الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع

فصل فِي السّلم وَيُقَال لَهُ السّلف
يُقَال أسلم وَسلم وأسلف وَسلف وَالسّلم لُغَة أهل الْحجاز وَالسَّلَف لُغَة أهل الْعرَاق قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
سمي سلما لتسليم رَأس المَال فِي الْمجْلس وسلفا لتقديم رَأس المَال
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم بدين} الْآيَة
قَالَ ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا نزلت فِي السّلم وَخبر الصَّحِيحَيْنِ من أسلف فِي شَيْء فليسلف فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم وَتقدم تَعْرِيف السّلم فِي كَلَام المُصَنّف أول الْبيُوع
(وَيصِح السّلم حَالا ومؤجلا) بِأَن يُصَرح بهما أما الْمُؤَجل فبالنص وَالْإِجْمَاع وَأما الْحَال فبالأولى لبعده عَن الْغرَر
فَإِن قيل الْكِتَابَة لَا تصح بِالْحَال وَتَصِح بالمؤجل أُجِيب بِأَن الْأَجَل فِيهَا إِنَّمَا وَجب لعدم قدرَة الرَّقِيق والحلول يُنَافِي ذَلِك
وَيشْتَرط تَسْلِيم رَأس المَال فِي مجْلِس العقد قبل لزمَه فَلَو تفَرقا قبل قبض رَأس المَال أَو ألزمهُ بَطل العقد أَو قبل تَسْلِيم بعضه بَطل فِيمَا لم يقبض وَفِيمَا يُقَابله من الْمُسلم فِيهِ فَلَو أطلق كأسلمت إِلَيْك دِينَارا فِي ذِمَّتِي فِي كَذَا ثمَّ عين الدِّينَار وَسلم فِي الْمجْلس قبل التخاير جَازَ ذَلِك لِأَن الْمجْلس حَرِيم العقد وَلَو قَبضه الْمُسلم إِلَيْهِ فِي الْمجْلس وأودعه الْمُسلم قبل التَّفَرُّق جَازَ لِأَن الْوَدِيعَة لَا تستدعي لُزُوم الْملك
وَكَذَا يجوز رده إِلَيْهِ عَن دينه كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام أصل الرَّوْضَة فِي بَاب الرِّبَا وَيجوز كَون رَأس المَال مَنْفَعَة
وبقبض الْعين ورؤية رَأس المَال تَكْفِي عَن معرفَة قدره
وَلَا يسلم إِلَّا (فِيمَا تَكَامل) أَي اجْتمع (فِيهِ خمس شَرَائِط) الأول القَوْل فِي شُرُوط الْمُسلم فِيهِ وَهُوَ الْمُسلم فِي السّلم (أَن يكون) الْمُسلم فِيهِ (مضبوطا بِالصّفةِ) الَّتِي لَا يعز وجودهَا كالحبوب والأدهان وَالثِّمَار وَالثيَاب وَالدَّوَاب والأرقاء والأصواف والأخشاب والأحجار وَالْحَدِيد والرصاص وَنَحْو ذَلِك من الْأَمْوَال الَّتِي تضبط بِالصِّفَاتِ فَمَا لَا يضْبط بهَا كالنبل لَا يَصح السّلم فِيهِ وَكَذَا مَا يعز وجوده كاللآلىء الْكِبَار واليواقيت وَسَائِر الْجَوَاهِر وَالْجَارِيَة وَأُخْتهَا أَو وَلَدهَا

(2/291)


(و) الثَّانِي (أَن يكون) الْمُسلم فِيهِ (جِنْسا) وَاحِدًا (لم يخْتَلط بِهِ) جنس (غَيره) اختلاطا لَا يَنْضَبِط بِهِ مَقْصُوده كالمختلط الْمَقْصُود الْأَركان الَّتِي لَا تنضبط كهريسة ومعجون وغالية وخف مركب لاشْتِمَاله على ظهارة وبطانة فَإِن كَانَ الْخُف مُفردا صَحَّ السّلم فِيهِ إِن كَانَ جَدِيدا وَاتخذ من غير جلد وَإِلَّا امْتنع وَلَا يَصح فِي الترياق الْمَخْلُوط فَإِن كَانَ مُنْفَردا جَازَ السّلم فِيهِ
وَلَا يَصح فِي رُؤُوس الْحَيَوَان لِأَنَّهَا تجمع أجناسا مَقْصُودَة وَلَا تنضبط بِالْوَصْفِ
(وَلم تدخله النَّار لإحالته) أَي فَيصير غير منضبط
فَلَا يَصح السّلم فِي خبز ومطبوخ ومشوي لاخْتِلَاف الْغَرَض باخْتلَاف تَأْثِير النَّار فِيهِ وَتعذر الضَّبْط بِخِلَاف مَا يَنْضَبِط تَأْثِير ناره كالعسل الْمُصَفّى بهَا وَالسكر والفانيد والدبس واللبأ فَيصح السّلم فِيهَا كَمَا مَال إِلَى تَرْجِيحه النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَهُوَ الْمُعْتَمد
وَقيل لَا يَصح كَمَا فِي الرِّبَا
وَفرق بِضيق بَاب الرِّبَا وَلَا يَصح فِي مُخْتَلف أجزاؤه كَقدْر وكوز وقمقم ومنارة ودست معمولة لتعذر ضَبطهَا
وَخرج بمعمولة المصبوبة فِي قالب فَيصح السّلم فِيهَا وَلَا يَصح فِي الْجلد لاخْتِلَاف الْأَجْزَاء فِي الرقة والغلظ وَيصِح فِي أسطال مربعة أَو مُدَوَّرَة
وَيصِح فِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير بِغَيْرِهِمَا لَا بمثلهما وَلَا فِي أَحدهمَا بِالْآخرِ حَالا كَانَ أَو مُؤَجّلا
وَشرط فِي السّلم فِي الرَّقِيق ذكر نَوعه كتركي فَإِن اخْتلف صنف النَّوْع كرومي وَجب ذكره وَذكر لَونه إِن اخْتلف كأبيض مَعَ وَصفه كَأَن يصف بياضه بسمرة وَذكر سنه كَابْن خمس سِنِين وَذكر قده طولا أَو غَيره تَقْرِيبًا فِي الْوَصْف وَالسّن وَالْقد حَتَّى لَو شَرط كَونه ابْن سبع سِنِين مثلا بِلَا زِيَادَة وَلَا نُقْصَان لم يجز لندرته ويعتمد قَول الرَّقِيق فِي الِاحْتِلَام وَفِي السن إِن كَانَ بَالغا وَإِلَّا فَقَوْل سَيّده إِن ولد فِي الْإِسْلَام وَإِلَّا فَقَوْل النخاسين أَي الدلالين بظنونهم
وَذكر ذكورته أَو أنوثته وَشرط فِي مَاشِيَة من بقر وإبل وَغَيرهمَا مَا ذكر فِي الرَّقِيق إِلَّا ذكر وصف اللَّوْن وَالْقد فَلَا يشْتَرط ذكرهمَا
وَشرط فِي طير وسمك نوع وجثة وَفِي لحم غير صيد وطير نوع كلحم بقر
وَذكر خصي رَضِيع معلوف جذع أَو ضدها من فَخذ أَو غَيرهَا ككتف وَيقبل عظم اللَّحْم مُعْتَاد وَشرط فِي ثوب أَن يذكر جنسه كقطن ونوعه وبلده الَّذِي ينسج فِيهِ إِن اخْتلف بِهِ الْغَرَض وَطوله وَعرضه وَكَذَا غلظه وصفاقته ونعومته أَو ضدها
وَمُطلق الثَّوْب يحمل على الخام
وَيصِح السّلم فِي الْمَقْصُور وَفِي مصبوغ قبل نسجه وَشرط فِي تمر أَو زبيب أَو حب كبر أَن يذكر نَوعه كبرني ولونه كأحمر وبلده كمدني وجرمه كبرا وصغرا وعتقه أَو حداثته وَشرط فِي عسل نحل مَكَانَهُ كجلبي وزمانه كصيفي ولونه كأبيض
(و) الثَّالِث (وَأَن لَا يكون) الْمُسلم فِيهِ (معينا) بل يشْتَرط أَن يكون دينا لِأَن لفظ السّلم مَوْضُوع لَهُ فَلَو أسلم فِي معِين كَأَن قَالَ أسلمت إِلَيْك هَذَا الثَّوْب فِي هَذَا العَبْد فَقيل لم ينْعَقد سلما لانْتِفَاء الدِّينِيَّة وَلَا بيعا لاخْتِلَاف اللَّفْظ

(2/292)


(و) الرَّابِع (أَن لَا يكون) الْمُسلم فِيهِ (من) مَوضِع (معِين) لَا يُؤمن ان فِيهِ فَلَو أسلم فِي تمر قَرْيَة صَغِيرَة أَو بُسْتَان أَو ضَيْعَة أَي فِي قدر مَعْلُوم مِنْهُ لم يَصح لِأَنَّهُ قد يَنْقَطِع بجائحة وَنَحْوهَا وَظَاهر كَلَامهم أَنه لَا فرق فِي ذَلِك بَين السّلم الْحَال والمؤجل وَهُوَ كَذَلِك
أما إِذا أسلم فِي تمر نَاحيَة أَو قَرْيَة عَظِيمَة صَحَّ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِع غَالِبا
(و) الْخَامِس (أَن يكون) الْمُسلم فِيهِ (مِمَّا يَصح بَيْعه) لِأَنَّهُ بيع شَيْء مَوْصُوف فِي الذِّمَّة
وَيشْتَرط فِيهِ لفظ السّلم
قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَلَيْسَ لنا عقد يخْتَص بِصِيغَة إِلَّا هَذَا وَالنِّكَاح وَيُؤْخَذ من كَون السّلم بيعا أَنه لَا يَصح أَن يسلم الْكَافِر فِي الرَّقِيق الْمُسلم وَهُوَ الْأَصَح كَمَا فِي الْمَجْمُوع وَمثل الرَّقِيق الْمُسلم الرَّقِيق الْمُرْتَد
شُرُوط لصِحَّة عقد الْمُسلم فِيهِ (ثمَّ لصِحَّة) عقد (الْمُسلم فِيهِ) حِينَئِذٍ (ثَمَانِيَة شَرَائِط) الأول (أَن يصفه بعد ذكر جنسه ونوعه بِالصِّفَاتِ الَّتِي يخْتَلف بهَا الْغَرَض) اخْتِلَافا ظَاهرا وينضبط بهَا الْمُسلم فِيهِ وَلَيْسَ الأَصْل عدمهَا لتقريبه من المعاينة
وَخرج بالقيد الأول مَا يتَسَامَح بإهمال ذكره كالكحل وَالسمن فِي الرَّقِيق وَبِالثَّانِي مَا لَا يَنْضَبِط كَمَا مر وبالثالث كَون الرَّقِيق قَوِيا على الْعَمَل أَو ضَعِيفا أَو كَاتبا أَو أُمِّيا أَو نَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ وصف يخْتَلف بِهِ الْغَرَض اخْتِلَافا ظَاهرا مَعَ أَنه لَا يجب التَّعَرُّض لَهُ لِأَن الأَصْل عَدمه
(و) الثَّانِي (أَن يذكر قدره) أَي الْمُسلم فِيهِ (بِمَا يَنْفِي الْجَهَالَة عَنهُ) من كيل فِيمَا يُكَال أَو وزن فِيمَا يُوزن للْحَدِيث الْمشَار
إِلَيْهِ أول الْبَاب أَو عد فِيمَا يعد أَو ذرع فِيمَا يذرع قِيَاسا على مَا قبلهمَا
وَيصِح سلم الْمكيل وزنا وَالْمَوْزُون الَّذِي يتأنى كَيْله كَيْلا وَحمل الإِمَام إِطْلَاق الْأَصْحَاب جَوَاز كيل الْمَوْزُون على مَا يعد الْكَيْل فِي مثله ضابطا فِيهِ فَلَا يَصح أَن يسلم
فِي قتاب الْمسك وَنَحْوه كَيْلا
وَقيل يَصح كاللآلىء الصغار
وَفرق بِكَثْرَة التَّفَاوُت فِي الْمسك وَنَحْوه بالثقل على الْمحل وتراكمه بِخِلَاف اللُّؤْلُؤ لَا يحصل بذلك تفَاوت كالقمح والفول
وَاسْتثنى الْجِرْجَانِيّ وَغَيره النَّقْدَيْنِ أَيْضا فَلَا يَصح فيهمَا إِلَّا بِالْوَزْنِ وَيشْتَرط الْوَزْن فِي الْبِطِّيخ والقثاء والباذنجان
وَمَا أشبه ذَلِك مِمَّا لَا يضبطه الْكَيْل لتجافيه فِي الْمِكْيَال كقصب السكر والبقول وَلَا يَكْفِي

(2/293)


فِيهَا الْعد لِكَثْرَة التَّفَاوُت فِيهَا وَالْجمع فِيهَا بَين الْعد وَالْوَزْن مُفسد لِأَنَّهُ يحْتَاج مَعَه إِلَى ذكر الجرم فيورث عزة الْوُجُود
وَيصِح فِي اللوز والجوز وَإِن لم يقل اختلافه وزنا وَكَذَا كَيْلا قِيَاسا على الْحُبُوب وَالتَّمْر وَلَو عين كَيْلا فسد السّلم وَلَو كَانَ حَالا إِن لم يكن ذَلِك الْكَيْل مُعْتَادا ككوز لَا يعرف قدر مَا يسع
فَإِن كَانَ الْكَيْل مُعْتَادا بِأَن عرف قدر مَا يسع وَلم يفْسد السّلم وَيَلْغُو تَعْيِينه كَسَائِر الشُّرُوط الَّتِي لَا غَرَض فِيهَا
(و) الثَّالِث (إِن كَانَ) السّلم (مُؤَجّلا ذكر وَقت مَحَله) بِكَسْر الْمُهْملَة أَي وَقت حُلُول الْأَجَل فَيجب أَن يذكر الْعَاقِد أَََجَلًا مَعْلُوما وَالْأَجَل الْمَعْلُوم مَا يعرفهُ النَّاس كشهور الْعَرَب أَو الْفرس أَو الرّوم لِأَنَّهَا مَعْلُومَة مضبوطة
وَيصِح التَّأْقِيت بالنيروز وَهُوَ نزُول الشَّمْس برج الْمِيزَان وبعيد الْكفَّار إِن عرفه الْمُسلمُونَ وَلَو عَدْلَيْنِ مِنْهُم أَو المتعاقدان فَإِن أطلق الشَّهْر حمل على الْهلَال وَهُوَ مَا بَين الهلالين لِأَنَّهُ عرف الشَّرْع ذَلِك بِأَن يَقع العقد أول الشَّهْر فَإِن انْكَسَرَ شهر بِأَن وَقع العقد فِي أَثْنَائِهِ والتأجيل بِالْأَشْهرِ حسب الْبَاقِي بعد الأول المنكسر بِالْأَهِلَّةِ
وتمم الأول ثَلَاثِينَ مِمَّا بعْدهَا
نعم إِن وَقع العقد فِي الْيَوْم الْأَخير من الشَّهْر اكْتفى بِالْأَشْهرِ بعده بأهلة تَامَّة كَانَت أَو نَاقِصَة وَالسّنة الْمُطلقَة تحمل على الْهِلَالِيَّة دون غَيرهَا لِأَنَّهَا عرف الشَّرْع قَالَ تَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة قل هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس وَالْحج} وَلَو قَالَا إِلَى يَوْم كَذَا أَو شهر كَذَا أَو سنة كَذَا حل بِأول جُزْء مِنْهُ وَلَو قَالَ فِي يَوْم كَذَا أَو شهر كَذَا أَو سنة كَذَا لم يَصح على الْأَصَح أَو قَالَا إِلَى أول شهر كَذَا أَو آخِره صَحَّ وَحمل على الْجُزْء الأول كَمَا قَالَه الْبَغَوِيّ وَغَيره
وَيصِح التَّأْجِيل بالعيد وجمادى وربيع وَنَفر الْحَج وَيحمل على الأول من ذَلِك لتحقيق الِاسْم
نعم لَو قَالَ بعد عيد الْفطر إِلَى الْعِيد حمل على الْأَضْحَى لِأَنَّهُ الَّذِي يَلِي العقد قَالَه ابْن الرّفْعَة
(و) الرَّابِع (أَن يكون) الْمُسلم فِيهِ (مَوْجُودا عِنْد الِاسْتِحْقَاق) أَي عِنْد وجوب التَّسْلِيم لِأَن المعجوز عَن تَسْلِيمه يمْتَنع بَيْعه فَيمْتَنع السّلم فِيهِ فَإِذا أسلم فِي مُنْقَطع عِنْد الْحُلُول كالرطب فِي زمن الشتَاء لم يَصح وَكَذَا لَو أسلم مُسلم كَافِرًا فِي عبد مُسلم
نعم إِن كَانَ فِي يَد الْكَافِر وَكَانَ السّلم حَالا صَحَّ وَلَو ظن تَحْصِيل الْمُسلم فِيهِ بِمَشَقَّة عَظِيمَة كَقدْر كثير من الباكورة

(2/294)


وَهِي أول الْفَاكِهَة لم يَصح فَإِن كَانَ الْمُسلم فِيهِ يُوجد بِبَلَد آخر صَحَّ السّلم فِيهِ إِن اعْتقد نَقله غَالِبا مِنْهُ للْبيع وَنَحْوه من الْمُعَامَلَات وَإِن بَعدت الْمسَافَة للقدرة عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا يَصح السّلم فِيهِ لعدم الْقُدْرَة عَلَيْهِ
وَلَو أسلم فِيمَا يعم وجوده فَانْقَطع وَقت حُلُوله لم يَنْفَسِخ لِأَن الْمُسلم فِيهِ يتَعَلَّق بِالذِّمةِ فَأشبه إفلاس المُشْتَرِي بِالثّمن فَيتَخَيَّر الْمُسلم بَين فَسخه وَالصَّبْر حَتَّى يُوجد فَيُطَالب بِهِ دفعا للضَّرَر وَلَو علم قبل الْمحل انْقِطَاعه عِنْده فَلَا خِيَار قبله لِأَنَّهُ لم يدْخل وَقت وجوب التسلم
وَالْخَامِس أَن يكون وجوده (فِي الْغَالِب) من الْأَزْمَان فَلَا يَصح فِيمَا ينْدر وجوده كلحم الصَّيْد بِمحل يعز وجوده فِيهِ لانْتِفَاء الوثوق بِتَسْلِيمِهِ
نعم لَو كَانَ السّلم حَالا وَكَانَ الْمُسلم فِيهِ مَوْجُودا عِنْد الْمُسلم إِلَيْهِ بِموضع ينْدر فِيهِ صَحَّ كَمَا فِي الِاسْتِقْصَاء وَلَا فِيمَا لَو استقصى وَصفه عز وجوده كاللآلىء الْكِبَار واليواقيت وَجَارِيَة وَأُخْتهَا أَو خَالَتهَا أَو عَمَّتهَا أَو وَلَدهَا أَو شَاة وسخلتها فَإِن اجْتِمَاع ذَلِك بِالصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَة فِيهَا نَادِر
(و) السَّادِس (أَن يذكر) فِي السّلم الْمُؤَجل (مَوضِع قَبضه) إِذا عقا بِموضع لَا يصلح للتسليم كالبادية أَو يصلح ولحمل الْمُسلم فِيهِ مُؤنَة لتَفَاوت الْأَغْرَاض فِيمَا يُرَاد من الْأَمْكِنَة
أما إِذا صلح للتسليم وَلم يكن لحمله مُؤنَة فَلَا يشْتَرط مَا ذكر وَيتَعَيَّن مَكَان العقد للتسليم للْعُرْف وَيَكْفِي فِي تَعْيِينه أَن يَقُول تسلم لي فِي بَلْدَة كَذَا إِلَّا أَن تكون كَبِيرَة كبغداد وَالْبَصْرَة فَيَكْفِي إِحْضَاره فِي أَولهَا
وَلَا يُكَلف إِحْضَاره إِلَى منزل
وَلَو قَالَ فِي أَي الْبِلَاد شِئْت فسد
أَو فِي أَي مَكَان شِئْت من بلد كَذَا
فَإِن اتَّسع لم يجز وَإِلَّا جَازَ أَو بِبَلَد كَذَا وبلد كَذَا فَهَل يفْسد أَو يَصح وَينزل على تَسْلِيم النّصْف بِكُل بلد وَجْهَان أصَحهمَا كَمَا قَالَ الشَّاشِي الأول
قَالَ فِي الْمطلب وَالْفرق بَين تَسْلِيمه فِي بلد كَذَا حَيْثُ صَحَّ وتسليمه فِي شهر كَذَا حَيْثُ لَا يَصح اخْتِلَاف الْغَرَض فِي الزَّمَان دون الْمَكَان فَلَو عين مَكَانا فخرب وَخرج عَن صَلَاحِية التَّسْلِيم تعين أقرب مَوضِع صَالح لَهُ على الأقيس فِي الرَّوْضَة من ثَلَاثَة أوجه أما السّلم الْحَال فَيتَعَيَّن فِيهِ مَوضِع العقد للتسليم
نعم إِن كَانَ غير صَالح للتسليم اشْترط الْبَيَان كَمَا قَالَه ابْن الرّفْعَة فَإِن عينا غَيره تعين بِخِلَاف الْمَبِيع الْمعِين لِأَن السّلم يقبل التَّأْجِيل فَقبل شرطا يتَضَمَّن تَأْخِير التَّسْلِيم بِخِلَاف الْمَبِيع وَالْمرَاد بِموضع العقد تِلْكَ الْمحلة لَا نفس مَوضِع العقد
(و) السَّابِع (أَن يتقابضا) أَي الْمُسلم وَالْمُسلم إِلَيْهِ بِنَفسِهِ أَو نَائِبه رَأس مَال السّلم وَهُوَ الثّمن فِي مجْلِس العقد قبضا حَقِيقِيًّا (قبل التَّفَرُّق) أَو التخاير لِأَن اللُّزُوم كالتفريق كَمَا مر فِي بَاب الْخِيَار إِذْ لَو تَأَخّر لَكَانَ فِي معنى بيع الدّين بِالدّينِ إِن كَانَ

(2/295)


رَأس المَال فِي الذِّمَّة وَلِأَن فِي السّلم غررا فَلَا يضم إِلَيْهِ غرر تَأْخِير رَأس المَال وَلَا بُد من حُلُول رَأس المَال كالصرف فَلَو تفَرقا قبله أَو ألزماه بَطل العقد أَو قبل تَسْلِيم بعضه بَطل فِيمَا لم يقبض وَفِيمَا يُقَابله من الْمُسلم فِيهِ وَصَحَّ فِي الْبَاقِي بِقسْطِهِ وَخرج بِقَيْد الْحَقِيقِيّ مَا لَو أحَال الْمُسلم الْمُسلم إِلَيْهِ بِرَأْس المَال وَقَبضه الْمُسلم إِلَيْهِ فِي الْمجْلس فَلَا يَصح ذَلِك سَوَاء أذن فِي قَبضه الْمُحِيل أم لَا لِأَن الْحِوَالَة لَيست قبضا حَقِيقِيًّا فَإِن الْمحَال عَلَيْهِ يُؤَدِّي عَن جِهَة نَفسه لَا عَن جِهَة الْمُسلم
نعم إِن قَبضه الْمُسلم من الْمحَال عَلَيْهِ أَو من الْمُسلم إِلَيْهِ بعد قَبضه بِإِذْنِهِ وَسلم إِلَيْهِ فِي الْمجْلس صَحَّ
وَلَا يشْتَرط تعْيين رَأس المَال فِي العقد بل الصَّحِيح جَوَازه فِي الذِّمَّة فَلَو قَالَ أسلمت إِلَيْك دِينَارا فِي ذِمَّتِي فِي كَذَا ثمَّ عين الدِّينَار فِي الْمجْلس قبل التخاير جَازَ ذَلِك لِأَن الْمجْلس حَرِيم العقد فَلهُ حكمه فَإِن تفَرقا أَو تخايرا قبله بَطل العقد
(و) الثَّامِن (أَن يكون العقد ناجزا لَا يدْخلهُ خِيَار الشَّرْط) لَهما وَلَا لأَحَدهمَا لِأَنَّهُ لَا يحْتَمل التَّأْجِيل وَالْخيَار أعظم غررا مِنْهُ لِأَنَّهُ مَانع من الْملك أَو من لُزُومه وَاحْترز بِقَيْد الشَّرْط عَن خِيَار الْمجْلس فَإِنَّهُ يثبت فِيهِ لعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم البيعان بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا وَالسّلم بيع مَوْصُوف فِي الذِّمَّة كَمَا مر
تَتِمَّة لَو أحضر الْمُسلم إِلَيْهِ الْمُسلم فِيهِ الْمُؤَجل قبل وَقت حُلُوله فَامْتنعَ الْمُسلم من قبُوله لغَرَض صَحِيح بِأَن كَانَ حَيَوَانا يحْتَاج لمؤونة لَهَا وَقع أَو وَقت إغارة أَو كَانَ ثمرا أَو لَحْمًا يُرِيد أكله عِنْد الْمحل طريا أَو كَانَ مِمَّا يحْتَاج إِلَى مَكَان لَهُ مؤونة كالحنطة الْكَثِيرَة لم يجْبر على قبُوله فَإِن لم يكن للْمُسلمِ غَرَض صَحِيح فِي الِامْتِنَاع أجبر على قبُوله سَوَاء أَكَانَ للمؤدي غَرَض صَحِيح فِي التَّعْجِيل كفك رهن أَو ضَمَان أَو مُجَرّد بَرَاءَة ذمَّته أم لَا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الرَّوْض لِأَن عدم قبُوله لَهُ تعنت فَإِن أصر على عدم قبُوله أَخذه الْحَاكِم لَهُ وَلَو أحضر الْمُسلم فِيهِ الْحَال فِي مَكَان التَّسْلِيم لغَرَض غير الْبَرَاءَة أجبر الْمُسلم على قبُوله أَو لفرضها أجبر على الْقبُول أَو الْإِبْرَاء
وَلَو ظفر الْمُسلم بِالْمُسلمِ إِلَيْهِ بعد الْمحل فِي غير مَحل التَّسْلِيم وطالبه بِالْمُسلمِ فِيهِ ولنقله مُؤنَة وَلم يتحملها الْمُسلم عَن الْمُسلم إِلَيْهِ لم يلْزمه الْأَدَاء وَلَا يُطَالِبهُ بِقِيمَتِه وَإِن امْتنع الْمُسلم
من قبُوله فِي غير مَحل التَّسْلِيم لغَرَض صَحِيح لم يجْبر على قبُوله لتضرره بذلك فَإِن لم يكن لَهُ غَرَض صَحِيح أجبر على قبُوله إِن كَانَ للمؤدي غَرَض صَحِيح كتحصيل بَرَاءَة الذِّمَّة وَلَو أنْفق كَون رَأس مَال السّلم بِصفة الْمُسلم فِيهِ فَأحْضرهُ الْمُسلم إِلَيْهِ وَجب قبُوله

(2/296)


فصل فِي الرَّهْن
وَهُوَ لُغَة الثُّبُوت وَمِنْه الْحَالة الراهنة
وَشرعا جعل عين مَالِيَّة وَثِيقَة بدين يسْتَوْفى مِنْهَا عِنْد تعذر وفائه
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {فرهان مَقْبُوضَة} قَالَ القَاضِي مَعْنَاهُ فارهنوا واقبضوا لِأَنَّهُ مصدر جعل جَزَاء للشّرط بِالْفَاءِ فَجرى مجْرى الْأَمر كَقَوْلِه تَعَالَى {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} وَخبر الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رهن درعه عِنْد يَهُودِيّ يُقَال لَهُ أَبُو الشَّحْم على ثَلَاثِينَ صَاعا من شعير لأَهله
والوثائق بالحقوق ثَلَاثَة شَهَادَة وَرهن وَضَمان فالشهادة لخوف الْجحْد والآخران لخوف الإفلاس
أَرْكَان الرَّهْن وأركانه أَرْبَعَة مَرْهُون ومرهون بِهِ وَصِيغَة وعاقدان وَقد بَدَأَ بِذكر الرُّكْن الأول وَهُوَ الْمَرْهُون فَقَالَ (وكل مَا جَازَ بَيْعه) من الْأَعْيَان (جَازَ رَهنه) فَلَا يَصح رهن دين وَلَو مِمَّن هُوَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غير مَقْدُور على تَسْلِيمه وَلَا رهن مَنْفَعَة كَأَن يرْهن سُكْنى دَاره مُدَّة لِأَن الْمَنْفَعَة تتْلف فَلَا يحصل بهَا استيثاق وَلَا رهن عين لَا يَصح بيعهَا كوقف ومكاتب وَأم ولد
وَيصِح رهن الْمشَاع من الشَّرِيك وَغَيره وَيقبض بِتَسْلِيم كُله كَمَا فِي البيع فَيكون بِالتَّخْلِيَةِ فِي غير الْمَنْقُول وبالنقل فِي الْمَنْقُول وَلَا يجوز نَقله بِغَيْر إِذن الشَّرِيك فَإِن أَبى الْإِذْن فَإِن رَضِي الْمُرْتَهن بِكَوْنِهِ فِي يَد الشَّرِيك جَازَ وناب عَنهُ فِي الْقَبْض وَإِن تنَازعا نصب الْحَاكِم عدلا يكون فِي يَده لَهما ويستثني من مَنْطُوق كَلَام المُصَنّف صُورَتَانِ لَا يَصح رهنهما وَيصِح بيعهمَا الأولى الْمُدبر رَهنه بَاطِل وَإِن جَازَ بَيْعه لما فِيهِ من الْغرَر لِأَن السَّيِّد قد يَمُوت فَجْأَة فَيبْطل مَقْصُود الرَّهْن
الثَّانِيَة الأَرْض المزروعة يجوز بيعهَا وَلَا يجوز رَهنهَا
وَمن مَفْهُومه صُورَة يَصح رَهنهَا وَلَا يَصح بيعهَا الْأمة الَّتِي لَهَا ولد غير مُمَيّز لَا يجوز إِفْرَاد أَحدهمَا بِالْبيعِ وَيجوز بِالرَّهْنِ وَعند الْحَاجة يباعان وَيقوم الْمَرْهُون مِنْهُمَا مَوْصُوفا بِكَوْنِهِ حاضنا أَو محضونا ثمَّ يقوم مَعَ الآخر فالزائد على قِيمَته قيمَة الآخر ويوزع الثّمن عَلَيْهِمَا بِتِلْكَ النِّسْبَة فَإِذا كَانَت قيمَة الْمَرْهُون مائَة وَقِيمَته مَعَ الآخر مائَة وَخمسين فالنسبة بالأثلاث فَيتَعَلَّق حق الْمُرْتَهن بِثُلثي الثّمن
ثمَّ شرع فِي الرُّكْن الثَّانِي وَهُوَ الْمَرْهُون بِهِ فَقَالَ (فِي الدُّيُون) أَي وَشرط الْمَرْهُون بِهِ كَونه دينا فَلَا يَصح بِالْعينِ الْمَضْمُونَة كالمغصوبة والمستعارة وَلَا بِغَيْر الْمَضْمُونَة كَمَال الْقَرَاض وَالْمُودع لِأَنَّهُ تَعَالَى ذكر الرَّهْن فِي المداينة فَلَا يثبت فِي غَيرهَا وَلِأَنَّهَا لَا تستوفى من ثمن الْمَرْهُون وَذَلِكَ مُخَالف لغَرَض الرَّهْن عِنْد البيع

(2/297)


تَنْبِيه يُؤْخَذ من ذَلِك مَسْأَلَة كَثْرَة الْوُقُوع وَهِي أَن الْوَاقِف يقف كتبا ويشرط أَن لَا يخرج مِنْهَا كتاب من مَكَان يحبسها فِيهِ إِلَّا برهن وَذَلِكَ لَا يَصح كَمَا صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَإِن أفتى الْقفال بِخِلَافِهِ وَضعف بَعضهم مَا أفتى بِهِ الْقفال بِأَن الرَّاهِن أحد الْمُسْتَحقّين والراهن لَا يكون مُسْتَحقّا إِذْ الْمَقْصُود بِالرَّهْنِ الْوَفَاء من ثمن الْمَرْهُون عِنْد التّلف وَهَذَا الْمَوْقُوف لَو تلف بِغَيْر تعد وَلَا تَفْرِيط لم يضمن وعَلى إِلْغَاء الشَّرْط لَا يجوز إِخْرَاجه برهن وَلَا بِغَيْرِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يخرج مُطلقًا
نعم إِن تعذر الِانْتِفَاع بِهِ فِي الْحل الْمَوْقُوف فِيهِ ووثق بِمن ينْتَفع بِهِ فِي غير ذَلِك الْمحل أَن يردهُ إِلَى مَحَله بعد قَضَاء حَاجته جَازَ إِخْرَاجه كَمَا أفتى بِهِ بعض الْمُتَأَخِّرين
وَيشْتَرط فِي الدّين الَّذِي يرْهن بِهِ ثَلَاثَة شُرُوط الأول كَونه ثَابتا فَلَا يَصح بِغَيْرِهِ كَنَفَقَة زَوجته فِي الْغَد لِأَن الرَّهْن وَثِيقَة حق فَلَا يتَقَدَّم عَلَيْهِ
وَالثَّانِي كَونه مَعْلُوما للعاقدين فَلَو جهلاه أَو أَحدهمَا لم يَصح
وَالثَّالِث كَونه لَازِما أَو آيلا إِلَى اللُّزُوم فَلَا يَصح فِي غير ذَلِك كَمَال الْكِتَابَة وَلَا بِجعْل الْجعَالَة قبل الْفَرَاغ من الْعَمَل وَيجوز الرَّهْن بِالثّمن فِي مُدَّة الْخِيَار لِأَنَّهُ آيل إِلَى اللُّزُوم وَالْأَصْل فِي وَضعه اللُّزُوم بِخِلَاف مَال الْكِتَابَة وَجعل الْجعَالَة وَظَاهر أَن الْكَلَام حَيْثُ قُلْنَا ملك المُشْتَرِي الْمَبِيع ليملك البَائِع الثّمن كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الإِمَام وَلَا حَاجَة لقَوْل المُصَنّف (إِذا اسْتَقر ثُبُوتهَا) أَي الدُّيُون (فِي الذِّمَّة) بل هُوَ مُضر إِذْ لَا فرق بَين كَونه مُسْتَقرًّا كَثمن الْمَبِيع الْمَقْبُوض وَدين الْمُسلم وَأرش الْجِنَايَة أَو غير مُسْتَقر كالأجرة قبل اسْتِيفَاء الْمَنْفَعَة
وَسكت المُصَنّف عَن الرُّكْنَيْنِ الْأَخيرينِ
أما الصِّيغَة فَيشْتَرط فِيهَا مَا مر فِيهَا فِي البيع فَإِن شَرط فِي الرَّهْن مُقْتَضَاهُ كتقدم الْمُرْتَهن بالمرهون عِنْد تزاحم الْغُرَمَاء أَو شَرط فِيهِ مصلحَة لَهُ كإشهاد بِهِ أَو مَا لَا غَرَض فِيهِ كَأَن يَأْكُل العَبْد الْمَرْهُون كَذَا صَحَّ العقد ولغا الشَّرْط الْأَخير وَإِن شَرط مَا يضر الْمُرْتَهن أَو الرَّاهِن كَأَن لَا يُبَاع عِنْد الْمحل أَو أَن منفعَته للْمُرْتَهن أَو أَن تحدث زوائده مَرْهُونَة لم يَصح الرَّهْن فِي الثَّلَاث لإخلال الشَّرْط بالغرض مِنْهُ فِي الأولى ولتغير قَضِيَّة العقد فِي الثَّانِيَة ولجهالة الزَّوَائِد وَعدمهَا فِي الثَّالِثَة
وَأما العاقدان فَيشْتَرط فيهمَا أَهْلِيَّة التَّبَرُّع وَالِاخْتِيَار كَمَا فِي البيع وَنَحْوه
فَلَا يرْهن الْوَلِيّ أيا كَانَ أَو غَيره مَال الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَلَا يرتهن لَهما إِلَّا لضَرُورَة أَو غِبْطَة ظَاهِرَة فَيجوز لَهُ الرَّهْن والارتهان فيهمَا دون غَيرهمَا مثالهما للضَّرُورَة أَن يرْهن على مَا يقترض لحَاجَة الْمُؤْنَة ليوفي مِمَّا ينْتَظر من غلَّة أَو حُلُول دين أَو نَحْو ذَلِك كنفاق مَتَاع كاسد وَأَن يرتهن على مَا يقْرضهُ أَو يَبِيعهُ مُؤَجّلا لضَرُورَة نهب أَو نَحوه
ومثالهما للغبطة أَن يرْهن مَا يُسَاوِي مائَة على ثمن مَا اشْتَرَاهُ بِمِائَة نَسِيئَة وَهُوَ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ وَأَن يرتهن على ثمن مَا يَبِيعهُ نَسِيئَة لغبطة
وَلَا يلْزم الرَّهْن إِلَّا بِقَبْضِهِ كَمَا مر فِي البيع بِإِذن من الرَّاهِن أَو إقباض مِنْهُ مِمَّن يَصح عقده للرَّهْن
وللعاقد إنابة غَيره فِيهِ

(2/298)


كالعقد لَا إنابة مقبض من رَاهن أَو نَائِبه لِئَلَّا يُؤَدِّي إِلَى اتِّحَاد الْقَابِض والمقبض
(وللراهن الرُّجُوع فِيهِ) أَي الْمَرْهُون (مَا لم يقبضهُ) الْمُرْتَهن أَو نَائِبه وَيحصل الرُّجُوع قبل قَبضه بِتَصَرُّف يزِيل ملكا كَهِبَة مَقْبُوضَة لزوَال مَحل الرَّهْن وَبرهن مَقْبُوض لتَعلق حق الْغَيْر بِهِ وتقيدهما بِالْقَبْضِ هُوَ مَا جزم بِهِ الشَّيْخَانِ
وَقَضيته أَن ذَلِك بِدُونِ قبض لَا يكون رُجُوعا
لَكِن نقل السُّبْكِيّ وَغَيره عَن النَّص وَالْأَصْحَاب أَنه رُجُوع وَصَوَّبَهُ الْأَذْرَعِيّ وَهُوَ الْمُعْتَمد وَيحصل الرُّجُوع أَيْضا بِكِتَابَة وتدبير وإحبال لِأَن مقصودها الْعتْق وَهُوَ منَاف للرَّهْن وَلَا يحصل بِوَطْء وتزويج لعدم منافاتهما لَهُ وَلَا بِمَوْت عَاقد وجنونه وإغمائه وتخمر عصير وإباق رَقِيق وَلَيْسَ لراهن مقبض رهن وَلَا وَطْء وَإِن كَانَت مِمَّن لَا تحبل وَلَا تصرف يزِيل ملكا كوقف أَو ينقصهُ كتزويج فَلَا ينفذ شَيْء من هَذِه التَّصَرُّفَات إِلَّا إِعْتَاق مُوسر وإيلاده وَيغرم قِيمَته وَقت إِعْتَاقه وإحباله وَتَكون رهنا مَكَانَهُ بِغَيْر عقد لقيامها مقَامه وَالْولد الْحَاصِل من وَطْء الرَّاهِن حر نسيب وَلَا يغرم قِيمَته
وَإِذا لم ينفذ الْعتْق والإيلاد لكَونه مُعسرا فانفك الرَّهْن نفذ الإيلاد لَا الْإِعْتَاق لإن الْإِعْتَاق قَول فَإِذا رد لَغَا والإيلاد فعل لَا يُمكن رده فَإِذا زَالَ الْحق ثَبت حكمه
وللراهن انْتِفَاع بالمرهون لَا ينقصهُ كركوب وسكنى لَا بِنَاء وغراس لِأَنَّهُمَا ينقصان قيمَة الأَرْض ثمَّ إِن أمكن بِلَا اسْتِرْدَاد الْمَرْهُون انْتِفَاع يُريدهُ الرَّاهِن مِنْهُ لَهُ يسْتَردّ وَإِلَّا فيسترده كَأَن يكون دَارا يسكنهَا وَيشْهد عَلَيْهِ بالاسترداد إِن اتهمه وَله بِإِذن الْمُرْتَهن مَا منعناه مِنْهُ وَله رُجُوع عَن الْإِذْن قبل تصرف الرَّاهِن كَمَا للْمُوكل الرُّجُوع قبل تصرف الْوَكِيل فَإِن تصرف بعد رُجُوعه لَغَا تصرفه كتصرف وَكيل عَزله مُوكله
وعَلى الرَّاهِن الْمَالِك مؤونة الْمَرْهُون كَنَفَقَة رَقِيق وعلف دَابَّة وَأُجْرَة سقِِي أشجر وَلَا يمْنَع من مصلحَة الْمَرْهُون كفصد وحجامة وَهُوَ أَمَانَة بيد الْمُرْتَهن
القَوْل فِي ضَمَان الْمَرْهُون (وَلَا يضمنهُ الْمُرْتَهن) بِمثل وَلَا قيمَة إِذا تلف (إِلَّا بِالتَّعَدِّي) بالتفريط فَيضمنهُ حِينَئِذٍ لخُرُوج يَده عَن الْأَمَانَة وَلَا يسْقط بتلفه شَيْء من الدّين وَيصدق الْمُرْتَهن فِي دَعْوَى التّلف بِيَمِينِهِ وَلَا يصدق فِي الرَّد عِنْد الْأَكْثَرين وَهُوَ الْمُعْتَمد
ضَابِط كل أَمِين ادّعى الرَّد على من ائتمنه صدق بِيَمِينِهِ إِلَّا الْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر
الْمَرْهُون مَحْبُوس مَا بَقِي من الدّين دِرْهَم (وَإِذا قضى) بِمَعْنى أدّى الرَّاهِن (بعض الْحق) أَي الدّين الَّذِي تعلق بِهِ الرَّهْن (لم يخرج) أَي لم يَنْفَكّ (شَيْء من الرَّهْن حَتَّى يقْضِي) أَي يُؤَدِّي (جَمِيعه) لتَعَلُّقه بِكُل جُزْء من الدّين كرقبة الْمكَاتب وينفك أَيْضا بِفَسْخ الْمُرْتَهن وَلَو بِدُونِ الرَّاهِن لِأَن الْحق لَهُ وبالبراءة من جَمِيع الدّين
وَلَو رهن نصف عبد بدين وَنصفه بآخر فِي صَفْقَة أُخْرَى فبرىء من أَحدهمَا انْفَكَّ قسطه لتَعَدد الصَّفْقَة بِتَعَدُّد العقد
وَلَو رهناه بدين فبرىء أَحدهمَا مِمَّا عَلَيْهِ انْفَكَّ نصِيبه لتَعَدد الصَّفْقَة بِتَعَدُّد الْعَاقِد
وَلَو رَهنه عِنْد اثْنَيْنِ فبرىء من دين أَحدهمَا انْفَكَّ قسطه لتَعَدد مُسْتَحقّ الدّين
فروع لَو رهن شخص آخر عَبْدَيْنِ فِي صَفْقَة وَسلم أَحدهمَا لَهُ كَانَ مَرْهُونا على جَمِيع المَال كَمَا لَو سلمهما وَتلف أَحدهمَا وَلَو مَاتَ الرَّاهِن عَن وَرَثَة ففدى أحدهم نصِيبه لم يَنْفَكّ كَمَا فِي الْمُورث وَلَو مَاتَ الْمُرْتَهن عَن وَرَثَة فوفى أَحدهمَا مَا يَخُصُّهُ من الدّين لم يَنْفَكّ نصِيبه كَمَا لَو وفى مُوَرِثه بعض دينه وَإِن خَالف فِي ذَلِك ابْن الرّفْعَة
القَوْل فِي اخْتِلَاف عاقدي الرَّهْن تَتِمَّة لَو اخْتلف الرَّاهِن وَالْمُرْتَهن فِي أصل الرَّهْن أَو فِي قدره صدق الرَّاهِن الْمَالِك بِيَمِينِهِ لِأَن الأَصْل عدم مَا يَدعِيهِ الْمُرْتَهن هَذَا إِن كَانَ رهن تبرع أما الرَّهْن الْمَشْرُوط فِي بيع فَإِن اخْتلفَا فِي اشْتِرَاطه فِيهِ أَو اتفقَا عَلَيْهِ وَاخْتلفَا فِي شَيْء مِمَّا مر

(2/299)


غير الأولى فيتحالفان فِيهِ كَسَائِر صور البيع إِذا اخْتلفَا فِيهَا وَلَو ادّعى أَنَّهُمَا رهناه عبدهما بِمِائَة وأقبضاه وَصدقه أَحدهمَا فَنصِيبه رهن بِخَمْسِينَ مُؤَاخذَة لَهُ بِإِقْرَارِهِ وَحلف المكذب لما مر وَتقبل شَهَادَة الْمُصدق عَلَيْهِ لخلوها عَن التُّهْمَة
وَلَو اخْتلفَا فِي قبض الْمَرْهُون وَهُوَ بيد رَاهن أَو مُرْتَهن وَقَالَ الرَّاهِن غصبته أَو أقبضته على جِهَة أُخْرَى كإعارة صدق بِيَمِينِهِ
وَمن عَلَيْهِ أَلفَانِ مثلا بِأَحَدِهِمَا رهن فَأدى ألفا وَقَالَ أديته عَن ألف الرَّهْن صدق بِيَمِينِهِ لِأَنَّهُ أعلم بِقَصْدِهِ وَكَيْفِيَّة أَدَائِهِ وَإِن لم ينْو شَيْئا جعله عَمَّا شَاءَ مِنْهُمَا
وَمن مَاتَ وَعَلِيهِ دين تعلق بِتركَتِهِ كمرهون وَلَا يمْنَع التَّعَلُّق إِرْثا فَلَا يتَعَلَّق الدّين بزوائد التَّرِكَة وللوارث إِِمْسَاكهَا بِالْأَقَلِّ من قيمتهَا وَالدّين وَلَو تصرف الْوَارِث وَلَا دين فظطرأ دين بِنَحْوِ رد مَبِيع بِعَيْب تلف ثمنه
وَلم يسْقط الدّين بأَدَاء أَو إِبْرَاء أَو نَحوه فسخ التَّصَرُّف لِأَنَّهُ كَانَ سائغا لَهُ فِي الظَّاهِر

فصل فِي الْحجر
وَهُوَ لُغَة الْمَنْع وَشرعا الْمَنْع من التَّصَرُّفَات الْمَالِيَّة
وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وابتلوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذا بلغُوا النِّكَاح} الْآيَة
وَقَوله تَعَالَى {فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها} الْآيَة
القَوْل فِي أَنْوَاع الْحجر (وَالْحجر) يضْرب (على) جمَاعَة الْمَذْكُورَة مِنْهَا هُنَا (سِتَّة) وَالْحجر نَوْعَانِ نوع شرع لمصْلحَة الْمَحْجُور عَلَيْهِ وَنَوع شرع لمصْلحَة الْغَيْر
فالنوع الأول الَّذِي شرع لمصْلحَة نَفسه يضْرب على ثَلَاثَة فَقَط الأول الْحجر على (الصَّبِي) أَي الصَّغِير ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى وَلَو مُمَيّزا إِلَى بُلُوغه فينفك بِلَا قَاض لِأَنَّهُ حجر ثَبت بِلَا قَاض فَلَا يتَوَقَّف زَوَاله على فك قَاض
وَعبر فِي الْمِنْهَاج ككثير بِبُلُوغِهِ رشيدا
قَالَ الشَّيْخَانِ وَلَيْسَ اخْتِلَافا حَقِيقِيًّا بل من عبر بِالثَّانِي أَرَادَ الْإِطْلَاق الْكُلِّي وَمن عبر بِالْأولِ أَرَادَ حجر الصِّبَا وَهَذَا أولى لِأَن الصِّبَا سَبَب مُسْتَقل بِالْحجرِ وَكَذَا التبذير وأحكامهما مُتَغَايِرَة
(و) الثَّانِي الْحجر على (الْمَجْنُون) إِلَى إِفَاقَته مِنْهُ فينفك بِلَا فك قَاض كَمَا مر فِي الصَّبِي
(و) الثَّالِث الْحجر على الْبَالِغ (السَّفِيه المبذر لمَاله) كَأَن يرميه فِي بَحر أَو نَحوه أَو يضيعه بِاحْتِمَال غبن فَاحش فِي مُعَاملَة أَو يصرفهُ فِي محرم لَا فِي خير كصدقة وَلَا فِي نَحْو مطاعم وملابس وَشِرَاء إِمَاء كَثِيرَة للتمتع وَإِن لم تلق بِحَالهِ لِأَن المَال يتَّخذ لينْتَفع ويلتذ بِهِ وَقَضيته أَنه لَيْسَ بِحرَام وَهُوَ كَذَلِك
نعم إِن صرفه فِي ذَلِك بطرِيق الِاقْتِرَاض لَهُ وَلم يكن لَهُ مَا يُوفيه بِهِ فَحَرَام

(2/300)


(و) النَّوْع الثَّانِي الَّذِي شرع لمصْلحَة الْغَيْر يضْرب على (الْمُفلس) وَهُوَ (الَّذِي ارتكبته الدُّيُون) الْحَالة اللَّازِمَة الزَّائِدَة على مَاله إِذا كَانَت لآدَمِيّ فيحجر عَلَيْهِ وجوبا فِي مَاله إِن اسْتَقل أَو على وليه فِي مَال موليه إِن لم يسْتَقلّ بِطَلَبِهِ أَو بسؤال الْغُرَمَاء وَلَو بنوابهم كأوليائهم فَلَا حجر بالمؤجل لِأَنَّهُ لَا يُطَالب بِهِ فِي الْحَال
وَإِذا حجر بِحَال لم يحل الْمُؤَجل لِأَن الْأَجَل مَقْصُود لَهُ
فَلَا يفوت عَلَيْهِ
وَلَو جن الْمَدْيُون لم يحل دينه وَمَا وَقع فِي أصل الرَّوْضَة من تَصْحِيح الْحُلُول بِهِ نسب فِيهِ إِلَى السَّهْو وَلَا يحل إِلَّا بِالْمَوْتِ أَو الرِّدَّة الْمُتَّصِلَة بِالْمَوْتِ أَو استرقاق الْحَرْبِيّ كَمَا نَقله الرَّافِعِيّ عَن النَّص وَلَا بدين غير لَازم كنجوم كِتَابَة لتمكن الْمَدْيُون من إِسْقَاطه وَلَا بدين مسَاوٍ لمَاله أَو نَاقص عَنهُ وَلَا بدين لله تَعَالَى وَإِن كَانَ فوريا كَمَا قَالَه الْإِسْنَوِيّ خلافًا لما بَحثه بعض الْمُتَأَخِّرين
وَالْمرَاد بِمَالِه مَاله الْعَيْنِيّ أَو الديني الَّذِي يَتَيَسَّر الْأَدَاء مِنْهُ بِخِلَاف الْمَنَافِع وَالْمَغْصُوب وَالْغَائِب وَنَحْوهمَا وَيُبَاع فِي الدُّيُون بعد الْحجر عَلَيْهِ مَسْكَنه وخادمه ومركوبه وَإِن احْتَاجَ إِلَى خَادِم أَو مركوب لزمانته أَو منصبه لِأَن تَحْصِيلهَا بالكراء أسهل فَإِن تعذر فعلى الْمُسلمين وَيتْرك لَهُ دست ثوب يَلِيق بِهِ وَهُوَ قَمِيص وَسَرَاويل ومنديل ومكعب وَيُزَاد فِي الشتَاء جُبَّة أَو فَرْوَة
وَلَا يجب عَلَيْهِ أَن يُؤجر نَفسه لتقية الدّين لقَوْله تَعَالَى {وَإِن كَانَ ذُو عسرة فنظرة إِلَى ميسرَة} وَإِذا ادّعى الْمَدْيُون أَنه مُعسر أَو قسم مَاله بَين غُرَمَائه وَزعم أَنه لَا يملك غَيره وأنكروا مَا زَعمه فَإِن لزمَه الدّين فِي مُقَابلَة مَال كَشِرَاء أَو قرض فَعَلَيهِ الْبَيِّنَة بإعساره فِي الصُّورَة الأولى وَبِأَنَّهُ لَا يملك غَيره فِي الثَّانِيَة وَإِن لزمَه لَا فِي مُقَابلَة مَال سَوَاء أَكَانَ بِاخْتِيَارِهِ كضمان وصداق أم بِغَيْر اخْتِيَاره كأرش جِنَايَة صدق بِيَمِينِهِ
(و) يضْرب على (الْمَرِيض) الْمخوف عَلَيْهِ بِمَا ستعرفه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْوَصِيَّة
(فِيمَا زَاد على الثُّلُث) لحق الْوَرَثَة حَيْثُ لَا دين وَفِي الْجَمِيع إِن كَانَ عَلَيْهِ دين مُسْتَغْرق
(و) يضْرب على (العَبْد الَّذِي لم يُؤذن لَهُ التِّجَارَة) لحق سَيّده وعَلى الْمكَاتب لحق سَيّده وَللَّه تَعَالَى زَاد الشَّيْخَانِ فِي هَذَا النَّوْع وعَلى الرَّاهِن فِي الْعين الْمَرْهُونَة لحق الْمُرْتَهن وعَلى الْمُرْتَد لحق الْمُسلمين
وَأورد عَلَيْهِمَا فِي الْمُهِمَّات ثَلَاثِينَ نوعا فِيهَا الْحجر لحق الْغَيْر وَسَبقه إِلَى بَعْضهَا شَيْخه السُّبْكِيّ
فَمن أَرَادَ فَليُرَاجع ذَلِك فِي الْمُهِمَّات وَقَلِيل من صَار لَهُ همة لذَلِك
(وَتصرف) كل من (الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَالسَّفِيه) فِي مَاله (غير صَحِيح) أما الصَّبِي فَإِنَّهُ مسلوب الْعبارَة وَالْولَايَة إِلَّا مَا

(2/301)


اسْتثْنى من عبَادَة مُمَيّز وَإِذن فِي دُخُول وإيصال هَدِيَّة من مُمَيّز مَأْذُون
وَأما الْمَجْنُون فمسلوب الْعبارَة من عبَادَة وَغَيرهَا وَالْولَايَة من ولَايَة النِّكَاح وَغَيرهَا
وَأما السَّفِيه فمسلوب الْعبارَة فِي التَّصَرُّف المالي كَبيع وَلَو بغبطة أَو بِإِذن الْوَلِيّ وَيصِح إِقْرَاره بِمُوجب عُقُوبَة كَحَد وقود وَتَصِح عِبَادَته بدنية كَانَت أَو مَالِيَّة وَاجِبَة لَكِن لَا يدْفع المَال من زَكَاة وَغَيرهَا بِلَا إِذن من وليه وَلَا تعْيين مِنْهُ للمدفوع إِلَيْهِ لِأَنَّهُ تصرف مَالِي
أما الْمَالِيَّة المندوبة كصدقة التَّطَوُّع فَلَا تصح مِنْهُ فَإِن زَالَ الْمَانِع بِالْبُلُوغِ والإفاقة والرشد صَحَّ التَّصَرُّف من حِينَئِذٍ
وَالْبُلُوغ يحصل إِمَّا بِكَمَال خمس عشرَة سنة قمرية تحديدية وابتداؤها من انْفِصَال جَمِيع الْوَلَد أَو بإمناء لآيَة {وَإِذا بلغ الْأَطْفَال مِنْكُم الْحلم} والحلم الِاحْتِلَام وَهُوَ لُغَة مَا يرَاهُ النَّائِم وَالْمرَاد بِهِ هُنَا خُرُوج الْمَنِيّ فِي نوم أَو يقظة بجماع أَو غَيره
وَوقت إِمْكَان الإمناء كَمَال تسع سِنِين قمرية بالاستقراء وَهِي تحديدية بِخِلَاف الْحيض فَإِن السنين فِيهِ تقريبية
أَو حيض فِي حق أُنْثَى بِالْإِجْمَاع وَأما حبلها فعلامة على بُلُوغهَا بالإمناء فَلَيْسَ بلوغا لِأَنَّهُ مَسْبُوق بالإنزال فَيحكم بعد الْوَضع بِالْبُلُوغِ قبله بِسِتَّة أشهر وَشَيْء والرشد يحصل ابْتِدَاء بصلاح دين وَمَال حَتَّى من كَافِر كَمَا فسر بِهِ آيَة {فَإِن آنستم مِنْهُم رشدا} بِأَن لَا يفعل فِي الأول محرما يبطل الْعَدَالَة من كَبِيرَة أَو إِصْرَار على صَغِيرَة وَلم تغلب طَاعَته على مَعَاصيه
ويختبر رشد الصَّبِي فِي الدّين وَالْمَال ليعرف رشده وَعدم رشده قبل بُلُوغه لآيَة {وابتلوا الْيَتَامَى} واليتيم إِنَّمَا يَقع على غير الْبَالِغ فَوق مرّة بِحَيْثُ يظنّ رشده فَلَا تَكْفِي الْمرة لِأَنَّهُ قد يُصِيب فِيهَا اتِّفَاقًا
أما فِي الدّين فبمشاهدة حَاله فِي الْعِبَادَات بقيامه بالواجبات واجتنابه الْمَحْظُورَات والشبهات وَأما فِي المَال فيختلف بمراتب النَّاس فيختبر ولد تَاجر بمشاحة فِي مُعَاملَة وَيسلم لَهُ المَال ليشاحح لَا ليعقد ثمَّ إِن أُرِيد العقد عقد وليه
ويختبر ولد زارع بزراعة وَنَفَقَة عَلَيْهَا بِأَن ينْفق على القوام بمصالح الزَّرْع
وَالْمَرْأَة بِأَمْر غزل وصون نَحْو أَطْعِمَة من نَحْو هرة
فَلَو فسق بعد بُلُوغه رشيدا فَلَا حجر عَلَيْهِ أَو بذر بعد ذَلِك حجر عَلَيْهِ القَاضِي لَا غَيره وَهُوَ وليه أَو جن بعد ذَلِك فَوَلِيه وليه فِي الصغر وَولي الصَّغِير أَب فَأَبُو أَب وَإِن علا كولي النِّكَاح فوصي فقاض ويتصرف بمصلحة وَلَو كَانَ تصرفه بِأَجل بِحَسب الْعرف وبعرض وَأخذ شُفْعَة وَيشْهد حتما فِي بَيْعه لأجل ويرتهن بِالثّمن رهنا وافيا وَيَبْنِي عقاره بطين وآجر وَلَا يَبِيعهُ إِلَّا لحَاجَة كَنَفَقَة أَو غِبْطَة بِأَن يرغب فِيهِ بِأَكْثَرَ من ثمن مثله وَهُوَ يجد مثله بِبَعْض ذَلِك الثّمن أَو خيرا مِنْهُ بكله ويزكي مَاله ويمونه بِالْمَعْرُوفِ فَإِن ادّعى بعد كَمَاله بيعا بِلَا مصلحَة على وَصِيّ أَو أَمِين حلف الْمُدَّعِي أَو ادّعى ذَلِك على أَب أَو أَبِيه حلفا لِأَنَّهُمَا غير متهمين بِخِلَاف الْوَصِيّ والأمين أما القَاضِي فَيقبل قَوْله بِلَا تَحْلِيف

(2/302)


(وَتصرف الْمُفلس) بعد ضرب الْحجر عَلَيْهِ فِي مَاله (يَصح) فِيمَا يُثبتهُ (فِي ذمَّته) كَأَن بَاعَ سلما طَعَاما أَو غَيره أَو اشْترى شَيْئا بِثمن فِي ذمَّته
أَو بَاعَ فِيهَا لَا بِلَفْظ الثّمن أَو اقْترض أَو اسْتَأْجر صَحَّ وَثَبت الْمَبِيع وَالثمن وَنَحْوهمَا فِي ذمَّته إِذْ لَا ضَرَر على الْغُرَمَاء فِيهِ (دون) تصرفه فِي شَيْء من (أَعْيَان مَاله) المفوت فِي الْحَيَاة بالإنشاء مُبْتَدأ كَأَن بَاعَ أَو اشْترى بِالْعينِ أَو أعتق أَو أجر أَو وقف فَلَا يَصح لتَعلق حق الْغُرَمَاء بِهِ كالمرهون وَلِأَنَّهُ مَحْجُور عَلَيْهِ بِحكم الْحَاكِم فَلَا يَصح تصرفه على مراغمة مَقْصُود الْحجر كالسفيه
وَخرج بِقَيْد الْحَيَاة مَا يتَعَلَّق بِمَا بعد الْمَوْت وَهُوَ التَّدْبِير وَالْوَصِيَّة فَيصح مِنْهُ
وبقيد الْإِنْشَاء الْإِقْرَار فَلَو أقرّ بِعَين
أَو دين وَجب قبل الْحجر قبل فِي حق الْغُرَمَاء وَإِن أسْند وُجُوبه إِلَى مَا بعد الْحجر بمعاملة أَو لم يُقَيِّدهُ بمعاملة وَلَا غَيرهَا لم يقبل فِي حَقهم وَإِن قَالَ عَن جِنَايَة بعد الْحجر قبل فيزاحمهم الْمَجْنِي عَلَيْهِ لعدم تَقْصِيره وبقيد مُبْتَدأ رد مَا كَانَ اشْتَرَاهُ قبل الْحجر ثمَّ اطلع على عيب فِيهِ بعد الْحجر إِن كَانَت الْغِبْطَة فِي الرَّد وَيصِح نِكَاحه وطلاقه وخلعه زَوجته واستيفاؤه الْقصاص وإسقاطه الْقصاص وَلَو مجَّانا إِذْ لَا يتَعَلَّق بِهَذِهِ الْأَشْيَاء مَال وَيصِح استلحاقه النّسَب ونفيه بِاللّعانِ
(وَتصرف الْمَرِيض) الْمُتَّصِل مَرضه بِالْمَوْتِ (فِيمَا زَاد على الثُّلُث) من مَاله (مَوْقُوف) تنفيذه (على إجَازَة) جَمِيع (الْوَرَثَة) بالقيود الْآتِي بَيَانهَا فِي الْوَصِيَّة (من بعده) أَي بعد مَوته لَا قبله وَلَو حذف لَفْظَة من لَكَانَ أخصر
(وَتصرف العَبْد) أَي الرَّقِيق
قَالَ ابْن حزم لفظ العَبْد يَشْمَل الْأمة فَكَأَنَّهُ قَالَ الرَّقِيق الَّذِي يَصح تصرفه لنَفسِهِ لَو كَانَ حرا يَنْقَسِم إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام مَا لَا ينفذ وَإِن أذن فِيهِ السَّيِّد كالولايات والشهادات وَمَا ينفذ بِغَيْر إِذْنه كالعبادات وَالطَّلَاق وَمَا يتَوَقَّف على إِذن كَالْبيع وَالْإِجَارَة فَإِن لم يُؤذن لَهُ بِالتِّجَارَة لم يَصح شِرَاؤُهُ بِغَيْر إِذن سَيّده لِأَنَّهُ مَحْجُور عَلَيْهِ لحق سَيّده كَمَا مر فيسترده البَائِع سَوَاء أَكَانَ فِي يَد العَبْد أم فِي يَد سَيّده فَإِن تلف فِي يَد العَبْد فَإِنَّهُ (يكون فِي ذمَّته يتبع بِهِ بعد عتقه) لثُبُوته بِرِضا مَالِكه وَلم يَأْذَن فِيهِ السَّيِّد
وَالضَّابِط فِيمَا يتلفه العَبْد أَو يتْلف تَحت يَده إِن لزم بِغَيْر رضَا مُسْتَحقّه كإتلاف أَو تلف بِغَصب تعلق الضَّمَان بِرَقَبَتِهِ وَلَا يتَعَلَّق بِذِمَّتِهِ وَإِن لزم بِرِضا مُسْتَحقَّة كَمَا فِي الْمُعَامَلَات فَإِن كَانَ بِغَيْر إِذن السَّيِّد تعلق بِذِمَّتِهِ يتبع بِهِ بعد عتقه سَوَاء رَآهُ السَّيِّد فِي يَد العَبْد أم لَا أَو بِإِذْنِهِ تعلق بِذِمَّتِهِ وَكَسبه وَمَال تِجَارَته وَإِن تلف فِي يَد السَّيِّد كَانَ للْبَائِع تضمين السَّيِّد لوضع يَده عَلَيْهِ وَله مُطَالبَة العَبْد أَيْضا بعد الْعتْق لتَعَلُّقه بِذِمَّتِهِ لَا قبله لِأَنَّهُ مُعسر وَإِن أذن لَهُ سَيّده فِي التِّجَارَة تصرف بِالْإِجْمَاع بِحَسب الْإِذْن لِأَنَّهُ تصرف مُسْتَفَاد من الْإِذْن فاقتصر على الْمَأْذُون فِيهِ فَإِن أذن لَهُ فِي نوع لم يتجاوزه

(2/303)


كَالْوَكِيلِ وَلَيْسَ لَهُ بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَة النِّكَاح وَلَا يُؤجر نَفسه وَلَا يتَبَرَّع لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل التَّبَرُّع وَلَا يُعَامل سَيّده وَلَا رَقِيقه الْمَأْذُون لَهُ فِي التِّجَارَة بِبيع وَشِرَاء وَغَيرهمَا لِأَن تصرفه للسَّيِّد وَيَد رَقِيق السَّيِّد كالسيد بِخِلَاف الْمكَاتب وَلَا يتَمَكَّن من عزل نَفسه وَلَا يصير مَأْذُونا لَهُ بسكوت سَيّده وَيقبل إِقْرَاره بديون الْمُعَامَلَة
وَمن عرف رق شخص لم يجز لَهُ مُعَامَلَته حَتَّى يعلم الْإِذْن لَهُ بِسَمَاع سَيّده أَو بِبَيِّنَة أَو شيوع بَين النَّاس وَلَا يَكْفِي قَول العَبْد أَنا مَأْذُون لي لِأَنَّهُ مُتَّهم وَلَا يملك العَبْد بِتَمْلِيك العَبْد سَيّده وَلَا بِتَمْلِيك غَيره لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهلا للْملك لِأَنَّهُ مَمْلُوك فَأشبه الْبَهِيمَة