البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب صلاة الخوف]
صلاة الخوف ثابتة في وقتنا، ولم تنسخ، وبه قال كافة أهل العلم.
وقال أبو يوسف والمزني: كانت جائزة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم نسخت في آخر زمانه، وفي حق غيره، فلا يجوز لأحد فعلها بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقيل: لم تنسخ، وإنما هي خاصة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون من بعده.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، وهذا عام، ويدل عليه إجماع الصحابة، فإنه روي: (أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى بأصحابه صلاة الخوف ليلة الهرير) ، وروي: (أن أبا موسى الأشعري صلى بأصحابه صلاة الخوف في بعض غزواته) ، وروي: «أن سعيد بن العاص كان أميرًا على الجيش بطبرستان، فأراد أن يصلي صلاة الخوف، فقال: (هل فيكم من

(2/500)


صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا فقدمه، حتى يصلي بهم» . ولم ينكر ذلك كله أحد من الصحابة، فدل على أنه إجماع.
ولا يؤثر الخوف في عدد الركعات، بل إن كان في الحضر صلاها أربعًا، وإن كان في السفر صلاها ركعتين، ويستوي الإمام والمأموم في ذلك، وهو قول كافة الفقهاء، وبه قال ابن عمر وجابر.
وذهب الحسن البصري، وطاوس إلى: أن الإمام يصلي ركعتين، والمأموم يصلي ركعة، وروي ذلك عن ابن عباس.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ولم يفرق.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم بذات الرقاع، بكل طائفة ركعتين» .

(2/501)


[مسألة جواز صلاة الخوف في القتال]
] : ويجوز صلاة الخوف بالقتال الواجب والمباح.
فأما الواجب: فهو قتال الكفار، وقتال أهل العدل لأهل البغي، وقتال من يقصد نفسه، إذا قلنا: إنه واجب.
وأما المباح: فهو كقتاله لمن أراد أخذ ماله، أو مال غيره من المسلمين، أو من أهل الذمة؛ لأن القرآن دل على جواز ذلك في قتال الكفار، وقسنا غيره عليه.
ولا تجوز صلاة الخوف في قتال المعصية، كقتال المسلمين وأهل الذمة لأخذ أموالهم، وقتال أهل البغي لأهل العدل، وما أشبه ذلك؛ لأن ذلك رخصة متعلقة بسبب، فإذا كان السبب معصية لم تتعلق به الرخصة، كالقصر والفطر في سفر المعصية.
فإن هرب من غريمه، وهو معسر فله أن يصلي صلاة الخوف عند الخوف.
قال في " الإبانة " [ق \ 99] : وكذلك إذا هرب من القصاص، فله أن يصلي صلاة الخوف؛ لأنه يرجو العفو.
وإن انهزموا عن المشركين، فصلوا صلاة شدة الخوف، فإن كانوا متحرفين لقتال، مثل أن تكون الشمس في وجوههم، أو في هبوط من الأرض، والعدو أعلى منهم، فانهزموا؛ ليطلبوا مكانًا أمكن للقتال، أو كانوا متحيزين إلى فئة، مستنصرين بهم، جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لأنهم ليسوا بعصاة.

(2/502)


وإن انهزموا منهم لغير هذين المعنيين، فإن كان العدو أكثر من مثليهم، جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لأنه فرار جائز، وإن كانوا مثلهم أو مثليهم لم يجز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لأنهم عاصون بالهزيمة منهم.

[مسألة صلاة الخوف عند طلب العدو]
] : قال الشافعي: (وليس لأحد أن يصلي صلاة شدة الخوف في طلب العدو) .
قال أصحابنا: طلب العدو على ضربين.
أحدهما: أن يدخل المسلمون بلاد العدو، ويبلغوا منها موضعًا لا يتلقاهم العدو هناك، ولا يخالفون منهم، أو يكون المشركون قد انهزموا من المسلمين هزيمة يتحقق أنهم لا يرجعون ولا يجتمعون عن قرب، فإن كان هكذا لم يجز أن يصلوا صلاة الخوف؛ لأنهم غير خائفين.
الثاني: أن يدخل المسلمون بلاد العدو، ويبلغوا منها موضعًا لا يأمنون وقوع العدو عليهم، ويخافون نكايتهم، أو يكونون قد هزموهم هزيمة قد يمكنهم الرجوع، والاجتماع عليهم عن قرب، ولا يؤمن ذلك منهم، فيجوز لهم أن يصلوا صلاة الخوف؛ لأن الخوف هاهنا موجود.

[مسألة كيفية صلاة الخوف]
] : وأما كيفية صلاة الخوف: فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أنه صلى صلاة الخوف في مواضع كثيرة، وبعضها يخالف بعضًا فعلًا) ، واختار الشافعي منها صلاته في ثلاثة مواضع: في بطن نخل، وفي ذات الرقاع، وبعسفان، وكل صلاة تخالف الأخرى فعلًا؛ لاختلاف الحال فيها.

(2/503)


فأما صلاة بطن نخل: فيصليها الإمام بوجود ثلاثة شروط:
أحدها: أن يكون العدو في غير جهة القبلة.
الثاني: أن يكون في المسلمين كثرة، وفي العدو قلة.
والثالث: ألا يأمنوا من انكباب العدو عليهم في الصلاة.
فإذا وجدت هذه الشرائط، فرق الإمام الناس فرقتين، فيصلي بفرقة جميع الصلاة، وفرقة في وجه العدو، فإذا سلم الإمام بالأولى، مضت إلى وجه العدو؛ وجاءت الفرقة الثانية، فيصلي بهم جميع الصلاة أيضا مرة ثانية، فتكون للإمام تطوعا، ولهم فريضة.
والدليل عليه: ما روى أبو بكرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالناس ببطن النخل هكذا» .

[مسألة صلاة ذات الرقاع]
] : وأما صلاة ذات الرقاع: فتجوز بوجود هذه الشروط الثلاثة.

(2/504)


وصفتها: أن يفرق الإمام الناس فرقتين، فتقف فرقة في وجه العدو، ويحرم الإمام بالصلاة، وتصلي خلفه فرقة، فإن كانت الصلاة ركعتين، صلى الإمام بالفرقة الأولى ركعة، فإذا قام إلى الثانية، ثبت الإمام قائما، ونوت الأولى مفارقته، وأتموا الركعة الثانية لأنفسهم، ثم يمضون إلى وجه العدو، وتأتي الفرقة الثانية، ويحرمون خلف الإمام، وينوون الاقتداء به، فيصلي بهم الركعة الثانية، ويقومون قبل سلامه، ويتمون الركعة الثانية لأنفسهم، وينتظرهم حتى يسلم بهم، وهذا أفضل من أن يصلي بكل فرقة جميع الصلاة؛ ليسوي بين الطائفتين، فأما في الأولى: فقد صلى مع الأولى فرضا، ومع الثانية نفلا؛ ولأن هذا أخف من الأولى، هذا مذهبنا، وبه قال مالك، إلا في شيء واحد، وهو أنه قال: (إذا صلى الإمام بالفرقة الثانية الركعة التي بقيت عليه، فإنه يتشهد بهم ويسلم، فإذا سلم أمر الطائفة يقضون ما عليهم، ويسلمون لأنفسهم) .
وقال أبو حنيفة: (يصلي بالطائفة الأولى ركعة، فإذا قام الإمام إلى الثانية، مضت هذه الطائفة إلى وجه العدو، وهم في الصلاة، وجاءت الطائفة الأخرى إلى مكان الأولى، فيصلي بهم الإمام ركعة ثانية، ويتشهد بهم، ويسلم الإمام وحده، فإذا فرغ الإمام من السلام، قامت الطائفة، ومضت إلى وجه العدو، وهم في الصلاة، وجاءت الطائفة الأولى إلى مكانها، وأتمت صلاتها وسلمت، ومضت إلى وجه العدو، وجاءت الطائفة الثانية إلى مكانها، وأتمت صلاتها) .
واحتج بقوله تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] [النساء: 102] .
فدل على أنهم إذا قاموا من سجود الأولى، مضوا إلى وجه العدو.
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بذات الرقاع نحو ما ذكروه» .

(2/505)


ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] [النساء: 102] .
فأضاف السجود إليهم، وذلك لا يضاف إليهم بانفرادهم، إلا في الركعة الثانية؛ لأنه لو أراد السجود في الأولى، لأضافه إلى الإمام وإليهم، كما قال في الأولى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] [النساء: 102] ، فأضاف القيام إليه وإليهم؛ لما كان مشتركًا بينهم.
وروى صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف بذات الرقاع، فذكر نحو ما قلناه.
ولأن ما ذهبنا إليه أولى؛ لأنه روى ذلك صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسهل بن أبي حثمة، وخبرهم تفرد به ابن عمر.
ولأن فيما ذكروه المشي في الصلاة، فكان ما ذهبنا إليه أولى.
وذات الرقاع: اسم لمكان، واختلفوا: لم سمي بذلك؟ فقيل: لأنه اسم لجبل مختلف البقاع، فمنه: أسود، وأحمر، وأصفر، فلما اختلفت بقاعه سمي: ذات الرقاع.
وقيل: إنها أرض خشنة، مشى فيها ثمانية نفر، قد ذهبت أظافيرهم، وبقيت أقدامهم، فكانوا يرقعون أظافيرهم بالخرق، فسميت بذات الرقاع.

(2/506)


[فرع كيفية صلاة الخوف]
] : إذا قام الإمام إلى الركعة الثانية، فإن الطائفة الأولى تنوي مفارقته، وتتم الركعة الثانية لأنفسهم، فيفارقونه فعلًا وحكمًا.
ومعنى قولنا: (فعلًا) أي: أنهم ينفردون بفعل الثانية.
ومعنى قولنا: (حكمًا) أي أن الإمام إذا سها بعد أن فارقوه، لم يلحقهم سهوه، وإن سهوا بعد مفارقته، لم يتحمل عنهم الإمام؛ لأنهم غير مؤتمين به، فلم يتعلق حكمهم بحكمه.
فإن جلس الإمام في الثانية ساهيًا، أو عجز عن القيام فجلس، فإنهم ينوون مفارقته قبل الانتصاب؛ لأن هذا موضع قيامهم، وكذلك إذا عمد الإمام إلى الجلوس، نووا أيضًا مفارقته، وقاموا لما ذكرناه.
فإن أطال الإمام الجلوس مع العلم بطلت صلاته، ولا تبطل صلاة الطائفة الأولى؛ لأن صلاته تبطل بعد أن فارقوه.
وأما الطائفة الثانية: فإن جاءوا، وأحرموا خلفه، فإن كانوا عالمين ببطلان صلاته بطلت صلاتهم، وإن لم يعملوا لم تبطل صلاتهم، كما نقول فيمن صلى خلف محدث.
وإذا قام الإمام إلى الثانية، وانتظر الثانية، فهل يقرأ في حال انتظاره؟
قال الشافعي في موضع: (يقرأ، ويطيل القراءة، فإذا جاءت الثانية قرأ بعد مجيئها بقدر فاتحة الكتاب، وأقصر سورة) .
وقال في موضع: (لا يقرأ، وإنما يسبح) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يقرأ؛ ليساوي بين الطائفتين في القراءة.
فعلى هذا: يسبح، ويذكر الله تعالى بما شاء.

(2/507)


والثاني: يقرأ، وهو الصحيح؛ لأن أفعال الصلاة لا تخلو من ذكر الله، والقيام لم يشرع له إلا القراءة.
فعلى هذا: يقرأ بعد مجيء الثانية بقدر الفاتحة، وأقصر سورة؛ لتدرك ذلك معه الثانية.
ومنهم من قال: إن كان قد نوى أن يطيل القراءة قرأ، وإن نوى ألا يطيل القراءة لم يقرأ.
وحكى في " الإبانة " [ق \ 97] طريقًا آخر: أنه يقرأ، قولًا واحدًا.
وإذا جاءت الطائفة الثانية أحرمت خلف الإمام، فيقرءون معه، ويركعون، ويسجدون، فإن خفف الإمام القراءة، فأدركته الثانية راكعًا، فقد أدركوا معه ركعة.
ومتى يفارقونه؟
قال الشافعي في موضع: (يفارقونه بعد الرفع من السجود في الثانية) .
وقال في موضع ما يدل على أنهم: (يفارقونه بعد التشهد) .
فمن أصحابنا من قال فيه قولان:
أحدهما: يفارقونه عقيب السجود؛ لأن هذه الصلاة مبنية على التخفيف، وهذا أخف.
والثاني: يفارقونه بعد التشهد، كالمسبوق.
ومن أصحابنا من قال: يفارقونه عقيب السجود قولًا واحدًا، وقول الشافعي: (بعد التشهد) أراد: إذا صلوا في الحضر، فإنه يصلي بالأولى ركعتين ويتشهد، وبالثانية ركعتين.
قال الشيخ أبو حامد: وقد أصاب هذا القائل في هذا التأويل.
فإذا قلنا: إنهم يفارقونه عقيب السجود، فهل يتشهد الإمام في حال انتظاره؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان كالقراءة.

(2/508)


ومنهم من قال: يتشهد قولًا واحدًا؛ لأنه لم يتشهد مع الأولى، فلا مفاضلة هاهنا.
فعلى هذا: يطيل التشهد بعد مجيء الثانية بقدر ما تتشهد الطائفة.
إذا ثبت هذا: فإن الطائفة الثانية تقوم إلى تمام ما عليها، ولا تنوي مفارقة الإمام؛ لأنها تفارقه فعلًا، فتنفرد بفعل الثانية، ولا تفارقه حكمًا؛ فإن سها الإمام بعد أن فارقته، أو قبل أن تأتي إليه لزمهم سهوه، وإن سهوا في حال قضاء ما عليهم فالمذهب: أنه يتحمل عنهم؛ لأنهم في حكم متابعة الإمام.
وحكي عن ابن خيران، وأبي العباس: أنهما قالا: لا يتحمل عنهم، ولا يلحقهم سهوه، كالطائفة الأولى، وكذلك الوجهان في المزحوم عن السجود في الجمعة، إذا أمرناه بالسجود فسها، وكذا من وصل صلاته بصلاة إمام أحرم بعده، وجوزنا له الوصل، وكان قد سها قبل الوصل، فهل يتحمل عنه؟ على هذين الوجهين.

[فرع كيفية قراءة الإمام]
ويستحب للإمام أن يخفف القراءة في الركعة الأولى؛ لأنها حالة حرب ونقل سلاح، وكذلك يستحب للطائفة الأولى والثانية إذا فارقتا الإمام لتمام ما عليهما، أن يخففا القراءة؛ لما ذكرناه.
وأما الإمام: فيستحب له أن يطول القراءة في الثانية لتدركه الثانية؛ لأنه موضع حاجة.

[فرع تعريف الطائفة]
قال الشافعي: (والطائفة: ثلاثة فأكثر، وأكره أن يصلي بأقل من طائفة، وأن تحرسه أقل من طائفة) ، وهذا صحيح، ويستحب أن تكون الطائفة التي تصلي مع الإمام ثلاثة أو أكثر، وكذلك الطائفة التي تحرسه.
فإن كانوا خمسة، واحتاجوا إلى أن يصلوا صلاة الخوف، صلى الإمام بثلاثة

(2/509)


ركعتين، ومضوا إلى وجه العدو، وصلى الآخران أحدهما بالآخر ركعتين.
فإن كان أقل من يقوم بالعدو أربعة صلى واحد واحد.
واعترض ابن داود على الشافعي في هذا، وقال: الطائفة تقع على الواحد أيضًا، وقد احتج الشافعي على قبول خبر الواحد بقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] [التوبة: 122] .
والطائفة: اسم للواحد.
والجواب: أن مراد الشافعي أن الطائفة المذكورة في هذه الآية ثلاثة فما زاد؛ لأن الله تعالى قال فيه: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] [النساء: 102] .
ولهذا خطاب جمع، وأقل الجمع ثلاثة.

[مسألة سهو الإمام]
] : قد ذكرنا أن الإمام إذا سها في الأولى، لزم الأولى سهوه.
فعلى هذا: إذا فارقوه، قال الشافعي: (أشار إليهم بما يفهمونه، أنه قد سها، فإذا بلغوا آخر صلاتهم سجدوا للسهو، ثم يسلموا) .
قال أبو إسحاق المروزي: إنما يشير إليهم، إذا كان سهوه يخفى مثله على المأمومين، فإن كان سهوه جليًّا، لا يخفى عليهم، فإنه لا يشير إليهم.
قال الشيخ أبو حامد: وأظن الشافعي أشار إلى هذا في " الإملاء ".
ومن أصحابنا من قال: يشير إليهم، سواء كان سهوه خفيًّا، أو جليًّا؛ لأنه وإن كان سهوه جليًّا، فقد يجهل المأمومون أن عليهم سجود السهو بعد مفارقتهم، فيعرفهم ذلك؛ ليعلموا ذلك، ويسجدوا.
فإن قامت الأولى إلى تمام ما عليها، فسهوا أيضًا، فهل يجزئهم سجدتان، أو يحتاجون إلى أربع؟ فيه وجهان:
فإذا قلنا: تكفيهم سجدتان، فعم يقعان؟ فيه ثلاثة أوجه، مضى ذكرها في (السهو) .

(2/510)


[فرع متابعة الإمام]
] : إذا قلنا: إن الثانية تفارق الإمام عقيب السجود في الثانية، وكان قد سها الإمام، فإنهم يسجدون مع الإمام في آخر صلاتهم.
وإن قلنا: إنهم يتشهدون معه، فإن الإمام يسجد لسهوه، ويسجدون معه، ثم يقومون لقضاء ما عليهم.
وهل يعيدون سجود السهو في آخر صلاتهم؟ فيه قولان، كالمسبوق بركعة.
وإن أدركته قاعدًا، لكنه قد سبقهم بالتشهد، وسجد للسهو قبل تشهدهم، فهل يتابعونه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يسجدون معه؛ لأنهم متبعون له.
والثاني: لا يسجدون، حتى يقضوا ما عليهم، وهو التشهد.
فإن قلنا: يسجدون معه، فهل يعيدونه بعد تشهدهم؟ على القولين الأولين.

[مسألة كيفية صلاة المغرب]
وإن كانت الصلاة مغربًا، فلا بد من تفضيل إحدى الطائفتين على الأخرى؛ لأنه لا يمكن التسوية بينهما في قسمة الصلاة، فيجوز أن يصلي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة، ويجوز أن يصلي بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين، وفي الأفضل قولان:
أحدهما: أن الأفضل أن يصلي بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين؛ لما روي:

(2/511)


(أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى ليلة الهرير هكذا) ؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضل الثانية على الأولى بذات الرقاع؛ لأنه انتظرهم مرتين، وانتظر الأولى مرة، فدل على أن الثانية أولى بالتفضيل.
والثاني: أن الأفضل أن يصلي بالأولى ركعتين، وبالثانية ركعة، وهو الأصح؛ لأنه أخف؛ وذلك أن كل طائفة هاهنا تتشهد تشهدين، وفي الأولى تتشهد الثانية ثلاث تشهدات.
فإذا قلنا بهذا: جاز للإمام أن ينتظر الثانية قاعدًا في الثانية، وقائمًا في الثالثة، وفي الأفضل قولان:
أحدهما: أن الأفضل أن ينتظرهم قاعدًا في الثانية؛ لتدرك معه الثانية الركعة الثالثة من أولها.
والثاني: أن الأفضل أن ينتظرهم قائمًا في الثالثة، وهو الأصح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتظر الثانية قائمًا.
ولأن القيام في الصلاة أفضل من القعود، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» ، وأصل هذا الخبر: إنما هو في النفل عند القدرة على

(2/512)


القيام، فأما في الفرض: فإن كان قادرًا على القيام، فصلى قاعدًا.. لم تصح صلاته، وإن كان عاجزًا عن القيام، فصلى الفرض أو النفل قاعدًا.. فثوابه كثواب القائم، أو أكثر إن شاء الله.

[مسألة صلاة الخوف حضرًا]
] : وإن كانت الصلاة في الحضر، واحتاج الإمام إلى صلاة الخوف، بأن ينزل العدو على باب البلد، فيخرج الناس ليقاتلوهم.. جاز للإمام أن يصلي بهم صلاة الخوف.
وقال مالك: (لا يجوز) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] [النساء: 102] الآية.
فبين كيفيتها، ولم يفرق بين: سفر، ولا حضر.
فإن كانت الصلاة رباعية، أو كانت في السفر، وأراد الإمام إتمامها.. فإنه يفرق الناس طائفتين، ويصلي بالأولى ركعتين، وبالثانية ركعتين، وهل الأفضل أن ينتظر الثانية قاعدًا في التشهد الأول، أو قائمًا في الثالثة؟ فيه قولان، كما ذكرنا في المغرب، ويتشهد -هاهنا- مع الطائفة الأولى والثانية، قولًا واحدًا؛ لأنه موضع تشهدهم.
وإن فرقهم أربع فرق، فصلى بكل طائفة ركعة.. ففي صلاة الإمام قولان:
أحدهما: أنها باطلة، وهو اختيار المزني، ووجهه: أن الله تعالى أمر بالصلاة مجملًا، وكيفيتها مأخوذة من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم ينتظرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الخوف إلا انتظارين، فعلم أن هذا بيان لما أمر الله بإقامته مجملًا، فبطلت بالزيادة، كما لو صلاها خمسًا.
والثاني: لا تبطل، وهو الأصح؛ لأن الانتظار الثاني والثالث والرابع بالقراءة والذكر، وذلك لا يبطل الصلاة.
ولأن الحاجة قد تدعو إليه، بأن يكون المسلمون أربعمائة، والعدو ستمائة، فيصلي الإمام بمائة مائة، ويقف بإزاء العدو ثلاثمائة؛ فإذا قلنا بهذا: صحت صلاة الطائفة الرابعة؛ لأنهم لم يفارقوا الإمام حكمًا.

(2/513)


وأما صلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة: فإنهم فارقوه بغير عذر؛ لأنهم فارقوه قبل وقت المفارقة، وذلك أن الطائفة الأولى، إنما فارقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نصف صلاته، ونصف صلاتهم، وكل طائفة من هذه الثلاث فارقته قبل ذلك، فيكون في صلاتهم القولان، فيمن فارق الإمام بغير عذر.
وإن قلنا: إن صلاة الإمام باطلة.. فمتى تبطل؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي العباس -: أنها تبطل بالانتظار الثالث؛ لأنه هو الانتظار الزائد على ما وردت فيه الرخصة.
فعلى هذا: تصح صلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة، وأما الرابعة: فإن علموا ببطلان صلاة الإمام.. بطلت صلاتهم، وإن لم يعلموا.. لم تبطل، كمن صلى خلف محدث.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنها تبطل بالانتظار الثاني) ؛ لأن الزيادة حصلت فيه.
وفي أي موضع تبطل منه؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أنها تبطل بمضي الطائفة الثانية؛ لأن هذا وقت الزيادة، وذلك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتظر الطائفة الأولى بقدر ما أتمت صلاتها، ومضت إلى وجه العدو، وجاءت الثانية، وهذا قد فعل مثل هذا في الانتظار الأول، وانتظر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطائفة الثانية بقدر ما أتمت صلاتها لا غير، وهذا قد انتظر الثانية بقدر ما أتمت صلاتها، ومضت إلى وجه العدو، فبنفس مضيها وقعت الزيادة.. فتبطل صلاته حينئذ.
والوجه الثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أن صلاة الإمام تبطل عندما يمضي من الانتظار الثاني قدر ركعة، ووجهه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتظر الطائفتين جميعًا بقدر الصلاة التي هو فيها مع الذهاب والمجيء، وذلك: أنه انتظر الأولى بقدر ما صلت ركعة، ومضت، وجاءت الثانية، وانتظر الثانية بقدر ما صلت ركعة، وهذا قد انتظر أكثر من قدر الصلاة التي هو فيها مع الذهاب والمجيء، وذلك: أنه انتظر الأولى بقدر

(2/514)


ما صلت ثلاث ركعات، ومضت، وجاءت الثانية، وانتظر الثانية بقدر ما صلت ثلاث ركعات، فيجب أن تبطل صلاته إذا مضى من الثانية قدر ركعة؛ ليكون انتظاره بقدر الصلاة التي هو فيها، وهي أربع ركعات مع المضي والمجيء.
إلا أن ما قاله أبو إسحاق، والشيخ أبو حامد لا يفيد في صلاة الطائفة الأولى والثانية؛ لأنهم يفارقونه قبل بطلان صلاته، وإنما يفيد في وقت بطلان صلاة الإمام.
وعلى قولها معًا: ينظر في الثالثة، والرابعة، فإن علموا ببطلان صلاة الإمام.. بطلت صلاتهم، وإن لم يعلموا.. لم تبطل صلاتهم، كمن صلى خلف محدث، وإن علم البعض دون البعض.. بطلت صلاة من علم بطلان صلاة الإمام، دون صلاة من لم يعلم.
وبأي شيء يعتبر علمهم؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يعتبر أن يكونوا علما تفريق الإمام للطوائف، فإن علموا ذلك.. بطلت صلاتهم، وإن لم يعلموا أن التفريق مبطل لصلاتهم، كما إذا علموا إن الإمام جنب.
والثاني: يعتبر علمهم، بأن هذا التفريق مبطل لصلاته، وإن لم يعلموا ذلك.. لم تبطل صلاتهم، ويفارق الجنابة؛ لأن كل مسلم يعلم أن الجنب لا تصح صلاته، بخلاف مسألتنا، فيحصل في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أن صلاة الإمام والمأمومين صحيحة.
والثاني: أن صلاة الإمام والطائفة الرابعة صحيحة، وصلاة الأولى والثانية والثالثة باطلة.
والثالث: أن صلاة الإمام باطلة، وصلاة الأولى والثانية صحيحة، وأما الثالثة والرابعة: فإن علموا ببطلان صلاة الإمام.. بطلت صلاتهم، وإن لم يعلموا.. لم تبطل.
ويجيء فيه قول أبي العباس: تصح صلاة الطائفة الثالثة أيضًا، فيكون فيها أربعة أقوال.

(2/515)


[فرع صلى بطائفة ثلاثًا]
] : قال في " الأم " [1/189] : (وإن صلى بطائفة ثلاث ركعات، وبطائفة ركعة.. كرهت ذلك له، ولا تبطل صلاته؛ لأن الإمام لم يزد في الانتظار) .
قال الشافعي: (ويسجد الإمام للسهو؛ لأنه وضع الانتظار في غير موضعه، وكذلك الطائفة الأخرى) . قال ابن الصباغ: وهذا يدل على أنه إذا فرقهم أربع فرق، وقلنا: لا تبطل صلاتهم.. أنهم يسجدون للسهو.

[فرع العدو في جهات]
وإن كان العدو في جهتين أو ثلاث أو أربع، فإن أمكنه أن يفرقهم فرقتين: فرقة تصلي معه، وفرقة تتفرق في جميع الجهات.. فعل ذلك، وكان كما لو كان العدو في جهة واحدة.
وإن كان لا يمكن إلا أن يكونوا أربع فرق:
فإن قلنا: يجوز أن يفرقهم أربع فرق، إذا كانوا في الحضر.. فرقهم أربع فرق.
وإن قلنا: لا يجوز، أو كانت الصلاة في السفر.. فإنه يصلي بفرقتين جميع الصلاة، ثم يصلي بالفرقتين الأخريين أيضًا جميع الصلاة، ويكون متطوعًا.
ويأتي على قياس هذا: إذا احتاج أن يفرقهم ثلاث طوائف، بأن كان العدو في جهتين.. أن يصلي بطائفتين جميع الصلاة، ثم يعيدها بالطائفة الثالثة، ويكون متطوعًا مع الثالثة.

[مسألة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان]
وأما صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ: عسفان: فلها ثلاثة شروط:

(2/516)


أحدها: أن يكون العدو في جهة القبلة.
الثاني: أن يكونوا في بسيط من الأرض، لا يحجبهم عن أبصارهم شيء.
الثالث: أن يكون في المسلمين كثرة، وفي العدو قلة، فإذا وجدت هذه الشروط.. جعل الإمام الناس صفين خلفه، فيحرم بالصلاة، ويحرمون خلفه، ويركع، ويركعون معه، ويرفع، ويرفعون معه، فإذا بلغ إلى السجود.. قال الشافعي: (فإذا سجد.. وقف الصف الذي يلي الإمام، يحرسون العدو، ويسجد الصف الأخير) .
وإنما اختار الشافعي هذا، لثلاثة معان:
أحدها: أن الأولى أقرب من العدو، فهم بالحراسة أمكن.
الثاني: أنهم يكونون جُنَّة لمن وراءهم، فإن رماهم المشركون بسهم تلقوه بسلاحهم.
الثالث: لكي يمنعوا أبصار المشركين من مشاهدة المسلمين، ومعرفة عددهم، فإذا رفع الإمام رأسه من السجود.. حرس الذين سجدوا معه، وسجد الذين حرسوا.
قال الشافعي: (فإن حرس الصف الثاني في مواضعهم، وسجد الصف الأول.. فحسن، وإن تقدموا إلى الموضع الأول، فحرسوا، وتأخر الأول إلى موضعه، فسجدوا.. فجائز) . فأجاز هذا؛ لكي يكون فيه مساواة بين الطائفتين، واستحسن الأول؛ لأنه ليس فيه تقدم وتأخر.
فإذا ركع الإمام في الثانية.. ركعوا جميعًا، ورفعوا معه، ويسجد معه من حرس أولًا في الأولى، ويحرس من سجد أولًا في الأولى.
قال الشافعي: (فإن سجد معه صف واحد من الركعتين.. جاز، وإن حرس بعض أهل الصف.. جاز) .. هذا قول الشافعي.
وأما المروي في الخبر: فروى أبو داود في "سننه " [1326] بإسناده عن أبي

(2/517)


عياش الزرقي أنه قال: «كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ: عسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غرة، لقد أصبنا غفلة، لو كنا حملنا عليهم السلاح وهم في الصلاة، فقال بعضهم: إن بين أيديهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم، فنزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فلما حضرت العصر.. قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستقبلًا القبلة، والمشركون أمامه، فصف خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صف، وصف بعد ذلك الصف صف آخر، فركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركعوا جميعًا، ثم سجد، وسجد الذين يلونه، وقام الآخرون، يحرسونهم، فلما صلى هؤلاء السجدتين، وقاموا.. سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الأخير إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وركعوا معه، ثم سجد، وسجد الصف الذي يليه.. وقام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والصف الذي يليه.. سجد الآخرون، ثم جلسوا جميعًا، فسلم بهم جميعًا» . وما ذكر عن الشافعي مخالف لهذا الخبر.
قال أصحابنا: واتباع ما في الرواية أولى، ولعل الشافعي لم يبلغه الخبر، أو سها عنه، ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " إلا ما ذكر في هذا الخبر، ولكنه لم يذكر التقدم والتأخر.
واحتج بما روى جابر، وابن عباس: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى هكذا) ، ولعل الشيخ أبا إسحاق صحت له هذه الرواية، أو اختار الذي استحسنه الشافعي في ترك التقدم والتأخر.

(2/518)


[مسألة اختيار أبي حنيفة]
إذا صلى الإمام بالناس صلاة الخوف التي اختارها أبو حنيفة.. فإن صلاة الإمام صحيحة؛ لأنها أخف من الصلاة التي نرويها في حق الإمام.
وأما صلاة المأمومين.. فهل تصح؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، وغيره من أصحابنا:
أحدهما: تصح؛ لأن ابن عمر روى ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدل على جوازها.
فعلى هذا: يكون الخلاف بيننا وبينهم في الأفضل.
والثاني: لا تصح.
فعلى هذا: ترجح أخبارنا على خبر ابن عمر بكثرة الرواة؛ ولأن فيما ذكروه أفعالًا تنافي الصلاة، أو نقول: قوله: (انصرفوا وهم في الصلاة) توهم من بعض الرواة.

[مسألة صلاة الإمام حال الأمن بإحدى كيفيات صلاة الخوف]
وإن صلى الإمام بالناس في حال الأمن إحدى الصلوات الثلاث التي اختارها الشافعي في الخوف.. نظرت: فإن صلى بهم صلاة بطن النخل.. صحت صلاة الإمام والمأمومين؛ لأن أكثر ما فيه أن صلاة الإمام مع الأولى فرض، ومع الثانية نفل، وذلك جائز عندنا.
وإن صلى بهم صلاة ذات الرقاع.. ففي صلاة الإمام طريقان:
قال عامة أصحابنا: تصح، قولًا واحدًا؛ لأن أكثر ما فيه أنه يطول الصلاة في حال الأمن بالقراءة، والتشهد، وهذا لا يبطل الصلاة.
وقال القاضي أبو الطيب: في صلاة الإمام قولان، كما قلنا فيه إذا فرقهم أربع فرق في الخوف، وهذا هو الأقيس؛ لأنه إذا كان في صلاة الإمام: إذا فرقهم أربع فرق في الخوف - وقد تدعو الحاجة إلى ذلك - قولان، فلأن يكون في صلاته قولان إذا فرقهم في الأمن، ولا حاجة به إلى ذلك، أولى.
وأما صلاة المأمومين: فإن في صلاة الطائفة الأولى قولين؛ لأنهم فارقوه لغير

(2/519)


عذر، وأما صلاة الطائفة الثانية: فإن قلنا بقول القاضي أبي الطيب، وقلنا: تبطل صلاة الإمام.. نظرت: فإن علموا ببطلان صلاة الإمام.. لم تنعقد صلاتهم؛ لأنهم يعلقون صلاتهم بصلاة باطلة، مع العلم بها، وإن لم يعلموا.. انعقد إحرامهم.
وإن قلنا: إن صلاة الإمام صحيحة، إما على أحد القولين في قول القاضي، أو قولًا واحدًا، في قول غيره.. فإن إحرام الثانية صحيح.
وهل تبطل بمفارقتهم له؛ لإتمام صلاتهم؟ فيه ثلاثة طرق:
[الأول] : إن قلنا بقول أبي العباس، وابن خيران: إنهم إذا قاموا لقضاء ما عليهم.. فارقوا الإمام فعلًا، وحكمًا، فلا يلحقهم سهو الإمام، ولا يتحمل الإمام سهوهم.. كان في بطلان صلاتهم هاهنا قولان؛ لأنهم فارقوه بغير عذر.
والطريق الثاني - وهو قول عامة أصحابنا -: أنهم يفارقونه، فعلًا، لا حكمًا.
فعلى هذا: تبطل صلاتهم، قولًا واحدًا؛ لأنهم قاموا لقضاء ما عليهم قبل خروج الإمام من الصلاة.
والطريق الثالث - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أن صلاتهم لا تبطل، قولًا واحدًا، وعليه يدل قول الشافعي، فإنه قال: (أحببت لهم أن يعيدوا الصلاة) ، ولم يقل: يجب عليهم.
وإن صلى بهم صلاة عسفان في حال الأمن.. فصلاة الإمام وصلاة من سجد معه صحيحة، وأما صلاة من حرس: ففيها وجهان:
إن قلنا: السجدتان والجلسة بينهما ركن واحد.. لم تبطل صلاتهم؛ لأن الإمام سبقهم بركن واحد.
وإن قلنا: إنهما ركنان، وهو الأشبه بالمذهب.. بطلت صلاتهم.

[فرع صلاة الخوف في القتال المحرم]
قد ذكرنا أن القتال المحرم لا تصلى فيه صلاة الخوف، فإن خالف، وصلى فيه.. قال الشافعي: (أعاد) .

(2/520)


قال الشيخ أبو حامد: أراد: إذا صلى به صلاة شدة الخوف، فإنه يعيد، فأما إذا صلى فيه إحدى الصلوات الثلاث: فحكمه حكم الآمن إذا صلاها، على ما مضى.

[مسألة صلاة الجمعة في الخوف]
] : ذكر الشافعي في صلاة الجمعة في الخوف أربع مسائل:
الأولى: إذا كان القتال في المصر، ووافق يوم الجمعة، وأراد أن يصلي بهم صلاة ذات الرقاع.. فإن الإمام يفرق الناس فرقتين: فرقة تقف في وجه العدو، ويخطب بفرقة، ولا يجوز أن تنقص هذه الفرقة عن أربعين، ويصلي بهم ركعة، ويثبت الإمام قائمًا في الثانية، ويتمون لأنفسهم، ويجهرون بالقراءة فيما بقي عليهم؛ لأنهم منفردون، ثم يمضون إلى وجه العدو، وتأتي الفرقة الثانية، ويصلي بهم الركعة التي بقيت عليه، وينتظرهم جالسًا، ويتمون لأنفسهم، ولا يجهرون بالقراءة؛ لأنهم في حكم إمامته، ويسلم بهم.
فإن نقصت الفرقة الثانية عن أربعين.. فهل تصح؟ فيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: تصح قولًا واحدًا؛ لأن الجمعة قد انعقدت بالأولى.
و [الثاني] : منهم من قال: فيه قولان، كالانفضاض.
فإن قيل: فالعدد شرط في جميع الجمعة، فكيف جاز أن يبقى الإمام - هاهنا - منفردًا من حين مضت الأولى؟
فاختلف أصحابنا في الجواب عن هذا:
فمنهم من قال: إنما بنى الشافعي هذه المسألة على أحد القولين في الانفضاض، وأنه إذا بقي وحده يصلي الجمعة.

(2/521)


ومنهم من قال: يجوز هاهنا، قولًا واحدًا؛ لأن الانفضاض من غير عذر، وهاهنا الانفضاض لعذر، وهو الخوف، ولأن مجيء الفرقة الثانية هاهنا يتوقت، وفي الانفضاض لا يتوقت مجيؤها.
فإن قيل: أليس قد قلتم: إن الجمعة إذا أقيمت في المصر الواحد مرة.. لا يجوز إقامتها ثانيًا، فلم جوزتم - هاهنا - للطائفة الثانية أن تصلي الجمعة مع الإمام، والجمعة قد أقيمت؟
فالجواب: أنا إنما نمنع استفتاح الجمعة في المصر بعد إقامتها مرة، وفي هذه المسألة لم تستفتح الجمعة بعد إقامتها، وإنما هو استدامتها؛ لأن الإمام لم يخرج من الجمعة، فالثانية تحرم مع الإمام بالجمعة، تبعًا له.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على أن الإمام إذا سبق بعض المأمومين بركعة من الجمعة، ثم سلم الإمام ومن معه، وقام المسبوقون لقضاء ما عليهم، فقدم الإمام رجلًا ليتم بهم، أو قدموا هم رجلًًا، وجوزنا ذلك، فأدركهم رجل، وصلى معهم ركعة.. أنهم إذا سلموا.. جاز له أن يقوم، ويأتي بركعة أخرى، وتكون له جمعة؛ لأن هذا وإن استفتح الجمعة، فهو تبع للإمام والإمام مستديم لها، لا مستفتح.
المسألة الثانية: إذا خطب الإمام بالطائفة الأولى، وهم أربعون، فمضوا إلى وجه العدو، وجاءت الثانية، فأحرم بهم الجمعة.. لم تصح في حقه وحقهم؛ لأن هذا في معنى من خطب وحده، وصلى الجمعة بأربعين، وذلك لا يصح.
فإن بقي من الأولى أربعون، ومضى الباقون، وجاءت الثانية.. جاز أن يصلي بهم الجمعة، تبعًا للأربعين الذين سمعوا الخطبة.
المسألة الثالثة: إذا خطب الإمام بالأولى، وصلى بهم الجمعة، وسلم، ثم خطب بالثانية، وصلى بهم الجمعة.. صحت الجمعة في حق الإمام والأولى، دون الثانية؛ لأنه لا تصح إقامة الجمعة في المصر مرة بعد مرة.
المسألة الرابعة: إذا كان الإمام والطائفة خارج المصر.. لم يجز أن يصلوا الجمعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حج.. وافق عرفة يوم الجمعة، فلم يصل الجمعة،

(2/522)


وقد كان معه أهل مكة، ومعلوم أن عرفة دار إقامتهم، وإنما لا يستوطنونها، ولأن المسافر يجوز له أن يقصر إذا فارق بنيان البلد، ولا يجوز له إقامة الجمعة، حيث يقصر.
قال الشيخ أبو حامد: وقد كان الداركي يحكي عن أبي إسحاق: أن الجمعة لا تجوز في جامع براثا؛؛ لأنه خارج البلد، وإنما كان كذلك.. فلا فرق بين أن يكون بعيدًا، أو قريبًا، إذا كان منقطعًا عن البلد، أنه لا يجوز.

[فرع الخطبة في المسجد]
لو خطب بهم في المصر، وصلى بهم صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ: عسفان.. جاز ذلك؛ لأنه إذا جاز أن يصلي بهم صلاة ذات الرقاع، والإمام يبقى منفردًا في بعضها.. فلأن يجوز هاهنا أولى.
ولو لم يمكن الإمام الجمعة، فصلى بهم الظهر، ثم أمكنه الجمعة، قال الصيدلاني: لم يجب عليهم، لكن على من لم يصل معهم، ولو أعاد.. لم أكره، ويقدم غيره؛ ليخرج من الخلاف.

[فرع صلاة الاستسقاء ونحوها]
] : فأما صلاة الاستسقاء في الخوف: قال الشافعي في " الأم " [1/201] : (لا بأس أن يدع الاستسقاء، إلا أن يكون في عدد كثير ممتنع، فلا بأس أن يستسقي، ويصلي، كما يصلي في المكتوبات، وإن كان في شدة الخوف.. لم يصل الاستسقاء، ويصلي الخسوف والعيدين؛ لأنه لا يصلح تأخيرهما) .
ومعنى ذلك: أن صلاة الاستسقاء لا يتحقق فواتها، وصلاة العيدين والخسوفين يتحقق فواتهما بخروج الوقت والتجلي.

(2/523)


[مسألة ترك حمل السلاح حال الصلاة]
قال الشافعي: (ولا أحب للمصلي ترك السلاح) ، وهذا يدل على استحباب حمله في الصلاة.
وذكر في موضع آخر: (لا أجيز ترك السلاح) ، وهذا يدل على وجوبه.
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هي على حالين: فالذي يجب حمله: هو السلاح الذي يدفع به عن نفسه، مثل: السكين والسيف، والذي استحبه هو ما يدافع به عن نفسه وعن غيره، كالرمح، والقوس؛ لأنه يجب عليه أن يدفع عن نفسه، ولا يجب عليه أن يدفع عن غيره.
ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يجب، وبه قال داود؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] [النساء: 102] .
وهذا أمر، والأمر على الوجوب.
ولأنهم إذا وضعوا السلاح عنهم.. لم يأمنوا هجوم العدو عليهم، فيحتاجون إلى أخذ السلاح، وربما كان ذلك سبب هزيمتهم.
والثاني: (أنه لا يجب) ، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وهو الصحيح؛ لأنه لو كان حمله واجبًا في الصلاة.. لكان شرطًا فيها.
وأما قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] .
فإنه أمر ورد بعد الحظر.

(2/524)


قال الشيخ أبو حامد: ولأنه لا خلاف أن حمل السلاح في الصلاة في غير حال الخوف مكروه ينهى عنه، ثم ورد الأمر بحمله في صلاة الخوف، والأمر بالشيء إذا ورد بعد النهي.. فإنه يقتضي الإباحة، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] [المائدة: 2] .
وإذا ثبت هذا: فالسلاح المختلف فيه: هو السلاح الطاهر، فأما النجس: فيحرم حمله.
فإن أصاب سلاحه دم، فإن ألقاه في الحال من يده.. جاز.
وإن أمسكه، للاحتياج إليه.. قال صاحب " الإبانة " [ق\ 98] : فهل تجب عليه الإعادة؟ فيه قولان، بناء على المحبوس في الحش.
وإن جعله في الحال تحت ركابه.. جاز أيضًا، وإن كان متقلدًا له، فتركه.. بطلت صلاته.
قال الصيدلاني: فإن تنحى لغسله.. فوجهان.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن السلاح على قول من قال: هو على اختلاف حالين ينقسم خمسة أقسام:
[الأول] : قسم يحرم حمله: وهو السلاح النجس، مثل: السيف والسكين، إذا أصابهما دم، أو سقيا بسم نجس، أو النبل، إذا كان عليه ريش نجس.
والثاني: سلاح يكره حمله، وهو الثقيل الذي يشغله عن الصلاة، مثل: الدرع وأما البيضة: فإن كان لها أنف يمنع من وصول الجبهة إلى الأرض في السجود.. لم يجز حملها.
والثالث: يجب حمله، وهو ما يدافع به عن نفسه، مثل: السيف.

(2/525)


والرابع: يستحب حمله، وهو ما يدافع به عن نفسه، وعن غيره، مثل: القوس، والنشاب، والجعبة.
والخامس: ما يختلف باختلاف موضع المصلي، وهو الرمح، فإن كان المصلي في حاشية الناس، بحيث إذا ركع، وسجد..يمكنه أن يضعه، بحيث لا يتأذى به أحد.. استحب حمله، وإن كان في وسط الناس.. لم يستحب حمله.
وأما على قول من قال: المسألة على قولين.. فينقسم السلاح عنده على أربعة أقسام:
[الأول] : قسم يحرم حمله، وهو النجس.
و [الثاني] : قسم يكره حمله، وهو الثقيل الذي يشغله عن أفعال الصلاة.
والثالث: يختلف باختلاف موضع المصلي، وهو الرمح.
والرابع: هل يجب حمله؟ على قولين، وهو ما يدافع به عن نفسه، وعن غيره.

[فرع السيف المسقي سما]
فإن سقى سيفه سمًّا نجسًا، ثم غسل ظاهره.. طهر، وإن لم يصل إلى باطنه.
هكذا قال ابن الصباغ.
وإن أدخل في النار، فقيل: إنه قد ذاب وزال، حتى لم يبق منه شيء.. لم يطهر حتى يغسل، وإن مسح.. لم يطهر.
وقال أبو حنيفة: (يطهر) . وقد مضى ذكر ذلك.

(2/526)


[مسألة المتمكن يصلي قاعدًا]
قال في " الإبانة " [ق\ 98] : يجوز للمتمكن أن يصلي قاعدًا؛ مخافة أن يراه العدو.
وفي الإعادة قولان، بناء على القولين في المحبوس في الحش.

[مسألة الصلاة في شدة الخوف]
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وإن كان الخوف أشد من ذلك، وهي المسايفة، والتحام القتال، ومطاردة العدو، حتى يخافوا إن ولوا أن يركبوا أكتافهم، فيكون سبب هزيمتهم.. فيصلون كيف ما أمكنهم، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها، ركبانًا على دوابهم، ومشاة على أقدامهم، يومئون بالركوع والسجود، ولا يجوز لهم إخراج الصلاة عن وقتها) .
وكذلك الرجل، إذا خاف من سبع، أو كافر، إن اشتغل بالصلاة ركبه.. جاز أن يصلي صلاة شدة الخوف.
وقال أبو حنيفة: (إذا كان الحال هكذا، ولا يتمكنون من الركوع والسجود.. جاز لهم تأخير الصلاة عن وقتها، فأما إذا زال ذلك.. صلوا) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] [البقرة: 239] .
قال ابن عمر: (مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها) .
وروى ابن عمر: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة شدة الخوف) ، فذكر كمذهب أبي حنيفة، ثم قال: (فإذا كان الخوف أشد من ذلك.. صلوا كيف أمكنهم، مشاة وركبانًا، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها) . وقد روي ذلك موقوفًا على ابن عمر.

(2/527)


[فرع جوازائتمام المقاتلين بعضهم ببعض]
فرع: [جواز ائتمام المقاتلين بعضهم ببعض] : يجوز أن يأتم بعضهم ببعض وإن كان كل واحد منهم يصلي إلى جهة قتاله؛ لأن كل واحد منهم يجوز أن يصلي إلى جهته مع العلم بها، فهو بمنزلة من حول الكعبة، يجوز أن يأتم بعضهم ببعض وإن كان كل واحد منهم يصلي إلى جهته، والجماعة - هاهنا - أفضل من الانفراد، كصلاة الأمن.

[فرع إذا خشي العدو صلوا صلاة شدة الخوف]
] : قال الشافعي: (وإذا كان العدو بإزاء المسلمين، ولم يأمنوا مكيدتهم، وانهجامهم لو اشتغلوا بالصلاة.. جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف. وكذلك إن لم يروا العدو، ولكن أخبرهم الثقة عندهم: أن العدو بالقرب منهم، وأنه يطلبهم، فخافوا نكايتهم إن اشتغلوا بصلاة الخوف.. جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف) .

[فرع بطلان الصلاة بالصياح]
فإن صاح على العدو.. بطلت صلاته؛ لأنه لا حاجة به إليه.
وأما العمل في صلاة الخوف: فلا فرق بين صلاة الخوف، وبين صلاة الأمن فيه، وإن عمل فيها عملًا قليلًا.. لم تبطل صلاته، وإن كان كثيرًا - في غير صلاة شدة الخوف - بطلت صلاته.
قال الشيخ أبو حامد: والمرجع في ذلك إلى العرف والعادة.
وقال القاضي أبو الطيب: الضربة الواحدة لا تبطل الصلاة.
وفي الاثنتين إذا توالتا وجهان , وإن ضرب ثلاث ضربات، أو طعن ثلاث طعنات متواليات، أو ردد الطعنة في المطعون.. قال الشافعي: (مضى فيها، ويعيد) .
فمن أصحابنا من قال: بطلت صلاته بذلك، ولهذا تجب عليه الإعادة.
وقال أبو العباس: إن لم يكن مضطرًّا إليه.. بطلت صلاته به؛ لأنه لا حاجة به

(2/528)


إليه، وإن كان مضطرًّا إليه.. لم تبطل صلاته؛ لأن به إليه حاجة، فلم تبطل به صلاته، كالمشي.
قال ابن الصباغ: وهذا لا يصح؛ لأن الصلاة لا يمضى فيها مع البطلان، وإنما يجري مجرى الصلاة بغير طهارة عند الضرورة؛ لشغل الوقت.
وإذا مشى في صلاة شدة الخوف مشيًا كثيرًا لحاجة.. لم تبطل صلاته؛ لأن المشي قد يصح مع النفل، بخلاف غيره من العمل.

[فرع لا تضر الحركة القليلة]
] : قال الشافعي: (ولا بأس أن يصلي الرجل في الخوف ممسكًا بعنان فرسه؛ لأنه عمل يسير قليل، فإن نازعه فجذبه إليه جذبتين، أو ثلاثًا، أو نحو ذلك، وهو غير منحرف عن القتال.. فلا بأس، فإن كثرت مجاذبته.. فقد قطع صلاته، وعليه استئنافها) .
قال ابن الصباغ: وهذا بخلاف ما ذكرناه من الضربات والطعنات، وهذا يدل على أنه تعتبر كثرة العلم، دون العدد.

[فرع الحمل على العدو]
قال الشافعي في " الأم " [1/199] : (ولو كانوا في صلاة الخوف، فحملوا على العدو، متوجهين إلى القبلة.. بطلت صلاتهم وإن حملوا عليهم قدر خطوة) .
وهذا في غير شدة الخوف، وإنما أبطلها بالخطوة الواحدة؛ لأنهم قصدوا عملًا كثيرًا، لغير ضرورة، وعملوا شيئًا منه.
قال الشافعي: (ولو نووا أن العدو، إذا أظلهم معًا قاتلوه.. لم تبطل صلاتهم؛ لأنهم في الحال لم يغيروا نية الصلاة) .

(2/529)


[فرع الأمن حال الصلاة راكبًا]
إذا كان يصلي راكبًا، فأمن.. وجب عليه أن ينزل، ويتمها على الأرض، كالمريض إذا قدر على القيام في أثناء الصلاة، فإن نزل، وهو مستقبل القبلة، وخف نزوله.. بنى على صلاته.
وإن احتاج في النزول إلى عمل كثير.. فحكى في " الإبانة " [ق\ 99] وجهين:
أحدهما: يستأنف الصلاة.
والثاني: يبني على إحرامه.
وإن افتتحها آمنًا على الأرض، فخاف، فركب في أثنائها.. قال الشافعي: (استأنف الصلاة؛ لأن الركوب عمل كثير) .
وقال في موضع آخر: (يبني على صلاته) .
واختلف أصحابنا فيه على طريقين:
فقال أبو العباس، وأبو إسحاق: ليست على قولين، بل هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (تبطل صلاته) إذا كان ركوبه لغير ضرورة، مثل: أن يركب لطلب مشرك، وما أشبهه؛ لأنه لا حاجة به إليه. والموضع الذي قال: (لا تبطل) إذا كان ركوبه لضرورة، كالدفع عن نفسه، أو للهرب الواجب؛ لأن به إليه حاجة.
ومنهم من قال: بل هي على قولين:
أحدهما: يبطلها؛ لأنه عمل كثير.
والثاني: لا يبطلها؛ لأن العمل الكثير للحاجة، لا يبطل الصلاة في شدة الخوف، كالمشي.

[مسألة ظن وجود العدو]
إذا رأوا إبلًا، أو سوادًا، أو غبارًا، فظنوا ذلك عدوًّا، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان أنهم ليسوا عدوًّا.. فهل تجب عليهم الإعادة؟ فيه قولان:

(2/530)


أحدهما: تجب عليهم الإعادة، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنهم تركوا ركنًا من أركان الصلاة على وجه الخطأ، فلزمتهم الإعادة، كما لو تركوا الطهارة، أو الركوع على وجه النسيان.
والثاني: لا إعادة عليهم، وهو الصحيح؛ لأن صلاة الخوف تتعلق بوجود الخوف وإن لم يتحقق المخوف، ألا ترى أن العدو، إذا كانوا بإزائهم، وخافوا إن اشتغلوا بالصلاة، ركبوا أكتافهم، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم علموا بعد ذلك أن العدو لم يعزم على شيء من ذلك، فإنه لا إعادة عليهم؟ فكذلك هذا مثله.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا أخبرهم ثقة أن العدو قاصد إليهم، فأما إذا ظنوهم: فعليهم الإعادة، قولًا واحدًا.
ومنهم من قال: القولان في الحالين.
وإن رأوا العدو، فخافوهم، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان أن بينهم وبينهم خندقًا أو نهرًا، أو طائفة من المسلمين لا يمكنهم الوصول إليهم.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: تلزمهم الإعادة، قولًا واحدًا؛ لأنهم مفرطون في ترك تأمل المانع.
ومنهم من قال: فيه قولان، كالأولى.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الأشبه.

[فرع خوف الغرق]
] : إذا كانوا في واد فغشيهم سيل، وخافوا منه الغرق، فإن وجدوا نجوة - وهو الموضع المرتفع من الأرض - وأمكنهم صعودها.. لم يجز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لأنه لا خوف مع ذلك، وإن لم يكن هناك شيء يتحصنون به من السيل، أو كان هناك، ولم يمكنهم أن يحصنوا به أموالهم، واحتاجوا أن يمشوا في طول

(2/531)


الوادي.. جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف.
وكذلك إذا خاف الرجل من سبع، أو حية، ولم يمكنه منعه من نفسه، ولا التحصن عنه بشيء.. جاز أن يصلي صلاة شدة الخوف؛ لأن الخوف موجود، ولا تلزمهم الإعادة.
وقال المزني: قياس قوله: أن تجب عليهم الإعادة؛ لأن العذر إذا لم يكن معتادًا أو نادرًا متصلًا.. لم تسقط عنه الإعادة، وهذا ليس بشيء؛ لأن كل جنس من الأعذار، إذا كان معتادًا.. فإن أنواع ذلك الجنس ملحقة به وإن كان ذلك النوع نادرًا لا يدوم، كالمرض، وذلك: أن المرض لما كان جنسه معتادًا.. كانت أنواعه ملحقة به وإن كان منها ما يندر، مثل: السل، والبواسير.. كذلك هذا مثله.
وبالله التوفيق
* * *

(2/532)