد فِي نُسْخَة من الرَّوْضَة ومحبوبها وَكَذَا هُوَ فِي الْمَجْمُوع
وَالْمَشْهُور فِي قَوْله ومحبوبه وأحباؤه الْجَرّ وَيجوز رَفعه بِجعْل الْوَاو للْحَال وَهَذَا فِي الْبَالِغ الذّكر فَإِن كَانَ أُنْثَى عبر بالأمة وأنث مَا يعود إِلَيْهَا وَإِن ذكر بِقصد الشَّخْص لم يضر كَمَا فِي الرَّوْضَة وَإِن كَانَ خُنْثَى
قَالَ الْإِسْنَوِيّ فَالْمُتَّجه التَّعْبِير بالمملوك وَنَحْوه
قَالَ فَإِن لم يكن للْمَيت أَب بِأَن كَانَ ولد زنا فَالْقِيَاس أَن يَقُول فِيهِ وَابْن أمتك اه
وَالْقِيَاس أَنه لَو لم يعرف أَن الْمَيِّت ذكر أَو أُنْثَى أَن يعبر بالمملوك وَنَحْوه وَيجوز أَن يَأْتِي بالضمائر مذكرة على إِرَادَة الْمَيِّت أَو الشَّخْص ومؤنثة على إِرَادَة لفظ الْجِنَازَة وَأَنه لَو صلى على جمع مَعًا يَأْتِي فِيهِ بِمَا يُنَاسِبه وَأما الصَّغِير فَيَقُول فِيهِ مَعَ الأول فَقَط اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فرطا لِأَبَوَيْهِ أَي سَابِقًا مهيئا لمصالحهما فِي الْآخِرَة وسلفا وذخرا بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وعظة واعتبارا وشفيعا وَثقل بِهِ موازينهما وأفرغ الصَّبْر على قلوبهما
لِأَن ذَلِك مُنَاسِب للْحَال وَزَاد فِي الْمَجْمُوع على هَذَا وَلَا تفتنهما بعده وَلَا تحرمهما أجره
وَيُؤَنث فِيمَا إِذا كَانَ الْمَيِّت أُنْثَى وَيَأْتِي فِي الْخُنْثَى مَا مر
وَيَكْفِي هَذَا الدُّعَاء للطفل
وَلَا يُنَافِي قَوْلهم إِنَّه لَا بُد فِي الدُّعَاء للْمَيت أَن يخص بِهِ كَمَا مر لثُبُوت النَّص فِي هَذَا بِخُصُوصِهِ وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والسقط يصلى عَلَيْهِ ويدعى لوَالِديهِ بالعافية وَالرَّحْمَة وَلَكِن لَو دَعَا لَهُ بِخُصُوصِهِ كفى وَلَو تردد فِي بُلُوغ الْمُرَاهق فالأحوط أَن يَدْعُو بِهَذَا ويخصصه بِالدُّعَاءِ بعد الثَّالِثَة
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَسَوَاء فِيمَا قَالُوهُ أمات فِي حَيَاة أَبَوَيْهِ أم لَا
وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ مَحَله فِي

(1/205)


الْأَبَوَيْنِ الْحَيَّيْنِ الْمُسلمين فَإِن لم يَكُونَا كَذَلِك أَتَى بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَال وَهَذَا أولى وَلَو جهل إسلامهما فَالْأولى أَن يعلق على إيمانهما خُصُوصا فِي نَاحيَة يكثر فِيهَا الْكفَّار وَلَو علم كفرهما كتبعية الصَّغِير للسابي حرم الدُّعَاء لَهما بالمغفرة والشفاعة وَنَحْوهمَا
(وَيَقُول فِي) التَّكْبِيرَة (الرَّابِعَة) ندبا (اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمنَا) بِفَتْح الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة وَضمّهَا (أجره) أَي أجر الصَّلَاة عَلَيْهِ أَو أجر الْمُصِيبَة بِهِ فَإِن الْمُسلمين فِي الْمُصِيبَة كالشيء الْوَاحِد (وَلَا تفتنا بعده) أَي بالابتلاء بِالْمَعَاصِي وَزَاد المُصَنّف كالتنبيه (واغفر لنا وَله) وَاسْتَحْسنهُ الْأَصْحَاب وَيسن أَن يطول الدُّعَاء بعد الرَّابِعَة كَمَا فِي الرَّوْضَة
نعم لَو خيف تغير الْمَيِّت أَو انفجاره لَو أَتَى بالسنن فَالْقِيَاس كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيّ الِاقْتِصَار على الْأَركان
(و) الرُّكْن السَّابِع (يسلم بعد) التَّكْبِيرَة (الرَّابِعَة) كسلام غَيرهَا من الصَّلَوَات فِي كيفيته وتعدده وَيُؤْخَذ من ذَلِك عدم سنّ وَبَرَكَاته خلافًا لمن قَالَ يسن ذَلِك وَأَنه يلْتَفت فِي السَّلَام وَلَا يقْتَصر على تَسْلِيمَة وَاحِدَة يَجْعَلهَا تِلْقَاء وَجهه وَإِن قَالَ فِي الْمَجْمُوع إِنَّه الْأَشْهر وَحمل الْجِنَازَة بَين العمودين بِأَن يضعهما رجل على عَاتِقيهِ وَرَأسه بَينهمَا وَيحمل المؤخرتين رجلَانِ أفضل من التربيع بِأَن يتَقَدَّم رجلَانِ ويتأخر آخرَانِ وَلَا يحملهَا وَلَو أُنْثَى إِلَّا الرِّجَال لضعف النِّسَاء عَن حملهَا فَيكْرَه لَهُنَّ ذَلِك وَحرم حملهَا على هَيْئَة مزرية كحملها فِي قفة أَو هَيْئَة يخَاف مِنْهَا سُقُوطهَا وَالْمَشْي أمامها وقربها بِحَيْثُ لَو الْتفت لرآها أفضل من غَيره
وَسن إسراع بهَا إِن أَمن تغير الْمَيِّت بالإسراع وَإِلَّا فيتأنى بِهِ فَإِن خيف تغيره بالتأني أَيْضا زيد فِي الْإِسْرَاع وَسن لغير ذكر مَا يستره كقبة وَكره لغط فِي الْجِنَازَة بل الْمُسْتَحبّ التفكر فِي الْمَوْت وَمَا بعده وكرة إتباعها بِنَار فِي مجمرة أَو غَيرهَا وَلَا يكره الرّكُوب فِي رُجُوعهَا وَلَا اتِّبَاع مُسلم جَنَازَة قَرِيبه الْكَافِر
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَلَا يبعد إِلْحَاق الزَّوْجَة والمملوك بالقريب
قَالَ وَهل يلْحق بِهِ الْجَار كَمَا فِي العيادة فِيهِ نظر اه وَلَا بعد فِيهِ
وَتحرم الصَّلَاة على الْكَافِر وَلَا يجب طهر لِأَنَّهُ كَرَامَة وَهُوَ لَيْسَ من أَهلهَا وَيجب علينا تكفين ذمِّي وَدَفنه حَيْثُ لم يكن لَهُ مَال وَلَا من تلْزمهُ نَفَقَته وَفَاء بِذِمَّتِهِ وَلَو اخْتَلَط من يُصَلِّي عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ وَلم يتَمَيَّز كمسلم بِكَافِر وَغير شَهِيد بِشَهِيد وَجب تجهيز كل إِذْ لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بذلك وَيُصلي على الْجَمِيع وَهُوَ أفضل أَو على وَاحِد فواحد بِقصد من يُصَلِّي عَلَيْهِ فِي الكيفيتين وَيغْتَفر التَّرَدُّد فِي النِّيَّة وَيَقُول فِي الْمِثَال الأول اللَّهُمَّ اغْفِر للْمُسلمِ مِنْهُم فِي الْكَيْفِيَّة الأولى وَيَقُول اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ إِن كَانَ مُسلما فِي الْكَيْفِيَّة الثَّانِيَة
وَتسن الصَّلَاة عَلَيْهِ بِمَسْجِد وبثلاثة صُفُوف فَأكْثر لخَبر مَا من مُسلم يَمُوت فَيصَلي عَلَيْهِ ثَلَاثَة صُفُوف إِلَّا غفر لَهُ وَلَا تسن إِعَادَتهَا وَمَعَ ذَلِك لَو أُعِيدَت وَقعت نفلا وَلَا تُؤخر لغير ولي أما هُوَ فتؤخر لَهُ مَا لم يخف تغيره
وَلَو نوى إِمَام مَيتا حَاضرا أَو غَائِبا ومأموم آخر كَذَلِك جَازَ لِأَنَّهُ اخْتِلَاف نيتهما لَا يضر وَلَو تخلف الْمَأْمُوم عَن إِمَامه بِلَا عذر بتكبيرة حَتَّى شرع إِمَامه فِي أُخْرَى بطلت صلَاته إِذْ الِاقْتِدَاء هُنَا إِنَّمَا يظْهر فِي التَّكْبِيرَات وَهُوَ تخلف فَاحش يشبه التَّخَلُّف بِرَكْعَة فَإِن كَانَ ثمَّ عذر كنسيان فَلَا تبطل إِلَّا بتخلفه بتكبيرتين على مَا اقْتَضَاهُ كَلَامهم وَلَا شكّ أَن التَّقَدُّم كالتخلف بل أولى
وَيكبر الْمَسْبُوق وَيقْرَأ الْفَاتِحَة وَإِن كَانَ الإِمَام فِي غَيرهَا كالدعاء لِأَن مَا أدْركهُ أول صلَاته وَلَو كبر الإِمَام أُخْرَى قبل قِرَاءَته كبر

(1/206)


مَعَه وَسَقَطت الْقِرَاءَة عَنهُ كَمَا فِي غَيرهَا من الصَّلَوَات وَإِذا سلم الإِمَام تدارك الْمَسْبُوق حتما بَاقِي التَّكْبِيرَات بأذكارها وجوبا فِي الْوَاجِب وندبا فِي الْمَنْدُوب
وَيسن أَن لَا ترْتَفع الْجِنَازَة حَتَّى يتم الْمَسْبُوق وَلَا يضر رَفعهَا قبل إِتْمَامه
ثمَّ شرع فِي أكمل الدّفن الْمَوْعُود بِذكرِهِ فَقَالَ (ويدفن فِي لحد) وَهُوَ بِفَتْح اللَّام وَضمّهَا وَسُكُون الْحَاء فيهمَا أَصله الْميل وَالْمرَاد أَن يحْفر فِي أَسْفَل جَانب الْقَبْر القبلي مائلا عَن الاسْتوَاء قدر مَا يسع الْمَيِّت ويستره وَهُوَ أفضل من الشق بِفَتْح الْمُعْجَمَة إِن صلبت الأَرْض وَهُوَ أَن يحْفر قَعْر الْقَبْر كالنهر ويبنى جانباه بِلَبن أَو غَيره غير مَا مسته النَّار وَيجْعَل الْمَيِّت بَينهمَا أما الأَرْض الرخوة فالشق فِيهَا أفضل خشيَة الانهيار وَيُوضَع فِي اللَّحْد أَو غَيره (مُسْتَقْبل الْقبْلَة) وجوبا تَنْزِيلا لَهُ منزلَة الْمُصَلِّي فَلَو وَجه لغَيْرهَا نبش وَوجه للْقبْلَة وجوبا إِن لم يتَغَيَّر وَإِلَّا فَلَا وَيُوضَع الْمَيِّت ندبا عِنْد مُؤخر الْقَبْر الَّذِي سيصير عِنْد أَسْفَله رجل الْمَيِّت (ويسل) بِضَم حرف المضارعة على الْبناء للْمَفْعُول أَي يدْخل (من قبل) بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْمُوَحدَة أَي من جِهَة (رَأسه بِرِفْق) لما رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سل من قبل رَأسه ويدخله الأحق بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ دَرَجَة فَلَا يدْخلهُ وَلَو أُنْثَى إِلَّا الرِّجَال لَكِن الأحق فِي الْأُنْثَى زوج وَإِن لم يكن لَهُ حق فِي الصَّلَاة فمحرم فعبدها لِأَنَّهُ كالمحرم فِي النّظر وَنَحْوه فممسوح فمجبوب فخصي لبَعض شهوتهم فأجنبي صَالح وَسن كَون الْمدْخل وترا وَاحِدًا فَأكْثر بِحَسب الْحَاجة وَسن ستر الْقَبْر بِثَوْب عِنْد الدّفن وَهُوَ لغير ذكر من أُنْثَى وَخُنْثَى آكِد احْتِيَاطًا (وَيَقُول الَّذِي يلحده) أَي يدْخلهُ الْقَبْر ندبا (باسم الله وعَلى مِلَّة) أَي دين (رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) لِلِاتِّبَاعِ وَفِي رِوَايَة وعَلى سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (ويضجع فِي الْقَبْر) على يَمِينه ندبا كَمَا فِي الِاضْطِجَاع عِنْد النّوم فَإِن وضع على يسَاره كره وَلم ينبش وَينْدب أَن يُفْضِي بخده إِلَى الأَرْض (بعد أَن) يُوسع بِأَن يُزَاد فِي طوله وَعرضه وَأَن (يعمق) الْقَبْر وَهُوَ بِضَم حرف المضارعة وَفتح الْمُهْملَة الزِّيَادَة فِي النُّزُول (قامة وبسطة) من رجل معتدل لَهما وهما أَرْبَعَة أَذْرع وَنصف كَمَا صَوبه النَّوَوِيّ خلافًا للرافعي فِي قَوْله إنَّهُمَا ثَلَاثَة أَذْرع وَنصف تبعا للمحاملي وَينْدب أَن يسند وَجهه وَرجلَاهُ إِلَى جِدَار الْقَبْر وظهره بِنَحْوِ لبنة كحجر حَتَّى لَا ينكب وَلَا يستلقي وَأَن يسد فَتحه بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون التَّاء بِنَحْوِ لبن كطين بِأَن يَبْنِي بذلك ثمَّ يسد فرجه بِكَسْر لبن وطين أَو نَحْوهمَا وَكره أَن يَجْعَل لَهُ فرش ومخدة وصندوق لم يحْتَج إِلَيْهِ لِأَن فِي ذَلِك إِضَاعَة مَال أما إِذا احْتِيجَ إِلَى صندوق لنداوة وَنَحْوهَا كرخاوة فِي الأَرْض فَلَا يكره وَلَا تنفذ وَصيته إِلَّا حِينَئِذٍ وَلَا يكره دَفنه لَيْلًا مُطلقًا وَوقت كَرَاهَة صَلَاة مَا لم يتحره بِالْإِجْمَاع فَإِن تحراه كره كَمَا فِي الْمَجْمُوع (وَلَا يبْنى) على الْقَبْر نَحْو قبَّة كبيت (وَلَا يجصص) أَي يبيض بالجص وَهُوَ الجبس وَقيل الجير وَالْمرَاد هُنَا هما أَو أَحدهمَا أَي يكره الْبناء والتجصيص للنَّهْي عَنْهُمَا فِي صَحِيح مُسلم
وَخرج بتجصيصه تطيينه فَإِنَّهُ لَا بَأْس بِهِ كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوع إِنَّه الصَّحِيح وَتكره الْكِتَابَة عَلَيْهِ سَوَاء كتب عَلَيْهِ اسْم صَاحبه أم غَيره
وَيكرهُ أَن يَجْعَل على الْقَبْر مظلة لِأَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ رأى قبَّة فنحاها وَقَالَ دَعوه يظله عمله
وَلَو بني عَلَيْهِ فِي مَقْبرَة مسبلة وَهِي الَّتِي جرت عَادَة أهل الْبَلَد بالدفن فِيهَا حرم وَهدم لِأَنَّهُ يضيق على النَّاس وَلَا فرق بَين أَن يَبْنِي قبَّة أَو بَيْتا أَو مَسْجِدا أَو غير ذَلِك وَمن المسبل كَمَا قَالَه الدَّمِيرِيّ قرافة مصر قَالَ ابْن عبد الحكم ذكر فِي تَارِيخ مصر أَن عَمْرو بن الْعَاصِ أعطَاهُ الْمُقَوْقس فِيهَا مَالا جزيلا وَذكر أَنه وجد فِي الْكتاب الأول أَنَّهَا تربة أهل الْجنَّة فكاتب عمر بن الْخطاب فِي ذَلِك فَكتب إِلَيْهِ إِنِّي لَا أعرف تربة الْجنَّة إِلَّا لأجساد الْمُؤمنِينَ فاجعلوها لموتاكم
وَينْدب أَن يرش الْقَبْر بِمَاء لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعله بِقَبْر وَلَده إِبْرَاهِيم وَالْأولَى أَن يكون طهُورا بَارِدًا وَخرج بِالْمَاءِ مَاء الْورْد فالرش بِهِ

(1/207)


مَكْرُوه لِأَنَّهُ إِضَاعَة مَال
وَقَالَ السُّبْكِيّ لَا بَأْس باليسير مِنْهُ إِن قصد بِهِ حُضُور الْمَلَائِكَة فَإِنَّهَا تحب الرَّائِحَة الطّيبَة انْتهى
وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَانِع من حُرْمَة إِضَاعَة المَال
وَيسن وضع الجريد الْأَخْضَر على الْقَبْر وَكَذَا الريحان وَنَحْوه من الشَّيْء الرطب وَلَا يجوز للْغَيْر أَخذه من على الْقَبْر قبل يبسه لِأَن صَاحبه لم يعرض عَنهُ إِلَّا عِنْد يبسه لزوَال نَفعه الَّذِي كَانَ فِيهِ وَقت رطوبته وَهُوَ الاسْتِغْفَار وَأَن يضع عِنْد رَأسه حجرا أَو خَشَبَة أَو نَحْو ذَلِك لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وضع عِنْد رَأس عُثْمَان بن مَظْعُون صَخْرَة وَقَالَ أتعلم بهَا قبر أخي لأدفن إِلَيْهِ من مَاتَ من أَهلِي وَينْدب جمع أقَارِب الْمَيِّت فِي مَوضِع وَاحِد من الْمقْبرَة لِأَنَّهُ أسهل على الزائر والدفن فِي الْمقْبرَة أفضل مِنْهُ بغَيْرهَا لينال الْمَيِّت دُعَاء المارين والزائرين وَيكرهُ الْمبيت بهَا لما فِيهَا من الوحشة وَينْدب زِيَارَة الْقُبُور الَّتِي فِيهَا الْمُسلمُونَ للرِّجَال بِالْإِجْمَاع وَكَانَت زيارتها مَنْهِيّا عَنْهَا ثمَّ نسخت بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها وَيكرهُ زيارتها للنِّسَاء لِأَنَّهَا مَظَنَّة لطلب بكائهن وَرفع أصواتهن نعم ينْدب لَهُنَّ زِيَارَة قبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهَا من أعظم القربات وَيَنْبَغِي أَن يلْحق بذلك بَقِيَّة الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ وَالشُّهَدَاء وَينْدب أَن يسلم الزائر لقبور الْمُسلمين مُسْتَقْبلا وَجه الْمَيِّت قَائِلا مَا علمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خَرجُوا للمقابر السَّلَام على أهل الدَّار من الْمُؤمنِينَ وَالْمُسْلِمين وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون أسأَل الله لي وَلكم الْعَافِيَة أَو السَّلَام عَلَيْكُم دَار قوم مُؤمنين وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون رَوَاهُمَا مُسلم وَزَاد أَبُو دَاوُد اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمنَا أجرهم وَلَا تفتنا بعدهمْ لَكِن بِسَنَد ضَعِيف وَقَوله إِن شَاءَ الله للتبرك وَيقْرَأ عِنْدهم مَا تيَسّر من الْقُرْآن فَإِن الرَّحْمَة تنزل فِي مَحل الْقِرَاءَة وَالْمَيِّت كحاضر ترجى لَهُ الرَّحْمَة وَيَدْعُو لَهُ عقب الْقِرَاءَة لِأَن الدُّعَاء ينفع الْمَيِّت وَهُوَ عقب الْقِرَاءَة أقرب إِلَى الْإِجَابَة وَأَن يقرب زَائِره مِنْهُ كقربه مِنْهُ فِي زيارته حَيا احتراما لَهُ قَالَه النَّوَوِيّ وَيسْتَحب الْإِكْثَار من الزِّيَارَة وَأَن يكثر الْوُقُوف عِنْد قُبُور أهل الْخَيْر وَالْفضل
(وَلَا بَأْس بالبكاء على الْمَيِّت) قبل الْمَوْت وَبعده قَالَ فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا والبكاء قبل الْمَوْت أولى من بعده لَكِن الأولى عَدمه بِحَضْرَة المحتضر والبكاء عَلَيْهِ بعد الْمَوْت خلاف الأولى لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون أسفا على مَا فَاتَ نَقله فِي الْمَجْمُوع عَن الْجُمْهُور وَلَكِن يكون (من غير نوح) وَهُوَ رفع الصَّوْت بالندب قَالَه فِي الْمَجْمُوع وَهُوَ حرَام لخَبر النائحة إِذا لم تتب تقوم يَوْم الْقِيَامَة وَعَلَيْهَا سربال من قطران وَدرع من جرب رَوَاهُ مُسلم والسربال الْقَمِيص والدرع قَمِيص فَوْقه (وَلَا شقّ جيب) وَنَحْوه كنشر شعر وتسويد وَجه وإلقاء رماد على رَأس وَرفع صَوت بإفراط فِي الْبكاء أَي يحرم ذَلِك لخَبر الشَّيْخَيْنِ لَيْسَ منا من ضرب الخدود وشق الْجُيُوب ودعا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة والجيب هُوَ تَقْدِير مَوضِع دُخُول رَأس اللابس من الثَّوْب قَالَ صَاحب الْمطَالع
وَيحرم أَيْضا الْجزع بِضَرْب صَدره وَنَحْوه كضرب خد وَمن ذَلِك أَيْضا تَغْيِير الزي وَلبس غير مَا جرت بِهِ الْعَادة وَالضَّابِط كل فعل يتَضَمَّن إِظْهَار جزع يُنَافِي الانقياد والاستسلام لقَضَاء الله تَعَالَى وَلَا يعذب الْمَيِّت بِشَيْء من ذَلِك مَا لم يوص بِهِ
قَالَ تَعَالَى {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} خلاف مَا إِذا أوصى بِهِ وَعَلِيهِ حمل الْجُمْهُور الْأَخْبَار الْوَارِدَة بتعذيب الْمَيِّت على ذَلِك وَالأَصَح كَمَا قَالَه الشَّيْخ أَبُو حَامِد أَن مَا ذكر مَحْمُول على الْكَافِر وَغَيره من أَصْحَاب الذُّنُوب
وتندب الْمُبَادرَة بِقَضَاء دين الْمَيِّت إِن تيَسّر حَالا
قبل الِاشْتِغَال بتجهيزه لخَبر نفس الْمُؤمن أَي روحه معلقَة أَي محبوسة عَن مقَامهَا الْكَرِيم بِدِينِهِ حَتَّى يقْضى عَنهُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَحسنه وَتجب الْمُبَادرَة عِنْد طلب الْمُسْتَحق حَقه وبتنفيذ وَصيته وَتجب عِنْد طلب الْمُوصى لَهُ الْمعِين وَكَذَا عِنْد المكنة فِي الْوَصِيَّة للْفُقَرَاء وَنَحْوهم من ذَوي الْحَاجَات أَو كَانَ قد أوصى بتعجيلها
وَيكرهُ تمني الْمَوْت لضر نزل فِي بدنه أَو ضيق فِي دُنْيَاهُ إِلَّا لفتنة دين فَلَا يكره كَمَا فِي الْمَجْمُوع أما تمنيه لغَرَض أخروي فمحبوب كتمني الشَّهَادَة فِي سَبِيل الله

(1/208)


وَيسن التَّدَاوِي لخَبر إِن الله لم يضع دَاء إِلَّا جعل لَهُ دَوَاء غير الْهَرم قَالَ فِي الْمَجْمُوع فَإِن ترك التَّدَاوِي توكلا على الله فَهُوَ أفضل وَيكرهُ إِكْرَاه الْمَرِيض عَلَيْهِ وَكَذَا إكراهه على الطَّعَام وَيجب أَن يستعد للْمَوْت كل مُكَلّف بتوبة بِأَن يُبَادر بهَا لِئَلَّا يفجأه الْمَوْت المفوت لَهَا وَيسن أَن يكثر من ذكر الْمَوْت لخَبر أَكْثرُوا من ذكر هاذم اللَّذَّات فَإِنَّهُ مَا يذكر فِي كثير إِلَّا قلله وَلَا قَلِيل إِلَّا كثره أَي كثير من الأمل فِي الدُّنْيَا وَقَلِيل من الْعَمَل
وهاذم بِالْمُعْجَمَةِ أَي قَاطع وَيحرم نقل الْمَيِّت قبل دَفنه من مَحل مَوته إِلَى مَحل أبعد من مَقْبرَة مَحل مَوته ليدفن فِيهِ إِلَّا أَن يكون بِقرب مَكَّة أَو الْمَدِينَة أَو بَيت الْمُقَدّس نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي لفضلها
(ويعزى) ندبا (أَهله) أَي الْمَيِّت كَبِيرهمْ وصغيرهم وَذكرهمْ وأنثاهم لما رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد حسن مَا من مُسلم يعزي أَخَاهُ بمصيبة إِلَّا كَسَاه الله من حلل الْكَرَامَة يَوْم الْقِيَامَة نعم الشَّابَّة لَا يعزيها أَجْنَبِي وَإِنَّمَا يعزيها محارمها وَزوجهَا وَكَذَا من ألحق بهم فِي جَوَاز النّظر فِيمَا يظْهر وَصرح ابْن خيران بِأَنَّهُ يسْتَحبّ التَّعْزِيَة بالمملوك بل قَالَ الزَّرْكَشِيّ يسْتَحبّ أَن يعزى بِكُل من يحصل لَهُ عَلَيْهِ وجد كَمَا ذكره الْحسن الْبَصْرِيّ حَتَّى الزَّوْجَة وَالصديق وتعبيرهم بالأهل جري على الْغَالِب وتندب الْبدَاءَة بأضعفهم عَن حمل الْمُصِيبَة وَتسن قبل دَفنه لِأَنَّهُ وَقت شدَّة الْجزع والحزن وَلَكِن بعده أولى لاشتغالهم قبله بتجهيزه إِلَّا إِن أفرط حزنهمْ فتقديمها أولى ليصبرهم
وغايتها (إِلَى) آخر (ثَلَاثَة أَيَّام) تَقْرِيبًا تمْضِي (من) وَقت الْمَوْت لحاضر وَمن الْقدوم لغَائِب وَقيل من وَقت (دَفنه) وَمثل الْغَائِب الْمَرِيض والمحبوس فتكره التَّعْزِيَة بعْدهَا إِذْ الْغَرَض مِنْهَا تسكين قلب الْمُصَاب وَالْغَالِب سكونه فِيهَا فَلَا يجدد حزنه بهَا وَيُقَال فِي تَعْزِيَة الْمُسلم بِالْمُسلمِ أعظم الله أجرك أَي جعله عَظِيما وَأحسن عزاءك أَي جعله حسنا وَغفر لميتك وَيُقَال فِي تعزيته بالكافر الذِّمِّيّ أعظم الله أجرك وصبرك وأخلف عَلَيْك أَو جبر مصيبتك أَو نَحْو ذَلِك وَيُقَال فِي تَعْزِيَة الْكَافِر بِالْمُسلمِ غفر الله لميتك وَأحسن عزاءك أما الْكَافِر غير الْمُحْتَرَم من حَرْبِيّ أَو مُرْتَد كَمَا بَحثه الْأَذْرَعِيّ فَلَا يعزى وَهل هُوَ حرَام أَو مَكْرُوه الظَّاهِر فِي الْمُهِمَّات الأول وَمُقْتَضى كَلَام الشَّيْخ أبي حَامِد الثَّانِي وَهُوَ الظَّاهِر هَذَا إِن لم يرج إِسْلَامه فَإِن رُجي إِسْلَامه اسْتحبَّ كَمَا يُؤْخَذ من كَلَام السُّبْكِيّ وَأما تَعْزِيَة الْكَافِر بالكافر فَهِيَ غير مَنْدُوبَة كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الشَّرْح وَالرَّوْضَة بل هِيَ جَائِزَة إِن لم يرج إِسْلَامه وصيغتها أخلف الله عَلَيْك وَلَا نقص عددك لِأَن ذَلِك ينفعنا فِي الدُّنْيَا بِكَثْرَة الْجِزْيَة وَفِي الْآخِرَة بِالْفِدَاءِ من النَّار
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَهُوَ مُشكل لِأَنَّهُ دُعَاء بدوام الْكفْر فالمختار تَركه وَمنعه ابْن النَّقِيب لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْبَقَاء على الْكفْر وَلَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيله بتكثير الْجِزْيَة
(وَلَا يدْفن اثْنَان) ابْتِدَاء (فِي قبر وَاحِد) بل يفرد كل ميت بِقَبْر حَالَة الِاخْتِيَار لِلِاتِّبَاعِ فَلَو جمع اثْنَان فِي قبر واتحد الْجِنْس كرجلين أَو امْرَأتَيْنِ كره عِنْد الْمَاوَرْدِيّ وَحرم عِنْد السَّرخسِيّ وَنَقله عَنهُ النَّوَوِيّ فِي مَجْمُوعه مُقْتَصرا عَلَيْهِ وعقبه بقوله وَعبارَة الْأَكْثَرين وَلَا يدْفن اثْنَان فِي قبر وَنَازع فِي التَّحْرِيم السُّبْكِيّ وَسَيَأْتِي مَا يُقَوي التَّحْرِيم (إِلَّا لحَاجَة) أَي الضَّرُورَة كَمَا فِي كَلَام الشَّيْخَيْنِ كَأَن كثر الْمَوْتَى وعسر إِفْرَاد كل ميت بِقَبْر فَيجمع بَين الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة وَالْأَكْثَر فِي قبر بِحَسب الضَّرُورَة وَكَذَا فِي ثوب لِلِاتِّبَاعِ فِي قَتْلَى أحد رَوَاهُ البُخَارِيّ
فَيقدم حِينَئِذٍ أفضلهما ندبا وَهُوَ الأحق بِالْإِمَامَةِ إِلَى جِدَار الْقَبْر القبلي لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يسْأَل فِي قَتْلَى أحد عَن أَكْثَرهم قُرْآنًا فَيقدمهُ إِلَى اللَّحْد لَكِن لَا يقدم فرع على أَصله من جنسه وَإِن علا حَتَّى يقدم الْجد وَلَو من قبل الْأُم وَكَذَا الْجدّة قَالَه الْإِسْنَوِيّ فَيقدم الْأَب على الابْن وَإِن كَانَ أفضل مِنْهُ لحُرْمَة الْأُبُوَّة وَتقدم الْأُم على الْبِنْت وَإِن كَانَت أفضل مِنْهَا أما الابْن مَعَ الْأُم فَيقدم لفضيلة الذُّكُورَة وَيقدم الرجل على الصَّبِي وَالصَّبِيّ على الْخُنْثَى وَالْخُنْثَى على الْمَرْأَة

(1/209)


وَلَا يجمع رجل وَامْرَأَة فِي قبر وَاحِد إِلَّا لضَرُورَة فَيحرم عِنْد عدمهَا كَمَا فِي الْحَيَاة
قَالَ ابْن الصّلاح وَمحله إِذا لم يكن بَينهمَا محرمية أَو زوجية وَإِلَّا فَيجوز الْجمع
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَهُوَ مُتَّجه
وَالَّذِي فِي الْمَجْمُوع أَنه لَا فرق فَقَالَ إِنَّه حرَام حَتَّى فِي الْأُم مَعَ وَلَدهَا وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر إِذْ الْعلَّة فِي منع الْجمع الْإِيذَاء لِأَن الشَّهْوَة قد انْقَطَعت فَلَا فرق بَين الْمحرم وَغَيره وَلَا بَين أَن يَكُونَا من جنس وَاحِد أم لَا وَالْخُنْثَى مَعَ الْخُنْثَى أَو غَيره كالأنثى مَعَ الذّكر وَالصَّغِير الَّذِي لم يبلغ حد الشَّهْوَة كالمحرم ويحجز بَين الميتين بِتُرَاب حَيْثُ جمع بَينهمَا ندبا كَمَا جزم بِهِ ابْن الْمقري فِي شرح إرشاده وَلَو اتَّحد الْجِنْس
وَأما نبشه بعد دَفنه وَقبل البلى عِنْد أهل الْخِبْرَة بِتِلْكَ الأَرْض للنَّقْل وَغَيره كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وتكفينه فَحَرَام لِأَن فِيهِ هتكا لِحُرْمَتِهِ إِلَّا لضَرُورَة كَأَن دفن بِلَا غسل وَلَا تيَمّم بِشَرْطِهِ وَهُوَ مِمَّن يجب غسله لِأَنَّهُ وَاجِب فاستدرك عِنْد قربه فَيجب على الْمَشْهُور نبشه وغسله إِن لم يتَغَيَّر أَو دفن فِي أَرض أَو فِي ثوب مغصوبين وطالب بهما مالكهما فَيجب النبش وَلَو تغير الْمَيِّت ليصل الْمُسْتَحق إِلَى حَقه وَيسن لصاحبهما التّرْك
وَمحل النبش فِي الثَّوْب إِذا وجد مَا يُكفن فِيهِ الْمَيِّت وَإِلَّا فَلَا يجوز النبش كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الشَّيْخ أبي حَامِد وَغَيره
قَالَ الرَّافِعِيّ والكفن الْحَرِير أَي للرجل كالمغصوب
قَالَ النَّوَوِيّ وَفِيه نظر وَيَنْبَغِي أَن يقطع فِيهِ بِعَدَمِ النبش انْتهى
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد لِأَنَّهُ حق الله تَعَالَى أَو وَقع فِي الْقَبْر مَال وَإِن قل كخاتم فَيجب نبشه وَإِن تغير الْمَيِّت لِأَن تَركه فِيهِ إِضَاعَة مَال
وَقَيده فِي الْمُهَذّب بِطَلَب مَالِكه وَهُوَ الَّذِي يظْهر اعْتِمَاده قِيَاسا على الْكَفَن وَالْفرق بِأَن الْكَفَن ضَرُورِيّ لَا يجدي وَلَو بلع مَالا لغيره وَطَلَبه صَاحبه كَمَا فِي الرَّوْضَة وَلم يضمن مثله أَو قِيمَته أحد من الْوَرَثَة أَو غَيرهم كَمَا فِي الرَّوْضَة نبش وشق جَوْفه وَأخرجه مِنْهُ ورد لصَاحبه أما إِذا ابتلع مَال نَفسه فَإِنَّهُ لَا ينبش وَلَا يشق لاستهلاكه مَاله فِي حَال حَيَاته أَو دفن لغير الْقبْلَة فَيجب نبشه مَا لم يتَغَيَّر وَيُوجه للْقبْلَة بِخِلَاف مَا إِذا دفن بِلَا تكفين فَإِنَّهُ لَا ينبش لِأَن الْغَرَض بالتكفين السّتْر وَقد حصل السّتْر بِالتُّرَابِ
تَتِمَّة يسن أَن يقف جمَاعَة بعد دَفنه عِنْد قَبره سَاعَة يسْأَلُون لَهُ التثبيت لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا فرغ من دفن ميت وقف عَلَيْهِ وَقَالَ اسْتَغْفرُوا لأخيكم واسألوا لَهُ التثبيت فَإِنَّهُ الْآن يسْأَل وَيسن تلقين الْمَيِّت الْمُكَلف بعد الدّفن لحَدِيث ورد فِيهِ
قَالَ فِي الرَّوْضَة والْحَدِيث وَإِن كَانَ ضَعِيفا لكنه اعتضد بشواهد من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَلم تزل النَّاس على الْعَمَل بِهِ من الْعَصْر الأول فِي زمن من يقْتَدى بِهِ وَيقْعد الملقن عِنْد رَأس الْقَبْر أما غير الْمُكَلف وَهُوَ الطِّفْل وَنَحْوه مِمَّن لم يتقدمه تَكْلِيف فَلَا يسن تلقينه لِأَنَّهُ لَا يفتن فِي قَبره
يسن لنَحْو جيران أهل الْمَيِّت كأقاربه الْبعدَاء وَلَو كَانُوا بِبَلَد وَهُوَ بِأُخْرَى تهيئة طَعَام يشبعهم يَوْمًا وَلَيْلَة لشغلهم بالحزن عَنهُ وَأَن يلح عَلَيْهِم فِي الْأكل لِئَلَّا يضعفوا بِتَرْكِهِ وَحرم تهيئته لنَحْو نائحة كنادبة لِأَنَّهَا إِعَانَة على مَعْصِيّة قَالَ ابْن الصّباغ وَغَيره أما اصطناع أهل الْمَيِّت طَعَاما وَجمع النَّاس عَلَيْهِ فبدعة غير مُسْتَحبَّة

(1/210)


= كتاب الزَّكَاة = وَهِي لُغَة النمو وَالْبركَة وَزِيَادَة الْخَيْر يُقَال زكا الزَّرْع إِذْ نما وزكت النَّفَقَة إِذا بورك فِيهَا وَفُلَان زاك أَي كثير الْخَيْر وَتطلق على التَّطْهِير قَالَ تَعَالَى {قد أَفْلح من زكاها} طهرهَا من الأدناس وَتطلق أَيْضا على الْمَدْح قَالَ تَعَالَى {فَلَا تزكوا أَنفسكُم} أَي تمدحوها شرعا اسْم لقدر مَخْصُوص من مَال مَخْصُوص يجب صرفه لأصناف مَخْصُوصَة بشرائط تَأتي وَسميت بذلك لِأَن المَال يَنْمُو ببركة إخْرَاجهَا وَدُعَاء الْآخِذ لَهَا وَلِأَنَّهَا تطهر مخرجها من الْإِثْم وتمدحه حَتَّى تشهد لَهُ بِصِحَّة الْإِيمَان
وَالْأَصْل فِي وُجُوبهَا قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وَآتوا الزَّكَاة} وَقَوله تَعَالَى {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} وأخبار كَخَبَر بني الْإِسْلَام على خمس وَهِي أحد أَرْكَان الْإِسْلَام لهَذَا الْخَبَر
يكفر جاحدها وَإِن أَتَى بهَا وَهَذَا فِي الزَّكَاة الْمجمع عَلَيْهَا بِخِلَاف الْمُخْتَلف فِيهَا كالركاز وَيُقَاتل الْمُمْتَنع من أَدَائِهَا عَلَيْهَا وَتُؤْخَذ مِنْهُ قهرا كَمَا فعل الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وفرضت فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة بعد زَكَاة الْفطر (تجب الزَّكَاة فِي خَمْسَة أَشْيَاء) من أَنْوَاع المَال (وَهِي الْمَوَاشِي والأثمان والزروع وَالثِّمَار وعروض التِّجَارَة) وَهَذِه الْأَنْوَاع ثَمَانِيَة أَصْنَاف من أَجنَاس المَال الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم الإنسية وَالذَّهَب وَالْفِضَّة والزروع وَالنَّخْل وَالْكَرم وَمن ذَلِك وَجَبت لثمانية أَصْنَاف من طَبَقَات النَّاس (فَأَما الْمَوَاشِي) جمع مَاشِيَة وَهِي تطلق على كل شَيْء من الدَّوَابّ والأنعام وَلما كَانَ ذَلِك لَيْسَ بِمُرَاد بَين المُصَنّف المُرَاد مِنْهَا بقوله (فَتجب الزَّكَاة فِي ثَلَاثَة أَجنَاس مِنْهَا) فَقَط (وَهِي الْإِبِل) بِكَسْر الْبَاء اسْم جمع لَا وَاحِدَة لَهُ من لَفظه وتسكن باؤه للتَّخْفِيف وَيجمع على آبال كحمل وأحمال (وَالْبَقر) وَهُوَ اسْم جنس وَاحِدَة بقرة وباقورة للذّكر وَالْأُنْثَى سمي بذلك لِأَنَّهُ

(1/211)


يبقر الأَرْض أَي يشقها بالحراثة (وَالْغنم) وَهُوَ اسْم جنس للذّكر وَالْأُنْثَى لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه فَلَا تجب فِي الْخَيل وَلَا فِي الرَّقِيق وَلَا فِي الْمُتَوَلد من غنم وظباء وَأما الْمُتَوَلد من وَاحِد من النعم وَمن آخر مِنْهَا كالمتولد بَين إبل وبقر فقضية كَلَامهم أَنَّهَا تجب فِيهِ
وَقَالَ الْوَلِيّ الْعِرَاقِيّ يَنْبَغِي الْقطع بِهِ
قَالَ وَالظَّاهِر أَنه يزكّى زَكَاة أخفهما فالمتولد بَين الْإِبِل وَالْبَقر يُزكي زَكَاة الْبَقر لِأَنَّهُ الْمُتَيَقن (وشرائط وُجُوبهَا) أَي زَكَاة الْمَاشِيَة الَّتِي هِيَ الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم (سِتَّة أَشْيَاء)
الأول (الْإِسْلَام) لقَوْل الصّديق رَضِي الله عَنهُ هَذِه فَرِيضَة الصَّدَقَة الَّتِي فَرضهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمُسلمين
فَلَا تجب على كَافِر وجوب مُطَالبَة وَإِن كَانَ يُعَاقب على تَركهَا فِي الْآخِرَة لِأَنَّهُ مُكَلّف بِفُرُوع الشَّرِيعَة
نعم الْمُرْتَد تُؤْخَذ مِنْهُ بعد وُجُوبهَا عَلَيْهِ أسلم أم لَا مُؤَاخذَة لَهُ بِحكم الْإِسْلَام هَذَا إِذا لَزِمته قبل ردته وَمَا لزمَه فِي ردته فَهُوَ مَوْقُوف كَمَاله إِن عَاد إِلَى الْإِسْلَام لزمَه أَدَاؤُهَا لتبين بَقَاء ملكه وَإِلَّا فَلَا
(و) الثَّانِي (الْحُرِّيَّة) فَلَا تجب على رَقِيق وَلَو مُدبرا ومعلقا عتقه بِصفة ومكاتبا لضعف ملك الْمكَاتب وَلعدم ملك غَيره
نعم تجب على من ملك بِبَعْضِه الْحر نِصَابا لتَمام ملكه
(و) الثَّالِث (الْملك التَّام) فَلَا تجب فِيمَا لَا يملكهُ ملكا تَاما كَمَال كِتَابَة إِذْ للْعَبد إِسْقَاطه مَتى شَاءَ وَتجب فِي مَال مَحْجُور عَلَيْهِ والمخاطب بِالْإِخْرَاجِ مِنْهُ وليه وَلَا تجب فِي مَال وقف لجنين إِذْ لَا وثوق بِوُجُودِهِ وحياته
وَتجب فِي مَغْصُوب وضال ومجحود وغائب وَإِن تعذر أَخذه ومملوك بِعقد قبل قَبضه لِأَنَّهَا ملكت ملكا تَاما وَفِي دين لَازم من نقد وعروض تِجَارَة لعُمُوم الْأَدِلَّة وَلَا يمْنَع دين وَلَو حجر بِهِ وُجُوبهَا وَلَو اجْتمع زَكَاة وَدين آدَمِيّ فِي تَرِكَة بِأَن مَاتَ قبل أَدَائِهَا وَضَاقَتْ التَّرِكَة عَنْهُمَا قدمت الزَّكَاة على الدّين تَقْدِيمًا لدين الله تَعَالَى
وَفِي خبر الصَّحِيحَيْنِ وَدين الله أَحَق بِالْقضَاءِ وَخرج بدين الْآدَمِيّ دين الله تَعَالَى كَزَكَاة وَحج فَالْوَجْه كَمَا قَالَه السُّبْكِيّ أَن يُقَال إِن كَانَ النّصاب مَوْجُودا قدمت الزَّكَاة وَإِلَّا فيستويان وبالتركة مَا لَو اجْتمعَا على حَيّ فَإِن كَانَ مَحْجُورا عَلَيْهِ قدم حق الْآدَمِيّ إِذا لم تتَعَلَّق الزَّكَاة بِالْعينِ وَإِلَّا قدمت مُطلقًا
(و) الشَّرْط (الرَّابِع) (النّصاب) بِكَسْر النُّون اسْم لقدر مَعْلُوم مِمَّا تجب فِيهِ الزَّكَاة
قَالَه النَّوَوِيّ فِي تحريره فَلَا زَكَاة فِيمَا دونه
(و) الْخَامِس (الْحول) لخَبر لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول وَهُوَ وَإِن كَانَ ضَعِيفا مجبور بآثار صَحِيحَة عَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَغَيرهم والحول كَمَا فِي الْمُحكم سنة كَامِلَة فَلَا تجب قبل تَمَامه وَلَو بلحظة
وَلَكِن لنتاج نِصَاب ملكه بِسَبَب

(1/212)


ملك النّصاب حول النّصاب وَإِن مَاتَت الْأُمَّهَات لقَوْل عمر رَضِي الله عَنهُ لساعيه اعْتد عَلَيْهِم بالسخلة
وَأَيْضًا الْمَعْنى فِي اشْتِرَاط الْحول أَن يحصل النَّمَاء والنتاج نَمَاء عَظِيم فَيتبع الْأُصُول فِي الْحول وَلَو ادّعى الْمَالِك النِّتَاج بعد الْحول صدق لِأَن الأَصْل عدم وجوده قبله فَإِن اتهمه السَّاعِي سنّ تَحْلِيفه
(و) السَّادِس (السّوم) وَهُوَ إسامة مَالك لَهَا كل الْحول واختصت السَّائِمَة بِالزَّكَاةِ لتوفر مؤنتها بالرعي فِي كلأ مُبَاح أَو مَمْلُوك قِيمَته يسيرَة لَا يعد مثلهَا كلفة فِي مُقَابلَة نمائها لَكِن لَو عَلفهَا قدرا تعيش بِدُونِهِ بِلَا ضَرَر بَين وَلم يقْصد بِهِ قطع سوم لم يضر أما لَو سامت بِنَفسِهَا أَو أسامها غير مَالِكهَا كغاصب أَو اعتلفت سَائِمَة أَو علفت مُعظم الْحول أَو قدرا لَا تعيش بِدُونِهِ أَو تعيش لَكِن بِضَرَر بَين أَو بِلَا ضَرَر بَين لَكِن قصد بِهِ قطع سوم أَو ورثهَا وَتمّ حولهَا وَلم يعلم فَلَا زَكَاة لفقد إسامة الْمَالِك الْمَذْكُور
والماشية تصبر عَن الْعلف يَوْمًا ويومين لَا ثَلَاثَة
(وَأما الْأَثْمَان فشيئان) وهما (الذَّهَب وَالْفِضَّة)
وَالْأَصْل فِي وجوب الزَّكَاة فِي ذَلِك قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة} والكنز الَّذِي لم تُؤَد زَكَاته
تَنْبِيه قَضِيَّة تَفْسِير المُصَنّف الْأَثْمَان بِالذَّهَب وَالْفِضَّة شُمُول الْأَثْمَان لغير الْمَضْرُوب فَإِن الذَّهَب وَالْفِضَّة يُطلق على الْمَضْرُوب وعَلى غَيره وَلَيْسَ مرَادا وَإِنَّمَا هِيَ الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم خَاصَّة كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي تحريره وَحِينَئِذٍ فإطلاق المُصَنّف غير مُطَابق لتفسير الْأَثْمَان وَإِن كَانَ حسنا من حَيْثُ شُمُول الْمَضْرُوب وَغَيره فَإِنَّهُ المُرَاد هُنَا
(وشرائط وجوب الزَّكَاة فِيهَا) أَي الْأَثْمَان وَلَو قَالَ فيهمَا ليعود على الذَّهَب وَالْفِضَّة لَكَانَ أولى لما تقدم (خمس) (الْإِسْلَام وَالْحريَّة وَالْملك التَّام والنصاب والحول) ومحترزاتها مَعْلُومَة مِمَّا تقدم وَلَو زَالَ ملكه فِي الْحول عَن النّصاب أَو بعضه بِبيع أَو غَيره فَعَاد بشرَاء أَو غَيره اسْتَأْنف الْحول لانْقِطَاع الأول بِمَا فعله فَصَارَ ملكا جَدِيدا فَلَا بُد لَهُ من حول للْحَدِيث الْمُتَقَدّم وَإِذا فعل ذَلِك بِقصد الْفِرَار من الزَّكَاة كره كَرَاهَة تَنْزِيه لِأَنَّهُ فرار من الْقرْبَة بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ لحَاجَة أَولهَا وللفرار أَو مُطلقًا على مَا أفهمهُ كَلَامهم
فَإِن قيل يشكل عدم الْكَرَاهَة فِيمَا إِذا كَانَ لحَاجَة وَقصد الْفِرَار بِمَا إِذا اتخذ ضبة صَغِيرَة لزينة وحاجة أُجِيب بِأَن الضبة فِيهَا اتِّخَاذ فقوي الْمَنْع بِخِلَاف الْفِرَار
وَلَو بَاعَ النَّقْد بعضه بِبَعْض للتِّجَارَة كالصيارفة اسْتَأْنف الْحول كلما بادل وَلذَلِك قَالَ ابْن سُرَيج بشر الصيارفة بِأَن لَا زَكَاة عَلَيْهِم
(وَأما الزروع فَتجب الزَّكَاة فِيهَا بِثَلَاثَة شَرَائِط) الأول (أَن يكون مِمَّا يزرعه) أَي يتَوَلَّى أَسبَابه (الآدميون) كالحنطة وَالشعِير والأرز والعدس (و) الثَّانِي (أَن يكون) الزَّرْع (قوتا مدخرا) كالحمص والباقلاء وَهِي بِالتَّشْدِيدِ مَعَ الْقصر الفول والذرة

(1/213)


وَهِي بِمُعْجَمَة مَضْمُومَة ثمَّ رَاء مُخَفّفَة والهرطمان وَهُوَ بِضَم الْهَاء والطاء الجلبان بِضَم الْجِيم والماش وَهُوَ بِالْمُعْجَمَةِ نوع من الجلبان فَتجب الزَّكَاة فِي جَمِيع ذَلِك لورودها فِي بعض الْأَخْبَار وَألْحق بِهِ الْبَاقِي وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ ومعاذ حِين بعثهما إِلَى الْيمن فِيمَا رَوَاهُ الْحَاكِم لَا تأخذا الصَّدَقَة إِلَّا من أَرْبَعَة الشّعير وَالْحِنْطَة وَالتَّمْر وَالزَّبِيب فالحصر فِيهِ إضافي أَي بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ مَوْجُودا عِنْدهم وَخرج بالقوت غَيره كخوخ ورمان وتين ولوز وتفاح ومشمش وبالاختيار مَا يقتات فِي الجدب اضطرارا كحبوب الْبَوَادِي كحب الحنظل وَحب الغاسول وَهُوَ الأشنان فَلَا زَكَاة فِيهَا كَمَا لَا زَكَاة فِي الوحشيات من الظباء وَنَحْوهَا وأبدل المُصَنّف تبعا لغيره قيد الِاخْتِيَار بِمَا يزرعه الآدميون وَعبارَة التَّنْبِيه مِمَّا يستنبته الآدميون لِأَن مَا لَا يزرعونه وَلَا يستنبتونه لَيْسَ فِيهِ شَيْء يقتات اخْتِيَارا
تَنْبِيه يسْتَثْنى من إِطْلَاق المُصَنّف مَا لَو حمل السَّيْل حبا تجب فِيهِ الزَّكَاة من دَار الْحَرْب فنبت بأرضنا فَإِنَّهُ زَكَاة فِيهِ كالنخل الْمُبَاح فِي الصَّحرَاء وَكَذَا ثمار الْبُسْتَان وغلة الْقرْيَة الموقوفين على الْمَسَاجِد والربط والقناطر والفقراء وَالْمَسَاكِين لَا تجب الزَّكَاة فِيهَا على الصَّحِيح إِذْ لَيْسَ لَهَا مَالك معِين وَلَو أَخذ الإِمَام الْخراج على أَن يكون بَدَلا عَن الْعشْر كَأَن أَخذ الْقيمَة فِي الزَّكَاة بِالِاجْتِهَادِ فَيسْقط بِهِ الْفَرْض وَإِن نقص عَن الْوَاجِب تممه
(و) الثَّالِث (أَن يكون نِصَابا) كَامِلا (وَهُوَ خَمْسَة أوسق) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
والوسق بِالْفَتْح على الْأَفْصَح وَهُوَ مصدر بِمَعْنى الْجمع سمي بِهِ هَذَا الْمِقْدَار لأجل مَا جمعه من الصيعان
قَالَ الله تَعَالَى {وَاللَّيْل وَمَا وسق} أَي جمع وَسَيَأْتِي بَيَان الأوسق بِالْوَزْنِ فِي كَلَامه وقدرها بِالْكَيْلِ فِي الشَّرْح وَيعْتَبر فِي الْخَمْسَة الأوسق أَن تكون مصفاة من تبنها (لَا قشر عَلَيْهَا) لِأَن ذَلِك لَا يُؤْكَل مَعهَا
وَأما مَا ادخر فِي قشره وَلم يُؤْكَل مَعَه من أرز وعلس بِفَتْح الْعين وَاللَّام نوع من الْبر فنصابه عشرَة أوسق غَالِبا اعْتِبَارا بقشره الَّذِي ادخاره فِيهِ دصلح لَهُ وَأبقى وَلَا يكمل فِي النّصاب جنس بِجِنْس كالحنطة مَعَ الشّعير ويكمل فِي نِصَاب نوع بآخر كبر بعلس لِأَنَّهُ نوع مِنْهُ كَمَا مر وَيخرج من كل نوع من النَّوْعَيْنِ بِقسْطِهِ فَإِن عسر إِخْرَاجه لِكَثْرَة الْأَنْوَاع وَقلة مِقْدَار كل نوع مِنْهَا أخرج الْوسط مِنْهَا لَا أَعْلَاهَا وَلَا أدناها رِعَايَة للجانبين وَلَو تكلّف وَأخرج من كل نوع قسطه جَازَ بل هُوَ الْأَفْضَل
والسلت بِضَم السِّين وَسُكُون اللَّام جنس مُسْتَقل لِأَنَّهُ يشبه الشّعير فِي برودة الطَّبْع وَالْحِنْطَة فِي اللَّوْن وَالْمُلَامَسَة فاكتسب من تركب الشبهين طبعا انْفَرد بِهِ وَصَارَ أصلا بِرَأْسِهِ فَلَا يضم إِلَى غَيره (وَأما الثِّمَار فَتجب الزَّكَاة فِي شَيْئَيْنِ مِنْهَا) فَقَط وهما (ثَمَرَة النّخل وَثَمَرَة الْكَرم) أَي الْعِنَب لِأَنَّهُمَا من الأقوات المدخرة وَلَو عبر المُصَنّف بالعنب لَكَانَ أولى لوُرُود النَّهْي عَن تَسْمِيَته بِالْكَرمِ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تسموا الْعِنَب كرما إِنَّمَا الْكَرم الرجل الْمُسلم رَوَاهُ مُسلم
فَقيل سمي كرما من الْكَرم بِفَتْح الرَّاء لِأَن الْخمْرَة المتخذة مِنْهُ تحمل عَلَيْهِ فكره أَن يُسمى بِهِ وَجعل الْمُؤمن أَحَق بِمَا يشتق من الْكَرم يُقَال رجل كرم بِإِسْكَان الرَّاء وَفتحهَا أَي كريم
وثمرات النخيل وَالْأَعْنَاب أفضل الثِّمَار وشجرهما أفضل بالِاتِّفَاقِ وَاخْتلفُوا فِي أَيهمَا أفضل وَالرَّاجِح أَن النّخل أفضل لوُرُود أكْرمُوا عماتكم النّخل المطعمات فِي

(1/214)


الْمحل وَإِنَّهَا خلقت من طِينَة آدم وَالنَّخْل مقدم على الْعِنَب فِي جَمِيع الْقُرْآن وَشبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّخْلَة بِالْمُؤمنِ فَإِنَّهَا تشرب برأسها فَإِذا قطع مَاتَت وَينْتَفع بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَهِي الشَّجَرَة الطّيبَة الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن فَكَانَت أفضل وَلَيْسَ فِي الشّجر شجر فِيهِ ذكر وَأُنْثَى تحْتَاج الْأُنْثَى فِيهِ إِلَى الذّكر سواهُ وَشبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عين الدَّجَّال بِحَبَّة الْعِنَب لِأَنَّهَا أصل الْخمر وَهِي أم الْخَبَائِث (وشرائط وجوب الزَّكَاة فِيهَا) أَي الثِّمَار (أَرْبَعَة أَشْيَاء) بل خَمْسَة كَمَا ستعرفه وَهِي (الْإِسْلَام وَالْحريَّة وَالْملك التَّام والنصاب) وَقد علمت محترزاتها مِمَّا تقدم
وَالْخَامِس بَدو الصّلاح وَهُوَ بُلُوغه صفة يطْلب فِيهَا غَالِبا فعلامته فِي الثَّمر الْمَأْكُول المتلون أَخذه فِي حمرَة أَو سَواد أَو صفرَة وَفِي غير المتلون مِنْهُ كالعنب الْأَبْيَض لينه وتمويهه وَهُوَ صفاؤه وجريان المَاء فِيهِ إِذْ هُوَ قبل بَدو الصّلاح لَا يصلح للْأَكْل (وَأما عرُوض التِّجَارَة) جمع عرض بِفَتْح الْعين وَإِسْكَان الرَّاء اسْم لكل مَا قَابل النَّقْدَيْنِ من صنوف الْأَمْوَال (فَتجب الزَّكَاة فِيهَا) لخَبر الْحَاكِم بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ على شَرط الشَّيْخَيْنِ فِي الْإِبِل صدقتها وَفِي الْغنم صدقتها وَفِي الْبر صدقته وَهُوَ يُقَال لأمتعة الْبَزَّاز وللسلاح وَلَيْسَ فِيهِ زَكَاة عين فصدقته زَكَاة تِجَارَة وَهِي تقليب المَال بمعاوضة لغَرَض الرِّبْح (بالشرائط) الْخَمْسَة (الْمَذْكُورَة فِي) زَكَاة (الْأَثْمَان)
وَترك سادسا وَهُوَ أَن تملك بمعاوضة كمهر وَعوض خلع وَصلح عَن دم فَلَا زَكَاة فِيمَا ملك بِغَيْر مُعَاوضَة كَهِبَة بِلَا ثَوَاب وإرث وَوَصِيَّة لانْتِفَاء الْمُعَاوضَة
وسابعا وَهُوَ أَن يَنْوِي حَال التَّمَلُّك التِّجَارَة لتتميز عَن الْقنية وَلَا يجب تجديدها فِي كل تصرف بل تستمر مَا لم ينْو الْقنية فَإِن نَوَاهَا انْقَطع الْحول فَيحْتَاج إِلَى تَجْدِيد النِّيَّة مقرونة بِتَصَرُّف