الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع

فصل فِي الْمُزَارعَة وَالْمُخَابَرَة وكراء الأَرْض
فالمزارعة تَسْلِيم الأَرْض لرجل ليزرعها بِبَعْض مَا يخرج مِنْهَا وَالْبذْر من الْمَالِك
وَالْمُخَابَرَة كالمزارعة لَكِن الْبذر من الْعَامِل
وكراء الأَرْض سَيَأْتِي
فَلَو كَانَ بَين الشّجر نخلا كَانَ أَو عنبا أَرض لَا زرع فِيهَا صحت الزِّرَاعَة عَلَيْهَا مَعَ الْمُسَاقَاة على الشّجر تبعا للْحَاجة إِلَى ذَلِك إِن اتَّحد عقد وعامل بِأَن يكون عَامل الْمُزَارعَة هُوَ عَامل الْمُسَاقَاة وعسر إِفْرَاد الشّجر بالسقي وقدمت الْمُسَاقَاة على الْمُزَارعَة لتَحْصِيل التّبعِيَّة وَأَن تفَاوت الجزءان المشروطان من الثَّمر وَالزَّرْع وَخرج بالمزارعة المخابرة فَلَا تصح تبعا للمساقاة لعدم وُرُودهَا كَذَلِك (وَإِذا) أفردت الْمُزَارعَة أَو المخابرة بِأَن (دفع) مُطلق التَّصَرُّف (إِلَى رجل أَرضًا) أَي مكنه مِنْهَا (ليزرعها) وَكَانَ الْبذر من الْمَالِك (وَشرط لَهُ) أَي لِلْعَامِلِ (جُزْءا) كثيرا كَانَ أَو قَلِيلا (مَعْلُوما) كالثلث (من زَرعهَا) وَهُوَ الْمُسَمّى بالمزارعة أَو كَانَ الْبذر من الْعَامِل وَشرط للْمَالِك مَا مر وَهُوَ الْمُسَمّى بالمخابرة (لم يجز) فِي الصُّورَتَيْنِ للنَّهْي عَن الأولى فِي مُسلم وَعَن الثَّانِيَة فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْمعْنَى فِي الْمَنْع فيهمَا أَن تَحْصِيل مَنْفَعَة الأَرْض مُمكنَة بِالْإِجَارَة فَلم يجز الْعَمَل فِيهَا بِبَعْض مَا يخرج مِنْهَا كالمواشي

(2/355)


بِخِلَاف الشّجر فَإِنَّهُ لَا يُمكن عقد الْإِجَارَة عَلَيْهِ فجوزت الْمُسَاقَاة للْحَاجة والمغل فِي المخابرة لِلْعَامِلِ لِأَن الزَّرْع يتبع الْبذر وَعَلِيهِ للْمَالِك أُجْرَة مثل الأَرْض وَفِي الْمُزَارعَة للْمَالِك لِأَنَّهُ نَمَاء ملكه وَعَلِيهِ لِلْعَامِلِ أُجْرَة مثل عمله وَعمل دوابه وَعمل مَا يتَعَلَّق بِهِ من آلاته سَوَاء أحصل من الزَّرْع شَيْء أم لَا أخذا من نَظِيره فِي الْقَرَاض وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يرض بِبُطْلَان منفعَته إِلَّا ليحصل لَهُ بعد الزَّرْع فَإِذا لم يحصل لَهُ وَانْصَرف كل الْمَنْفَعَة للْمَالِك اسْتحق الْأُجْرَة
وَطَرِيق جعل الْغلَّة لَهما فِي صُورَة إِفْرَاد الأَرْض بالمزارعة أَن يسْتَأْجر الْمَالِك الْعَامِل بِنصْف الْبذر شَائِعا ليزرع لَهُ النّصْف الآخر فِي الأَرْض ويعيره نصف الأَرْض شَائِعا أَو يسْتَأْجر الْعَامِل بِنصْف الْبذر شَائِعا وَنصف مَنْفَعَة الأَرْض كَذَلِك ليزرع لَهُ النّصْف الآخر من الْبذر فِي النّصْف الآخر من الأَرْض فيكونان شَرِيكَيْنِ فِي الزَّرْع على المناصفة وَلَا أُجْرَة لأَحَدهمَا على الآخر لِأَن الْعَامِل يسْتَحق من مَنْفَعَة الأَرْض بِقدر نصِيبه من الزَّرْع وَالْمَالِك من منفعَته بِقدر نصِيبه من الزَّرْع وَطَرِيق جعل الْغلَّة لَهما فِي المخابرة وَلَا أُجْرَة أَن يسْتَأْجر الْعَامِل نصف الأَرْض بِنصْف الْبذر وَنصف عمله وَمَنَافع دوابه وآلاته أَو بِنصْف الْبذر ويتبرع بِالْعَمَلِ وَالْمَنَافِع
وَلَا بُد فِي هَذِه الْإِجَارَة من رِعَايَة الرُّؤْيَة وَتَقْدِير الْمدَّة وَغَيرهمَا من شُرُوط الْإِجَارَة
(وَإِن أكراه إِيَّاهَا) أَي الأَرْض للمزارعة (بِذَهَب أَو فضَّة) أَو لَهما مَعًا أَو بعروض كالفلوس وَالثيَاب (أَو شَرط لَهُ طَعَاما مَعْلُوما فِي ذمَّته) قدره وجنسه ونوعه وَصفته عِنْده وَعند الْمُكْتَرِي (جَازَ) ذَلِك على الْمَذْهَب الْمَنْصُوص بل نقل بَعضهم فِيهِ الْإِجْمَاع
تَتِمَّة لَو أعْطى شخص آخر دَابَّة ليعْمَل عَلَيْهَا أَو يتعهدها وفوائدها بَينهمَا لم يَصح العقد لِأَنَّهُ فِي الأولى يُمكنهُ إِيجَار الدَّابَّة فَلَا حَاجَة إِلَى إِيرَاد عقد عَلَيْهَا فِيهِ غرر وَفِي الثَّانِيَة الْفَوَائِد لَا تحصل بِعَمَلِهِ
وَلَو أَعْطَاهَا لَهُ ليعلفها من عِنْده بِنصْف درها فَفعل ضمن لَهُ الْمَالِك الْعلف وَضمن الآخر للْمَالِك نصف الدّرّ وَهُوَ الْقدر الْمَشْرُوط لَهُ لحصوله بِحكم بيع فَاسد وَلَا يضمن الدَّابَّة لِأَنَّهَا غير مُقَابلَة بعوض
وَإِن قَالَ لتعلفها بِنِصْفِهَا فَفعل فالنصف الْمَشْرُوط مَضْمُون على العالف لحصوله بِحكم الشِّرَاء الْفَاسِد دون النّصْف الآخر

فصل فِي إحْيَاء الْموَات
وَهُوَ بِفَتْح الْمِيم وَالْوَاو الأَرْض الَّتِي لَا مَالك لَهَا
وَلَا ينْتَفع بهَا أحد قَالَه الرَّافِعِيّ
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ هُوَ الَّذِي لم يكن غامرا

(2/356)


وَلَا حريما لعامر قرب من العامر أَو بعد
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع أَخْبَار كَخَبَر من عمر أَرضًا لَيست لأحد فَهُوَ أَحَق بهَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
(وإحياء الْموَات جَائِز) بل هُوَ مُسْتَحبّ كَمَا ذكره فِي الْمُهَذّب وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ النَّوَوِيّ وَلِحَدِيث من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَلهُ فِيهَا أجر وَمَا أكلت العوافي أَي طلاب الرزق مِنْهَا فَهُوَ صَدَقَة رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَغَيره وَقَالَ ابْن الرّفْعَة وَهُوَ قِسْمَانِ أُصَلِّي وَهُوَ مَا لم يعمر قطّ وطارىء وَهُوَ مَا خرب بعد عِمَارَته
وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ بقاع الأَرْض إِمَّا مَمْلُوكَة أَو محبوسة على الْحُقُوق الْعَامَّة أَو الْخَاصَّة وَإِمَّا منفكة عَن الْحُقُوق الْعَامَّة أَو الْخَاصَّة وَهِي الْموَات
وَإِنَّمَا يملك المحيي مَا أَحْيَاهُ (بِشَرْطَيْنِ) الأول (أَن يكون المحيي مُسلما) وَلَو غير مُكَلّف إِذا كَانَت الأَرْض بِبِلَاد الْإِسْلَام وَلَو بحرم أذن فِيهِ الإِمَام أم لَا بِخِلَاف الْكَافِر وَإِن أذن فِيهِ الإِمَام لِأَنَّهُ كالاستعلاء وَهُوَ مُمْتَنع عَلَيْهِ بِدَارِنَا
وَقَالَ السُّبْكِيّ عَن الْجَوْزِيّ بِضَم الْجِيم من أَصْحَابنَا إِن موَات الأَرْض كَانَ ملكا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ رده على أمته
وللذمي والمستأمن الاحتطاب والاحتشاش والاصطياد بِدَارِنَا وَلَا يجوز إحْيَاء فِي عَرَفَة وَلَا الْمزْدَلِفَة وَمنى لتَعلق حق الْوُقُوف بِالْأولِ وَالْمَبِيت بالآخرين
قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَيَنْبَغِي إِلْحَاق المحصب بذلك لِأَنَّهُ يسن للحجيج الْمبيت بِهِ انْتهى
لَكِن قَالَ الْوَلِيّ الْعِرَاقِيّ لَيْسَ ذَلِك من مَنَاسِك الْحَج فَمن أَحْيَا شَيْئا مِنْهُ ملكه انْتهى
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد
أما إِذا كَانَت الأَرْض ببلادهم فَلهم إحياؤها لِأَنَّهُ من حُقُوقهم وَلَا ضَرَر علينا فِيهِ وَكَذَا للْمُسلمِ إحياؤها إِن لم يذبونا عَنْهَا بِخِلَاف مَا يذبونا عَنْهَا أَي وَقد صولحوا على أَن الأَرْض لَهُم
(و) الشَّرْط الثَّانِي (أَن تكون الأَرْض) الَّتِي يُرَاد ملكهَا بِالْإِحْيَاءِ (حرَّة) وَهِي الَّتِي (لم يجر عَلَيْهَا ملك لمُسلم) وَلَا لغيره
فَإِن جرى عَلَيْهَا ملك وَإِن كَانَ للآن خرابا فَهُوَ لمَالِكه مُسلما كَانَ أَو كَافِرًا فَإِن جهل مَالِكه والعمارة إسلامية فَمَال ضائع الْأَمر فِيهِ إِلَى رَأْي الإِمَام فِي حفظه أَو بَيْعه
وَحفظ ثمنه أَو اقتراضه على بَيت المَال إِلَى ظُهُور مَالِكه أَو جَاهِلِيَّة فَيملك بِالْإِحْيَاءِ كالركاز نعم إِن كَانَ ببلادهم وذبونا عَنهُ وَقد صولحوا على أَن الأَرْض لَهُم فَظَاهر أَنا لَا نملكه بِالْإِحْيَاءِ وَلَا يملك بِالْإِحْيَاءِ حَرِيم عَامر لِأَنَّهُ مَمْلُوك لمَالِك العامر وحريم العامر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ لتَمام الِانْتِفَاع بالعامر فالحريم لقرية محياة نَاد وَهُوَ مُجْتَمع الْقَوْم

(2/357)


للْحَدِيث ومرتكض الْخَيل وَنَحْوهَا ومناخ إبل وَهُوَ الْموضع الَّذِي تناخ فِيهِ ومطرح رماد وسرجين وَنَحْوهَا كمراح غنم وملعب صبيان
والحريم لبئر استقاء محياة مَوضِع نازح مِنْهَا وَمَوْضِع دولاب إِن كَانَ الاستقاء بِهِ وَهُوَ يُطلق على مَا يَسْتَقِي بِهِ النازح وَمَا يَسْتَقِي بِهِ بالدابة وَنَحْوهمَا كالموضع الَّذِي يصب فِيهِ النازح المَاء ومتردد الدَّابَّة إِن كَانَ الاستقاء بهَا والموضع الَّذِي يطْرَح فِيهِ مَا يخرج من مصب المَاء أَو نَحوه والحريم لبئر قناة مَا لَو حفر فِيهِ نقص مَاؤُهَا أَو خيف انهيارها
وَيخْتَلف ذَلِك بصلابة الأَرْض ورخاوتها وَلَا يحْتَاج إِلَى مَوضِع نازح وَلَا غَيره مِمَّا مر فِي بِئْر الاستقاء والحريم لدار ممر وفناء لجدرانها ومطرح نَحْو رماد ككناسة وثلج
وَلَا حَرِيم لدار محفوفة بدور بِأَن أَحييت كلهَا مَعًا لِأَن مَا يَجْعَل حريما لَهَا لَيْسَ بِأولى من جعله حريما لأخرى ويتصرف كل من الْملاك فِي ملكه عَادَة وَإِن أدّى إِلَى ضَرَر جَاره أَو إِتْلَاف مَاله كمن حفر بِئْر مَاء أَو حش فاختل بِهِ جِدَار جَاره أَو تغير بِمَا فِي الحش مَاء بئره فَإِن جَاوز الْعَادة فِيمَا ذكر ضمن بِمَا جَاوز فِيهِ كَأَن دق دقا عنيفا أزعج الْأَبْنِيَة أَو حبس المَاء فِي ملكه فانتشرت النداوة إِلَى جِدَار جَاره
وَله أَن يتَّخذ ملكه وَلَو بحوانيت بزازين حَماما وإصطبلا وطاحونة وحانوت حداد إِن أحكم جدرانه بِمَا يَلِيق بمقصوده لِأَن ذَلِك لَا يضر الْملك وَإِن ضرّ الْمَالِك بِنَحْوِ رَائِحَة كريهة
القَوْل فِي صفة الْإِحْيَاء الَّذِي يكون بِهِ الْملك (وَصفَة الْإِحْيَاء) الَّذِي يملك بِهِ الْموَات شرعا (مَا كَانَ فِي الْعَادة) الَّتِي هِيَ الْعرف الَّذِي يعد مثله (عمَارَة للمحيا) وَيخْتَلف ذَلِك بِحَسب الْغَرَض مِنْهُ
وضابطه أَن يهيىء الأَرْض لما يُريدهُ فَيعْتَبر فِي مسكن تحويط الْبقْعَة بِأَجْر أَو لبن أَو طين أَو أَلْوَاح خشب بِحَسب الْعَادة وَنصب بَاب وسقف بعض الْبقْعَة ليهيئها للسُّكْنَى
وَفِي زريبة للدواب أَو غَيرهَا كثمار وغلال التحويط وَنصب الْبَاب لَا السّقف عملا بِالْعَادَةِ وَلَا يَكْفِي التحويط بِنصب سعف أَو أَحْجَار من غير بِنَاء
وَفِي مزرعة جمع نَحْو تُرَاب كقصب وَشَوْك وحولها لينفصل الْمحيا عَن غَيره وتسويتها بطم منخفض وكسح مستعل وَيعْتَبر حرثها إِن لم تزرع إِلَّا بِهِ فَإِن لم يَتَيَسَّر
إِلَّا بِمَا يساق إِلَيْهَا فَلَا بُد مِنْهُ لتتهيأ للزِّرَاعَة وتهيئة مَاء لَهَا إِن لم يكفها مطر مُعْتَاد وَفِي بُسْتَان تحويط وَلَو بِجمع تُرَاب حول أرضه وتهيئة مَاء لَهُ بِحَسب الْعَادة وغرس ليَقَع على الأَرْض اسْم الْبُسْتَان
وَمن شرع فِي إحْيَاء مَا يقدر على إحيائه وَلم يزدْ على كِفَايَته أَو نصب عَلَيْهِ عَلامَة كنصب أَحْجَار أَو أقطعه لَهُ إِمَام فمتحجر لذَلِك الْقدر وَهُوَ مُسْتَحقّ لَهُ دون غَيره وَلَكِن لَو أَحْيَاهُ آخر ملكه وَلَو طَالَتْ عرفا مُدَّة تحجره بِلَا عذر وَلم يحيي قَالَ لَهُ الإِمَام أحيي أَو اترك فَإِن استمهل بِعُذْر أمْهل مُدَّة قريبَة
تَنْبِيه من أَحْيَا مواتا فَظهر فِيهِ مَعْدن ظَاهر وَهُوَ مَا يخرج بِلَا علاج كنفط وكبريت وقار وموميا أَو مَعْدن بَاطِن وَهُوَ مَا لَا يخرج إِلَّا بعلاج كذهب وَفِضة وحديد ملكه لِأَنَّهُ من أَجزَاء الأَرْض وَقد ملكهَا بِالْإِحْيَاءِ
وَخرج بظهوره مَا لَو علمه قبل الْإِحْيَاء فَإِنَّهُ إِنَّمَا يملك الْمَعْدن الْبَاطِن دون الظَّاهِر كَمَا رَجحه ابْن الرّفْعَة وَغَيره أوقر النَّوَوِيّ عَلَيْهِ صَاحب التَّنْبِيه
أما بقعتهما فَلَا يملكهَا بإحيائها مَعَ علمه بهما لفساد قَصده لِأَن الْمَعْدن لَا يتَّخذ دَارا وَلَا بستانا وَلَا مزرعة أَو نَحْوهَا والمياه الْمُبَاحَة من الأودية كالنيل والفرات والعيون فِي الْجبَال وَغَيرهَا وسيول الأمطار يَسْتَوِي النَّاس فِيهَا لخَبر النَّاس شُرَكَاء فِي ثَلَاثَة فِي المَاء والكلأ وَالنَّار فَلَا

(2/358)


يجوز لأحد تحجرها وَلَا للْإِمَام إقطاعها بِالْإِجْمَاع فَإِن أَرَادَ قوم سقِِي أراضيهم من الْمِيَاه الْمُبَاحَة فَضَاقَ المَاء عَنْهُم سقى الْأَعْلَى فالأعلى وَحبس كل مِنْهُم المَاء حَتَّى يبلغ الْكَعْبَيْنِ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بذلك فَإِن كَانَ فِي أَرض ارْتِفَاع وانخفاض أفرد كل طرف بسقي وَأما أَخذ من هَذَا المَاء الْمُبَاح فِي إِنَاء أَو بركَة أَو حُفْرَة أَو نَحْو ذَلِك ملك على الْأَصَح كالاحتطاب والاحتشاش
وَحكى ابْن الْمُنْذر فِيهِ الْإِجْمَاع وحافر بِئْر بموات لَا للتَّمْلِيك بل للارتفاق بهَا لنَفسِهِ مُدَّة إِقَامَته هُنَاكَ أولى بهَا من غَيره حَتَّى يرتحل لحَدِيث من سبق إِلَى مَا لم يسْبق إِلَيْهِ مُسلم فَهُوَ أَحَق بِهِ والبئر المحفورة فِي الْموَات للتَّمَلُّك أَو فِي ملكه يملك الْحَافِر ماءها لِأَنَّهَا نَمَاء ملكه كالثمرة وَاللَّبن
القَوْل فِي شُرُوط بذل المَاء (وَيجب) عَلَيْهِ (بذل المَاء بِثَلَاثَة شَرَائِط) بل بِسِتَّة كَمَا ستعرفه) الأول (أَن يفضل عَن حَاجته) لنَفسِهِ وماشيته وشجره وزرعه (و) الشَّرْط الثَّانِي (أَن يحْتَاج إِلَيْهِ غَيره لنَفسِهِ) فَيجب بذل الْفَاضِل مِنْهُ عَن شربه لشرب غَيره الْمُحْتَرَم من الْآدَمِيّين وَقَوله (أَو لبهيمته) أَي وَيجب بذل مَا فضل عَن مَاشِيَته وزرعه لبهيمة غَيره المحترمة لخَبر الصَّحِيحَيْنِ لَا تمنعوا فضل المَاء لتمنعوا بِهِ الْكلأ
تَنْبِيه أطلق المُصَنّف الْحَاجة وقيدها الْمَاوَرْدِيّ بالناجزة وَقَالَ فَلَو فضل عَنهُ الْآن وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ فِي ثَانِي الْحَال وَجب بذله لِأَنَّهُ يسْتَخْلف وَخرج بِقَيْد الْمُحْتَرَم غير كالزاني الْمُحصن وتارك الصَّلَاة وَكَذَا تَارِك الْوضُوء فِي الْأَصَح فِي الرَّوْضَة وَالْمُرْتَدّ وَالْحَرْبِيّ لِأَنَّهُ يسْتَخْلف وَخرج بِقَيْد الْمُحْتَرَم غَيره كالزاني الْمُحصن وتارك الصَّلَاة وَكَذَا تَارِك الْوضُوء فِي الْأَصَح فِي الرَّوْضَة وَالْمُرْتَدّ وَالْحَرْبِيّ وَالْكَلب الْعَقُور والبهيمة المأكولة إِذا وطِئت مُحْتَرمَة فَإِن الْأَصَح أَنَّهَا لَا تذبح فَيجب الْبَذْل لَهَا
(و) الشَّرْط الثَّالِث (أَن يكون) المَاء الْفَاضِل عَمَّا تقدم (مِمَّا يسْتَخْلف) بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول أَي يخلفه مَاء غَيره (فِي بِئْر أَو عين) فِي جبل أَو غَيره وَأما الَّذِي لَا يخلف كالقار فِي إِنَاء أَو حَوْض مسدود فَلَا يجب بذل فَضله على الصَّحِيح وَالْفرق أَنه فِي صُورَة الِاسْتِخْلَاف لَا يلْحقهُ ضَرَر بالاحتياج إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبل بِخِلَافِهِ فِي غَيره
وَالشّرط الرَّابِع أَن يكون بِقرب المَاء كلأ مُبَاح ترعاه الْمَوَاشِي وَإِلَّا فَلَا يجب على الْمَذْهَب لخَبر الصَّحِيحَيْنِ لَا تمنعوا فضل المَاء لتمنعوا بِهِ الْكلأ أَي من حَيْثُ إِن الْمَاشِيَة إِنَّمَا ترعى بِقرب المَاء فَإِذا منع من المَاء فقد منع من الْكلأ
وَالشّرط الْخَامِس أَن لَا يجد مَالك الْمَاشِيَة عِنْد الْكلأ مَاء مُبَاحا وَإِلَّا فَلَا يجب بذله
وَالشّرط السَّادِس أَن لَا يكون على صَاحب الْبِئْر فِي وُرُود الْمَاشِيَة إِلَى مَائه ضَرَر فِي زرع وَلَا مَاشِيَة فَإِن لحقه فِي وُرُودهَا ضَرَر منعت لَكِن يجوز للرعاة استقاء فضل المَاء لَهَا وَلَا يجب بذله لزرع الْغَيْر كَسَائِر المملوكات وَإِنَّمَا وَجب بذله للماشية لحُرْمَة الرّوح وَلَا يجب بذل فضل الْكلأ لِأَنَّهُ لَا يسْتَخْلف فِي الْحَال ويتمول فِي الْعَادة وزمن رعيه يطول بِخِلَاف المَاء وَحَيْثُ لزمَه بذل المَاء للماشية لزمَه أَن يُمكنهَا من وُرُود الْبِئْر إِن لم يضر بِهِ وَإِلَّا فَلَا كَمَا مر وَحَيْثُ وَجب الْبَذْل لم يجز أَخذ عوض عَلَيْهِ وَإِن صَحَّ بيع الطَّعَام للْمُضْطَر لصِحَّة النَّهْي عَن بيع فضل المَاء رَوَاهُ مُسلم
وَلَا يجب على من وَجب عَلَيْهِ الْبَذْل إِعَارَة آلَة الاستقاء
تَتِمَّة يشْتَرط فِي بيع المَاء التَّقْدِير بكيل أَو وزن لَا بري الْمَاشِيَة وَالزَّرْع وَالْفرق بَينه وَبَين جَوَاز الشّرْب من مَاء السقاء بعوض أَن الِاخْتِلَاف فِي شرب الْآدَمِيّ أَهْون مِنْهُ فِي شرب الْمَاشِيَة وَالزَّرْع وَيجوز الشّرْب وَسقي الدَّوَابّ من الجداول والأنهار الْمَمْلُوكَة إِن كَانَ السَّقْي لَا يضر بمالكها إِقَامَة للْإِذْن الْعرفِيّ مقَام اللَّفْظِيّ قَالَه ابْن عبد السَّلَام
ثمَّ قَالَ نعم لَو كَانَ النَّهر لمن لَا يعْتَبر إِذْنه

(2/359)


كاليتيم والأوقاف الْعَامَّة فعندي فِيهِ وَقْفَة انْتهى
وَالظَّاهِر الْجَوَاز
والقناة أَو الْعين الْمُشْتَركَة يقسم مَاؤُهَا عِنْد ضيقه عَنْهُم بِنصب خَشَبَة فِي عرض النَّهر فِيهَا ثقب مُتَسَاوِيَة أَو مُتَفَاوِتَة على قدر الحصص من الْقَنَاة أَو الْعين وللشركاء الْقِسْمَة مُهَايَأَة وَهِي أَمر يتراضون عَلَيْهِ كَأَن يسْقِي كل مِنْهُم يَوْمًا أَو بَعضهم يَوْمًا وَبَعْضهمْ أَكثر بِحَسب حِصَّته
وَإِن سقى زرعه بِمَاء مَغْصُوب ضمن المَاء بِبَدَلِهِ وَالْغلَّة لَهُ لِأَنَّهُ الْمَالِك للبذر فَإِن غرم الْبَدَل وتحلل من صَاحب المَاء كَانَت الْغلَّة أطيب لَهُ مِمَّا لَو غرم الْبَدَل فَقَط وَلَو أشعل نَارا فِي حطب مُبَاح لم يمْنَع أحدا الِانْتِفَاع بهَا وَلَا الاستصباح مِنْهَا فَإِن كَانَ الْحَطب لَهُ فَلهُ الْمَنْع من الْأَخْذ مِنْهَا كَالْمَاءِ لَا الاصطلاء بهَا وَلَا الاستصباح مِنْهَا

فصل فِي الْوَقْف
هُوَ والتحبيس والتسبيل بِمَعْنى وَهُوَ لُغَة الْحَبْس
يُقَال وقفت كَذَا أَي حَبسته
وَلَا يُقَال أوقفته إِلَّا فِي لُغَة تميمية وَهِي رَدِيئَة وَعَلَيْهَا الْعَامَّة وَهُوَ عكس حبس فَإِن الفصيح أحبس وَأما حبس فلغة رَدِيئَة
وَشرعا حبس مَال يُمكن الِانْتِفَاع بِهِ مَعَ بَقَاء عينه بِقطع التَّصَرُّف فِي رقبته على مصرف مُبَاح مَوْجُود وَيجمع على وقُوف وأوقاف
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون} فَإِن أَبَا طَلْحَة لما سَمعهَا رغب فِي وقف بيرحاء وَهِي أحب أَمْوَاله إِلَيْهِ
وَخبر مُسلم إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاث صَدَقَة جَارِيَة أَو علم ينْتَفع بِهِ أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ وَالصَّدَََقَة الْجَارِيَة مَحْمُولَة عِنْد الْعلمَاء على الْوَقْف كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ
القَوْل فِي أَرْكَان الْوَقْف وأركانه أَرْبَعَة وَاقِف وَمَوْقُوف وَمَوْقُوف عَلَيْهِ وَصِيغَة
وَالْمُصَنّف ذكر بَعْضهَا معبرا عَنهُ بِالشُّرُوطِ فَقَالَ (وَالْوَقْف) أَي من مُخْتَار أهل تبرع (جَائِز) أَي صَحِيح وَهَذَا هُوَ الرُّكْن الأول وَهُوَ الْوَاقِف فَيصح من كَافِر وَلَو لمَسْجِد وَمن مبعض لَا من مكره ومكاتب
ومحجور عَلَيْهِ بفلس أَو غَيره
وَلَو بِمُبَاشَرَة وليه
القَوْل فِي شُرُوط صِحَة الْوَقْف وَقَوله (بِثَلَاثَة شَرَائِط) ذكر أَرْبَعَة وَأسْقط خَامِسًا وسادسا وسابعا وثامنا كَمَا ستعرفه الشَّرْط الأول وَهُوَ الرُّكْن الثَّانِي وَهُوَ الْمَوْقُوف (أَن يكون مِمَّا ينْتَفع بِهِ) عينا معينا (مَعَ بَقَاء عينه) مَمْلُوكا للْوَاقِف
نعم يَصح وقف الإِمَام من بَيت المَال وَلَا بُد أَن يقبل النَّقْل من ملك شخص إِلَى ملك آخر ويفيد لَا بفواته نفعا مُبَاحا مَقْصُودا وَسَوَاء كَانَ النَّفْع فِي الْحَال أم لَا كوقف عبد وجحش صغيرين وَسَوَاء كَانَ عقارا أم مَنْقُولًا كمشاع وَلَو مَسْجِدا كمدبر ومعلق عتقه بِصفة
قَالَ فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا ويعتقان بِوُجُود الصّفة وَيبْطل الْوَقْف بعتقهما
وَبِنَاء وغراس وضعا بِأَرْض بِحَق فَلَا يَصح وقف مَنْفَعَة لِأَنَّهَا لَيست بِعَين وَلَا مَا فِي الذِّمَّة وَلَا أحد عبديه لعدم تعيينهما وَلَا مَا لَا يملك للْوَاقِف كمكتري وموصي بمنفعته لَهُ وحر

(2/360)


وكلب وَلَو معلما وَلَا مُسْتَوْلدَة ومكاتب لِأَنَّهُمَا لَا يقبلان النَّقْل وَلَا آلَة لَهو وَلَا دَرَاهِم لزينة لِأَن آلَة اللَّهْو مُحرمَة والزينة مَقْصُودَة وَلَا مَا لَا يُفِيد نفعا كزمن لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ وَلَا مَا لَا يُفِيد إِلَّا بفواته كطعام وَرَيْحَان غير مزروع لِأَن نَفعه فِي فَوته ومقصود الْوَقْف الدَّوَام بِخِلَاف مَا يَدُوم كمسك وَعَنْبَر وَرَيْحَان مزروع
(و) الشَّرْط الثَّانِي وَهُوَ الرُّكْن الثَّالِث وَهُوَ الْمَوْقُوف عَلَيْهِ (أَن يكون) الْوَقْف (على أصل مَوْجُود) فِي الْحَال وَهُوَ على قسمَيْنِ معِين وَغير معِين فَإِن وقف على معِين اشْترط إِمْكَان تَمْلِيكه فِي حَال الْوَقْف عَلَيْهِ بِوُجُودِهِ فِي الْخَارِج فَلَا يَصح الْوَقْف على وَلَده وَهُوَ لَا ولد لَهُ وَلَا على فُقَرَاء أَوْلَاده وَلَا فَقير فيهم فَإِن كَانَ فيهم فَقير وغني صَحَّ وَيُعْطِي مِنْهُ أَيْضا من افْتقر بعد كَمَا قَالَ الْبَغَوِيّ
وَلَا على جَنِين لعدم صِحَة تملكه وَسَوَاء أَكَانَ مَقْصُودا أم تَابعا حَتَّى لَو كَانَ لَهُ أَوْلَاد وَله جَنِين عِنْد الْوَقْف لم يدْخل
نعم إِن انْفَصل دخل مَعَهم إِلَّا أَن يكون الْوَاقِف قد سمى الموجدين أَو ذكر عَددهمْ فَلَا يدْخل كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ
تَنْبِيه قد علم مِمَّا ذكر أَن الْوَقْف على الْمَيِّت لَا يَصح لِأَنَّهُ لَا يملك وَبِه صرح الْجِرْجَانِيّ وَلَا على أحد هذَيْن الشخصين لعدم تعْيين الْمَوْقُوف عَلَيْهِ وَلَا على نفس العَبْد لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهلا للْملك
فَإِن أطلق الْوَقْف عَلَيْهِ فَإِن كَانَ لَهُ لم يَصح لِأَنَّهُ يَقع للْوَاقِف وَإِن كَانَ لغيره فَهُوَ وقف على سَيّده وَأما الْوَقْف على الْمبعض فَالظَّاهِر أَنه إِن كَانَ مُهَايَأَة وَصدر الْوَقْف عَلَيْهِ يَوْم نوبَته فكالحر أَو يَوْم نوبَة سَيّده فكالعبد وَإِن لم تكن مُهَايَأَة وزع على الرّقّ وَالْحريَّة
وَلَو وقف على بَهِيمَة مَمْلُوكَة لم يَصح الْوَقْف لِأَنَّهَا لَيست أَهلا للْملك بِحَال فَإِن قصد بِهِ مَالِكهَا فَهُوَ وقف عَلَيْهِ وَخرج بالمملوكة الْمَوْقُوفَة كالخيل الْمَوْقُوفَة فِي الثغور وَنَحْوهَا فَيصح الْوَقْف على عَلفهَا وَيصِح على ذمِّي معِين مِمَّا يُمكن تَمْلِيكه لَهُ فَيمْتَنع وقف الْمُصحف وَكتب علم وَالْعَبْد الْمُسلم عَلَيْهِ وَلَا يَصح الْوَقْف على مُرْتَد وحربي
وَلَا وقف الشَّخْص على نَفسه لِأَن الْأَوَّلين لَا دوَام لَهما مَعَ كفرهما وَالثَّالِث لتعذر تمْلِيك الْإِنْسَان ملكه لنَفسِهِ لِأَنَّهُ حَاصِل وَتَحْصِيل الْحَاصِل محَال
(و) الشَّرْط الثَّالِث أَن يكون الْوَقْف مُؤَبَّدًا على (فرع لَا يَنْقَطِع) سَوَاء أظهر فِيهِ جِهَة قربَة كالوقف على الْفُقَرَاء وَالْعُلَمَاء

(2/361)


والمجاهدين والمساجد والربط أم لم تظهر كالأغنياء وَأهل الذِّمَّة والفسقة لِأَن الصَّدَقَة عَلَيْهِم جَائِزَة وَلَو وقف شخص على الْأَغْنِيَاء وَادّعى شخص أَنه غَنِي لم يقبل إِلَّا بِبَيِّنَة بِخِلَاف مَا لَو وقف على الْفُقَرَاء وَادّعى شخص أَنه فَقير وَلم يعرف لَهُ مَال فَيقبل بِلَا بَيِّنَة نظرا للْأَصْل فيهمَا
تَنْبِيه قَضِيَّة عطف المُصَنّف قَوْله وَفرع لَا يَنْقَطِع على مَا قبله أَنَّهُمَا شَرط وَاحِد وَلِهَذَا عد الشُّرُوط ثَلَاثَة وَالَّذِي فِي الرَّوْضَة أَنهم شَرْطَانِ كَمَا قررت بِهِ كَلَامه
(و) الشَّرْط الرَّابِع (أَن لَا يكون فِي مَحْظُور) بِالْحَاء الْمُهْملَة والظاء المشالة أَي محرم كعمارة الْكَنَائِس وَنَحْوهَا من متعبدات الْكفَّار للتعبد فِيهَا أَو حصرها أَو قناديلها أَو خدامها أَو كتب التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل أَو السِّلَاح لقطاع الطَّرِيق لِأَنَّهُ إِعَانَة على مَعْصِيّة وَالْوَقْف شرع للتقرب فهما متضادان
وَشرط فِي الصِّيغَة وَهُوَ الرُّكْن الرَّابِع لفظ يشْعر بالمراد كَالْعِتْقِ بل أولى وَفِي مَعْنَاهُ مَا مر فِي الضَّمَان وصريحة كوقفت وسلبت وحبست كَذَا على كَذَا أَو تَصَدَّقت بِكَذَا على كَذَا صَدَقَة مُحرمَة أَو مُؤَبّدَة أَو مَوْقُوفَة أَو لَا تبَاع أَو لَا توهب أَو جعلت هَذَا الْمَكَان مَسْجِدا وكنايته كحرمت وأبدت هَذَا للْفُقَرَاء لِأَن كلا مِنْهُمَا لَا يسْتَعْمل مُسْتقِلّا وَإِنَّمَا يُؤَكد بِهِ فَلَا يكون صَرِيحًا وكتصدقت بِهِ مَعَ إِضَافَته لجِهَة عَامَّة كالفقراء
وَألْحق الْمَاوَرْدِيّ بِاللَّفْظِ أَيْضا مَا لَو بنى مَسْجِدا بنيته بموات
وَالشّرط الْخَامِس التَّأْبِيد كالوقف على من لم ينقرض قبل قيام السَّاعَة كالفقراء أَو على من ينقرض ثمَّ على من لَا ينقرض كزيد ثمَّ الْفُقَرَاء فَلَا يَصح تأقيت الْوَقْف
فَلَو قَالَ وقفت هَذَا على كَذَا سنة لم يَصح لفساد الصِّيغَة فَإِن أعقبه بمصرف كوقفته على زيد سنة ثمَّ على الْفُقَرَاء صَحَّ وَرُوِيَ فِيهِ شَرط الْوَاقِف وَهَذَا فِيمَا لَا يضاهي التَّحْرِير أما مَا يضاهيه كالمسجد والمقبرة والرباط كَقَوْلِه جعلته مَسْجِدا سنة فَإِنَّهُ يَصح مُؤَبَّدًا كَمَا لَو ذكر فِيهِ شرطا فَاسِدا وَهُوَ لَا يفْسد بِالشّرطِ الْفَاسِد وَلَو قَالَ وقفت على أَوْلَادِي أَو على زيد ثمَّ نَسْله وَنَحْوه مِمَّا لَا يَدُوم وَلم يزدْ على ذَلِك من يصرف إِلَيْهِ بعدهمْ صَحَّ لِأَن الْمَقْصُود بِالْوَقْفِ الْقرْبَة والدوام فَإِذا تبين مصرفه ابْتِدَاء سهل إدامته على سَبِيل الْخَيْر وَيُسمى مُنْقَطع الآخر فَإِذا انقرض الْمَذْكُور صرف إِلَى أقرب النَّاس إِلَى الْوَاقِف يَوْم انْقِرَاض الْمَذْكُور وَيخْتَص الْمصرف وجوبا بفقراء قرَابَة الرَّحِم لَا الْإِرْث فِي الْأَصَح فَيقدم ابْن بنت على ابْن عَم وَلَو كَانَ الْوَقْف مُنْقَطع الأول كوقفته على من سيولد لي ثمَّ على الْفُقَرَاء لم يَصح لِأَن الأول بَاطِل لعدم إِمْكَان الصّرْف إِلَيْهِ فِي الْحَال فَكَذَا مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَو كَانَ الْوَقْف مُنْقَطع الْوسط كوقفت على أَوْلَادِي ثمَّ على رجل مُبْهَم ثمَّ على الْفُقَرَاء صَحَّ لوُجُود الْمصرف فِي الْحَال والمآل ثمَّ بعد أَوْلَاده يصرف للْفُقَرَاء
وَالشّرط السَّادِس بَيَان الْمصرف فَلَو اقْتصر على قَوْله وقفت كَذَا وَلم يذكر مصرفه لم يَصح لعدم ذكر مصرفه وَلَو ذكر الْمصرف إِجْمَالا كَقَوْلِه وقفت هَذَا على مَسْجِد كَذَا كفي وَصرف إِلَى مَصَالِحه عِنْد الْجُمْهُور

(2/362)


وَالشّرط السَّابِع أَن يكون مُنجزا فَلَا يَصح تَعْلِيقه كَقَوْلِه إِذا جَاءَ زيد فقد وقفت كَذَا على كَذَا لِأَنَّهُ عقد يَقْتَضِي نقل الْملك فِي الْحَال لم يبن على التغليب والسراية فَلَا يَصح تَعْلِيقه على شَرط كَالْبيع وَالْهِبَة وَمحل الْبطلَان فِيمَا لَا يضاهي التَّحْرِير
أما مَا يضاهيه كجعلته مَسْجِدا إِذا جَاءَ رَمَضَان فَالظَّاهِر صِحَّته كَمَا ذكره ابْن الرّفْعَة وَمحله أَيْضا مَا لم يعلقه بِالْمَوْتِ فَإِن علقه بِهِ كَقَوْلِه وقفت دَاري بعد موتِي على الْفُقَرَاء فَإِنَّهُ يَصح قَالَ الشَّيْخَانِ وَكَأَنَّهُ وَصِيَّة لقَوْل الْقفال إِنَّه لَو عرضهَا للْبيع كَانَ رُجُوعا وَلَو نجز الْوَقْف وعلق الْإِعْطَاء للْمَوْقُوف عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ جَازَ نَقله الزَّرْكَشِيّ عَن القَاضِي حُسَيْن
وَلَو قَالَ وقفت على من شِئْت أَو فِيمَا شِئْت وَكَانَ قد عين لَهُ مَا شَاءَ أَو من يَشَاء عِنْد وَقفه صَحَّ وَأخذ ببيانه وَإِلَّا فَلَا يَصح للْجَهَالَة
وَلَو قَالَ وقفت فِيمَا شَاءَ الله كَانَ بَاطِلا لِأَنَّهُ لَا يعلم مَشِيئَة الله تَعَالَى
وَالشّرط الثَّامِن الْإِلْزَام فَلَو قَالَ وقفت هَذَا على كَذَا بِشَرْط الْخِيَار لنَفسِهِ فِي إبْقَاء وَقفه أَو الرُّجُوع فِيهِ مَتى شَاءَ أَو شَرطه لغيره أَو شَرط عوده إِلَيْهِ بِوَجْه مَا كَانَ شَرط أَن يَبِيعهُ أَو شَرط أَن يدْخل من شَاءَ وَيخرج من شَاءَ لم يَصح قَالَ الرَّافِعِيّ كَالْعِتْقِ
قَالَ السُّبْكِيّ وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامه من بطلَان الْعتْق غير مَعْرُوف
وَأفْتى الْقفال بِأَن الْعتْق لَا يبطل بذلك لِأَنَّهُ مَبْنِيّ على الْغَلَبَة والسراية
القَوْل فِي الْوَقْف على شُرُوط الْوَاقِف (وَهُوَ) أَي الْوَقْف (على مَا شَرط الْوَاقِف) سَوَاء أقلنا الْملك لَهُ أم للْمَوْقُوف عَلَيْهِ أم ينْتَقل إِلَى الله تَعَالَى بِمَعْنى أَنه يَنْفَكّ عَن اخْتِصَاص الْآدَمِيّين كَمَا هُوَ الْأَظْهر إِذْ مبْنى الْوَقْف على اتِّبَاع شَرط الْوَاقِف (من تَقْدِيم أَو تَأْخِير أَو تَسْوِيَة أَو تَفْصِيل) أَو جمع وترتيب وَإِدْخَال من شَاءَ بِصفة وإخراجه بِصفة مِثَال التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير كَقَوْلِه وقفت على أَوْلَادِي بِشَرْط أَن يقدم الأورع مِنْهُم فَإِن فضل شَيْء كَانَ للباقين
وَمِثَال التَّسْوِيَة كَقَوْلِه بِشَرْط أَن يصرف لكل وَاحِد مِنْهُم مائَة دِرْهَم وَمِثَال التَّفْضِيل كَقَوْلِه بِشَرْط أَن يصرف لزيد مائَة ولعمرو خَمْسُونَ
وَمِثَال الْجمع خَاصَّة كَقَوْلِه وقفت على أَوْلَادِي وَأَوْلَادهمْ فَإِن ذَلِك يَقْتَضِي التَّسْوِيَة فِي أصل الْإِعْطَاء والمقدار بَين الْكل وَهُوَ جَمِيع أَفْرَاد الْأَوْلَاد وَأَوْلَادهمْ ذكورهم وإناثهم لِأَن الْوَاو لمُطلق الْجمع لَا للتَّرْتِيب كَمَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ وَنقل عَن إِجْمَاع النُّحَاة وَإِن زَاد على ذَلِك مَا تَنَاسَلُوا أَو بَطنا بعد بطن لِأَن الْمَزِيد للتعميم فِي النَّسْل

(2/363)


وَمِثَال التَّرْتِيب خَاصَّة كَقَوْلِه وقفت على أَوْلَادِي ثمَّ على أَوْلَاد أَوْلَادِي أَو الْأَعْلَى فالأعلى أَو الأول فَالْأول أَو الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب لدلَالَة اللَّفْظ عَلَيْهِ
وَمِثَال الْجمع وَالتَّرْتِيب كَقَوْلِه وقفته على أَوْلَادِي وَأَوْلَاد أَوْلَادِي فَإِذا انقرضوا فعلى أَوْلَادهم ثمَّ على أَوْلَاد أَوْلَادهم مَا تَنَاسَلُوا
فَتكون الْأَوْلَاد وَأَوْلَاد الْأَوْلَاد مشتركين وبعدهم يكونُونَ مرتبين وَحَيْثُ وجد لفظ التَّرْتِيب فَلَا يصرف للبطن الثَّانِي شَيْء مَا بَقِي من الْبَطن الأول أحد
وَهَكَذَا فِي جَمِيع الْبُطُون لَا يصرف إِلَى بطن وَهُنَاكَ من بطن أقرب مِنْهُ إِلَّا أَن يَقُول من مَاتَ من أَوْلَادِي مِنْهُم فَنصِيبه لوَلَده فَيتبع شَرطه وَلَا يدْخل أَوْلَاد الْأَوْلَاد فِي الْوَقْف على الْأَوْلَاد لِأَنَّهُ لَا يَقع عَلَيْهِ اسْم الْوَلَد حَقِيقَة
وَيدخل أَوْلَاد الْبَنَات فِي الْوَقْف على الذُّرِّيَّة وعَلى النَّسْل وعَلى الْعقب وعَلى أَوْلَاد الْأَوْلَاد لصدق اللَّفْظ بهم أما فِي الذُّرِّيَّة فَلقَوْله تَعَالَى {وَمن ذُريَّته دَاوُد وَسليمَان} إِلَى أَن ذكر عِيسَى وَلَيْسَ هُوَ إِلَّا ولد الْبِنْت والنسل والعقب فِي مَعْنَاهُ إِلَّا إِن قَالَ على من ينْسب إِلَيّ مِنْهُم فَلَا يدْخل أَوْلَاد الْبَنَات فِيمَا ذكر نظرا للقيد الْمَذْكُور
هَذَا إِن كَانَ الْوَاقِف رجلا فَإِن كَانَ امْرَأَة دخلُوا فِيهِ بِجعْل الانتساب فِيهَا لغويا لَا شَرْعِيًّا فالتقييد فِيهَا لبَيَان الْوَاقِع لَا للإخراج وَمِثَال الإدخال بِصفة والإخراج بِصفة كوقفته على أَوْلَادِي الأرامل وأولادي الْفُقَرَاء فَلَا تدخل المتزوجة وَلَا يدْخل الْغَنِيّ فَلَو عَادَتْ أرملة أَو عَاد فَقِيرا عَاد الِاسْتِحْقَاق وتستحق غير الرَّجْعِيَّة فِي زمن عدتهَا كَمَا قَالَه فِي الزَّوَائِد تفقها
تَتِمَّة الْمولى يَشْمَل الْأَعْلَى وَهُوَ من لَهُ الْوَلَاء والأسفل وَهُوَ من عَلَيْهِ الْوَلَاء فَلَو اجْتمعَا اشْتَركَا لتناول اسْمه لَهما
وَالصّفة وَالِاسْتِثْنَاء يلحقان المتعاطفات بِحرف مُشْرك كالواو وَالْفَاء وَثمّ إِن لم يتخللها كَلَام طَوِيل لِأَن الأَصْل اشتراكهما فِي جَمِيع المتعاطفات سَوَاء أتقدما عَلَيْهَا أم تأخرا أم توسطا كوقفت هَذَا على محتاجي أَوْلَادِي وأحفادي وإخوتي أَو على أَوْلَادِي وأحفادي وإخوتي المحتاجين أَو على أَوْلَادِي وأحفادي وإخوتي والمحتاجين أَو على أَوْلَادِي المحتاجين وأحفادي أَو على من ذكر إِلَّا من يفسق مِنْهُم وَالْحَاجة هُنَا مُعْتَبرَة بِجَوَاز أَخذ الزَّكَاة كَمَا أفتى بِهِ الْقفال فَإِن تخَلّل المتعاطفات مَا ذكر كوقفت على أَوْلَادِي على أَن من مَاتَ مِنْهُم وأعقب فَنصِيبه بَين أَوْلَاده للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِلَّا فَنصِيبه لمن فِي دَرَجَته
فَإِذا انقرضوا صرف إِلَى إخوتي المحتاجين أَو إِلَّا من لم يفسق مِنْهُم اخْتصَّ بذلك بالمعطوف الْأَخير وَنَفَقَة الْمَوْقُوف وَمؤنَة تَجْهِيزه وعمارته من حَيْثُ شَرطهَا الْوَاقِف من مَاله أَو من مَال الْوَقْف وَإِلَّا فَمن مَنَافِع الْمَوْقُوف ككسب العَبْد وغلة الْعقار فَإِذا انْقَطَعت مَنَافِعه فالنفقة وَمؤنَة التَّجْهِيز لَا الْعِمَارَة فِي بَيت المَال وَإِذا شَرط الْوَاقِف نظرا لنَفسِهِ أَو لغيره اتبع شَرطه وَإِلَّا فَهُوَ للْقَاضِي. وَشرط النَّاظر: عَدَالَة، وكفاية، ووظيفته عمَارَة وَإِجَارَة

(2/364)


وَحفظ أصل وغلة وَجَمعهَا وقسمتها على مستحقيها فَإِن فوض لَهُ بَعْضهَا لم يتعده ولواقف نَاظر عزل من ولاه النّظر عَنهُ وَنصب غَيره مَكَانَهُ

فصل فِي الْهِبَة
تقال لما يعم الصَّدَقَة والهدية وَلما يقابلهما وَاسْتعْمل الأول فِي تَعْرِيفهَا وَالثَّانِي فِي أَرْكَانهَا وَسَيَأْتِي ذَلِك وَالْأَصْل فِيهَا على الأول قبل الْإِجْمَاع آيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى} وَالْهِبَة بر وَقَوله تَعَالَى {وَآتى المَال على حبه} الْآيَة
وأخبار كَخَبَر الصَّحِيحَيْنِ لَا تحقرن جَارة لجارتها وَلَو فرسن شَاة أَي ظلفها
وانعقد الْإِجْمَاع على اسْتِحْبَاب الْهِبَة بِجَمِيعِ أَنْوَاعهَا وَقد يعرض لَهَا أَسبَاب تخرجها عَن ذَلِك مِنْهَا الْهِبَة لأرباب الولايات والعمال
وَمِنْهَا مَا لَو كَانَ الْمُتَّهب يَسْتَعِين بذلك على مَعْصِيّة وَهِي بِالْمَعْنَى الأول تمْلِيك تطوع فِي حَيَاة
فَخرج بالتمليك الْعَارِية والضيافة وَالْوَقْف وبالتطوع غَيره كَالْبيع وَالزَّكَاة فَإِن ملك لاحتياج أَو لثواب آخِره فصدقة أَيْضا أَو نَقله للمتهب إِكْرَاما لَهُ فهدية
القَوْل فِي أَرْكَان الْهِبَة (وأركانها) بِالْمَعْنَى الثَّانِي المُرَاد عِنْد الْإِطْلَاق ثَلَاثَة صِيغَة وعاقد وموهوب وعرفه المُصَنّف بقوله (وكل مَا جَازَ بَيْعه جَازَ هِبته) بِالْأولَى لِأَن بَابهَا أوسع
فَإِن قيل لم حذف المُصَنّف التَّاء من جَازَ هِبته أُجِيب بِأَن تَاء تَأْنِيث الْهِبَة غير حَقِيقِيّ أَو لمشاكلة جَازَ بَيْعه
تَنْبِيه يسْتَثْنى من هَذَا الضَّابِط مسَائِل مِنْهَا الْجَارِيَة الْمَرْهُونَة إِذا اسْتَوْلدهَا الرَّاهِن أَو أعْتقهَا وَهُوَ مُعسر فَإِنَّهُ يجوز بيعهَا للضَّرُورَة وَلَا تجوز هبتها لَا من الْمُرْتَهن وَلَا من غَيره
وَمِنْهَا الْمكَاتب يَصح بيع مَا فِي يَده وَلَا تصح هِبته
وَمِنْهَا هبة الْمَنَافِع فَإِنَّهَا تبَاع بِالْأُجْرَةِ وَفِي هبتها وَجْهَان أَحدهمَا أَنَّهَا لَيست بِتَمْلِيك بِنَاء على أَن مَا وهبت مَنَافِعه عَارِية وَهُوَ مَا جزم بِهِ الْمَاوَرْدِيّ
وَغَيره

(2/365)


وَرجحه الزَّرْكَشِيّ
وَالثَّانِي أَنَّهَا تمْلِيك بِنَاء على أَن مَا وهبت مَنَافِعه أَمَانَة وَهُوَ مَا رَجحه ابْن الرّفْعَة والسبكي وَغَيرهمَا وَهُوَ الظَّاهِر
وَاسْتثنى مسَائِل غير ذَلِك ذكرتها فِي شرح الْبَهْجَة وَغَيره
وَمَفْهُوم كَلَام المُصَنّف أَن مَا لَا يجوز بَيْعه كمجهول ومغصوب لغير قَادر على انْتِزَاعه وضال وآبق لَا تجوز هِبته بِجَامِع أَنَّهُمَا تمْلِيك فِي الْحَيَاة
وَاسْتثنى أَيْضا من هَذَا مسَائِل مِنْهَا حبتا الْحِنْطَة وَنَحْوهمَا من المحقرات كشعيرة فَإِنَّهُمَا لَا يجوز بيعهمَا وَتجوز هبتهما كَمَا جرى عَلَيْهِ فِي الْمِنْهَاج وَهُوَ الْمُعْتَمد لانْتِفَاء الْمُقَابل لَهما وَإِن قَالَ ابْن النَّقِيب إِن هَذَا سبق قلم
وَمِنْهَا حق التحجير فَإِنَّهُ يَصح هِبته وَلَا يَصح بَيْعه وَمِنْهَا صوف الشَّاة المجعولة أضْحِية ولبنها وَمِنْهَا الثِّمَار قبل بَدو الصّلاح يجوز هبتها من غير شَرط بِخِلَاف البيع وَيسْتَثْنى مسَائِل غير ذَلِك ذكرتها فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره
وَشرط فِي الْعَاقِد وَهُوَ الرُّكْن الثَّانِي مَا مر فِي البيع فَيشْتَرط فِي الْوَاهِب الْملك وَإِطْلَاق التَّصَرُّف فِي مَاله فَلَا يَصح من ولي فِي مَال مَحْجُوره وَلَا من مكَاتب بِغَيْر إِذن سَيّده وَيشْتَرط فِي الْمَوْهُوب لَهُ أَن يكون فِيهِ أَهْلِيَّة الْملك لما يُوهب لَهُ من مُكَلّف وَغَيره وَغير الْمُكَلف يقبل لَهُ وليه فَلَا تصح لحمل وَلَا لبهيمة وَلَا لرقيق نَفسه فَإِن أطلق الْهِبَة لَهُ فَهِيَ لسَيِّده
(وَلَا تلْزم) أَي لَا تملك (الْهِبَة) الصَّحِيحَة غير الضمنية وَذَات الثَّوَاب الشاملة للهدية وَالصَّدَََقَة (إِلَّا بِالْقَبْضِ) فَلَا تملك بِالْعقدِ لما روى الْحَاكِم فِي صَحِيحه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهْدى إِلَى النَّجَاشِيّ ثَلَاثِينَ أُوقِيَّة مسكا ثمَّ قَالَ لأم سَلمَة إِنِّي لأرى النَّجَاشِيّ قد مَاتَ وَلَا أرى الْهَدِيَّة الَّتِي أهديت إِلَيْهِ إِلَّا سترد فَإِذا ردَّتْ إِلَيّ فَهِيَ لَك فَكَانَ كَذَلِك
وَلِأَنَّهُ عقد إرفاق كالقرض فَلَا تملك إِلَّا بِالْقَبْضِ وَخرج بالصحيحة الْفَاسِدَة فَلَا تملك بِالْقَبْضِ
وَبِغير الضمنية كَمَا لَو قَالَ أعتق عَبدك عني مجَّانا فَإِنَّهُ يعْتق عَنهُ وَيسْقط الْقَبْض

(2/366)


فِي هَذِه الصُّورَة كَمَا يسْقط الْقبُول إِذا كَانَ التمَاس الْعتْق بعوض كَمَا ذَكرُوهُ فِي بَاب الْكَفَّارَات وَبِغير ذَات الثَّوَاب ذَاته فَإِنَّهُ إِذا سلم الثَّوَاب اسْتَقل بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ بيع
تَنْبِيه شَمل كَلَامه هبة الْأَب لِابْنِهِ الصَّغِير أَنَّهَا لَا تملك إِلَّا بِالْقَبْضِ كَمَا هُوَ مُقْتَضى كَلَامهم فِي البيع وَنَحْوه خلافًا لما حَكَاهُ ابْن عبد الْبر
وَلَا بُد أَن يكون الْقَبْض بِإِذن الْوَاهِب فِيهِ إِن لم يقبضهُ الْوَاهِب سَوَاء كَانَ فِي يَد الْمُتَّهب أم لَا فَلَو قبض بِلَا إِذن وَلَا إقباض لم يملكهُ وَدخل فِي ضَمَانه سَوَاء أقبضهُ فِي مجْلِس العقد أم بعده وَلَا بُد للْمَوْهُوب لَهُ من إِمْكَان السّير إِلَيْهِ إِن كَانَ غَائِبا وَقد سبق بَيَان الْقَبْض إِلَّا أَنه هُنَا لَا يَكْفِي الْإِتْلَاف وَلَا الْوَضع بَين يَدَيْهِ بِغَيْر إِذْنه لِأَنَّهُ غير مُسْتَحقّ الْقَبْض بِخِلَاف البيع فَلَو مَاتَ الْوَاهِب أَو الْمَوْهُوب لَهُ قَامَ وَارِث الْوَاهِب مقَامه فِي الْإِقْبَاض وَالْإِذْن فِي الْقَبْض ووارث الْمُتَّهب فِي الْقَبْض وَلَا تَنْفَسِخ بِالْمَوْتِ وَلَا بالجنون وَلَا بالإغماء لِأَنَّهَا تؤول إِلَى اللُّزُوم كَالْبيع فِي زمن الْخِيَار
القَوْل فِي الرُّجُوع فِي الْهِبَة (وَإِذا قبضهَا الْمَوْهُوب لَهُ) أَي الْهِبَة الشاملة للهدية وَالصَّدَََقَة (لم يكن للْوَاهِب) حِينَئِذٍ (الرُّجُوع فِيهَا إِلَّا أَن يكون) الْوَاهِب (والدا) كَذَا سَائِر الْأُصُول من الْجِهَتَيْنِ وَلَو مَعَ اخْتِلَاف الدّين على الْمَشْهُور سَوَاء أقبضها الْوَلَد أم لَا غَنِيا كَانَ أم فَقِيرا صَغِيرا أم كَبِيرا لخَبر لَا يحل لرجل أَن يُعْطي عَطِيَّة أَو يهب هبة فَيرجع فِيهَا إِلَّا الْوَالِد فِيمَا يُعْطي وَلَده رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم وصححاه وَالْولد يَشْمَل كل الْأُصُول إِن حمل اللَّفْظ على حَقِيقَته ومجازه وَإِلَّا ألحق بِهِ بَقِيَّة الْأُصُول بِجَامِع أَن لكل ولادَة كَمَا فِي النَّفَقَة وَحُصُول الْعتْق وَسُقُوط الْقود
تَنْبِيه مَحل الرُّجُوع فِيمَا إِذا كَانَ الْوَلَد حرا أما الْهِبَة لوَلَده الرَّقِيق فهبة لسَيِّده وَمحله أَيْضا فِي هبة الْأَعْيَان
أما لَو وهب لوَلَده دينا لَهُ عَلَيْهِ فَلَا رُجُوع سَوَاء قُلْنَا إِنَّه تمْلِيك أم إِسْقَاط إِذْ لَا بَقَاء للدّين فَأشبه مَا لَو وهبه شَيْئا فَتلف وَشرط رُجُوع الْأَب أَو أحد سَائِر الْأُصُول بَقَاء الْمَوْهُوب فِي سلطنة الْوَلَد
وَيدخل فِي السلطنة مَا لَو أبق الْمَوْهُوب أَو غصب فَيثبت الرُّجُوع فيهمَا وَخرج بهما مَا لَو جنى الْمَوْهُوب أَو أفلس الْمُتَّهب وَحجر عَلَيْهِ فَيمْتَنع الرُّجُوع نعم لَو قَالَ أَنا أؤدي أرش الْجِنَايَة وأرجع مكن فِي الْأَصَح وَيمْتَنع الرُّجُوع أَيْضا بِبيع الْوَلَد الْمَوْهُوب أَو وَقفه أَو عتقه أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا يزِيل الْملك عَنهُ وَقَضِيَّة كَلَامهم امْتنَاع الرُّجُوع بِالْبيعِ وَإِن كَانَ البيع من أَبِيه الْوَاهِب وَهُوَ كَذَلِك وَلَا يمْنَع الرُّجُوع رَهنه وَلَا هِبته قبل الْقَبْض لبَقَاء السلطنة لِأَن الْملك لَهُ وَأما بعد الْقَبْض فَلَا رُجُوع لَهُ لزوَال سلطنته وَلَا يمْنَع أَيْضا تَعْلِيق عتقه وَلَا تَدْبيره وَلَا تَزْوِيج الرَّقِيق وَلَا زراعة الأَرْض وَلَا إِجَارَتهَا لِأَن الْعين بَاقِيَة بِحَالِهَا نعم يسْتَثْنى من الرُّجُوع مَعَ بَقَاء السلطنة صور مِنْهَا مَا لَو جن الْأَب فَإِنَّهُ لَا يَصح رُجُوعه حَال جُنُونه وَلَا رُجُوع وليه بل إِذا أَفَاق كَانَ لَهُ الرُّجُوع ذكره القَاضِي أَبُو الطّيب
وَمِنْهَا مَا لَو أحرم والموهوب صيد فَإِنَّهُ لَا يرجع فِي الْحَال لِأَنَّهُ لَا يجوز إِثْبَات يَده على الصَّيْد فِي حَال الْإِحْرَام وَمِنْهَا مَا لَو ارْتَدَّ الْوَالِد وفرعنا على وقف ملكه وَهُوَ الرَّاجِح فَإِنَّهُ لَا يرجع لِأَن الرُّجُوع لَا يقبل الْوَقْف

(2/367)


كَمَا لَا يقبل التَّعْلِيق فَلَو حل من إِحْرَامه أَو عَاد إِلَى الْإِسْلَام والموهوب بَاقٍ على ملك الْوَلَد رَجَعَ
فروع لَو وهب لوَلَده شَيْئا ووهبه الْوَلَد لوَلَده لم يرجع الأول فِي الْأَصَح لِأَن الْملك غير مُسْتَفَاد مِنْهُ وَلَو وهبه لوَلَده فوهبه الْوَلَد لِأَخِيهِ من أَبِيه لم يثبت للْأَب الرُّجُوع لِأَن الْوَاهِب لَا يملك الرُّجُوع فالأب أولى وَلَو وهبه الْوَلَد لجده ثمَّ الْجد لوَلَده فالرجوع للْجدّ فَقَط وَلَو زَالَ ملك الْوَلَد عَن الْمَوْهُوب وَعَاد إِلَيْهِ بِإِرْث أَو غَيره لم يرجع الأَصْل لِأَن الْملك غير مُسْتَفَاد مِنْهُ حَتَّى يرجع فِيهِ
وَلَو زرع الْوَلَد الْحبّ أَو فرخ الْبيض لم يرجع الأَصْل فِيهِ كَمَا جزم بِهِ ابْن الْمقري وَإِن جزم البُلْقِينِيّ بِخِلَافِهِ لِأَن الْمَوْهُوب صَار مُسْتَهْلكا وَلَو زَاد الْمَوْهُوب رَجَعَ فِيهِ بِزِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَة كالسمن دون الْمُنْفَصِلَة كَالْوَلَدِ الْحَادِث فَإِنَّهُ يبْقى للمتهب لحدوثه على ملكه بِخِلَاف الْحمل الْمُقَارن للهبة فَإِنَّهُ يرجع فِيهِ وَإِن انْفَصل
القَوْل فِي مَا يتَحَقَّق فِي الرُّجُوع فِي الْهِبَة وَيحصل الرُّجُوع برجعت فِيمَا وهبت أَو استرجعته أَو رَددته إِلَى ملكي
أَو نقضت الْهِبَة أَو نَحْو ذَلِك كأبطلتها أَو فسختها وَلَا يحصل الرُّجُوع بِبيع مَا وهبه الأَصْل لفرعه وَلَا بوقفه وَلَا بهبته وَلَا بإعتاقه وَلَا بِوَطْء الْأمة
وَلَا بُد فِي صِحَة الْهِبَة من صِيغَة وَهُوَ الرُّكْن الرَّابِع وَتحصل بِإِيجَاب وَقبُول لفظا من النَّاطِق مَعَ التواصل الْمُعْتَاد كَالْبيع
وَمن صرائح الْإِيجَاب وَهبتك ومنحتك وملكتك بِلَا ثمن وَمن صرائح الْقبُول قبلت ورضيت وَيقبل الْهِبَة للصَّغِير وَنَحْوه مِمَّن لَيْسَ أَهلا للقبول الْوَلِيّ وَلَا يشْتَرط الْإِيجَاب وَالْقَبُول فِي الْهَدِيَّة وَلَا فِي الصَّدَقَة بل يَكْفِي الْإِعْطَاء من الْمَالِك وَالْأَخْذ من الْمَدْفُوع لَهُ
القَوْل فِي الْعُمْرَى والرقبى (و) تصح بعمرى ورقبى فالعمرى كَمَا (إِذا أعمر شَيْئا) كَأَن قَالَ أعمرتك هَذَا أَي جعلته لَك عمرك أَو حياتك أَو مَا عِشْت وَإِن زَاد فَإِذا مت عَاد لي لخَبر الصَّحِيحَيْنِ الْعُمْرَى مِيرَاث لأَهْلهَا وَخرج بقولنَا جعلته لَك عمرك مَا لَو قَالَ جعلته لَك عمري أَو عمر زيد فَإِنَّهُ لَا يَصح لِخُرُوجِهِ عَن اللَّفْظ الْمُعْتَاد لما فِيهِ من تأقيت الْملك فَإِن الْوَاهِب أَو زيدا قد يَمُوت أَو لَا بِخِلَاف الْعَكْس فَإِن الْإِنْسَان لَا يملك إِلَّا مُدَّة حَيَاته وَلَا يَصح تَعْلِيق الْعُمْرَى كإذا جَاءَ فلَان أَو رَأس الشَّهْر فَهَذَا الشَّيْء لَك عمرك
والرقبى كَمَا إِذا قَالَ جعلته لَك رقبى (أَو أرقبه) كَأَن قَالَ أرقبتكه أَي إِن مت قبلي عَاد لي وَإِن مت قبلك اسْتَقَرَّتْ لَك (كَانَ) ذَلِك الشَّيْء (للمعمر) فِي الأولى (أَو للمرقب) فِي الثَّانِيَة بِلَفْظ اسْم الْمَفْعُول فيهمَا (ولورثته من بعده) وَيَلْغُو الشَّرْط الْمَذْكُور فِي الْعُمْرَى والرقبى لخَبر أَبُو دَاوُد لَا تعمروا وَلَا ترقبوا فَمن أعمر شَيْئا أَو أرقبه فَهُوَ لوَرثَته أَي لَا تعمروا وَلَا ترقبوا طَمَعا فِي أَن يعود إِلَيْكُم فَإِن مصيره الْمِيرَاث
والرقبى من الرقوب فَكل مِنْهُمَا يرقب موت الآخر

(2/368)


وَالْهِبَة إِن أطلقت بِأَن لم تقيد بِثَوَاب وَلَا بِعَدَمِهِ فَلَا ثَوَاب فِيهَا وَإِن كَانَت لأعلى من الْوَاهِب أَو قيدت بِثَوَاب مَجْهُول كَثوب فباطلة أَو بِمَعْلُوم فَبيع نظرا إِلَى الْمَعْنى
وظرف الْهِبَة إِن لم يعْتد رده كقوصرة تمر هبة أَيْضا وَإِلَّا فَلَا وَإِذا لم يكن هبة حرم اسْتِعْمَاله إِلَّا فِي أكل الْهِبَة مِنْهُ إِن اُعْتِيدَ
تَتِمَّة يسن للوالد وَإِن علا الْعدْل فِي عَطِيَّة أَوْلَاده بِأَن يُسَوِّي بَين الذّكر وَالْأُنْثَى لخَبر البُخَارِيّ اتَّقوا الله واعدلوا بَين أَوْلَادكُم وَيكرهُ تَركه لهَذَا الْخَبَر
وَمحل الْكَرَاهَة عِنْد الاسْتوَاء فِي الْحَاجة وَعدمهَا وَإِلَّا فَلَا كَرَاهَة وعَلى ذَلِك يحمل تَفْضِيل الصَّحَابَة لِأَن الصّديق فضل السيدة عَائِشَة على غَيرهَا من أَوْلَاده وَفضل عمر ابْنه عَاصِمًا بِشَيْء وَفضل عبد الله بن عمر بعض أَوْلَاده على بَعضهم رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ
وَيسن أَيْضا أَن يُسَوِّي الْوَلَد إِذا وهب لوَالِديهِ شَيْئا وَيكرهُ لَهُ ترك التَّسْوِيَة كَمَا مر فِي الْأَوْلَاد فَإِن فضل أَحدهمَا فالأم أولى لخَبر إِن لَهَا ثُلثي الْبر وَالإِخْوَة وَنَحْوهم لَا يجْرِي فيهم هَذَا الحكم وَلَا شكّ أَن التَّسْوِيَة بَينهم مَطْلُوبَة لَكِن دون طلبَهَا فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع وَأفضل الْبر بر الْوَالِدين بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا وَفعل مَا يسرهما من الطَّاعَة لله تَعَالَى وَغَيرهَا مِمَّا لَيْسَ بمنهي عَنهُ وعقوق كل مِنْهُمَا من الْكَبَائِر وَهُوَ أَن يُؤْذِيه أَذَى لَيْسَ بالهين مَا لم يكن مَا آذاه بِهِ وَاجِبا وصلَة الْقَرَابَة وَهِي فعلك مَعَ قريبك مَا تعد بِهِ واصلا مَأْمُور بهَا وَتحصل بِالْمَالِ وَقَضَاء الْحَوَائِج والزيارة وَالْمُكَاتبَة والمراسلة بِالسَّلَامِ وَنَحْو ذَلِك