البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب هيئة الجمعة والتبكير]
والغُسل للجمعة سنة، وليس بواجب، وبه قال عامة أهل العلم، وقال الحسن البصري، وداود، وأهل الظاهر: (هو واجب) .
دليلنا: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من توضأ يوم الجمعة ... فبها ونعمت، ومن اغتسل
فالغُسل أفضل» : فجعل غُسل يوم الجمعة فضيلة، فدل على أنه لا يجب.
فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فبها ونعمت» : قال ابن الصباغ: معناه: فبالفريضة أخذ، ونعمت الخلة الفريضة.
وحكى أبو عبيد الهروي، عن الأصمعي: أنه قال: فبالسنة أخذ. وقال بعضهم: فبالرخصة أخذ.
ومما يدل على ما ذهبنا إليه: ما روي: «أن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دخل المسجد، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يخطب على المنبر، فقال أية ساعة هذه؟ فقال عثمان: كنت في السوق، فلم أشعر إلا أن سمعت النداء، فما زدت على أن توضأت وجئت، فقال عمر: والوضوء أيضًا؟! وقد علمت: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمرنا بالغسل» . فأقره عمر على ترك الغسل بحضرة الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولو كان واجبًا ... لم يجز تركه.

(2/583)


وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غُسل الجمعة واجب على كل محتلم» : فأراد: وجوب اختيار، لا وجوب إلزام، بدليل ما ذكرناه.
وهل يسن غُسل الجمعة لليوم، أو للصلاة؟ فيه وجهان:
المشهور: أنه يسن للصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من جاء منكم إلى الجمعة ... فليغتسل» .
فعلى هذا: لا يسن لمن لا يأتي الجمعة.
والثاني: يسن لليوم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غُسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» .
فعلقه على اليوم.
فعلى هذا: يسن لمن يحضر الصلاة، ولمن لا يحضرها.
فإن اغتسل للجمعة قبل الفجر ... لم يجزئه، وقال الأوزاعي: (يجزئه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غُسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» . فعلقه على اليوم.
وإن اغتسل بعد طلوع الفجر، وراح إلى الجمعة عقيبه ... فقد أتى بالأفضل، وإن لم يرح عقيبه
أجزأه عندنا.

(2/584)


وقال مالك: (لا يجزئه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من توضأ يوم الجمعة ... فبها ونعمت، ومن اغتسل
فالغُسل أفضل» . ولم يفرق بين أن يروح عقيبه، أو لا يروح.

[مسألة الغسل من الجنابة يوم الجمعة]
] : وإن كان جُنبًا يوم الجمعة، فاغتسل غُسلين: غسلًا عن الجنابة، وغسلًا عن الجمعة ... فقد أتى بالأفضل، وإن اغتسل غسلًا واحدًا، ونواه عنهما
أجزأه.
وقال مالك: (لا يجزئه) .
دليلنا: ما روى نافع: (أن ابن عمر كان يغتسل يوم الجمعة غُسلًا واحدًا عن الجنابة والجمعة) ، ولأنهما غسلان ترادفا، فأجزأه عنهما غسل واحد، كما لو كان على المرأة غسل جنابة، وغسل حيض.
وإن اغتسل عن الجنابة، ولم ينو الجمعة ... أجزأه عن الجنابة، وهل يجزئه عن الجمعة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه لم ينوها.
والثاني: يجزئه؛ لأن القصد بالغسل عن الجمعة التنظيف، وقد حصل.
وإن اغتسل، أو نوى الغسل عن الجمعة، ولم ينو عن الجنابة ... فهل يجزئه عن الجمعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئه عن الجمعة؛ لأنه قد نواها، ثم يجب عليه أن يغتسل عن الجنابة.

(2/585)


والثاني: لا يجزئه عن الجمعة؛ لأن المقصود من غُسل الجمعة التنظيف، ولا تنظيف مع بقاء الجنابة.
قال في " الإبانة " [ق\29] : إذا اغتسل بنية الجمعة، وكان يوم عيد ... فقد حصل له غسل الجمعة والعيد، وإن اغتسل بنية العيد
حصل له غُسل العيد والجمعة؛ لأنهما غُسلا نفل، فتداخلا، بخلاف غسل الجمعة والجنابة.

[فرع يستحب مع غسل الجمعة]
ويستحب له مع الغُسل يوم الجمعة أن يفعل ستة أشياء: حلق الشعر، وتقليم الأظفار، والسواك، وقطع الروائح الكريهة، ولبس أحسن ثيابه، والتطيب؛ لما روى أبو سعيد، وأبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة، واستن، واستاك، ولبس أحسن ما يجد من الثياب، وخرج، ولم يتخط رقاب الناس، وركع ما شاء الله له أن يركع، وأنصت إذا خرج الإمام ... كانت كفارة ما بين تلك الجمعة إلى الجمعة التي قبلها". قال أبو هريرة: (وزيادة ثلاثة أيام؛ قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] » [الأنعام:160] .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في يوم الجمعة: "يا معشر المسلمين، إن هذا يوم جعله الله عيدًا للمسلمين، فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب ... فلا يضره أن يمسه» .

(2/586)


قال الشافعي: (ويستحب ذلك للعبيد والصبيان إذا أرادوا حضور الجمعة) .
ويستحب للنساء التنظيف بالغسل والسواك، ويكره لهن لبس الشهرة من الثياب، والطيب؛ لأن ذلك يؤدي إلى الافتتان بهن.
ويستحب له أن يلبس من الثياب البيض؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البسوا البياض؛ فإنها خير ثيابكم» .
ولأن البياض كان أكثر لبس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، و: «كفن في ثلاثة أثواب بيض» ، ولم ينقل: أنه لبس السواد إلا يوم فتح مكة، فـ: «إنه دخل وعلى رأسه عمامة سوداء» .

(2/587)


فإن لم يجد البياض ... قال الشافعي: (فعصب اليمن، وهي هذه الأبراد المخططة التي يصبغ غزلها، ثم ينسج) .
و (الغزل) : العصب، و (الغزال) : هو العصاب الذي يبيع الغزل.
ولا يستحب لبس ما صبغ ثوبه، قال الشيخ أبو حامد: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يلبسها.
ويستحب له أن يرتدي بُردًا، ويعتم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك، وروي: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي كرَّم الله وجهه: «العمائم تيجان العرب» ، وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الملائكة تكتب أصحاب العمائم يوم الجمعة» .
ويستحب للإمام من ذلك أكثر مما يستحب لغيره؛ لأنه يقتدى به.

[مسألة التبكير للجمعة]
ويستحب التبكير إلى الجمعة؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة، ثم راح في الساعة الأولى ... فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية
فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة ... فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة
فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في

(2/588)


الساعة الخامسة ... فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام
حضرت الملائكة يستمعون الذكر» .
قال الشيخ أبو حامد: يعني: الصحف التي يكتب فيها فضل التبكير.
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان يوم الجمعة ... كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم، الأول فالأول، فإذا خرج الإمام
طويت الصحف» ، ومن أين تعتبر هذه الساعات؟ فيه وجهان:
أحدهما: من طلوع الشمس؛ لأن الساعة لا تعلم إلا بعد طلوع الشمس، فأما قبله: فلا.
والثاني: وهو ظاهر قول الشافعي: أنها تعتبر من طلوع الفجر؛ لأنه أول اليوم، وبه يتعلق جواز الغسل، هذا نقل الشيخ أبي حامد وأصحابنا البغداديين.
وقال القفال: ليس المراد هاهنا بالساعات: أعداد ساعات اليوم والليلة التي هي أربع وعشرون ساعة في الليلة واليوم، حتى إن اثنين إذا أتيا على التعاقب في ساعة واحدة، استويا في الأجر.
وإنما معنى الخبر: أن من كان أسبق الاثنين رواحًا ... فهو أعظم أجرًا وإن كان بينهما لحظة، وهو عبارة عن ترتيب المجيء، لا غير.

(2/589)


قال الشافعي: (فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] . فأمر الله بالسعي بعد النداء، وهو بعد الزوال ... فكيف استحببتم السعي قبل الزوال؟ -قال - فالجواب: أن السعي المأمور به بعد الزوال واجب، وذلك لا يمنع استحباب السعي قبل الزوال) .
والمستحب: أن يمشي إلى الجمعة على سجية مشيه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتيتم الصلاة ... فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن أتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة» .
ولا يركب من غير عذر؛ لما روى أوس بن أوس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع، ولم يلغ ... كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها» .
وقوله: (غسل) فيه ثلاث روايات: غسل - بالتخفيف - وروي: غسل - بالتشديد - وروي: عسل - بالعين غير معجمة منقوطة - فمن روى بالتخفيف ... فأراد: توضأ واغتسل، ومن روى بالتشديد
فأراد: جامع أهله، فاغتسل وغسل غيره، وكذا من روى بالعين ... أي: ذاق العُسيلة - وهو الجماع - واغتسل.
وقوله: "بكر"، أي: خرج في الساعة الأولى، وفي "ابتكر" تأويلان: أحدهما: أنه أراد: حضور أول الخطبة، مشتق من: باكورة الثمرة، وهو أولها.
والثاني: أنه أراد: فَعل فِعل المبتكرين، من الصلاة، والقراءة، والطاعة.

(2/590)


فإن كان عاجزًا عن المشي ... لم يكره له أن يركب؛ لأنه إذا لم يكره له ترك القيام في الصلاة للعجز
فلأن لا يكره ترك المندوب إليه مع العجز أولى.
قال المزني: ومن بلغ باب المسجد ... فالمستحب: أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويقول: اللهم اجعلني من أوجه من توجه إليك، وأقرب من تقرب إليك، وألحح من طلب إليك.

[مسألة تخطي الرقاب يوم الجمعة]
] : قال الشافعي: (وأكره تخطي رقاب الناس يوم الجمعة قبل دخول الإمام، وبعده، إلا أن يكون إمامًا، فلا يكره؛ لحديث أبي سعيد، وأبي هريرة) .
وحكى الطبري: أن القفال قال: إذا كان الرجل محتشمًا أو مخوفًا ... لم يكره له أن يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة في الجامع؛ لما ذكرناه من حديث عثمان حين جاء وعمر يخطب، ولما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيء به حين مرض يهادى بين رجلين، حتى دخل المحراب» .
فإن ازدحم الناس، وكان هناك فرجة، فإن علم أنهم إذا قاموا إلى الصلاة، تقدموا إليها ... لم يتخط؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك.
وإن كان يعلم أنهم إذا قاموا إلى الصلاة لا يتقدمون إليها ... جاز له أن يتخطى إليها؛ لأن به حاجة إلى ذلك، وهكذا: إذا علم أنهم يقومون إليها وإنما يتخطى إليها رجلًا أو رجلين
جاز له ذلك؛ لأنه يسير.

(2/591)


[فرع اتخاذ موضع لسماع الخطبة]
قال الشافعي: (ولا أكره للرجل يوم الجمعة أن يوجه من يأخذ له موضعه، فإذا جاءه الآمر ... تنحى له) ؛ لما روي: أن ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له يوم الجمعة، ليجلس فيه، فإذا جاءه محمد
قام الغلام، وجلس فيه محمد.
فإن جلس رجل في موضع ... فلا يجوز لغيره أن يقيمه منه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه، ولكن يقول: تفسحوا، أو توسعوا» .
فإن قام الجالس، وأجلس غيره مكانه ... لم يكره له أن يجلس فيه.
وأما القائم منه: فإن تقدم منه إلى موضع أقرب إلى الإمام ... لم يكره له ذلك، وإن كان أبعد من الإمام
كره له؛ لأنه آثر غيره بالقربة.
فإن وجد ثوبًا مفروشًا لرجل في المسجد ... لم يجز له أن يجلس عليه؛ لأنه لا يجوز له أن يرتفق بمال غيره بغير إذنه من غير ضرورة، ولا يدفعه؛ لئلا يلزمه ضمانه.
قال الطبري: ولكن يُنحيه، كما نقول في المصلي إذا كان بين يديه كمشك في أسفله نجاسة، وهو في الصلاة: إن نحاه من غير أن يدفعه ... لم يضره، وإن دفعه بطلت صلاته.

(2/592)


ويستحب له إذا نعس ووجد موضعًا لا يتخطى إليه أحد أن يقوم إليه، لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نعس أحدكم في مجلسه ... فليتحول إلى غيره» . ولا يشبك بين أصابعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أحدكم في الصلاة ما دام يعمد إليها» ، وهذا مكروه في الصلاة، فكره لمن ينتظرها.

[مسألة قراءة سورة الكهف يوم الجمعة]
والمستحب له: أن يقرأ سورة الكهف ليلة الجمعة؛ ويوم الجمعة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة ويومها ... وقي فتنة الدجال» .

(2/593)


وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة ... غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة» .
والمستحب: أن يكثر من الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجمعة ويوم الجمعة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة، فإني أبلغ، وأسمع» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أقربكم إلي في الجنة أكثركم صلاة علي، فأكثروا من الصلاة علي في الليلة الغراء واليوم الأزهر» . قال الشافعي: (يعني: يوم الجمعة وليلتها) .

(2/594)


[فرع الاحتباء في الخطبة]
قال الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": ولا يكره الاحتباء في حال الخُطبة، وروي ذلك عن ابن عمر.
قال بعض أصحاب الحديث: يُكره، وروى فيه حديثًا في إسناده مقال.
ودليلنا: أن ذلك لا يمنع من استماع الخطبة، فلم يكره، كالتربع.
قال الشيخ أبو نصر: وليس للشافعي نص فيما يصلى بعد الجمعة، والذي يجيء على المذهب: أنه يصلي بعدها ما يصلي بعد الظهر، فإن شاء صلى ركعتين، وإن شاء صلى أربعًا؛ لأنه روي عن ابن مسعود: أنه قال: (يصلي بعدها أربعًا) .
قلت: وكذلك يصلي قبلها ما يصلي قبل الظهر.

[مسألة التنفل قبل الخطبة]
ولا ينقطع التنفل، ولا الكلام قبل خروج الإمام بالإجماع، فإذا خرج الإمام ... لم

(2/595)


ينقطع التنفل عندنا، حتى يجلس الإمام على المنبر، ولا ينقطع الكلام إلا بابتداء الإمام في الخطبة.
وقال أبو حنيفة: (إذا خرج الإمام ... حرم الكلام والتنفل) .
دليلنا: ما روي عن ثعلبة بن أبي مالك: أنه قال: (قعود الإمام على المنبر يقطع السبحة - يعني: النافلة - وكلامه يقطع الكلام) .
ولأن الصحابة كانوا يتحدثون وعمر على المنبر، فإذا ابتدأ الخطبة ... سكتوا.
فإن دخل رجل والإمام يخطب على المنبر ... صلى ركعتين تحية المسجد، وبه قال الحسن، ومكحول، وأحمد.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره) .
دليلنا: ما روى جابر، قال: «جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فجلس، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له: "يا سليك، قم، فاركع ركعتين، وتجوز فيهما"، ثم قال: "إذا جاء أحدكم والإمام يخطب ... فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما» .
وإن دخل والإمام في آخر الخطبة ... لم يصل التحية؛ لأنه يفوته أول الصلاة مع

(2/596)


الإمام، وهو فرضٌ، ولأن تحية المسجد تحصل بصلاة الجمعة.
ويجوز الكلام إذا جلس الإمام بين الخطبتين، وإذا نزل من المنبر؛ لما روي في حديث ثعلبة بن أبي مالك: (أن الصحابة كانوا يتحدثون، إذا نزل عمر من المنبر) . ولأنه ليس بحال استماع.
وإذا بدأ الإمام الخطبة ... أنصتوا؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أنصت إلى الإمام يوم الجمعة حتى يفرغ من صلاته
كفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام» .
ولما ذكرناه من حديث أوس بن أوس.
وهل يجب الإنصات، أو يستحب؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب، وبه قال عثمان، وابن عمر، وابن مسعود، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، واختيار ابن المنذر، ووجهه: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب ... فقد لغوت» ، و (اللغو) :

(2/597)


الإثم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] [المؤمنون:3] .
وروى جابر: «أن ابن مسعود جلس إلى جنب أبي بن كعب والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فكلمه، فلم يجبه، فظن أنه على موجدة، فلما فرغوا ... قال: ما حملك على ذلك؟ فقال: إنك تكلمت والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فلا جمعة لك، فأتى ابن مسعود إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبره بذلك؟ فقال: "صدق أُبي، وأطع أُبيًا» .
والثاني: أنه لا يجب، ولكن يستحب، وهو الصحيح، ووجهه: ما روي: «أن رجلًا دخل والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال: متى الساعة؟ فأشار الناس إليه أن اسكت، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثالثة: "ما أعددت لها؟ "، فقال: حب الله وحب رسوله، فقال: "إنك مع من أحببت» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجه قومًا ليقتلوا رجلًا من اليهود بخيبر، فقدموا والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال لهم: "أفلحت الوجوه"، فقالوا، ووجهك يا رسول الله، فقال: "ما الذي صنعتم؟ "، فقالوا: قتلناه» .
وروي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلم سُليكا الغطفاني وهو يخطب) .
ومن قال بهذا ... قال: (اللغو) : هو الكلام في الموضع الذي تركه فيه أدب.

(2/598)


وعلى القولين جميعًا: إذا تكلم ... لم تبطل جمعته؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر ابن مسعود بإعادة الجمعة) .
إذا ثبت هذا: فلا فرق بين أن يكون قريبًا من الإمام يسمع، أو كان بعيدًا لا يسمع، غير أن البعيد بالخيار: إن شاء ... أنصت، وإن شاء
ذكر الله تعالى؛ لما روي عن عثمان: أنه قال: (إذا خطب الإمام ... فأنصتوا، فإن للمنصت الذي لا يسمع من الخطبة مثل ما للسامع) . هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال في " الإبانة " [ق\92] : هل يقرأ البعيد القرآن؟ فيه وجهان.
هذا فيما لا فائدة فيه من الكلام.
فأما إذا علم إنسانًا شيئًا من الخير، أو نهاه عن المنكر، أو رأى أعمى يتردى في بئر، أو رأى عقربًا تدب إليه ... لم يحرم كلامه قولًا واحدًا.
وإن سلم رجل والإمام يخطب ... كره له ذلك، وهل يرد عليه، ويشمت العاطس؟ يبنى على القولين في الإنصات.
فإن قلنا: إنه مستحب ... رد السلام عليه، ولكن يرد السلام عليه واحد؛ لأن الرد فرض على الكفاية، وذلك يحصل بواحد، ويشمت العاطس واحد أيضًا.
وإن قلنا: إن الإنصات واجب، لم يرد السلام، ولم يشمت العاطس؛ لأن المسلم سلم في غير موضعه، فلم يرد عليه، وتشميت العاطس سنة، فلم يترك له الإنصات الواجب.
ومن أصحابنا من قال: يشمت العاطس ولا يرد السلام؛ لأن العاطس غير مفرط، والمسلم مفرط.
ومنهم من قال: يرد السلام ولا يشمت العاطس؛ لأن رد السلام واجب، وتشميت العاطس سنة.
والأول هو المنصوص.

(2/599)


وإن سلم صبي في غير حال الخطبة ... فهل يجب الرد عليه؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي، وكذلك إن رد عنهم صبي
فهل يسقط عنهم فرض الرد؟ فيه وجهان.

[فرع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة]
إذا قرأ الإمام في الخطبة: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] [الأحزاب:56] ... جاز للمستمع أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويرفع بها صوته.
وقال مالك، وأحمد، وإسحاق: (يصلي عليه في نفسه، ولا يرفع صوته) .
وقال الثوري، وأبو حنيفة: (السكوت أحب إلينا) . واختاره ابن المنذر.
دليلنا: أنه يستحب له أن يسأل الرحمة عند آية الرحمة، ويستعيذ من العذاب عند ذكره، فكذلك هذا مثله.
قال الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": وليس للشافعي نص في الإشارة إلى من يتكلم في حال الخطبة، والذي يجيء على مذهبه: أنه لا بأس به.
ويكره الحصب بالحصا والإمام يخطب، وروي عن ابن عمر: (أنه كان يحصب من يتكلم بالحصا، وربما أشار إليه) .
وقال طاووس: تكره الإشارة إليه.
دليلنا: أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أشاروا إلى الرجل الذي سأل عن الساعة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إشارتهم.

(2/600)


[مسألة المسبوق في الجمعة]
ومن دخل والإمام في صلاة الجمعة ... أحرم خلفه، فإن أدرك معه الركوع من الثانية
فقد أدرك معه الجمعة، فإذا سلم الإمام ... قام، وأضاف إليها ركعة، وسلم.
وإن أدركه بعد الركوع من الثانية ... فقد فاتته الجمعة، وما الذي ينوي؟ فيه وجهان:
أحدهما: ينوي الظهر؛ لأنها فرضه.
والثاني: ينوي الجمعة؛ لأن الإمام لم يسلم منها. هذا مذهبنا، وبه قال ابن عمر، وابن مسعود، وأنس، والأوزاعي، ومالك، والثوري، وأحمد.
وقال عمر بن الخطاب: (لا يكون مدركًا للجمعة، حتى يدرك الخطبة) . وبه قال عطاء، وطاووس، ومجاهد.
وقال أبو حنيفة: (إذا أحرم خلف الإمام في التشهد ... فإنه يكون مدركًا للجمعة، وكذا لو أحرم خلف الإمام في سجدتي السهو بعد السلام
فإنه يدرك الجمعة) .

(2/601)


دليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الجمعة ... فليصل إليها أخرى» . منطوقه: دليل على عمر، ودليل خطابه: دليل على أبي حنيفة.
وقد روي في رواية أخرى، عن أبي هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الجمعة ... فقد أدركها، ومن أدرك دون الركعة
صلاها ظهرًا أربعًا» . فيكون نطق هذا الخبر دليلًا على إبطال قول غيرنا فيها.

[فرع أدرك ركعة ونسي سجدة]
إذا أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة، فلما جلس للتشهد مع الإمام ... ذكر المأموم أنه ترك سجدة
فإنه يسجد، ويتابع الإمام في التشهد، فإذا سلم الإمام ... أتى بركعةٍ، ويكون مدركًا للجمعة في أصح الوجهين؛ لأنه أتى بالركعة مع الإمام، إلا أنه أتى بسجدة في حكم متابعته، فلم يمنع من إدراكها.
وإن ذكر بعدما سلم الإمام أنه ترك سجدة ... أتى بها، وأتمها ظهرًا؛ لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة.
وإن أدرك مع الإمام ركعة، فلما سلم الإمام ... قام المأموم، فأتى بركعته، ثم ذكر أنه نسي سجدة، ولم يدر من أي الركعتين تركها
فإنه يبني عل أشد الأمرين،

(2/602)


وأنه تركها من الركعة التي أدرك مع الإمام، فيتم الأولى بالثانية، ثم يقوم، ويأتي بثلاث ركعات. نص عليه الشافعي.
قال ابن الحداد: وإن صلى الإمام الجمعة ثلاث ركعات ساهيًا، فدخل مأموم معه، وأدركه في الثالثة، ولم يعلم أنها ثالثة، فصلاها معه ... لم يكن مدركًا للجمعة؛ لأن هذه الركعة ليست من صلب صلاة الإمام، فيقوم المأموم، ويأتي بثلاث ركعاتٍ.
فإن ذكر الإمام أنه ترك سجدة، ولا يعلم موضعها من الثلاث ... فإن صلاة الإمام قد تمت، وأما المدرك له في الثالثة: فلا يدرك الجمعة؛ لجواز أن يكون قد ترك الإمام السجدة من الثانية، فتمت بالثالثة.
وإن ذكر الإمام أنه ترك سجدة من الأولى ... فإن المدرك له في الثالثة قد أدرك ركعة من الجمعة؛ لأن الأولى للإمام تتم بالثانية، وتكون الثالثة له فعلًا هي الثانية له حكمًا، فيضيف إليها المأموم أخرى.
وإن أدرك الإمام راكعًا في الثانية، ثم رفع رأسه، وشك المأموم، هل أدرك معه الركوع الجائز، أم لا؟ لم يدرك الجمعة، بل عليه أن يصلي الظهر أربعًا؛ لأن الأصل عدم الإدراك.
قال الشيخ أبو نصر: إذا دخل مع الإمام، ولم يدر أجمعة هي، أم ظهر؟ فصلى معه ركعتين ... لم يجزه ذلك عن جمعة ولا ظهر، سواء بان أن الإمام صلى الجمعة أو الظهر.
وقال أبو حنيفة: (إذا علق نيته بنية الإمام ... أجزأه) .
وهذا ليس بصحيح؛ لأن تعيين الصلاة في النية واجب، وهذا لم يعين.

[مسألة منع المأموم من السجود]
إذا زحم المأموم عن السجود ... نظرت:
فإن أمكنه أن يسجد على ظهر إنسان، أو رأسه، أو رجليه، بحيث إذا سجد عليه

(2/603)


كان كهيئة الساجدين ... فإنه يلزمه ذلك، وبه قال أبو حنيفة، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق.
وقال الحسن البصري: هو بالخيار بين أن يسجد على ظهر إنسان، وبين أن يصبر حتى يزول، الزحام، ويسجد على الأرض.
وحكى بعض أصحابنا: أن ذلك قول للشافعي في القديم.
وقال عطاء، والزهري، ومالك: (لا يجوز أن يسجد على ظهر إنسان، بل يصبر حتى يسجد على الأرض) . وإليه أومأ أبو علي الطبري في " الإفصاح ".
دليلنا: ما روي عن عمر بن الخطاب: أنه قال: (إذا اشتد الزحام ... فليسجد أحدكم على ظهر أخيه. ولا يعرف له مخالف، ولأن أكثر ما فيه أن موضع سجوده أعلى من موضع قدميه، وقد نص الشافعي على: (أنه لو سجد على شيء أعلى من موضع قدميه
جاز) مع أن السجود يجب على حسب قدرته.
وأما إذا لم يتمكن من السجود على ظهر إنسان ... انتظر زوال الزحام، فإن زال، وقد صار الإمام قائمًا في الثانية
فإن المأموم يسجد على الأرض، ويتابع الإمام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز مثل ذلك بعسفان للعذر، والعذر - هاهنا - موجود.
ويستحب للإمام أن يرتل القراءة في الثانية؛ ليتبعه المزحوم.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك الحكم فيمن فاته السجود مع الإمام بنسيان، أو

(2/604)


سهو، أو مرضٍ، أو عذرٍ، فإنه يقضيه بعد فراغ الإمام منه، ويجزئه ذلك.
فإن فرغ المزحوم من السجود، وأدرك الإمام قائمًا في الثانية ... تبعه، ولا كلام.
وإن أدرك الإمام راكعًا في الثانية ... فهل يلزمه أن يقرأ، أو يلزمه أن يركع مع الإمام؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه أن يتبعه في الركوع.
قال ابن الصباغ: وهو الصحيح؛ لأن فرض القراءة قد سقط عنه بركوع الإمام، فهو كما لو أدركه راكعًا.
والثاني: يلزمه أن يشتغل بقضاء القراءة؛ لأنه قد أدرك محلها، بخلاف المسبوق.
قال ابن الصباغ: فإذا قلنا بهذا: فإنما يلزمه أن يقرأ ما لم يخف فوت الركوع، فإن خاف فوته قبل فراغه من القراءة ... فما الحكم فيه؟ على قولين، كما لو أدركه راكعًا قبل السجود.

[فرع تأخر المسبوق عن الإمام كثيرًا]
] : وإن ركع الإمام في الثانية قبل أن يسجد المزحوم في الأولى ... ففيه قولان:
أحدهما: لا يشتغل بقضاء ما فاته، وهو السجود، بل يجب عليه أن يتابع الإمام في الركوع، وهو قول مالكٍ، واختيار القفال؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع ... فاركعوا» . وهذا قد ركع، فوجب أن يركع معه؛ ولأنه قد أدركه راكعًا، فوجب أن يركع معه، كالمسبوق.
والثاني: يلزمه أن يشتغل بقضاء ما فاته، وهو قول أبي حنيفة، واختيار الشيخ أبي حامدٍ.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا سجد ... فاسجدوا» .

(2/605)


ومنه دليلان:
أحدهما: أنه قال: «ليؤتم به» ، والائتمام به: هو أن يفعل كفعله، وقد سجد الإمام، فوجب أن يسجد مثله.
والثاني: أنه قال: «فإذا سجد ... فاسجدوا» ، فينبغي أن يسجد مثله.
فإذا قلنا: يركع مع الإمام ... نظرت.
فإن فعل ذلك، وركع معه، وسجد في الثانية ... فبأي الركوعين يحتسب له؟ فيه قولان، ومن أصحابنا من يحكيهما وجهين:
أحدهما: يُحتسب له بالركوع الثاني، كالمسبوق.
فعلى هذا: إذا سلم الإمام ... قام، وصلى ركعة، وكان مدركًا للجمعة.
والثاني: يحتسب له بالركوع الأول؛ لأنه قد صح له، فلا يبطل بترك ما بعده.
فعلى هذا: يحصل له ركعة ملفقة؛ لأن القيام والقراءة والركوع من الأولى، والسجود من الثانية، وهل يدرك بها الجمعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يكون مدركًا بها، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة؛ لأن أمر الجمعة مبني على الكمال، والكمال أن يدرك منها ركعة كاملة، والملفقة ليست بكاملة، فلم تدرك بها الجمعة.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يدرك بها الجمعة، قال ابن الصباغ: وهو الصحيح: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من الجمعة ... فليضف إليها أخرى» . ولم يفرق بين أن تكون كاملة أو ملفقة.
فإذا قلنا بقول أبي إسحاق ... أضاف إليها أخرى، وسلم، وإذا قلنا بقول أبي علي بن أبي هريرة
فإنه يصلي الظهر أربعًا، وهل يبني على ما فعله مع الإمام؟ فيه

(2/606)


من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالقولين فيمن يصلي الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة:
أحدهما: يبطل ما فعله مع الإمام، فيستأنف الإحرام، ويصلي الظهر أربعًا.
والثاني: يبني عليه، فيأتي بثلاث ركعاتٍ.
ومنهم من قال: يبني على ما فعله مع الإمام، قولًا واحدًا؛ لأن القولين فيمن صلى الظهر قبل صلاة الإمام من غير عذرٍ، وهذا معذور.
وإن خالف ما أمرناه به، واشتغل بقضاء السجود ... نظرت:
فإن اعتقد أن فرضه الاشتغال بالسجود ... لم تبطل صلاته بذلك؛ لأنها زيادة في الصلاة من جنسها ناسيًا، ولا يعتد له بهذا السجود؛ لأنه فعله في غير موضعه.
فإن أدرك الإمام راكعًا، بأن خفف المزحوم سجوده، وطول الإمام ركوعه، فركع معه ... فهو كما لو أدركه راكعًا، فركع معه، على ما مضى من التفريع. وإن فرغ من السجود، وأدرك الإمام وقد رفع رأسه من الركوع
فإنه يسجد معه، وتحصل له ركعة ملفقة، وهل يدرك بها الجمعة؟ على الوجهين والتفريع عليهما كما مضى.
وإن كان عالمًا حين سجد أن فرضه المتابعة:
فإن لم ينو مفارقة الإمام.. بطلت صلاته؛ لأنه سجد في موضع الركوع عامدًا عالمًا، فنأمره أن يحرم بالجمعة، إن طول الإمام ركوعه: فإن فعل وركع معه، وسجد معه ... حصلت له ركعة من الجمعة، ويضيف إليها أخرى بعد سلام الإمام. وإن وجد الإمام قد رفع رأسه من الركوع
أحرم، وبنى الظهر على ذلك، وجهًا واحدًا؛ لأنه أحرم بعد فوات الجمعة.
وإن نوى مفارقة الإمام ... فهل تبطل صلاته؟ فيه قولان فيمن فارق الإمام بغير عذرٍ.

(2/607)


فإذا قلنا: تبطل ... كان الحكم فيه حكم ما لو لم ينو مفارقته، على ما ذكرناه.
وإن قلنا: لا تبطل ... فإن كان الإمام راكعًا
أمرناه بالإحرام بالجمعة، وإن رفع الإمام رأسه من الركوع ... أتمها ظهرًا، وهل يبني على إحرامه، أو يستأنفه؟ على الطريقين المذكورين أولًا.
وإن قلنا: إن فرضه الاشتغال بالسجود ... نظرت:
فإن فعل ذلك، وسجد، وقام، وأدرك الإمام راكعًا ... فهل يلزمه متابعته في الركوع، أو يشتغل بقضاء ما فاته من القراءة في الثانية؟ فيه وجهان:
الصحيح: يلزمه متابعته في الركوع، فإذا سجد معه في الثانية ... حصلت له الجمعة؛ لأنه قد أدرك الأولى، بعضها فعلًا، وبعضها حُكمًا، وأدرك معظم الثانية.
وإن أدركه وقد رفع رأسه من الركوع، أو ساجدًا في الثانية، أو جالسًا ... فهل يتبعه، أو يشتغل بقضاء ما فاته من القراءة والركوع؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمن أصحابنا من قال: يشتغل بقضاء ما فاته؛ لأن الاشتغال بالقضاء على هذا أولى من المتابعة.
ومنهم من قال: يلزمه متابعته، وهو الأصح؛ لأن هذه الركعة لم يدرك منها شيئًا يحتسب له به، بخلاف الأولى.
فعلى هذا: لا يحتسب له بما فعله مع إمامه من الثانية، وهل يكون مدركًا للجمعة بالركعة الأولى؟ فيه وجهان، لا لأجل التلفيق، ولكن لأنه فعل بعضها مع الإمام، وانفرد بفعل بعضها، فأشبه التلفيق.
فإذا قلنا: يكون مدركًا بها للجمعة ... أضاف إليها بعد سلام الإمام أخرى.
وإن قلنا: لا يدرك بها ... فهل يبني عليها بثلاث ركعاتٍ، أو يلزمه استئناف الإحرام للظهر؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما.
وإن سلم الإمام قبل أن يسجد المزحوم السجدتين في الأولى ... لم يدرك الجمعة،

(2/608)


وجهًا واحدًا، ويلزمه الظهر أربعًا، وهل يبني على ما قد فعله، أو يلزمه استئناف الإحرام؟ فيه طريقان.
فإن خالف ما أمرناه به، وتابع الإمام في الركوع في الثانية:
فإن اعتقد أن فرضه المتابعة ... لم تبطل صلاته؛ لأنه زاد فيها من جنسها ساهيًا، فإذا سجد مع الإمام
اعتد له به إلى الأولى، وكانت ركعة ملفقة، وهل يدرك بها الجمعة؟ على الوجهين، والتفريع عليهما ما مضى.
وإن اعتقد أن فرضه القضاء ... فقد بطلت صلاته؛ لأنه ركع في موضع السجود عامدًا عالمًا، فيلزمه أن يبتدئ بالإحرام بالجمعة مع الإمام، إن كان راكعًا، فإن سجد معه
فقد أدرك ركعة تامة منها، ويدرك بها الجمعة.
وإن أدركه، وقد رفع رأسه من الركوع ... أحرم معه، ويتمها ظهرًا أربعًا، وجهًا واحدًا.
وإن زحم عن السجود في الأولى، ولم يتخلص من الزحام حتى سجد الإمام في الثانية قبل أن يسجد المزحوم ... فإنه يسجد معه، قولًا واحدًا، وقد أدرك ركعة ملفقة، فهل يدرك بها الجمعة؟ على الوجهين.
وإن زحم عن السجود في الأولى، فزال الزحام، وسجد، وأدرك الإمام قائمًا في الثانية، وقرأ معه، وركع، ثم زحم عن السجود، فسجد، وأدركه قبل السلام ... فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد: يدرك الجمعة، وجهًا واحدًا.
وقال الشيخ أبو إسحاق، والقاضي أبو الطيب: هل يدرك الجمعة؟ على وجهين؛ لأنه أدرك بعضها فعلًا، وبعضها حكمًا.

(2/609)


قال ابن الصباغ: وهذا ضعيف؛ لأنه أدرك جميع الصلاة، بعضها فعلًا، وبعضها حكمًا، فثبت له حكم الجماعة.
وإن دخل رجل مع الإمام في الركوع في الثانية، فأدركه في الركوع، ثم زحم عن السجود، ثم زال الزحام، ثم سجد، وتبع الإمام في التشهد قبل السلام ... فهل يدرك الجمعة بهذه الركعة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ، وهذا يوافق ما ذكره القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق في الأولى.
فإن سلم الإمام قبل أن يسجد المزحوم ... لم يدرك الجمعة، وجهًا واحدًا، وهل يبني الظهر على ما فعله، أو يلزمه استئناف الإحرام؟ على ما ذكرناه من الطريقين.
وإن أحرم مع الإمام، فزحم عن الركوع، فلم يزل الزحام حتى ركع الإمام في الثانية ... فإنه يركع معه، وهل تكون ركعة ملفقة؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال القاضي أبو الطيب: تكون ملفقة، كما قلنا فيمن زحم عن السجود، وهل يدرك بها الجمعة؟ على الوجهين.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا تكون ملفقة، ويدرك الجمعة، وجهًا واحدًا.
قال ابن الصباغ: وهذا أشبه؛ لأنه لو أدرك الركوع في الثانية ... كان مدركًا للجمعة، فما زاد على ذلك من الركعة الأولى، لا يمنعه من إدراك الجمعة.

[فرع سهو المأموم في الجمعة]
إذا ركع مع الإمام في الأولى، فسهى المأموم حتى ركع الإمام في الثانية:
فحكى الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أن الشافعي قال: (يشتغل بالركوع قبل أن يشتغل بالسجود) ؛ لأنه مفرط في السهو، فلم يعذر في الانفراد.

(2/610)


وحكى الشيخ أبو إسحاق: أن القاضي أبا حامد قال: يجب أن يكون فيه قولان:
أحدهما: هذا.
والثاني: يشتغل بقضاء ما فاته، كالمزحوم.

[مسألة حدث الإمام في الصلاة]
إذا أحدث الإمام في الصلاة، أو ذكر أنه كان محدثًا، أو حدث عليه أمر قطعه عن الصلاة ... فهل يجوز له أن يستخلف؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يجوز) .
والدليل عليه: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم بأصحابه، ثم ذكر أنه جنب، فقال لهم: "كما أنتم"، وذهب، واغتسل، وجاء ورأسه يقطر ماء، فأحرم بهم، وصلى» .
ولو كان الاستخلاف جائزًا في الصلاة ... لاستخلف من يصلي بهم.
وكذلك فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هكذا.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه أحرم بالناس، ثم خرج من صلاته، وتوضأ،

(2/611)


ورجع، وصلى بهم، ثم قال: (مسست ذكري) . فعلم: أن الاستخلاف لا يجوز.
ولأن حكم الإمام مخالف لحكم المأموم؛ لأن الإمام يجهر ويقرأ السورة، ويسجد لسهوه، والمأموم خلافه في هذا، فلو جوزنا الاستخلاف ... لتناقض حكم المأموم فيه.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يجوز) . وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وهو الصحيح.
والدليل عليه: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استخلف أبا بكر ليصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه، فأقام سبعة عشر يومًا يصلي بالناس، فوجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومًا في نفسه خفة، فخرج يُهادى بين رجلين، فقام على يسار أبي بكر، وصلى بالناس، فصار أبو بكر والناس مؤتمين بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن كان الناس مؤتمين بأبي بكر»
وروي أيضًا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج ليصلح بين بني عمرو بن عوف، فأقيمت الصلاة فتقدم أبو بكر، فصلى بهم بعض الصلاة، فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما رآه الناس ... أكثروا التصفيق، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثروا التصفيق
التفت، فرأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتأخر، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اثبت مكانك"، وتقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلى بهم»
ومن قال بهذا ... قال: فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين ذكر أنه جنب في الصلاة لا يدل على أنه لا يجوز الاستخلاف، وإنما يدل على أن الاستخلاف لا يجب. وكذلك نقول.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا بقوله القديم ... نظرت:

(2/612)


فإن كان ذلك في غير الجمعة ... فإن المأمومين يتمون صلاتهم وحدانًا.
وإن كان ذلك في الجمعة ... نظرت:
فإن كان ذلك في الخطبة أو بعدها، وقبل الإحرام في الجمعة ... فلا يجوز أن يصلي غيره بهم الجمعة؛ لأن الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين، فيخطب غيره بهم، ويصلي الجمعة إن اتسع الوقت، وإن لم يتسع الوقت
صلى بهم الظهر أربعًا.
وإن كان ذلك بعد أن أحرم بهم في الجمعة ... ففيه قولان:
أحدهما: يتمون الجمعة وُحدانًا، كغيرها.
والثاني: إن أحدث بعد أن صلى بهم ركعة ... أضافوا إليها أخرى، وإن كان قبل أن يصلي بهم ركعة
صلوها ظهرًا، كالمسبوق.
وإن قلنا بقوله الجديد، وأن الاستخلاف يجوز ... لم يستخلف غير الإمام، ولا يستخلف إلا رجلًا.
فإن استخلف امرأة ... فمن لم يقتدوا بها
لم تبطل صلاتهم.
وقال أبو حنيفة: (تبطل صلاتهم بنفس الاستخلاف) .
دليلنا: أن تقديمها للصلاة لا يُبطل الصلاة، كما لو جاءت، وتقدمت بنفسها.
وإن استخلف الإمام جُنبًا، ثم استخلف الجُنب رجلًا طاهرًا ... لم يجز.
وقال أبو حنيفة: (يجوز) .
دليلنا: أن من لا يصلح للإمامة لصفة فيه ... لا يصلح لتقديم الخليفة، كما لو استخلف صبيًا، فاستخلف الصبي بالغًا.
وإن استخلف الإمام من يصح استخلافه ... نظرت:

(2/613)


فإن كان ذلك في غير الجمعة من الصلوات، فإن استخلف من أحرم خلفه ... جاز، سواء كان ذلك في الركعة الأولى، أو الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، وإن أراد أن يستخلف من لم يحرم خلفه بالصلاة
نظرت:
فإن كان ذلك في الركعة الأولى، أو الثالثة من الرباعية ... جاز، وإن كان ذلك في الثانية، أو الرابعة، أو الثالثة من المغرب
لم يجز، وإنما كان كذلك؛ لأنه إذا استخلف من أحرم خلفه ... فإن الخليفة يراعي نظم صلاة الإمام، فيقعد في موضع قعوده، ويقوم في موضع قيامه؛ لأنه قد لزمه ذلك بإحرامه خلف الإمام، وليس كذلك من لم يحرم خلف الإمام، فإنه إذا استخلفه في الثانية، أو الرابعة، أو الثالثة من المغرب
فإن الخليفة إذا صلى ركعة ... يجب عليه القيام؛ لأنه موضع قيامه، وهم يقعدون، وذلك لا يتفق.
إذا ثبت هذا: ففرغ الخليفة من صلاة الإمام، وقد بقي عليه شيء من صلاته ... فإنه يقوم، والمأمومون بالخيار بين أن يسلموا لأنفسهم، وبين أن ينتظروا الخليفة إلى أن يفرغ من صلاته، ويسلم بهم.
قال صاحب " الفروع ": وقد قيل: هو في حكم إمام منفرد، ولهذا فوائد في التشهد والسهو.
وإن كان هذا في الجمعة ... نظرت:
فإن أحدث في أثناء الخطبة، وقلنا: الطهارة شرط فيها، فأراد أن يستخلف من يتم الخطبة ... فهل يجوز على هذا القول؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يجوز؛ لأنهما أُقيمتا مُقام الركعتين، فلما جاز الاستخلاف في الركعتين، فكذلك في الخطبتين.
والثاني: لا يجوز؛ لأن هذا ذكر يتقدم الصلاة ... فلم يجز الاستخلاف فيه، كالأذان.

(2/614)


وإن كان الحدث بعد الفراغ من الخطبة، وقبل الإحرام ... فإنه يجوز أن يستخلف بهم من سمع واجبات الخطبتين؛ لأنه أكمل بالسماع، ولا يجوز أن يستخلف من لم يسمع ذلك؛ لأنه لم يكمل بالسماع
هذه عبارة أصحابنا، وهم يريدون بذلك: الحضور، وإن لم يسمع، ولا استمع.
وإن أحدث في الركعة الأولى ... نظرت:
فإن استخلف من أحرم معه في الصلاة قبل حدثه ... جاز، سواء سمع الخطبة، أو لم يسمعها، وسواء كان قبل الركوع، أو بعده؛ لأنه قد صار من أهل الجمعة.
وإن أراد أن يستخلف من لم يدخل معه في الصلاة ... لم يجز؛ لأنه يكون مبتدئًا للجمعة، ولا يجوز أن يبتدئ جمعة بعد جمعة، ويخالف من قد دخل معه، فإنه متبع، وليس بمبتدئ، هكذا قال أصحابنا.
والذي تبين لي: أن هذا الذي لم يحرم خلفه، لا يجوز استخلافه، سواء حضر الخطبة، أو لم يحضرها؛ لأنهم قد قالوا: العلة فيه أنه: لا يجوز ابتداء جمعة بعد جمعة، وهذا موجود فيه وإن كان قد حضر الخطبة، وإذا استخلف من حضر معه في الركعة الأولى ... فإن الخليفة ومن خلفه يصلون الجمعة.
وقال أبو علي في " الإفصاح ": يحتمل أن يصلي الخليفة الظهر، وهم يصلون خلفه الجمعة، قياسًا على إمامة الصبي، وقياسًا على مسألة ذكرها الشافعي، نذكرها فيما بعد، والأول هو المشهور.
وإن كان حدثه في الركعة الثانية ... فيجوز له أن يستخلف من أحرم خلفه فيها قبل حدثه قبل الركوع، أو في الركوع، ويتمون خلفه الجمعة، وما الذي يصلي هذا الخليفة؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص للشافعي -: (أنه يتمها ظهرًا) ، وبه قال أبو العباس بن سريج، والفرق بينه وبين المأموم: أنه إذا أدرك ركعة ... أنه يتمها جمعة؛ لأن

(2/615)


المأموم تبع إمامه، فجاز أن يتمها جمعة على وجه التبع لإمامه، وليس كذلك الخليفة، فإنه لا يجوز أن يكون تبعًا للمأمومين، فيبني على صلاتهم.
قال ابن سريج: ويحتمل أن يكون في جواز ظهره قولان؛ لأن الجمعة لم تفته بعد إذا كان يمكنه أن لا يتقدم حتى يتقدم من أدرك الركعة الأولى، لتصح جمعة هذا الخليفة.
وفرع الشافعي على هذا: (لو أدرك مسبوق هذا الخليفة في هذه الركعة الثانية التي استخلف فيها قبل الركوع، أو فيه ... أضاف هذا المسبوق إليها ركعة، وأدرك الجمعة) .
والوجه الثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد، وأكثر أصحابنا -: أن الخليفة يتمها جمعة؛ لأنه قد صلى منها ركعة في جماعة الجمعة، فلا فرق بين أن يكون إمامًا أو مأمومًا، كما لو استخلف في الركعة الأولى.
وإن أحدث الإمام في الثانية، فاستخلف من دخل معه في الصلاة بعد الركوع، وقبل الحدث ... فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: لا يجوز؛ لأن فرضه الظهر، فلا يجوز أن يكون إمامًا في الجمعة.
ومنهم من قال: يجوز؛ لأن الشافعي نص في التي قبلها على جواز الجمعة خلف من يصلي الظهر.

[فرع استخلف من دخل معه ولم يعلم أنها ثانية]
] : ذكر الطبري في " العُدة ": إذا استخلف الإمام رجلًا دخل معه في الصلاة، فلم يدر الخليفة أنها ثانية الإمام ليجلس، أو ثالثته ليقوم؛ لأن عليه أن يراعي نظم صلاة الإمام ... فذكر صاحب " التلخيص " فيه قولين:

(2/616)


أحدهما: أنه يلاحظ القوم، فإن تأهبوا للقيام ... قام، وإن تأهبوا للقعود
قعد؛ لأنه لا يتوصل إلى ذلك إلا من جهتهم.
والثاني: لا يجوز ذلك حتى يعلم، فإما أن يقلدهم، وإلا فلا.
قال الشيخ أبو علي السنجي: وليست هذه المسألة للشافعي، وإنما هي لأبي العباس بن سريج، وفيها وجهان:
الصحيح: أنه يلاحظ القوم؛ لأنه يجوز أن يقلد الإمام وحده، فالجماعة أولى، وإنما القولان للشافعي: إذا سبح القوم للإمام ينبهونه على السهو، وهو لا يذكر ... فهل يقلدهم؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يقلدهم، بل يبني على يقين نفسه، وهذا هو المشهور.
والثاني: إن كانوا جمعًا كثيرًا بحيث لا يقع عليهم الخطأ ... قلدهم؛ لحديث ذي اليدين مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن قال بالأول ... قال: لم يقلدهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما تنبه بقولهم، فرجع إلى يقين نفسه.

[فرع لو صلى إمام الجمعة جنبًا ثم تذكر]
] : قال في " الفروع ": قال الشافعي في " الأم ": (إذا صلى الإمام الجمعة، فذكر أنه كان جنبًا، فإن كان الأربعون تموا به ... لم تصح الجمعة، وإن تموا دونه
انعقدت لهم الجمعة) .
ولو أدرك رجل ركوع الركعة الثانية في هذه المسألة ... كان مدركًا للجمعة، قياسًا على ما نص عليه.

(2/617)


وقال ابن القاص: لا يكون مدركًا، وكذلك سائر الصلوات؛ لأن الإمام لم تصح صلاته، فلم تصح صلاة من تحمل عنه القراءة. قال: وقد قيل في الجمعة خاصة: أنها لا تصح خلف الجنب؛ لأن الإمام شرط فيها.

[فرع صلى الجمعة أربعون محدثون]
] : فلو صلى الجمعة بأربعين، فبان أنهم محدثون ... فإن صلاة الإمام صحيحة إذ كان متطهرًا؛ لأنه لم يكلف العلم بطهارة من خلفه.
وأما المحدثون: فتلزمهم الإعادة؛ لأنهم كلفوا العلم بأنفسهم.
وإن بان أنهم عبيد أو نساء وجبت الإعادة على جميعهم؛ لأن له طريقًا إلى العلم بذلك.

[مسألة تقام الجمعة بإذن الإمام]
يستحب أن لا تقام الجمعة إلا بإذن الإمام؛ لأن الجمعة لم تقم في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم، فإن أُقيمت بغير إذنه ... صحت، وبه قال مالك، وأحمد، وأكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة، والأوزاعي: (لا تصح إقامتها إلا بإذن الإمام أو الوالي من قبله) .
وحكى بعض أصحابنا: أن هذا قول الشافعي في القديم، وليس بمشهور.
وقال محمد: إن مات الإمام، فقدم الناس رجلًا يصلي بهم الجمعة ... جاز ذلك؛ لأن ذلك موضع ضرورة.

(2/618)


دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ... فعليه الجمعة» . ولم يفرق بين أن يكون فيها إمام أو لم يكن.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سيأتي بعدي أُمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم سُبحة» . ولم يفرق بين الجمعة وغيرها.
وروي: (أن الوليد بن عقبة أخر الصلاة بالكوفة، فصلى بهم ابن مسعود الجمعة) . ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، ولأنها صلاة، فجاز إقامتها بغير إذن الإمام، كسائر الصلوات.

[مسألة لا تعدد الجمعة]
قال الشافعي: (ولا يجمع في مصر وإن عظم، وكثرت مساجده إلا في مسجد واحد) .
وقال عطاء، وداود: (يجوز إقامة الجمعة في كل مسجد، كسائر الصلوات) .
وقال أبو يوسف: إذا كان البلد جانبين، وفي وسطه نهر عظيم يجري، مثل: مدينة السلام، وواسط ... جاز أن يصلى في كل جانب في مسجد واحدٍ الجمعة، وبه قال أبو الطيب بن سلمة من أصحابنا.
وقال محمد بن الحسن: القياس: أنها لا تقام إلا في مسجدٍ واحدٍ، ولكن يجوز

(2/619)


إقامتها في مسجدين في البلد استحسانًا، ولا يجوز في ثلاثة مساجد، وأهل الخلاف يذكرون: أن مذهب أبي حنيفة فيها كمذهبنا.
قال الشيخ أبو حامدٍ: والذي يدل عليه كلام الشافعي: أن مذهب أبي حنيفة كمذهب محمد.
دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء من بعده، ما أقاموا الجمعة إلا في موضع واحدٍ، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
فإن قيل: فقد دخل الشافعي بغداد، ورأى الناس يصلون الجمع في جامع المنصور، وفي جامع المهدي، ولم ينكر عليهم.
فالجواب: أن هذا موضع اجتهاد، وليس لبعض المجتهدين أن ينكر على بعضٍ.
واختلف أصحابنا في بغداد:
فقال القاضي أبو الطيب بن سلمة: إنما أراد الشافعي إذا كان المصر جانبًا واحدًا، فأما إذا كان البلد جانبين، ويجري فيهما نهر، كبغداد: جاز في موضعين؛ لأنه كالبلدين.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا ضعيف؛ لأنه لو كان كالبلدين ... لوجب أن يجوز له القصر إذا سافر من أحد الجانبين، وإن لم يعبر الآخر.
وقال بعض أصحابنا: إنما أراد الشافعي: لا تقام إلا في مسجد واحدٍ إذا كان البلد مبنيًا بلدًا واحدًا من أصله، فأما إذا كانت قرى متفرقة، ثم اتصلت العمارة: جاز أن تقام الجمعة في القرى التي كانت قبل الاتصال، ومدينة السلام بهذه الصفة.
ومن أصحابنا من قال: إنما أراد الشافعي: إذا لم يكن عليهم مشقة في الاجتماع في مسجد واحدٍ.
فأما إذا كانت عليهم مشقة في الاجتماع بمسجدٍ واحدٍ: جاز إقامتها في مساجد؛

(2/620)


لأن البلد قد تكون فراسخ، ولا يمكنه الوصول إلى الجامع، إلا بالسعي قبل الفجر، فسقط هذا.
قال الشيخ أبو حامدٍ: ولا يوافق شيء من هذه التأويلات كلام الشافعي؛ لأنه قال: (لا يُجمع في مصرٍ، وإن عظم، وكثر أهله، إلا في مسجدٍ واحدٍ) .

[مسألة جمعتان في البلد]
وإن أُقيمت جمعتان في بلدٍ في الموضع الذي نقول: لا تصح، فإن لم تكن لإحداهما على الأخرى مزية، بأن أقيمتا بإذن الإمام، أو أقيمتا بغير إذنه ... ففي هذا خمس مسائل:
إحداهن: إذا سبقت إحداهما الأخرى ... فالأولى صحيحة، والثانية باطلة؛ لأن الأولى أُقيمت بشروطها، فمنعت صحة الثانية، وبماذا يعتبر السبق؟
حكى الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " قولين، وأكثر أصحابنا يحكيهما وجهين:
أحدهما: يعتبر السبق بالإحرام بالصلاة، وهو الصحيح؛ لأن الأولى إذا انعقدت ... لم تنعقد بعدها أخرى.
والثاني: يُعتبر السبق بالفراغ من الصلاة؛ لأن الفساد قد يطرأ عليها بعد الإحرام، وبعد الفراغ لا يطرأ عليها الفساد، هكذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال القفال: فيه وجهان:
أحدهما: يعتبر السبق بالابتداء بالخطبة.
والثاني: بالابتداء بالصلاة.

(2/621)


المسألة الثانية: إذا أحرموا بهما في حالةٍ واحدةٍ ... حكم ببطلانهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الأخرى.
المسألة الثالثة: إذا لم يُعلم، هل سبقت إحداهما الأخرى، أو كانتا في وقتٍ واحد ... حكم ببطلانهما؛ لما ذكرناه في التي قبلها، ويجب عليهم أن يعيدوا فيهما الجمعة، إن كان الوقت واسعًا.
المسألة الرابعة: إذا علم أن إحداهما سابقة، ولكن لا يعلم عينها، مثل: أن يُسمع تكبير أحدٍ من الإمامين في الإحرام، إذا قلنا: الاعتبار بالسبق بالإحرام، ثم كبر الثاني، ولم يعلم من المكبر أولًا.
المسألة الخامسة: إذا علم عين السابقة، ثم نسيت، مثل: أن علم عين المكبر أولًا، ثم نسي ... فالحكم في هاتين المسألتين واحد، وهو أن الجمعتين باطلتان.
وقال المزني: هما صحيحتان؛ لأنهم قد أدوا ما كلفوا في الظاهر، فلا يبطل ذلك بالشك، كما لو صلى، ثم وجد على ثوبه نجاسة لا يعلم هل أصابته قبل الصلاة، أو بعدها؟ وهذا غلط؛ لأنا نعلم لا محالة: أن إحداهما باطلة، والأخرى صحيحة، وإذا لم يُعلم عين الصحيحة من الباطلة، فالأصل بقاء الفرض في ذمتهم، ويفارق النجاسة؛ لأن هناك الصلاة قد صحت في الظاهر، فلا تبطل بالشك.
إذا تقرر أنهما تبطلان ... فما الذي يقضي الناس؟ فيه قولان:
أحدهما: يقضون الجمعة؛ لأنهما إذا بطلتا ... صار كأن لم يقم في المصر جمعة، فوجب عليهم إقامتها.
والثاني: يقضون الظهر أربعًا؛ لأن الجهل بعين السابقة ليس بجهل في أن إحداهما سابقة، وقد علمنا يقينًا، بأن الجمعة قد أقيمت في المصر مرة، فلا يجوز إقامتها مرة ثانية فيه.
هذا إذا تساوت الجمعتان، وإن كان لإحداهما مزية على الأخرى، بأن كان في إحداهما الإمام الراتب، وهو الإمام الأعظم، فإن كان مع الأولى ... فالأولى هي

(2/622)


الصحيحة؛ لأنها أولى، ولأن فيها الإمام الأعظم، وإن كان الإمام في الثانية ... ففيه قولان:
أحدهما: أن الأولى هي الصحيحة.
قال ابن الصباغ: وهو المشهور؛ لأن الإمام ليس بشرطٍ عندنا في الجمعة، فلا تبطل بجمعة بعدها.
والثاني: أن الصحيحة هي جمعة الإمام؛ لأن في تصحيح الأولى افتياتًا على الإمام؛ لأن ذلك يؤدي إلى أنه متى شاء أربعون رجلًا ... أقاموا الجمعة قبل الإمام؛ ليفسدوا على أهل البلد صلاتهم.
هذا الحكم في المسألة الأولى من الخمس المسائل، إذا كان في إحداهما الإمام.
وأما الحكم في المسائل الأربع، وهو إذا عقدتا في وقتٍ واحدٍ، ولم يعلم هل سبقت إحداهما الأخرى؟ أو هل كانتا في وقتٍ واحدٍ؟ أو علم سبق إحداهما، ولم تتعين، أو علمت السابقة، ونُسيت، وكان الإمام في إحداهن:
فإن قلنا: إن الثانية إذا كان فيها الإمام هي الصحيحة ... فجمعة الإمام في هذه الأربع هي الصحيحة حيث كانت.
وإن قلنا في الأولى: إن الجمعة الأولى هي الصحيحة، وجمعة الإمام إذا كانت ثانية هي باطلة ... فالحكم في هذه المسائل الأربع حكم ما لو لم يكن في واحدةٍ منهما الإمام على ما ذكرناه.
وبالله التوفيق

(2/623)