البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب ما يكره لبسه]
يحرم على الرجل لبس الحرير، والديباج من غير ضرورة، ولا يحرم على النساء؛ لما روى علي، قال: «خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومًا، وفي يمينه قطعة حرير، وفي شماله قطعة ذهب، فقال: هذان حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها» .
وروى ابن عمر: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى حلة سيراء تباع على باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريناها لك لتلبسها للجمعة، وللوفد إذا قدم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا لباس من لا خلاق له في الآخرة»
ويحرم الجلوس والنوم عليه، والتغطي به.
وقال أبو حنيفة: (لا يحرم عليه غير اللبس) .
دليلنا: حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولم يفرق فيه بين اللبس، وغيره من الاستعمالات.
ولأن السرف في ذلك أعظم من اللبس.
وهلي يحرم ذلك على الصبيان؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو المشهور -: أنه لا يحرم عليهم؛ لأنهم غير مكلفين.
والثاني: يحرم عليهم، كما يحرم على البالغين.

(2/533)


والثالث: إن كان له دون سبع سنين.. لم يحرم، وإن كان له سبع فما زاد.. حرم.
قال القاضي أبو الفتوح: يحرم على الخنثى لبس الحرير؛ لاحتمال كونه رجلًا.
هذا الكلام إذا كان جميع الثوب، أو أكثره من الحرير، فأما إذا كان الأقل من الثوب من الحرير، كالعلم والسدى والجيب والكفة.. فلا يحرم؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: «إنما نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لبس الثوب المصمت من الحرير، فأما العلم والسدى: فلا بأس به» .
وروي عن علي: أنه قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحرير، إلا في موضع أصبع، أو أصبعين أو ثلاث، أو أربع» . ولا يعرف لهما مخالف.
وروي عن مولى لأسماء: أنه قال: «اشترى ابن عمر ثوبًا شاميًّا، فرأى فيه خيطًا أحمر، فرده، فأخبرت بذلك أسماء، فقالت: يا جارية، ناوليني جبة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخرجت جبة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج» .

(2/534)


فإن كان نصف الثوب إبريسم، ونصفه من القطن أو الكتان.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يحرم لأنه ليس الغالب فيه حلال.
والثاني: لا يحرم؛ لأنه ليس الأغلب منه المحرم.
إذا ثبت هذا: فإن التحريم إنما يكون في غير حال الحرب، فأما إذا فاجأته الحرب، ولم يجد ما يحصنه عن السلاح إلا الديباج.. فالمستحب له أن يتوقى لبسه.
فإن لبسه.. جاز. قلت: لأنه يتوقى به، ويستعين به في الحرب.
وإن احتاج إلى لبس الحرير للحكة.. جاز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص لعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام في لبس الحرير؛ لحكة كانت بهما» .
وحكى الشيخ أبو إسحاق في " التنبيه " وجهًا آخر: أنه لا يجوز، والأول هو المشهور.
فإن كانت له جبة قطن محشوة بالإبريسم، أو لبس الحرير باطنًا.. لم يحرم؛ لأن السرف فيه غير ظاهر.
ويحرم على الرجل لبس الثوب المزعفر؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لبس القسي والمزعفر» .
وأما الثياب النجسة: فلا يحرم لبسها إلا في الصلاة.

(2/535)


[مسألة حرمة الذهب على الرجال]
] : ويحرم على الرجل استعمال قليل الذهب وكثيره؛ لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لبس القسي، وعن لبس المزعفر، وعن التختم بالذهب» .
والخاتم في حد القلة، ويفارق الحرير، حيث قلنا: لم يحرم القليل منه في الثوب؛ لأن السرف في قليل الذهب ظاهر، والسرف في قليل الحرير غير ظاهر.
وأما القسي: قال أبو عبيد: فإن أصحاب الحديث يقولون (القسي) : بكسر القاف، وأهل مصر يقولون: (القسي) : بفتح القاف، منسوبة إلى بلد يقال لها: (القس) ، وهي ثياب يؤتى بها من مصر فيها حرير.
ويجوز للرجل أن يتخذ خاتمًا من فضة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان له خاتم من فضة فصها منها، وكان يجعل فصها إلى راحته» .
ويكره أن يتخذ خاتمًا من حديد، أو رصاص، أو نحاس؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى على رجل خاتمًا من حديد، فقال: "ما لي أرى عليك حلية أهل النار"، ثم جاءه الرجل وعليه خاتم من صفر، فقال: "ما لي أجد منك ريح

(2/536)


الأصنام"، ثم أتاه وعليه خاتم من ذهب، فقال: "ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة"، فقلت: من أي شيء أتخذه؟ فقال: "من ورق، ولا تتمه مثقالًا» .
وقد ورد الخبر بالتختم باليمين واليسار، وهو في اليسار أظهر.

[فرع مزج الذهب بغيره]
فإن كان الذهب مختلطًا بغيره.. نظرت: فإن كان الذهب ظاهرًا.. حرم استعماله؛ لأن السرف فيه ظاهر، وإن كان غير ظاهر.. لم يحرم؛ لأن السرف فيه غير ظاهر.
قال الشيخ أبو حامد: وإذا صدئ الذهب، أو ذهب بالوسخ.. جاز لبسه؛ لأن السرف فيه غير ظاهر.
وقال القاضي أبو الطيب: يقال: إن الذهب لا يصدأ، فإن احتاج إلى لبس درع منسوج بذهب، أو بيضة مطلية بذهب، وفاجأته الحرب، فإن وجد ما يقوم مقامهما.. لم يجز لبسهما، وإن لم يجد ما يقوم مقامهما.. جاز لبسهما؛ لأنه موضع ضرورة.

[فرع لبس اللؤلؤ]
قال الشافعي: (ولا أكره للرجل لبس اللؤلؤ إلا للأدب؛ فإنه من زي النساء، لا للتحريم؛ لأنه لم يرد الشرع بتحريم لبسه) .

(2/537)


قال صاحب: " الإبانة ": ويكره المشي في نعل واحدة، وخف واحد.

[مسألة استعمال الجلود المحرمة]
قال الشافعي: (ولا بأس أن يلبس فرسه وأداته جلد ما سوى الكلب والخنزير من جلد قرد، وأسد، وفيل، ونحو ذلك؛ لأنه جنة للفرس، ولا تعبد على الفرس) .
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز إلا بعد الدباغ؛ لأنه جلد نجس.
قال: ومراد الشافعي: بعد الدباغ. وهذا ليس بشيء؛ لأن الشافعي علل: (لأنه جنة للفرس، ولا تعبد على الفرس) .
وأما جلد الكلب والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما: فلا يجوز استعماله بحال؛ لأن الخنزير لا يجوز الانتفاع به في حياته بحال، والكلب لا ينتفع به إلا عند الحاجة إليه، وهو الحرث والماشية والصيد، وليس كذلك سائر الحيوانات، فإنه يجوز الانتفاع بها في حال الحياة بكل حال، فلذلك جاز بعد الموت.
وبالله التوفيق

(2/538)