الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع

فصل فِي الرّجْعَة
بِفَتْح الرَّاء أفْصح من كسرهَا عِنْد الْجَوْهَرِي وَالْكَسْر أَكثر عِنْد الْأَزْهَرِي
وَهِي لُغَة الْمرة من الرُّجُوع وَشرعا رد الْمَرْأَة إِلَى النِّكَاح من طَلَاق غير بَائِن فِي الْعدة على وَجه مَخْصُوص كَمَا يُؤْخَذ مِمَّا سَيَأْتِي
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وبعولتهن أَحَق بردهن فِي ذَلِك} أَي فِي الْعدة {إِن أَرَادوا إصلاحا} أَي رَجْعَة كَمَا قَالَه الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَانِي جِبْرِيل فَقَالَ رَاجع حَفْصَة فَإِنَّهَا صَوَّامَة قَوَّامَة وَإِنَّهَا زَوجتك فِي الْجنَّة
أَرْكَان الرّجْعَة أَرْكَانهَا ثَلَاثَة مَحل وَصِيغَة ومرتجع
وَأما الطَّلَاق فَهُوَ سَبَب لَا ركن وَبَدَأَ المُصَنّف بِشُرُوط الرُّكْن الأول وَهُوَ مَحل بقوله (وشروط) صِحَة (الرّجْعَة أَرْبَعَة) وَترك خَامِسًا وسادسا كَمَا ستعرفه الأول (أَن يكون الطَّلَاق دون الثَّلَاث) فِي الْحر وَدون اثْنَيْنِ فِي الرَّقِيق وَلَو قَالَ كَمَا فِي الْمِنْهَاج لم يسْتَوْف عدد الطَّلَاق لشمل ذَلِك أما إِذا استوفى ذَلِك فَإِنَّهُ لَا سلطنة لَهُ عَلَيْهَا
(و) الثَّانِي (أَن يكون) الطَّلَاق (بعد الدُّخُول بهَا) فَإِن كَانَ قبله فَلَا رَجْعَة لَهُ لبينونتها وكالوطء استدخال الْمَنِيّ الْمُحْتَرَم
(و) الثَّالِث (أَن لَا يكون الطَّلَاق بعوض) مِنْهَا أَو من غَيرهَا فَإِن كَانَ على عوض فَلَا رَجْعَة كَمَا تقدم تَوْجِيهه فِي الْخلْع
(و) الرَّابِع (أَن تكون) الرّجْعَة (قبل انْقِضَاء الْعدة) فَإِذا انْقَضتْ فَسَيَأْتِي فِي كَلَام المُصَنّف فِي الْفَصْل بعده مَعَ أَن هَذَا الْفَصْل سَاقِط من بعض النّسخ
وَالْخَامِس كَون الْمُطلقَة قَابِلَة للْحلّ للمراجع فَلَو أسلمت الْكَافِرَة وَاسْتمرّ زَوجهَا وراجعها فِي كفره لم يَصح أَو ارْتَدَّت الْمسلمَة لم تصح مراجعتها فِي حَال ردتها لِأَن مَقْصُود الرّجْعَة الْحل وَالرِّدَّة تنافيه وَكَذَا لَو ارْتَدَّ الزَّوْجَة أَو ارتدا مَعًا
وَضَابِط ذَلِك انْتِقَال أحد الزَّوْجَيْنِ إِلَى دين يمْنَع دوَام النِّكَاح
وَالسَّادِس كَونهَا مُعينَة فَلَو طلق إِحْدَى زوجتيه وَأبْهم ثمَّ رَاجع إِحْدَاهمَا أَو طلقهما جَمِيعًا ثمَّ رَاجع إِحْدَاهُنَّ لم تصح الرّجْعَة إِذْ لَيست الرّجْعَة فِي احْتِمَال الْإِبْهَام كَالطَّلَاقِ لشبهها بِالنِّكَاحِ لَا يَصح مَعَ الْإِبْهَام وَلَو تعيّنت ونسيت لم تصح رَجعتهَا أَيْضا فِي الْأَصَح
تَتِمَّة لَو علق طَلاقهَا على شَيْء وَشك فِي حُصُوله فراجع ثمَّ علم أَنه كَانَ حَاصِلا فَفِي صِحَة الرّجْعَة وَجْهَان أصَحهمَا كَمَا قَالَه شيخ النَّوَوِيّ الْكَمَال سَلام فِي مُخْتَصر الْبَحْر إِنَّهَا تصح
بِغَيْر عوض مِنْهُ حرَّة كَانَت أَو أمة طَلْقَة (وَاحِدَة أَو اثْنَتَيْنِ) بعد وَطئهَا وَلَو فِي الدبر بِنَاء على أَنه يُوجب الْعدة وَهُوَ الْأَصَح وَكَذَا لَو استدخلت مَاءَهُ الْمُحْتَرَم فَإِن الرّجْعَة تثبت بِهِ على الْمُعْتَمد
(فَلهُ مراجعتها) بِغَيْر إِذْنهَا وَإِذن سَيِّدهَا (مَا لم تنقض عدتهَا) لقَوْله تَعَالَى {فبلغن أَجلهنَّ فَلَا تعضلوهن أَن ينكحن أَزوَاجهنَّ} وَلَو كَانَ حق الرّجْعَة

(2/448)


فصل فِي بَيَان مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ حل الْمُطلقَة
(وَإِذا طلق) الْحر امْرَأَته بَاقِيا لما كَانَ يُبَاح لَهُنَّ النِّكَاح
تَنْبِيه يرد عَلَيْهِ مَا إِذا خالط الرَّجْعِيَّة مُخَالطَة الْأزْوَاج بِلَا وَطْء فَإِن الْعدة لَا تَنْقَضِي وَلَا رَجْعَة لَهُ بعد الْأَقْرَاء أَو الْأَشْهر كَمَا فِي الرَّوْضَة والمنهاج وأصليهما
وَإِن خَالف فِي ذَلِك بعض الْمُتَأَخِّرين
وَدخل فِي كَلَامه مَا إِذا وطِئت بِشُبْهَة فَحملت ثمَّ طَلقهَا فَإِن لَهُ الرّجْعَة فِي عدَّة الْحمل على الْأَصَح مَعَ أَنَّهَا لَيست فِي عدته وَلَكِن لم تنقض عدتهَا
القَوْل فِي شُرُوط المرتجع وَشرط فِي المرتجع وَهُوَ الرُّكْن الثَّانِي الِاخْتِيَار وأهلية النِّكَاح بِنَفسِهِ وَإِن توقف على إِذن فَتَصِح رَجْعَة سَكرَان وسفيه ومحرم لَا مَجْنُون ومكره ولولي من جن وَقد وَقع عَلَيْهِ طَلَاق رَجْعَة حَيْثُ يُزَوجهُ بِأَن يحْتَاج إِلَيْهِ
وَشرط فِي الصِّيغَة وَهُوَ الرُّكْن الثَّالِث لفظ يشْعر بالمراد بِهِ وَفِي مَعْنَاهُ مَا مر فِي الضَّمَان وَذَلِكَ إِمَّا صَرِيح وَهُوَ كرددتك إِلَيّ ورجعتك وارتجعتك وراجعتك وأمسكتك لشهرتها فِي ذَلِك وورودها فِي الْكتاب وَالسّنة وَفِي مَعْنَاهَا سَائِر مَا اشتق من مصادرها كَأَنْت مُرَاجعَة
وَمَا كَانَ بالعجمية وَإِن أحسن الْعَرَبيَّة وَإِمَّا كِنَايَة كتزوجتك ونكحتك وَيشْتَرط فِيهَا تَنْجِيز وَعدم تأقيت فَلَو قَالَ رَاجَعتك إِن شِئْت فَقَالَت شِئْت أَو رَاجَعتك شهرا لم تحصل الرّجْعَة وَسن إِشْهَاد عَلَيْهَا خُرُوجًا من خلاف من أوجبه وَإِنَّمَا لم يجب لِأَنَّهَا فِي حكم اسْتِدَامَة النِّكَاح السَّابِق وَإِنَّمَا وَجب الْإِشْهَاد على النِّكَاح لإِثْبَات الْفراش وَهُوَ ثَابت هُنَا
تَنْبِيه قد علم مِمَّا تقرر أَن الرّجْعَة لَا تحصل بِفعل غير الْكِتَابَة وَإِشَارَة الْأَخْرَس المفهمة كَوَطْء ومقدماته وَإِن نوى بِهِ الرّجْعَة لعدم دلَالَته عَلَيْهَا
(فَإِذا انْقَضتْ عدتهَا) بِوَضْع حمل أَو أَقراء أَو أشهر (كَانَ لَهُ) إِعَادَة (نِكَاحهَا بِعقد جَدِيد) بِشُرُوطِهِ الْمُتَقَدّمَة فِي بَابه لبينونتها حِينَئِذٍ وَحلفت فِي انْقِضَاء الْعدة بِغَيْر أشهر من أَقراء أَو وضع إِذا أنكرهُ الزَّوْج فَتصدق فِي ذَلِك إِن أمكن وَإِن خَالَفت عَادَتهَا لِأَن

(2/449)


النِّسَاء مؤتمنات على أرحامهن
وَخرج بِانْقِضَاء الْعدة غَيره كنسب واستيلاد فَلَا يقبل قَوْلهَا إِلَّا بِبَيِّنَة وَبِغير الْأَشْهر انقضاؤها بِالْأَشْهرِ وبالإمكان مَا إِذا لم يُمكن لصِغَر أَو يأس أَو غَيره فَيصدق بِيَمِينِهِ وَيُمكن انقضاؤها بِوَضْع لتَمام بِسِتَّة أشهر ولحظتين من حِين إِمْكَان اجْتِمَاعهمَا بعد النِّكَاح والمصور بِمِائَة وَعشْرين يَوْمًا ولحظتين ولمضغة بِثَمَانِينَ يَوْمًا ولحظتين وبأقراء لحرة طلقت فِي طهر سبق بحيض بِاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ولحظتين وَفِي حيض بسبعة وَأَرْبَعين يَوْمًا ولحظة ولغير حرَّة طلقت فِي طهر سبق بحيض بِسِتَّة عشر يَوْمًا ولحظتين وَفِي حيض بِإِحْدَى وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ولحظة
(و) إِذا انْقَضتْ عدتهَا ثمَّ جدد نِكَاحهَا (تكون مَعَه على مَا بَقِي) لَهُ (من) عدد (الطَّلَاق) لما روى الْبَيْهَقِيّ عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه أفتى بذلك وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ جمَاعَة من الصَّحَابَة وَلم يظْهر لَهُم مُخَالف
القَوْل فِيمَا إِذا طَلقهَا ثَلَاثًا (فَإِن طَلقهَا) أَي الْحر (ثَلَاثًا) أَو العَبْد وَلَو مبعضا طَلْقَتَيْنِ مَعًا أَو مُرَتبا قبل الدُّخُول أَو بعده فِي نِكَاح أَو أنكحة (لم تحل) أَي الْمُطلقَة (لَهُ إِلَّا بعد وجود خَمْسَة أَشْيَاء) فِي الْمَدْخُول بهَا وعَلى وجود مَا عدا الأول مِنْهَا فِي غَيرهَا الأول (انْقِضَاء عدتهَا مِنْهُ) أَي الْمُطلق (و) الثَّانِي (تَزْوِيجهَا بِغَيْرِهِ) وَلَو عبدا أَو مَجْنُونا (و) الثَّالِث (دُخُوله بهَا وإصابتها) بِدُخُول حشفته أَو قدرهَا من مقطوعها وَلَو كَانَ عَلَيْهَا حَائِل كَأَن لف عَلَيْهَا خرقَة فَإِنَّهُ يَكْفِي تغييبها فِي قبلهَا خَاصَّة لَا فِي غَيره كدبرها كَمَا لَا يحصل بِهِ التحصين وَسَوَاء أولج هُوَ أم نزلت عَلَيْهِ فِي يقظة أَو نوم أَو أولج فِيهَا وَهِي نَائِمَة
(و) الرَّابِع (بينونتها مِنْهُ) أَي الزَّوْج الثَّانِي بِطَلَاق أَو فسخ أَو موت (و) الْخَامِس (انْقِضَاء عدتهَا مِنْهُ) لاستبراء رَحمهَا لاحْتِمَال علوقها من إِنْزَال حصل مِنْهُ
تَنْبِيه يشْتَرط انتشار الْآلَة وَإِن ضعف الانتشار واستعان بِأُصْبُعِهِ أَو أصبعها بِخِلَاف مَا لم ينتشر لشلل أَو عنة أَو غَيره فَالْمُعْتَبر الانتشار بِالْفِعْلِ لَا بِالْقُوَّةِ على الْأَصَح كَمَا أفهمهُ كَلَام الْأَكْثَرين وَصرح بِهِ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وصاحبا الْمُهَذّب وَالْبَيَان وَغَيرهم حَتَّى لَو أَدخل السَّلِيم ذكره بِأُصْبُعِهِ بِلَا انتشار لم يحلل كالطفل
فَمَا قيل إِن الانتشار بِالْفِعْلِ لم يقل بِهِ أحد مَمْنُوع
وَلَا بُد أَيْضا من صِحَة النِّكَاح فَلَا يحلل الْوَطْء فِي النِّكَاح الْفَاسِد وَلَا ملك الْيَمين وَلَا وَطْء الشُّبْهَة لِأَنَّهُ تَعَالَى علق الْحل بِالنِّكَاحِ وَهُوَ إِنَّمَا يتَنَاوَل النِّكَاح الصَّحِيح بِدَلِيل مَا لَو حلف لَا ينْكح لَا يَحْنَث بِمَا ذكر
وَكَون الزَّوْج مِمَّن يُمكن جمَاعه لَا طفْلا لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَلِك أَو يَتَأَتَّى مِنْهُ وَهُوَ رَقِيق لِأَن نِكَاحه إِنَّمَا يَتَأَتَّى بالإجبار وَقد مر أَنه مُمْتَنع فليحذر مِمَّا وَقع لبَعض الرؤساء والجهال من الْحِيلَة لدفع الْعَار من إنكاحها مَمْلُوكه الصَّغِير ثمَّ بعد وَطئه يملكهُ لَهَا لينفسخ النِّكَاح وَقد قيل إِن بعض الرؤساء فعل ذَلِك وأعادها فَلم يوفق الله بَينهمَا وتفرقا وَإِنَّمَا حرمت عَلَيْهِ إِلَى أَن تتحلل تنفيرا من الطَّلَاق الثَّلَاث وَلقَوْله تَعَالَى {فَإِن طَلقهَا} أَي الثَّالِثَة {فَلَا تحل لَهُ من بعد حَتَّى تنْكح زوجا غَيره}

(2/450)


تَتِمَّة يَكْفِي وَطْء محرم بنسك وَخصي وَلَو كَانَ صَائِما أَو كَانَت حَائِضًا أَو صَائِمَة أَو مُظَاهرا مِنْهَا أَو مُعْتَدَّة من شُبْهَة وَقعت فِي نِكَاح الْمُحَلّل أَو مُحرمَة بنسك لِأَنَّهُ وَطْء زوج فِي نِكَاح صَحِيح وَيشْتَرط فِي تَحْلِيل الْبكر الافتضاض كَمَا قَالَه الشَّيْخَانِ
وَتحل كِتَابِيَّة لمُسلم بِوَطْء مَجُوسِيّ أَو وَثني فِي نِكَاح نقرهم عَلَيْهِ وَلَو نكح الزَّوْج الثَّانِي بِشَرْط أَنه إِذا وَطئهَا طَلقهَا أَو فَلَا نِكَاح بَينهمَا وَشرط ذَلِك فِي صلب العقد لم يَصح النِّكَاح لِأَنَّهُ شَرط يمْنَع دوَام النِّكَاح فَأشبه التَّأْقِيت
وَلَو تواطأ العاقدان على شَيْء من ذَلِك قبل العقد ثمَّ عقدا بذلك الْقَصْد بِلَا شَرط كره
وَلَو نَكَحَهَا بِشَرْط أَن لَا يَطَأهَا وَأَن لَا يَطَأهَا إِلَّا نَهَارا أَو إِلَّا مرّة مثلا لم يَصح النِّكَاح إِن كَانَ الشَّرْط من جِهَتهَا لمنافاته مَقْصُود العقد فَإِن وَقع الشَّرْط مِنْهُ لم يضر لِأَن الْوَطْء حق لَهُ فَلهُ تَركه والتمكين حق عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَهَا تَركه وَيقبل قَول الْمُطلقَة ثَلَاثًا فِي التَّحْلِيل بِيَمِينِهَا عِنْد الْإِمْكَان وللأول تَزْوِيجهَا وَإِن ظن كذبهَا لَكِن يكره فَإِن قَالَ هِيَ كَاذِبَة منع من تَزْوِيجهَا إِلَّا إِن قَالَ بعده تبين لي صدقهَا وَلَو حرمت عَلَيْهِ زَوجته الْأمة بِإِزَالَة مَا يملكهُ عَلَيْهَا من الطَّلَاق ثمَّ اشْتَرَاهَا قبل التَّحْلِيل لم يحل لَهُ وَطْؤُهَا لظَاهِر الْقُرْآن

فصل فِي الْإِيلَاء
وَهُوَ لُغَة الْحلف
قَالَ الشَّاعِر وأكذب مَا يكون أَبُو الْمثنى إِذا آلى يَمِينا بِالطَّلَاق وَشرعا حلف زوج يَصح طَلَاقه على امْتِنَاعه من وَطْء زَوجته مُطلقًا أَو فَوق أَرْبَعَة أشهر كَمَا سَيَأْتِي
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة أشهر} الْآيَة وَإِنَّمَا عدي فِيهَا بِمن وَهُوَ إِنَّمَا يعدى

(2/451)


بعلى لِأَنَّهُ ضمن معنى الْبعد كَأَنَّهُ قَالَ للَّذين يؤلون مبعدين أنفسهم من نِسَائِهِم وَهُوَ حرَام للإيذاء
القَوْل فِي أَرْكَان الْإِيلَاء وأركانه سِتَّة حَالف ومحلوف بِهِ ومحلوف عَلَيْهِ وَمُدَّة وَصِيغَة وزوجان
وَالْمُصَنّف ذكر بَعْضهَا بقوله (وَإِذا حلف) أَي الزَّوْج باسم من أَسْمَائِهِ تَعَالَى أَو صفة من صِفَاته أَو بِالْتِزَام مَا يلْزم بِنذر أَو تَعْلِيق طَلَاق أَو عتق (أَن لَا يطَأ زَوجته) الْحرَّة أَو الْأمة وطئا شَرْعِيًّا فَهُوَ مول فَلَا إِيلَاء بحلفه على امْتِنَاعه من تمتعه بهَا بِغَيْر وَطْء وَلَا من وَطئهَا فِي دبرهَا أَو فِي قبلهَا فِي نَحْو حيض أَو إِحْرَام
ثمَّ أَشَارَ إِلَى الْمدَّة بقوله (مُطلقًا) بِأَن يُطلق كَقَوْلِه وَالله لَا أطؤك
(أَو مُدَّة تزيد على أَرْبَعَة أشهر) كَقَوْلِه وَالله لَا أطؤك خَمْسَة أشهر أَو قيد بمستبعد الْحُصُول فِيهَا كَقَوْلِه وَالله لَا أطؤك حَتَّى ينزل السَّيِّد عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَو حَتَّى أَمُوت أَو تموتي أَو يَمُوت فلَان (فَهُوَ مول) لضررها بِمَنْع نَفسه مِمَّا لَهَا فِيهِ حق العفاف وَخرج بِقَيْد الزَّوْجَة أمته فَلَا يَصح الْإِيلَاء مِنْهَا وبقيد الزِّيَادَة على أَرْبَعَة أشهر مَا إِذا حلف لَا يَطَؤُهَا مُدَّة وَسكت أَو لَا يَطَؤُهَا أَرْبَعَة أشهر فَإِنَّهُ لَا يكون موليا فيهمَا
أما الأول فلتردد اللَّفْظ بَين الْقَلِيل وَالْكثير
وَأما الثَّانِي فلصبرها عَن الزَّوْج هَذِه الْمدَّة
فَإِذا قَالَ وَالله لَا أطؤك أَرْبَعَة أشهر فَإِذا مَضَت فوَاللَّه لَا أطؤك أَرْبَعَة أشهر
فَلَيْسَ بمول لانْتِفَاء فَائِدَة الْإِيلَاء وَلكنه يَأْثَم لَكِن إِثْم الْإِيذَاء لَا إِثْم الْإِيلَاء
قَالَ فِي الْمطلب وَكَأَنَّهُ دون إِثْم الْمولي
وَيجوز أَن يكون فَوْقه لِأَن ذَلِك تقدر فِيهِ على رفع الضَّرَر
بِخِلَاف هَذَا فَإِنَّهُ لَا رفع لَهُ إِلَّا من جِهَة الزَّوْج بِالْوَطْءِ هَذَا إِذا أعَاد حرف الْقسم
فَلَو قَالَ وَالله لَا أطؤك أَرْبَعَة أشهر فَإِذا مَضَت فَلَا أطؤك أَرْبَعَة أشهر كَانَ موليا لِأَنَّهَا يَمِين وَاحِدَة اشْتَمَلت على أَكثر من أَرْبَعَة أشهر وَلَو قَالَ وَالله لَا أطؤك خَمْسَة أشهر فَإِذا مَضَت فوَاللَّه لَا أطؤك سِتَّة أشهر
فإيلاءان لكل مِنْهُمَا حكمه
وَشرط فِي الصِّيغَة لفظ يشْعر بالإيلاء وَفِي مَعْنَاهُ مَا مر فِي الضَّمَان وَذَلِكَ إِمَّا صَرِيح كتغييب حَشَفَة بفرج وَوَطْء وجماع
كَقَوْلِه وَالله لَا أغيب حشفتي بفرجك أَو لَا أطؤك أَو لَا أجامعك
فَإِن قَالَ أردْت بِالْوَطْءِ الْوَطْء بالقدم وبالجماع الِاجْتِمَاع لم يقبل فِي الظَّاهِر ويدين وَإِمَّا كِنَايَة كملامسة ومباضعة ومباشرة
كَقَوْلِه وَالله لَا أمسك أَو لَا أباضعك أَو لَا أباشرك فيفتقر إِلَى نِيَّة الْوَطْء لعدم اشتهارها فِيهِ
وَلَو

(2/452)


قَالَ إِن وَطئتك فَعَبْدي حر فَزَالَ ملكه عَنهُ بِمَوْت أَو بِغَيْرِهِ زَالَ الْإِيلَاء لِأَنَّهُ لَا يلْزمه بِالْوَطْءِ بعد ذَلِك شَيْء
وَلَو قَالَ إِن وَطئتك فضرتك طَالِق فمول من المخاطبة فَإِن وطأ فِي مُدَّة الْإِيلَاء أَو بعْدهَا طلقت الضرة لوُجُود الْمُعَلق عَلَيْهِ وَزَوَال الْإِيلَاء إِذْ لَا يلْزمه شَيْء بِوَطْئِهَا بعد وَلَو قَالَ وَالله لَا أطؤك سنة إِلَّا مرّة مثلا فمول إِن وطىء وَبَقِي من السّنة أَكثر من الْأَشْهر الْأَرْبَعَة لحُصُول الْحِنْث بِالْوَطْءِ بعد ذَلِك بِخِلَاف مَا لَو بَقِي أَرْبَعَة أشهر فَأَقل فَلَيْسَ بمول بل حَالف (ويؤجل لَهُ) بِمَعْنى يُمْهل الْوَلِيّ وجوبا (إِن سَأَلت) زَوجته (ذَلِك أَرْبَعَة أشهر) سَوَاء الْحر وَالرَّقِيق فِي الزَّوْج وَالزَّوْجَة من حِين الْإِيلَاء فِي غير رَجْعِيَّة وابتداؤه فِي رَجْعِيَّة آلى مِنْهَا من حِين الرّجْعَة
وَيقطع الْمدَّة ردة بعد دُخُول وَلَو من أَحدهمَا وَبعد الْمدَّة لارْتِفَاع النِّكَاح أَو اختلاله بهَا فَلَا يحْسب زَمَنهَا من الْمدَّة
ومانع وَطْء بِالزَّوْجَةِ حسي أَو شَرْعِي غير نَحْو حيض كنفاس وَذَلِكَ كَمَرَض وجنون ونشوز وتلبس بِفَرْض نَحْو صَوْم كاعتكاف وإحرام فرضين لِامْتِنَاع الْوَطْء مَعَه بمانع من قبلهَا وتستأنف الْمدَّة بِزَوَال الْقَاطِع وَلَا تبني على مَا مضى
تَنْبِيه مَا ذكره المُصَنّف من توقف التَّأْجِيل على سؤالها مَمْنُوع فَهُوَ مُخَالف لقَوْل الإِمَام الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب
فقد قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي الْأُم كَمَا فِي الْمطلب مَا نَصه وَمن حلف لَا يقرب امْرَأَته أَكثر من أَرْبَعَة أشهر فتركته امْرَأَته وَلم تطالبه حَتَّى مضى الْوَقْت الَّذِي حلف عَلَيْهِ فقد خرج من حكم الْإِيلَاء لِأَن الْيَمين سَاقِطَة عَنهُ
اه
فَلَو كَانَ التَّأْجِيل متوقفا على طلبَهَا لما حسبت الْمدَّة وَصرح الْأَصْحَاب بِضَرْب الْمدَّة بِنَفسِهَا سَوَاء علمت ثُبُوت حَقّهَا فِي الطّلب وَتركته قصدا أم لم تعلم حَتَّى انْقَضتْ الْمدَّة وَلَا تحْتَاج إِلَى ضرب القَاضِي لثبوتها بِنَصّ الْقُرْآن الْعَظِيم حَتَّى قَالَ فِي الرَّوْضَة لَو آلى ثمَّ غَابَ أَو آلى وَهُوَ غَائِب حسبت الْمدَّة (ثمَّ) إِذا مَضَت الْمدَّة وَلم يطَأ من غير مَانع بِالزَّوْجَةِ (يُخَيّر) الْمولي بطلبها (بَين الْفَيْئَة) بِأَن يولج الْمولي حشفته أَو قدرهَا

(2/453)


من مقطوعها بقبل الْمَرْأَة وَسمي الْوَطْء فيئة لِأَنَّهُ من فَاء إِذا رَجَعَ
(والتكفير) للْيَمِين إِن كَانَ حلفه بِاللَّه تَعَالَى على ترك وَطئهَا (أَو الطَّلَاق) للمحلوف عَلَيْهِ
تَنْبِيه كَيْفيَّة الْمُطَالبَة أَنَّهَا تطالبه أَولا بالفيئة الَّتِي امْتنع مِنْهَا فَإِن لم يفىء طالبته بِطَلَاق لقَوْله تَعَالَى {فَإِن فاؤوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم وَإِن عزموا الطَّلَاق فَإِن الله سميع عليم} وَلَو تركت حَقّهَا كَانَ لَهَا الْمُطَالبَة بعد ذَلِك لتجدد الضَّرَر وَلَيْسَ لسَيِّد الْأمة مُطَالبَته لِأَن التَّمَتُّع حَقّهَا وينتظر بُلُوغ المراهقة وَلَا يُطَالب وَليهَا لذَلِك
وَمَا ذكرته من التَّرْتِيب بَين مطالبتها بالفيئة وَالطَّلَاق هُوَ مَا ذكره الرَّافِعِيّ رَحمَه الله تَعَالَى تبعا لظَاهِر النَّص وَإِن كَانَ قَضِيَّة كَلَام الْمِنْهَاج أَنَّهَا تردد الطّلب بَينهمَا فَإِن كَانَ الْمَانِع بِالزَّوْجِ وَهُوَ طبعي كَمَرَض فتطالبه بالفيئة بِاللِّسَانِ بِأَن يَقُول إِذا قدرت فئت ثمَّ إِن لم يفىء طالبته بِطَلَاق أَو شَرْعِي كإحرام وَصَوْم وَاجِب فتطالبه بِالطَّلَاق لِأَنَّهُ الَّذِي يُمكنهُ لحُرْمَة الْوَطْء فَإِن عصى بِوَطْء لم يُطَالب لانحلال الْيَمين (فَإِن امْتنع) مِنْهُمَا أَي الْفَيْئَة وَالطَّلَاق
(طلق عَلَيْهِ الْحَاكِم) طَلْقَة نِيَابَة عَنهُ
لِأَنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى دوَام إضرارها وَلَا إِجْبَار على الْفَيْئَة لِأَنَّهَا لَا تدخل تَحت الْإِجْبَار وَالطَّلَاق يقبل النِّيَابَة فناب الْحَاكِم عَنهُ عِنْد الِامْتِنَاع فَيَقُول أوقعت على فُلَانَة على فلَان طَلْقَة كَمَا حُكيَ عَن الْإِمْلَاء أَو حكمت عَلَيْهِ فِي زَوجته بِطَلْقَة
تَنْبِيه يشْتَرط حُضُوره ليثبت امْتِنَاعه كالعضل إِلَّا إِن تعذر وَلَا يشْتَرط للطَّلَاق حُضُوره عِنْده وَلَا ينفذ طَلَاق القَاضِي فِي مُدَّة إمهاله وَلَا بعد وَطئه أَو طَلَاقه
وَإِن طلقا مَعًا وَقع الطلاقان وَإِن طلق القَاضِي مَعَ الْفَيْئَة لم يَقع الطَّلَاق لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَة وَإِن طلق الزَّوْج بعد طَلَاق القَاضِي وَقع الطَّلَاق إِن كَانَ طَلَاق القَاضِي رَجْعِيًا
تَتِمَّة لَو اخْتلف الزَّوْجَانِ فِي الْإِيلَاء أَو فِي انْقِضَاء مدَّته بِأَن ادَّعَتْهُ عَلَيْهِ فَأنْكر صدق بِيَمِينِهِ لِأَن الأَصْل عَدمه
وَلَو اعْترفت بِالْوَطْءِ بعد الْمدَّة وَأنْكرهُ سقط حَقّهَا من الطّلب عملا باعترافها وَلم يقبل رُجُوعهَا عَنهُ لاعترافها بوصول حَقّهَا إِلَيْهَا
وَلَو كرر يَمِين

(2/454)


الْإِيلَاء مرَّتَيْنِ فَأكْثر وَأَرَادَ بِغَيْر الأولى التَّأْكِيد لَهَا وَلَو تعدد الْمجْلس وَطَالَ الْفَصْل صدق بِيَمِينِهِ كَنَظِيرِهِ فِي تَعْلِيق الطَّلَاق وَفرق بَينهَا وَبَين تَنْجِيز الطَّلَاق بِأَن التَّنْجِيز إنْشَاء وإيقاع
وَالْإِيلَاء وَالتَّعْلِيق متعلقان بِأَمْر مُسْتَقْبل فالتأكيد بهما أليق أَو أَرَادَ الِاسْتِئْنَاف تعدّدت الْأَيْمَان وَإِن أطلق وَلم يرد تَأْكِيدًا وَلَا استئنافا فَوَاحِدَة إِن اتَّحد الْمجْلس حملا على التَّأْكِيد وَإِلَّا تعدّدت لبعد التَّأْكِيد مَعَ اخْتِلَاف الْمجْلس

فصل فِي الظِّهَار
هُوَ لُغَة مَأْخُوذ من الظّهْر لِأَن صورته الْأَصْلِيَّة أَن يَقُول لزوجته أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي وخصوا الظّهْر دون غَيره لِأَنَّهُ مَوضِع الرّكُوب وَالْمَرْأَة مركوب الزَّوْج وَكَانَ طَلَاقا فِي الْجَاهِلِيَّة كالإيلاء فَغير الشَّرْع حكمه إِلَى تَحْرِيمهَا بعد الْعود وَلُزُوم الْكَفَّارَة كَمَا سَيَأْتِي
وَحَقِيقَته الشَّرْعِيَّة تَشْبِيه الزَّوْج زَوجته فِي الْحُرْمَة بمحرمة كَمَا يُؤْخَذ مِمَّا سَيَأْتِي
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع آيَة {وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم} وَهُوَ من الْكَبَائِر قَالَ الله تَعَالَى {وَإِنَّهُم ليقولون مُنْكرا من القَوْل وزورا}
فَائِدَة سُورَة المجادلة فِي كل آيَة مِنْهَا اسْم الله تَعَالَى مرّة أَو مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآن سُورَة تشابههما وَهِي نصف الْقُرْآن عددا وعشره بِاعْتِبَار الْأَجْزَاء
وأركان الظِّهَار أَرْبَعَة صِيغَة وَمظَاهر وَمظَاهر مِنْهَا ومشبه بِهِ
القَوْل فِي صِيغَة الظِّهَار وَكلهَا تُؤْخَذ من قَوْله (وَالظِّهَار أَن يَقُول) أَي وصيغته وَهُوَ الرُّكْن الأول أَن يَقُول (الرجل) أَي الزَّوْج وَهُوَ الرُّكْن الثَّانِي (لزوجته) أَي الْمظَاهر مِنْهَا وَهُوَ الرُّكْن الثَّالِث (أَنْت عَليّ) أَو مني أَو معي أَو عِنْدِي (كَظهر أُمِّي) أَي مركبي مِنْك حرَام كمركبي من أُمِّي وَهَذَا هُوَ الْمُشبه بِهِ وَهُوَ الرُّكْن الرَّابِع فقد حصل من كَلَام المُصَنّف جَمِيع الْأَركان وَلَكِن لَهَا شُرُوط فَشرط فِي الصِّيغَة لفظ يشْعر بالظهار
وَفِي مَعْنَاهُ مَا مر فِي الضَّمَان وَذَلِكَ إِمَّا صَرِيح كَأَنْت أَو رَأسك أَو يدك وَلَو بِدُونِ عَليّ كَظهر أُمِّي أَو كيدها أَو كِنَايَة كَأَنْت كأمي أَو كعينها أَو غَيرهَا مِمَّا يذكر للكرامة كرأسها
القَوْل فِي شَرط الْمظَاهر وَشرط فِي الْمظَاهر كَونه زوجا يَصح طَلَاقه وَلَو عبدا أَو كَافِرًا أَو خَصيا أَو مجبوبا أَو سكرانا فَلَا يَصح من غير زوج وَإِن نكح من ظَاهر مِنْهَا وَلَا من صبي وَمَجْنُون ومكره
القَوْل فِي شَرط الْمظَاهر مِنْهَا وَشرط فِي الْمظَاهر مِنْهَا كَونهَا زَوْجَة وَلَو أمة أَو صَغِيرَة أَو مَجْنُونَة أَو رتقاء أَو قرناء أَو رَجْعِيَّة لَا أَجْنَبِيَّة وَلَو مختلعة أَو أمة كَالطَّلَاقِ فَلَو قَالَ لأجنبية إِن نكحتك فَأَنت عَليّ كَظهر أُمِّي أَو قَالَ السَّيِّد لأمته أَنْت

(2/455)


عَليّ كَظهر أُمِّي لم يَصح وَشرط فِي الْمُشبه بِهِ كَونه كل أُنْثَى محرم أَو جُزْء أُنْثَى محرم بِنسَب أَو رضَاع أَو مصاهرة لَهُ تكن حلا للزَّوْج كبنته وَأُخْته من نسب ومرضعة أَبِيه أَو أمه وَزَوْجَة أَبِيه الَّتِي نَكَحَهَا قبل وِلَادَته أَو مَعهَا فِيمَا يظْهر بِخِلَاف غير الْأُنْثَى من ذكر وَخُنْثَى لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحل التَّمَتُّع وَبِخِلَاف من كَانَت حَلَاله كَزَوْجَة ابْنه وَبِخِلَاف أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن تحريمهن لَيْسَ للمحرمية بل لشرفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأما أُخْته من الرَّضَاع فَإِن كَانَت وِلَادَتهَا قبل إرضاعه فَلَا يَصح التَّشْبِيه بهَا وَإِن كَانَت بعده صَحَّ وَكَذَا إِن كَانَت مَعَه فِيمَا يظْهر
تَنْبِيه يَصح تأقيت الظِّهَار كَأَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي يَوْمًا تَغْلِيبًا للْيَمِين
فَلَو قَالَ أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي خَمْسَة أشهر كَانَ ظِهَارًا مؤقتا وإيلاء لامتناعه من وَطئهَا فَوق أَرْبَعَة أشهر وَيصِح تَعْلِيقه لِأَنَّهُ يتَعَلَّق بِالتَّحْرِيمِ فَأشبه الطَّلَاق فَلَو قَالَ إِن ظَاهَرت من ضرتك فَأَنت عَليّ كَظهر أُمِّي فَظَاهر مِنْهَا فمظاهر مِنْهُمَا عملا بِمُقْتَضى التَّنْجِيز وَالتَّعْلِيق
القَوْل فِي مُضِيّ الْعود فِي الظِّهَار (فَإِذا قَالَ) الْمظَاهر (ذَلِك وَلم يتبعهُ بِالطَّلَاق) بِأَن يمْسِكهَا بعد ظِهَاره زمن إِمْكَان فرقة وَلم يفعل (صَار عَائِدًا) لِأَن تشبيهها بِالْأُمِّ مثلا يَقْتَضِي أَن لَا يمْسِكهَا زَوْجَة فَإِن أمْسكهَا زَوْجَة بعد عَاد فِيمَا قَالَ لِأَن الْعود لِلْقَوْلِ مُخَالفَته
يُقَال قَالَ فلَان قولا ثمَّ عَاد لَهُ وَعَاد فِيهِ أَي خَالفه ونقضه وَهُوَ قريب من قَوْلهم عَاد فِي هِبته
تَنْبِيه هَذَا فِي الظِّهَار المؤبد أَو الْمُطلق وَفِي غير الرَّجْعِيَّة لِأَنَّهُ فِي الظِّهَار الْمُؤَقت إِنَّمَا يصير عَائِدًا بِالْوَطْءِ فِي الْمدَّة كَمَا سَيَأْتِي لَا بالإمساك وَالْعود فِي الرَّجْعِيَّة إِنَّمَا هُوَ بالرجعة وَاسْتثنى من كَلَامه مَا إِذا كرر لفظ الظِّهَار وَقصد بِهِ التَّأْكِيد فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعُود على الْأَصَح مَعَ تمكنه بالإتيان بِلَفْظ الطَّلَاق بدل التَّأْكِيد وَمَا تقدم من حُصُول الْعود بِمَا ذكر مَحَله إِذا لم يتَّصل بالظهار فرقة بِسَبَب من أَسبَابهَا فَلَو اتَّصَلت بالظهار فرقة جرت مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا أَو فسخ نِكَاح بِسَبَبِهِ أَو بِسَبَبِهَا أَو بانفساخ كردة قبل الدُّخُول أَو فرقة بِسَبَب طَلَاق بَائِن أَو رَجْعِيّ وَلم يُرَاجع أَو جن الزَّوْج عقب ظِهَاره فَلَا عود وَلَو رَاجع من طَلقهَا عقب ظِهَاره أَو ارْتَدَّ بعد دُخُول مُتَّصِلا ثمَّ أسلم بعد ردته فِي الْعدة صَار عَائِدًا بالرجعة وَإِن لم يمْسِكهَا عقب الرّجْعَة بل طَلقهَا لَا الْإِسْلَام بل هُوَ عَائِد بعده إِن مضى بعد الْإِسْلَام زمن يسع الْفرْقَة وَالْفرق أَن مَقْصُود الرّجْعَة الاستباحة ومقصود الْإِسْلَام الرُّجُوع إِلَى الدّين الْحق فَلَا يحصل بِهِ إمْسَاك إِنَّمَا يحصل بعد (و) إِذا صَار عَائِدًا (لَزِمته الْكَفَّارَة) لقَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم ثمَّ يعودون لما قَالُوا}

(2/456)


الْآيَة وَهل وَجَبت الْكَفَّارَة بالظهار وَالْعود أَو بالظهار وَالْعود شَرط أَو بِالْعودِ فَقَط لِأَنَّهُ الْجُزْء الْأَخير أوجه ذكرهَا فِي أصل الرَّوْضَة بِلَا تَرْجِيح وَالْأول هُوَ ظَاهر الْآيَة الْمُوَافق لترجيحهم أَن كَفَّارَة الْيَمين تجب بِالْيَمِينِ والحنث جَمِيعًا
وَلَا تسْقط الْكَفَّارَة بعد الْعود بفرقة لمن ظَاهر مِنْهَا بِطَلَاق أَو غَيره لاستقرارها بالإمساك وَلَو قَالَ لزوجاته الْأَرْبَع أنتن عَليّ كَظهر أُمِّي فمظاهر مِنْهُنَّ فَإِن أمسكهن زَمنا يسع طلاقهن فعائد مِنْهُنَّ فَيلْزمهُ أَربع كَفَّارَات فَإِن ظَاهر مِنْهُنَّ بِأَرْبَع كَلِمَات صَار عَائِدًا من كل وَاحِدَة من الثَّلَاث الأول وَلَزِمَه ثَلَاث كَفَّارَات وَأما الرَّابِعَة فَإِن فَارقهَا عقب ظهارها فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ فِيهَا وَإِلَّا فَعَلَيهِ كَفَّارَة
(وَالْكَفَّارَة) مَأْخُوذَة من الْكفْر وَهُوَ السّتْر لسترها للذنب تَخْفِيفًا من الله تَعَالَى وَسمي الزراع كَافِرًا لِأَنَّهُ يستر الْبذر
وتنقسم الْكَفَّارَة إِلَى نَوْعَيْنِ مخيرة فِي أَولهَا ومرتبة فِي آخرهَا وَهِي كَفَّارَة الْيَمين ومرتبة فِي كلهَا وَهِي كَفَّارَة الْقَتْل وَالْجِمَاع فِي نَهَار رَمَضَان وَالظِّهَار
وَالْكَلَام الْآن فِي كَفَّارَة الظِّهَار وخصالها ثَلَاثَة الأول (عتق رَقَبَة) لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة وللرقبة المجزئة فِي الْكَفَّارَة أَرْبَعَة شُرُوط ذكر المُصَنّف مِنْهَا شرطين الشَّرْط الأول مَا ذكره بقوله (مُؤمنَة) وَلَو بِإِسْلَام أحد الْأَبَوَيْنِ أَو تبعا للسابي أَو الدَّار قَالَ تَعَالَى فِي كَفَّارَة الْقَتْل {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} وَألْحق بهَا غَيرهَا قِيَاسا عَلَيْهَا أَو حملا لإِطْلَاق آيَة الظِّهَار على الْمُقَيد فِي آيَة الْقَتْل كحمل الْمُطلق فِي قَوْله تَعَالَى {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} على الْمُقَيد فِي قَوْله تَعَالَى {وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم} الشَّرْط الثَّانِي مَا ذكره بقوله (سليمَة من الْعُيُوب الْمضرَّة بِالْعَمَلِ) إِضْرَارًا بَينا لِأَن الْمَقْصُود تَكْمِيل حَاله ليتفرغ لوظائف الْأَحْرَار
وَإِنَّمَا يحصل ذَلِك إِذا اسْتَقل بكفاية نَفسه وَإِلَّا فَيصير كلا على نَفسه أَو على غَيره
تَنْبِيه قَالَ الْأَصْحَاب مُلَاحظَة الشَّافِعِي فِي الْعَيْب هُنَا مَا يضر بِالْعَمَلِ نَظِير ملاحظته فِي عيب الْأُضْحِية مَا ينقص اللَّحْم لِأَنَّهُ الْمَقْصُود فِيهَا وَفِي عيب النِّكَاح مَا يخل بمقصود الْجِمَاع وَفِي عيب الْمَبِيع مَا يخل بالمالية فَاعْتبر فِي كل مَوضِع مَا يَلِيق بِهِ فيجزىء صَغِير وَلَو ابْن يَوْم حكم بِإِسْلَامِهِ لإِطْلَاق الْآيَة الْكَرِيمَة وَلِأَنَّهُ يُرْجَى كبره كَالْمَرِيضِ يُرْجَى بُرْؤُهُ وأقرع وَهُوَ من لَا نَبَات بِرَأْسِهِ وأعرج يُمكنهُ تتَابع الْمَشْي بِأَن يكون عرجه غير شَدِيد وأعور لم يضعف عوره بصر عينه السليمة وأصم وَهُوَ فَاقِد السّمع وأخرس إِذا فهمت إِذا فهمت إِشَارَته وَيفهم بِالْإِشَارَةِ وفاقد أَنفه وفاقد أُذُنَيْهِ وفاقد أَصَابِع رجلَيْهِ وَلَا يجزىء زمن وَلَا فَاقِد رجل أَو خنصر وبنصر من يَد أَو فَاقِد أنملتين من غَيرهمَا وَلَا فَاقِد أُنْمُلَة إِبْهَام لتعطل مَنْفَعَة الْيَد
وَلَا يجزىء هرم عَاجز وَلَا مَرِيض لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ
فَإِن برىء بَان الْإِجْزَاء على الْأَصَح
الشَّرْط الثَّالِث كَمَال الرّقّ فِي الْإِعْتَاق عَن الْكَفَّارَة فَلَا يجزىء شِرَاء قريب يعْتق عَلَيْهِ بِمُجَرَّد الشِّرَاء بِأَن كَانَ أصلا أَو فرعا

(2/457)


بنية عتقه عَن كَفَّارَته لِأَن عتقه مُسْتَحقّ بِجِهَة الْقَرَابَة فَلَا ينْصَرف عَنْهَا إِلَى الْكَفَّارَة وَلَا عتق أم ولد لاستحقاقها الْعتْق وَلَا عتق ذِي كِتَابَة صَحِيحَة لِأَن عتقه يَقع بِسَبَب الْكِتَابَة ويجزىء مُدبر ومعلق عتقه بِصفة
الشَّرْط الرَّابِع خلو الرَّقَبَة عَن شوب الْعِوَض فَلَو أعتق عَبده عَن كَفَّارَته بعوض يَأْخُذهُ من الرَّقِيق كأعتقتك عَن كفارتي على أَن ترد عَليّ ألفا أَو على أَجْنَبِي كأعتقت عَبدِي هَذَا عَن كفارتي بِأَلف لي عَلَيْك فَقيل لم يجز ذَلِك الْإِعْتَاق عَن كَفَّارَته
وَضَابِط من يلْزمه الْعتْق كل من ملك رَقِيقا أَو ثمنه من نقد أَو عرض فَاضلا عَن كِفَايَة نَفسه وَعِيَاله الَّذين تلْزمهُ مؤنتهم شرعا نَفَقَة وَكِسْوَة وسكنى وأثاثا وإخداما لَا بُد مِنْهُ لزمَه الْعتْق
قَالَ الرَّافِعِيّ وسكتوا عَن تَقْدِير مُدَّة النَّفَقَة وَبَقِيَّة الْمُؤَن فَيجوز أَن يقدر ذَلِك بالعمر الْغَالِب وَأَن يقدر بِسنة وَصوب فِي الرَّوْضَة مِنْهُمَا
الثَّانِي وَقَضِيَّة ذَلِك أَنه لَا نقل فيهمَا مَعَ أَن مَنْقُول الْجُمْهُور الأول وَهُوَ الْمُعْتَمد
وَلَا يجب على الْمُكَفّر بيع ضيعته وَهِي بِفَتْح الضَّاد الْعقار وَلَا بيع رَأس مَال تِجَارَته بِحَيْثُ لَا يفضل دخلهما من غلَّة الضَّيْعَة وَربح مَال التِّجَارَة عَن كِفَايَته لممونه لتَحْصِيل رَقِيق يعتقهُ وَلَا بيع مسكن ورقيق نفيسين ألفهما لعسر مُفَارقَة المألوف وَلَا يجب شِرَاء بِغَبن وَأظْهر الْأَقْوَال اعْتِبَار الْيَسَار الَّذِي يلْزمه بِهِ الْإِعْتَاق بِوَقْت الْأَدَاء لَا بِوَقْت الْوُجُوب وَلَا بِأَيّ وَقت كَانَ
ثمَّ شرع فِي الْخصْلَة الثَّانِيَة من خِصَال الْكَفَّارَة فَقَالَ (فَإِن لم يجد) رَقَبَة يعتقها بِأَن عجز عَنْهَا حسا أَو شرعا (فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين) لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة
فَلَو تكلّف الْإِعْتَاق بالاستقراض أَو غَيره أَجزَأَهُ لِأَنَّهُ ترقى إِلَى الرُّتْبَة الْعليا وَيعْتَبر الشهران بالهلال وَلَو نقصا وَيكون صومهما بنية الْكَفَّارَة لكل يَوْم مِنْهُمَا كَمَا هُوَ مَعْلُوم فِي صَوْم الْفَرْض
وَيجب تبييت النِّيَّة كَمَا فِي صَوْم رَمَضَان وَلَا يشْتَرط نِيَّة التَّتَابُع اكْتِفَاء بالتتابع الْفعْلِيّ فَإِن بَدَأَ بِالصَّوْمِ فِي أثْنَاء شهر حسب الشَّهْر بعده بالهلال وَأتم الأول من الثَّالِث ثَلَاثِينَ يَوْمًا ويفوت التَّتَابُع بِفَوَات يَوْم بِلَا عذر وَلَو كَانَ الْيَوْم الْأَخير
أما إِذا فَاتَ بِعُذْر فَإِن كَانَ كجنون لم يضر لِأَنَّهُ يُنَافِي الصَّوْم أَو كَمَرَض مسوغ للفطر ضرّ لِأَن الْمَرَض لَا يُنَافِي الصَّوْم
ثمَّ شرع فِي الْخصْلَة الثَّالِثَة من خِصَال الْكَفَّارَة فَقَالَ (فَإِن لم يسْتَطع) أَي الصَّوْم المتتابع لهرم أَو لمَرض يَدُوم شَهْرَيْن ظنا الْمُسْتَفَاد من الْعَادة فِي مثله أَو من قَول الْأَطِبَّاء أَو لمَشَقَّة شَدِيدَة وَلَو كَانَت الْمَشَقَّة لشبق وَهُوَ شدَّة الغلمة أَي شَهْوَة الْوَطْء أَو خوف زِيَادَة مرض (فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا) لِلْآيَةِ السَّابِقَة أَو فَقِيرا لِأَنَّهُ أَسْوَأ حَالا مِنْهُ وَيَكْفِي الْبَعْض مَسَاكِين وَالْبَعْض فُقَرَاء
تَنْبِيه قَوْله فإطعام تبع فِيهِ لفظ الْقُرْآن الْكَرِيم وَالْمرَاد تمليكهم كَقَوْل جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أطْعم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجدّة السُّدس أَي ملكهَا فَلَا يَكْفِي التغدية وَلَا التعشية وَهل يشْتَرط اللَّفْظ أَو يَكْفِي الدّفع عبارَة الرَّوْضَة تَقْتَضِي اللَّفْظ لِأَنَّهُ عبر بالتمليك قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَهُوَ بعيد
أَي فَلَا يشْتَرط لفظ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر كدفع الزَّكَاة وَلَا يَكْفِي تَمْلِيكه كَافِرًا وَلَا هاشميا وَلَا مطلبيا وَلَا من تلْزمهُ نَفَقَته كزوجته وقريبه وَلَا إِلَى مكفي بِنَفَقَة قريب أَو زوج وَلَا إِلَى عبد وَلَو مكَاتبا لِأَنَّهَا حق الله تَعَالَى فَاعْتبر فِيهَا صِفَات الزَّكَاة وَيصرف للستين الْمَذْكُورين سِتِّينَ مدا
(كل مِسْكين مد) كَأَن يَضَعهَا

(2/458)


بَين أَيْديهم ويملكها لَهُم بِالسَّوِيَّةِ أَو يُطلق فَإِذا قبلوا ذَلِك أَجْزَأَ على الصَّحِيح
فَلَو فاوت بَينهم بِتَمْلِيك وَاحِد مَدين وَآخر مدا أَو نصف مد لم يجزه وَلَو قَالَ خذوه وَنوى بِالسَّوِيَّةِ أَجْزَأَ فَإِن تفاوتوا لم يجزه إِلَّا مد وَاحِد مَا لم يتَبَيَّن مَعَه من أَخذ مدا آخر
وَهَكَذَا وجنس الأمداد من جنس الْحبّ الَّذِي يكون فطْرَة فَيخرج من غَالب قوت بلد الْمُكَفّر فَلَا يجزىء نَحْو الدَّقِيق والسويق وَالْخبْز وَاللَّبن
ويجزىء الأقط كَمَا يجزىء فِي الْفطْرَة
القَوْل فِي وجوب التَّكْفِير قبل الْوَطْء (وَلَا يحل للمظاهر) ظِهَارًا مُطلقًا (وَطْؤُهَا) أَي زَوجته الَّتِي ظَاهر مِنْهَا (حَتَّى يكفر) لقَوْله تَعَالَى فِي الْعتْق {فَتَحْرِير رَقَبَة من قبل أَن يتماسا} وَيقدر من قبل أَن يتماسا فِي الْإِطْعَام حملا للمطلق على الْمُقَيد لِاتِّحَاد الْوَاقِعَة وَخرج بِالْوَطْءِ غَيره كاللمس وَنَحْوه كالقبلة بِشَهْوَة فَإِنَّهُ جَائِز فِي غير مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة أما مَا بَينهمَا فَيحرم كَمَا رَجحه الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير وَيصِح الظِّهَار الْمُؤَقت كَمَا مر وَيَقَع مؤقتا وَعَلِيهِ إِنَّمَا يحصل الْعود فِيهِ بِالْوَطْءِ فِي الْمدَّة لِأَن الْحل منتظر بعد الْمدَّة فالإمساك يحْتَمل أَن يكون لانتظار الْحل وَالْوَطْء فِي الْمدَّة وَالْأَصْل بَرَاءَته من الْكَفَّارَة وكالتكفير مُضِيّ الْوَقْت لانتهائه بهَا
تَتِمَّة إِذا عجز من لَزِمته الْكَفَّارَة عَن جَمِيع الْخِصَال بقيت فِي ذمَّته إِلَى أَن يقدر على شَيْء مِنْهَا فَلَا يطَأ الْمظَاهر حَتَّى يكفر وَلَا تجزىء كَفَّارَة ملفقة من خَصْلَتَيْنِ كَأَن يعْتق نصف رَقَبَة ويصوم شهرا أَو يَصُوم شهرا وَيطْعم ثَلَاثِينَ
فَإِن وجد بعض الرَّقَبَة صَامَ لِأَنَّهُ عادم لَهَا بِخِلَاف مَا إِذا وجد بعض الطَّعَام فَإِنَّهُ يُخرجهُ وَلَو بعض مد لِأَنَّهُ لَا بدل لَهُ والميسور لَا يسْقط بالمعسور وَيبقى الْبَاقِي فِي ذمَّته فِي أحد وَجْهَيْن يظْهر تَرْجِيحه لِأَن الْفَرْض أَن الْعَجز عَن جَمِيع الْخِصَال لَا يسْقط الْكَفَّارَة وَلَا نظر إِلَى توهم كَونه فعل شَيْئا وَإِذا اجْتمع عَلَيْهِ كفارتان وَلم يقدر إِلَّا على رَقَبَة أعْتقهَا عَن إِحْدَاهمَا وَصَامَ عَن الْأُخْرَى إِن قدر وَإِلَّا أطْعم

فصل فِي اللّعان
هُوَ لُغَة المباعدة وَمِنْه لَعنه الله أَي أبعده وطرده وَسمي بذلك لبعد الزَّوْجَيْنِ من الرَّحْمَة أَو لبعد كل مِنْهُمَا عَن الآخر فَلَا يَجْتَمِعَانِ أبدا وَشرعا كَلِمَات مَعْلُومَة جعلت حجَّة للْمُضْطَر إِلَى قذف من لطخ فرَاشه إِن كَانَ من الْكَاذِبين وإطلاقه فِي جَانب الْمَرْأَة من مجَاز التغليب واختير لَفظه دون لفظ لغضب وَإِن كَانَا موجودين فِي اللّعان لكَون اللَّعْنَة مُتَقَدّمَة فِي الْآيَة الْكَرِيمَة وَلِأَن لِعَانه قد يَنْفَكّ عَن لعانها وَلَا ينعكس
وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم} الْآيَات وَسبب نُزُولهَا وَألْحق الْعَار بِهِ وَسميت هَذِه الْكَلِمَات لعانا

(2/459)


لقَوْل الرجل عَلَيْهِ لعنة الله ذكرته فِي شرح الْبَهْجَة وَغَيره
وَهِي يَمِين مُؤَكدَة بِلَفْظ الشَّهَادَة كَمَا هُوَ فِي الرَّوْضَة عَن الْأَصْحَاب فَلَا يَصح لعان صبي وَمَجْنُون وَلَا يَقْتَضِي قذفهما لعانا بعد كمالهما وَلَا عُقُوبَة كَمَا فِي الرَّوْضَة وَلم يَقع بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة لعان بعد اللّعان الَّذِي وَقع بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا فِي أَيَّام عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
(وَإِذا رمى) أَي قذف (الرجل) الْمُكَلف (زَوجته) المحصنة (بِالزِّنَا) صَرِيحًا كزنيت وَلَو مَعَ قَوْله فِي الْجَبَل أَو يَا زَانِيَة أَو زنى فرجك أَو يَا قحبة
كَمَا أفتى بِهِ ابْن عبد السَّلَام أَو كِنَايَة كزنأت فِي الْجَبَل بِالْهَمْز لِأَن الزنء هُوَ الصعُود بِخِلَاف زنأت فِي الْبَيْت بِالْهَمْز
فصريح لِأَنَّهُ لَا يسْتَعْمل بِمَعْنى الصعُود فِي الْبَيْت وَنَحْوه زَاد فِي الرَّوْضَة أَن هَذَا كَلَام الْبَغَوِيّ وَأَن غَيره قَالَ إِن لم يكن للبيت درج يصعد إِلَيْهِ فِيهَا فصريح قطعا
أَو يَا فاجرة أَو يَا فاسقة أَو أَنْت تحبين الْخلْوَة بِالرجلِ أَو لم أجدك بكرا وَنوى بذلك الْقَذْف (فَعَلَيهِ) لَهَا (حد الْقَذْف) للإيذاء وَخرج بِقَيْد المحصنة غَيرهَا
والمحصن الَّذِي يحد قَاذفه مُكَلّف وَمثله السَّكْرَان الْمُتَعَدِّي بسكره حر مُسلم عفيف عَن وَطْء يحد بِهِ فَلَا يحد بِقَذْف زَوجته الصَّغِيرَة الَّتِي لَا تحْتَمل الْوَطْء وَلَا الْبكر قبل دُخُوله بهَا

(2/460)


(إِلَّا أَن يُقيم الْبَيِّنَة) بزناها فيرتفع عَنهُ الْحَد أَو التَّعْزِير لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لهِلَال بن أُميَّة حِين قذف زَوجته بِشريك ابْن سمحاء الْبَيِّنَة أَو حد فِي ظهرك فَقَالَ وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ نَبيا إِنِّي لصَادِق ولينزلن الله فِي أَمْرِي مَا يبرىء ظَهْري من الْحَد فَنزلت آيَات اللّعان الحَدِيث وَهُوَ بِطُولِهِ فِي صَحِيح البُخَارِيّ فَدلَّ على ارْتِفَاع الْحَد بِالْبَيِّنَةِ (أَو يُلَاعن) لدفع الْحَد إِن اخْتَارَهُ لحَدِيث هِلَال وَله الِامْتِنَاع وَعَلِيهِ حد الْقَذْف كَمَا فِي الرَّوْضَة
وَيشْتَرط لصِحَّة اللّعان سبق قذفه زَوجته تَقْدِيمًا للسبب على الْمُسَبّب كَمَا هُوَ مُسْتَفَاد من صَنِيع المُصَنّف وَبِه صرح الْأَصْحَاب لِأَن اللّعان إِنَّمَا شرع لخلاص الْقَاذِف من الْحَد
قَالَ فِي الْمُهَذّب لِأَن الزَّوْج يبتلى بِقَذْف امْرَأَته لدفع الْعَار وَالنّسب الْفَاسِد
وَقد يتَعَذَّر عَلَيْهِ إِقَامَة الْبَيِّنَة فَجعل اللّعان بَيِّنَة لَهُ فَلهُ قَذفهَا إِذا تحقق زنَاهَا بِأَن رَآهَا تَزني أَو ظن زنَاهَا ظنا مؤكدا أورثه الْعلم كشياع زنَاهَا بزيد مصحوب بِقَرِينَة كَأَن رَآهَا وَلَو مرّة وَاحِدَة فِي خلْوَة أَو رَآهُ يخرج من عِنْدهَا أَو هِيَ تخرج من عِنْده أَو رأى رجلا مَعهَا مرَارًا فِي مَحل رِيبَة أَو مرّة تَحت شعار فِي هَيْئَة مُنكرَة أما مُجَرّد الإشاعة فَقَط أَو الْقَرِينَة فَقَط فَلَا يجوز لَهُ اعْتِمَاد وَاحِد مِنْهُمَا أما الإشاعة فقد يشيعه عَدو لَهَا أَو من يطْمع فِيهَا فَلم يظفر بِشَيْء وَأما مُجَرّد الْقَرِينَة الْمَذْكُورَة فَلِأَنَّهُ رُبمَا دخل عَلَيْهَا لخوف أَو سَرقَة أَو طمع أَو نَحْو ذَلِك وَالْأولَى لَهُ كَمَا فِي زَوَائِد الرَّوْضَة أَن يستر عَلَيْهَا ويطلقها إِن كرهها لما فِيهِ من ستر الْفَاحِشَة وإقالة العثرة
هَذَا حَيْثُ لَا ولد يَنْفِيه فَإِن كَانَ هُنَاكَ ولد يَنْفِيه بِأَن علم أَنه لَيْسَ مِنْهُ لزمَه نَفْيه لِأَن ترك النَّفْي يتَضَمَّن استلحاقه واستلحاق من لَيْسَ مِنْهُ حرَام كَمَا يحرم نفي من هُوَ مِنْهُ
وَإِنَّمَا يعلم إِذا لم يَطَأهَا أَو وَطئهَا وَلَكِن وَلدته لدوّنَ سِتَّة أشهر من وَطئه الَّتِي هِيَ أقل مُدَّة الْحمل أَو لفوق أَربع سِنِين من الْوَطْء الَّتِي هِيَ أَكثر مُدَّة الْحمل فَلَو علم زنَاهَا وَاحْتمل كَون الْوَلَد مِنْهُ وَمن الزِّنَا وَإِن لم يَسْتَبْرِئهَا بعد وَطئه حرم النَّفْي رِعَايَة للْفراش وَكَذَا الْقَذْف وَاللّعان على الصَّحِيح لِأَن اللّعان حجَّة ضَرُورِيَّة إِنَّمَا يُصَار إِلَيْهَا لدفع النّسَب أَو قطع النِّكَاح حَيْثُ لَا ولد على الْفراش الملطخ وَقد حصل الْوَلَد هُنَا فَلم يبْق لَهُ فَائِدَة والفراق يُمكن بِالطَّلَاق
ثمَّ شرع فِي كَيْفيَّة اللّعان بقوله (فَيَقُول) أَي الزَّوْج (عِنْد الْحَاكِم) أَو نَائِبه إِذْ اللّعان لَا يعْتَبر إِلَّا بِحُضُورِهِ والمحكم حَيْثُ لَا ولد كالحاكم أما إِذا كَانَ هُنَاكَ ولد فَلَا يَصح التَّحْكِيم
إِلَّا أَن يكون مُكَلّفا ويرضى بِحكمِهِ لِأَن لَهُ حَقًا فِي النّسَب فَلَا يُؤثر رضاهما فِي حَقه
وَالسَّيِّد فِي اللّعان بَين أمته وَعَبده إِذا زَوجهَا مِنْهُ كالحاكم لِأَن لَهُ أَن يتَوَلَّى لعان رَقِيقه وَيسن التَّغْلِيظ فِي اللّعان بِالْمَكَانِ وَالزَّمَان
أما الْقسم الأول وَهُوَ التَّغْلِيظ بِالْمَكَانِ فَيكون فِي أشرف مَوضِع بلد اللّعان لِأَن فِي ذَلِك تَأْثِيرا فِي الزّجر عَن الْيَمين الْفَاجِرَة فَإِن كَانَ فِي غير الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة فَيكون (فِي الْجَامِع على الْمِنْبَر) كَمَا صَححهُ صَاحب الْكَافِي لِأَن الْجَامِع هُوَ الْمُعظم من تِلْكَ الْبَلدة والمنبر أولى فَإِن كَانَ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام فَبين الرُّكْن الَّذِي فِيهِ الْحجر الْأسود وَبَين مقَام إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَيُسمى مَا بَينهمَا بِالْحَطِيمِ
فَإِن قيل لَا شَيْء فِي مَكَّة أشرف من الْبَيْت
أُجِيب بِأَن عدولهم عَنهُ صِيَانة لَهُ عَن ذَلِك وَإِن كَانَ فِي مَسْجِد الْمَدِينَة فعلى الْمِنْبَر كَمَا فِي الْأُم والمختصر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حلف على منبري هَذَا يَمِينا آثِما تبوأ مَقْعَده من النَّار وَإِن كَانَ فِي بَيت الْمُقَدّس فَعِنْدَ الصَّخْرَة لِأَنَّهَا أشرف بقاعه لِأَنَّهَا قبْلَة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم

(2/461)


الصَّلَاة وَالسَّلَام
وَفِي صَحِيح ابْن حبَان أَنَّهَا من الْجنَّة وتلاعن امْرَأَة حَائِض أَو نفسَاء أَو متحيرة مسلمة بِبَاب الْجَامِع لتَحْرِيم مكثها فِيهِ
وَالْبَاب أقرب إِلَى الْمَوَاضِع الشَّرِيفَة ويلاعن الزَّوْج فِي الْمَسْجِد فَإِذا فرغ خرج الْحَاكِم أَو نَائِبه إِلَيْهَا ويغلظ على الْكَافِر الْكِتَابِيّ إِذا ترافعوا إِلَيْنَا فِي بيعَة وَهِي بِكَسْر الْمُوَحدَة معبد النَّصَارَى وَفِي كَنِيسَة وَهِي معبد الْيَهُود وَفِي بَيت نَار مَجُوسِيّ لَا بَيت أصنام وَثني لِأَنَّهُ لَا حُرْمَة لَهُ وَأما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ التَّغْلِيظ بِالزَّمَانِ فِي الْمُسلم فَيكون بعد صَلَاة عصر كل يَوْم إِن كَانَ طلبه حثيثا لِأَن الْيَمين الْفَاجِرَة بعد الْعَصْر أغْلظ عُقُوبَة لخَبر الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم
وعد مِنْهُم رجلا حلف على يَمِين كَاذِبَة بعد الْعَصْر يقتطع بهَا مَال امرىء مُسلم فَإِن لم يكن طلب حثيث فَبعد صَلَاة عصر يَوْم الْجُمُعَة لِأَن سَاعَة الْإِجَابَة فِيهِ
كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَصَححهُ الْحَاكِم
وروى مُسلم أَنَّهَا من مجْلِس الإِمَام على الْمِنْبَر إِلَى أَن تَنْقَضِي الصَّلَاة
وَأما التَّغْلِيظ بِالزَّمَانِ فِي الْكَافِر فَيعْتَبر بأشرف الْأَوْقَات عِنْدهم كَمَا ذكره الْمَاوَرْدِيّ وَإِن كَانَ قَضِيَّة كَلَام المُصَنّف أَنه كَالْمُسلمِ وَنَقله ابْن الرّفْعَة عَن الْبَنْدَنِيجِيّ وَغَيره
تَنْبِيه من لَا ينتحل دينا كالدهري والزنديق الَّذِي لَا يتدين بدين وعابد الوثن لَا يشرع فِي حَقهم تَغْلِيظ بل يلاعنون فِي مجْلِس الحكم لأَنهم لَا يعظمون زَمَانا وَلَا مَكَانا فَلَا ينزجرون
قَالَ الشَّيْخَانِ وَيحسن أَن يحلف من ذكر بِاللَّه الَّذِي خلقه ورزقه
لِأَنَّهُ وَإِن غلا فِي كفره وجد نَفسه مذعنة لخالق مُدبر وَيسن التَّغْلِيظ أَيْضا (فِي جمَاعَة) أَي بِحُضُور جمع عدُول (من) أَعْيَان (النَّاس) وصلحائهم من بلد اللّعان لقَوْله تَعَالَى {وليشهد عذابهما طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ} وَلِأَن فِيهِ ردعا عَن الْكَذِب وَأَقلهمْ كَمَا فِي الْمِنْهَاج كَأَصْلِهِ أَرْبَعَة لثُبُوت الزِّنَا بهم فاستحب أَن يحضر ذَلِك الْعدَد وَيبدأ فِي اللّعان بِالزَّوْجِ فَيَقُول (أشهد بِاللَّه إِنَّنِي لمن الصَّادِقين فِيمَا رميت بِهِ زَوْجَتي فُلَانَة) هَذِه (من الزِّنَا) إِن كَانَت حَاضِرَة فَإِن كَانَت غَائِبَة عَن الْبَلَد أَو مجْلِس اللّعان لمَرض أَو حيض أَو نَحْو ذَلِك سَمَّاهَا وَرفع نَسَبهَا بِمَا يميزها عَن غَيرهَا دفعا للاشتباه
وَإِن كَانَ ثمَّ ولد يَنْفِيه عَنهُ ذكره فِي كل كَلِمَات اللّعان الْخَمْسَة الْآتِيَة لينتفي عَنهُ فَيَقُول فِي كل مِنْهَا (وَإِن هَذَا الْوَلَد) إِن كَانَ حَاضرا أَو لِأَن الْوَلَد الَّذِي وَلدته إِن كَانَ غَائِبا (من الزِّنَا وَلَيْسَ) هُوَ (مني) لِأَن كل مرّة بِمَنْزِلَة شَاهد فَلَو أغفل ذكر الْوَلَد فِي بعض الْكَلِمَات احْتَاجَ إِلَى إِعَادَة اللّعان لنفيه
تَنْبِيه قَضِيَّة كَلَامه إِنَّه لَو اقْتصر على قَوْله (من الزِّنَا) وَلم يقل لَيْسَ مني أَنه لَا يَكْفِي قَالَ فِي الشَّرْح الْكَبِير وَبِه أجَاب كَثِيرُونَ لِأَنَّهُ قد يظنّ أَن وَطْء النِّكَاح الْفَاسِد والشبهة زنا وَلَكِن الرَّاجِح أَنه يَكْفِي
كَمَا صَححهُ فِي أصل الرَّوْضَة وَالشَّرْح الصَّغِير حملا للفظ الزِّنَا على حَقِيقَته وَقَضيته أَيْضا أَنه لَو اقْتصر على قَوْله لَيْسَ مني لم يكف وَهُوَ الصَّحِيح لاحْتِمَال أَن يُرِيد أَن لَا يُشبههُ خلقا وَلَا خلقا فَلَا بُد أَن يسْندهُ مَعَ ذَلِك إِلَى سَبَب معِين كَقَوْلِه من زنا أَو وَطْء شُبْهَة
ويكرر ذَلِك (أَربع مَرَّات) للآيات السَّابِقَة أول الْفَصْل وكررت الشَّهَادَة لتأكيد الْأَمر
لِأَنَّهَا أُقِيمَت مقَام أَربع شُهُود من غَيره ليقام عَلَيْهَا الْحَد وَلذَلِك سميت شَهَادَات وَهِي فِي الْحَقِيقَة أَيْمَان وَأما الْكَلِمَة الْخَامِسَة الْآتِيَة فمؤكدة لمفاد الْأَرْبَع (وَيَقُول فِي الْمرة الْخَامِسَة بعد أَن يعظه الْحَاكِم) ندبا بِأَن يخوفه من عَذَاب الله تَعَالَى وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لهِلَال اتَّقِ الله فَإِن عَذَاب الدُّنْيَا أَهْون من عَذَاب الْآخِرَة وَيَأْمُر رجلا أَن يضع يَده على فِيهِ لَعَلَّه ينزجر فَإِن أَبى بعد مُبَالغَة الْحَاكِم فِي وعظه إِلَّا الْمُضِيّ قَالَ لَهُ قل (وَعلي لعنة الله إِن كنت من الْكَاذِبين) فِيمَا رميتها بِهِ من الزِّنَا وَيُشِير إِلَيْهَا فِي الْحُضُور ويميزها فِي الْغَيْبَة كَمَا فِي الْكَلِمَات الْأَرْبَع

(2/462)


تَنْبِيه كَانَ من حق المُصَنّف أَن يذكر هَذِه الزِّيَادَة لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن الْخَامِسَة لَا يشْتَرط فِيهَا ذكر ذَلِك وسكوته أَيْضا عَن ذكر الْوَلَد فِي الْخَامِسَة يَقْتَضِي أَيْضا أَنه لَا يشْتَرط فِي نَفْيه ذكره فِيهَا
وَلَيْسَ مرَادا كَمَا مر أَنه لَا بُد من ذكره فِي الْكَلِمَات الْخمس وَسكت أَيْضا عَن ذكر الْمُوَالَاة فِي الْكَلِمَات الْخمس وَالأَصَح اشْتِرَاطهَا كَمَا فِي الرَّوْضَة فيؤثر الْفَصْل الطَّوِيل وَهَذَا كُله إِن كَانَ قذف وَلم تثبته عَلَيْهِ بِبَيِّنَة
وَإِلَّا بِأَن كَانَ اللّعان لنفي ولد كَأَن احْتمل كَونه من وَطْء شُبْهَة وأثبتت قذفه بِبَيِّنَة قَالَ فِي الأول فِيمَا رميتها بِهِ من إِصَابَة غَيْرِي لَهَا على فِرَاشِي وَأَن هَذَا الْوَلَد من تِلْكَ الْإِصَابَة إِلَى الْكَلِمَات وَفِي الثَّانِي فِيمَا أَثْبَتَت على من رمى إِيَّاهَا بِالزِّنَا إِلَى آخِره
وَلَا تلاعن الْمَرْأَة فِي الأول إِذْ لَا حد عَلَيْهَا بِهَذَا اللّعان حَتَّى تسقطه بلعانها
القَوْل فِيمَا يرتب على لعان الرجل (وَيتَعَلَّق بلعانه) أَي بِتَمَامِهِ من غير توقف عى لعانها وَلَا قَضَاء القَاضِي كَمَا فِي الرَّوْضَة
(خَمْسَة أَحْكَام) وَعَلَيْهَا اقْتصر فِي الْمِنْهَاج وَذكر فِي الزَّوَائِد زِيَادَة عَلَيْهَا كَمَا سَيَأْتِي مَعَ غَيرهَا
الأول (سُقُوط الْحَد) أَي سُقُوط حد قذف الْمُلَاعنَة (عَنهُ) إِن كَانَت مُحصنَة وَسُقُوط التَّعْزِير عَنهُ إِن لم تكن مُحصنَة وَلَا يسْقط حد قذف الزَّانِي عَنهُ إِلَّا إِن ذكره فِي لِعَانه
تَنْبِيه كَانَ الأولى أَن يعبر بالعقوبة بدل الْحَد ليشْمل التَّعْزِير (و) الثَّانِي (وجوب الْحَد) أَي حد الزِّنَا (عَلَيْهَا) أَي زَوجته مسلمة كَانَت أَو كَافِرَة إِن لم تلاعن لقَوْله تَعَالَى {ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب} الْآيَة فَدلَّ على وُجُوبه عَلَيْهَا بلعانه وعَلى سُقُوطه بلعانها
(و) الثَّالِث (زَوَال الْفراش) أَي فرَاش الزَّوْج عَنْهَا لانْقِطَاع النِّكَاح بَينهمَا لما فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرق بَينهمَا ثمَّ قَالَ لَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا وَهِي فرقة فسخ كالرضاع لحصولها بِغَيْر لفظ وَتحصل ظَاهرا وَبَاطنا وَفِي سنَن أبي دواد المتلاعنان لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا
تَنْبِيه تَعْبِير المُصَنّف بالفراش مُرَاده بِهِ هُنَا الزَّوْجِيَّة كَمَا مر تبعا لجمع من أَئِمَّة اللُّغَة وَغَيرهم (و) الرَّابِع (نفي) انتساب (الْوَلَد) إِلَيْهِ إِن نَفَاهُ فِي لِعَانه لخَبر الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرق بَينهمَا وَألْحق الْوَلَد بِالْمَرْأَةِ وَإِنَّمَا يحْتَاج الْملَاعن إِلَى نفي نسب ولد يُمكن كَونه مِنْهُ فَإِن تعذر كَون الْوَلَد مِنْهُ كَأَن طَلقهَا فِي مجْلِس العقد أَو نكح امْرَأَة وَهُوَ بالمشرق وَهِي بالمغرب أَو كَانَ الزَّوْج صَغِيرا أَو ممسوحا لم يلْحقهُ الْوَلَد لِاسْتِحَالَة كَونه مِنْهُ فَلَا حَاجَة فِي انتفائه إِلَى لِعَانه وَالنَّفْي فوري كالرد بِالْعَيْبِ بِجَامِع الضَّرَر بالإمساك إِلَّا لعذر كَأَن بلغه الْخَبَر لَيْلًا فَأخر حَتَّى يصبح أَو كَانَ مَرِيضا أَو مَحْبُوسًا وَلم يُمكنهُ إِعْلَام القَاضِي بذلك أَو لم يجده فَلَا يبطل حَقه إِن تعسر عَلَيْهِ فِيهِ إِشْهَاد بِأَنَّهُ بَاقٍ على النَّفْي وَإِلَّا بَطل حَقه
كَمَا لَو أخر بِلَا عذر فيلحقه الْوَلَد وَله نفي حمل وانتظار وَضعه ليتَحَقَّق كَونه ولدا فَلَو قَالَ عَلمته ولدا وأخرت رَجَاء وَضعه مَيتا فألغي اللّعان بَطل حَقه من النَّفْي لتَفْرِيطه فَإِن أخر
وَقَالَ جهلت الْوَضع وَأمكن جَهله صدق بِيَمِينِهِ وَلَا يَصح نفي أحد توأمين بِأَن

(2/463)


لم يَتَخَلَّل بَينهمَا سِتَّة أشهر
بِأَن ولدا مَعًا أَو تخَلّل بَين وضعيهما دون سِتَّة أشهر لِأَن الله تَعَالَى لم يجر الْعَادة بِأَن يجمع فِي الرَّحِم ولدا من مَاء رجل وَولدا من مَاء آخر لِأَن الرَّحِم إِذا اشْتَمَل على الْمَنِيّ استد فَمه فَلَا يَتَأَتَّى قبُوله منيا آخرا وَلَو هنىء بِولد كَأَن قيل لَهُ متعت بولدك فَأجَاب بِمَا يتَضَمَّن إِقْرَارا كآمين أَو نعم
لم ينف بِخِلَاف مَا إِذا أجَاب بِمَا لَا يتَضَمَّن إِقْرَارا كَقَوْلِه جَزَاك الله خيرا لِأَن الظَّاهِر أَنه قَصده مُكَافَأَة الدُّعَاء بِالدُّعَاءِ (و) الْخَامِس (التَّحْرِيم) أَي تَحْرِيمهَا عَلَيْهِ (على الْأَبَد) فَلَا يحل لَهُ نِكَاحهَا بعد اللّعان وَلَا وَطْؤُهَا بِملك الْيَمين لَو كَانَت أمة واشتراها لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الْمَار وَلَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا أَي لَا طَرِيق لَك إِلَيْهَا
وَلما مر فِي الحَدِيث الآخر المتلاعنان لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا
تَنْبِيه بَقِي على المُصَنّف من الْأَحْكَام أَشْيَاء لم يذكرهَا وَقد تقدم الْوَعْد بذكرها مِنْهَا سُقُوط حد قذف الزَّانِي بهَا عَن الزَّوْج إِن سَمَّاهُ فِي لِعَانه كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فَإِن لم يذكرهُ فِي لِعَانه لم يسْقط عَنهُ حد قذفه لَكِن لَهُ أَن يُعِيد اللّعان ويذكره
فَإِن لم يُلَاعن وَلَا بَيِّنَة وحد لقذفها بطلبها فطالبه الرجل الْمَقْذُوف بِهِ بِالْحَدِّ
وَقُلْنَا بالأصح أَنه يجب عَلَيْهِ حدان فَلهُ اللّعان وتأبدت حُرْمَة الزَّوْجَة بِاللّعانِ لأجل الرجل فَقَط وَلَو ابْتَدَأَ الرجل فطالبه بِحَدّ قذفه كَانَ لَهُ اللّعان لإِسْقَاط الْحَد فِي أحد وَجْهَيْن يظْهر تَرْجِيحه بِنَاء على أَن حَقه يثبت أصلا لَا تبعا لَهَا كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَامهم وَإِن عَفا أَحدهمَا فللآخر الْمُطَالبَة بِحقِّهِ
وَحَيْثُ قُلْنَا يُلَاعن للمقذوف بِهِ لَا يثبت بلعانه زنا الْمَقْذُوف بِهِ وَلَا يُلَاعن الْمَقْذُوف بِهِ وَإِنَّمَا فَائِدَته سُقُوط الْحَد عَن الْقَاذِف وَمِنْهَا سُقُوط حصانتها فِي حق الزَّوْج إِن امْتنعت من اللّعان وَمِنْهَا تشطير الصَدَاق قبل الدُّخُول وَمِنْهَا أَن حكمهَا حكم الْمُطلقَة بَائِنا فَلَا يلْحقهَا طَلَاق وَيحل للزَّوْج نِكَاح أَربع سواهَا وَمن يحرم جمعه مَعهَا كأختها وعمتها وَغير ذَلِك من الْأَحْكَام المترتبة على الْبَيْنُونَة وَإِن لم تنقض عدتهَا وَلَا يتَوَقَّف ذَلِك على قَضَاء القَاضِي لَا على لعانها بل يحصل بِمُجَرَّد لعان الزَّوْج وَمِنْهَا أَنه لَا نَفَقَة لَهَا وَإِن كَانَت حَامِلا إِذا نفى الْحمل بلعانه كَمَا جزم بِهِ فِي الْكَافِي

فرع لَو قذف زوج زَوجته
وَهِي بكر ثمَّ طَلقهَا وَتَزَوَّجت ثمَّ قَذفهَا الزَّوْج الثَّانِي وَهِي ثيب ثمَّ لاعنا وَلم تلاعن جلدت ثمَّ رجمت (وَيسْقط الْحَد عَنْهَا) أَي حد الزِّنَا الَّذِي وَجب عَلَيْهَا بِتمَام لعان الزَّوْج (بِأَن تلاعن) بعد تَمام لِعَانه كَمَا هُوَ مُسْتَفَاد من لفظ المسقوط لِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا فِيمَا وَجب وَلم يجب عَلَيْهَا إِلَّا بِتمَام لِعَانه وباشتراط البعدية جزم فِي الرَّوْضَة وَدلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب} الْآيَة
(فَتَقول) بعد أَن يأمرها الْحَاكِم فِي جمع من النَّاس كَمَا سنّ التَّغْلِيظ فِي حَقه كَمَا مر (أشهد بِاللَّه إِن فلَانا هَذَا) أَي زَوجهَا إِن كَانَ حَاضرا وتميزه فِي الْغَيْبَة كَمَا فِي جَانبهَا (لمن الْكَاذِبين) عَليّ (فِيمَا رماني بِهِ من الزِّنَا أَربع مَرَّات) لقَوْله تَعَالَى {ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب أَن تشهد أَربع شَهَادَات بِاللَّه} الْآيَة (وَتقول فِي الْمرة الْخَامِسَة بعد أَن يعظها) أَي يُبَالغ (الْحَاكِم) ندبا فِي هَذِه الْمرة بالتخويف والتحذير كَأَن يَقُول لَهَا عَذَاب الدُّنْيَا أَهْون من عَذَاب الْآخِرَة وَيَأْمُر امْرَأَة تضع يَدهَا على فِيهَا لَعَلَّهَا أَن تنزجر فَإِن أَبَت إِلَّا الْمُضِيّ قَالَ لَهَا قولي (وَعلي غضب الله إِن كَانَ من الصَّادِقين) فِيمَا رماني بِهِ كَمَا فِي الرَّوْضَة
تَنْبِيه أفهم سُكُوته فِي لعانها عَن ذكر الْوَلَد أَنَّهَا لَا تحْتَاج إِلَيْهِ وَهُوَ الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَا يتَعَلَّق بِذكرِهِ فِي لعانها حكم فَلم تحتج إِلَيْهِ وَلَو تعرضت لَهُ لم يضر

(2/464)


تَتِمَّة لَو بدل لفظ شَهَادَة بِحلف أَو نَحوه كأقسم بِاللَّه أَو أَحْلف بِاللَّه إِلَى آخِره أَو لفظ غضب بلعن أَو غَيره كالإبعاد وَعَكسه بِأَن ذكر الرجل الْغَضَب وَالْمَرْأَة اللَّعْن أَو ذكر اللَّعْن أَو الْغَضَب قبل تَمام الشَّهَادَة لم يَصح ذَلِك اتبَاعا للنَّص كَمَا فِي الشَّهَادَة وَالْحكمَة فِي اخْتِصَاص لعانها بِالْغَضَبِ ولعان الرجل باللعن أَن جريمة الزِّنَا أعظم من جريمة الْقَذْف فقوبل الْأَعْظَم بِمثلِهِ وَهُوَ الْغَضَب لِأَن غَضَبه تَعَالَى إِرَادَة الانتقام من العصاة وإنزال الْعقُوبَة بهم واللعن والطرد والبعد
فخصت الْمَرْأَة بِالْتِزَام أغْلظ الْعقُوبَة وَلَو نفى الذِّمِّيّ ولدا ثمَّ أسلم لم يتبعهُ فِي الْإِسْلَام فَلَو مَاتَ الْوَلَد وَقسم مِيرَاثه بَين ورثته الْكفَّار ثمَّ اسْتَلْحقهُ لحقه فِي نسبه وإسلامه وَورثه وانتقضت الْقِسْمَة وَلَو قتل الْملَاعن من نَفَاهُ ثمَّ اسْتَلْحقهُ لحقه وَسقط عَن الْقصاص وَالِاعْتِبَار فِي الْحَد وَالتَّعْزِير بِحَالَة الْقَذْف فَلَا يتغيران بحدوث عتق أَو رق أَو إِسْلَام فِي الْقَاذِف أَو الْمَقْذُوف