البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب الأذان]
الأذان: إعلام بدخول وقت الصلاة، يقال: أذن يؤذن تأذينًا وأذانًا، أي: أعلم الناس. قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] [التوبة: 3] . أي: إعلام. وإنما قيل: أذن - بالتشديد - مبالغة وتكثيرًا.
وإنما سمي الإعلام بوقت الصلاة أذانًا، اشتقاقًا من الأذن؛ لأنها بها يسمع الأذان. هكذا قاله الزجاج.
والأصل فيه: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] الآية [الجمعة: 9] . وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 58] [المائدة: 58] .
وأما السنة: فما «روى أبو عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار، قال: اهتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصلاة، كيف يجمع الناس لها؟ فاستشار المسلمين في ذلك، فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رآها الناس آذن بعضهم بعضًا. . فلم يعجبه ذلك؛ فذكروا له البوق، فقال: " هو مزمار اليهود "، وذكروا له الناقوس، فقال: " هو مزمار النصارى "، فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم لاهتمام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأري الأذان في منامه، فغدا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بذلك، وقال: يا رسول الله، إني لبين النائم واليقظان، إذ أتاني آت، فأراني الأذان. قال: وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يومًا، ثم أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فقال: " ما منعك أن تخبرنا " فقال: سبقني عبد الله بن زيد، فاستحييت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قم يا بلال،

(2/54)


فانظر ماذا يأمرك به عبد الله بن زيد، فافعله ". قال: فأذن بلال.
قال أبو عمير عن عمومته: وإنما لم يأمر عبد الله بن زيد أن يؤذن؛ لأنه كان يومئذ مريضًا» .
وأجمعت الأمة: على أنه مشروع للصلاة.
إذا ثبت هذا: فالأذان مستحب؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أذن اثني عشرة سنة. . وجبت له الجنة، وكتب له بكل أذان ستون حسنة، وبكل إقامة ثلاثون حسنة» .
وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أذن سبع سنين محتسبًا. . كتب له براءة من النار» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة» .
ولهذا الخبر خمس تأويلات:
[إحداهن] : قيل: أطول الناس رجاء؛ لأنه يقال: طال عنقي إلى وعدك، أي: إلى رجائك.

(2/55)


و [الثانية] : قيل: إن المؤذنين أكثر الناس أتباعًا يوم القيامة؛ لأنه يتبعهم كل من صلى بأذانهم، يقال: جاءني عنق من الناس، أي: جماعة.
و [الثالثة] : قيل: إن أعناقهم تطول، حتى لا ينالهم العرق يوم القيامة؛ لأنه روي: «أن العرق يلجم الناس يوم القيامة» .
و [الرابعة] : قيل: أطول الناس أصواتًا، وعبر بالعنق عن الصوت؛ لأنه منه يخرج.
و [الخامسة] : قيل: إعناقًا - بكسر الهمزة - أي: أشد الناس إسراعًا في السير.
إذا ثبت هذا: فهل هو أفضل، أو الإمامة في الصلاة؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها - وهو قول أكثر أصحابنا -: أن الأذان أفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤذنون أمناء، والأئمة ضمناء، فأرشد الله الأئمة، وغفر للمؤذنين» .
والأمين أحسن حالاً من الضمين. ولأنه دعا للأئمة بالرشد، وللمؤذنين بالمغفرة، والغفران أفضل من الرشد.
ومعنى قوله: (أمناء) أي: على المواقيت، فلا يؤذنون قبل دخول الوقت.
وقيل: لأنهم يشرفون على موضع عال، فيكونون أمناء على الحرم.
وقيل: أمناء في تبرعهم بالقيام بالأذان وليس بفرض.
فأما الأئمة: فإنهم (ضمناء) إذا قاموا بفرض الصلاة، فيسقط فرض الكفاية عن سائر الناس.

(2/56)


وقيل: إنهم ضمناء، أي: أنهم يتحملون سهو المأمومين إن وقع عليهم، ويتحملون القيام والقراءة، إذا أدركهم المأمومون في الركوع.
قال أبو إسحاق المروزي: الإمامة مكروهة.
والوجه الثاني: أن الإمامة أفضل. لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا أئمة، ولم يكونوا مؤذنين.
والثالث - حكاه في " الفروع " -: أنهما سواء.
والرابع - وهو اختيار أبي علي الطبري، والمسعودي [في " الإبانة " ق \ 60] : إن كان الإمام يعلم من نفسه القيام بحقوق الإمامة، وما ينوب فيها. . فالإمامة أفضل. وإن كان يعلم أنه لا يقوم بذلك. . فالأذان أفضل؛ لأنه أقل خطرًا.
قال الجويني: ويكون المؤذن غير الإمام؛ لنهي ورد فيه، إن صح.

[مسألة حكم الأذان والإقامة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أحب لأحد أن يصلي في جماعة، ولا وحده، إلا بأذان وإقامة، فإن لم يفعل. . أجزأه) .
وجملة ذلك: أن الأذان والإقامة سنتان مؤكدتان، فإن تركهما. . كان تاركًا لسنة، وصلاته صحيحة. وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه.
وقال أبو سعيد الإصطخري: الأذان فرض من فرائض الكفايات، فإذا كان الرجل. . سقط بذلك الفرض عمن يبلغه الصوت وينتشر إليه، ولا يسقط ذلك عمن لم يظهر ذلك فيه.
فإن كانت قرية صغيرة، أو رفقة في سفر، فأذن واحد منهم. . سقط الفرض عن جميعهم.

(2/57)


وإن كان بلد كبير. . فلا بد أن يؤذن في كل ناحية؛ لينتشر الأذان في جميعهم.
فعلى هذا: إن أجمع أهل بلد على تركه. . قوتلوا. وهذا قول أحمد.
وقال ابن خيران: هو سنة في الصلوات، إلا في صلاة الجمعة، فإنه من فرائض الكفايات فيها؛ لأنها لما اختصت بوجوب الجماعة فيها. . اختصت بوجوب الدعاء إليها.
وقال الأوزاعي: (الأذان ليس بواجب. والإقامة واجبة، فإن تركها، فإن كان الوقت باقيًا. . أعاد الصلاة، وإن خرج الوقت. . لم يعدها) .
وقال أهل الظاهر: (الأذان والإقامة واجبان لكل صلاة) .
فمنهم من قال: هما شرط في صحة الصلاة. ومنهم من قال: ليسا بشرط.
وقال مالك: (هو واجب في مساجد الجماعات) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للمسيء صلاته: «إذا أدركت الصلاة. . فأحسن الوضوء، ثم استقبل القبلة، وكبر» . ولم يأمره بالأذان والإقامة.
فإذا قلنا: إنه سنة، فاتفق أهل بلد على تركه. . فهل يقاتلون على تركه؟
فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 59] :
أحدهما: أنهم يقاتلون؛ لأنه من شعائر الإسلام، فلا يجوز تعطيله.
والثاني: لا يقاتلون؛ لأنه سنة، فلا يقاتلون عليه، كسائر السنن.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/72] : (فلا أحب ترك الأذان والإقامة في سفر، ولا حضر، ولا منفرد، ولا في جماعة، وأنا له في المساجد العظام أشد استحبابًا، وهو في السفر أخف حالاً منه في الحضر) .
وقال في القديم: (وأما الرجل يصلي وحده في المصر. . فأذان المؤذنين وإقامتهم كافية له) .
قال ابن الصباغ: وظاهر هذا: قولان.

(2/58)


[فرع فيما لا يشرع له الأذان والإقامة]
] : والأذان والإقامة مشروعان للصلوات الخمس، فأما صلاة الجنازة، والعيدين، والخسوف، والاستسقاء، والتراويح. . فليس ذلك بسنة فيها.
وحكي عن معاوية، وعمر بن عبد العزيز: (أنهما أمرا بالأذان لصلاة العيد) .
دليلنا: ما روى جابر بن سمرة قال: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عيد. . فلم يؤذن، ولم يقم» .
إلا أن السنة في صلاة العيد، والخسوف والاستسقاء، والتراويح، أن يقال لها: الصلاة جامعة.
فأما صلاة الجنازة: فليس ذلك سنة فيها؛ لأنها ليست من النوافل، فليس لها: الصلاة جامعة. ولا من فرائض الأعيان، فيسن لها الأذان.

[فرع الأذان والإقامة للفوائت]
] : وإن كان عليه فوائت، فأراد قضاءها في وقت واحد. . فلا خلاف على المذهب: أنه يسن له أن يقيم لكل صلاة منهن. ولا خلاف على المذهب: أنه لا يسن له أن يؤذن لغير الأولى. وهل يسن له أن يؤذن للأولى؟ فيه ثلاثة أقوال:

(2/59)


[الأول] : قال في الجديد: (لا يسن له أن يؤذن لها) . وبه قال مالك، والأوزاعي، وإسحاق؛ لما روى أبو سعيد الخدري، قال: «حبسنا يوم الخندق عن الصلاة، حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل. . فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالا، فأمره، فأقام صلاة الظهر فصلاها، ثم أقام العصر فصلاها، ثم أقام المغرب فصلاها، ثم أقام العشاء فصلاها» .
و [الثاني] : قال في القديم: (يؤذن لها) . وبه قال أحمد، وأبو ثور، واختاره ابن المنذر؛ لما روى عمران بن الحصين قال: «سرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، أو قال: في سرية، فلما كان من آخر الليل. . عرسنا، فما أيقظنا إلا حر الشمس، فأمرنا فارتحلنا، ثم سرنا، حتى ارتفعت الشمس، ثم نزلنا، فقضى القوم حوائجهم، ثم أمر بلالاً فأذن، فصلينا ركعتين، ثم أمر بلالا فأقام، ثم صلى الغداة» .
وروى ابن مسعود: «أن المشركين شغلوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أربع صلوات، حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالا فأذن، وأقام للظهر، ثم أقام للتي بعدها» .
و [الثالث] : قال في " الإملاء ": (إن رجا اجتماع الناس. . أذن، وإن لم يرج اجتماعهم. . لم يؤذن) ؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يؤذن للعصر بعرفات، ولا للعشاء بمزدلفة» ؛ لاجتماع الناس هنالك.
قال أبو إسحاق: ولا فرق على هذا القول بين الفائتة، والحاضرة في وقتها، إذا صلى في موضع يرجو اجتماع الناس لها. . أذن وأقام، وإن لم يرج اجتماعًا. . أقام،

(2/60)


ولم يؤذن. فكان عنده: هل يسن الأذان للصلاة الحاضرة، إذا لم يرج اجتماع الناس لها؟ قولان.
قال ابن الصباغ: ولعل هذا لا يصح عنه.
وقال أبو حنيفة: (إذا فاتته صلوات. . أذن وأقام لكل واحد منهن) .
دليلنا: ما ذكرناه من حديث أبي سعيد، وابن مسعود، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر بالأذان لغير الأولى.

[فرع الأذان والإقامة لمريد الجمع]
] : وإن جمع بين الصلاتين في السفر، أو في المطر، فإن جمع بينهما في وقت الأولى منهما. . أذن وأقام للأولى؛ لأنها مؤداة في وقتها، ويقيم للثانية من غير أذان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك بعرفة.
وإن جمع بينهما في وقت الثانية. . فإنه يقيم لكل واحدة منهما.
وهل يسن له الأذان للأولى؟ على الأقوال الثلاثة.
وأما الثانية: فلا يسن لها الأذان، قولاً واحدًا.
وقال أبو حنيفة: (لا يؤذن، ولا يقيم للعشاء بمزدلفة) .
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد، وإقامتين» . ولأن الأولى قد فات وقتها.
وأما الثانية: وإن كان يصليها في وقتها، إلا أنها تابعة للأولى، بدليل: أنه يستحب له أن يقدم الأولى قبل الثانية.

[مسألة الأذان قبل الوقت]
] : ولا يجوز الأذان لغير الصبح قبل دخول وقتها؛ لأنه يراد للإعلام بدخول الوقت، فلا معنى له قبل دخول وقت الصلاة.

(2/61)


وأما الصبح: فيجوز أن يؤذن لها قبل دخول وقتها. وبه قال مالك، والأوزاعي، وأبو يوسف، وأهل الشام.
وقال أبو حنيفة، والثوري: (لا يجوز الأذان لها قبل دخول وقتها) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بلالا يؤذن بليل. . فكلوا واشربوا، حتى يؤذن ابن أم مكتوم» .
فإن كان للمسجد مؤذنان. . فالمستحب: أن يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجر، والثاني بعد طلوعه؛ لأن بلالا كان يؤذن قبل طلوع الفجر، وابن أم مكتوم كان يؤذن بعد طلوعه.
وذكر بعض أصحابنا: إن كان في بلد قد جرت عادتهم بالأذان لها بعد طلوع الفجر. . لم يسع أحدًا أن يؤذن لها في ذلك البلد قبل طلوع الفجر؛ لئلا يغرهم بأذانه.
وفي أول وقت أذان الصبح خمسة أوجه:
أحدها - وهو المشهور - أنه بعد نصف الليل، كالدفع من المزدلفة.
والثاني: إن كان في الشتاء. . فلسبع يبقى من الليل، وإن كان في الصيف. . فلنصف سبع يبقى من الليل. قال الجويني: وذلك سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والثالث - ذكره المسعودي [في " الإبانة " ق \ 60]-: قبيل الصبح لوقت السحر.

(2/62)


والرابع - حكاه في " العدة " -: أن الليل كله وقت لأذان الصبح.
وهذا ضعيف جدًا.
والخامس - ذكره في " الفروع " -: أن ذلك يبنى على آخر وقت العشاء المختار:
فإن قلنا: إنه إلى ثلث الليل. . أذن للصبح، إذا ذهب ثلث الليل.
وإن قلنا: إنه إلى نصف الليل. . أذن، إذا ذهب نصف الليل.
وأما الإقامة: فإنه لا يعتد بها قبل دخول الوقت؛ لأنها تراد لاستفتاح الصلاة، ولا يجوز استفتاحها قبل دخول الوقت.

[مسألة كلمات الأذان]
] : والأذان تسع عشرة كلمة في غير الصبح، وهو: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله - يخفض صوته بهؤلاء الأربع الكلمات من الشهادة - ثم يرجع فيمد صوته، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
وقال مالك: (الأذان سبع عشرة كلمة) . وأسقط من التكبير في أول الأذان تكبيرتين.
وقال أبو حنيفة: (الأذان خمس عشرة كلمة) . فأسقط (الترجيع) : وهو الأربع الكلمات، التي يخفض بها صوته.
وقال أبو يوسف: الأذان ثلاث عشرة كلمة. فأسقط تكبيرتين في أول الأذان، كمالك، وأسقط الترجيع.
دليلنا: ما روى أبو داود، «عن أبي محذورة قال: قلت: يا رسول الله، علمني

(2/63)


سنة الأذان، قال: فمسح مقدم رأسي، وقال: " قل: الله أكبر، الله أكبر» وذكر ما قلناه.
فإن ترك الترجيع في أذانه. . فهل يحتسب بأذانه؟
فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 58] :
أحدهما: يحتسب به، كما لو ترك التثويب.
والثاني: لا يحتسب له، كما لو ترك التكبير.
فإن كان في أذان الصبح. . زاد التثويب بعد الفلاح، وهو أن يقول: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم. نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك في القديم، وعلقه في الجديد على صحة حديث أبي محذورة فيه.
قال الشيخ أبو حامد: يسن ذلك، قولاً واحدًا؛ لأن الحديث قد صح فيه.
وبه قال مالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.
وأما أبو حنيفة: فحكى عنه الطحاوي في التثويب، مثل قولنا. وحكى عنه محمد بن شجاع الثلجي التثويب الأول في نفس الأذان، والثاني بين الأذان والإقامة.
وقال محمد بن الحسن: كان التثويب الأول بين الأذان والإقامة: الصلاة خير من النوم - مرتين - ثم أحدث الناس بالكوفة: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وهو حسن.
واختلف أصحابه فيه:
فمنهم من اختار ما ذكره محمد بن شجاع.
ومنهم من اختار ما ذكره الطحاوي.

(2/64)


وروى الحسن بن زياد: أنه ينتظر بعد الأذان بقدر عشرين آية، ثم يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، مرتين.
ومنهم من لم يقدره.
وقال النخعي: يستحب التثويب لكل صلاة.
وقال الحسن: يثوب للعشاء وللصبح مرتين.
دليلنا: ما روى أبو محذورة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «حي على الفلاح، وإن كان في صلاة الصبح. . قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم» .
وروي: «أن بلالا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمه بالصلاة، فقيل له: إنه نائم، فقال: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، فقال له: " اجعلها في تأذينك» .
والدليل على أنه لا يثوب في غير الصبح: ما روى سويد بن غفلة، «عن بلال قال: (أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أثوب في أذان الصبح، ولا أثوب في غيرها» .

(2/65)


إذا ثبت هذا: فـ (التثويب) في اللغة هو: الرجوع إلى الشيء بعد الخروج منه، قال الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 125] [البقر: 125] . أي: يرجعون إليه.
وأنشدوا:
وكل حي وإن طالت سلامته ... يومًا له من دواعي الموت تثويب
وإنما سمي هذا تثويبًا؛ لأنه يرجع إلى ذكر الصلاة بعد الفلاح.
والسنة: أن يقف المؤذن على أواخر الكلمات في الأذان؛ لأنه روي موقوفًا.
وقال أبو عبيد الهروي: وعوام الناس يضمون الراء من قوله: الله أكبر، وكان أبو العباس المبرد يفتح الراء، ويقول: الله أكبر الله أكبر، فيفتحها في الكلمة الأولى، ويقف في الثانية، واحتج بأن الأذان سمع موقوفًا، غير معرب في مقاطعه، كقولهم: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وكان الأصل أن يقول: الله أكبر الله أكبر، بتسكين الراء، فحولت فتحة الألف من اسم الله تعالى في اللفظة الثانية على الراء قبلها.

[فرع عدد كلمات الإقامة]
وأما الإقامة: فإنها إحدى عشر كلمة في القول الجديد: التكبير مرتان، والشهادة مرتان، والدعاء إلى الصلاة مرة، والدعاء إلى الفلاح مرة، ولفظ الإقامة مرتان، والتكبير مرتان، والتهليل مرة. وبهذا قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.
وقال في القديم: (لفظ الإقامة مرة) . وبه قال مالك، وداود.

(2/66)


وقال أبو حنيفة: (والإقامة مثل الأذان، ويزيد لفظ الإقامة مرتين) .
والإقامة عنده: سبع عشرة كلمة أكثر من الأذان الأول.
دليلنا: ما روى البخاري، عن أنس قال: «أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة» .

[مسألة أذان الكافر وغير المكلف]
] : ولا يصح أذان الكافر؛ لأنه ليس من أهل العبادة.
فإن أذن. . فهل يكون إسلامًا منه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يكون إسلامًا؛ لجواز أن يأتي بذلك على سبيل الحكاية، وقد كان أبو محذورة، وأبو سامعة مؤذنين قبل إسلامهما، على سبيل الحكاية.
والثاني: يحكم بإسلامه، وهو الصحيح؛ لأن هذا صريح في الإسلام، فهو كما لو أتى بالشهادتين باستدعاء غيره منه.
ولا يصح الأذان من المجنون؛ لأنه ليس من أهل العبادة.
قال الجويني: وإن نظم الشارب كلمات الأذان. . فليس بسكران.
ويصح أذان الصبي إذا كان مميزًا.
وقال داود: (لا يعتد به) .
دليلنا: ما روي عن عبد الله بن أبي بكر: أنه قال: (كان عمومتي أمروني أن أؤذن لهم، وأنا غلام لم أحتلم، وأنس بن مالك شاهد لم ينكره) .
ولأنه من أهل العبادة، بدليل: أن إمامته صحيحة، فكذلك أذانه.

(2/67)


[فرع أذان المرأة والخنثى]
] : قال الشافعي في " الأم " [1/73] : (وليس على المرأة أذان، وأحب لها أن تقيم فإن أذنت. . فلا بأس) .
قال قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا: الأذان غير مسنون للمرأة، سواء صلت بانفرادها، أو كن جماعة نساء، فصلين جماعة.
فإن أذنت. . كان ذكرًا؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (ليس على المرأة أذان، فإن أذنت. . كان ذكرًا) .
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه يكره للمرأة أن تؤذن، ويستحب لها أن تقيم.
ولعله أراد بذلك: رفع الصوت؛ لأنه يخاف الافتتان بصوتها. فأما الأذان من غير رفع الصوت. . فلا يكره؛ لأنه ذكر الله تعالى.
فإن أذنت للرجال. . لم يعتد بأذانها لهم، كما لا تصح إمامتها لهم.
قال القاضي في " كتاب الخناثى ": والخنثى كالمرأة.
لا يستحب له أن يؤذن، ويستحب له أن يقيم. فإن أذن. . لم يعتد بأذانه، كالمرأة.

[مسألة صفات المؤذن]
] : والمستحب: أن يكون المؤذن حرًا بالغًا عدلاً؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤذن لكم خياركم»

(2/68)


والعبد، والصبي، والفاسق ليسوا من الخيار. ولأنه أمين على المواقيت، وقد يؤذن في موضع عال.
فإذا لم يكن عدلا. . لم يؤمن أن يؤذن في غير الوقت، ولم يؤمن أن ينظر إلى حرم الناس.
وينبغي أن يكون عارفًا بالمواقيت؛ لئلا يغر الناس بأذانه.
ويستحب أن يكون المؤذن من أولاد من جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأذان فيهم، مثل: أولاد أبي محذورة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل إليه الأذان بمكة. أو أولاد بلال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الأذان إليه في المدينة. أو أولاد سعد القرظ؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل إليه الأذان بعد بلال. فإن انقرضوا، أو لم يكونوا عدولاً. . ففي أولاد الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. فإن لم يوجدوا. . جعله الإمام إلى من يراه من خيار المسلمين.
فإن تنازع جماعة فيه مع تساويهم. . أقرع بينهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لا يجدون، إلا أن يستهموا عليه. . لاستهموا» .
وروي: أن الناس تشاجروا يوم القادسية في الأذان، فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص. . فأقرع بينهم) .

(2/69)


وروي: (أنه اختصم إلى عمر جماعة في الأذان. . فقضى لكل واحد بأذان صلاة) .

[فرع حسن صوت المؤذن وأذان الأعمى]
] : ويستحب أن يكون المؤذن صبيًا؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عبد الله بن زيد أن يعلم بلالا الأذان، وقال: " إنه أندى منك صوتًا» ، و (اختار أبا محذورة لعلو صوته) .
ويستحب أن يكون مع علو صوته حسن الصوت؛ لأنه ذكر لله تعالى ولرسوله.
فإذا كان صوته حسنًا. . رقت قلوب الناس، ورغبوا في استماعه.

(2/70)


ويكره أن يكون المؤذن أعمى؛ لأنه ربما غر الناس بأذانه. فإن كان معه بصير. . لم يكره؛ لأن ابن أم مكتوم كان أعمى، وكان يؤذن مع بلال.

[فرع أذان المحدث والجنب]
] : ويكره أن يؤذن وهو محدث؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يؤذن إلا متوضئ» . ولأنه إذا لم يكن متوضئًا. . انصرف لأجل الطهارة، فإذا جاء غيره، لا يرى أحدًا. . فيظن أن ذلك ليس بأذان. فإن أذن وهو محدث. . صح؛ لأن المقصود يحصل به. وإن أذن وهو جنب، فإن كان خارج المسجد. . صح أذانه ولا يأثم، وإن كان في المسجد أو في رحبته. . أثم بلبثه فيه وصح أذانه.
وقال مجاهد، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: (لا يعتد بأذان المحدث والجنب) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حق وسنة أن لا يؤذن الرجل إلا وهو طاهر» . فأخبر أن ذلك سنة، وهذا ينفي أن يكون واجبًا.

(2/71)


فإن أحدث في أثناء الأذان. . فالمستحب: أن يمضي على أذانه، ولا يخرج منه للطهارة؛ لأنه إذا خرج للطهارة، وقطع الأذان. . ظن السامع أنه متلاعب.
فإن خرج للطهارة. . فالمستحب له: أن يستأنف الأذان؛ لما ذكرناه. وإن بنى على أذانه، فإن لم يطل الفصل. . جاز، وإن طال الفصل، ففيه طريقان، يأتي ذكرهما.

[فرع إقامة غير المتطهر]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/74] : (وإذا كرهت الأذان على غير طهر. . فأنا للإقامة على غير طهر، أكره) .
وجملة ذلك: أنه يستحب أن يكون متطهرًا حال الإقامة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لأنه إذا لم يكن على طهارة. . فأقل ما في ذلك: أنه يعرض نفسه للتهمة، ويستهزئ الناس به) .
وعلل أصحابنا بغير هذا، وقالوا: لأن الإقامة تراد لاستفتاح الصلاة، فاحتاج أن يكون على صفة يمكنه استفتاحها.

[فرع ومما يستحب للمؤذن]
] : ويستحب أن يؤذن المؤذن على موضع عال؛ لما روي في «حديث عبد الله بن زيد: (أنه رأى رجلاً قائمًا، عليه ثوبان أخضران على جذم حائط يؤذن» .

(2/72)


و (جذم الحائط) : أصله.
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ما كان بين أذان بلال، وابن أم مكتوم إلا قدر ما ينزل هذا ويرقى هذا» . فأخبرت أنهما يرقيان إلى موضع عند أذانهما.
ولأن ذلك أبلغ في الإعلام.
والمستحب: أن يؤذن قائمًا، مستقبل القبلة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال: " قم فأذن» . ولأنه إذا لم يكن بد من جهة. . فجهة القبلة أولى.
وقال الجويني: القيام مع القدرة، واستقبال القبلة شرط في الأذان.
والأول هو المشهور؛ لأن الأذان ليس بأعلى حالاً من صلاة النفل، وصلاة النفل تصح مع ترك القيام فيها مع القدرة عليه. ولأن المقصود بالأذان: الإعلام بدخول الوقت، وذلك يحصل وإن كان قاعدًا، أو إلى غير القبلة.

[فرع الالتفات في الحيعلتين]
وإذا أذن إلى القبلة، فبلغ إلى الحيعلة. . لوى عنقه ورأسه يمينًا وشمالاً.
فأما سائر بدنه وقدماه: فلا يلتوي بذلك، سواء كان على الأرض، أو على المنارة.

(2/73)


وقال ابن سيرين: لا يستحب ذلك.
وقال أحمد: (إن كان على المنارة. . فعل ذلك) .
وقال أبو حنيفة: (إن كان فوق المنارة. . استدار بجميع بدنه. وإن كان على الأرض. . لوى عنقه لا غير) .
دليلنا: ما «روى أبو جحيفة قال: (أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة وهو في قبة له حمراء من أدم، فخرج بلال فأذن، فلما بلغ: حي على الصلاة، حي على الفلاح. . لوى عنقه يمينًا وشمالاً ولم يستدر، وأصبعاه في أذنيه، وخرج بلال بين يديه بالعنزة، فركزها بالبطحاء، فصلى إليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمر بين يديه الكلب والحمار، وعليه حلة حمراء، كأني أنظر إلى بريق ساقيه» .
وفي كيفية الالتواء وجهان:
أحدهما - وهو قول البغداديين من أصحابنا -: أنه يلوي عنقه ورأسه إلى الجانب الأيمن، فيقول: حي على الصلاة، حي على الصلاة. ويلوي عنقه ورأسه إلى الجانب الأيسر، فيقول: حي على الفلاح، حي على الفلاح.
وفي كيفية التوائه على هذا أيضًا وجهان:
أحدهما: أنه يلوي عنقه ورأسه إلى الجانب الأيمن، ويقول: حي على الصلاة، حي على الصلاة، ثم يرد وجهه إلى القبلة، ثم يلوي عنقه إلى الجانب الأيسر، ويقول: حي على الفلاح، حي على الفلاح.
والثاني: أنه يلوي عنقه إلى الجانب الأيمن، فيقول: حي على الصلاة، ثم يرد

(2/74)


وجهه إلى القبلة، ثم يلوي إلى الجانب الأيمن، فيقول: حي على الصلاة، ثم يرد وجهه إلى القبلة، ثم يلوي إلى الجانب الأيسر، ويقول: حي على الفلاح، ثم يرد وجهه إلى القبلة، ثم يلوي إلى الجانب الأيسر، ويقول: حي على الفلاح، ثم يرد وجهه إلى القبلة، ويتم أذانه.
والوجه الثاني - في أصل المسألة، وهو قول القفال -: أنه يكون عنقه إلى القبلة، ثم يلوي إلى الجانب الأيمن، فيقول: حي على الصلاة، ثم يرد وجهه إلى القبلة، ثم يلوي عنقه ورأسه إلى الجانب الأيسر، فيقول: حي على الصلاة، ثم يرد وجهه إلى القبلة ثم يلوي عنقه إلى الجانب الأيمن، فيقول: حي على الفلاح، ثم يرد وجهه إلى القبلة ثم يلوي إلى الجانب الأيسر، فيقول: حي على الفلاح.
وإنما خصت الحيعلة بالالتواء دون سائر ألفاظ الأذان؛ لأن سائر ألفاظ الأذان ذكر لله ولرسوله، فكان الاستقبال بها أولى. والحيعلة: تراد للإعلام بدخول الوقت، فكان الالتواء بهما أشبه.
وهل يلتوي في حال الإقامة بالحيعلة؟ فيه وجهان، خرجهما القفال:
أحدهما: يلتوي، كالأذان.
والثاني: لا يلتوي؛ لأن الإقامة للحاضرين، فلا يحتاج إلى الالتواء. بخلاف الأذان، فإنه للغائبين، فاستحب الالتواء فيه؛ ليحصل الإعلام لجميع أهل الجهات.

[فرع ومما يستحب للمؤذن]
] : ويستحب أن يضع أصبعيه في صماخي أذنيه؛ لما ذكرناه في حديث أبي جحيفة. ولأن الصوت من مخارج النفس، فإذا سدهما. . اجتمع النفس في الفم، وخرج الصوت عاليًا.
ولأنه قد يكون هناك من لا يسمع صوته، فيحصل له العلم بالأذان بمشاهدته له بذلك.
ويستحب له أن (يترسل في الأذان) وهو: الترتيل. و (يدرج الإقامة) وهو:

(2/75)


القطع لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال: «يا بلال، إذا أذنت. . فترسل، وإذا أقمت. . فاحدر، واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته، ولا تقوموا حتى تروني» .
ذكره الترمذي.
وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال للمؤذن: (إذا أذنت. . فترسل، وإذا أقمت. . فاحذم) .
قال أبو عبيد: والرواية بالحاء، وهو القطع، وكذلك الجذم - بالجيم - أيضًا: القطع.
ولأن الأذان للغائبين، فكان الترسل فيه أبلغ، والإقامة للحاضرين، فكان الحدر فيها أولى.

[فرع يستحب رفع الصوت]
] : ويستحب أن يرفع صوته إن كان يؤذن للجماعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يغفر للمؤذن مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس» .

(2/76)


ولا يرفع، بحيث يخاف انشقاق حلقه؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأبي محذورة - وقد بالغ في رفع صوته -: (أما خشيت أن تنشق مريطاؤك) . و (المريطاء) : ما بين السرة والعانة، والغالب عليها المد، وبذلك وردت الرواية، ويجوز قصرها.
قال الشافعي: (والأذان بغير تمطيط، ولا بغي) . وقيل: (ولا تغن) .
فمن أصحابنا من قال: (التمطيط) : التمديد، ولهذا يقال: مطط حاجبه، إذا مده.
و (البغي) : هو أن يرفع صوته، حتى يجاوز المقدار.
ومنهم من قال: (التمطيط) : التقطيع. و (البغي) : أن يتشدق في كلامه، ويتشبه في كلامه بالجبارين.
وأما (التغني) : فهو التطريب والتلحين، وأيهما كان. . فهو مكروه.
وإن كان يؤذن لنفسه وحده. . لم يرفع صوته؛ لأنه لا يعلم غيره.
وأما في الإقامة: فلا يرفع صوته، كما يرفع في الأذان؛ لأنها للحاضرين.

[فرع الجهر والمخافتة في الأذان]
] : قال في " الأم " [1/72] : (فإن جهر بشيء من الأذان، وخافت بالباقي. . لم يكن عليه إعادة ما خافت به) ؛ لأنه قد أتى بلفظ الأذان كاملاً، فهو كما لو خافت بالقراءة في موضع الجهر.
قال الشيخ أبو حامد: هذا إذا كان يؤذن لنفسه، فأما إذا كان يؤذن في مسجد الجماعات. . فإنه يجهر به، ولا يخافت في شيء؛ ليحصل به الإعلام.

(2/77)


قال: فإن خافت ببعضه. . فإن شاء أعاد ما خافت به، وإن شاء استأنف.
وقال ابن الصباغ: يحتمل أن يريد الشافعي بذلك: إذا خافت بشيء، لا يخرجه ذلك من حصول الإعلام، كتكبيرة، أو شهادة، فيكون الباقي كافيًا.

[فرع الأذان والإقامة للمتأخر عن الجماعة]
] : قال في " الأم " [1/72] : (فإن دخل مسجد جماعة، وقد أقيمت فيه الصلاة. . أحببت له: أن يؤذن، ويقيم في نفسه، ولا يجهر؛ لئلا يظن أن هذا لصلاة أخرى، أو أن الأول كان قبل دخول الوقت، فيفسد قلب الإمام) .
قال ابن الصباغ: وإنما قال هكذا في " الأم "؛ لأن الأذان مسنون في " الأم " سواء رجا اجتماع جماعة، أو لم يرج.

[فرع ترتيب الأذان]
] : ويجب أن يرتب الأذان، فإن نكس الأذان أو ترك شيئًا منه. . عاد إليه ورتبه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أبا محذورة الأذان مرتبًا، ولأن الأذان متميز عن جميع الأذكار بترتيبه، فإذا لم يرتبه. . لم يعلم السامع أن ذلك أذان.

[فرع كراهة الكلام حال الأذان]
] : والمستحب له: أن لا يتكلم في أذانه بمصلحته، ولا بمصلحة غيره.
فإن تكلم فيه. . لم يبطل؛ لما روي عن سليمان بن صرد: (أنه كان يتكلم في أذانه بحوائجه) . وكانت له صحبة.
وروى نافع عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمر مؤذنه - في ليلة باردة ذات ريح - أن

(2/78)


يقول: ألا صلوا في رحالكم» . وظاهر هذا: أنه كان في حال الأذان.
وروي عن ابن عباس: (أنه أمر مؤذنه في يوم الجمعة وكان مطيرًا أن يقول - بعد الفلاح -: صلوا في رحالكم، وقال: قد فعله من هو خير مني) .
فإن تكلم كلامًا يسيرًا. . لم يبطل أذانه. وهل يستحب له الاستئناف؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي علي الطبري، والشيخ أبي حامد -: أنه لا يستحب له الاستئناف، كما لو سكت سكوتًا يسيرًا.
والثاني - وهو قول ابن الصباغ -: أنه يستحب له الاستئناف؛ لأنه مستغن عن يسير الكلام، غير مستغن عن يسير السكوت.
وإن تكلم كلامًا كثيرًا، أو سكت سكوتًا كثيرًا، أو نام أو أغمي عليه في حال أذانه. . فهل يبطل أذانه؟ فيه طريقان:
[الأول] : قال البغداديون من أصحابنا: لا يبطل أذانه.
و [الثاني] : قال الخراسانيون: يبنى على من سبقه الحدث في الصلاة، فإن قلنا: لا تبطل صلاته. . فهاهنا أولى، وإن قلنا: تبطل صلاته. . ففي الأذان قولان.
والفرق بينهما: أن الكلام اليسير يجوز في الأذان، بخلاف الصلاة.

(2/79)


فإذا قلنا: لا يبطل. . فهل لغيره أن يبني على أذان الأول؟
قال البغداديون من أصحابنا: لا يجوز؛ لأن ذلك لا يحصل به الإعلام؛ لأن السامع يظن أن ذلك على وجه التلاعب.
وقال الخراسانيون:
إن قلنا: يجوز الاستخلاف في الصلاة. . ففي الأذان أولى أن يجوز.
وإن قلنا: لا يجوز الاستخلاف في الصلاة. ففي الأذان قولان.
والفرق بينهما ما قدمناه.

[فرع المؤذن يرتد]
] : فإن أذن، ثم ارتد. . فالمستحب: أن لا يصلى بأذانه؛ لأن حصول الردة بعد الأذان يوقع شبهة في حاله.
وإن ارتد في حال الأذان. . لم يصح إتمامه منه في حال ردته؛ لأن الكافر لا يعتد بأذانه. ولا يجوز لغيره أن يبني عليه، على طريقة البغداديين من أصحابنا، وهو المشهور.
فإن رجع إلى الإسلام عن قرب. . فهل يجوز له البناء عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه قد بطل بالردة.
والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لأن الردة لا تبطل العمل - عندنا - ما لم تتصل بالموت.

[فرع الكلام حال الإقامة]
] : وإن تكلم في الإقامة. . لم تبطل. وهو قول كافة العلماء.
وقال الزهري: تبطل الإقامة.

(2/80)


دليلنا: أن الخطبة أعلى من الإقامة؛ لأنها شرط في الصلاة، ويشترط فيها الطهارة والستارة في قول. فإذا لم تبطل بالكلام. . فلأن لا تبطل الإقامة بذلك أولى.

[مسألة ما يقوله مستمع الأذان]
] : ويستحب لغير المصلي - إذا سمع المؤذن - أن يقول مثل ما يقول، إلا في الحيعلة، فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لما روى عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال - حين يسمع النداء - ذلك خالصًا من قلبه. . دخل الجنة» . وروى «عن عبد الله بن علقمة: أنه قال: (إني لعند معاوية، إذ أذن مؤذنه. . فقال معاوية كما قال مؤذنه، حتى إذا قال: حي على الصلاة، حي على الفلاح. . قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال بعد ذلك مثل ما قال المؤذن، ثم قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ذلك» .
وإنما سن له أن يقول كما يقول المؤذن في غير الحيعلة؛ ليدل على رضاه بقوله، وأما (الحيعلة) : فمعناها الدعاء؛ لأن معنى: (حي على الصلاة) أي: هلم إلى الصلاة، ومعنى (حي على الفلاح) أي: هلم إلى العمل الذي يوجب (الفلاح) ، وهو: البقاء في الجنة.
وهذا المعنى لا يصلح لغير المؤذن، فاستحب له أن يأتي بذكر لله غيره.
وخص قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله عند الحيعلة؛ لأن معناها: لا حول عن معصية الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بالله. والصلاة من أعمال الطاعات.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 59] : ويقول المتابع عند تثويب المؤذن: صدقت وبررت.

(2/81)


إذا ثبت هذا: فروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته. . حلت له الشفاعة يوم القيامة» .
وروى سعد بن أبي وقاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال حين يسمع النداء: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًا ورسولاً. . غفر الله له ما تقدم من ذنبه» .
وهذا يدل على: أنه يقول ذلك في أثناء أذانه.
وروى عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سمعتم المؤذن. . فقولوا: مثل ما يقول، ثم صلوا علي؛ فإنه من صلى علي مرة. . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بها عشرًا، ثم اسألوا الله لي الوسيلة والفضيلة؛ فإنها منزلة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن يكون أنا، فمن سأل الله لي الوسيلة. . حلت له الشفاعة» .

(2/82)


وهذا يدل على: أنه يقول ذلك بعد الأذان.
قال ابن الصباغ: ويحتمل أن يقول مثل ما يقول المؤذن، ثم يدعو في حال تطويل المؤذن صوته، وأي ذلك فعل. . جاز.
وإن كان في أذان المغرب. . قال: «اللهم: إن هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعاتك، فاغفر لي» ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أم سلمة أن تقول ذلك.
قال أصحابنا: وإن كان في أذان الصبح. . قال: اللهم هذا إقبال نهارك، وإدبار ليلك، وأصوات دعاتك، فاغفر لي.

[فرع سماع الأذان حال القراءة والذكر]
] : وإن سمع المؤذن، وهو في قراءة، أو ذكر لله. . قطع القراءة والذكر، وتابع المؤذن؛ لأن الأذان يفوت، والقراءة والذكر لا يفوتان.
فإن سمع المؤذن، وهو في الصلاة. . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لم يتابعه، فإذا فرغ منها. . قاله) . هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 59] : هل يسن للمصلي متابعة المؤذن؟ فيه قولان:
ولا فرق - عندنا - بين صلاة الفرض والنفل.
وقال مالك، والليث: (إن كان في النفل. . تابعه، إلا في الحيعلة. . فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله) .
وهذا ليس بصحيح؛ لأن ذلك يقطعه عن الصلاة، ويشتغل بغيرها.

(2/83)


فإن خالف المصلي، وتابع المؤذن، فإن قال مثل ما قال المؤذن، وقال عند الحيعلة: لا حول ولا قوة إلا بالله. . لم تبطل صلاته بذلك؛ لأن ذلك ذكر لله، وذكر الله لا يبطل الصلاة.
وإن قال في الحيعلة: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فإن لم يعلم أن هذا دعاء إلى الصلاة. . لم تبطل صلاته. وإن علم. . بطلت صلاته؛ لأنه خطاب آدمي.
قال الصيمري: إن تابعه، وأراد به الأذان. . بطلت صلاته. وإن قال ذلك على سبيل الذكر. . لم تبطل صلاته، إذا لم يقل: حي على الصلاة، حي على الفلاح، مع العلم بتحريمه.

[فرع الدعاء بين الأذانين والخروج من المسجد]
ويستحب أن يدعو الله بين الأذان والإقامة؛ لما روى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة، فادعوا» .
ويكره الخروج من المسجد بعد الأذان، وقبل الصلاة إلا لعذر؛ لما «روى أبو الشعثاء قال: (خرج رجل من المسجد بعد ما أذن فيه بالعصر، فقال أبو هريرة: أما هذا: فقد عصى أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وبه قال عثمان.

(2/84)


وقال النخعي: يخرج ما لم يأخذ المؤذن في الإقامة.
ودليلنا عليه: ما تقدم.

[فرع انتظار المؤذن للجماعة]
] : ويستحب - إذا أذن المؤذن - أن ينتظر في غير المغرب حضور الجماعة؛ لأنه إذا وصل الأذان بالإقامة. . لم يحصل المقصود.
قال في " الأم " [1/72] : (وإذا أذن المؤذن الأول. . خرج الإمام، ولم ينتظر أذان غيره، فإذا خرج الإمام. . قطع الأذان وصلى) .
قال الشيخ أبو حامد: إذا كان للمسجد جماعة مؤذنين، فأذن واحد منهم في أول الوقت. . فإن الإمام يخرج، ولا ينتظر أذان غيره. فإذا خرج. . قطع المؤذنون، ولم يؤذنوا، وصلى؛ لأنه إذا صلى في ذلك الوقت. . أدرك الناس فضيلة أول الوقت.
وإذا أخره وانتظر أذان الباقين. . فاتهم فضيلة أول الوقت، فكان تحصيل فضيلة أول الوقت أولى.

[مسألة ما يستحب للمقيم]
] : وإذا أراد المؤذن الإقامة. . فالمستحب له: أن يتحول من موضع الأذان إلى غيره؛ لما روى عبد الله بن زيد - في الرجل الذي رآه -: (أنه استأخر عن موضع الأذان غير كثير، ثم قال مثل ما قال في الأذان، وجعلها وترًا) .
ويستحب أن يتولى الإقامة من تولى الأذان؛ لما روي «عن زياد بن الحارث الصدائي: قال: أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أؤذن في صلاة الفجر، فأذنت، فأراد بلال أن يقيم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن أخا صداء أذن، ومن أذن. . فهو يقيم» .

(2/85)


قال الجويني: ولا يقيم إلا واحد، فإن أذن جماعة واحد بعد واحد. . أقام من أذن أولاً. وإن أذنوا في حالة واحدة. . اقترعوا للإقامة، أو رضوا بواحد منهم يقيم.
فإن أذن واحد، وأقام غيره. . قال البغداديون من أصحابنا: صح؛ لـ: (أن بلالا أذن، وأقام عبد الله بن زيد بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
وقال الخراسانيون: هل يعتد بالإقامة؟
فيه قولان، بناء على القولين، إذا خطب واحد، وصلى آخر.
ويؤذن المؤذن عند دخول الوقت من غير أمر.
وأما الإقامة: فلا يقيم إلا بأمر الإمام؛ لما روي في حديث أبي جحيفة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقوموا حتى تروني» .
وروي عن جابر بن سمرة: قال: «كان مؤذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمهل فلا يقيم، حتى إذا رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد خرج. . أقام الصلاة حين يراه» .
ويستحب - لمن سمع الإقامة - أن يقول كقوله، إلا في الحيعلة. . فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. ويقول في لفظ الإقامة لفظ: «أقامها الله وأدامها» ؛ لما روى أبو أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك.

(2/86)


[مسألة عدد المؤذنين]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب أن يكون المؤذنون اثنين) ؛ لأن الذي حفظ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلال، وابن أم مكتوم. فإن اقتصر على واحد. . جاز؛ لأن مسجد مكة كان فيه مؤذن واحد.
ولا يضر أن يكون أكثر من اثنين.
وقال أبو علي الطبري، وعامة أصحابنا: لا يجاوز أربعة؛ لأن أكثر ما روي عن الصحابة في ذلك، عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه اتخذ أربعة) .
ولأنهم إذا زادوا على ذلك، وأذنوا واحدًا بعد واحدٍ. . فوتوا على الناس فضيلة أول الوقت.
وقال ابن الصباغ: هذا التقدير لا يصح، بل على حسب ما تدعو إليه الحاجة؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يحدد ذلك بحد.
فإن كانوا أكثر من واحد. . لم يتراسلوا بالأذان، بل يؤذن واحد بعد واحد إن كان الوقت متسعًا؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «لم يكن بين أذان بلال وابن أم مكتوم إلا قدر ما ينزل هذا، ويرقى هذا» .
قال الجويني: فإن ضاق الوقت. . أذنوا دفعة واحدة. وهكذا إن كان المسجد كبيرًا. . فلا بأس أن يؤذن كل واحد منهم في منارة، أو ناحية منه؛ ليسمع من يليه من أهل البلد.

(2/87)


[فرع أذان الجمعة]
] : قال المحاملي: قال الشافعي: (وأحب أن يؤذن للجمعة أذانًا واحدًا عند المنبر؛ لما «روى السائب بن يزيد قال: كان الأذان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر، وعمر - إذا جلس الإمام على المنبر - أذانًا واحدًا، فلما كان في زمن عثمان، وكثر الناس. . أمر بالأذان الثاني، فأذن به، فكان يؤذن به على الزوراء لأهل السوق والناس» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب ما كان يفعل على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر) .
ويستحب أن يكون المؤذن واحدًا؛ لأنه لم يكن يؤذن يوم الجمعة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بلال.

[فرع استدعاء الأئمة إلى الصلاة]
] : يجوز استدعاء الأمراء إلى الصلاة؛ لما روي: (أن بلالا كان يفعل ذلك في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، و: (في زمن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) .

(2/88)


[مسألة التطوع بالأذان]
] : إذا لم يوجد من يتطوع بالأذان. . رزق الإمام من سهم المصالح من يؤذن.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أحسب بلدًا تخلو من متطوع بالأذان) .
فإن أراد أن يستأجر رجلا للأذان. . فهل يصح عقد الإجارة عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، وهو اختيار الشيخ أبو حامد؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعثمان بن أبي العاص: " اتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» .
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك لا تصح الإجارة على القضاء، والإمامة الكبرى والصغرى، والجهاد.
والوجه الثاني: يصح الاستئجار على الأذان، وهو اختيار القاضي أبي الطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وابن الصباغ.
وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه إعلام بوقت الصلاة، فيصح الاستئجار عليه، كالمواقيتي.
فإذا قلنا بهذا. . فهل يختص عقد الإجارة عليه بالإمام، أو يصح منه ومن غيره من الناس؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 60] .
وبالله التوفيق * *

(2/89)