الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع

فصل فِي الرِّدَّة
أعاذنا الله تَعَالَى مِنْهَا هِيَ لُغَة الرُّجُوع عَن الشَّيْء إِلَى غَيره وَهِي من أفحش الْكفْر وأغلظه حكما محبطة للْعَمَل إِن اتَّصَلت بِالْمَوْتِ وَإِلَّا حَبط ثَوَابه كَمَا نَقله فِي الْمُهِمَّات عَن نَص الشَّافِعِي وَشرعا قطع من
أَو قَول مكفر سَوَاء أقاله استهزاء أم اعتقادا أم عنادا لقَوْله تَعَالَى {قل أبالله وآياته وَرَسُوله كُنْتُم تستهزؤون لَا تعتذروا قد كَفرْتُمْ} بعد يَصح طَلَاقه اسْتِمْرَار الْإِسْلَام وَيحصل قطعه بِأُمُور بنية كفر أَو فعل

(2/550)


مكفر إيمَانكُمْ
القَوْل فِيمَا يُوجب الرِّدَّة فَمن نفى الصَّانِع وَهُوَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهم الدهريون الزاعمون أَن الْعَالم لم يزل مَوْجُودا كَذَلِك بِلَا صانع أَو نفى الرُّسُل بِأَن قَالَ لم يرسلهم الله تَعَالَى أَو نفى نبوة نَبِي أَو كذب رَسُولا أَو نَبيا أَو سبه أَو استخف بِهِ أَو باسمه
أَو باسم الله أَو بأَمْره أَو وعده أَو جحد آيَة من الْقُرْآن مجمعا على ثُبُوتهَا أَو زَاد فِيهِ آيَة مُعْتَقدًا أَنَّهَا مِنْهُ أَو استخف بِسنة كَمَا لَو قيل لَهُ قلم أظفارك فَإِنَّهُ سنة فَقَالَ لَا أفعل وَإِن كَانَ سنة وَقصد الِاسْتِهْزَاء بذلك
أَو قَالَ لَو أَمرنِي الله وَرَسُوله بِكَذَا مَا فعلته
أَو قَالَ إِن كَانَ مَا قَالَه الْأَنْبِيَاء صدقا نجونا أَو قَالَ لَا أَدْرِي النَّبِي إنسي أَو جني
أَو قَالَ لَا أَدْرِي مَا الْإِيمَان احتقارا أَو قَالَ لمن حول لَا حول لَا تغني من جوع
أَو قَالَ الْمَظْلُوم هَذَا بِتَقْدِير الله تَعَالَى
فَقَالَ الظَّالِم أَنا أفعل بِغَيْر تَقْدِيره أَو أَشَارَ بالْكفْر على مُسلم أَو على كَافِر أَرَادَ الْإِسْلَام أَو لم يلقن الْإِسْلَام طَالبه مِنْهُ أَو كفر مُسلما بِلَا تَأْوِيل للمكفر بِكفْر النِّعْمَة كَمَا نَقله فِي الرَّوْضَة عَن الْمُتَوَلِي
وَأقرهُ أَو حلل محرما بِالْإِجْمَاع كَالزِّنَا واللواط وَالظُّلم وَشرب الْخمر أَو حرم حَلَالا بِالْإِجْمَاع كَالنِّكَاحِ وَالْبيع أَو نفى وجوب مجمع عَلَيْهِ كَأَن نفى رَكْعَة من الصَّلَوَات الْخمس أَو اعْتقد وجوب مَا لَيْسَ بِوَاجِب بِالْإِجْمَاع كزيادة رَكْعَة فِي الصَّلَوَات الْخمس أَو عزم على الْكفْر غَدا أَو تردد فِيهِ حَالا كفر فِي جَمِيع هَذِه الْمسَائِل الْمَذْكُورَة وَهَذَا بَاب لَا سَاحل لَهُ وَالْفِعْل الْمُكَفّر مَا تَعَمّده صَاحبه استهزاء صَرِيحًا بِالدّينِ أَو جحُودًا لَهُ كإلقاء مصحف وَهُوَ اسْم للمكتوب بَين الدفتين بقاذورة وَسُجُود لمخلوق كصنم وشمس وَخرج بقولنَا قطع من يَصح طَلَاقه الصَّبِي وَلَو مُمَيّزا وَالْمَجْنُون فَلَا تصح ردتهما لعدم تكليفهما وَالْمكْره لقَوْله تَعَالَى {إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان} وَدخل فِيهِ السَّكْرَان الْمُتَعَدِّي بسكره فَتَصِح ردته كطلاقه وَسَائِر تَصَرُّفَاته وإسلامه عَن ردته
القَوْل فِيمَا يفعل بالمرتد (وَمن ارْتَدَّ) من رجل أَو امْرَأَة عَن دين (الْإِسْلَام) بِشَيْء مِمَّا تقدم بَيَانه أَو بِغَيْرِهِ مِمَّا تقرر فِي المبسوطات وَغَيرهَا (استتيب) وجوبا قبل قَتله لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَرما بِالْإِسْلَامِ فَرُبمَا عرضت لَهُ شُبْهَة
فيسعى فِي إِزَالَتهَا لِأَن الْغَالِب أَن الرِّدَّة تكون عَن شُبْهَة عرضت

(2/551)


وَثَبت وجوب الاستتابة عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن جَابر أَن امْرَأَة يُقَال لَهَا أم رُومَان ارْتَدَّت
فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يعرض عَلَيْهَا الْإِسْلَام فَإِن تابت وَإِلَّا قتلت وَلَا يُعَارض هَذَا النَّهْي عَن قتل النِّسَاء الَّذِي اسْتدلَّ بِهِ أَبُو حنيفَة
لِأَن ذَلِك مَحْمُول على الحربيات وَهَذَا على المرتدات والاستتابة تكون حَالا
لِأَن قَتله الْمُرَتّب عَلَيْهَا حد فَلَا يُؤَخر كَسَائِر الْحُدُود
نعم إِن كَانَ سَكرَان سنّ التَّأْخِير إِلَى الصحو وَفِي قَول يُمْهل فِيهَا (ثَلَاثًا) أَي ثَلَاثَة أَيَّام لأثر عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي ذَلِك وَأخذ بِهِ الإِمَام مَالك
وَقَالَ الزُّهْرِيّ يدعى إِلَى الْإِسْلَام ثَلَاث مَرَّات فَإِن أَبى قتل وَحمل بَعضهم كَلَام الْمَتْن على هَذَا
وعَلى كل حَال هُوَ ضَعِيف وَعَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه يُسْتَتَاب شَهْرَيْن (فَإِن تَابَ) بِالْعودِ إِلَى الْإِسْلَام (صَحَّ) إِسْلَامه وَترك وَلَو كَانَ زنديقا أَو تكَرر مِنْهُ ذَلِك لآيَة {قل للَّذين كفرُوا إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف} وَخبر فَإِذا قالوها عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَق الْإِسْلَام والزنديق من يخفي الْكفْر وَيظْهر الْإِسْلَام كَمَا قَالَه الشَّيْخَانِ فِي هَذَا الْبَاب وبابي صفة الْأَئِمَّة والفرائض هُوَ أَو من لَا ينتحل دينا كَمَا قَالَاه فِي اللّعان وَصَوَابه فِي الْمُهِمَّات ثمَّ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتب فِي الْحَال (قتل) وجوبا لخَبر البُخَارِيّ من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ أَي بِضَرْب عُنُقه دون الإحراق وَغَيره كَمَا جزم بِهِ فِي الرَّوْضَة لِلْأَمْرِ بِإِحْسَان القتلة
(وَلم يغسل) أَي لَا يجب غسله لِخُرُوجِهِ عَن أَهْلِيَّة الْوُجُوب بِالرّدَّةِ
لَكِن يجوز لَهُ كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة فِي الْجَنَائِز (وَلم يصل عَلَيْهِ) لتحريمها على الْكَافِر قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا}
تَنْبِيه سكت المُصَنّف عَن تكفينه وَحكمه الْجَوَاز كغسله
(وَلم يدْفن) أَي لَا يجوز دَفنه (فِي مَقَابِر الْمُسلمين) لِخُرُوجِهِ مِنْهُم بِالرّدَّةِ وَيجوز دَفنه فِي مَقَابِر الْكفَّار
وَلَا يجب كالحربي كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة
وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الدَّمِيرِيّ من دَفنه بَين مَقَابِر الْمُسلمين وَالْكفَّار لما تقدم لَهُ من حُرْمَة الْإِسْلَام لَا أصل لَهُ لقَوْله تَعَالَى {وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر} الْآيَة وَيجب تَفْصِيل الشَّهَادَة بِالرّدَّةِ
لاخْتِلَاف النَّاس فِيمَا يُوجِبهَا وَلَو ادّعى مدعى عَلَيْهِ بردة إِكْرَاها وَقد شهِدت بَيِّنَة بِلَفْظ كفر أَو فعله حلف فَيصدق وَلَو بِلَا قرينَة لِأَنَّهُ لم يكذب الشُّهُود أَو شهِدت بردته وأطلقت لم تقبل لما مر وَلَو قَالَ أحد ابْنَيْنِ مُسلمين مَاتَ أبي مُرْتَدا فَإِن بَين سَبَب ردته كسجود لصنم فَنصِيبه فَيْء لبيت المَال
وَإِن أطلق استفصل فَإِن ذكر مَا هُوَ ردة كَانَ فَيْئا أَو غَيرهَا كَقَوْلِه كَانَ يشرب الْخمر
صرف إِلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهر فِي أصل الرَّوْضَة
وَمَا فِي الْمِنْهَاج من أَن الْأَظْهر أَنه فَيْء أَيْضا ضَعِيف
تَتِمَّة فرع الْمُرْتَد إِن انْعَقَد قبل الرِّدَّة أَو فِيهَا وَأحد أُصُوله مُسلم فَمُسلم تبعا لَهُ وَالْإِسْلَام يَعْلُو أَو أُصُوله مرتدون فمرتد تبعا لَا

(2/552)


مُسلم وَلَا كَافِر أُصَلِّي فَلَا يسترق وَلَا يقتل حَتَّى يبلغ ويستتاب فَإِن لم يتب قتل
وَاخْتلف فِي الْمَيِّت من أَوْلَاد الْكفَّار قبل بُلُوغه
وَالصَّحِيح كَمَا فِي الْمَجْمُوع فِي بَاب صَلَاة الاسْتِسْقَاء تبعا للمحققين أَنهم فِي الْجنَّة وَالْأَكْثَرُونَ على أَنهم فِي النَّار وَقيل على الْأَعْرَاف
وَلَو كَانَ أحد أَبَوَيْهِ مُرْتَدا وَالْآخر كَافِرًا أَصْلِيًّا فكافر أُصَلِّي قَالَه الْبَغَوِيّ
وَملك الْمُرْتَد مَوْقُوف إِن مَاتَ مُرْتَدا بَان زَوَاله بِالرّدَّةِ وَيَقْضِي مِنْهُ دين لزمَه قبلهَا وَبدل مَا أتْلفه فِيهَا ويمان مِنْهُ ممونه من نَفسه وَبَعضه وَمَاله وزوجاته لِأَنَّهَا حُقُوق مُتَعَلقَة بِهِ وتصرفه إِن لم يحْتَمل الْوَقْف بِأَن لم يقبل التَّعْلِيق كَبيع وَكِتَابَة بَاطِل لعدم احْتِمَال الْوَقْف وَإِن احتمله بِأَن قبل التَّعْلِيق كعتق وَوَصِيَّة
فموقوف إِن أسلم نفذ
وَإِلَّا فَلَا وَيجْعَل مَاله عِنْد عدل وَأمته عِنْد نَحْو محرم كامرأة ثِقَة وَيُؤَدِّي مكَاتبه النُّجُوم للْقَاضِي حفظا لَهَا
وَيعتق بذلك أَيْضا وَإِنَّمَا لم يقبضهَا الْمُرْتَد لِأَن قَبضه غير مُعْتَبر

فصل فِي تَارِك الصَّلَاة
الْمَفْرُوضَة على الْأَعْيَان أَصَالَة جحدا أَو غَيره
وَبَيَان حكمه وَذكره المُصَنّف عقب الرِّدَّة لاشْتِمَاله على شَيْء من أَحْكَامهَا فَفِيهِ مُنَاسبَة وَإِن كَانَ مُخَالفا لغيره من المصنفين فِيمَا علمت فَإِن الْغَزالِيّ ذكره بعد الْجَنَائِز
وَذكره جمَاعَة قبل الْأَذَان وَذكره الْمُزنِيّ وَالْجُمْهُور قبل الْجَنَائِز وتبعهم الْمِنْهَاج كَأَصْلِهِ
قَالَ الرَّافِعِيّ وَلَعَلَّه أليق
(و) الْمُكَلف (تَارِك الصَّلَاة) الْمَعْهُودَة شرعا الصادقة بِإِحْدَى الْخمس
(على ضَرْبَيْنِ) إِذْ التّرْك سَببه جحد أَو كسل
(أَحدهمَا أَن يَتْرُكهَا غير مُعْتَقد لوُجُوبهَا) عَلَيْهِ جحدا بِأَن أنكرها بعد علمه بِهِ أَو عنادا كَمَا هُوَ فِي الْقُوت عَن الدَّارمِيّ
(فَحكمه) فِي وجوب استتابته وَقَتله وَجَوَاز غسله وتكفينه وَدَفنه فِي مَقَابِر الْمُشْركين
(حكم الْمُرْتَد) على مَا سبق بَيَان فِي مَوْضِعه من غير فرق وكفره بجحده فَقَط لَا بِهِ من التّرْك وَإِنَّمَا ذكره المُصَنّف لأجل التَّقْسِيم لِأَن الْجحْد لَو انْفَرد كَمَا لَو صلى جاحدا للْوُجُوب كَانَ مقتضيا للكفر لإنكاره مَا هُوَ مَعْلُوم من الدّين بِالضَّرُورَةِ
فَلَو اقْتصر المُصَنّف على الْجحْد كَانَ أولى لِأَن ذَلِك تَكْذِيب لله وَلِرَسُولِهِ فيكفر بِهِ وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى
وَنقل الْمَاوَرْدِيّ الْإِجْمَاع على ذَلِك وَذَلِكَ جَار فِي جحود كل مجمع عَلَيْهِ مَعْلُوم من الدّين بِالضَّرُورَةِ
أما من أنكرهُ جَاهِلا لقرب عَهده بِالْإِسْلَامِ أَو نَحوه
مِمَّن يجوز أَن يخفى عَلَيْهِ كمن بلغ مَجْنُونا ثمَّ أَفَاق أَو نَشأ بَعيدا عَن الْعلمَاء فَلَيْسَ مُرْتَدا بل يعرف الْوُجُوب فَإِن عَاد بعد ذَلِك صَار مُرْتَدا

(2/553)


القَوْل فِي تَارِك الصَّلَاة كسلا (و) الضَّرْب (الثَّانِي أَن يَتْرُكهَا) كسلا أَو تهاونا (مُعْتَقدًا لوُجُوبهَا) عَلَيْهِ (فيستتاب) قبل الْقَتْل لِأَنَّهُ لَيْسَ أَسْوَأ حَالا من الْمُرْتَد
وَهِي مَنْدُوبَة كَمَا صَححهُ فِي التَّحْقِيق وَإِن كَانَ قَضِيَّة كَلَام الرَّوْضَة وَالْمَجْمُوع أَنَّهَا وَاجِبَة كاستتابة الْمُرْتَد وَالْفرق على الأول أَن جريمة الْمُرْتَد تَقْتَضِي الخلود فِي النَّار فَوَجَبت الاستتابة رَجَاء نجاته من ذَلِك بِخِلَاف تَارِك الصَّلَاة فَإِن عُقُوبَته أخف لكَونه يقتل حدا بل مُقْتَضى مَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ من كَون الْحُدُود تسْقط الْإِثْم أَنه لَا يبْقى عَلَيْهِ شَيْء بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ قد حد على هَذَا الجريمة والمستقبل لم يُخَاطب بِهِ وتوبته على الْفَوْر لِأَن الْإِمْهَال يُؤَدِّي إِلَى تَأْخِير صلوَات
(فَإِن تَابَ) بِأَن امتثل الْأَمر (وَصلى) خلي سَبيله من غير قتل
فَإِن قيل هَذَا الْقَتْل حد وَالْحُدُود لَا تسْقط بِالتَّوْبَةِ
أُجِيب أَن هَذَا الْقَتْل لَا يضاهي الْحُدُود الَّتِي وضعت عُقُوبَة على مَعْصِيّة سَابِقَة بل حملا على مَا توجه عَلَيْهِ من الْحق وَلِهَذَا لَا خلاف فِي سُقُوطه بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ تَوْبَة وَلَا يتَخَرَّج على الْخلاف فِي سُقُوط الْحَد بِالتَّوْبَةِ على الصَّوَاب (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتب (قتل) بِالسَّيْفِ إِن لم يبد عذرا (حدا) لَا كفرا لخَبر الصَّحِيحَيْنِ أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة
فَإِذا فعلوا ذَلِك عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَق الْإِسْلَام وحسابهم على الله فَإِن أبدى عذرا كَأَن قَالَ تركتهَا نَاسِيا أَو للبرد أَو نَحْو ذَلِك من الْأَعْذَار صَحِيحَة كَانَت فِي نفس الْأَمر أَو بَاطِلَة لم يقتل لِأَنَّهُ لم يتَحَقَّق مِنْهُ تعمد تَأْخِيرهَا عَن الْوَقْت بِغَيْر عذر لَكِن نأمره بهَا بعد ذكر الْعذر وجوبا فِي الْعذر الْبَاطِل وندبا فِي الصَّحِيح بِأَن نقُول لَهُ صل فَإِن امْتنع لم يقتل لذَلِك
فَإِن قَالَ تَعَمّدت تَركهَا بِلَا عذر قتل سَوَاء قَالَ وَلم أَصْلهَا
أَو سكت لتحَقّق جِنَايَته بتعمد التَّأْخِير وَيقتل تَارِك الطَّهَارَة للصَّلَاة لِأَنَّهُ ترك لَهَا وَيُقَاس بِالطَّهَارَةِ الْأَركان وَسَائِر الشُّرُوط وَمحله فِيمَا لَا خلاف فِيهِ أَو فِيهِ خلاف

(2/554)


واه بِخِلَاف الْقوي فَفِي فَتَاوَى الْقفال لَو ترك فَاقِد الطهُورَيْنِ الصَّلَاة مُتَعَمدا أَو مس شَافِعِيّ الذّكر أَو لمس الْمَرْأَة أَو تَوَضَّأ وَلم ينْو وَصلى مُتَعَمدا لَا يقتل لِأَن جَوَاز صلَاته مُخْتَلف فِيهِ وَالصَّحِيح قَتله وجوبا بِصَلَاة فَقَط لظَاهِر الْخَبَر بِشَرْط إخْرَاجهَا عَن وَقت الضَّرُورَة فِيمَا لَهُ وَقت ضَرُورَة بِأَن تجمع مَعَ الثَّانِيَة فِي وَقتهَا فَلَا يقتل بترك الظّهْر حَتَّى تغرب الشَّمْس وَلَا بترك الْمغرب حَتَّى يطلع الْفجْر وَيقتل فِي الصُّبْح بِطُلُوع الشَّمْس وَفِي الْعَصْر بغروبها وَفِي الْعشَاء بِطُلُوع الْفجْر فَيُطَالب بأدائها إِذا ضَاقَ وَقتهَا ويتوعد بِالْقَتْلِ إِن أخرجهَا عَن الْوَقْت فَإِن أصر وَأخرج اسْتوْجبَ الْقَتْل فَقَوْل الرَّوْضَة يقتل بِتَرْكِهَا إِذا ضَاقَ وَقتهَا مَحْمُول على مُقَدمَات الْقَتْل بِقَرِينَة
كَلَامهَا بعد وَمَا قيل من أَنه لَا يقتل بل يُعَزّر وَيحبس حَتَّى يُصَلِّي كَتَرْكِ الصَّوْم وَالزَّكَاة وَالْحج وَلخَبَر لَا يحل دمخ امرىءه مسلمه إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث الثّيّب الزَّانِي وَالنَّفس بِالنَّفسِ والتارك لدينِهِ المفارق للْجَمَاعَة وَلِأَنَّهُ لَا يقتل بترك الْقَضَاء مَرْدُود بِأَن الْقيَاس مَتْرُوك بالنصوص وَالْخَبَر عَام مَخْصُوص بِمَا ذكر
وَقَتله خَارج الْوَقْت إِنَّمَا هُوَ للترك بِلَا عذر على أَنا نمْنَع أَنه لَا يقتل بترك الْقَضَاء مُطلقًا بل فِيهِ تَفْصِيل يَأْتِي فِي خَاتِمَة الْفَصْل وَيقتل بترك الْجُمُعَة وَإِن قَالَ أصليها ظهرا كَمَا فِي زِيَادَة الرَّوْضَة عَن الشَّاشِي لتركها بِلَا قَضَاء إِذْ الظّهْر لَيْسَ قَضَاء عَنْهَا وَيقتل بِخُرُوج وَقتهَا بِحَيْثُ لَا يتَمَكَّن من فعلهَا إِن لم يتب
فَإِن تَابَ لم يقتل وتوبته أَن يَقُول لَا أتركها بعد ذَلِك كسلا وَهَذَا فِيمَن تلْزمهُ الْجُمُعَة إِجْمَاعًا
فَإِن أَبَا حنيفَة يَقُول لَا جُمُعَة إِلَّا على أهل مصر
جَامع وَقَوله جَامع صفة لمصر (وَحكمه) بعد قَتله (حكم الْمُسلمين فِي) وجوب (الدّفن) فِي مَقَابِر الْمُسلمين
(و) فِي وجوب (الْغسْل وَالصَّلَاة) عَلَيْهِ وَلَا يطمس قَبره كَسَائِر أَصْحَاب الْكَبَائِر من الْمُسلمين
خَاتِمَة من ترك الصَّلَاة بِعُذْر كنوم أَو نِسْيَان لم يلْزمه قَضَاؤُهَا فَوْرًا لَكِن يسن لَهُ الْمُبَادرَة بهَا أَو بِلَا عذر لزمَه قَضَاؤُهَا فَوْرًا لتَقْصِيره لَكِن لَا يقتل بفائتة فَاتَتْهُ بِعُذْر لِأَن وَقتهَا موسع أَو بِلَا عذر وَقَالَ أصليها لم يقتل لتوبته بِخِلَاف مَا إِذا لم يقل ذَلِك كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَلَو ترك منذورة مُؤَقَّتَة لم يقتل كَمَا علم من تَقْيِيد الصَّلَاة بِإِحْدَى الْخمس لِأَنَّهُ الَّذِي أوجبهَا على نَفسه قَالَ الْغَزالِيّ وَلَو زعم زاعم أَن بَينه وَبَين الله تَعَالَى حَالَة أسقطت عَنهُ الصَّلَاة وَأحلت لَهُ شرب الْخمر وَأكل مَال السُّلْطَان كَمَا زَعمه بعض من ادّعى التصوف
فَلَا شكّ فِي وجوب قَتله وَإِن كَانَ فِي خلوده فِي النَّار نظر

(2/555)


= كتاب أَحْكَام الْجِهَاد = أَي الْقِتَال فِي سَبِيل الله وَمَا يتَعَلَّق بِبَعْض أَحْكَامه وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع آيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {كتب عَلَيْكُم الْقِتَال} وَقَوله تَعَالَى {وقاتلوا الْمُشْركين كَافَّة} وَقَوله تَعَالَى {واقتلوهم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وأخبار كَخَبَر الصَّحِيحَيْنِ أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله وَخبر مُسلم لغدوة أَو رَوْحَة فِي سَبِيل الله خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
وَقد جرت عَادَة الْأَصْحَاب تبعا لإمامهم الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن يذكرُوا مُقَدّمَة فِي صدر هَذَا الْكتاب
فلنذكر نبذة مِنْهَا على سَبِيل التَّبَرُّك فَنَقُول بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الِاثْنَيْنِ فِي رَمَضَان وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة وَقيل ثَلَاث وَأَرْبَعين سنة
وَآمَنت بِهِ خَدِيجَة ثمَّ بعْدهَا قيل عَليّ وَهُوَ ابْن تسع سِنِين
وَقيل عشر وَقيل أَبُو بكر
وَقيل زيد بن حَارِثَة
ثمَّ أَمر بتبليغ قومه بعد ثَلَاث سِنِين من مبعثه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأول مَا فرض عَلَيْهِ بعد الْإِنْذَار وَالدُّعَاء إِلَى التَّوْحِيد من قيام اللَّيْل مَا ذكر فِي أول سُورَة المزمل ثمَّ نسخ بِمَا فِي آخرهَا
ثمَّ نسخ بالصلوات الْخمس لَيْلَة الْإِسْرَاء إِلَى بَيت الْمُقَدّس بِمَكَّة بعد النُّبُوَّة بِعشر سِنِين وَثَلَاثَة أشهر لَيْلَة سبع وَعشْرين من رَجَب وَقيل بعد النُّبُوَّة بِخمْس أَو سِتّ
وَقيل غير ذَلِك
ثمَّ أَمر باستقبال الْكَعْبَة ثمَّ فرض الصَّوْم بعد الْهِجْرَة بِسنتَيْنِ تَقْرِيبًا وفرضت الزَّكَاة بعد الصَّوْم وَقيل قبله وَفِي السّنة الثَّانِيَة
قيل فِي نصف شعْبَان
وَقيل فِي رَجَب من الْهِجْرَة حولت الْقبْلَة وفيهَا فرضت صَدَقَة الْفطر وفيهَا ابْتَدَأَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة عيد الْفطر ثمَّ عيد الْأَضْحَى ثمَّ فرض الْحَج سنة سِتّ وَقيل سنة خمس وَلم يحجّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الْهِجْرَة إِلَّا حجَّة الْوَدَاع سنة عشر وَاعْتمر أَرْبعا وَكَانَ الْجِهَاد فِي عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الْهِجْرَة فرض كِفَايَة وَأما بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فللكفار كِفَايَة سقط الْحَرج عَن البَاقِينَ لِأَن هَذَا شَأْن فروض الْكِفَايَة
(وشرائط وجوب الْجِهَاد) حِينَئِذٍ (سبع خِصَال) الأولى (الْإِسْلَام) لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قَاتلُوا الَّذين يلونكم من الْكفَّار} الْآيَة

(2/556)


حالان الْحَال الأول أَن يَكُونُوا ببلادهم فَفرض كِفَايَة إِذا فعله من فيهم فخوطب بِهِ الْمُؤْمِنُونَ فَلَا يجب على الْكَافِر وَلَو ذِمِّيا لِأَنَّهُ يبْذل الْجِزْيَة لنذب عَنهُ لَا ليذب عَنَّا
(و) الثَّانِيَة (الْبلُوغ و) الثَّالِثَة (الْعقل) فَلَا جِهَاد على صبي وَمَجْنُون لعدم تكليفهما
وَلقَوْله تَعَالَى {لَيْسَ على الضُّعَفَاء} الْآيَة قيل هم الصّبيان لضعف أبدانهم وَقيل المجانين لضعف عُقُولهمْ وَلِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رد ابْن عمر يَوْم أحد وَأَجَازَهُ فِي الخَنْدَق
(و) الرَّابِعَة (الْحُرِّيَّة) فَلَا جِهَاد على رَقِيق وَلَو مبعضا أَو مكَاتبا لقَوْله تَعَالَى {وتجاهدون فِي سَبِيل الله بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ} وَلَا مَال للْعَبد وَلَا نفس يملكهَا فَلم يَشْمَلهُ الْخطاب حَتَّى لَو أمره سَيّده لم يلْزمه كَمَا قَالَه الإِمَام لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل هَذَا الشَّأْن وَلَيْسَ الْقِتَال من الِاسْتِخْدَام الْمُسْتَحق للسَّيِّد لِأَن الْملك لَا يَقْتَضِي التَّعَرُّض للهلاك
(و) الْخَامِسَة (الذُّكُورَة) فَلَا جِهَاد على امْرَأَة لِضعْفِهَا
وَلقَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي حرض الْمُؤمنِينَ على الْقِتَال} وَإِطْلَاق لفظ الْمُؤمنِينَ ينْصَرف للرِّجَال دون النِّسَاء وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَائِشَة وَقد سَأَلته فِي الْجِهَاد لَكِن أفضل الْجِهَاد حج مبرور
(و) السَّادِسَة (الصِّحَّة) فَلَا جِهَاد على مَرِيض يتَعَذَّر قِتَاله أَو تعظم مشقته
(و) السَّابِعَة (الطَّاقَة على الْقِتَال) بِالْبدنِ وَالْمَال فَلَا جِهَاد على أعمى وَلَا على ذِي عرج بَين وَلَو فِي رجل وَاحِدَة لقَوْله تَعَالَى {لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج وَلَا على الْأَعْرَج حرج وَلَا على الْمَرِيض حرج} النُّور 61 فَلَا عِبْرَة بصداع ووجع ضرس وَضعف بصر إِن كَانَ يدْرك الشَّخْص ويمكنه اتقاء السِّلَاح
وَلَا عرج يسير لَا يمْنَع الْمَشْي والعدو والهرب وَلَا على أقطع يَد بكاملها أَو مُعظم أصابعها بِخِلَاف فَاقِد الْأَقَل أَو أَصَابِع الرجلَيْن إِن أمكنه الْمَشْي بِغَيْر عرج بَين وَلَا على أشل يَد أَو مُعظم أصابعها لِأَن مَقْصُود الْجِهَاد الْبَطْش
والنكاية وَهُوَ مَفْقُود فيهمَا لِأَن كلا مِنْهُمَا لَا يتَمَكَّن من الضَّرْب وَلَا عادم أهبة قتال من نَفَقَة وَلَا سلَاح
وَكَذَا مركوب إِن كَانَ سفر قصر فَإِن كَانَ دونه لزمَه إِن كَانَ قَادِرًا على الْمَشْي
فَاضل ذَلِك عَن مُؤنَة من تلْزمهُ مُؤْنَته كَمَا فِي الْحَج وَلَو مرض بعد مَا خرج أَو فنى زَاده أَو هَلَكت دَابَّته فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَين أَن ينْصَرف أَو يمْضِي فَإِن حضر الْوَقْعَة جَازَ لَهُ الرُّجُوع على الصَّحِيح إِذا لم يُمكنهُ الْقِتَال فَإِن أمكنه الرَّمْي بِالْحِجَارَةِ فَالْأَصَحّ فِي زَوَائِد الرَّوْضَة الرَّمْي بهَا على تنَاقض وَقع لَهُ فِيهِ
وَلَو كَانَ الْقِتَال على بَاب دَاره أَو حوله سقط اعْتِبَار الْمُؤَن كَمَا ذكره القَاضِي أَبُو الطّيب وَغَيره
وَالضَّابِط الَّذِي يعم مَا سبق وَغَيره كل عذر منع وجوب حج كفقد زَاد وراحلة منع وجوب الْجِهَاد إِلَّا فِي خوف طَرِيق من كفار أَو من لصوص مُسلمين فَلَا يمْنَع وُجُوبه لِأَن الْخَوْف يحْتَمل فِي هَذَا السّفر لبِنَاء الْجِهَاد على مصادمة المخاوف وَالدّين الْحَال على مُوسر يحرم على رجل سفر جِهَاد وسفر غَيره إِلَّا بِإِذن

(2/557)


غَرِيمه وَالدّين الْمُؤَجل لَا يحرم السّفر وَإِن قرب الْأَجَل وَيحرم على رجل جِهَاد بسفر وَغَيره إِلَّا بِإِذن أَبَوَيْهِ إِن كَانَا مُسلمين وَلَو كَانَ الْحَيّ أَحدهمَا فَقَط لم يجز إِلَّا بِإِذْنِهِ وَجَمِيع أُصُوله الْمُسلمين
كَذَلِك وَلَو وجد الْأَقْرَب مِنْهُم وَأذن بِخِلَاف الْكَافِر مِنْهُم لَا يجب اسْتِئْذَانه وَلَا يحرم عَلَيْهِ سفر لتعلم فرض وَلَو كِفَايَة
كَطَلَب دَرَجَة الافتاء بِغَيْر إِذن أَصله وَلَو أذن أَصله أَو رب الدّين فِي الْجِهَاد ثمَّ رَجَعَ بعد خُرُوجه وَعلم بِالرُّجُوعِ وَجب رُجُوعه إِن لم يحضر الصَّفّ وَإِلَّا حرم انْصِرَافه لقَوْله تَعَالَى {إِذا لَقِيتُم فِئَة فاثبتوا} وَيشْتَرط لوُجُوب الرُّجُوع أَيْضا أَن يَأْمَن على نَفسه وَمَاله
وَلم تنكسر قُلُوب الْمُسلمين
وَإِلَّا فَلَا يجب الرُّجُوع بل لَا يجوز
وَالْحَال الثَّانِي من حَال الْكفَّار أَن يدخلُوا بَلْدَة لنا مثلا فَيلْزم أَهلهَا الدّفع بالممكن مِنْهُم
وَيكون الْجِهَاد حِينَئِذٍ فرض عين سَوَاء أمكن تأهبهم لقِتَال أم لم يُمكن علم كل من قصد أَنه إِن أَخذ قتل أَو لم يعلم أَنه إِن امْتنع من الاستسلام قتل أَو لم تأمن الْمَرْأَة فَاحِشَة إِن أخذت
وَمن هُوَ دون مَسَافَة الْقصر من الْبَلدة الَّتِي دَخلهَا الْكفَّار حكمه كأهلها وَإِن كَانَ فِي أَهلهَا كِفَايَة لِأَنَّهُ كالحاضر مَعَهم فَيجب ذَلِك على كل مِمَّن ذكر حَتَّى على فَقير وَولد ومدين ورقيق بِلَا إِذن من الأَصْل وَرب الدّين وَالسَّيِّد وَيلْزم الَّذين على مَسَافَة الْقصر الْمُضِيّ إِلَيْهِم عِنْد الْحَاجة بِقدر الْكِفَايَة دفعا لَهُم وإنقاذا من الهلكة
فَيصير فرض عين فِي حق من قرب وَفرض كِفَايَة فِي حق من بعد
وَإِذا لم يُمكن من قصد تأهب لقِتَال وَجوز أسرا وقتلا فَلهُ استسلام وقتال إِن علم أَنه إِن امْتنع مِنْهُ قتل وَأمنت الْمَرْأَة فَاحِشَة
ثمَّ شرع فِي أَحْكَام الْجِهَاد بقوله (وَمن أسر من الْكفَّار فعلى ضَرْبَيْنِ ضرب يكون رَقِيقا بِنَفس) أَي بِمُجَرَّد (السَّبي) بِفَتْح الْمُهْملَة وَإِسْكَان الْمُوَحدَة وَهُوَ الْأسر كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي تحريره (وهم النِّسَاء وَالصبيان) والمجانين وَالْعَبِيد وَلَو مُسلمين
كَمَا يرق حَرْبِيّ مقهور لحربي بالقهر أَي يصيرون بالأسر أرقاء لنا وَيَكُونُونَ كَسَائِر أَمْوَال الْغَنِيمَة الْخمس لأَهله وَالْبَاقِي للغانمين لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقسم السَّبي كَمَا يقسم المَال
وَالْمرَاد برق العبيد استمراره لَا تجدده وَمثلهمْ فِيمَا ذكر المبعضون تَغْلِيبًا لحقن الدَّم

(2/558)


تَنْبِيه لَا يقتل من ذكر للنَّهْي عَن قتل النِّسَاء وَالصبيان وَالْبَاقِي فِي مَعْنَاهُمَا فَإِن قَتلهمْ الإِمَام وَلَو لشرهم وقوتهم ضمن قيمتهم للغانمين كَسَائِر الْأَمْوَال
(وَضرب لَا يرق بِنَفس السَّبي) وَإِنَّمَا يرق بِالِاخْتِيَارِ كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(وهم الرِّجَال) الْأَحْرَار (البالغون) الْعُقَلَاء (وَالْإِمَام) أَو أَمِير الْجَيْش (مُخَيّر فيهم) بِفعل الأحظ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين
(بَين أَرْبَعَة أَشْيَاء) وَهِي (الْقَتْل) بِضَرْب رَقَبَة لَا بتحريق وتغريق
(والاسترقاق) وَلَو لونثي أَو عَرَبِيّ أَو بعض شخص على الْمُصَحح فِي الرَّوْضَة إِذا رَآهَا مصلحَة
(والمن) عَلَيْهِم بتخلية سبيلهم (والفدية بِالْمَالِ) أَي يَأْخُذهُ مِنْهُم سَوَاء أَكَانَ من مَالهم أَو من مالنا الَّذِي فِي أَيْديهم (أَو بِالرِّجَالِ) أَي برد أسرى مُسلمين كَمَا نَص عَلَيْهِ وَمثل الرِّجَال غَيرهم أَو أهل ذمَّة كَمَا بَحثه بَعضهم وَهُوَ ظَاهر فَيرد مُشْرك بِمُسلم أَو مُسلمين أَو مُشْرِكين بِمُسلم أَو بذمي وَيجوز أَن يفديهم بأسلحتنا الَّتِي فِي أَيْديهم وَلَا يجوز أَن نرد أسلحتهم الَّتِي فِي أَيْدِينَا بِمَال يبذلونه
كَمَا لَا يجوز أَن نبيعهم السِّلَاح (يفعل الإِمَام) أَو أَمِير الْجَيْش (من ذَلِك) بِالِاجْتِهَادِ لَا بالتشهي (مَا فِيهِ الْمصلحَة للْمُسلمين) وَالْإِسْلَام فَإِن خَفِي على الإِمَام أَو أَمِير الْجَيْش
الأحظ حَبسهم حَتَّى يظْهر لَهُ لِأَنَّهُ رَاجع إِلَى الِاجْتِهَاد لَا إِلَى التشهي كَمَا مر
فيؤخر لظُهُور الصَّوَاب وَلَو أسلم أَسِير مُكَلّف لم يخْتَر الإِمَام فِيهِ قبل إِسْلَامه منا وَلَا فدَاء عصم الْإِسْلَام دَمه فَيحرم قَتله لخَبر الصَّحِيحَيْنِ أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله إِلَى أَن قَالَ فَإِذا قالوها عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَقَوله وَأَمْوَالهمْ مَحْمُول على مَا قبل الْأسر بِدَلِيل قَوْله إِلَّا بِحَقِّهَا وَمن حَقّهَا أَن مَاله الْمَقْدُور عَلَيْهِ بعد الْأسر غنيمَة
وَبَقِي الْخِيَار فِي الْبَاقِي من خِصَال التَّخْيِير السَّابِقَة لِأَن الْمُخَير بَين أَشْيَاء إِذا سقط بَعْضهَا لتعذره لَا يسْقط الْخِيَار فِي الْبَاقِي كالعجز عَن الْعتْق فِي الْكَفَّارَة
(وَمن أسلم) من رجل أَو امْرَأَة فِي دَار حَرْب أَو إِسْلَام
(قبل الْأسر) أَي قبل الظفر بِهِ (أحرز) أَي عصم بِإِسْلَامِهِ (مَاله) من غنيمَة (وَدَمه) من سفكه للْخَبَر الْمَار (وصغار أَوْلَاده) الْأَحْرَار عَن السَّبي لأَنهم يتبعونه فِي الْإِسْلَام وَالْجد كَذَلِك فِي الْأَصَح وَلَو كَانَ الْأَب حَيا لما مر وَولده أَو ولد وَلَده الْمَجْنُون كالصغير وَلَو طَرَأَ الْجُنُون بعد الْبلُوغ لما مر أَيْضا ويعصم الْحمل تبعا لَهُ لَا إِن استرقت أمه قبل إِسْلَام الْأَب فَلَا يبطل إِسْلَامه رقّه كالمنفصل وَإِن حكم بِإِسْلَامِهِ
تَنْبِيه سكت المُصَنّف عَن سبي الزَّوْجَة والمذاهب كَمَا فِي الْمِنْهَاج أَن إِسْلَام الزَّوْج لَا يَعْصِمهَا عَن الاسترقاق لاستقلالها وَلَو كَانَت حَامِلا مِنْهُ فِي الْأَصَح
فَإِن قيل لَو بذل مِنْهُ فِي الْجِزْيَة منع إرقاق زَوجته وَابْنَته الْبَالِغَة فَكَانَ الْإِسْلَام أولى
أُجِيب بِأَن مَا يُمكن اسْتِقْلَال الشَّخْص بِهِ لَا يَجْعَل فِيهِ تَابعا لغيره
والبالغة تستقل بِالْإِسْلَامِ وَلَا تستقل ببذل الْجِزْيَة
فَإِن استرقت انْقَطع نِكَاحه فِي حَال السَّبي سَوَاء أَكَانَ قبل الدُّخُول بهَا أم لَا لِامْتِنَاع إمْسَاك الْأمة الْكَافِرَة للنِّكَاح كَمَا يمْتَنع ابْتِدَاء نِكَاحهَا
وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَبَايَا أَوْطَاس أَلا لَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع وَلَا حَائِل حَتَّى تحيض وَلم يسْأَل عَن ذَات زوج وَلَا غَيرهَا
وَمَعْلُوم أَنه كَانَ فيهم من لَهَا زوج وترق زَوْجَة الذِّمِّيّ

(2/559)


بِنَفس الْأسر وَيقطع بِهِ نِكَاحه
فَإِن قيل هَذَا يُخَالف قَوْلهم إِن الْحَرْبِيّ إِذا بذل الْجِزْيَة عصم نَفسه وَزَوجته من الاسترقاق
أُجِيب بِأَن المُرَاد هُنَاكَ الزَّوْجَة الْمَوْجُودَة حِين العقد
فيتناولها العقد على جِهَة التّبعِيَّة وَالْمرَاد هُنَا الزَّوْجَة المتجددة بعد العقد لِأَن العقد لم يَتَنَاوَلهَا وَيجوز إرقاق عَتيق الذِّمِّيّ إِذا كَانَ حَرْبِيّا لِأَن الذِّمِّيّ لَو الْتحق بدار الْحَرْب اسْترق فعتيقه أولى لَا عَتيق مُسلم الْتحق بدار الْحَرْب
فَلَا يسترق لِأَن الْوَلَاء بعد ثُبُوته لَا يرفع وَلَا تسْتَرق زَوْجَة الْمُسلم الحربية إِذا سبيت كَمَا صَححهُ فِي الْمِنْهَاج وَأَصله وَهُوَ الْمُعْتَمد
وَإِن كَانَ مُقْتَضى كَلَام الرَّوْضَة والشرحين الْجَوَاز فَإِنَّهُمَا سويا فِي جَرَيَان الْخلاف بَينهمَا وَبَين زَوْجَة الْحَرْبِيّ إِذا أسلم لِأَن الْإِسْلَام الْأَصْلِيّ أقوى من الْإِسْلَام الطارىء وَلَو سبيت زَوْجَة حرَّة أَو زوج حر ورق انْفَسَخ النِّكَاح لحدوث الرّقّ فَإِن كَانَا رقيقين لم يَنْفَسِخ النِّكَاح إِذْ لم يحدث رق وَإِنَّمَا انْتقل الْملك من شخص إِلَى آخر وَذَلِكَ لَا يقطع النِّكَاح كَالْبيع
وَإِذا رق الْحَرْبِيّ وَعَلِيهِ دين لغير حَرْبِيّ كمسلم وذمي لم يسْقط فيفضي من مَاله إِن غنم بعد رقّه
فَإِن كَانَ لحربي على حَرْبِيّ ورق من عَلَيْهِ الدّين بل أَو رب الدّين فَيسْقط
وَلَو رق رب الدّين وَهُوَ على غير حَرْبِيّ لم يسْقط وَمَا أَخذ من أهل الْحَرْب بِلَا رضَا من عقار أَو غَيره بِسَرِقَة أَو غَيرهَا غنيمَة مخمسة إِلَّا السَّلب خمسها لأَهله وَالْبَاقِي للآخذ وَكَذَا مَا وجد كلقطة مِمَّا يظنّ أَنه لَهُم فَإِن أمكن كَونه لمُسلم وَجب تَعْرِيفه
وَيعرف سنة إِلَّا أَن يكون حَقِيرًا كَسَائِر اللقطات
(وَيحكم للصَّبِيّ) أَي للصَّغِير ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى أَو خُنْثَى (بِالْإِسْلَامِ عِنْد وجود) أحد (ثَلَاثَة أَسبَاب) أَولهَا مَا ذكره بقوله (أَن يسلم أحد أَبَوَيْهِ)
وَالْمَجْنُون وَإِن جن بعد بُلُوغه كالصغير بِأَن يعلق بَين كَافِرين ثمَّ يسلم أَحدهمَا قبل بُلُوغه فَإِنَّهُ يحكم بِإِسْلَامِهِ حَالا سَوَاء أسلم أَحدهمَا قبل وَضعه أم بعده قبل تَمْيِيزه وَقبل بُلُوغه لقَوْله تَعَالَى {وَالَّذين آمنُوا وَاتَّبَعتهمْ ذُرِّيتهمْ بِإِيمَان ألحقنا بهم ذُرِّيتهمْ}
تَنْبِيه قَول المُصَنّف أَن يسلم أحد أَبَوَيْهِ يُوهم قصره على الْأَبَوَيْنِ
وَلَيْسَ مرَادا بل فِي معنى الْأَبَوَيْنِ الأجداد والجدات وَإِن لم يَكُونُوا وارثين وَكَانَ الْأَقْرَب حَيا
فَإِن قيل إِطْلَاق ذَلِك يَقْتَضِي إِسْلَام جَمِيع الْأَطْفَال بِإِسْلَام أَبِيهِم آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
أُجِيب بِأَن الْكَلَام فِي جد يعرف النّسَب إِلَيْهِ بِحَيْثُ يحصل بَينهمَا التَّوَارُث وَبِأَن التّبعِيَّة فِي الْيَهُودِيَّة والنصرانية حكم جَدِيد وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَو ينصرَانِهِ

(2/560)


وَالْمَجْنُون الْمَحْكُوم بِكُفْرِهِ كالصغير فِي تَبَعِيَّة أحد أُصُوله فِي الْإِسْلَام إِن بلغ مَجْنُونا
وَكَذَا إِن بلغ عَاقِلا ثمَّ جن فِي الْأَصَح وَإِذا حدث للْأَب ولد بعد موت الْجد مُسلما تبعه فِي أحد احْتِمَالَيْنِ رَجحه السُّبْكِيّ وَهُوَ الظَّاهِر
فَإِن بلغ الصَّغِير وَوصف كفرا بعد بُلُوغه أَو أَفَاق الْمَجْنُون وَوصف كفرا بعد إِفَاقَته فمرتد على الْأَظْهر لسبق الحكم بِإِسْلَامِهِ
فَأشبه من أسلم بِنَفسِهِ ثمَّ ارْتَدَّ وَإِن كَانَ أحد أَبَوي الصَّغِير مُسلما وَقت علوقه
فَهُوَ مُسلم بِإِجْمَاع وتغليبا لِلْإِسْلَامِ وَلَا يضر مَا يطْرَأ بعد الْعلُوق مِنْهُمَا من ردة
فَإِن بلغ وَوصف كفرا بِأَن أعرب بِهِ عَن نَفسه كَمَا فِي الْمُحَرر فمرتد قطعا لِأَنَّهُ مُسلم ظَاهرا وَبَاطنا وَثَانِيها مَا ذكره بقوله (أَو يسبيه) أَي الصَّغِير أَو الْمَجْنُون (مُسلم) وَقَوله (مُنْفَردا) حَال من ضمير الْمَفْعُول أَي حَال انْفِرَاده
(عَن أَبَوَيْهِ) فَيحكم بِإِسْلَامِهِ ظَاهرا وَبَاطنا تبعا لسابيه لِأَن لَهُ عَلَيْهِ ولَايَة وَلَيْسَ مَعَه من هُوَ أقرب إِلَيْهِ مِنْهُ فيتبعه كَالْأَبِ قَالَ الإِمَام وَكَأن السابي لما أبطل حُرِّيَّته قلبه قلبا كليا
فَعدم عَمَّا كَانَ وافتتح لَهُ وجود تَحت يَد السابي وَولَايَة فَأشبه تولده بَين الْأَبَوَيْنِ الْمُسلمين
وَسَوَاء أَكَانَ السابي بَالغا عَاقِلا أم لَا أما إِذا سبي مَعَ أحد أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يتبع السابي جزما وَمعنى كَون أحد أَبَوي الصَّغِير مَعَه أَن يَكُونَا فِي جَيش وَاحِد وغنيمة وَاحِدَة وَإِن اخْتلف سابيهما لِأَن تَبَعِيَّة الأَصْل أقوى من تَبَعِيَّة السابي فَكَانَ أولى بالاستتباع وَلَا يُؤثر موت الأَصْل بعد لِأَن التّبعِيَّة إِنَّمَا تثبت فِي ابْتِدَاء السَّبي وَخرج بِالْمُسلمِ الْكَافِر فَلَو سباه ذمِّي وَحمله إِلَى دَار الْإِسْلَام أَو مستأمن كَمَا قَالَه الدَّارمِيّ لم يحكم بِإِسْلَامِهِ فِي الْأَصَح
لِأَن كَونه من أهل دَار الْإِسْلَام لم يُؤثر فِيهِ وَلَا فِي أَوْلَاده
فَكيف يُؤثر فِي مسبيه وَلِأَن تَبَعِيَّة الدَّار إِنَّمَا تُؤثر فِي حق من لَا يعرف حَاله وَلَا نسبه
نعم هُوَ على دين سابيه كَمَا ذكره الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره
ثَالِثهَا مَا ذكره بقوله (أَو يُوجد لقيطا فِي دَار الْإِسْلَام) فَيحكم بِإِسْلَامِهِ تبعا للدَّار وَمَا ألحق بهَا وَإِن اسْتَلْحقهُ كَافِر بِلَا بَيِّنَة بنسبه هَذَا إِن وجد بِمحل وَلَو بدار كفر بِهِ مُسلم يُمكن كَونه مِنْهُ وَلَو أَسِيرًا منتشرا أَو تَاجِرًا أَو مجتازا تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ
وَلِأَنَّهُ قد حكم بِإِسْلَامِهِ فَلَا يُغير بِمُجَرَّد دَعْوَى الِاسْتِلْحَاق وَلَكِن لَا يَكْفِي اجتيازه بدار كفر
بِخِلَافِهِ بِدَارِنَا لحرمتها وَلَو نَفَاهُ مُسلم
قبل فِي نفي نسبه لَا فِي نفي إسْلَامهَا اتِّفَاقًا لِأَن نطقه بِالشَّهَادَتَيْنِ إِمَّا خبر وَإِمَّا إنْشَاء فَإِن كَانَ خَبرا للْكَافِرِ لَيْسَ بِهِ مُسلم فَهُوَ كَافِر أما إِذا اسْتَلْحقهُ الْكَافِر بِبَيِّنَة أَو وجد اللَّقِيط بِمحل مَنْسُوب للْكفَّار لَيْسَ بِهِ مُسلم فَهُوَ كَافِر
تَنْبِيه اقْتِصَاره كَغَيْرِهِ على هَذِه الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة يدل على عدم الحكم بِإِسْلَام الصَّغِير الْمُمَيز وَهُوَ الصَّحِيح الْمَنْصُوص
فِي

(2/561)


الْقَدِيم والجديد كَمَا قَالَه الإِمَام لِأَنَّهُ غير مُكَلّف فَأشبه غير الْمُمَيز وَالْمَجْنُون وهما لَا يَصح إسلامهما اتِّفَاقًا وَلِأَن نطقه بِالشَّهَادَتَيْنِ إِمَّا خبر وَإِمَّا إنْشَاء فَإِن كَانَ خَبرا فخبره غير مَقْبُول وَإِن كَانَ إنْشَاء فَهُوَ كعقوده وَهِي بَاطِلَة وَأما إِسْلَام سيدنَا عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فقد اخْتلف فِي وقته فَقيل إِنَّه كَانَ بَالغا حِين أسلم كَمَا نَقله القَاضِي أَبُو الطّيب عَن الإِمَام أَحْمد وَقيل إِنَّه أسلم قبل بُلُوغه وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ
وَأجَاب عَنهُ الْبَيْهَقِيّ بِأَن الْأَحْكَام إِنَّمَا صَارَت معلقَة بِالْبُلُوغِ بعد الْهِجْرَة
قَالَ السُّبْكِيّ وَهُوَ صَحِيح لِأَن الْأَحْكَام إِنَّمَا نيطت بِخَمْسَة عشر عَام الخَنْدَق فقد تكون منوطة قبل ذَلِك بسن التَّمْيِيز وَالْقِيَاس على الصَّلَاة
وَنَحْوهَا لَا يَصح لِأَن الْإِسْلَام لَا يتَنَفَّل بِهِ وعَلى هَذَا يُحَال بَينه وَبَين أَبَوَيْهِ الْكَافرين لِئَلَّا يفتنانه
وَهَذِه الْحَيْلُولَة مُسْتَحبَّة على الصَّحِيح فِي الشَّرْح وَالرَّوْضَة فيتلطف بِوَالِديهِ ليؤخذ مِنْهُمَا فَإِن أَبَيَا فَلَا حيلولة
تَتِمَّة فِي أَطْفَال الْكفَّار إِذا مَاتُوا وَلم يتلفظوا بِالْإِسْلَامِ خلاف منتشر وَالأَصَح أَنهم يدْخلُونَ الْجنَّة لِأَن كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فحكمهم حكم الْكفَّار فِي الدُّنْيَا فَلَا يصلى عَلَيْهِم وَلَا يدفنون فِي مَقَابِر الْمُسلمين
وحكمهم حكم الْمُسلمين فِي الْآخِرَة لما مر

فصل فِي قسم الْغَنِيمَة
وَهِي لُغَة الرِّبْح وَشرعا مَال أَو مَا ألحق بِهِ كخمر مُحْتَرمَة حصل لنا من كفار أصليين حربيين مِمَّا هُوَ لَهُم بِقِتَال منا أَو إيجَاف خيل أَو ركاب وَنَحْو ذَلِك
وَلَو بعد انهزامهم فِي الْقِتَال أَو قبل شهر السِّلَاح حِين التقى الصفان وَمن الْغَنِيمَة مَا أَخذ من دَارهم سَرقَة أَو اختلاسا أَو لقطَة أَو مَا أهدوه لنا أَو صالحونا عَلَيْهِ
وَالْحَرب قَائِمَة وَخرج بِمَا ذكره مَا حصله أهل الذِّمَّة من أهل الْحَرْب بِقِتَال
فالنص أَنه لَيْسَ بغنيمة فَلَا ينْزع مِنْهُم وَمَا أَخذ من تَرِكَة الْمُرْتَد فَإِنَّهُ فَيْء لَا غنيمَة وَمَا أَخذ من ذمِّي كجزية فَإِنَّهُ فَيْء أَيْضا وَلَو أَخذنَا من الْحَرْبِيين مَا أَخَذُوهُ من مُسلم أَو ذمِّي أَو نَحوه بِغَيْر حق لم نملكه وَلَو غنم ذمِّي وَمُسلم غنيمَة فَهَل يُخَمّس الْجَمِيع أَو نصيب الْمُسلم فَقَط وَجْهَان أظهرهمَا الثَّانِي كَمَا رَجحه بعض الْمُتَأَخِّرين
وَلما كَانَ يقدم من أصل مَال الْغَنِيمَة السَّلب بَدَأَ بِهِ فَقَالَ (وَمن) أَي إِذا (قتل) الْمُسلم سَوَاء أَكَانَ حرا أم لَا ذكرا أم لَا بَالغا أم لَا فَارِسًا أم لَا (قَتِيلا أعْطى سلبه) سَوَاء أشرطه لَهُ الإِمَام أم لَا لخَبر الشَّيْخَيْنِ من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه وروى أَبُو دَاوُد أَن أَبَا طَلْحَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قتل يَوْم خَيْبَر عشْرين قَتِيلا وَأخذ سلبهم
تَنْبِيه يسْتَثْنى من إِطْلَاقه الذِّمِّيّ فَإِنَّهُ لَا يسْتَحق السَّلب سَوَاء أحضر بِإِذن الإِمَام أم لَا والمخذل والمرجف والخائن

(2/562)


وَنَحْوهم مِمَّن لَا سهم لَهُ وَلَا رضخ
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وأطلقوا اسْتِحْقَاق العَبْد الْمُسلم السَّلب وَيجب تقيده بِكَوْنِهِ لمُسلم على الْمَذْهَب
وَيشْتَرط فِي الْمَقْتُول أَن لَا يكون مَنْهِيّا عَن قَتله
فَلَو قتل صَبيا أَو امْرَأَة لم يقاتلا فَلَا سلب لَهُ فَإِن قَاتلا اسْتَحَقَّه فِي الْأَصَح
وَلَو أعرض مُسْتَحقّ السَّلب عَنهُ لم يسْقط حَقه مِنْهُ على الْأَصَح لِأَنَّهُ مُتَعَيّن لَهُ إِنَّمَا يسْتَحق الْقَاتِل السَّلب بركوب غرر يَكْفِي بِهِ شَرّ كَافِر فِي حَال الْحَرْب وكفاية شَره أَن يزِيل امْتِنَاعه كَأَن يفقأ عَيْنَيْهِ أَو يقطع يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ وَكَذَا لَو أسره أَو قطع يَدَيْهِ أَو رجلَيْهِ
وَكَذَا لَو قطع يدا ورجلا فَلَو رمي من حصن أَو من صف الْمُسلمين أَو قتل كَافِرًا نَائِما أَو أَسِيرًا أَو قَتله وَقد انهزم الْكفَّار فَلَا سلب لَهُ لِأَنَّهُ فِي مُقَابلَة الْخطر والتغرير بِالنَّفسِ وَهُوَ مُنْتَفٍ هَا هُنَا
وسلب ثِيَاب الْقَتِيل الَّتِي عَلَيْهِ والخف وَآلَة الْحَرْب كدرع وَسلَاح ومركوب وآلته نَحْو سرج ولجام وَكَذَا سوار ومنطقة وَخَاتم وَنَفَقَة مَعَه وَكَذَا جنيبة تقاد مَعَه
فِي الْأَظْهر لَا حقيبة وَهِي وعَاء يجمع فِيهِ الْمَتَاع وَيجْعَل على حقو الْبَعِير مشدودة على الْفرس فَلَا يَأْخُذهَا
وَلَا مَا فِيهَا من الدَّرَاهِم والأمتعة لِأَنَّهَا لَيست من لِبَاسه وَلَا من حليته وَلَا من حلية فرسه
وَلَا يُخَمّس السَّلب على الْمَشْهُور لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِهِ للْقَاتِل وَبعد السَّلب تخرج مُؤنَة الْحِفْظ وَالنَّقْل وَغَيرهمَا من الْمُؤَن اللَّازِمَة كَأُجْرَة جمال وراع
(وتقسم الْغَنِيمَة) وجوبا (بعد ذَلِك) أَي بعد إِعْطَاء السَّلب وَإِخْرَاج الْمُؤَن خَمْسَة أَخْمَاس مُتَسَاوِيَة
(فَيعْطى أَرْبَعَة أخماسها) من عقار ومنقول (لمن شهد الْوَقْعَة) بنية الْقِتَال وهم الغانمون لإِطْلَاق الْآيَة الْكَرِيمَة وَعَملا بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِأَرْض خَيْبَر سَوَاء أقَاتل من حضر بنية الْقِتَال مَعَ الْجَيْش أم لَا لِأَن الْمَقْصُود تهيؤه للْجِهَاد وحصوله هُنَاكَ
فَإِن تِلْكَ الْحَالة باعثة على الْقِتَال
وَلَا يتَأَخَّر عَنهُ فِي الْغَالِب إِلَّا لعدم الْحَاجة إِلَيْهِ مَعَ تكثيره سَواد الْمُسلمين
وَكَذَا من حضر لَا بنية الْقِتَال وَقَاتل فِي الْأَظْهر فَمن لم يحضر أَو حضر لَا بنية الْقِتَال وَلم يُقَاتل لم يسْتَحق شَيْئا وَيسْتَثْنى من ذَلِك مسَائِل الأولى مَا لَو بعث الإِمَام جاسوسا فغنم الْجَيْش قبل رُجُوعه فَإِنَّهُ يشاركهم فِي الْأَصَح
الثَّانِيَة لَو طلب الإِمَام بعض الْعَسْكَر ليحرس من هجوم الْعَدو وأفرد من الْجَيْش كمينا فَإِنَّهُ يُسهم لَهُم وَإِن لم يحضروا الْوَقْعَة لأَنهم فِي حكمهم ذكره الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره
الثَّالِثَة لَو دخل الإِمَام أَو نَائِبه دَار الْحَرْب فَبعث سَرِيَّة فِي نَاحيَة فَغنِمت شاركها جَيش الإِمَام وَبِالْعَكْسِ لاستظهار كل مِنْهُمَا بِالْآخرِ وَلَو بعث سريتين إِلَى جِهَة اشْترك
الْجَمِيع فِيمَا تغنم كل وَاحِدَة مِنْهُمَا
وَكَذَا لَو بعثهما إِلَى جِهَتَيْنِ وَإِن تباعدتا على الْأَصَح
وَلَا شي لمن حضر بعد انْقِضَاء الْقِتَال وَلَو قبل حِيَازَة المَال
وَلَو مَاتَ بَعضهم بعد انْقِضَاء الْقِتَال وَلَو قبل حِيَازَة المَال فحقه لوَارِثه كَسَائِر الْحُقُوق
وَلَو مَاتَ فِي أثْنَاء الْقِتَال فالمنصوص أَنه لَا شَيْء لَهُ فَلَا يخلفه وَارثه فِيهِ وَنَصّ فِي موت الْفرس حِينَئِذٍ أَنه يسْتَحق سهميها وَالأَصَح تَقْرِير النَّصِيبَيْنِ لِأَن الْفَارِس متبوع
فَإِذا مَاتَ فَاتَ الأَصْل وَالْفرس تَابع فَإِذا مَاتَ جَازَ أَن يبْقى سَهْمه للمتبوع وَالْأَظْهَر أَن الْأَجِير الَّذِي وَردت الْإِجَارَة على عينه مُدَّة مُعينَة لَا لجهاده بل لسياسة دَوَاب وَحفظ أَمْتعَة وَنَحْوهَا
والتاجر

(2/563)


والمحترف كالخياط والبقال يُسهم لَهُم إِذا قَاتلُوا لشهودهم الْوَقْعَة وقتالهم أما من وَردت الْإِجَارَة على ذمَّته أَو بِغَيْر مُدَّة كخياطة ثوب فَيعْطى وَإِن لم يُقَاتل وَأما الْأَجِير للْجِهَاد فَإِن كَانَ مُسلما فَلَا أُجْرَة لَهُ لبُطْلَان إِجَارَته لِأَنَّهُ بِحُضُور الصَّفّ تعين عَلَيْهِ وَلم يسْتَحق السهْم فِي أحد وَجْهَيْن قطع بِهِ الْبَغَوِيّ وَاقْتضى كَلَام الرَّافِعِيّ تَرْجِيحه لإعراضه عَنهُ بِالْإِجَارَة وَلم يحضر مُجَاهدًا وَيدْفَع
(للفارس ثَلَاثَة أسْهم) لَهُ سهم ولفرسه سَهْمَان لِلِاتِّبَاعِ فيهمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَمن حضر بفرس يركبه يُسهم لَهُ وَإِن لم يُقَاتل عَلَيْهِ
إِذا كَانَ يُمكنهُ ركُوبه لَا إِن حضر وَلم يعلم بِهِ فَلَا يُسهم لَهُ وَلَا يعْطى إِلَّا لفرس وَاحِد
وَإِن كَانَ مَعَه أَكثر مِنْهَا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُعْط الزبير إِلَّا لفرس وَاحِد
وَكَانَ مَعَه يَوْم خَيْبَر أَفْرَاس عَرَبيا كَانَ الْفرس أَو غَيره كالبرذون وَهُوَ مَا أَبَوَاهُ عجميان والهجين وَهُوَ مَا أَبوهُ عَرَبِيّ دون أمه
والمقرف بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وَكسر الرَّاء عَكسه لِأَن الْكر والفر يحصل من كل مِنْهُمَا وَلَا يضر تفاوتهما كالرجال
وَلَا يعْطى لفرس أعجف أَي مهزول بَين الهزال وَلَا مَا لَا نفع فِيهِ كالهرم وَالْكَبِير لعدم فَائِدَته
وَلَا لبعير وَغَيره كالفيل والبغل وَالْحمار لِأَنَّهَا لَا تصلح للحرب صَلَاحِية الْخَيل لَهُ وَلَكِن يرْضخ لَهَا ويتفاوت بَينهَا بِحَسب النَّفْع
(و) يدْفع (للراجل سهم) وَاحِد لفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك يَوْم خَيْبَر مُتَّفق عَلَيْهِ وَلَا يرد إِعْطَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَلمَة بن الْأَكْوَع رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي وقْعَة سَهْمَيْنِ كَمَا صَحَّ فِي مُسلم لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى مِنْهُ خُصُوصِيَّة اقْتَضَت ذَلِك
(وَلَا يُسهم) من الْغَنِيمَة (إِلَّا لمن استكملت فِيهِ خمس) بل سِتّ (شَرَائِط الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة والذكورة)
وَالصِّحَّة (فَإِن اخْتَلَّ شَرط من ذَلِك)
أَي مِمَّا ذكر كالكافر وَالصَّبِيّ وَالْمَجْنُون وَالرَّقِيق وَالْمَرْأَة وَالْخُنْثَى والزمن (رضخ لَهُ وَلم يُسهم) لوَاحِد مِنْهُم لأَنهم لَيْسُوا من أهل فرض الْجِهَاد
والرضخ بالضاد وَالْخَاء المعجمتين لُغَة الْعَطاء الْقَلِيل وَشرعا اسْم لما دون السهْم ويجتهد الإِمَام أَو أَمِير الْجَيْش فِي قدره لِأَنَّهُ لم يرد فِيهِ تَحْدِيد
فَيرجع إِلَى رَأْيه ويتفاوت على قدر نفع المرضخ لَهُ فَيرجع الْمقَاتل وَمن قِتَاله أَكثر على غَيره والفارس على الراجل وَالْمَرْأَة الَّتِي تداوي الْجَرْحى وتسقي العطاشى على الَّتِي تحفظ الرِّجَال بِخِلَاف سهم الْغَنِيمَة فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْمقَاتل وَغَيره لِأَنَّهُ مَنْصُوص عَلَيْهِ
والرضخ بِالِاجْتِهَادِ لَكِن لَا يبلغ بِهِ سهم راجل وَلَو كَانَ الرضخ لفارس لِأَنَّهُ تبع للسهام فينقص بِهِ من قدرهَا كالحكومة مَعَ الأروش الْمقدرَة وَمحل الرضخ الْأَخْمَاس الْأَرْبَعَة لِأَنَّهُ سهم من الْغَنِيمَة يسْتَحق بِحُضُور الْوَقْعَة إِلَّا أَنه نَاقص وَإِنَّمَا يرْضخ لذِمِّيّ وَمَا ألحق بِهِ من الْكفَّار حضر بِلَا أُجْرَة وَكَانَ حُضُوره بِإِذن الإِمَام أَو أَمِير الْجَيْش وَبلا إِكْرَاه مِنْهُ
وَلَا أثر لإذن الْآحَاد فَإِن حضر بِأُجْرَة فَلهُ الْأُجْرَة وَلَا شَيْء لَهُ سواهَا وَإِن حضر بِلَا إِذن الإِمَام أَو الْأَمِير فَلَا رضخ لَهُ بل يعزره الإِمَام إِن رَآهُ وَإِن أكرهه الإِمَام على الْخُرُوج اسْتحق أُجْرَة مثله من غير سهم وَلَا رضخ لاستهلاك عمله عَلَيْهِ كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
(وَيقسم الْخمس) الْخَامِس بعد ذَلِك (على خَمْسَة أسْهم) فالقسمة من خَمْسَة وَعشْرين لقَوْله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه} الْآيَة
الأول (سهم لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) لِلْآيَةِ وَلَا يسْقط بوفاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل (يصرف بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(2/564)


للْمصَالح) أَي لمصَالح الْمُسلمين فَلَا يصرف مِنْهُ لكَافِر فَمن الْمصَالح سد الثغور وشحنها بِالْعدَدِ والمقاتلة وَهِي مَوَاضِع الْخَوْف من أَطْرَاف بِلَاد الْإِسْلَام الَّتِي تَلِيهَا بِلَاد الْمُشْركين فيخاف أَهلهَا مِنْهُم
وَعمارَة الْمَسَاجِد والقناطر والحصون وأرزاق الْقُضَاة وَالْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء بعلوم تتَعَلَّق بمصالح الْمُسلمين كتفسير وَحَدِيث وَفقه ومعلمي الْقُرْآن والمؤذنين لِأَن بالثغور حفظ الْمُسلمين وَلِئَلَّا يتعطل من ذكر بالاكتساب عَن الِاشْتِغَال بِهَذِهِ الْعُلُوم وَعَن تَنْفِيذ الْأَحْكَام وَعَن التَّعْلِيم والتعلم فيرزقون مَا يكفيهم ليتفرغوا لذَلِك
قَالَ الزَّرْكَشِيّ نقلا عَن الْغَزالِيّ يعْطى الْعلمَاء والقضاة مَعَ الْغَنِيّ وَقدر الْمُعْطى إِلَى رَأْي الإِمَام بِالْمَصْلَحَةِ وَيخْتَلف بِضيق المَال وسعته
وَقَالَ الْغَزالِيّ وَيُعْطى أَيْضا من ذَلِك الْعَاجِز عَن الْكسْب لَا مَعَ الْغَنِيّ وَالْمرَاد بالقضاة غير قُضَاة الْعَسْكَر أما قُضَاة الْعَسْكَر وهم الَّذين يحكمون لأهل الْفَيْء فِي مغزاهم فيرزقون من الْأَخْمَاس الْأَرْبَعَة لَا من خمس الْخمس
كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَكَذَا أئمتهم ومؤذنوهم وعمالهم
يقدم الأهم فالأهم مِنْهَا وجوبا وأهمها
كَمَا قَالَه فِي التَّنْبِيه سد الثغور لِأَن فِيهِ حفظا للْمُسلمين
تَنْبِيه قَالَ فِي الْإِحْيَاء لَو لم يدْفع الإِمَام إِلَى الْمُسْتَحقّين حُقُوقهم من بَيت المَال فَهَل يجوز لأحد أَخذ شَيْء من بَيت المَال وَفِيه أَرْبَعَة مَذَاهِب أَحدهَا لَا يجوز أَخذ شَيْء أصلا لِأَنَّهُ مُشْتَرك وَلَا يدْرِي قدر حِصَّته مِنْهُ
قَالَ وَهَذَا غلُول
وَالثَّانِي يَأْخُذ كل يَوْم قوت يَوْم
وَالثَّالِث يَأْخُذ كِفَايَة سنة
وَالرَّابِع يَأْخُذ مَا يعْطى وَهُوَ قدر حِصَّته
قَالَ وَهَذَا هُوَ الْقيَاس لِأَن المَال لَيْسَ مُشْتَركا بَين الْمُسلمين كالغنيمة بَين الْغَانِمين وَالْمِيرَاث بَين الْوَارِثين لِأَن ذَلِك ملك لَهُم حَتَّى لَو مَاتُوا تقسم بَين ورثتهم وَهَذَا لَو مَاتَ لم يسْتَحق وَارثه شَيْئا انْتهى
وَأقرهُ فِي الْمَجْمُوع على هَذَا الرَّابِع وَهُوَ الظَّاهِر
(و) الثَّانِي (سهم لِذَوي الْقُرْبَى) لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة (وهم) آله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب) وَمِنْهُم إمامنا الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ دون بني عبد شمس وَبني نَوْفَل وَإِن كَانَ الْأَرْبَعَة أَوْلَاد عبد منَاف لاقتصاره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقسم على بني الْأَوَّلين مَعَ سُؤال بني الآخرين لَهُ رَوَاهُ البُخَارِيّ
وَلِأَنَّهُم لم يفارقوه فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا الْإِسْلَام حَتَّى إِنَّه لما بعث صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالرسالة نصروه وذبوا عَنهُ بِخِلَاف بني الآخرين بل كَانُوا يؤذونه وَالثَّلَاثَة الأول أشقاء وَنَوْفَل أخوهم لأبيهم وَعبد شمس جد عُثْمَان بن عَفَّان وَالْعبْرَة بالانتساب إِلَى الْآبَاء أما من انتسب مِنْهُم إِلَى الْأُمَّهَات فَلَا
ويشترك فِي هَذَا الْغَنِيّ وَالْفَقِير وَالنِّسَاء ويفضل الذّكر كَالْإِرْثِ
وَحكى

(2/565)


الإِمَام فِيهِ إِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم
(و) الثَّالِث (سهم لِلْيَتَامَى) لِلْآيَةِ جمع يَتِيم وَهُوَ صَغِير ذكر أَو خُنْثَى أَو أُنْثَى لَا أَب لَهُ أما كَونه صَغِيرا فلخبر لَا يتم بعد احْتِلَام وَأما كَونه لَا أَب لَهُ فللوضع وَالْعرْف سَوَاء أَكَانَ من أَوْلَاد المرتزقة أم لَا قتل أَبوهُ فِي الْجِهَاد أم لَا لَهُ جد أم لَا
تَنْبِيه كَانَ الأولى للْمُصَنف أَن يُقيد الْيَتِيم بِالْمُسلمِ لِأَن أَيْتَام الْكفَّار لَا يُعْطون من سهم الْيَتَامَى شَيْئا لِأَنَّهُ مَال أَخذ من الْكفَّار فَلَا يرجع إِلَيْهِم
وَكَذَا يشْتَرط الْإِسْلَام فِي ذَوي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل لذَلِك ويندرج فِي تفسيرهم الْيَتِيم ولد الزِّنَا واللقيط والمنفي بِلعان وَلَا يسمون أيتاما لِأَن ولد الزِّنَا لَا أَب لَهُ شرعا فَلَا يُوصف باليتيم
واللقيط قد يظْهر أَبوهُ والمنفي بِاللّعانِ قد يستلحقه نافيه وَلَكِن الْقيَاس أَنهم يُعْطون من سهم الْيَتَامَى
فَائِدَة يُقَال لمن فقد أمه دون أَبِيه مُنْقَطع
واليتيم فِي الْبَهَائِم من فقد أمه وَفِي الطير من فقد أَبَاهُ وَأمه وَيشْتَرط فِي إِعْطَاء الْيَتِيم لَا فِي تَسْمِيَته يَتِيما فقره أَو مسكنته لإشعار لفظ الْيَتِيم بذلك وَلِأَن اغتناءه بِمَال أَبِيه
إِذا منع اسْتِحْقَاقه فاغتناؤه بِمَالِه أولى بِمَنْعه (و) الرَّابِع (سهم للْمَسَاكِين) لِلْآيَةِ
وَيدخل فِي هَذَا الِاسْم هُنَا الْفُقَرَاء كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة
(و) الْخَامِس (سهم لِابْنِ السَّبِيل) أَي الطَّرِيق لِلْآيَةِ وَابْن السَّبِيل منشىء سفر مُبَاح من مَحل الزَّكَاة كَمَا فِي قسم الصَّدقَات أَو مجتاز بِهِ فِي سفر وَاحِدًا كَانَ أَو أَكثر ذكرا أَو غَيره سمي بذلك لملازمته السَّبِيل وَهِي الطَّرِيق وَشرط فِي إِعْطَائِهِ لَا فِي تَسْمِيَته الْحَاجة بِأَن لَا يجد مَا يَكْفِيهِ غير الصَّدَقَة وَإِن كَانَ لَهُ مَال فِي مَكَان آخر أَو كَانَ كسوبا أَو كَانَ سَفَره لنزهة
لعُمُوم الْآيَة
تَتِمَّة يجوز للْإِمَام أَن يجمع للْمَسَاكِين بَين سهمهم من الزَّكَاة وسهمهم من الْخمس وحقهم من الْكَفَّارَات فَيصير لَهُم ثَلَاثَة أَمْوَال قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَإِذا وجد فِي وَاحِد مِنْهُم يتم ومسكنة أعْطى باليتم دون المسكنة لِأَن الْيُتْم وصف لَازم والمسكنة زائلة وَاعْترض بِأَن الْيُتْم لَا بُد فِيهِ من فقر أَو مسكنة
وَقَضِيَّة كَلَام الْمَاوَرْدِيّ أَنه إِذا كَانَ الْغَازِي من ذَوي الْقُرْبَى لَا يَأْخُذ بالغزو بل بِالْقَرَابَةِ فَقَط
لَكِن ذكر الرَّافِعِيّ فِي قسم الصَّدقَات أَنه يَأْخُذ بهما
وَاقْتضى كَلَامه أَنه لَا خلاف فِيهِ وَهُوَ ظَاهر
وَالْفرق بَين الْغَزْو والمسكنة أَن الْأَخْذ بالغزو لحاجتنا بالمسكنة لحَاجَة صَاحبهَا
وَمن فقد من الْأَصْنَاف أعْطى الْبَاقُونَ نصِيبه كَمَا فِي الزَّكَاة إِلَّا سهم رَسُول

(2/566)


الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ للْمصَالح كَمَا مر وَيصدق مدعي المسكنة والفقر بِلَا بَيِّنَة وَإِن اتهمَ وَلَا يصدق مدعي الْيُتْم وَلَا مدعي الْقَرَابَة إِلَّا بِبَيِّنَة