البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب صلاة الاستسقاء]
وصلاة الاستسقاء سُنَّة، والأصل فيها: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} [البقرة: 60] [البقرة: 60] .
وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المُصلَّى للاستسقاء» .
وروي عن أنس: أنه قال: «أصاب أهل المدينة قحط، فبينما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة إذ قام رجل، فقال: يا رسول الله، هلك الكراع والشاء، فادع الله أن يسقينا، فمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه، ودعا، وإن السماء لمثل الزجاجة، فهاجت ريحٌ، فأنشأت سحابًا، ثم أرسلت عزاليها، فخرجنا نخوض الماء، حتى أتينا منازلنا، فلم يزل المطر إلى الجمعة الأخرى، فقام إليه ذلك الرجل أو غيره، فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت، واحتبس الركبان، فادع الله أن يحبسه، فتبسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"، فنظرت إلى السحاب يتصدع حول المدينة، كأنه إكليل» .

(2/674)


[مسألة الاستسقاء بطلب الحاكم]
وإذا أرد الإمام الاستسقاء.. وعظ الناس، وأمرهم بالخروج من المظالم من دم، أو مال، أو عِرْضٍ، وصُلحِ مشاجرٍ، والصدقة، وصوم ثلاثة أيام متوالية، ويخرجون يوم الرابع صيامًا، وإنما أمروا بالخروج من المظالم؛ لما روي عن ابن مسعود: أنه قال: (إذا بخس المكيال والميزان، حبس القطر) .
وقال مجاهد، في قَوْله تَعَالَى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159] [البقرة: 159] :
قال: دواب الأرض تلعنهم، تقول: يمنع القطر آثامهم، ولأن مَنْ عليه الدَّين لا يدخل الجنة وهو عليه، فبأن ترد دعوته أولى.
وأما الصلح: فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يهجرن أحدكم أخاه فوق ثلاثة أيام، فمن هجر أخاه فوق ثلاث.. فهو في النار» .

(2/675)


وأما الصدقة: فتستحب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصدقة تطفئ غضب الرب» ، والقحط من الغضب.
وأما الصوم: فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دعوة الصائم لا ترد» .

[مسألة الصلاة في المصلَّى]
والسُنَّة في الاستسقاء: أن تكون في المصلَّى؛ لـ: (أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى فيه) ، ولأنه أوسع للجمع.
قال أبو إسحاق: ولأنهم يسألون المطر، فينبغي أن يكونوا حيث يصيبهم المطر.
ويخرج الناس متنظفين بالغسل والسواك في ثياب البذلة، ولا يتطيبون؛

(2/676)


لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى الاستسقاء متبذلاً» ، ولأنهم يخرجون للسؤال، فينبغي أن يكونوا بزيِّ السؤال، ويخالف العيد؛ لأنه يوم زينة، فاستحب إظهار الزينة فيه.
ويستحب أن يستسقي بأهل الصلاح من أقرباء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لما روي: (أن عمر استسقى بالعباس بن عبد المطلب، وقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا.. توسلنا إليك بنبيك، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك، فاسقنا، فسقوا) .
فإن لم يكن هناك أحد من أهل الصلاح من أقرباء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. استسقى بأهل الصلاح من غيرهم؛ لما روي: (أن معاوية استسقى بيزيد بن الأسود، وقال: اللهم إنا نستسقي إليك بخيرنا وأفضلنا، اللهم وإنا نستسقي إليك بيزيد بن الأسود، يا يزيد، ارفع يديك، فرفع يزيد يديه، ورفع الناس أيديهم، فثارت سحابةٌ من المغرب كأنها ترْسٌ، وهبَّت لها ريح، فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم) .
ويستحب إخراج المشايخ، والصبيان، ومن لا هيئة لها من النساء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقول الله تعالى: لولا مشايخ ركع، وصبيان رضع، وبهائم رتع.. لصببت عليكم العذاب صبا» .

(2/677)


ولأن الإنسان إذا كبرت سَنُّهُ.. تساقطت ذنوبه.
والدليل عليه: ما روي أن: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا بلغ العبد ثمانين عامًا.. غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» . ذكره الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، ومن لا ذنب له ترجى إجابة دعوته، ولهذا روي: (أن موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يستسقي، فأوحى الله إليه: قل لبني إسرائيل: من كان له ذنب.. فليرجع، فنادى موسى فيهم بذلك، فرجع الناس كلهم حتى لم يبقى منهم معه إلا رجل أعور، فقال له موسى: أما سمعت النداء؟! فقال: بلى، قال: أما لك ذنب؟ قال: لا، نظرت بهذه العين مرَّةً إلى امرأة، فقلعتها، فدعا موسى، وأمن الأعور على دعائه، فسقوا) .

[فرع لا يطلب إخراج البهائم]
قال الشافعي: (ولا آمر بإخراج البهائم؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخرجها، فإن أخرجت.. فلا بأس) .

(2/678)


وقال أبو إسحاق: يستحب إخراجها، لعل الله سبحانه أن يرحمهما، ولما روي: (أن قوم يونس لما أتاهم العذاب.. جاءوا إلى يونس، ففرَّ منهم غيظًا عليهم ففرَّقوا بين النساء وأطفالهنَّ، وبين البهائم وأولادها، ودعوا، فكثر الضجيج، فصرف الله عنهم العذاب) .
وروي: (أن سليمان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يستسقي، فرأى نملة واقفة على ظهرها، وقد رفعت يديها، وقالت: اللهم إنك خلقتنا، فارزقنا، وإلا فأهلكنا) .
وروي: أنها قالت: (اللهم إنا خلقٌ من خلقك لا غنى بنا عن رزقك، فلا تهلكنا بذنوب بني آدم، فقال سليمان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقومه: ارجعوا فقد كفيتم بغيركم، فسقوا) .
ويكرهُ إخراج أهل الذمة للاستسقاء، فإن خرجوا.. لم يمنعوا؛ لأنهم جاءوا في طلب الرزق، ولكن لا يختلطون بالمسلمين.
وقال مكحول: لا بأس بإخراجهم.
وقال إسحاق: لا يأمرهم بالخروج، ولا ينهاهم عنه.

(2/679)


وقال الأوزاعي: (كتب يزيد بن عبد الملك إلى عمَّاله بإخراج أهل الذمة للاستسقاء، ولم يعب عليه أحد ذلك في زمانه) .
دليلنا: أن الكفار أعداء الله، فلا يتوسَّل بهم إليه.

[مسألة مكان الاستسقاء]
قال الشافعي: (ويُستسقى حيث لا يجمع من باديةٍ وقريةٍ ويفعله المسافرون، وإنما كان كذلك؛ لأنه يسنُّ للحاجة إلى المطر، وأهل الأمصار والبوادي والمسافرون في ذلك سواء) .
ويجوز فعله جماعة وفرادى؛ لما ذكرناه، فإن نضب ماء الأنهار والآبار، واستنصر أهل البلد بذلك.. جاز أن يصلّى الاستسقاء؛ لأن الحاجة إلى ذلك كالحاجة إلى المطر.

[مسألة ينادي للاستسقاء الصلاة جامعة]
] : ولا يؤذن لصلاة الاستسقاء، ولا يقام لها؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يستسقي، فصلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا» .
ويستحب أن ينادى لها: (الصلاة جامعة) ؛ لأنها صلاةٌ شرع لها الاجتماع والخطبة، ولم يشرع فيها الأذان، فيشرع فيها: (الصلاة جامعة) ، كصلاة العيد والكسوف.

(2/680)


قال الشيخ أبو حامد: ووقتها وقت صلاة العيد؛ لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى صلاة الاستسقاء كصلاة العيدين» . قال ابن الصباغ: إلاَّ أن الشافعي قال: (فإن لم يصلِّها قبل الزوال.. صلاَّها بعده) ؛ لأنها لا وقت لها تفوت فيه؛ لأن صلاة الاستسقاء لا تختص بيوم، فلم تختص بوقت.
إذا ثبت هذا: فإن صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، يكبر في الأولى بعد دعاء التوجه سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية خمسًا قبل القراءة، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب، ومكحول، وأبو يوسف، ومحمد.
وقال مالك: (يصلِّي ركعتين، كصلاة الصبح، من غير تكبير زائد) .
وقال أبو حنيفة: (لا تسن الصلاة في الاستسقاء، وإنما يسن الدعاء) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى الاستسقاء، فصلَّى ركعتين» .
وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المصلَّى للاستسقاء متبذلاً متواضعًا، فصلى ركعتين كما يصلي العيد» .
ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بسورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] [ق: 1] وفي الثانية بعد الفاتحة بسورة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] [القمر: 1] .
قال الشيخ أبو إسحاق: ومن أصحابنا مَنْ قال: يقرأ في الثانية بسورة نوح. وحكاه الشيخ أبو حامد قولاً للشافعي؛ لأنها تليق في الحال، لذكر الاستسقاء فيها.
والأول أصحُّ؛ لما ذكرناه من حديث ابن عباس.
ويجهر في القراءة فيهما، كما قلنا في صلاة العيد.

(2/681)


[فرع خطبة الاستسقاء]
فإذا فرغ من الصلاة.. خطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة، كما قلنا في خطبة الجمعة.
قال المحامليُّ: ويكبِّرُ في أوَّل الخطبة، وأراد: كما يكبر في أوَّل خطبتي العيد.
وقال المسعودي: [في " الإبانة " ق 103] : يستفتح الخطبة بالاستغفار مكان التكبير في خطبة العيد. هذا مذهبنا.
وحُكي: (أن ابن الزبير خطب، ثم صلَّى البراء بن عازبٍ، وزيد بن أرقم) ، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب الليث بن سعد.
وروي ذلك: عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع في الاستسقاء، كما يصنع في العيد» .
وروى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج على الاستسقاء، فصلَّى ركعتين، ثم خطب» .
إذا ثبت هذا: فإنه يحمد الله تعالى، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويوصي بتقوى الله، ويقرأ آية من كتاب الله، كما قلنا في خطبة الجمعة، ويُكثر من الاستغفار في الخطبة.
ويستحب أن يدعو في الخطبة الأولى؛ لما روي عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استسقى.. قال: «اللهم اسقنا غيثًا، هنيئًا مرئيًا، مريعًا غدقًا، مجللاً طبقًا، سحًّا عامًّا دائمًا، اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين،

(2/682)


اللهم إن بالعباد والبلاد والخلق والبهائم من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكو إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك، إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا» .
قال الشافعي: (وأحب أن يفعل هذا كله، ولا وقت للدعاء، ولا يجاوزه) .
فـ (المغيث) : الذي يغيث الخلق. و (الهنيء) : الذي لا ضرر فيه، و (المريء) : مثله، و (المريع) : الذي تمرع الأرض عليه، أي: تنبت عليه، و (الطبق) : الذي يطبق الأرض، و (الغدق) : المغدوق الكثير القطر، و (الضنك) : الضيق، و (اللأواء والجهد) - بضم الجيم-: الشدة، وبفتحها: النصب.
ثم يخطب بعض الخطبة الثانية مستقبلاً للناس، ثم يستقبل القبلة في بعضها، ويدعو الله، ويحوِّل رداءه، وينكسه إذا كان مربَّعًا، في قوله الجديد.
وقال في القديم: (ويحوله ولا ينكسه) ، وهو قول مالك، وأحمد. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والشيخ أبو نصر في " المعتمد ".
و (التحويل) : أن يجعل ما على عاتقه الأيمن على عاتقه الأيسر، وما على الأيسر على الأيمن.

(2/683)


و (التنكيس) : أن يجعل أعلاه أسفله، فإذا كان الرداء ساجيًا، وهو الطيلسان المقوَّر.. فإنه يحوله ولا ينكسه، ويفعل ذلك المأمومون.
وقال أبو حنيفة: (لا يفعل شيئًا من ذلك) .
وقال محمد بن الحسن: يفعل ذلك الإمام، دون المأمومين.
دليلنا: ما روى عبد الله بن زيد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يومًا يستسقى، وعليه خميصة سوداء، فاستقبل الناس، ودعا، فأراد أن يجعل أعلاها أسفلها، وأسفلها أعلاها، فثقلت عليه، فحولها، وحول الناس معه» .
قال الشافعي: (فأحب التحويل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله، وأحب القلب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يفعله، وإنما تركه لثقل الخميصة) .
قال أبو عبيد: إنما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تفاؤلاً، ولكي يحول الله الخلق من حال الجدب إلى حال الخضب.
ويدعو الله سرًّا فيها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] [الأعراف: 55] .
قال ابن الصباغ: فيقول: اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا، اللهم امنن علينا بمغفرة ما قارفنا، وإجابتك في سقيانا، وسعةٍ في رزقنا، ثم يدعو بما شاء من دِينٍ ودنيا. [و] ليجمع في الدعاء بين الجهر والإسرار.

(2/684)


وإذا حوَّلوا أرديتهم.. تركوها محوَّلة؛ لينزعوها مع الثياب؛ لأنه لم يرو: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه غيروها.

[فرع أنواع الاستسقاء]
] : قال الشافعي: (ويجوز أن يستسقى بغير صلاة) . قال أصحابنا: الاستسقاء على ثلاث أضربٍ:
أحدها -وهو أفضلها-: أن يأمر الناس الإمام بالصيام، ويستسقي بالصلاة والخطبة، كما ذكرناه.
والثاني: أن يستسقي بالدعاء لا غير، إما قبل الصلاة، أو بعدها، نفلاً كانت أو فرضًا؛ لما ذكرناه في أول الباب في الرجل الذي قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر يوم الجمعة: «هلك الكراع والشاء، فدعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
والثالث: أن يجمع الناس، ويدعو؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج يستسقي، فصعد المنبر، فلم يزد على الاستغفار، حتى نزل، فقيل له: لو استسقيت؟! فقال: (لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يُستنزل بها القطر) .
قال أبو عبيد [في " الغريب " (3 259) ] : (المجاديح) : واحدها مجدح ومجدح -بكسر الميم وضمها- وهو كل نجم من النجوم التي كانت العرب تمطر به في الأنواء، فجعل عمر الاستغفار هي المجاديح التي يستنزل بها القطر، لا الأنواء؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ممَّن لا يرى بالأنواء، وإنما ذلك على طريق التشبيه على ما تقوله العرب من الأنواء.

(2/685)


[مسألة إذا تأخرت السقيا]
فإن لم يُسْقَوْا.. قال الشافعي في موضع: (يعودون من الغد) .
وقال في القديم: (يخرج ثلاثًا متواليًا إن لم يشق عليهم) .
وقال في " الأمِّ " [1 219] : (يأمرهم بصيام ثلاثة أيام) .
فمن أصحابنا من قال: في ذلك قولان، حتى قال ابن القطان: ليس في الاستسقاء مسألة على قولين إلا هذه:
أحدهما: يأمرهم بصيام ثلاثة أيام، ويخرجون يوم الرابع صيامًا، كما قلنا في الأول.
والثاني: لا يأمرهم بصيام ثلاثة أيام، بل يخرجون من الغد؛ لأنهم قد صاموا الثلاث، ويشق عليهم صوم ثلاث غيرها.
وقال الشيخ أبو حامد: ليست على قولين، وإنما هي على حالين:
فإن كان الإمام يعلم أنه إذا أخرجهم في اليوم الثاني، لا يشق عليهم، ولا يقطعهم عن أشغالهم ومعاشهم.. فعل ذلك، وإن كان يعلم أنه يقطعهم.. أمرهم بالصوم، وخرجوا في اليوم الرابع.
وأما قول ابن القطان: ليس في الاستسقاء مسألة على قولين غير هذه.. فقد مضى ذكر مسألة قبلها في القلب والتحويل على قولين.

[فرع استسقاء المسلم لأخيه]
قال الشافعي: (وإن كانت ناحيةٌ خصبة، وأخرى جدبةٌ.. فحسن أن يستسقي أهل الخصبة لأهل الجدبة ولسائر المسلمين) ؛ لأن الله تعالى أثنى على من دعا

(2/686)


لغيره، فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] الآية [الحشر: 10] .
قال الشافعي: (وإذا تهيأ الإمام للاستسقاء، فسقوا قبل أن يخرج.. استحب له أن يخرج، ويستسقي، ويشكر الله تعالى على ذلك، ويستزيده من المطر) فإن استدام المطر حتى تأذى الناس به، وخافوا أن يهدم البيوت.. جاز أن يدعو الله تعالى أن يحبسه عنهم، ويصرفه إلى حيث ينفع ولا يضر من الآكام وبطون الأودية؛ لما ذكرناه في الخبر الأول في أول الباب.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في دعائه في الاستسقاء: «اللهم سُقْيَا رَحْمَةٍ، ولا سقيا عذاب، ولا محق ولا بلاء، ولا هدم، ولا غرق، اللهم على الظراب، ومنابت الشجر، وبطون الأودية، اللهم حوالينا ولا علينا» .

[مسألة لا يلزم الخروج للاستسقاء إلا في الجدب]
قال الشافعي: (وإن نذر الإمام أن يستسقي.. لزمه ذلك، ولا يلزمه أن يخرج الناس، وإن أخرجهم.. لم يلزمهم الخروج معه؛ لأنه ليس له أن يكرههم على الخروج في غير حال الجدب) .
قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على أن للإمام أن يكرههم على الخروج في حال الجدب.

(2/687)


وإن نذر غير الإمام أن يستسقي.. لزمه ذلك؛ لأنه نذر طاعة، فإن نذر أن يستسقي بالناس.. لزمه في نفسه دون الناس؛ لأنه لا يملك إخراجهم.
ويستحب أن يُخرج معه من يقدر عليه من ولده وعبده وأهله، ويجزئه أن يستسقي في داره، أو في المسجد؛ لأن الاستسقاء هو الدعاء، وذلك لا يختص بالمسجد.
قال الشافعي: (وإن نذر غير الإمام أن يستسقي، ويخطب.. لزمه أن يستسقي، ويخطب، ويجزئه أن يخطب قائمًا وقاعدًا) .
وإن كان هناك ناسٌ.. قال الشيخ أبو حامد: لزمه أن يخطب قائمًا.
وإن نذر أن يخطب على المنبر.. جاز أن يخطب على المنبر، أو على راحلته، أو نشز من الأرض؛ لأنه لا يختص بمكان دون مكان.
قال الشافعي: (وأحبُّ أنْ يتمطر الإنسان في أول مطر حتى يصيب ثيابه وبدنه؛ لما روي: أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جاء أول المطر.. خرج حتى يصيب جسده منه، ويقول: "إنه قريب عهد بربه» .
وروي: (أن ابن عباس كان إذا جاء المطر، يأمر عبده أن يخرج رحله وفراشه على المطر، فقيل له في ذلك؟ فقال: أما قرأت: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] [ق: 9] ؟!

(2/688)


فأحب أن ينالني من بركته) .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سال الوادي.. قال لأصحابه: «اخرجوا بنا إلى هذا الذي سمَّاه الله طهورًا، فنتطهَّر منه، ونحمد الله عليه» .
ويستحب أن يدعو عند نزول الغيث؛ لما روى الشافعي بإسناده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اطلبوا استجابة الدُّعاء عند ثلاث: عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث» .

[فرع المطر من فضل الله تعالى]
روى الشافعي في " الأمِّ " [1 223] : «عن زيد بن خالد، قال: (صلَّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، ثم قال: "أتدرون ما قال ربكم؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي كافرٌ بالكوكب، وكافرٌ بي مؤمن بالكوكب، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته.. فذلك مؤمن بي كافرٌ بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا.. فذلك كافرٌ بي مؤمن بالكوكب» .

(2/689)


و (الأنواء) : هي البروج، وهي ثمانية وعشرون نجمًا، يطلع في كل ثلاثة عشر يومًا منها واحد، ويغيب رقيبه، والنوء: هو النهوض، فمن قال: إن النوء هو الممطر.. فذلك كافرٌ، وإن أراد: أنه وقت أجرى الله تعالى العادة بمجيء المطر فيه.. فيكره أن يقال ذلك، ولكن لا يكفر قائله.
وقد روى عن عمر: أنه قال في يوم جمعة على المنبر: (كم بقي من نوء الثُريَّا؟ فقال العباس: العواء، ودعا الناس حتى نزل من المنبر، فَمُطِروا مطرًا أحيا الناس) .

[فرع إشفاقه صلى الله عليه وسلم من البرق والرعد]
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا برقت السماء، أو رعدت.. عُرف ذلك في وجهه، فإذا نزل المطر.. سري عنه» .
قال الشافعي: (ولا ينبغي لأحد أن يسب الريح.. فإنها خلق لله مطيعة) .
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الريح من روح الله، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فلا تسبُّوها، واسألوا الله خيرها، وعُوذُوا به من شرها» .

(2/690)


وروي عن عروة: أنه قال: (إذا رأى أحدكم البرق.. فلا يشير إليه) .
قال الشافعي: (حكي عن مجاهد، أنه قال: الرعد ملك، والبرق بياض جناحيه إذا نشرهما، وما أحسن ما قال؛ لأن الله تعالى قال: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد: 13] [الرعد: 13] .
ويستحب لمن سمع الرعد أن يسبح؛ لما روي عن ابن عباس: قال: (كنا مع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في سفر، فأصابنا رعد وبرق وبرد، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته (ثلاثًا) .. عوفي من ذلك الرعد، فقلنا ذلك، فعوفينا) .
وروي عن بعض الصحابة: أنه كان إذا سمع الرعد.. قال: (سبحان من سبحت له) .
وبالله التوفيق.

(2/691)