البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب صلاة الجمعة]
يقال: الجمعة: بضم الميم وسكونها، ويوم الجمعة: يوم فاضل، والدليل على فضله، قَوْله تَعَالَى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] [البروج: 3] .
قال الشافعي: (روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة» . فأقسم الله به، وهذا يدل على فضله) .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق الله تعالى آدم، وفيه أهبط، وفيه تاب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مسيخة يوم الجمعة، من حين يطلع الفجر إلى أن تطلع الشمس شفقًا من الساعة، إلا الثقلين الجن والإنس، وفيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي، ويسأل الله تعالى فيها شيئًا، إلا أعطاه» .

(2/539)


وقد اختلف الناس في هذه الساعة:
فقيل: إن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجتمعوا، وتذاكروا فيها، فتفرقوا، ولم يختلفوا: أنها آخر ساعة من يوم الجمعة.
وقيل: بعد العصر إلى غروب الشمس.
وقيل: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
وقيل: من زوال الشمس إلى أن يدخل الإمام في الصلاة.
وقيل: من خروج الإمام إلى أن تقضى الصلاة.
وقال كعب: لو قسم الإنسان جمعة في جمع ... أتى على تلك الساعة. يريد: أنه يدعو في كل جمعة في ساعة، حتى يأتي على جميع اليوم.
قال الشافعي: (والجمعة: هو اليوم الذي بين الخميس والسبت، وكانت العرب تسميه: العروبة، وفيه قال الشاعر:
نفسي الفداء لأقوام همو خلطوا ... يوم العروبة أزوادا بأزواد
فإن قيل: لم قال الشافعي: (هو بين الخميس والسبت) وليس بخفي هذا على أحد؟
قلنا: إنما أراد الشافعي: أن يبين هذا للعرب الذين كانوا يسمونها العروبة، وكانوا يعرفون الخميس والسبت، ولا يعرفون الجمعة، فبينها لهم بما يعرفونه.

[مسألة وجوب الجمعة]
والأصل في وجوب الجمعة: الكتاب، والسنة، والإجماع.

(2/540)


أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] [الجمعة: 9] .
وفيها ثلاثة أدلة:
أحدها: أنه أمر بالسعي إليها، والأمر يقتضي الوجوب.
والثاني: أنه نهى عن البيع لأجلها، ولا يُنهى عن منافع إلا لواجب.
والثالث: أنه وبخ على تركها بقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] [الجمعة: 11] .
ولا يوبخ إلا على ترك واجب.
وأما السنة: فروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة.. طبع الله على قلبه» .
وروى جابر أيضًا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ... فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا على امرأة، أو مسافر، أو عبد، أو مريض» .
وروى جابر أيضًا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال - وهو على المنبر -: «يا أيها الناس، توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة، وصلوا ما بينكم وبينه بكثرة

(2/541)


ذكركم له، وكثرة الصدقة، تؤجروا، وترزقوا، واعلموا أن الله قد فرض عليكم الجمعة في عامكم هذا، في شهركم هذا، في ساعتكم هذه، فريضة مكتوبة، فمن تركها جاحدًا بها، واستخفافًا بحقها ... فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا صيام له، ألا ولا حج له، ألا ولا صدقة له، ألا ولا بر له» .
وأما الإجماع: فإن المسلمين أجمعوا على وجوبها.

[مسألة فرضية الجمعة على كل مسلم]
] . الجمعة: فرض من فروض الأعيان، وغلط بعض أصحابنا على الشافعي: أنه قال: هي من فروض الكفاية؛ لأنه قال: (ومن وجبت عليه الجمعة ... وجبت عليه صلاة العيدين) . وهذا ليس بشيء، وإنما أراد الشافعي: أن المخاطب بالجمعة وجوبًا، مخاطب بالعيدين استحبابًا.
إذا ثبت هذا: فإن الجمعة لا تجب إلا على من وجدت فيه سبع شرائط: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والذكورة، والحرية، والصحة، والاستيطان.
ثلاثة من هذه الشروط شرط في الجمعة وفي غيرها من العبادات البدنية، مثل:

(2/542)


الصلوات، والصيام، والحج، وهي: الإسلام، والبلوغ، والعقل.
وأربعة منهن شرط في الجمعة وحدها، وهي: الذكورية، والحرية، والصحة، والاستيطان.
وشرطان من هذه السبعة شرط في الوجوب والإجزاء، وهما: الإسلام، والعقل.
وخمسة شروط في الوجوب دون الإجزاء: فلا تجب الجمعة على كافر في قول من قال من أصحابنا: إن الكفار غير مخاطبين في الشرعيات.
ولا تجب على صبي، ولا مجنون؛ لما ذكرناه في سائر الصلوات، وقد مضى ذكر ذلك في الصلاة.
ولا تجب الجمعة على المرأة؛ لما ذكرناه من حديث جابر، وروى أبو عمرو الشيباني، قال: رأيت ابن مسعود يُخرج النساء من الجامع يوم الجمعة، يقول: (اخرجن إلى بيوتكن خير لكن) .
قال في " الأم " [1/168] : (وأحب للعجائز إذا أذن لهن أزواجهن حضورها، لأنها لا تُشتهى) .
ولا تجب الجمعة على الخنثى؛ لأنه يحتمل أن يكون ذكرًا، فتجب، ويحتمل أن يكون امرأة، فلا تجب، وإذا احتمل الأمرين ... لا تجب عليه الجمعة بالشك.

[فرع وجوب الجمعة على المسافر]
] . ولا تجب الجمعة على المسافر، وبه قال عامة الفقهاء، وقال الزهري، والنخعي: إذا سمع النداء ... وجبت عليه.
دليلنا: حديث جابر، ولأنه مشغول بالسفر.

(2/543)


ويستحب له إذا كان في بلد وقت الجمعة أن يحضرها، فإن حضرها ... فهل يتعين عليه فعلها؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ".
والمذهب: أنها لا تتعين عليه، فإن نوى المسافر الإقامة في بلد أربعة أيام ... وجبت عليه الجمعة؛ لأنه مقيم غير مستوطن، وهل تنعقد به؟ فيه وجهان، ويأتي بيانهما.

[فرع لا تجب الجمعة على ذي رق]
] : ولا تجب الجمعة على العبد والمكاتب، وقال داود: (تجب عليهما) ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد، وقال الحسن، وقتادة: تجب على المكاتب، وعلى العبد الذي يؤدي الضريبة، دون من لم يؤد.
دليلنا: حديث جابر، ولأن العبد مشغول بخدمة سيده، وحكم المكاتب حكمه، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبيه درهم» .
فإن كان نصفه حرًا، ونصفه عبدًا، فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة، أو كان بينهما مهاياة، ولكن كان يوم الجمعة في حق السيد ... لم يجب عليه؛ لما ذكرناه فيمن جميعه عبد، ويستحب له أن يحضر إذا أذن له سيده؛ لتحصيل الفضيلة، ولكن لا تجب عليه؛ لأن الحقوق الشرعية تتعلق بخطاب الشرع، لا بإذن سيده.

(2/544)


وإن كان يوم الجمعة في حق العبد ... ففيه قولان، حكاهما في " الإبانة " [ق\95] :
أحدهما: تجب عليه الجمعة؛ لأنه في حكم الحر في هذا اليوم، بدليل أن جميع كسبه له.
والثاني: لا تجب عليه؛ لأن فيه بعض الرق.
وقال أصحابنا العراقيون: لا تجب عليه من غير تفصيل.

[فرع لا تجب على المريض]
] : ولا تجب الجمعة على المريض؛ لحديث جابر، ولأنه يشق عليه القصد إلى الجمعة، فلم تجب عليه.
ولا تجب الجمعة على الأعمى، إذا لم يكن له قائد؛ لأنه يشق عليه ذلك، وحكى الشاشي: أن القاضي حسينا قال: تجب عليه إذا كان يحسن المشي بالعصا، ولعله أراد: إذا اعتاد المشي إلى موضع الجمعة وحده، وإن كان للأعمى قائد ... وجبت عليه الجمعة؛ لأنه مع القائد كالبصير.

[فرع أعذار الجمعة]
] : والأعذار التي ذكرناها: أنها أعذار في ترك الجماعة، هي أعذار في ترك الجمعة، فلا تجب الجمعة على خائف على نفسه أو ماله، ولا على من في طريقه مطر، ولا على من له مريض يخاف ضياعه؛ لما ذكرناه في الجماعة، ولا تجب على من له قريب

(2/545)


أو ذو ود يخاف موته؛ لما روي: (أنه استصرخ على سعيد بن زيد وابن عمر يسعى إلى الجمعة فتركها) لأنه ابن عمه.
ومعنى قوله: (استصرخ) ، أي: استغيث عليه.
فإن حضر المريض الجامع، أو الأعمى الذي لا قائد له، أو من في طريقه مطر ... وجبت عليهم الجمعة؛ لأن المشقة قد زالت بالحضور.
فإن أحرم المسافر أو المريض بالجمعة، فأراد الانصراف عنها ... لم يكن لهما ذلك: لأنها قد تعينت عليهما بالدخول.
وإن أحرمت المرأة أو العبد بالجمعة، فأراد الانصراف منها إلى الظهر ... فهل يجوز لهما ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: يجوز لهما ذلك؛ لأنهما ليسا من أهل فرضها.
والثاني: لا يجوز لهما ذلك؛ لأنها قد تعينت عليهما بالدخول.

[مسألة وجوب الجمعة على أهل المدن]
تجب الجمعة على أهل المصر، إذا وجدت فيهم الشرائط التي ذكرناها، سواء سمعوا النداء، أو لم يسمعوا، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاطب أهل المدينة بوجوبها، ولم

(2/546)


يفرق بين أن سمعوا النداء، أو لم يسمعوا؛ ولأن المصر الواحد كالدار الواحدة، بدليل: أن من سافر منه لا يقصر حتى يفارق جميعه.
وأما من كان من خارج المصر: فهم على ثلاثة أضرب:
[الأول] : قوم تجب عليهم الجمعة بأنفسهم.
و [الثاني] : قوم لا تجب عليهم بأنفسهم، ولكن تجب عليهم بغيرهم.
و [الثالث] : قوم لا تجب عليهم لا بأنفسهم ولا بغيرهم.
فأما الذين تجب عليهم بأنفسهم: فهم أهل القرية إذا كانوا أربعين رجلًا على الشروط التي ذكرناها، فتلزمهم إقامتها في موضعهم، سواء سمعوا نداء المصر، أو لم يسمعوا، فإن أقاموها في موضعهم لهذا ... فقد أحسنوا، وإن أتوا المصر، وصلوا الجمعة فيه
أجزأتهم، وقد أساءوا؛ لأن إقامة الجمعة في موضعين أفضل من إقامتها في موضع واحد، هذا هو المنصوص.
وقال الصيدلاني: لا يكونون مسيئين بذلك؛ لأن من الفقهاء من يقول: لا تنعقد الجمعة في القرية، وإنما تنعقد في البلد، فإذا دخلوا البلد، وصلوا فيه ... فقد خرجوا من الخلاف.
وأما الذين لا تجب عليهم الجمعة بأنفسهم، وتجب عليهم بغيرهم: فهم الذين ينقصون عن أربعين، ويسكنون في موضع يسمعون النداء فيه من البلد الذي تقام فيه الجمعة.
وأما الذين لا تجب عليهم الجمعة لا بأنفسهم ولا بغيرهم: فهم الذين ينقصون عن الأربعين، ويسكنون في موضع لا يسمعون فيه النداء من البلد الذي تجب فيه الجمعة.
هذا مذهبنا، وبه قال عبد الله بن عمرو بن العاص، وابن المسيب، وأحمد، وأبو ثور.
وذهبت طائفة إلى: أن الجمعة تجب على من يمكنه إتيان الجمعة، ويأوي بالليل إلى منزله. ذهب إليه ابن عمر، وأنس، وأبو هريرة.

(2/547)


وقال عطاء: تجب الجمعة على من كان من المصر على عشرة أميال.
وقال الزهري: تجب على من كان من المصر على ستة أميال.
وقال ربيعة: على أربعة أميال.
وقال مالك والليث: (على ثلاثة أميال) .
وقال أبو حنيفة: (لا تجب الجمعة على من كان خارج المصر، ولو كان بينه وبين المصر خطوة) .
وقال محمد: قلت لأبي حنيفة: تجب الجمعة على أهل ريادة بأهل الكوفة؟ فقال: (لا) . وبين ريادة وبين الكوفة نهر.
وعند أبي حنيفة: (أن الجمعة لا تجب على أهل القرى، وإن كان العدد فيهم موجودًا، وإنما تجب على أهل المصر) .
وحد المصر عنده: أن يكون هناك سلطان قاهر يستوفي الحقوق، ويقيم الحدود، أو خليفة من قبله، ويكون فيها سوق قائم، وجامع، ومنبر، ونهر جار.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] .
فأوجب السعي إلى الجمعة على المؤمنين، ولم يفرق بين أهل المصر، وأهل القرى، وأهل السواد، وظاهر أمره يقتضي وجوب السعي على من كان خارج المصر، سواء كان قريبًا أو بعيدًا، إلا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيده بمن سمع النداء، فروى عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة على من سمع النداء» ،

(2/548)


وأراد به من كان خارج المصر؛ لأن أهل المصر تجب عليهم الجمعة، سواء سمعوا النداء، أو لم يسمعوا، بالإجماع.
وروي عن ابن عباس: أنه قال: (أول جمعة بعد جمعة المدينة جمعت في قرية بالبحرين، يقال لها: جواثا) .

[فرع صفة نداء الجمعة]
إذا ثبت: أن الجمعة تجب على من كان خارج المصر، إذا سمعوا النداء من المصر:
قال الشافعي: (فصفة النداء الذي تجب به الجمعة على من سمعه: أن يكون المؤذن صيتًا، وتكون الرياح ساكنة، والأصوات هادئة، وكان من ليس بأصم مستمعًا - يعني: مصغيًا - غير لاه، ولا ساه) ، ومن أي موضع يُعتبر سماعه من المصر؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\95] :

(2/549)


أحدهما - وهو الأصح -: أن الاعتبار أن يقف المؤذن في طرف البلدة إلى جانب القرية الخارجة عن البلد.
والثاني: يعتبر من وسط البلد. ولا يعتبر أن يعلو المؤذن على سور أو منارة؛ ليعلوا أعلى البناء؛ لأن الارتفاع ليس له حد، قال القاضي أبو الطيب: وسمعت شيوخنا يقولون: إلا بطبرستان؛ فإنها مبنية بين غياض وأشجار تمنع من بلوغ الصوت، فيعتبر أن يصعد على شيء يعلو على الغياض والأشجار.
فإن كان هناك قرية على جبل يسمعون النداء من البلد الذي تقام فيه الجمعة لعلوهم، ولو كانوا في مستوٍ من الأرض ... لم يسمعوا، أو كانت هناك قرية في وهدة من الأرض، لا يسمعون النداء فيها من البلد لانخفاض قريتهم، ولو كانوا في مستوٍ من الأرض.. لسمعوا.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال القاضي أبو الطيب: لا تجب على من سمع؛ لعلو قريته، وتجب على من لم يسمع؛ لانخفاض قريته.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: تجب الجمعة على من سمع لعلوه، ولا تجب

(2/550)


على من لم يسمع لانخفاض قريته؛ لأنا نلحق النادر بالغالب العام.
قال ابن الصباغ: والذي قاله القاضي أبو الطيب أشبه بكلام الشافعي؛ لأنه اعتبر أن يكون المؤذن صيتًا، والأصوات هادئة، والرياح ساكنة، فلم يعتبر حصول السماع مع عارض، وهو شدة الرياح، كذا ينبغي ألا يعتبر العلو والانخفاض، وإنما يعتبر الاستواء.

[مسألة اتفاق العيد والجمعة]
وإن اتفق العيد يوم الجمعة ... وجبت الجمعة على أهل المصر، ولا تسقط عنهم بفعل العيد، وبه قال أكثر الفقهاء.
وقال عطاء: يصلي العيد، ويترك الجمعة، ولا صلاة في هذا اليوم إلى العصر.
وقال أحمد: (يسقط عنه حضور الجمعة) .
وحكي عن عبد الله بن الزبير: أنه صلى العيد، وترك الجمعة، فعابه بعض بني أمية، فقال ابن الزبير: (هكذا كان يصنع عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، فبلغ ابن عباس فعل ابن الزبير، وكان غائبًا في اليمن، فقال: (أصاب السنة) .
وروي: أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خطب في العيد، فقال: (أيها الناس، قد اجتمع

(2/551)


عيدان في يوم، فمن شهد العيد ... فقد قضى الجمعة إن شاء الله) .
ودليلنا: ما ذكرناه من الظواهر في وجوب الجمعة، ولم يفرق فيها بين يوم العيد وغيره.
وأما أهل السواد - وهم من كان خارج المصر الذين يجب عليهم حضور الجمعة بسماع النداء من المصر إذا حضروا العيد، وراحوا -: فلا يجب عليهم حضور الجمعة في يومهم ذلك.
ومن أصحابنا من قال: لا يسقط عنهم فرض الجمعة؛ لأن من لزمه فرض الجمعة في غير يوم العيد ... لزمه في يوم العيد، كأهل المصر.
والمنصوص هو الأول، والدليل عليه: ما روي عن أبي هريرة وابن عمر: أنهما قالا: «اجتمع عيدان على رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم واحد، فصلى العيد في أول النهار، وقال: "أيها الناس، إن هذا يوم اجتمع فيه عيدان لكم، فمن أحب أن يشهد معنا الجمعة ... فليفعل، ومن أحب أن ينصرف
فليفعل» .
وأراد به أهل العالية والسوادات، بدليل ما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه

(2/552)


قال في خطبته: (أيها الناس، قد اجتمع عيدان في يومكم هذا، فمن أراد من أهل العالية أن يصلي معنا الجمعة ... فليفعل، ومن أراد أن ينصرف
فليفعل) .
ولأنهم إذا قعدوا في البلد بعد صلاة العيد إلى صلاة الجمعة ... فاتتهم لذة العيد، وإن راحوا بعد صلاة العيد إلى منازلهم، ثم رجعوا لصلاة الجمعة
كان عليهم مشقة، والجمعة تسقط بالمشقة، بخلاف أهل المصر، فإن ذلك لا يوجد في حقهم.

[مسألة يسقط الظهر بالجمعة]
ومن لا جمعة عليه، كالمرأة والعبد والمسافر، إذا حضروا الجمعة، وصلوها ... سقط عنهم فرض الظهر؛ لأن الجمعة إنما سقطت عنهم لعذر، فإذا حملوا على أنفسهم، وصلوا الجمعة
أجزأتهم، كالمريض إذا صلى من قيام.
وإن صلوا الظهر ... أجزأتهم؛ لأنها فرضهم، فإن صلوا الجمعة بعد ذلك
سقط عنهم الفرض بالظهر، وكانت الجمعة نافلة.
وحكى أبو إسحاق المروزي: أن الشافعي قال في القديم: (يحتسب الله له بأيتهما شاء) . والأول أصح.
وقال أبو حنيفة: (يبطل الظهر بالسعي إلى الجمعة) .
وقال أبو يوسف ومحمد: يبطل الظهر بالإحرام بالجمعة.
ودليلنا: أن صلاة الظهر قد صحت، فلا تبطل بالسعي ولا بالإحرام بالجمعة، كالمنفرد إذا صلى وحده، ثم صلى تلك الصلاة في جماعة.
والمستحب لأهل الأعذار: ألا يصلوا الظهر حتى يفوت وقت الجمعة، وفواتها برفع الإمام رأسه من الركوع في الثانية، وإنما استحببنا ذلك لمعنيين:

(2/553)


أحدهما: أن الجمعة فرض الجماعة، والظهر فرض الخصوص، فاستحب تقديم فرض الجماعة.
والمعنى الثاني: أن فيهم من قد يزول عذره، فيكون فرضه الجمعة، وإن صلى المعذور الظهر، ثم زال عذره قبل صلاة الإمام الجمعة ... لم تجب عليه الجمعة.
وقال ابن حداد: إذا صلى الصبي الظهر، ثم بلغ قبل صلاة الإمام الجمعة ... وجبت عليه صلاة الجمعة؛ لأن ما صلى الصبي قبل البلوغ نفل، بخلاف غيره.
والصحيح هو الأول؛ لأن الشافعي قد نص على: (أن الصبي إذا صلى في غير يوم الجمعة الصلاة في أول الوقت، ثم بلغ في آخره: أنه لا تجب عليه إعادتها) . فكذلك في يوم الجمعة.
وإن صلى الخنثى الظهر في أول الوقت، ثم بان أنه رجل قبل صلاة الإمام الجمعة ... لزمه أن يصلي الجمعة.
والفرق بينه وبين غيره من المعذورين: إذا تبين أنه كان رجلًا وقت الصلاة، بخلاف غيره من المعذورين.
وتستحب الجماعة للمعذورين في الظهر يوم الجمعة.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره لهم الجماعة) .
دليلنا: الأخبار التي ذكرناها في الجماعة، ولم يفرق بين صلاة الظهر يوم الجمعة وبين غيرها.
قال الشافعي: (وأحب لهم إخفاء جماعتهم، لئلا يتهموا بالرغبة عن صلاة الإمام) .

(2/554)


قال أصحابنا: هذا إذا كان عذرهم خفيا، فأما إذا كان جليًّا: لم يستحب لهم إخفاء الجماعة؛ لأن التهمة منتفية عنهم.
وأما من كان من أهل فرض الجمعة: إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة ... ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يصح ظهره، ويجب عليه السعي إلى الجمعة، فإذا صلى الجمعة
احتسب الله تعالى بأيتهما شاء، فإن فاتته الجمعة ... أجزأته الظهر التي صلاها) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يصح ظهره، وتلزمه الجمعة، فإن لم يصلها حتى فاتت ... وجب عليه إعادة الظهر) . وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وزفر.
وقال أبو حنيفة: (يصح ظهره قبل فوات الجمعة، ويلزمه السعي إلى الجمعة، فإذا سعى إليها ... بطل الظهر، وإن لم يسع
أجزأته الظهر) .
وقال أبو يوسف ومحمد: يصح الظهر، ويبطل بالإحرام بالجمعة.
وأصل القولين عندنا: ما المخاطب به يوم الجمعة؟ وفيه قولان.
[الأول] : قال في القديم: (المخاطب به هو الظهر، ولكن كلفوا إسقاطها بالجمعة) . ووجهه: أنه لا خلاف أن الجمعة إذا فاتت ... فإنه يقضي الظهر أربعًا، فثبت أنها هي الواجبة، إذ لو كانت الجمعة هي الواجبة
لوجب قضاؤها.
و [الثاني] : قال في الجديد: (إن المخاطب به هو الجمعة دون الظهر) . وهو الصحيح، ووجهه: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] ، فأوجب السعي إلى الجمعة، فعلم: أن المخاطب به هو الجمعة دون الظهر، ولما ذكرناه من حديث جابر؛ ولأنه مأمور بفعل الجمعة، معاقب على تركها، منهي عن فعل الظهر، فوجب أن يكون فرضه ما أمر بفعله، دون ما نهي عن فعله، كسائر الأوقات.

(2/555)


وأما القضاء: فقد قال أبو إسحاق: إذا فاتته الجمعة ... فإنه يقضيها، ولكن يقضي أربعًا؛ لأن الخطبتين أقيمتا مقام ركعتين، فلما فاتت الجمعة
قضى أربعا. هذا قول عامة أصحابنا. وحكي عن أبي إسحاق المروزي: أنه قال: إذا اتفق أهل بلد على ترك الجمعة، وصلوا الظهر ... أثموا بترك الجمعة، وتجزئهم الظهر؛ لأن كل واحد منهم لا تنعقد به الجمعة. والصحيح: أنها لا تجزئهم على قوله الجديد؛ لما ذكرناه فيه.

[مسألة السفر يوم الجمعة]
ومن وجبت عليه صلاة الجمعة، وأراد السفر، فإن كان يخاف فوت السفر؛ لذهاب القافلة ولا يمكنه المشي وحده ... جاز له السفر، وترك الجمعة، سواء كان قبل الزوال أو بعده؛ لأن عليه مشقة في ذلك، والجمعة تسقط بالمشقة.
وإن كان لا يخاف فوت السفر، فإن أراد السفر بعد الزوال إلى بلد لا تقام فيه الجمعة ... لم يجز.
وقال أبو حنيفة: (يجوز) .
وقال أحمد: (إن كان إلى سفر الجهاد ... جاز) .
دليلنا: أن الصلاة قد وجبت عليه، فلا يجوز تفويتها بالسفر، كالتجارة.
وإن أراد السفر بعد طلوع الفجر الثاني، وقبل الزوال ... ففيه قولان:
أحدهما: يجوز، وبه قال عمر، والزبير، وأبو عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأصحابه.
ووجهه: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهز جيش مؤتة، وكان فيهم عبد الله بن

(2/556)


رواحة، فرآه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة، فقال: "ما الذي خلفك؟ ". فقال: الجمعة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لروحة في سبيل الله، أو غدوة في سبيل الله، خير من الدنيا وما فيها»
والثاني: لا يجوز له السفر، وهو الأصح؛ لأن الجمعة واجبة، والتسبب إليها وهو السعي واجب، بدليل: أن الرجل إذا كان في طرف المصر، بحيث لا يمكنه الوصول إلى الجامع إلا بالسعي قبل الزوال ... لزمه ذلك، وإذا كان التسبب إليها واجبًا، كوجوب الجمعة
لم يجز له أن يسافر بعد وجوب السبب، كما لا يجوز له بعد وجوب الجمعة.
وأما الخبر: فيحتمل أن يكون أمره بالخروج قبل طلوع الفجر.

[مسألة البيع وقت الجمعة]
وأما البيع يوم الجمعة: فينظر فيه:
فإن كان قبل الزوال ... لم يكره، وإن زالت الشمس، ولم يظهر الإمام على المنبر
كره، ولا يحرم.
وقال الضحاك، وربيعة، وأحمد: (يحرم) .

(2/557)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] .
فثبت: أن النهي عن البيع يتعلق بحال النداء.
وإن ظهر الإمام على المنبر، وأذن المؤذن ... حرم البيع؛ للآية.
إذا ثبت هذا: فإن التحريم إنما يختص بأهل فرض الجمعة.
فأما إذا تبايع اثنان ليسا من أهل فرض الجمعة، كالمسافرين والعبدين والمرأتين ... لم يحرم عليهما.
وقال مالك: (يحرم عليهما) .
دليلنا: أن الله تعالى أمر بالسعي إلى الجمعة، ونهى عن البيع؛ لأجلها، فلما كان السعي إلى الجمعة لا يجب على هؤلاء ... ثبت أن النهي عن البيع لا يتوجه في حقهم.
فإن تبايع اثنان - بعد ظهور الإمام على المنبر، والأذان - أحدهما من أهل فرض الجمعة، والآخر ليس من أهل فرضها:
قال الشافعي: (أثما جميعًا) لأن من كان من أهل فرض الجمعة ... تناولته الآية، والآخر أعانه على المعصية، فكان عاصيًا بذلك.
وكان موضع يحرم فيه البيع إذا وقع البيع فيه ... صح البيع.
وقال مالك، وأحمد، وداود: (لا يصح) .
دليلنا: أن النهي لأجل الصلاة، وذلك لا يختص بالبيع، فلم يوجب فساده، كمن ترك الصلاة في وقتها، واشتغل عنها بالبيع، وكذلك: لو ذبح بسكين مغصوبة ... فإن الذكاة تصح، ولو ذبح بظفر أو عظم
لم تصح الذكاة؛ لاختصاص النهي بمعنى في المذبوح به.

(2/558)


[مسألة لا تقام إلا في بناء]
ولا تصح الجمعة إلا في أبنية يستوطنها من تنعقد بهم الجمعة؛ لأنها لم تقم في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا في أيام الخلفاء، إلا في أبنية.
قال الشافعي: (وسواء كانت أبنيتهم من حجارة، أو طين، أو خشب، أو شجر، أو جريد، أو سعف) .
قال ابن الصباغ: وظاهر هذا أن أهل الخيام لا يجمعون؛ لأنه شرط البناء.
وقال في "البويطي": (ومن كان في بادية يبلغ عددهم أربعين رجلًا حرًا بالغًا، وكانت مظالهم بعضها إلى جنب بعض، وكانت وطنهم في الشتاء والصيف، لا يظعنون عنها إن قحطوا، ولا يرغبون عنها بخصب غيرها ... وجبت عليهم الجمعة) .
فالمسألة على قولين:
أحدهما: لا يجب على أهل الخيام؛ لعدم البناء؛ لأن الخيام بناء المستوفزين، لا بناء المستوطنين.
والثاني: تجب عليهم الجمعة؛ لأن ذلك موضع الاستيطان والمقام، فأشبه البناء.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (من شرط القرية أن تكون مجتمعة المنازل) .

(2/559)


قال ابن الصباغ: فإن كانت متفرقة ... نظرت:
فإن كان بعضها بائنًا من بعض بحيث يقصر إذا أراد أن يسافر من بعضها، وإن لم يفارق الباقي ... فهذه متفرقة لا تجب عليهم الجمعة، وهذا ثبت من قوله: إن الأزقة والسكك بين الدور لا تكون فاصلة بينها؛ لأن أصحابنا ذكروا: أنه لا يجوز القصر لمن يسافر من بغداد، حتى يفارق نهر بغداد، وكذلك الرحبة تكون في القرية، فإن انهدمت القرية، وأقام أهلها فيها يصلحونها
فإنهم يصلون الجمعة فيها، سواء كانوا في مظال، أو غير مظال؛ لأنهم في موضع استيطانهم.
وإن خرج أهل البلد إلى خارج البلد، وأقاموا فيه الجمعة ... لم تصح.
وقال أبو حنيفة: (تصح خارج المصر قريبًا منه، نحو الموضع الذي يصلى فيه العيد) .
وقال أبو ثور: (الجمعة كسائر الصلوات، إلا أن فيها خطبة، فحيثما أقيمت ... جاز) . واحتج: أن عمر كتب إلى أبي هريرة: (أن جمعوا حيث كنتم) .
ودليلنا على أبي حنيفة: أنه موضع يجوز أن يقصر فيه المسافر من أهل البلد ... فلم تجز إقامة الجمعة فيه، كالبعيد.
وعلى قول أبي ثور: أن قبائل العرب كانت حول المدينة، ولم ينقل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم بإقامة الجمعة، ولا أقاموها، وأما حديث عمر: فمحمول على أنه أراد حيث كنتم، من بلد، أو قرية.

(2/560)


[مسألة العدد للجمعة]
العدد شرط في الجمعة، ولا خلاف أن الجمعة لا تنعقد بواحد.
واختلف أهل العلم في أقل العدد الذي تنعقد به الجمعة.
فذهب الشافعي إلى: (أنها تنعقد بأربعين رجلًا، ولا تنعقد بأقل من ذلك) ، وهل يكون الإمام منهم، أو يشترط أن يكون زائدًا عليهم؟ فيه وجهان:
المشهور: أنه منهم، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.
وقال ربيعة: تنعقد باثني عشر رجلًا.
وقال عكرمة: تنعقد بتسعةٍ.
وقال أبو حنيفة: (تنعقد بأربعة: إمام، وثلاثة مأمومين) .
وذهب الثوري، والأوزاعي، وأبو يوسف، وأبو ثور إلى: (أنها تنعقد بثلاثة: إمام ومأمومَين) . وحكى صاحب " التلخيص ". وصاحب " الفروع ": أن ذلك قول للشافعي في القديم.
فمن أصحابنا من سلم له هذا النقل، وقال: الثلاثة جمع مطلق، فيكون على قولين.
وذهب عامة أصحابنا: إلى أن هذا لا يعرف للشافعي في قديم ولا جديد، ولعل

(2/561)


ناقل هذا القول أخذه من أحد الأقوال في الانفضاض.
وقال الحسن بن صالح: تنعقد الجمعة بإمام ومأموم.
وقال مالك: (لا حد في ذلك، وإنما يعتبر عدد تتقرى بهم قرية، ويمكنهم المقام فيها، والبيع والشراء، فإذا كانت قرية، وفيها سوق ومسجد ... انعقدت بهم الجمعة) .
دليلنا: ما روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: (كنت قائد أبي بعد ما كف بصره، وكان إذا سمع نداء الجمعة، ترحم على أسعد بن زرارة، فقلت له: إنك تترحم عليه عند نداء الجمعة؟ قال: نعم؛ لأنه أول من جمع بنا في بني بياضة، قلت: كم كنتم؟ قال: أربعين رجلا) .
ووجه الدلالة منه: أن الناس قد كانوا يسلمون في المدينة الثلاثة والأربعة والعشرة، ولم يقيموا الجمعة حتى تم عددهم أربعين، فدل على أنه لا تجوز إقامتها فيما دون ذلك.
وروي عن جابر بن عبد الله: أنه قال: «مضت السنة: أن في كل أربعين فما

(2/562)


فوقها جمعة وأضحى وفطرًا» . وقول الصحابي: (مضت السنة) بمنزلة الرواية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن الأربعة والثلاثة والتسعة والاثني عشر لا تُبنى لهم الأوطان غالبًا، فوجب ألا تنعقد بهم الجمعة، كالاثنين.

[فرع شرط عدد المجمعين]
ومن شرط العدد أن يكونوا رجالًا بالغين، عاقلين، مسلمين، أحرارًا، مستوطنين؛ لما مضى ذكره.
إذا ثبت هذا: فالناس في الجمعة على أربعة أضرب:
ضرب: تجب عليهم الجمعة، وتنعقد بهم.
وضرب: لا تجب عليهم، ولا تنعقد بهم.
وضرب: لا تجب عليهم، وتنعقد بهم.
وضرب: تجب عليهم، وهل تنعقد بهم؟ فيه وجهان.
فأما الذين تجب عليهم وتنعقد بهم: فهم أربعون رجلًا على الشروط التي ذكرناها.

(2/563)


وأما الذين لا تجب عليهم، ولا تنعقد بهم: فهم الصبيان، والخناثى، والنساء والمسافرون، والعبيد.
فلو اجتمع من أحدهم أربعون، وعقدوا الجمعة ... لم تصح منهم.
وإن اجتمع أربعون رجلًا على الشروط التي ذكرناها، وصلوا الجمعة، وصلى هؤلاء معهم ... انعقدت لهم الجمعة تبعًا لغيرهم.
وحكى ابن الصباغ: أن أبا حنيفة قال: (إذا اجتمع المسافرون أو العبيد، وصلوا الجمعة بانفرادهم ... صحت لهم الجمعة) .
دليلنا: أنهم ليسوا من أهل فرض الجمعة ... فلم تنعقد بهم: بانفرادهم، كالنساء.
وأما الذين لا تجب عليهم، وتنعقد بهم: فهم المرضى، ومن في طريقه مطر، ومن يخاف حضور الجامع، فإن حضروا ... وجبت عليهم، وانعقدت بهم.
وأما الذين تجب عليهم، وهل تنعقد بهم؟ فيه وجهان:
فهم المقيمون في بلد على تنجز حاجة، مثل: المقيم على درس الفقه أو التجارة، بحيث لا يجوز له القصر.
قال أبو علي بن أبي هريرة: تنعقد بهم الجمعة؛ لأن كل من وجبت عليه الجمعة ... تنعقد به، كالمستوطن.
وقال أبو إسحاق: لا تنعقد بهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقمها بعرفات بأهل مكة، وإن كانت دار إقامتهم؛ لأنها ليست بوطنٍ لهم.

[مسألة العدد شرط للخطبة]
العدد شرط في الخطبة.
وقال أبو حنيفة في إحدى الروايتين: (لو خطب وحده، ثم حضر العدد، وصلى بهم الجمعة ... جاز) .

(2/564)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] .
والذكر - هاهنا - هو الخطبة؛ ولأنه ذكر هو شرط في الصلاة، فكان من شرطه حضور الجماعة، كتكبيرة الإحرام.
إذا ثبت هذا: فإنما يشترط حضور العدد عند ذكر الواجبات من الخطبة على ما يأتي ذكره، دون ما سواها، فإن انفضوا عنه بعد فراغه من الواجبات، فإن عادوا قبل أن يتطاول الفصل ... بنى الإمام على الخطبة، وأحرم بهم بالجمعة، وإن رجعوا بعد أن تطاول الفصل - وحده: ما يعرفه الناس تطاولًا - قال الشافعي: (أحببت أن يعيد الخطبة، ثم يصلي بهم الجمعة، فإن لم يفعل
صلى بهم الظهر) .
واختلف أصحابنا في هذا:
فقال أبو العباس: تجب عليهم إعادة الخطبة والجمعة؛ لأن الوقت متسع لهما، وهم من أهل فرضها.
وقوله: (أحببت) لا يعرف للشافعي، وإنما هو: (أوجبت) ، فصحفه الناقل.
وأما قوله: (صلى بهم الظهر) أراد: إذا ضاق الوقت عن الخطبة والجمعة.
وقال أبو إسحاق: يستحب إعادة الخطبة، ولا تبطل بطول الفصل؛ لأنه لا يؤمن أن ينفضوا عنه مرة أخرى، وأما الصلاة: فتجب عليهم الجمعة؛ لأنه ممكن من فعلها، فإن صلى بهم الظهر ... أساؤوا بذلك، وأجزأهم قولًا واحدًا، بخلاف من صلى الظهر في بيته، وهو من أهل الجمعة، فإن الإعادة تجب عليه في قوله الجديد؛ لأن الجمعة قد أقيمت بعد صلاته، وهاهنا لم تقم.

(2/565)


ومن أصحابنا من قال بظاهر كلام الشافعي، وأنه يستحب إعادة الخطبة والجمعة؛ لأنه لا يؤمن أن ينفضوا عنه مرة ثانية.

[فرع الانفضاض بعد الإحرام]
] : وإن أحرم الإمام بالجمعة، ثم انفضوا عنه ... ففيه ثلاثة أقوال منصوصة للشافعي: أحدها - وهو الصحيح -: (أنهم إذا انفضوا عن الأربعين في أثناء الصلاة
لم تصح الجمعة) ؛ لأن العدد شرط في ابتداء الصلاة، فكان شرطًا في استدامتها، كالوقت والاستيطان.
والثاني: (إن بقي معه اثنان ... أتم الجمعة) ؛ لأنهم يصيرون ثلاثة، وذلك أقل الجمع.
والثالث: (إن بقي معه واحد ... أتم الجمعة) ؛ لأن اثنين يحصل معهما فضل الجماعة.
وخرج المزني قولين آخرين:
أحدهما: أنهم إن انفضوا بعد أن صلى بهم ركعة ... أتمها جمعة، وإن كان قبل أن يصلي بهم ركعة
أتمها ظهرًا، وهو قول مالك.
وإنما خرج المزني هذا من قول الشافعي: (إذا فرق الإمام الناس طائفتين في صلاة الخوف في البلد، فصلى بالطائفة الأولى ركعة من الجمعة، ثم قام في الثانية، ينتظر الثانية، فلما جاز أن يبقى وحده، ثم يتمها جمعة إذا جاءت الثانية ... كذا هذا مثله) .
والثاني: إذا انفضوا عنه بعد الإحرام. جاز أن يتمها جمعة وإن بقي وحده، وأخذ هذا من قول الشافعي: (إذا أحدث الإمام، وقلنا: لا يجوز الاستخلاف ... جاز لهم أن يتموها جمعة) ؛ لأن الشيء قد يكون شرطًا في الابتداء، ولا يكون شرطًا في الاستدامة، ألا ترى أن النية شرط في ابتداء الصلاة، دون استدامتها.
فمن أصحابنا من صوب المزني في هذا التخريج، فقال: في المسألة خمسة أقوال. ومنهم من خطأه في ذلك.

(2/566)


[مسألة خطبتا الجمعة]
ولا تصح الجمعة حتى يتقدمها خطبتان، وهما واجبتان، وبه قال عامة الفقهاء.
وقال الحسن البصري: الخطبة مستحبة، وبه قال عبد الملك، وداود.
دليلنا: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل الجمعة إلا بخطبتين) وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إنما قصرت الصلاة؛ لأجل الخطبة) .
ولا تصح الخطبة والصلاة إلا بعد زوال الشمس.
وقال أحمد: (يجوز فعلها قبل الزوال) . واختلف أصحابه في وقتها: فمنهم من قال: أول وقتها وقت صلاة العيد.
ومنهم من قال: يجوز فعلها في الساعة السادسة.
وقال مالك: (يجوز فعل الخطبة قبل الزوال، وأما صلاة الجمعة: فلا تجوز له قبل الزوال) .

(2/567)


دليلنا: ما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب يوم الجمعة بعد الزوال» ، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، ولأنهما فرضا وقت، فلم يختلف وقتهما، كصلاة الحضر والسفر.
فإن دخل في الجمعة في وقتها، ثم خرج الوقت وهو فيها ... لم تبطل الصلاة، بل يتمها ظهرًا، ولا يحتاج إلى تجديد نية.
قال صاحب " الفروع ": وقد قيل: يحتاج إلى تجديد النية بعد خروج الوقت.
وقال أبو حنيفة: (إذا خرج الوقت وهو فيها ... بطلت صلاته) .
وحكاه السنجي وجهًا آخر لبعض أصحابنا، وليس بمشهور.
وقال عطاء، ومالك، وأحمد: (يتمها جمعة) .
دليلنا على أبي حنيفة: أنهما صلاتا وقت، فجاز بناء إحداهما على الأخرى، كصلاة الحضر على صلاة السفر.

(2/568)


وعلى من قال: يتمها جمعة: أن من كان شرطًا في ابتداء صلاة الجمعة ... كان شرطًا في استدامتها، كسائر الشروط.
وإن أحرم بالجمعة، وشك وهو فيها، هل خرج وقتها؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما - ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غيره -: أنه يتمها جمعة؛ لأن الأصل بقاء الوقت.
والثاني: يتمها ظهرًا؛ لأن الأصل الظهر، وإنما جوز فعل الجمعة بشروط، فلا يجوز أن يفعلها حتى تتحقق الشروط.
وإن خرج من الصلاة، ثم شك، هل خرج الوقت وهو فيها؟ لم تجب عليه إعادتها؛ لأن الظاهر أنه أداها على الصحة.
وأما المسبوق فيها بركعة: إذا قام ليأتي بها، ثم خرج الوقت ... ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\90] :
أحدهما: يتمها ظهرًا، كالإمام والجماعة.
والثاني: يتمها جمعة، لأن هذه الركعة تبتنى على جمعة قد تمت.
وإن تشاغلوا عن الجمعة، حتى ضاق الوقت ... قال الشافعي: (فإن علم الإمام أنه إذا خطب أقل خطبتين، وصلى أخف ركعتين، دخل وقت العصر قبل الفراغ منهما
صلوا الظهر؛ لأنه لا يمكنهم صلاة الجمعة، وإن علم أنه يفرغ منها قبل دخول وقت العصر ... صلاها جمعة.

[مسألة القيام في الخطبة]
] : القيام شرط في الخطبة، فإن خطب قاعدًا مع العجز ... أجزأه، فإن كان قادرًا
لم يصح.

(2/569)


وقال أبو حنيفة، وأحمد: (القيام ليس بشرط فيها بحال) .
دليلنا: ما روى جابر بن سمرة: أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائمًا، ثم يجلس، ثم يقوم، ويقرأ آيات، ويذكر الله» .
وفي رواية عن جابر بن سمرة: أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الخطبتين، وهو قائم، فمن حدثك أنه كان يخطب قاعدًا ... فقد كذبك، فقد صليت خلفه أكثر من ألفي صلاة» ، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
فإن خطب الإمام قاعدًا، فإن علم المأمومون أنه عاجز عن القيام، أو أخبرهم: أنه عاجز ... صحت صلاتهم؛ لأنه لا يعلم ذلك إلا من جهته، وإن لم يعلموا بعجزه ولا أخبرهم
صحت صلاتهم؛ لأن الظاهر من حاله: أنه ترك القيام لعجزه.
فإن بان أنه كان قادرًا على القيام، فإن كان الإمام أحد الأربعين ... لم تصح الجمعة، لا له، ولا لهم، وإن كان زائدًا على الأربعين
صحت الجمعة لهم دونه، كما قلنا فيمن صلى الجمعة خلف جنب.
ويفصل بين الخطبتين بجلسة بينهما، فإن خطب قاعدًا عند العجز ... فصل بينهما بسكتةٍ، والجلسة واجبة.
وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد: (الجلسة بينهما مستحبة غير واجبةٍ) .

(2/570)


دليلنا: حديث جابر بن سمرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصل بينهما بجلسة» ، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
وهل يشترط فيهما الطهارة من الحدث والنجس، وستر العورة؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا يشترط ذلك، وأنه مستحب) . وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد؛ لأنه ذكر يتقدم الصلاة، فلم يشترط فيه الطهارة، كالأذان.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يشترط ذلك) . وهو الأصح؛ لأنه ذكر شرط في الصلاة، فاشترطت فيه الطهارة، كتكبيرة الإحرام، وينبغي أن يكون ستر العورة فيهما شرطًا على هذين القولين.

[مسألة الألفاظ الواجبة في الخطبة]
وأما الألفاظ في الخطبتين: فاتفق أصحابنا على وجوب ثلاثة ألفاظ فيها: حمد الله، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والوصية بتقوى الله تعالى.
وأما القراءة: فالمشهور من مذهب الشافعي: أنها واجبة.
وحكى بعض أصحابنا قولًا آخر: أنها ليست بواجبة بواحدة منهما؛ لأن الشافعي قال في " الإملاء ": (فإن حمد الله، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ووعظ ... أجزأه، وقد ضيع حظ نفسه) . وهذا ليس بشيءٍ؛ لأن الشافعي قد نص على وجوبها في " الأم " [1/178] .

(2/571)


ووجهه: حديث جابر بن سمرة.
فإذا قلنا بهذا: فاختلف أصحابنا في محلها:
فمنهم من قال: القراءة واجبة في كل واحدة من الخطبتين؛ لأن ما كان واجبًا في إحداهما، كان واجبًا فيهما، كسائر الألفاظ.
ومنهم من قال: تجب القراءة في إحدى الخطبتين لا بعينها؛ لأنه روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الخطبة» . وذلك لا يقتضي أكثر من مرة.
وحكى في " الإفصاح " وجهًا ثالثًا: أن القراءة لا تجزئ إلا في الأولى، وهذا ليس بمشهور.
وأما الدعاء: فمن أصحابنا من قال: يجب؛ لأن المزني ذكره في أقل ما يجزئ من الخطبة.
ومنهم من قال: هو مستحب؛ لأنه لا يجب في غير الخطبة، فلا يجب فيها، كالتسبيح، وأما الدعاء للسلطان: فلا يستحب؛ لما روي: أنه سُئل عطاء عن ذلك؟ فقال: إنه محدث، وإنما كانت الخطبة تذكيرًا.

(2/572)


[فرع الخطبة بالعربية]
ويشترط أن يأتي بالخطبة بالعربية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يخطبون بالعربية، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
فإن لم يوجد فيهم من يحسن الخطبة بالعربية ... احتمل أن تجزئهم الخطبة بالعجمية، ويجب أن يتعلم واحد منهم الخطبة بالعربية، كما قلنا في تكبيرة الإحرام.
ولفظ الوصية ليس بشرط في الخطبة، فلو قرأ آية فيها وصية، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1] [النساء:1] ... أجزأه؛ لأنها أبلغ من الوصية. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (يجزئه أن يقول: الحمد لله، أو لا إله إلا الله، أو سبحان الله) .
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز حتى يأتي بكلام يسمى خطبة في العادة.
وعن مالك روايتان:
إحداهما: (أن من سبح أو هلل ... أعاد ما لم يصل) .
والثانية: (لا يجزئه إلا ما سمته العرب خطبة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] .
ولم يبين كيفية الذكر، وكيفيته مأخوذة من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأتي في خطبته بجميع ما ذكرناه، وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يومًا، فقال: الحمد لله نستعينه، ونستغفره، ونستنصره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله ... فلا مضل له، ومن يضلل
فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله ... فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله
فقد غوى»

(2/573)


قال الشافعي: وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب، فقال: ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، ألا وإن الآخرة أجل صادق، يقضي فيها ملك قادر، ألا وإن الخير بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشر بحذافيره في النار، ألا فاعملوا، وكونوا من الله على حذر، ألا واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم - وفي رواية: على أموالكم - فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا ... يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا
يره»
وروي عن جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يوم الجمعة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته، واشتد غضبه، واحمرت وجنتاه، كأنه منذر جيش: "بعثت أنا والساعة كهاتين"، وأشار بالسبابة والوسطى، ثم قال: إن أفضل الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، من ترك مالًا ... فلأهله، ومن ترك دينًا أوضياعًا
فإلي [وعلي] » وهذا يدل على وجوب الحمد والوصية.

(2/574)


قال أبو عبيد الهروي في " الغريب ": «خير الهدي هدي محمد» ، أي: أحسن الطرائق، يقال: فلان حسن الهدي، أي: حسن المذاهب في الأمور كلها.
وقوله: " ضياعا " قال: فالضياع: العيال.
وقال القتيبي: وهو مصدر ضاع يضيع ضياعًا، أي: من ترك عيالًا عالة، فجاء بالمصدر نائبًا عن الاسم. كقوله: فمن مات وترك فقيرًا، أي: فقراء، فإذا كسرت الضاد ... فهو جمع: ضائع، مثل: جائع وجياع.
وأما الدليل على وجوب الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] [الانشراح:4] .
قال أهل التفسير: أي: لا أذكر إلا وتذكر معي.
وأما الدليل على وجوب القراءة: فحديث جابر بن سمرة، وروت أم هشام بنت حارثة، قالت: «حفظت سورة (ق) من في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر» .

(2/575)


[فرع يستحب في الخطبة]
ويستحب أن يرفع صوته بالخطبة؛ لحديث جابر، ولأن القصد بالخطبة الإعلام، فكان رفع الصوت أولى، فإن خطب سرًا بحيث يسمع نفسه لا غير ... ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي زيد المروزي -: أنه يجزئه، وبه قال أبو حنيفة، كما لو خطب بالعربية، وهم عجم لا يفقهونه، أو كما لو جهر بالخطبة، وهم صم لا يسمعونه.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه أخل بالمقصود، فهو كما لو خطب في نفسه، أو كما لو كتبها في درج، وقرؤوها في أنفسهم، وفهموها، ويخالف إذا خطب بالعربية، وهم عجم أو صم؛ لأنه لم يفرط هناك، وهاهنا قد فرط.

[مسألة يسن للخطبة]
والسنة: أن يخطب على شيء مرتفع: إما منبرٍ، أو درجةٍ، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دخل المدينة ... خطب مستندًا إلى جذع في المسجد، ثم صنع له المنبر، فصعده، وخطب عليه، فحن الجذع حتى سمعه أهل المسجد، فنزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه، وضمه حتى سكن» .
ولأنه أبلغ في الإعلام.
ويستحب أن يكون المنبر على يمين المحراب، وهو الموضع الذي يكون على يمين الإمام، إذا توجه إلى القبلة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع له منبره هكذا.
ويستحب للإمام إذا دخل المسجد أن يسلم على الناس عند دخوله، فإذا بلغ المنبر ... صلى ركعتين تحية المسجد، ثم يصعد المنبر، فإذا بلغ إلى الدرجة التي تلي الدرجة التي يستريح بالقعود عليها
التفت إلى الناس، وسلم عليهم.

(2/576)


وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره هذا السلام) ؛ لأنه قد سلم عليهم عند دخوله، فلا معنى لإعادته.
دليلنا: ما روى عبد الله بن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم على من عند منبره، ثم يصعد، فإذا استقبل الناس بوجهه ... سلم، ثم قعد» ، ولأن الإمام يستدبرهم إذا صعد، فاستحب له أن يسلم عليهم إذا أقبل؛ ولهذا روي: (أن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا إذا مروا في طريق يحول بين بعضهم وبعض شجرة
فيسلم بعضهم على بعض) .
فإذا فرغ الإمام من السلام ... جلس، وأذن المؤذن؛ لما روى ابن عمر: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصنع ذلك) .
ولأنه قد يتعب في الصعود، فاستحب له الجلوس؛ لترجع إليه نفسه.
والمستحب: أن يكون المؤذن واحدًا، حكاه أبو علي في " الإفصاح "، والمحاملي، وغيرهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يؤذن له يوم الجمعة إلا واحد، ثم يقوم؛ لما ذكرناه من حديث جابر.
ويستحب أن يعتمد على عنزة، أو قوس، أو سيف، أو عصى؛ لما روى

(2/577)


الحكم بن حزن: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمد على قوس في خطبته» ، ولأنه أسكن لجأشه.
قال الشافعي: (فإن لم يكن معه شيء ... سكن نفسه: إما بأن يضع يمينه على شماله، أو بأن يرسل يديه ساكنتين، ويخطب خطبتين على ما مضى) .
ويستحب أن يكون كلامه مسترسلًا معربًا بلا تمطيط ولا مد، ولا يأتي بالكلام الغريب المستنكر الذي تخفى عليهم أو على بعضهم المعاني فيه؛ لأن القصد بالخطبة الموعظة، ولا يحصل إلا بما ذكرناه.
ويستحب أن يقبل على الناس بوجهه في جميع الخطبة، ولا يلتفت يمينًا ولا شمالًا.
وقال أبو حنيفة: (يلتفت يمينًا وشمالًا، كالمؤذن) .
دليلنا: ما روى سمرة بن جندب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خطبنا ... استقبلناه بوجوهنا، واستقبلنا بوجهه» . ولا يلتفت، ويفارق الأذان؛ فإن المقصود منه

(2/578)


الإعلام، وذلك يحصل بكلمة، وهاهنا: المقصود السماع، فإذا التفت إلى يمينه ... فوت على بعض الناس السماع، فكان أولى الجهات قصد وجهه، فإن خالف، وخطب مستقبل القبلة، مستدبر الناس
صح، ولكنه قد خالف السنة.
وحكى الشاشي وجهًا آخر: أنه لا يجزئه، وليس بصحيح.

[فرع إن استغلق الكلام]
وإن ارتج على الإمام ... فقد قال الشافعي في موضع: (ولا يلقن) ، وقال في موضع: (يلقن) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على حالين:
فالموضع الذي قال: (لا يلقن) أراد: إذا رجى أن يفتح عليه، مثل: أن كان يردد الكلام في نفسه، والذي قال: (يلقن) أراد: إذا لم يرج انفتاحه.
والدليل على ذلك: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ سورة في الصلاة، فنسى آية، فلما فرغ ... قال: "أليس فيكم أُبي؟ "، فقالوا: بلى، يا رسول الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هلا رددت علي؟ "، فقال أُبي: ما كان الله ليراني وأنا أرد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .

(2/579)


وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إذا استطعمكم الإمام ... فأطعموه) ، يعني: الفتح عليه.
ويستحب أن يقصر الخطبة، قال الشافعي في القديم: (يخطب بقدر أقل سورة) ، ولم يعين، وقد بينه في " الأم " [1/187] ، فقال: (أن يأتي بالألفاظ الواجبة التي ذكرناها) .
والأصل في ذلك ... ما روي: أن عبد الله بن مسعود خطب، وأوجز، فقيل له: لو تنفست في خطبتك، فقال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «قصر الخطبة، وتطويل الصلاة، مئنة من فقه الرجل، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة» .
قوله: " مئنة "، أي: مادة وقوة ودليل على فضل وكثرة علم.

[فرع شرب الماء حال الخطبة]
يجوز شرب الماء في حال الخطبة للعطش أو للتبرد.
وقال مالك، وأحمد، والأوزاعي: (لا يجوز) .
قال الأوزاعي: (فإن فعل ذلك ... بطلت جمعته) .
دليلنا: أن الكلام إذا لم يبطلها، فشرب الماء أولى.
قال الشافعي: (فإن قرأ آية فيها سجدة، فنزل، وسجد ... لم يكن به بأس) ؛ لما روي: (أن عمر فعل ذلك) .

(2/580)


فإن تركها ... كان أولى؛ لما روي: أن عمر قرأ السجدة في الجمعة الثانية، فتهيأ الناس للسجود، فقال: (أيها الناس، على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا) ، ولم يسجد.
فإن نزل، وسجد، وطال الفصل ... فهل يبني، أو يستأنف؟ فيه قولان:
قال في القديم ... (يبني) ، وقال في الجديد: (يستأنف) .

[مسألة ركعتا الجمعة]
] : وإذا فرغ من الخطبة ... نزل وصلى الجمعة ركعتين، وهو نقل الخلف، عن السلف، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فإن نوى أن يصليها ظهرًا مقصورة ... قال في " الفروع ": فهل يجزئه؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الواجب يوم الجمعة.
ويستحب أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة (الجمعة) ، وفي الثانية بعد الفاتحة سورة (المنافقون) .
قال الشافعي: (فإن قرأ في الأولى سورة (المنافقون) ... قرأ في الثانية سورة (الجمعة) ، حتى لا تخلو الصلاة من هاتين السورتين) .
وقال مالك: (يقرأ في الأولى سورة (الجمعة) ، وفي الثانية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] [الغاشية:1] .
وقال أبو حنيفة: (لا تتعين القراءة المستحبة فيهما، وهما وغيرهما في الفضل سواء) .

(2/581)


دليلنا: ما روي عن عبيد الله بن أبي رافع: أنه قال: «قرأ أبو هريرة في صلاة الجمعة سورة (الجمعة) و (المنافقون) ، فقلت له: قرأت سورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما، فقال أبو هريرة: (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأهما في صلاة الجمعة» .
ولأن في الأولى ذكر الجمعة، وفي الثانية ذم المنافقين، وهذا أليق بالموضع، فإن قرأ غيرهما من السور ... جاز؛ لما روى سمرة بن جندب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الجمعة في الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وفي الثانية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » .
ويستحب أن يجهر بالقراءة فيهما؛ لأنه نقل الخلف عن السلف، وأما ما روي: (أن صلاة النهار عجماء) : فإنما روي ذلك عن بعض التابعين، وإن صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... فإنه أراد: أكثر صلاة النهار عجماء، بدليل: أن صلاة الصبح يجهر بها، وهي من صلاة النهار.
وبالله التوفيق

(2/582)