البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الصيام]

(3/455)


كتاب الصيام الصوم في اللغة: هو الإمساك والكف عن كل شيء، يقال لمن سكت ولم يتكلم: صائم، قال الله تعالى في قصة مريم {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] [مريم: 26] . يعني: صمتا. ويقال: صامت الشمس: إذا وقفت للزوال، وصامت الخيل: إذا أمسكت عن السير، قال الشاعر النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأُخرى تعلك اللجما
يعني: خيلا واقفة عن السير، وخيلًا غير واقفة، بل في الحرب.
وأما الصوم في الشرع: فهو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع.
وهو من الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع بنقصان.
والأصل في وجوبه: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] [البقرة: 183]

(3/457)


ثم بين ما ذلك الصيام؟ فقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] [البقرة: 185] .
وأما السنة: فما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» .
وروى طلحة بن عبيد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه في «حديث الأعرابي الذي سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الإسلام ... إلى أن قال: فما افترض الله علي من صوم؟ قال: "شهر رمضان» .
وهو إجماع لا اختلاف بين الأُمة في وجوبه.
إذا ثبت هذا: فاختلف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم - لم سمي: رمضان؟ فقال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: سمي بذلك؛ لأنه يرمض الذنوب ويحرقها.
وحُكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: إنما سمي بذلك؛ لأنه وافق ابتداء الصوم زمنًا حارًا، فكان يرمض فيه الفصيل. يعني: يحترق من شدة الحر.

(3/458)


إذا تقرر ما ذكرناه: فروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا تقولوا: جاء رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: جاء شهر رمضان» . وهذا يقتضي أنه يكره أن يقال: جاء رمضان.
ثم روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا.. غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» .
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «جاء رمضان الشهر المبارك» . وهذا بخلاف الخبر الأول.

(3/459)


قال أصحابنا: فيحتمل أنه يريد: يكره أن يقال: حاء رمضان من غير قرينة تدل على أنه الشهر، فإن قرنه بقرينة بما يدل على أنه الشهر، من ذكر الصوم، أو الشهر.. لم يكره.
واختلف الناس في أول ما فرض الله تعالى من الصوم:
فقيل: (إن أول ما فرض الله تعالى من الصيام صوم عاشوراء)
وقيل: لم يكن فرضًا، وإنما كان تطوعًا.
وحُكي عن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة أمر بصيام ثلاثة أيام من كل شهر» ، وهي الأيام التي قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] [البقرة: 183 - 184] ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان) وكان الناس في أول الإسلام إذا صاموا.. يحل لهم الطعام والشراب والجماع من حين تغيب الشمس إلى أن يصلوا العشاء، أو يناموا، فإن صلوا العشاء، أو ناموا قبل ذلك.. حرم عليهم إلى القابلة، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] الآية [البقرة: 187] .
وكانوا في أول الإسلام يخير المطيق منهم للصوم: بين أن يصوم، أو يفطر ويفدي عن كل يوم مدا من طعام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] .

(3/460)


ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] [البقرة: 185] وروي عن ابن عباس: (أن قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] إنما نزلت في الشيخ الهم والشيخة الهمة، فأما الشبان الذين يطيقون الصوم: فكان لازمًا لهم) . والصحيح هو الأول.

[مسألة: شروط وجوب الصوم]
] : ويتحتم وجوب الصوم على كل مسلم بالغ عاقل طاهرٍ قادر مقيم.
فأما الكافر: فإن كان أصليا.. فلا خلاف أنه لا يصح منه في حال كفره، ولا خلاف أنه لا يجب عليه القضاء بعد الإسلام، وهل هو مخاطب به في حال كفره، ويأثم بتركه؟ فيه وجهان لأصحابنا، مضى ذكرهما.
وإن كان مرتدًا.. فلا يصح منه في حال الردة، ولكنه يأثم بتركه، وإذا أسلم.. وجب عليه قضاؤه؛ لأنه قد التزم ذلك بالإسلام، فلم يسقط بالردة.
وأما الصبي: فلا يجب عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ولأنه عبادة بدنية،

(3/461)


فلم يجب على الصبي كالصلاة، ولا تدخل عليه العدة، فإنها تجب على الصغيرة؛ لأنها ليست من أفعال البدن، وإنما هي مرور الزمان، فإذا بلغ الصبي حد التمييز، وكان يطيق الصوم وجب على الولي أن يأمره بفعله، فإذا قارب البلوغ.. كان له أن يضربه إذا لم يصم، كما قلنا: في الصلاة، فإذا بلغ.. لم يجب عليه قضاء ما تركه في حال الصغر؛ لأن زمان الصغر يطول، فلو أُو لزم بقضائه.. شق وضاق.
وأما المجنون: فلا يجب عليه فعله في حال جنونه؛ للخبر، فإن أفاق بعد مضي رمضان.. لم يجب عليه قضاء ما فاته في حال الجنون.
وقال مالك، وأحمد رحمة الله عليهما في أحد الروايتين: (يجب عليه قضاؤه) وحكي ذلك عن أبي العباس ابن سريج.
وقيل: لا يصح ذلك عن أبي العباس.
دليلنا: أنه صوم فات في حال يسقط فيه التكليف؛ لنقص، فلم يجب قضاؤه، كما لو فات في حال الصغر.
فقولنا: (لنقص) احتراز من الصوم الفائت في المرض. وإن زال عقله بالإغماء.. لم يجب عليه قضاؤه في الحال؛ لأنه لا يصح منه، وإن أفاق.. وجب عليه القضاء؛ لأن الإغماء ليس بنقص، ولهذا يجوز على الأنبياء، فهو كالمرض. والجنون نقص، ولهذا لا يجوز على الأنبياء، فشابه الصغر والكفر.

(3/462)


وإن أسلم الكافر في أثناء نهار رمضان.. استحب له إمساك بقية النهار؛ لحرمة الوقت، ولا يجب عليه؛ لأنه أفطر بعذر، وهل يجب عليه قضاء هذا النهار؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه لا يجب عليه) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يجب ما قبله» ، ولأنه لم يدرك من الوقت ما يتمكن فيه من فعل الصوم، فهو كمن أدرك من الوقت قدر ركعة، ثم جن.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يلزمه قضاؤه، وهو قول أحمد، وإسحاق، والماجشون؛ لأنه أدرك جزءًا من الوقت ولا يمكن فعل ذلك الجزء من الصوم إلا بصوم يوم، فوجب أن يقضيه بيوم، كما نقول في المحرم إذا وجب عليه في كفارة نصف مد، وأراد الصوم.. فإنه يصوم عنه يومًا
وإن أفاق المجنون في أثناء نهار صوم رمضان.. لم يجب عليه إمساك بقية النهار، وهل يلزمه قضاء هذا اليوم؟ فيه وجهان، كالوجهين اللذين ذكرناهما في الكافر.
والمنصوص: (أنه لا يلزمه) .
وقال أبو حنيفة، والثوري: (يلزمه قضاء ما فاته من الشهر) .
قال أبو العباس: وقد حكى المزني هذا في المأثور عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا

(3/463)


يصح عنه، وهو يدل أن الحكاية التي حُكيت عن أبي العباس إذا أفاق بعد شهر.. أنه يلزمه قضاؤه، لا تصح عنه.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» .
ولأن الجنون لو دام جميع الشهر.. يسقط قضاؤه، فكذلك إذا دام في بعضه.
وإن بلغ الصبي في أثناء شهر رمضان ... نظرت:
فإن بلغ بالليل.. لزمه صوم ما بقي منه، وإن بلغ في أثناء النهار، وكان مفطرًا أول النهار.. لم يلزمه إمساك ما بقي من النهار، ولكن يستحب له، وهل يجب عليه قضاؤه؟ فيه وجهان، كالوجهين في الكافر والمجنون. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وأما المسعودي [في " الإبانة "ق\ 160] : فقال: إذا أسلم الكافر، أو أفاق المجنون، أو بلغ الصبي في أثناء نهار شهر رمضان، وكان مفطرًا.. فهل يلزمهم إمساك بقية النهار؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: لا يلزمهم ذلك؛ لأن من لم يلزمه الصوم في أول النهار.. لم يلزمه في آخره، كالحائض إذا طهرت، والمسافر إذا قدم وقد أكل.
والثاني: يلزمهم إمساك بقية النهار؛ لأنهم صاروا مخاطبين في بعض النهار، فجعل كأنهم خوطبوا في أوله، فيلزمهم التشبه بالصائمين وإن لم يصح صومهم؛ لأنهم لم ينووا الصوم.
والثالث: يلزم الكافر دون المجنون والصبي؛ لأن الكافر غير معذور في كفره، وهما معذوران في إفطارهما.
والرابع: يلزم الكافر والصبي دون المجنون؛ لأن الصبي والكافر كان يصح صومهما إذا أتيا بشرائطه، دون المجنون؛ فلما لم يفعلا في أوله.. لزمهما التشبه بالصائمين في آخره.
وهل يلزمهم قضاء هذا اليوم؟ على هذه الأربعة الأوجه.
وإن بلغ الصبي في أثناء نهار شهر رمضان وهو صائم.. ففيه وجهان:

(3/464)


أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يلزمه الإتمام، ولا يجب عليه القضاء) ؛ لأنه صار من أهل الوجوب في أثنائه، فلزمه إتمامه، كما لو دخل في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه.
والثاني: يستحب له الإتمام، ويجب عليه القضاء؛ لأنه لم ينو صوم الفرض من أوله.

[مسألة: صوم الحائض والنفساء]
] : وأما الحائض والنفساء: فلا يصح صومهما، ولا يجوز لهما أن يمسكا بنية الصوم، فإن فعلتا.. أثمتا؛ لما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حاضت المرأة.. لم تصم، ولم تصل، وذلك نقصان دينها» ، فإذا طهرتا.. وجب عليهما قضاء الصوم؛ لما روي «عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت في الحيض: (كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» .
فإن طهرتا في أثناء شهر رمضان.. لم يجب عليهما إمساك بقية النهار.

(3/465)


وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي: (يلزمهما إمساك بقية النهار) .
دليلنا: أنهما أفطرتا بعذر، فلم يلزمهما إمساك بقية النهار.

[مسألة: صوم الشيخ العجوز]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأما الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة اللذان لا يقدران على الصوم: فيجوز لهما الإفطار) .
قال الشيخ أبو حامد: ولم يرد بذلك: أنه لا يمكنهما أن يمسكا يومهما عن الطعام والشراب؛ لأنه ما من أحد إلا ويمكنه هذا، وإنما يريد به: أنهما تلحقهما بذلك المشقة الشديدة، فلكل واحد منهما أن يفطر، وهل يلزمه أن يفدي؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه، وبه قال مالك، وأبو ثور؛ لأنه يسقط عنه فرض الصوم، فلم تجب عليه الفدية، كالصبي والمجنون.
والثاني: يلزمه، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وأحمد رحمة الله عليهم، إلا أن أبا حنيفة قال: (يطعم عن كل يوم نصف صاع من حنطة، أو صاعًا من تمر) .
وقال أحمد رحمة الله عليه: (يطعم مدًا من بر، أو نصف صاع من تمر أو شعير) .
وعندنا: يطعم عن كل يوم مدًا من طعام.

(3/466)


ووجهه: أن الناس كانوا مخيرين في أول الإسلام بين أن يصوموا، وبين أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مدًا من طعام، فنسخ ذلك في حق من يطيق الصوم، وبقيت الرخصة في حق من لا يطيقه. وروي هذا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وأما المريض: فإن كان مرضًا لا يرجى زواله، وأجهده الصوم.. فهو كالشيخ الذي يجهده الصوم، وإن كان مرضًا يرجى زواله، فٍإن كان مرضًا يسيرًا لا يشق معه الصوم.. لم يجز له الإفطار
وقال داود: (يجوز له الإفطار) .
دليلنا: أنه لا يخاف المشقة من الصوم، فلم يجز له الإفطار، كالصحيح.
وإن كان يخاف التلف من الصوم، أو زيادة العلة.. جاز له الإفطار، فإذا برئ وجب عليه القضاء.
وقال عطاء، وأحمد: (لا يفطر حتى يغلب) .
وقال الشعبي: لا يفطر حتى يخشى أو يغلب.
وقال الأوزاعي: (إذا خشي على نفسه.. جاز له أن يشرب الماء) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] .
وقد ثبت أن المسافر يجوز له أن يفطر وإن لم يكن مغلوبًا، فكذلك هذا مثله، فإن أصبح صائمًا، وهو صحيح، ثم مرض.. جاز له أن يفطر؛ لأن العذر موجود.

(3/467)


[مسألة: الصوم في السفر]
] : وأما المسافر: فإن كان سفره لا يبلغ ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمي.. لم يجز له أن يفطر، وإن كان يبلغ ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي في غير معصية.. جاز له أن يفطر؛ للآية.
وقال بعض الناس: يجوز له الإفطار في السفر الطويل والقصير.
وقال أبو حنيفة: (لا يفطر إلا في سفر يبلغ ثلاثة أيام) . وقد مضى ذكر ذلك في (القصر) .
فإن صام المسافر.. صح صومه.
وقال أبو هريرة: (لا يصح صومه) . وبه قال داود وأهل الظاهر، والشيعة.
دليلنا: ما روي: «أن حمزة بن عمرو الأسلمي: قال: يا رسول الله، أصوم في السفر؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن شئت.. فصم، وإن شئت.. فأفطر» وروي «عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن قال: (سافرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنا من

(3/468)


صام، ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم» .
إذا ثبت هذا: فإن كان ممن لا يجهده الصوم.. فالأفضل أن يصوم، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وروي ذلك: عن أنس، وعثمان بن أبي العاص.
وقال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: (الفطر أفضل) ، وروي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، وحكاه الطبري في " العدة " وجهًا لبعض أصحابنا. والمشهور من المذهب هو الأول.
والدليل عليه: ما روى سلمة بن المحبق: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كانت له حمولة تأوي إلى شبع.. فليصم رمضان حيث أدركه» ولأن من خير بين الصوم والإفطار.. كان الصوم أفضل، كالمتطوع.
وإن كان يجهده الصوم.. فالأفضل أن يفطر؛ لما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر

(3/469)


برجل في سفره تحت ظل شجرة يرش عليه الماء، فسأل عنه، فقالوا: صائم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس من البر الصيام في السفر» .

[فرع: القضاء في رمضان للمسافر]
] : فإن صام المسافر في رمضان عن غير رمضان، كالنذر والكفارة والقضاء.. لم يصح صومه، ولم يقع عن رمضان، وبه قال أكثر الفقهاء.
وقال أبو حنيفة: (يقع عما نواه) .
دليلنا: أنه يخير بين الإفطار والصوم، فلم يصح صومه فيه عن غير رمضان، كالمريض.

[فرع: السفر بدخول رمضان]
] : وإن دخل عليه شهر رمضان، وهو مقيم.. جاز له أن يسافر، ولا يتحتم عليه الصوم.
وقال أبو مجلز: (إذا حضر شهر رمضان.. فلا يسافرن أحد، فإن كان لا بد.. فليصم إذا سافر) .

(3/470)


وقال عبيدة السلماني، وسويد بن غفلة: يتحتم عليه الصوم بقية الشهر.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] معناه: فأفطر فعدة من أيام أخر، ولم يفرق بين أن يسافر في رمضان أو قبله.

[فرع: إفطار الصائم في السفر]
] : وإن نوى المسافر الصوم، ثم أراد أن يفطر في أثناء النهار.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز له أن يفطر، كالصحيح إذا أصبح صائمًا، ثم مرض.
والثاني - وهو قول الشيخ أبي إسحاق -: أنه لا يجوز له الإفطار في هذا النهار؛ لأنه قد دخل في فرض المقيم، فهو كما لو أحرم المسافر بالصلاة، ونوى الإتمام.. فإنه لا يجوز له قصرها.
وإن أصبح صائمًا في الحضر، ثم سافر.. لم يجز له أن يفطر في هذا النهار، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعي.
وقال أحمد، وإسحاق، وداود، والمزني: (يجوز له أن يفطر) . واختاره ابن المنذر؛ ل: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج من المدينة عام الفتح حتى أتى كراع الغميم، فأفطر» دليلنا: أن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر، فإذا اجتمعا، غلب حكم الحضر، كالصلاة.

(3/471)


وأما الخبر: فإنما أفطر بكراع الغميم في اليوم الثاني؛ لأن بينه وبين المدينة كثيرًا.
ولو نوى الحاضر الصوم قبل الفجر، ثم سافر، ولا يدري هل سافر قبل الفجر، أو بعده؟ قال الصيمري: لم يجز له أن يفطر.
ولو سافر بعد الفجر، وقبل أن ينوي الصوم.. لزمه إمساك ذلك اليوم؛ لأنه سافر بعد أن تعين عليه الصيام، ولا يجزئه عن الصوم؛ لأنه لم ينوه.

[فرع: زوال العذر في أثناء الصوم]
] : إذا قدم المسافر بلده في أثناء نهار رمضان، وهو مفطر، أو برئ المريض، وقد كان أفطر، أو طهرت الحائض أو النفساء.. لم يلزمهم إمساك بقية النهار.
وقال أبو حنيفة: يلزمهم إمساك بقية النهار)
دليلنا: أن من لم يلزمه الإمساك أول النهار، لا في الظاهر ولا في الباطن.. لم يلزمه إمساك بقيته، كما لو دامت هذه الأعذار.
وإن قدم المسافر، أو أقام وهو صائم، أو برئ المريض وهو صائم.. فهل يلزمهما إتمام الصوم؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي على بن أبي هريرة -: أنه لا يلزمهما؛ لأنه أبيح لهما الفطر أول النهار، ظاهرًا أو باطنًا، فأبيح لهما في آخره، كما لو أفطرا.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق، وهو ظاهر النص -: أنه يلزمهما إتمام الصوم؛ لأنه زال سبب الرخصة قبل الترخص، فهو كما لو استفتح الصلاة في السفر، ثم أقام أو اتصل بدار إقامته. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 160] : الوجهان إذا قدم، ولم ينو الصوم من

(3/472)


الليل، ولم يفطر. فأما إذا كان قد نوى الصوم من الليل، وقدم قبل أن يأكل.. لزمه إتمام الصوم، وجهًا واحدًا.

[فرع: وطء المسافر المفطر]
وإن قدم المسافر وهو مفطر، فوجد امرأته قد طهرت من الحيض في ذلك اليوم.. جاز له وطؤها.
وقال الأوزاعي: (لا يجوز) .
دليلنا: أنه أبيح لهما الإفطار، فلا يحرم وطؤها، كما لو كانا مسافرين.

[مسألة: صوم الحامل والمرضع]
] : وإن خافت الحامل والمرضع على أنفسهما.. أفطرتا، وعليهما القضاء، دون الكفارة، كالمريض.
وإن خافتا على ولديهما.. أفطرتا، وعليهما القضاء، وفي الفدية ثلاثة أقوال:
أحدها - وهو الصحيح -: أن عليهما الكفارة لكل يوم مد من طعام، وبه قال أحمد بن حنبل، إلا أنه يقول: (مد من بر، أو مدان من تمر أو شعير) .
والدليل على ما ذكرناه: ما روي عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -

(3/473)


وأرضاهم: أنهما قالا: (الحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما.. أفطرتا، وأطعمتا مكان كل يوم مسكينًا) . ولا يعرف لهما مخالف.
والقول الثاني: تجب الفدية على المرضع دون الحامل، وهي إحدى الروايتين عن مالك؛ لأن الحامل أفطرت لمعنى فيها، فهي كالمريض، بخلاف المرضع.
والثالث - حكاه أبو علي في " الإفصاح "، وليس بمشهور -: أنه لا يجب على واحدة منهما كفارة، وهو قول الزهري، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة؛ لأنه إفطار لعذر، فلم تجب به الكفارة، كإفطار المريض.
وروي عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما -: أنهما قالا: (لا تجب عليهما الكفارة دون القضاء)
دليلنا: أنه إفطار بعذر يزول، فوجب فيه القضاء، كالمرض.

(3/474)


[مسألة: شرط وجوب الصوم]
] : ولا يجب صوم رمضان إلا بدخول الشهر، ودخول الشهر يعلم بأمرين: إما برؤية الهلال، أو باستكمال شعبان ثلاثين يومًا، هذا قول كافة الفقهاء.
وقال بعض الناس: يعلم دخوله بذلك، ويعلم بالحساب والنجوم: أن الهلال قد أهل، فيلزمه، وهذا ليس بصحيح، لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم.. فأكملوا العدة ثلاثين يومًا» .
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة، ولا تفطروا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة ثلاثين» .

(3/475)


وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من أتى كاهنا أو عرافا، فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» . وهذا يمنع من الرجوع إلى قول المنجمين.

[فرع: معرفة خطأ بداية رمضان]
] : فإن أصبحوا يوم الثلاثين من شعبان وهم يظنون أنه من شعبان، ثم قامت البينة أنه من شهر رمضان.. لزمهم قضاؤه.

(3/476)


وقال أبو حنيفة: (إذا نووا الصوم.. أجزأهم) . وبناه على أصله: أن النية تصح من النهار، والكلام عليه يأتي.
دليلنا: أنه لم ينوه من الليل، فلم يجزه، وهل يلزمهم إمساك بقية النهار؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمهم؛ لأنه أبيح لهم الفطر، فلم يجب عليهم الإمساك، كالحائض إذا طهرت.
والثاني: يلزمهم، وهو الصحيح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في التعليق غيره؛ لأنه أبيح لهم الفطر بشرط أنه من شعبان، وقد بان أنه من رمضان.
فإذا قلنا: بهذا: فهل يكون صوما شرعيًا يثابون عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يكون صومًا شرعيًا، ولا يثابون عليه؛ لأنه لا يعتد به، فهو كما لو أكل عامدًا، ثم أمسك بقية النهار.
والثاني: يكون صومًا شرعيًا، ويثابون عليه، وهو الصحيح؛ لأن ذلك حصل بغير تفريط، بخلاف من أكل عامدًا، فإنه مفرط.
قال ابن الصباغ: ويجب أن يقال: إن في الإمساك الواجب ثوابًا بكل حال، وإن لم يكن ثواب مثل ثواب الصوم. قال: وحكى الشيخ أبو حامد، عن أبي إسحاق: أنه إذا لم يأكل، ثم أمسك فإنه يكون صائمًا من حين أمسك.
قال ابن الصباغ: وهذا لا يجيء على مذهب الشافعي؛ لأنه واجب، فلا يصح بنيته من النهار، ولأنه لا يجزئه عن رمضان، ولا يقع نفلًا في رمضان، قال: وينبغي أن يكون ما قاله أبو إسحاق: أنه إمساك شرعي، يثاب عليه خاصة.

[فرع: رؤية الهلال نهارًا]
] : وإن رئي الهلال بالنهار، فهو لليلة المستقبلة، سواء رئي قبل الزوال أو بعده، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.

(3/477)


وقال الثوري، وأبو يوسف: إن رئي قبل الزوال.. فهو لليلة الماضية، وإن رئي بعد الزوال.. فهو لليلة المستقبلة، سواء كان في أول الشهر أو في آخره.
وقال أحمد: (إن كان في أول الشهر، ورئي قبل الزوال.. فهو للماضية، وإن كان رئي بعد الزوال.. فهو للمستقبلة، وإن كان في آخر الشهر، فإن رئي بعد الزوال فهو للمستقبلة وإن رئي في آخر الشهر ورئي قبل الزوال ... ففيه روايتان:
أحدهما: أنه للماضية. والثانية: أنه للمستقبلة.
دليلنا: ما روى أبو وائل شقيق بن سلمة: قال) جاءنا كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ونحن بخانقين: أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارًا.. فلا تفطروا حتى تمسوا، إلا أن يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس) .
وروي في هذا الخبر (فإذا رأيتم الهلال أول النهار.. فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان ذوا عدل أنهما رأياه بالأمس) . وقد روي ذلك عن علي، وابن مسعود، وأنس، ولا مخالف لهم في ذلك.

[فرع: اختلاف المطالع]
] : وإن رأوا الهلال في بلد، ولم يروه في بلد آخر.. نظرت:
فإن كانا متقاربين.. وجب الصوم على الجميع، وإن كانا متباعدين.. ففيه وجهان:

(3/478)


أحدهما: وهو قول القاضي أبي الطيب، واختيار الصيمري -: أنه يلزم الجميع الصوم، وهو قول أحمد ابن حنبل، كما لو كان البلدان متقاربين.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والشيخ أبو إسحاق في" المهذب " غيره -: أنه لا يلزم أهل البلد الذين لم يروه، لما روي «عن كريب: أنه قال: (أرسلتني أم الفضل بنت الحارث من المدينة إلى معاوية بالشام، فقدمت الشام، فقضيت حاجتي بها، واستهل على رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، وذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ قلت: نعم، ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل العدة أو نراه، فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»
فإذا قلنا: بهذا: ففي اعتبار القرب والبعد وجهان:
أحدهما: وهو قول المسعودي [في الإبانة ق\156] والجويني -: أن البعد مسافة القصر فما زاد، والقرب دون ذلك.
والثاني - حكاه الصيمري -: إن كان إقليما واحدا.. لزم جميع أهله برؤية بعضهم، وإن كانا إقليمين.. لم يلزم أهل أحدهما برؤية أهل الآخر.
وقال ابن الصباغ: إن كانا بلدين لا تختلف المطالع لأجلهما، كبغداد والبصرة.. لزمهم برؤية بعضهم، وإن كانا بلدين تختلف المطالع فيهما، كالعراق

(3/479)


والحجاز، والشام وخراسان، وما أشبه ذلك.. لم يلزم أحدهما برؤية الآخر. وحكاه عن الشيخ أبي حامد.

[فرع: انتقال المسافر الصائم لبلد آخر]
] : وإن رأى رجل الهلال في أول رمضان ليلة الجمعة في بلد، فصام ثم سافر إلى بلد بعيد في أثناء الشهر، وأهل ذلك البلد رأوا الهلال ليلة السبت.. قال المسعودي [في الإبانة \ ق\] : فحكمه حكم أهل البلد الذي انتقل إليه، وليس له أن يفطر قبلهم؛ لما روي) أن ابن عباس أمر كريبًا أن لا يفطر إلا بإفطار أهل المدينة) .

[مسألة: الشهادة في الصوم]
] : وفي الشهادة التي يثبت بها هلال رمضان قولان:
[أحدهما] : قال في البويطي: (لا يقبل فيه إلا شهادة عدلين) . وبه قال مالك، والليث.
و [الثاني] : قال في القديم والجديد: (يثبت بشهادة واحد) . وبه قال أحمد بن حنبل، وابن المبارك.
وقال أبو حنيفة: (إن كان غيمًا.. قبل فيه شهادة الواحد، وإن كان صحوًا.. لم يقبل فيه شهادة الواحد ولا الاثنين، وإنما يقبل فيه قول الجماعة إذا انتشر واستفاض) .
فإذا قلنا: لا يقبل إلا من اثنين.. فوجهه: ما روي عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب: أنه قال: صحبنا أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونقلنا عنهم الأخبار، فكان مما أخبرونا به: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم.. فأكملوا العدة، وإن شهد على رؤيته ذوا عدل.. فصوموا» .

(3/480)


وإذا قلنا: يقبل من واحد.. فوجهه: ما روي عن ابن عمر: أنه قال: «تراءى الناس الهلال مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرأيته، فأخبرته بذلك، فصام، وأمر الناس بالصيام» وروي عن ابن عباس: «أن أعرابيًا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إني رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله. فقال: نعم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قم يا بلال، فناد في الناس أن يصوموا غدًا» إذا ثبت هذا: فإن المسعودي قال [الإبانة \ ق، 115] : لا تعتبر العدالة الباطنة في الشهادة على رؤية الهلال، وتشترط فيه العدالة الظاهرة.

(3/481)


[فرع: الشهادة لغير رمضان]
] : فأما هلال شوال وسائر الشهور: فلا يقبل فيه إلا شهادة شاهدين، قولا ً واحدا، وهو قول كافة العلماء، إلا أبا ثور، فإنه قال) يقبل في هلال شوال عدل واحد) .
دليلنا: ما روي عن طاووس: أنه قال: دخلت المدينة وبها ابن عباس وابن عمر، فجاء رجل إلى الوالي، فشهد عنده على هلال شهر رمضان، فأرسل إليهما، فقالا «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم بشهادة الواحد، ولا يقبل في الفطر إلا شاهدين» ولأن هذه شهادة يلحق الشاهد فيها التهمة، فكان من شرطها العدد، كسائر الشهادات.

[فرع: شهادة غير الذكر]
] : إذا قلنا: تقبل شهادة الواحد في هلال شهر رمضان.. فهل يقبل قول العبد والخنثى والمرأة؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يقبل كما يقبلون في الإخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والثاني: لا يقبلون، وهو الصحيح؛ لأن طريقه طريق الشهادة، بدليل: أنه لا يقبل من الصبي، ولا من الفرع مع حضور الأصل، وإن كان ذلك مقبولًا في الإخبار.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون على قول أبي إسحاق: لا يفتقر ذلك إلى سماع الحاكم، بل إذا سمع ذلك ممن يثق به.. وجب عليه الصيام.

(3/482)


[فرع: عدم رؤية الهلال آخر رمضان]
] : إذا شهد شاهد واحد برؤيته هلال رمضان، وقلنا: يقبل، فصاموا، وتغيمت السماء في آخر الشهر، ولم يروا الهلال.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص، وبه قال أبو حنيفة -: (أنهم يفطرون) .
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يفطرون؛ لأنه إفطار بشاهد واحد، وهذا لا يصح؛ لأن الصوم قد لزمهم، والفطر ثبت على سبيل التبع له، كما نقول في النسب: لا يقبل فيه شهادة النساء.
ولو شهد أربع نسوة بالولادة.. ثبت النسب تبعًا للولادة.
وإن شهد على هلال رمضان شاهدان، فصاموا، ولم يروا الهلال آخر الشهر، والسماء مصحية.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحداد: لا يفطرون؛ لأن عدم الهلال مع الصحو يقين، والحكم بالشاهدين ظن، واليقين يقدم على الظن.
و [الثاني] : المنصوص للشافعي: (أنهم يفطرون) ؛ لأن شهادة الاثنين يثبت بها الصوم، فيثبت بها الفطر.

[فرع: الصيام بخبر الثقة]
] : قال الشافعي: (وإن عقد رجل على أن غدًا عنده من شهر رمضان في يوم شك، وصام ثم بان أنه من رمضان.. أجزأه) .
قال أصحابنا: أراد بذلك: إذا أخبره برؤية الهلال من يثق بخبره من رجل أو امرأة أو عبد، فصدقه، وإن لم يقبل الحاكم شهادتهن فنوى الصوم، فصام، ثم بان أنه من

(3/483)


شهر رمضان.. أجزأه؛ لأنه نوى الصوم بضرب من الظن، فأما إذا نوى الصوم جزافًا، وبان أنه من شهر رمضان.. لم يجزئه.
فأما إذا كان عارفًا بحساب المنازل أن غدًا من شهر رمضان، أو أخبره بذلك من هو من أهل المعرفة بذلك، فصدقه، فنوى الصوم.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئه، وهو قول أبي العباس ابن سريج، واختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن ذلك سبب يتعلق به غلبة الظن عنده، فهو كما لو أخبره من يثق بخبره عن مشاهدة.
والثاني: أنه لا يجزئه؛ لأن النجوم والحساب لا مدخل لها في العبادات، فلا يتعلق بها حكم منهما.
إذا ثبت هذا: فهل يلزمه بذلك الصوم؟
قال ابن الصباغ: أما بالحساب: فلا يختلف أصحابنا أنه لا يجب عليه.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في المهذب: أن الوجهين في الحساب بالوجوب.
وأما إذا أخبره برؤية هلال رمضان من يصدقه، ولم يقبل الحاكم شهادته ... قال ابن الصباغ: فيبنى ذلك على أنه هل يسلك له مسلك الإخبار، أو مسلك الشهادة؟
فإن قلنا: إنه شهادة.. لم يلزمه حتى يثبت عند الحاكم.
وإن قلنا: يسلك به مسلك الإخبار.. لزمه إذا صدقه وإن لم يثبت عند الحاكم، ويفترق الحال بين الوجوب وبين جواز الدخول، فيكفي في الدخول ما لا يتعلق به الوجوب، ألا ترى أنه إذا سمع مؤذنًا.. جاز له أن يقلده ويصلي، ولا يلزمه ذلك حتى يعلم دخول الوقت، وكذلك الملتقط إذا ذكرت له العلامات في اللقطة.. جاز له الدفع إليه، ولا يجب عليه إلا ببينة.

[فرع: وجوب الصوم برؤية الهلال لمن ردت شهادته]
] : وإن رأى إنسان هلال شهر رمضان وحده، ولم يقبل الحاكم شهادته.. وجب عليه أن يصوم، وإن جامع فيه.. وجبت عليه الكفارة، وبه قال عامة الفقهاء.

(3/484)


وقال أبو ثور، والحسن، وعطاء، وإسحاق: (لا يلزمه الصوم) .
وقال أبو حنيفة (يلزمه الصوم، ولكن إن جامع فيه.. لم تلزمه الكفارة) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوموا لرؤيته» . وهذا قد رأى، ولأنه عنده من شهر رمضان بيقين فلزمه الصوم، وإن جامع فيه.. وجبت عليه الكفارة، كما لو قبل الحاكم شهادته.
وإن رأى هلال شوال وحده.. أفطر، ولكنه يستخفي بذلك؛ لئلا يعرض نفسه للتهمة وعقوبة السلطان.
وقال مالك، وأحمد: (لا يجوز له أن يفطر) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وأفطروا لرؤيته» . وهذا قد رأى، ولأنه قد تيقن أنه من شوال، فحل له الأكل، كما لو قامت البينة.

[مسألة: صوم الأسير]
] : قال الشافعي (وإن اشتبهت الشهور على أسير، فتحرى شهر رمضان، فوافقه أو ما بعده.. أجزأه) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان أسيرًا في بلاد الشرك، ولم يعلم دخول شهر رمضان، أو كان محبوسًا في مطمورة في بلاد الإسلام، ولم يعلم دخول شهر رمضان، لزمه أن يتحرى؛ لأن عليه فرض الصيام، فلزمه أن يتحرى له.
فإذا غلب على ظنه عن أمارة تقوم بنفسه في بعض الأهلة أنه شهر رمضان، فصامه ... نظرت:

(3/485)


فإن بان له أن الشهر الذي صامه كان شهر رمضان.. أجزأه، وبه قال عامة الفقهاء، إلا الحسن بن صالح بن يحيى الكوفي، فإنه قال: عليه الإعادة.
دليلنا: أنه أدى العبادة بالاجتهاد، فإذا وافق الفرض. أجزأه، كالقبلة.
وإن وافق شهرًا بعد رمضان.. أجزأه؛ لأن بذهاب الشهر قد استقر في ذمته، فأكثر ما فيه: أنه أتى بالقضاء بينية الأداء. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في الإبانة \ ق\ 158] : إذا وافق شهرًا بعد شهر رمضان.. صح، وهل يكون قضاء أم أداء؟ فيه قولان.
فإن وافق صوم شهر شوال.. لم يصح صوم يوم الفطر، فإن كان الشهران تامين.. لزمه أن يقضي صوم يوم الفطر، وكذلك إن كانا ناقصين، وإن كان شهر رمضان ناقصًا وشوال تامًا.. لم يلزمه قضاء يوم الفطر، وإن كان شهر رمضان تامًا، وشوال ناقصًا.. كان عليه أن يقضي يومين، يومًا ليوم الفطر، ويومًا لنقصان الهلال.
وإن كان الشهر الذي صامه ذا الحجة.. فإن يوم النحر لا يصح صومه، وكذلك: لا يصح صوم أيام التشريق، على الصحيح من المذهب. فإن كان هو ورمضان تامين أو ناقصين.. كان عليه أن يقضي صوم أربعة أيام، وإن كان شهر رمضان تامًا وذو الحجة تامًا.. لم يقض إلا صوم خمسة أيام، وإن كان شهر رمضان ناقصًا، وذو الحجة تامًا.. لم يقض إلا صوم ثلاثة أيام.
وإن كان الشهر الذي صامه يصح صوم جميعه، كسائر الشهور، فإن كان شهر رمضان والشهر الذي صامه تامين أو ناقصين. فلا شيء عليه، وإن كان الشهر الذي صامه ناقصا وشهر رمضان تاما.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يقضي يوما آخر، وهو اختيار القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] . فأوجب على من لم يصم رمضان مثل عدة أيامه.
والثاني: لا يلزمه أن يقضي صوم يوم آخر؛ لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين، تامًا كان أو ناقصًا ولهذا يجزئه في نذر صوم شهر.

(3/486)


وذكر ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد ذكر على هذا: إذا صام شهر شوال، وكان هو ورمضان ناقصين. أنه يلزمه قضاء يومين؛ لأنه يلزمه أن يقصي شهرًا بالهلال، أو ثلاثين يوماُ، ولم أجد في التعليق عنه إلا ما ذكرته أولًا. هذا ترتيب أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في الإبانة \ ق\158] : إن كان شهر رمضان تامًا، والشهر الذي صامه بعده ناقصًا: فإن قلنا: إن الصوم بعد رمضان يقع قضاء.. لزمه صوم يوم آخر، وإن قلنا: إنه أداء.. أجزأه؛ لأن شهر رمضان لو كان هو الناقص.. أجزأه.
وإن وافق صومه شهرًا قبل شهر رمضان نظرت:
فإن بان له هذا قبل شهر رمضان. وجب عليه أن يصوم شهر رمضان.
وإن بان له ذلك في أثناء رمضان.. لزمه أن يصوم ما بقي منه، والكلام فيما فات منه على ما يأتي إذا فات جميعه.
وإن بان ذلك بعد فوات شهر رمضان. فقد قال الشافعي: (لا يجزئه حتى يوافق شهر رمضان، أو ما بعده) ، ثم قال (ولو قال قائل: يجزئه. كان مذهبًا)
فقال أبو إسحاق: لا يجزئه، قولا واحدًا، وقول الشافعي: (ولو قال قائل: يجزئه. كان مذهبًا) لم يخبر عن نفسه، وإنما أخبر به عن غيره.
وقال سائر أصحابنا، فيه قولان:
أحدهما: يجزئه؛ لأنها عبادة تجب بإفسادها الكفارة، أو تجب في السنة مرة، فإذا أداها قبل وقتها بالاجتهاد.. أجزأه، كالوقوف بعرفة، وفيه احتراز من الصلاة.

(3/487)


والثاني: لا يجزئه، وهو الصحيح، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] [البقرة: 158] . وهذا قد شهده، ولم يصمه، وإنما صام قبله.
ولأنه تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء، فهو كما لو صلى قبل الوقت بالاجتهاد، وفيه احتراز من الحج.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق158] : وأصل القولين فيها: القولان إذا وافق ما بعد شهر رمضان:
فإن قلنا: يقع قضاء.. لم يجزه؛ لأن القضاء لا معنى له قبل الأداء.
وإن قلنا: أداء؟ أجزأه؛ لأنا نجعل شهر رمضان منقولا إلى ما أداه إليه اجتهاده. هذا إذا غلب على ظنه دخول الشهر بأمارة.
فإن لم يغلب على ظنه دخوله بأمارة.. قال ابن الصباغ: حكي أن الشيخ أبا حامد قال: يلزمه أن يصوم على سبيل التخمين، ويقضي، كالمصلي إذا لم تغلب على ظنه القبلة.. فإنه لا يلزمه أن يصلي.

[مسألة: وجوب النية]
] : ولا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصيام، واجبًا كان أو تطوعًا، إلا بالنية، وبه قال عامة العلماء.
وقال عطاء، ومجاهد، وزفر بن الهذيل: إذا كان الصوم متعينًا، مثل: أن يكون صحيحًا مقيمًا في رمضان.. لم يفتقر إلى النية.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى» . ولم يرد: أن صور الأعمال لا توجد إلا بالنية، وإنما أراد به: لا حكم للأعمال إلا بالنية.

(3/488)


إذا ثبت هذا: فإنه يجب أن ينوي لكل يوم نية.
وقال مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه: (إذا نوى صوم جميع الشهر في أول ليلة منه.. أجزأه لجميعه) .
دليلنا: أن صوم كل يوم عبادة منفردة لا تفسد بفساد ما قبله، ولا بفساد ما بعده، فلم يكفه نية واحدة، كالصلوات، وفيه احتراز من ركعات الصلاة، فإن الصلاة بمجموعها عبادة واحدة، وكل ركعة تفسد بفساد ما قبلها وما بعدها من الركعات، ومن أركان الحج أيضا.

[فرع: تبييت النية]
] : ولا يصح صوم شهر رمضان ولا غيره من الصيام الواجب إلا بنية من الليل، وروي ذلك عن ابن عمر وحفصة بنت عمر، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (صوم شهر رمضان والنذر المعين يصح بنية من النهار قبل الزوال) .
دليلنا: ما روت حفصة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لم يبيت الصيام من الليل.. فلا صيام له " وروي: "من لم يبت الصيام» ، يعني: من لم يقطع. ذكره الهروي.

(3/489)


وروي: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر.. فلا صيام له "، يعني: من لم ينو الصيام.
وروي: "من لم يؤرض الصيام» ، ومعناه: يمهده، وسميت الأرض: أرضًا؛ لتمهيدها، وروي: "يفرضه".
وهل يجوز بنيته مع طلوع الفجر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئ؛ لأنه عبادة، فجاز بنية تقارن ابتداءه، كالصلاة، وإنما رخص في تقديمها، للمشقة.
والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا -: أنه لا يصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر.. فلا صيام له» ، ولأنا لو قلنا: يجوز بنية مع طلوع

(3/490)


الفجر.. لأدى إلى أن يعرى جزء من الصوم عن النية؛ لأنه لا يعرف الفجر إلا بطلوعه.
قال ابن الصباغ: ولأن من أصحابنا من أوجب إمساك جزء من الليل؛ ليكمل له صوم النهار، فوجب تقديم النية على ذلك.
إذا ثبت هذا: فالمذهب: أن جميع الليل وقت لنية الصوم.
وقال بعض أصحابنا: يجب أن ينوي في النصف الأخير منه، كما نقول في أذان الصبح. وهذا ليس بشيء؛ لحديث حفصة.
فإن نوى في أول الليل، ثم جامع، أو أكل، أو شرب، أو انتبه من نومه.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: إذا نوى، ثم نام، ولم ينتبه إلى آخر الليل.. لم يلزمه تجديد النية، وإن انتبه، أو جامع، أو أكل، أو شرب.. لزمه تجديد النية؛ لأن ذلك ينافي النية.
و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: لا يلزمه تجديد النية، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] . ولو كان ذلك يمنع صحة النية ... لم يجز الأكل والشرب إلى طلوع الفجر.
وقيل: إن أبا إسحاق لم يصح منه هذا، ولم يذكره في شرحه.
وقيل: إنه رجع عنه.
وإن أصبح شاكًا في النية، أو تيقن النية، وشك: هل نوى قبل الفجر، أو بعده؟
قال الصيمري: لم يجزه. ولو نوى ثم شك: أطلع الفجر، أم لا؟ أجزأه.

(3/491)


[مسألة: تعيين النية]
] : ولا يصح صوم شهر رمضان إلا بتعيين النية، وهو أن ينوي أنه صائم غدًا من شهر رمضان، وهل يفتقر إلى نية الفرض، أو الواجب؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يفتقر إلى ذلك؛ لأنه قد يقع نفلًا في حق الصبي.
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا يفتقر إلى ذلك؛ لأن صوم شهر رمضان لا يكون في حق البالغ إلا فرضًا. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (لا يفتقر إلى التعيين) . فإن كان حاضرًا في رمضان، فنوى أن يصوم غدًا عن نذر، أو كفارة، أو نافلة.. جاز عن رمضان، وإن نوى أن يصوم مطلقا.. أجزأه عن شهر رمضان أيضا، وإن كان مسافرا، فإن نوى الصوم عن النافلة، أو مطلقا.. أجزأه عن شهر رمضان، وإن نوى أن يصوم عن نذر، أو كفارة.. أجزأه عنهما، وكان عليه أن يقضي عن شهر رمضان.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى» . وهذا لم ينو، ولأن الصوم عبادة يفتقر قضاؤها إلى تعيين النية، فافتقر أداؤها إلى تعيينها، كالصلاة، وعكسه الحج، فإنه لا يفتقر أداؤه ولا قضاؤه إلى تعيين النية.

[فرع: نية الصيام لفرض مجهول]
] : قال الصيمري: إذا علم أن عليه صوما واجبا لم يعرفه من شهر رمضان أو نذر، فنوى صوما واجبا.. أجزأه، كمن نسي صلاة من خمس صلوات لم يعرف عينها.. فإنه يصلي الخمس، ولو نوى: أنه يصوم غدا إن شاء زيد، أو عمرو، أو إن نشطت.. لم يجزه. ولو قال: ما كنت صحيحا أو مقيما.. أجزأه. ولو قال: أصوم غدًا إن شاء الله.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول القاضي أبي الطيب -: أنه يصح؛ لأن الأمور بمشيئة الله تعالى.

(3/492)


والثاني - وهو قول الصيمري -: أنه لا يصح؛ لأن قوله: إن شاء الله، يبطل حكم ما اتصل به، كما إذا علق البيع والنكاح والطلاق على مشيئة الله تعالى.
والثالث - وهو قول ابن الصباغ -: إن قصد بذلك الشك في فعله.. لم يصح، وإن قصد أن فعل ذلك موقوف على مشيئة الله، وتمكينه، وتوفيقه.. صح صومه؛ لأن ذلك لا يرفع النية.

[فرع: تحديد النية بيوم وسنة]
] : إذا قال: أصوم غدا سنة ثلاثين، فكانت سنة إحدى وثلاثين.. فذكر القاضي أبو الطيب في " المجرد ": أنه لا تصح نيته. قال: وإن نوى أن يصوم غدا في هذه السنة يظنها سنة ثلاثين، فكانت سنة إحدى وثلاثين.. صحت نيته.
ولو نوى أن يصوم غدا يظنه يوم الاثنين، فكان يوم الثلاثاء.. قال القاضي أبو الطيب: أجزأه.
قال ابن الصباغ: ولا فرق عندي في هذه المسائل، وتعيينه العدد، كتعيينه السنة، وينبغي أن يجزئه في الكل.

[فرع: نية الحائض]
] : قال الجويني: ولو نوت المرأة الصوم بالليل، وهي حائض، فانقطع دمها قبل طلوع الفجر.. أجزأتها تلك النية.
وحكى الشاشي فيها وجها آخر: أنه لا يصح.

[فرع: تعيين النية مع الشك]
] : وإن نوى ليلة الثلاثين من شعبان، فقال: أصوم غدا من شهر رمضان أو تطوع، فإن كان من شهر رمضان.. لم تصح، لأنه لم يخلص النية لرمضان، ولأن الأصل أنه من شعبان.

(3/493)


وإن قال: إن كان غدا من شهر رمضان.. فأنا صائم عن رمضان، وإن لم يكن من شهر رمضان.. فأنا صائم عن تطوع، فكان من شهر رمضان لم يصح، لأن الأصل أنه من شعبان.
وإن قال ليلة الثلاثين من شهر رمضان: إن كان غدا من رمضان.. فأنا صائم عن شهر رمضان، وإن لم يكن من شهر رمضان.. فأنا مفطر، فكان من شهر رمضان صح صومه، لأن الأصل أنه من شهر رمضان.
وإن قال: إن كان غدا من شهر رمضان.. فأنا صائم عن رمضان أو مفطر، فإن كان من رمضان.. لم يصح صومه، لأنه لم يخلص النية للصوم.
وإن كان عليه قضاء يوم من شهر رمضان، فقال في بعض الأيام: أصوم غدا عن قضاء شهر رمضان أو تطوعا.. لم يصح عن القضاء، ووقع تطوعا. وبه قال محمد بن الحسن.
وقال أبو يوسف: يقع عن القضاء، لأن التطوع لا يفتقر إلى تعيين النية.
دليلنا: أن زمان القضاء يصلح للتطوع، فإذا سقطت نية الفرض بالتشريك.. بقيت نية التطوع، فوقع.

[فرع: نية الخروج من الصوم]
] : وإن نوى الصائم الخروج من الصوم.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يبطل؛ لأنها عبادة تجب الكفارة بجنسها، فلا تبطل بنية الخروج منها، كالحج، وفيه احتراز من الصلاة.
والثاني: يبطل، وهو الأظهر؛ لأنها عبادة تفتقر إلى تعيين النية، فتبطل منه بنية الخروج منها، كالصلاة، وفيه احتراز من الحج، ولأن الحج لا يخرج منه بما يفسده، والصوم يخرج منه بما يفسده، ومعنى ذلك: أنه إذا أكل في الصوم عامدا، ثم جامع فيه لم تجب عليه الكفارة.
وكذلك: إذا جامع في الصوم عامدا، ثم جامع فيه ثانيا.. لم يتعلق بالثاني

(3/494)


كفارة، والحج إذا جامع فيه وفسد، ثم قتل فيه صيدا، أو جامع ثانيا.. وجبت عليه الكفارة.
أما المضي في فاسدهما: فإنه يجب عليه في الحج والصوم.
فإذا قلنا: بهذا: فنوى في خلال نهار صوم النذر نقله إلى صوم الكفارة.. لم ينتقل إلى الكفارة، ويبطل صوم النذر، وهل ينتقل إلى التطوع؟ فيه قولان، حكاهما المسعودي [في الإبانة ق\157] بناء على ما لو نوى في حال الصلاة أنه نقلها لصلاة أخرى.. فلا تنتقل إليها، وهل تبطل، أم تبقى نافلة؟ قولان.
قال أصحابنا البغداديون: يبطل الصوم والصلاة، ولا يقعان نافلة.

[مسألة: النية في التطوع]
] : ولا يصح صوم التطوع إلا بالنية، لما ذكرناه في الفرض، ولكن يصح بنية من النهار، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وروي ذلك عن أبي طلحة من الصحابة.
وقال مالك، والمزني، وداود: (لا يصح بنية من النهار) . وروي ذلك عن ابن عمر في الصحابة، وجابر بن زيد من التابعين.
دليلنا: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخل

(3/495)


علي، فيقول: "هل من طعام؟ "، فأقول: لا، فيقول: "إني صائم"، وفي بعض الأخبار: أنه قال: "هل من غداء؟ "، فقلت: لا، فقال: "إني إذن صائم» .
ولنا من الخبر أدلة:
منها: أنه إنما طلب الطعام، لأنه كان مفطرا، فلما لم يجد.. صام.
والثاني: أن الظاهر من قوله: "إني صائم" إنما صام؛ لفقد الطعام.
والثالث: قوله: "إني إذا صائم"، وهذه اللفظة في لسان العرب موضوعة لاستئناف الشيء وابتدائه في المستقبل.
إذا ثبت هذا: فهل يجوز بنية بعد الزوال؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح؛ لأنه جزء من النهار، فصحت نية التطوع فيه، كما قبل الزوال.
والثاني: لا يصح، وهو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن النية لم تصحب معظم النهار، فلم يصح، كما لو نوى مع غروب الشمس.
وإذا نوى صوم التطوع من النهار.. فهل يكون صائمًا من أول النهار، ويثاب عليه، أو من وقت النية لا غير. فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، واختيار المسعودي [في " الإبانة "ق\ 157]-: أنه يكون صائمًا من وقت النية لا غير؛ لأن ما قبل النية لم يوجد فيه القصد إلى القربة، فلم يثب عليه.
والثاني - وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ -: أنه يكون صائما من أول

(3/496)


النهار؛ لأن الصوم في اليوم لا يتبعض، فلا يجوز أن يكون مفطرًا في أوله صائما في آخره، وقول الأول: أنه لم يوجد فيه القصد منه على القربة من أول النهار.. فغير صحيح؛ لأنه قد وجد منه القصد في معظم النهار، فجعل في الحكم كأنه قصد القربة من أوله، كما نقول فيمن أدرك الركوع مع الإمام.. فإنه يجعل في الحكم كأنه أدرك الركعة معه من أولها.
فإذا قلنا: بهذا: وكان قد أكل قبل نية الصوم.. لم يصح صومه، وجهًا واحدًا.
وإذا قلنا: بالأول: وأنه يكون صائمًا من وقت النية، وكان قد أكل في النهار قبل النية.. فهل يصح صومه؟ فيه وجهان، حكاهما في" الإبانة " [ق\157] :
أحدهما - وإليه ذهب الشيخ أبو زيد، وأبو العباس ابن سريج - أنه يصح صومه؛ لأنا قد حكمنا بأنه صائم من وقت النية، ولا اعتبار بما قبل ذلك.
والثاني: لا يصح صومه، وهو المشهور؛ لأنه وإن لم يحكم بصومه إلا من وقت النية، فلا يمتنع أن يشترط في ذلك تقديم شرط على ذلك، كما أنه إذا أدرك الجمعة.. فجمعته من حين أدرك، ويشترط تقديم الخطبة على ذلك الوقت.

[مسألة: وقت الصوم]
] : ويدخل في الصوم بطلوع الفجر الثاني، ويخرج منه بغروب الشمس، وروي ذلك عن عمر وابن عباس.

(3/497)


وروي عن حذيفة: (أنه لما طلع الفجر.. تسحر، ثم صلى) . وروي معنى ذلك عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال مسروق: لم يكونوا يعدون الفجر هذا فجركم، إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق.
وحُكي عن الأعمش، وإسحاق: أنهما قالا: يجوز الأكل إلى طلوع الشمس.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] .
فإن جامع قبل طلوع الفجر، وأصبح وهو جنب.. صح صومه، وروي ذلك عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وأبي الدرداء، وأبي ذر،

(3/498)


وزيد بن ثابت، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال الحسن، وسالم بن عبد الله: يصوم، ويقضي. وروي ذلك عن أبي هريرة.
دليلنا: ما روت عائشة، وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح جنبًا من جماع، لا احتلام، ثم يغتسل، ويصوم» وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن أعرابيًا قال: يا رسول الله، إني أصبح جنبًا وأريد الصوم؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأنا أُصبح جنبًا وأريد الصوم، فأغتسل، وأصوم"، فقال: إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي»

(3/499)


وإن طهرت الحائض قبل الفجر، وأخرت الغسل حتى أصبحت.. لم يؤثر في صومها.
وقال الأوزاعي: (عليها القضاء) .
دليلنا: ما ذكرناه في الجنب، فإن طلع عليه الفجر، وفي فمه طعام، فأكله، أو كان مجامعًا، فاستدام، أو تحرك لغير الإخراج.. وجب عليه القضاء.
وإن لفظ الطعام، أو أخرج مع طلوع الفجر ... لم يبطل صومه.
وقال المزني وزفر: إذا أخرج مع طلوع الفجر.. لزمه القضاء.
دليلنا: أن الإخراج ليس بجماع، وإنما هو ترك للجماع، بدليل: أنه لو كان في دار، فحلف لا أقام فيها، فأخذ في الخروج منها.. لم يحنث.

[فرع: الشك بطلوع الفجر]
] : إذا شك هل طلع الفجر، أم لا. فالمستحب له: أن لا يأكل؛ لئلا يغرر بالصوم، فإن أكل، ولم يبن له طلوع الفجر.. لم يجب عليه القضاء.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يفسد صومه، وعليه القضاء) .
دليلنا: أن الأصل بقاء الليل، وجواز الأكل، فلم يجب عليه القضاء بالشك.
وإن شك في غروب الشمس.. لم يحل له أن يأكل فإن أكل، ولم يتبين له أن الشمس كانت قد غربت.. وجب عليه القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار، وتحريم الأكل.

(3/500)


[مسألة: الأكل عمدًا نهارًا]
] : إذا أكل الصائم بالنهار وهو ذاكر للصوم، عالم بالتحريم، مختار.. بطل صومه، وهو إجماع، وإن صب الماء في أنفه، فوصل إلى دماغه.. بطل صومه، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، والأوزاعي، وداود: (لا يفطر إلا إن وصل إلى جوفه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيط بن صبرة: «أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» . فلا يستقصي في المبالغة، فيصير سعوطا، فلولا أن الفطر يتعلق بما يصل منه.. لما نهى عنه.
ولأن ما يصل إلى دماغ الإنسان يغذي كما يغذي ما يصل إلى الجوف، فوجب أن يفطر به، كالواصل إلى الجوف.
فإن صب الماء في أذنه، فوصل إلى دماغه.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي إسحاق، وأبي علي السنجي -: أنه يبطل صومه؛ لأنه وصل إلى دماغه، فهو كالسعوط.
والثاني - وهو قول المسعودي [في " الإبانة " ق\ 159]-: أنه لا يبطل صومه؛ لأنه لا ينفذ من الأذن إلى الدماغ، وإنما يصل إليه بالمسام، فهو كما لو وصل الكحل من

(3/501)


العين إلى الحلق، وكما لو دهن جلدة بطنه.. فإن جلده يتشرب، ويتحقق أنه يصل إلى البطن ولا يفطر بذلك، بخلاف ما يصل من الأنف، فإنه يصل بمنفذ.
وذكر في " الفروع " إذا دهن بالليل فأحس بالدهن في حلقه بالنهار.. لم يفطر، في قول عامة أصحابنا.
وقال ابن القاص: يفطر؛ لأنه يحلب الفم، ويجمع الريق، فيؤدي على النزول إلى الحلق. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الريق لا يفطر الصائم.

[مسألة: دخول شيء بأحد السبيلين]
] : وإن احتقن الصائم، أو قطر في إحليله شيئا، أو أدخل فيه ميلا.. أفطر به، سواء وصل إلى المثانة أو لم يصل.
وقال الحسن بن صالح، وداود: (لا يفطر بذلك) .
وقال أبو حنيفة: (لا يفطر بالتقطير في الإحليل) .
وقد حكى الشيخ أبو إسحاق وجها لبعض أصحابنا في التقطير وإدخال الميل بالإحليل: أنه لا يفطر به؛ لأن ما يصل إلى المثانة لا يصل إلى الجوف، فهو كما لو ترك في فمه شيئا.
وقال في " الإبانة " [ق\159] : إن وصل إلى المثانة.. أفطر، وجها واحدا، وإن وصل إلى باطن الذكر، ولم يصل إلى المثانة.. ففيه وجهان. والأول هو المذهب؛ لأنه جوف، فتعلق الفطر بالواصل إليه، كالبطن.

(3/502)


[مسألة: وصول شيء للجوف]
] : وإن كان به جائفة أو آمة، فداواها، فوصل الدواء إلى جوفه أو دماغه.. بطل صومه، سواء كان الدواء رطبا أو يابسا.
وقال مالك، وداود: (لا يفطر) .
وقال أبو حنيفة: (إن كان الدواء رطبا أفطر، وإن كان يابسا لم يفطر) دليلنا: أنه وصل إلى جوفه باختياره، فهو كالبطن.
وإن جرح نفسه، أو جرحه غيره بإذنه، فوصلت السكين إلى دماغه أو جوفه.. أفطر.
فقال أبو حنيفة: (إن نفذت الطعنة إلى الجانب الآخر.. أفطر، وإن لم تنفذ لم يفطر) .
دليلنا: ما ذكرناه في السعوط والحقنة.
وإن طعن فخذه، فوصل إلى العظم، أو لم يصل.. لم يفطر؛ لأن ذلك ليس بجوف.

[مسألة: دخول شيء لا يفطر عادة]
] : إذا ابتلع الصائم مالا يؤكل في العادة، مثل الحصى والتراب.. أفطر بذلك.
وقال الحسن بن صالح: لا يفطر بذلك.
وعن أبي طلحة صاحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه كان يأكل البرد وهو صائم، ويقول:

(3/503)


(ما هو طعام ولا شراب، وإنما هو بركة من السماء تطهر به بطوننا) .
دليلنا: أن الصوم هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف، وهذا لم يمسك، ولأنه ذاكر لصومه، وأوصل إلى جوفه ما يمكنه الاحتراز منه، فأفطر، كما لو أكل أو شرب معتادًا.

[مسألة: الإفطار بوصول خيط للجوف]
] : لو أخذ بيده خيطًا، وأدخله في حلقة حتى وصل شيء منه إلى جوفه.. أفطر به.
وقال أبو حنيفة: (لا يفطر) .
وحكى صاحب " العدة ": أن ذلك وجه لبعض أصحابنا. وليس بمشهور؛ لأنه ولو وصل إلى جوفه باختياره مع ذكره للصوم، فهو كما لو ابتلعه جميعه.
وإن استاك فدخل إلى جوفه شيء من رطوبة السواك أو خشبه المتشعثة منه.. قال صاحب " الإبانة "ق\ 160] : أفطر بذلك.

[مسألة: دخول ما يجري مع الريق للجوف]
] : إذا أصبح الصائم، وكان بين أسنانه من الطعام ما يجري به الريق، فخرج بنفسه وجرى مع الريق، قال الشيخ أبو حامد: أو أخرجه، فجرى مع الريق إلى جوفه بغير اختياره.. لم يفطر؛ لأنه لا يمكنه الاحتراز منه، فعفي عنه، كغربلة الدقيق وغبار الطريق إذا دخل فم الإنسان، ونزل في حلقه.

(3/504)


وأما إذا خرج بنفسه، أو أخرجه وأمكنه أن يرمي به، فلم يفعل، بل ابتلعه وهو ذاكر للصوم.. بطل صومه.
وقال أبو حنيفة: (لا يفطر به) .
دليلنا: أنه ابتلع طعامًا يمكنه الاحتراز منه باختياره، فهو كما لو أكل بنفسه.
وإن نزل الريق إلى حلقه على ما جرت به العادة.. لم يفطر، وهكذا: لو اجتمع الريق في فمه بغير اختياره، مثل: أن يطيل الكلام، فيجتمع لأجله الريق، فابتلعه، أو نزلت نخامة من رأسه إلى جوفه، ولم يمكنه رميها.. لم يفطر بذلك؛ لأنه لا يمكنه الاحتراز عن ذلك.
وإن أخرج الريق من فيه إلى يده، وابتلعه، أو أخرج نخامة من صدره أو رأسه وأمكنه رميها، فلم يفعل، وابتلعها.. أفطر بذلك؛ لأنه قد أمكنه الاحتراز منه.
وحكى في " العدة " وجهًا آخر: أنه إذا جذب النخامة من رأسه إلى فمه، ثم ازدردها منه.. أنه لا يفطر بذلك.
والأول أصح وإن ابتلع ريق غيره.. أفطر بذلك.
فإن قيل: فقد روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبلها وهو صائم، ويمص لسانها»
قيل: يحتمل أن يكون مص اللسان في غير الصوم، ويحتمل أن لا يبتلع ذلك وإن جمع في فيه ريقًا كثيرًا، ثم ابتلعه.. ففيه وجهان:

(3/505)


أحدهما: يفطر؛ لأنه قد أمكنه أن لا يجمع في فمه ريقًا كثيرًا، فإذا فعل.. صار كما لو شرب ماء.
والثاني: لا يفطر؛ لأنه أوصل إلى جوفه من معدنه، فهو كما لو كان قليلًا.

[مسألة: القيء عمدًا]
] : إذا استدعى القيء فتقيأ.. أفطر، ووجب عليه القضاء دون الكفارة، وإن ذرعه القيء.. فلا قضاء عليه، وروي ذلك عن علي، وابن عمر، وزيد بن أرقم، وبه قال أبو حنيفة.
وقال عطاء، وأبو ثور: (إذا تقيأ عامدًا.. قضى، وكفر) . وقال أبو ثور: (وإن ذرعه القيء.. قضى، ولا كفارة عليه) .

(3/506)


وقال ابن عباس، وابن مسعود: (لا يؤثر القيء في الصوم، سواء كان عامدًا أو غلبه) دليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استقاء.. فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء.. فلا قضاء عليه»
وروى زيد بن أسلم، عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا يفطر من قاء، أو احتجم، أو احتلم»

[مسألة: جماع الصائم]
] : ويحرم على الصائم المباشرة في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] إلى قوله {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] فإن أولج ذكره في الفرج، أو الدبر، وهو ذاكر للصوم، عالم بالتحريم، مختار.. بطل صومه، سواء أنزل أو لم ينزل؛ لأن ذلك ينافي الصوم فأبطله، كالأكل.
وإن باشرها فيما دون الفرج، بأن قبل، أو لمس، فإن أنزل.. بطل صومه، وإن

(3/507)


لم ينزل.. لم يبطل صومه؛ لما روي «عن عمر: أنه قال: قبلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله، صنعت اليوم أمرًا عظيما، قبلت وأنا صائم، فقال: "أرأيت لو تمضمضت بالماء وأنت صائم؟ "، قلت: لا بأس به، قال: "فمه» فإن قبلها فأمذى.. لم يفطر.
وقال أحمد: (لا يفطر) .
دليلنا: أنه خارج لا يوجب الغسل، فإذا انضم إلى المباشرة.. لم يفسد الصوم، كالبول.
وإن جامع قبل طلوع الفجر، ثم أنزل بعد طلوعه.. لم يفسد صومه؛ لأنه تولد عن مباشرة مباحة، فلم يجب عليه بذلك شيء، كما لو قطع يد رجل قصاصا، فمات المقتص منه.
وإن نظر وتلذذ، فأنزل.. لم يفطر، سواء كرر النظر أو لم يكرره، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إن أنزل من النظرة الأولى.. أفطر، ولا كفارة عليه، وإن كرر النظر، فأنزل.. أفطر، وقضى , وكفر) .
ودليلنا: أنه إفطار عن غير مباشرة، فهو كالاحتلام.
وإذا استمنى بكفه، فأنزل.. أفطر، كما لو قبل، فأنزل.
وإن حك ذكره لعارض، فأنزل.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري، ويشبه أن يكون ذلك بناء على القولين فيمن سبق الماء إلى حلقه في المضمضة والاستنشاق.

(3/508)


وإن احتلم في نهار رمضان.. لم يفطر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء، والحجامة، والاحتلام» ، ولأن هذا حصل بغير اختياره، فهو كما لو طارت في حلقه ذبابة، ودخلت جوفه بغير اختياره.

[مسألة: الإفطار ناسيًا]
] : وإن أكل، أو شرب، أو جامع ناسيًا.. لم يبطل صومه، وبه قال أبو حنيفة.
وقال ربيعة، ومالك: (يفسد صومه، وعليه القضاء في الأكل والجماع)
وقال عطاء والأوزاعي والليث يجب القضاء في الجماع دون الأكل.
قال أحمد: (يجب في الجماع القضاء والكفارة، ويجب في الأكل القضاء لا غير) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أكل ناسيًا أو شرب ناسيا.. فلا يفطر، فإنما هو رزق رزقه الله» فنص على الأكل والشرب، وقسنا عليه غيره.

(3/509)


فإن فعل ذلك وهو جاهل بالتحريم.. لم يبطل صومه؛ لأنه يأثم بذلك، فهو كالناسي.
وإن أوجر رجل الطعام في حلقة وهو مكره، أو أكره امرأته وهي صائمة حتى وطئها، أو استدخلت ذكره وهو نائم.. لم يبطل الصوم بشيء من ذلك؛ لأنه حصل بغير اختيار، فهو كما لو ذرعه القيء.
وإن أكره الرجل حتى أكل بنفسه، أو أكرهت المرأة حتى مكنت من الوطء.. ففيه قولان:
أحدهما: يبطل الصوم؛ لأنه فعل ما ينافي الصوم مع العلم به، لدفع الضرر عنه، فهو كما لو أكل للجوع.
والثاني: لا يبطل صومه؛ لأنه وصل إلى جوفه بغير اختياره، فهو كما لو أوجر في حلقه.
وإن أكره الرجل حتى وطئ، فإن قلنا: في المرأة: إذا أكرهت حتى مكنت بطل صومها.. فهاهنا أولى، وإن قلنا: في المرأة: لا يبطل صومها.. فهاهنا وجهان.
والفرق بينهما: أن الوطء من الرجل لا يكون إلا بالانتشار، وذلك يدل على الشهوة والاختيار.

[فرع: الإيجار لمرض]
] : ذكر في " الإبانة " [ق\160\ أ] : لو أغمي عليه، فأوجر دواء.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يفطر؛ لأنه مغلوب لم يقصده.
والثاني: يفطر؛ لأنه أوجر عامدًا لمداواته، فهو كما لو مرض وتناول دواء.

(3/510)


[فرع: سبق الماء لفم الصائم]
] : وإن تمضمض، فسبق الماء إلى حلقه، أو استنشق، فوصل الماء إلى دماغه.. ففيه قولان:
أحدهما: يبطل صومه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، واختاره المزني، كما لو قبل.. فأنزل.
والثاني: لا يفطر، وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق؛ لأنه وصل إلى جوفه بغير اختياره، فهو كما لو طارت ذبابة على حلقه، ودخلت جوفه.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا لم يبالغ، فأما إذا بالغ: بطل صومه، قولًا واحدًا، وهو اختيار الشيخين أبي حامد وأبي إسحاق، وابن الصباغ.
ومنهم من قال: القولان في الحالين.
وقال الحسن، والنخعي: إن توضأ للمكتوبة.. لم يفطر، وإن توضأ لنافلة.. أفطر، وروي ذلك عن ابن عباس.
دليلنا: أنه شرع المضمضة والاستنشاق في الطهارة للنافلة كما شرعا في الطهارة للفريضة، فاستوى حكمهما.

(3/511)


[مسألة: المفطر بالظن الخاطىء]
مسألة: [المفطر بالظن الخاطئ] : وإن أكل وهو يظن أن الفجر لم يطلع، وكان قد طلع، أو يظن أن الشمس قد غابت، ولم تكن غابت.. فالمنصوص للشافعي: (أنه يجب القضاء) . وهو قول كافة العلماء.
وقال إسحاق بن راهويه، وداود، والحسن، ومجاهد: (لا يجب عليه القضاء)
وحكي المسعودي [في " الإبانة ق\ 160] : أن من أصحابنا من قال: إن أكل وهو يظن أن الفجر لم يطلع، وكان قد طلع.. لم يجب عليه القضاء؛ لأن الأصل بقاء الليل، وإن كان هذا الظن في غروب الشمس.. وجب عليه القضاء، واحتجوا: بما روي: أن الناس في زمان عمر ظنوا أن الشمس قد غربت، فأفطروا، ولم تكن قد غربت، فقال عمر: (والله لا نقضي ما تجانفنا فيه لإثم) ، يعني: ما ملنا إليه.
دليلنا: أنه تعين له يقين الخطأ فيما يؤمن مثله في القضاء، فهو كما لو صلى يظن أن الشمس قد زالت، ثم بان أنها لم تزل.

(3/512)


وما روي عن عمر. وقد روي عنه: أنه قال: (قضاء يوم سهل) فبتعارض الروايتين عنه يسقطان، ويبقى لنا القياس.

[مسألة: الفطر بغير الجماع]
] : إذا أفطر بغير الجماع عامداً، عالماً بالتحريم، بأن أكل، أو شرب أو باشر فيما دون الفرج، فأنزل.. وجب عليه القضاء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من استقاء.. فعليه القضاء"، ولأنه إذا وجب القضاء على من أفطر بعذر.. فلأن يجب على غير المعذور أولى، ويجب عليه إمساك بقية النهار؛ لحرمة الوقت، ولكن لا حرمة لهذا الإمساك، فلو جامع فيه.. لم تجب عليه الكفارة.
واختلف العلماء فيه، كم يقضي عن كل يوم؟
فمذهبنا: أنه يقضي عن كل يوم يوماً.
وقال ربيعة: يقضي عن كل يوم اثني عشر يوماً بعدد شهور السنة.

(3/513)


وقال سعيد بن المسيب: يقضي عن كل يوم شهراً
وقال النخعي: يصوم عن كل يوم ثلاثة آلاف يوم.
وقال علي وابن مسعود: (لا يقضيه صوم الدهر وإن صامه)
دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المجامع في رمضان أن يقضي يوماً مكانه» ، ولأنها

(3/514)


عبادة، فاستوى فيها عدد قضائها وعدد أدائها، كالصلاة،
ولا يجب عليه الكفارة الكبرى، وهي كفارة الجماع.
وقال أبو حنيفة: (تجب الكفارة الكبرى بالجماع التام في نهار شهر رمضان، وهو الوطء في الفرج وبالأكل التام، وهو أن يأكل ما يغتذي به، فإن أكل حصاة أو تراباً.. لم تجب فيه الكفارة) .
وقال مالك: (كل إفطار بمعصية، فإنه يوجب الكفارة) .
دليلنا: أن غير الجماع سبب لا يجب الحد بجنسه، فلم تجب بالإفطار به الكفارة، كما لو تقيأ عامدا، وإن بلغ ذلك السلطان.. عزره؛ لأنه محرم لا يجب فيه حد ولا كفارة، فثبت فيه التعزيز، كمباشرة الأجنبية فيما دون الفرج، وهل تجب فيه الكفارة الصغرى، وهي: أن يطعم عن كل يوم مداً من طعام؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\164] :
أحدهما: يجب عليه؛ لأن عذره ليس بأقوى من عذر المرضع إذا أكلت لأجل ولدها، وتجب الفدية مع القضاء، فكذلك هذا.
والثاني: لا تجب، كما لا تجب الكبرى.
قال: والأول أصح.

[فرع: الفطر لإنقاذ الغريق]
] : قال في " الإبانة " [ق\164] : ولو رأى الصائم من يغرق في الماء، ولا يمكنه تخليصه إلا بأن يفطر ليتقوى.. فله الفطر، ويلزمه القضاء، وهل يلزمه أن يفدي بالمد عن كل يوم؟ فيه وجهان.

(3/515)


[مسألة: إنزال الخنثى لا يفطر]
] : إذا أنزل الخنثى المشكل الماء الدافق في نهار شهر رمضان من آلة الرجال، أو من آلة النساء، لا عن مباشرة، أو رأى الدم من فرج النساء يوما كاملا.. لم يبطل صومه، لاحتمال أن يكون ذلك عضوا زائدا.
وإن أنزل الماء الدافق من فرج الرجال عن مباشرة، ورأى الدم من فرج النساء في ذلك اليوم، واستمر به الدم أقل مدة الحيض.. حكم بفطره؛ لأنه إن كان رجلا.. فقد أنزل عن مباشرة، وإن كان امرأة.. فقد حاضت.
فإن استمر به الدم بعد ذلك اليوم أياما، ولم ينزل عن مباشرة من آلة الرجال.. لم يبطل الصوم إلا في الأيام التي ينفرد برؤية الدم والإنزال، ولا تجب الكفارة على من حكم ببطلان صومه هاهنا؛ لما ذكرناه على أصلنا.

[مسألة: كفارة الوطء]
] : إذا أولج الصائم ذكره في فرج امرأة في نهار رمضان عامدا، عالما بالتحريم، وهو حاضر.. فقد ذكرنا أنه يفسد صومه، وتجب عليه الكفارة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم.
وقال النخعي، والشعبي: لا كفارة عليه، وحكي ذلك عن قتادة، وسعيد بن جبير.

(3/516)


دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن أعرابيا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، هلكت؟ فقال: "ما شأنك؟! " فقال: وقعت على امرأتي في نهار شهر رمضان، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل تجد رقبة تعتقها؟ " قال: لا، قال: "صم شهرين متتابعين"، فقال: لا أستطيع، قال: "أطعم ستين مسكينا" قال: لا أجده، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اجلس"، فبينما هو جالس إذ أتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرق فيه تمر (والعرق) مكتل ضخم". فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خذ هذا، وتصدق به"، فقال: يا رسول الله، أعلى أهل بيت أفقر منا؟! والذي بعثك بالحق نبيا، ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا، قال: فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت ثناياه، وقال: "أطعمه عيالك» .
ولأن الصوم عبادة يدخل في جبرانها المال وهو الشيخ إذ لم يطق الصوم: أطعم، فوجب أن يجب بإفسادها الكفارة، كالحج، ويجب عليه إمساك بقية النهار؛ لأنه غير معذور في ذلك.

[فرع: وطء المسافر في الصيام]
] : إذا نوى المسافر الصوم، وقلنا: يجوز له الإفطار في ذلك اليوم فإن أفطر بالجماع مترخصا.. قضى الصوم، ولا كفارة عليه.
وقال أحمد: (عليه القضاء والكفارة)
دليلنا: أن كل صوم جاز له الإفطار فيه بالأكل جاز بالجماع، كالتطوع.
وإن أفطر بالجماع غير مترخص: ففيه وجهان، حكاهما فيه " الإبانة " [ق\163] :

(3/517)


أحدهما: لا يكفر، كالمترخص.
والثاني: عليه الكفارة؛ لأنه لما لم يترخص.. صار كمقيم جامع، ألا ترى أن المسافر إذا نوى القصر، فقام بنية الإتمام.. جاز، ولو قام متعمداً من غير نية الإتمام.. بطلت صلاته.

[مسألة: الوطء في الدبر]
] : وإن لاط بغلام، أو أتى امرأة في دبرها.. فهو كالوطء في الفرح، وتجب به الكفارة.
وقال أبو حنيفة) لا تجب به الكفارة) .
دليلنا: أنه فرج يجب بالإيلاج فيه الغسل، فوجب فيه الكفارة، كالقتل.
وإن وطئ امرأة ناسياً أو جاهلاً بالتحريم.. فالمشهور من المذهب: أنه لا يجب عليه كفارة شيء.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\162] : أن من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالقولين فيمن وطئ في الحج ناسياً أو جاهلاً؛ لأن كل واحد منهما عبادة يجب بإفسادها الكفارة، والصحيح هو الأول؛ لأنه من محظورات الحج، فاستوى فيه العمد والسهو، وهو كقتل الصيد وإتلاف شجر الحرم والحلق، فجاز أن يلحق به الجماع في أحد القولين، وجميع محظورات الصوم فرق فيها بين العمد والسهو، فكذلك الجماع.

[فرع: إتيان الصائم البهيمة]
] : وأما إتيان البهيمة: ففيه طريقان:
من أصحابنا من قال: إن قلنا: يجب به الحد.. أفسد الصوم، وأوجب الكفارة.
وإن قلنا: لا يجب به الحد.. لم يفسد الصوم، ولو يوجب الكفارة.

(3/518)


ومنهم من قال: يفسد الصوم، ويوجب الكفارة، قولاً واحدا؛ لأنه فرج يجب الغسل بالإيلاج فيه، فهو كفرج المرأة.

[فرع: وطء الخنثى]
] : وإن أولج الخنثى المشكل ذكره في دبر رجل، أو في فرج امرأة أو دبرها، أو في فرج خنثى مشكل أو دبره.. لم يفطر الخنثى المولج؛ لجواز أن يكون ذكره عضواً زائداً، ويفسد صوم المولج فيه، ولا تجب عليه الكفارة؛ لجواز أن يكون ذكره عضواً زائداً، وإنما يكون كما لو أدخل إصبعه في الفرج أو الدبر، وذلك لا يفسد الصوم.
وإن أولج رجل ذكره في دبر خنثى مشكل.. أفطرا، ووجبت الكفارة على كل واحد منهما، إلا أن يكون المولج فيه جارية للمولج، فيكون كزوجته على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وإن أولج الرجل ذكره في فرج خنثى مشكل.. أفطر المولج فيه دون المولج؛ لجواز أن يكون ذلك خلقة زائدة، إلا أن ينزل المولج، فيفطر، وإن أولج الخنثى ذكره في فرج خنثى مثله.. أفطر المولج فيه دون المولج، سواء أنزل المولج أو لم ينزل.
وإن أولج خنثيان كل واحد منهما آلته في فرج صاحبه أو في دبره، أو أولج هذا آلته في فرج صاحبه، وأولج الآخر آلته في دبر الآخر.. أفطرا جميعاً، ولا كفارة على واحد منهما. هكذا ذكره القاضي أبو الفتوح.

[فرع: وجوب القضاء والكفارة]
] : وهل يجب على المجامع قضاء اليوم الذي وطئ فيه مع الكفارة؟ حكى ابن القاص وابن الصباغ فيه قولين - سواء كفر بالعتق، أو الإطعام، أو الصوم-:
أحدهما: لا يجب عليه القضاء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المجامع في نهار رمضان بالكفارة، دون القضاء.

(3/519)


والثاني - وهو الصحيح -: أنه يجب عليه القضاء؛ لأنه قد روي في الخبر: «وصم يوماً مكانه» .
وقال الأوزاعي: (إن كفر بالعتق أو الإطعام.. قضى يوماً، وإن كفر بالصوم.. لم يقض يوماً) .
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\163] : أن القولين إذا كفر بالصوم، فأما إذا كفر بالعتق أو الإطعام.. قضى يوماً، قولاً واحداً. وليس بشيء.

[مسألة: خصال الكفارة]
] : والكفارة الواجبة بإفساد الصوم بالجماع على الترتيب، فيجب عتق رقبة، فإن لم يجد.. فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع.. أطعم ستين مسكيناً، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي.
وقال مالك: (هي على التخيير بين العتق، والصيام، والإطعام) .
وقال الحسن: هو مخير بين عتق رقبة، أو نحر بدنة، أو إطعام عشرين صاعاً أربعين مسكيناً.
دليلنا: ما ذكرناه من حديث أبي هريرة.

(3/520)


وأما صفة الرقبة والصيام والإطعام: فيأتي ذكره في كفارة الظهار إن شاء الله. إذا ثبت هذا: ووطئ الرجل زوجته في نهار رمضان وطئاً يجب به الكفارة.. فعلى من تجب الكفارة؟ ذكر الشيخ أبو حامد: أن في ذلك قولين:
أحدهما: تجب على كل واحد منهما كفارة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، واختاره ابن المنذر؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أفطر في رمضان.. فعليه ما على المظاهر» ، يعني: من الكفارة، والزوجة قد أفطرت بالجماع، فوجب أن تكون عليها الكفارة، ولأنها عقوبة تتعلق بالجماع، فاستوى فيها الرجل والمرأة، كحد الزنا، وفيه احتراز من المهر.
والثاني: تجب الكفارة على الرجل وحده، وهو الصحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الذي جامع في نهار شهر رمضان بالعتق، فإن لم يجد.. فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع.. أطعم ستين مسكيناً، فدل على أن هذا هو ما يجب بالجماع.
فإذا قلنا بهذا: فهل تجب الكفارة عنه وعنها، أو تجب عنه دونها؟ فيه وجهان:
وحكاهما ابن الصباغ قولين:

(3/521)


أحدهما: تجب عليه عنه وعنها. وتعلق هذا القائل بقول الشافعي) والكفارة واحدة عنه وعنها) ، ولأنهما اشتركا في المأثم، فاشتركا في الكفارة.
والثاني: تجب عليه عنه دونها؛ لأنها حق مال يتعلق بالوطء، فكان على الزوج، كالمهر، وتأول هذا القائل قول الشافعي: أنه أراد: أنها تجزئ عنهما جميعاً.
فإن قلنا: يجب على كل واحد منهما كفارة.. اعتبر حال كل واحد منهما بنفسه، فمن كان من أهل العتق.. أعتق، ومن كان من أهل الصيام.. صام، ومن كان من أهل الإطعام.. أطعم.
وإن قلنا: تجب الكفارة على الزوج، فإن قلنا: تجب عليه دونها.. اعتبر حاله أيضاً، وإن قلنا: يتحمل عنها.. نظرت:
فإن استوى حالهما، فإن كانا من أهل العتق.. أعتق رقبة، وكانت عنهما، والذي يقتضي المذهب: أن ولاءها يكون بينهما؛ لأن العتق فيها وقع عنهما. وإن كانا من أهل الصيام.. صام الزوج عن نفسه شهرين وصامت عن نفسها؛ لأن الصوم لا يتحمل. وإن كانا من أهل الإطعام.. أطعم ستين مسكيناً، وكان ذلك عنهما.
وإن اختلف حالهما، فإن كان الزوج أعلى منها، بأن كان من أهل الإعتاق، وهي من أهل الصيام أو من أهل الإطعام، فإن كانت حرة، وأعتق رقبة.. أجزأت عنهما؛ لأن من فرضه الصيام أو الإطعام.. يجزئ عنه العتق، كالحرة المعسرة، وهذا هو المشهور من المذهب.
وحكى صاحب " الإبانة " [ق\ 164] وجهاً آخر: أنهما لا يتداخلان إذا كانتا من جنسين.
فعلى هذا: إن كانت من أهل الصيام.. صامت عن نفسها. وإن كانت من أهل الإطعام.. أطعم عنها. وليس بشيء. وإن كان الزوج من أهل الصيام، وهي من أهل الإطعام.. صام عن نفسه شهرين، وأطعم عنها ستين مسكيناً، لأن تحمل الإطعام عنها بالصوم لا يجوز.
وإن كانت الزوجة أمة والزوج حراً من أهل العتق.. فقد ذكر الشيخ أبو إسحاق في

(3/522)


" المهذب ": أن إعتاق الزوج يجزئ عنها على القول الذي يقول: إن الأمة تملك المال إذا ملكت، فأما على القول الآخر: فلا يجزئ عنها. وذكر الشيخ أبو حامد، وسائر أصحابنا: أن إعتاق الزوج لا يجزئ عنها؛ لأن العتق يتضمن الولاء، والأمة لا يثبت لها الولاء. وهذا يدل على صحة ما ذكرته قبل هذا في الحرة، إذا أعتق الزوج، وقلنا: إن العتق عنهما.. أن الولاء بينهما.
وقد ذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " في المأذون: أن إعتاق العبد في الكفارة لا يصح على القولين؛ لأنه يتضمن الولاء، والعبد ليس من أهل الولاء.
وإن كانت الزوجة أعلى حالاً من الزوج، بأن كانت من أهل العتق، وهو من أهل الصيام أو الإطعام.. فإنه يصوم عن نفسه، أو يطعم ويتحمل عنها العتق في ذمته إلى أن يجد؛ لأن العتق إنما يسقط عن المعسر إذا كان عن نفسه، وهذا إنما هو تحمل عن الزوجة، وذلك يجري مجرى مؤنتها، فثبت في ذمته.
وإن كانت من أهل الصيام، والزوج من أهل الإطعام.. لم يتحمل عنها الصوم؛ لأنه لا يتحمل، بل تصوم عن نفسها، ويطعم عن نفسه

[فرع: وطء المسافر بعد قدومه]
فإن قدم الرجل من، سفره وهو مفطر، فإن وجد امرأته صائمة فأخبرته: أنها مفطرة، فوطئها.. أفطرت، فإن قلنا: يجب على كل واحد منهما كفارة.. وجبت الكفارة عليها دونه. وإن قلنا: تجب عليه الكفارة دونها.. لم يجب على واحد منهما كفارة. وإن قلنا: تجب عليه كفارة عنه وعنها.. وجبت الكفارة في مالها؛ لأنها غرته بأنها مفطرة.
وإن أخبرته بصومها، فوطئها وهي مطاوعة، فإن قلنا: يجب على كل واحد منهما كفارة.. وجبت عليها الكفارة دونه، وإن قلنا تجب عليه دونها.. لم يجب في هذا الوطء كفارة، وإن قلنا: يتحمل عنها.. لزمه أن يعتق عنها إن كانت من أهل

(3/523)


الإعتاق، أو يطعم إن كانت من أهل الإطعام، وإن كانت من أهل الصوم.. صامت عن نفسها، وإن أكرهها على الوطء.. لم تفطر هي؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» .
ولا يجب في هذا الوطء كفارة على الأقوال كلها؛ لأنه لا يجب عليه الكفارة؛ لكونه مفطراً، ولا يجب بسببها كفارة؛ لأنها مكرهة، وإن أكرهها حتى مكنته من الوطء.. ففيه قولان:
أحدهما: حكمهما حكم ما لو كانت مطاوعة.
والثاني: حكمهما حكم ما لو كانت مكرهة.
وقد مضى دليلهما.

[فرع: وطء المجنون زوجته]
] : وإن وطئ المجنون امرأته وهي مطاوعة له.. أفطرت؛ لأنه لا عذر لها، ولا يفطر؛ لأنه معذور.
فإن قلنا: يجب على الفاعلين على كل واحد منهما كفارة.. وجب هاهنا على الزوجة في مالها كفارة، ولا يجب على الزوج كفارة؛ لأنه معذور.
وإن قلنا: يجب عليه دونها.. لم يجب في هذا الوطء كفارة.
وإن قلنا: يتحمل عنها.. فهاهنا وجهان:

(3/524)


[أحدهما] : قال أبو إسحاق: تجب الكفارة عنها في مال الزوج؛ لأن وطأه بمنزلة جنايته، وجنايته مضمونة في ماله.
و [الثاني] : قال أبو العباس: لا يجب عليه شيء؛ لأن المجنون لا قصد له ولا فعل له.
وإن استدخلت المرأة ذكر زوجها وهو نائم.. أفطرت، ولم يفطر الزوج، ولا كفارة عليه.
فإن قلنا: لو وطئها مختارين، يجب على كل واحد منهما كفارة، أو تجب عليه عنه وعنها.. وجبت الكفارة هاهنا في مالها دونه؛ لأنه معذور.
وإن قلنا هناك: يجب عليه الكفارة عنه دونها.. لم يجب بهذا الوطء كفارة.
وإن زنى بامرأة في نهار رمضان.. أفطر.
فإن قلنا في الزوجين: يجب على كل واحد منهما كفارة، أو يجب كفارة عليه عنه وعنها.. وجبت هاهنا على كل واحد منهما كفارة؛ لأن التحمل لحق الزوجية، ولا زوجية هاهنا.
وإن قلنا: يجب عليه كفارة دونها.. وجبت الكفارة هاهنا على الرجل دون المرأة.

[مسألة: الجماع في أيام]
] : وإن جامع في يومين من شهر رمضان أو في أيام.. وجب لكل يوم كفارة، سواء كفر عن الأول أو لم يكفر.
وقال أبو حنيفة: (إن وطئ في اليوم الثاني قبل أن يكفر عن الأول.. كفاه لهما كفارة واحدة، وإن كان قد كفر عن الأول.. ففيه روايتان، الصحيح: أن عليه كفارة للثاني) .
دليلنا: أنه أفسد صوم يومين من شهر رمضان بالجماع، فلزمه كفارتان، كما لو كانا من شهرين، وإن وطئ في اليوم مرتين.. لزمه للأول كفارة، ولا يلزمه للثاني كفارة.

(3/525)


وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كفر للأول.. لزمه أن يكفر للثاني، وإن لم يكفر للأول، كفاه كفارة واحدة) .
دليلنا: أن الوطء الثاني لم يصادف صوماً، فلم تجب فيه الكفارة.
وإن لم ينو الصوم بالليل، وأصبح.. وجب عليه الإمساك لحرمة الوقت، فإن وطئ فيه.. لم تجب عليه الكفارة؛ لأن وطأه لم يصادف صوما.

[مسألة: الجماع حال الفجر]
] : وإن طلع الفجر وهو مجامع، فاستدام مع العلم بالفجر.. وجب عليه القضاء والكفارة، وبه قال مالك، وأحمد رحمة الله عليهما.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه الكفارة) . وبه قال المزني
دليلنا: أنه منع صحة صوم يوم من شهر رمضان بجماع تام أثم فيه، فلزمته الكفارة، كما لو وطئ في أثناء النهار. فقولنا: (منع صحة صوم يوم) حتى لا ينازعونا في الوصف؛ لأنا لو قلنا: إنه أفسد صوم يوم.. ربما قالوا: لا نسلم أنه أفسده، وإنما تركه.
وقولنا: (بجماع تام) احتراز مما لو باشرها فيما دون الفرج، فأنزل.
وقولنا: (أثم فيه) احتراز مما لو ظن أنه ليل، فجامع، ولم يعلم بطلوع الفجر، ثم تبين له بعد النزع أن وطأه صادف النهار.. فإن صومه لا يصح، ويجب عليه القضاء، ولا تجب عليه الكفارة؛ لأن الكفارة تراد لتكفير الإثم، ولا إثم عليه هاهنا.

[مسألة: الجماع بعد الأكل ناسيا]
] : ولو أكل ناسيا فظن أنه أفطر بذلك، ثم جامع.. ففيه وجهان:
أحدهما: - وهو المنصوص -: (أنه لا كفارة عليه) ؛ لأنه وطئ وهو يعتقد إباحته، فهو كما لو وطئ في وقت يعتقد أنه ليل، فبان أنه نهار، ويجب عليه القضاء.

(3/526)


والثاني - وهو قول القاضي أبو الطيب - إن عليه الكفارة؛ لأن الذي ظنه-وهو كونه مفطرا بأكل الناسي- لا يبيح له الوطء، بخلاف ما لو ظن أنه الليل.
وإن أصبح المقيم صائما، ثم سافر، فجامع في ذلك اليوم.. وجبت عليه الكفارة.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب عليه الكفارة) .
دليلنا: أن السفر لا يبيح له الفطر في هذا اليوم، فلا تسقط الكفارة، كالسفر القريب.
وإن أصبح الصحيح صائما، ثم مرض وجامع في مرضه.. لم تجب عيه الكفارة؛ لأن المرض يبيح له الفطر.
وإن جامع، ثم سافر.. لم تسقط عنه الكفارة؛ لأن السفر لا يبيح له الفطر في هذا اليوم، وإن جامع، ثم جن، أو مرض، أو حاضت المرأة في ذلك اليوم.. فهل تسقط الكفارة عن الرجل إذا جن أو مرض، وعن المرأة إذا حاضت؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تسقط، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق؛ لأنه معنى طرأ بعد وجوب الكفارة، فلا يسقطها، كالسفر.
والثاني: تسقط، وبه قال أبو حنيفة، والثوري؛ لأن اليوم يرتبط بعضه ببعض، فإذا خرج آخره عن أن يكون صائما فيه بالجنون أو الحيض، أو خرج عن أن يكون الصوم فيه مستحقا بالمرض.. خرج أوله عن أن يكون صوما أو مستحقا، فلم تجب فيه الكفارة.

[فرع: الجماع في قضاء رمضان]
] : إن وطئ في قضاء شهر رمضان.. لم تجب عليه الكفارة.
وقال قتادة: تجب.

(3/527)


دليلنا: أنه جماع في غير نهار شهر رمضان.. فلم تجب فيه الكفارة، كما لو جامع في يوم النذر.

[فرع: التأويل في حديث الأعرابي]
مسألة: [التأويل في حديث الأعرابي] :
تكلم الشافعي على خبر الأعرابي الذي جامع في نهار شهر رمضان، وأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الشافعي: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خذه فتصدق به " يحتمل تأويلين:
أحدهما: أنه ما ملكه إياه، ولكنه تطوع عنه بالتكفير، وأمره بدفعه إلى المساكين، فلما أخبره بحاجته إليه.. أذن له في أن يأكله، ويطعمه عياله، فأفاد هذا التأويل أن التطوع عن الغير بالكفارة بإذنه يجوز.
والتأويل الثاني: يحتمل أنه ملكه إياه، وأمره أن يكفر به، فلما أخبره بحاجته.. أذن له في أكله، فأفاد هذا التأويل أن الكفارة لا تجب إلا في الفاضل عن الكفاية.
وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أطعمه عيالك» : فيحتمل ثلاث تأويلات:
إحداهن: أنه أذن له في إطعامه عياله، وتكون كفارة عنه، فأفاد هذا التأويل أن من تطوع عن غيره بالتكفير.. جاز له أن يصرفه إلى عيال المكفر عنه إذا كانوا محتاجين؛ لأنهم كغيرهم، وإنما لا يجوز ذلك إذا كان الذي يخرجها هو المكفر.
والتأويل الثاني: أنه أمره بأن يطعمه عياله، وتكون الكفارة في ذمته إلى أن يجدها.
والتأويل الثالث: أنه أمره أن يطعمه عياله، وتسقط عنه الكفارة)
فخرج من هذين التأويلين الأخيرين للشافعي فيمن وجبت عليه الكفارة بسبب من جهته لا على سبيل البدل، وذلك ككفارة إفساد الصوم، والحج، وكفارة الظهار، والقتل، واليمين، فعجز عنها.. فيه قولان:
أحدهما: لا تسقط عنه وتكون في ذمته إلى أن يجدها، وهو الصحيح؛ لأن

(3/528)


الأعرابي قد أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعجزه عن التكفير، فأمر له بعرق فيه تمر، وأمره أن يتصدق به، فلو كانت قد سقطت عنه.. لما احتاج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى دفعها إليه، ولأنها كفارة وجبت بسبب من جهته، فلم تسقط بعجزه، كجزاء الصيد، وفيه احتراز من زكاة الفطر، فإنها لم تجب بسبب من جهته.
والثاني: أنها تسقط عنه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الأعرابي أن يطعمه عياله، ولم يخبره بأنها في ذمته إلى أن يجدها، ولأنه حق مال يجب لله تعالى لا على وجه البدل، فلم يجب مع العجز، كزكاة الفطر.
فقولنا: (حق مال) احتراز من الصوم على الحائض؛ فإنه ثبت في ذمتها.
وقولنا: (لله) احتراز من دين الآدمي.
وقولنا: (لا على وجه البدل) احتراز من جزاء الصيد.

[مسألة: صوم المغمى عليه]
] : إذا نوى الصوم من الليل، فأصبح، ثم أغمي عليه يومين أو ثلاثاً فإن أفاق بعد اليوم الأول.. لا يصح صومه؛ لأنه لم ينو الصوم فيه، وأما اليوم الأول: فقد قال الشافعي في (الصوم) : (إذا أفاق في بعض النهار.. أجزأه)
وقال في (الظهار) : (إذا كان مفيقاً في أول النهار.. أجزأه) .
وقال في " اختلاف العراقيين ": (إذا حاضت المرأة، أو أغمي عليها.. بطل صومها) . واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال أبو العباس: فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: يعتبر أن يكون مفيقاً في أوله لا غير، وهو قول مالك؛ لأن الصوم يفتقر إلى الإفاقة، كما يفتقر إلى النية، والنية معتبرة بأوله، فكذلك الإفاقة.
والثاني: تعتبر الإفاقة في جميع النهار، وإذا أغمي عليه في جزء منه.. بطل صومه؛ لأنه معنى إذا طرأ أسقط فرض الصلاة، فأبطل الصوم، كالحيض.

(3/529)


والثالث: تعتبر الإفاقة في جزء من النهار، وهو قول أحمد؛ لأنه إفاقة في جزء من النهار، فأجزأه، كما لو كان مفيقاً في أوله.
وخرج أبو العباس قولاً رابعاً: أنه يعتبر أن يكون مفيقاً في طرفي النهار لا غير، كما يعتبر في الصلاة النية في أولها وآخرها.
وقال أبو العباس: المسألة على قول واحد، وهو أن الإفاقة تعتبر في أوله لا غير، كما قال في (الظهار) ، وأما الذي ذكره في (الصيام) : فإنه أجمله وبين ذلك في الظهار، وأما الذي ذكره في " اختلاف العراقيين "": فإن ذلك راجع إلى الحيض" لأن من عادة الشافعي أن يجمع بين المسائل، ويعطف بالجواب على بعضها.
وقال المزني: يصح صومه، وإن لم يفق في جزء من النهار، وهو قول أبي حنيفة، كما إذا نام جميع النهار.. فإن صومه يصح.
وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا نام جميع النهار.. لم يصح صومه، كما إذا أغمي عليه جميع النهار.
وما قالاه لا يصح؛ لأنه إذا أغمي عليه جميع النهار.. فقد وجدت منه النية، دون الترك، فلم يصح صومه، كما لو انفرد الترك عن النية.
وأما النوم: فلا يبطل الصوم؛ لأن النائم مكلف، والمغمى عليه غير مكلف.

[فرع: طروء الجنون في الصيام]
] : وإن نوى الصوم، ثم جن أياماً، فإن صوم ما بعد اليوم الأول لا يصح؛ لأنه لم ينو فيه الصوم، وأما صوم اليوم الأول: فحكى صاحب " المهذب " فيه قولين، وصاحب " الإبانة " [ق\ 161] حكاهما وجهين:
أحدهما: أنه كالإغماء؛ لأنه يزيل العقل، ويثبت الولاية على المال، فهو كالإغماء.
فعلى هذا: يكون على الاختلاف المذكور في الإغماء.
والثاني - وهو الصحيح، ولم يذكر في " التعليق " و " الشامل " غيره -: أنه إذا

(3/530)


طرأ الجنون - وإن قل في الصوم- أبطله؛ لأنه يسقط فرض الصلاة، فأبطل الصوم، كالحيض، ولأنه مناف لجميع العبادات، بخلاف الإغماء.

[مسألة: انغماس الصائم في الماء]
] : يجوز للصائم أن يصب على رأسه الماء وينغمس فيه، ما لم ينزل إلى حلقه؛ لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح جنباً، ثم يغتسل، ثم يصوم»
ويجوز للصائم أن يكتحل، وإن وجد طعمه في حلقه.. لم يفطر، وبه قال أبو حنيفة، والأوزاعي.
وقال أحمد، وإسحاق: (يكره له أن يكتحل، وإن وجد طعمه في حلقه.. أفطر) . وحكي عن ابن أبي ليلى، وابن شبرمة: أن الكحل يفطر.
دليلنا: ما روى أبو رافع قال: «نزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر، ونزلت معه، فدعا بكحل إثمد، فاكتحل به في شهر رمضان وهو صائم» ، وروى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كره للصائم السعوط، ولم يكره له الكحل»

(3/531)


ولا يستحب للصائم الحجامة؛ لأنها تضعفه، فربما خرج إلى الإفطار وإن احتجم.. لم يفسد صومه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وروي ذلك عن ابن عباس، وأنس، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن أرقم، وأم سلمة، وابن مسعود، والحسن بن علي.
وذهبت طائفة إلى: أنه يفطر، وروي ذلك عن أبي هريرة، وعائشة، وهو قول الأوزاعي، وعطاء، والحسن.

(3/532)


وقال أحمد، وإسحاق: (يفطر الحاجم والمحجوم) . واختاره ابن المنذر.
وعن أحمد في الكفارة روايتان.
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو صائم محرم» ، ولأنه دم خارج من ظاهر البدن، فأشبه دم الفصد.

[مسألة: لعلك للصائم]
مسألة: [العلك للصائم] قال الشافعي: (وأكره العلك؛ لأنه يحلب الفم) .
وجملته: أنه يكره للصائم مضغ العلك والكندر الذي إذا أصابه الماء والريق: اشتد؛ لأنه يجلب ريق الفم ويعطشه، فأما الكندر الذي يتهرى ويتفتت، فلا يجوز له

(3/533)


مضغه، فإن نزل شيء من ذلك إلى جوفه.. فطره، وإن نزل ريحه.. لم يفطره؛ لأن ذلك ليس بجسم، ويكره للصائم مضغ الخبز، فإن كان معه صبي يحتاج إلى مضغ الخبز له.. لم يكره؛ لأنه موضع ضرورة، فإن نزل إلى حلقه.. أفطر.

[مسألة: القبلة للصائم]
] : ومن حركت القبلة شهوته، وخاف أن ينزل.. كرهت له وقال الشيخ أبو إسحاق والقاضي أبو الطيب: والكراهة كراهة تحريم، وإن لم تحرك شهوته.. لم يكره.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تكره القبلة للصائم بكل حال)
وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا تكره له بحال)
دليلنا: ما روي عن عائشة أُم المؤمنين: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل، ويباشر بعض نسائه، وهو صائم، وكان أملككم لإربه، فقيل: من هي إلا أنت؟ فضحكت» .
وقد روي: (لإربه) - بالكسر-: وهو العضو، ومنه قولهم: (قطعته إرباً إربا) .
وروي: (لأربه) - بالفتح -: وهو الحاجة.
وروى أبو هريرة: «أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القبلة للصائم؟ فأباحها له، وسأله آخر عنها، فكرهها له» . فيحمل ذلك على: أن الذي كرهها له شاب، والذي أباحها له شيخ.

(3/534)


ولأنه يؤمن الإنزال وإفساد الصوم به في حق الشيخ، والشاب الضعيف، ولا يؤمن ذلك في حق الآخر.

[مسألة: مكروهات الصيام]
] : ويكره للصائم اللفظ القبيح، والمشاتمة، والغيبة أكثر مما تكره لغيره، فإن شاتمه غيره، قال: إني صائم؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان أحدكم صائماً.. فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه.. فليقل: إني صائم، إني صائم»
وحكى عن بعض الناس: أنه قال: لا يتلفظ به؛ لأنه يكون إظهاراً لعبادته؛ فيكون رياء، وإنما يقول ذلك في نفسه.
قال ابن الصباغ: ويمكن أن يحمل هذا على ظاهره، ويتكلم بذلك، ولا يقصد به الرياء، وإنما يقصد به كف الخصومة وإطفاء الشر بينهما، وإن خالف وشاتم.. لم يفطره، وهو قول كافة العلماء إلا الأوزاعي، فإنه قال: (يفطر بذلك) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس يفطرن الصائم» فذكر منها الغيبة والنميمة والكذب.

(3/535)


دليلنا: أنه نوع كلام، فلا يفطر به، كسائر أنواع الكلام.
وأما الخبر: فالمراد به: أنه يسقط ثوابه، حتى يصير في معنى المفطر، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال لأخيه والإمام يخطب: أنصت.. فلا جمعة له» . ولم يرد: أن صلاته تبطل، وإنما أراد: أن ثوابه يسقط، حتى يصير في معنى من لم يصل.

[مسألة: الوصال للصائم]
] : يكره الوصال في الصوم، وهو: ترك الأكل والشرب بالليل، وقد كان مباحاً للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو مكروه في حق غيره، وروي عن ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (أنه كان يواصل)
دليلنا: ما روى أنس، قال: «واصل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فواصلوا، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لو أن الشهر مد لي لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم، إني لست مثلكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني» فقيل: معنى هذا:

(3/536)


أني أعطى قوة الطاعمين والشاربين. وقيل: أطعم وأسقى من طعام الجنة، وإنما يقع الإفطار بطعام الدنيا. وقيل: معناه: أن محبة الله تعالى تشغلني عن الطعام والشراب، والحب البالغ قد يمنع من الطعام والشراب، وهل يكره كراهية تنزيه أو تحريم؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه كراهية تحريم؛ لأنه قال: (فرق الله بين رسوله وبين خلقه في أمور أباحها له، وحظرها عليهم) . وذكر عقيبه حديث الوصال، وكذلك ظاهر الحديث يدل على التحريم.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال يكره كراهية تنزيه؛ لأنه إنما نهى عنه لأجل المشقة بما يلحقه، وذلك غير متحقق، فلم يتعلق به التحريم.
فإن واصل.. كان صومه صحيحاً؛ لأن النهي لا يختص بالصوم، وإن أخر الإفطار، وواصل من سحر إلى سحر.. جاز؛ لما روى ابن المنذر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فأيكم أراد أن يواصل.. فليواصل حتى السحر» .

(3/537)


[مسألة: سحور الصائم]
] : يستحب للصائم أن يتسحر؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «استعينوا بنوم النهار على قيام الليل، وبأكل السحور على صيام النهار»
وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تسحروا، فإن في السحور بركة» .
ويستحب تأخير السحور إذا تحقق بقاء الليل، وتعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس؛ لما روى أنس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسحر هو وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما فرغا.. قام نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة، فقيل لأنس: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية»

(3/538)


وروى سهل بن سعد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تزال أُمتي بخير ما عجلوا الفطر» ، ولأن في ذلك مخالفة لليهود والنصارى؛ لأنهم يؤخرون الفطر، ولأن الفطر يحصل بغروب الشمس، فلا معنى لتأخير الأكل.
ويستحب أن يفطر على تمر، فإن لم يجد.. فعلى الماء؛ لما روى سلمان بن عامر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان أحدكم صائماً.. فليفطر على التمر، فإنه بركة، فإن لم يجد.. فعلى الماء، فإنه طهور»
وروى أنس قال «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن.. فعلى تمرات، فإن لم تكن.. حسا حسوات من ماء»
ويكره للصائم إذا شرب الماء أن يتمضمض ويمج ذلك، ويستحب أن يدعو عند إفطاره، فيقول: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت؛ لما روى أبو هريرة

(3/539)


- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو بذلك عند إفطاره)
وعن ابن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أنه كان يقول عند إفطاره: (يا واسع المغفرة، اغفر لي)
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أفطر.. قال: " ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى»
ويستحب أن يفطر الصائم؛ لما روى زيد بن خالد الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من فطر صائما.. كان له مثل أجره، ولا ينقص من أجر الصائم شيء»

(3/540)


[مسألة: قضاء الصوم]
إذا كان عليه قضاء من أيام شهر رمضان.. فإن وقت القضاء فيما بينه وبين شهر رمضان الذي بعده، فالمستحب: أن يقضيه في أول ما يمكنه، فإن أخره حتى دخل رمضان آخر، فإن دام عذره بأن كان مسافراً أو مريضا حتى دخل الشهر الثاني.. صام رمضان، ثم يقضي عن الأول بعد رمضان، ولا شيء عليه.
وقال ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وقتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: (يطعم ولا يقضي)
دليلنا: أنه صوم واجب، فلا يسقط إلى الإطعام مع القدرة على فعله، كالأداء.
وإن لم يكن له عذر في التأخير.. فإنه يصوم رمضان، ثم يقضي ما عليه بعده، ويلزمه مع القضاء عن كل يوم مد، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم.

(3/541)


وقال أبو حنيفة (يقضي، ولا شيء عليه) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أفطر في رمضان لمرض، ثم لم يقض حتى جاء رمضان آخر.. صام الذي أدرك، ثم قضى وأطعم عن كل يوم مسكيناً»
واعتمد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيها على إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأن هذا الخبر فيه ضعف.
وروي عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة: أنهم قالوا: (إذا أخر القضاء حتى جاء رمضان آخر.. فعليه الكفارة) . ولا مخالف لهم.
وإن أخره سنتين أو ثلاثاً.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب لكل سنة مد، قياسا ًعلى السنة الأولى.
والثاني: لا يجب؛ لأن الكفارة وجبت للتأخير فيما بين رمضانين، فلا تجب الفدية بتأخير سنة أخرى.

[مسألة: استحباب التتابع في القضاء]
] : والمستحب: أن يقضي ما عليه متتابعاً.
وقال الطحاوي: التتابع والتفريق سواء.

(3/542)


دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان عليه صوم من رمضان.. فليسرده ولا يقطعه» ولأن فيه مبادرة إلى أداء الفرض، ولأنه أشبه بالأداء، فإن قضاه متفرقاً.. جاز، وبه قال ابن عباس، وأبو هريرة، وأنس، ومعاذ، وأبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي.
وقال علي، وابن عمر، وعائشة: (التتابع واجب) وبه قال الحسن البصري،

(3/543)


وعروة، والنخعي، وداود، إلا أن داود قال: (التتابع ليس بشرط في القضاء) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] . ولم يفرق.
وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان عليه شيء من رمضان.. فليصمه إن شاء.. متتابعا، وإن شاء.. متفرقا» .
وإن كان عليه قضاء اليوم الأول من شهر رمضان، ونوى القضاء عن اليوم الثاني.. فقد خرج الشيخ أبو إسحاق فيها وجهين:
أحدهما: يجزئه؛ لأن تعيين اليوم غير واجب.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه نوى غير ما عليه، فهو كما لو كان عليه عتق عن كفارة اليمين، فنوى العتق عن كفارة الظهار.

[فرع: نذر صوم الدهر]
] : إذا نذر صوم الدهر، ثم أفطر في رمضان لعذر، وزال العذر.. كان عليه أن يقضي ما أفطر في رمضان؛ لأنه آكد من النذر.

(3/544)


وهل يكون نذره منعقدا في أيام القضاء؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ والطبري في " العدة ":
أحدهما: لا يكون منعقدا؛ لأن ترك القضاء إذا كان معصية.. صارت تلك الأيام كشهر رمضان.
فعلى هذا: يأتي بقضاء رمضان، ولا يلزمه لأجل النذر شيء.
والثاني: يكون النذر فيها منعقدا؛ لأنه كان له أن يصوم فيها عن نذره، فشابهت سائر الأيام.
فعلى هذا: إذا قضى شهر رمضان.. هل يلزمه لأجل القضاء شيء؟ قال أبو العباس: يحتمل وجهين:
أحدهما: لا يلزمه شيء، كمن أفطر في رمضان بعذر، ودام عذره حتى مات.
والثاني: يلزمه الإطعام؛ لأنه كان يقدر على أن يصومه عن النذر.
فإذا لم يصمه عنه.. لزمه أن يأتي بفدية عنه، وله أن يخرج الفدية في حياته؛ لأنه قد أيس من القدرة عن الإتيان به، فكان كالشيخ الهم.
وهكذا: إذا نذر صوم الدهر، ثم لزمه صوم كفارة.. كان الحكم مثل هذا؛ لأنها تجب عليه شرعاً، وإن كان بسبب من جهته، فكان آكد من النذر الذي يوجبه على نفسه.

[مسألة: القضاء عن الميت]
] : إذا كان عليه قضاء من شهر رمضان، فلم يصم حتى مات.. نظرت:
فإن دام العذر إلى أن مات.. لم يجب أن يطعم عنه، وبه قال عامة الفقهاء.
وقال قتادة، وطاوس: يطعم عنه لكل يوم مسكين.

(3/545)


دليلنا: أنه فرض لم يتمكن من أدائه إلى الموت.. فسقط حكمه، كالحج.
وإن مات بعد أن تمكن من قضائه.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يصوم عنه وليه) . وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة؛ لما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات وعليه صيام.. صام عنه وليه» ، ولأن الصوم عبادة يدخل في جبرانها المال، فدخلتها النيابة بعد الوفاة، كالحج.
فإذا قلنا بهذا: فصام عنه الولي، أو أمر أجنبيا، فصام عنه بأجرة أو بغير أجرة.. جاز، وإن صام عنه أجنبي بغير إذن الولي.. ففيه وجهان، حكاهما في " الفروع ".
والمشهور: أنه لا يصح.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يصح أن يصام عنه، بل يطعم عنه الولي لكل يوم مسكينا) . وهو الصحيح؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات

(3/546)


وعليه صيام.. أطعم عنه وليه عن كل يوم مداً لمسكين» ، ولأن الصوم عبادة لا تدخلها النيابة في حال الحياة، فلم تدخلها النيابة بعد الوفاة، كالصلاة، وعكسه الحج.
وأما الخبر: فمعناه: فعل عنه وليه ما يقوم مقام الصوم، وهو الإطعام.
فإن مات بعد ما أدركه شهر رمضان آخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه مد واحد، وبه قال مالك؛ لأنه إذا أخرج مدا بدل الصوم.. فقد زال التفريط بالتأخير، فلم يجب لأجله شيء.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يجب عليه مدان: مد للصوم، ومد للتأخير؛ لأنه قد وجب عليه مد بالتأخير إلى دخول شهر رمضان، فإذا مات.. وجب عليه مد بدل الصوم.
قال أبو داود في "سننه ": وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقولن أحدكم: إني صمت رمضان كله، أو قمته كله» ". قال: فلا أدري أكره التزكية؟ أو قال ذلك؛ لأنه لا بد له من نومة أو رقدة.
والله أعلم

(3/547)


[باب صوم التطوع والأيام التي نهي عن الصيام فيها]
وليلة القدر يستحب لمن صام رمضان أن يتبعه بست من شوال، والمستحب: أن يصومها متتابعة، فإن صامها متفرقة.. جاز، وبه قال أحمد.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره ذلك؛ خوف أن يلحق بالفريضة) .
قال مالك: (ما رأيت أحداً من أهل العلم يصومها)
دليلنا: ما روى أبو أيوب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان، وأتبعه بست من شوال.. فكأنما صام الدهر كله» . قال أصحابنا: وهذا صحيح في الحساب؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وصوم شهر رمضان يقوم مقام ثلاثمائة يوم، وهو عشرة أشهر، فإذا صام ستة أيام بعده.. قامت مقام ستين يوماً، وذلك شهران، وذلك كله عدد أيام السنة.

(3/548)


[مسألة: صوم عرفة]
] : ويستحب لغير الحاج صوم يوم عرفة؛ لما روى أبو قتادة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صوم يوم عاشوراء كفارة سنة، وصوم يوم عرفة كفارة سنتين: سنة قبلها ماضية، وسنة بعدها مستقبلة»
قال الصيمري: ومعنى ذلك: أنه يغفر له ذنب ذلك الزمان، أو بمعنى أنه يوفق للعمل الصالح في ذلك الزمان، ولا يستحب ذلك للحاج.
وروي عن عائشة، وابن الزبير: أنهما كانا يصومانه. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن أبي العاص، وقال عطاء: أصوم في الشتاء، وأفطر في

(3/549)


الصيف. وقال يحيى الأنصاري: يجب الفطر يوم عرفة.
وقال أبو حنيفة (يستحب صيامه، إلا أن يضعف عن الدعاء) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة» ، وروت أم الفضل بنت الحارث: «أن ناساً اختلفوا عندها في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة: هل هو صائم، أو مفطر؟ فأرسلت إليه بقدح من لبن، وهو قائم على بعيره بعرفة، فشربه» .
ولأن الدعاء في هذا اليوم مستحب، والصوم يضعفه عن الدعاء.. فلم يستحب. ويستحب أن يصوم يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من المحرم، ومن الناس من قال: يوم عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم.
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة، واليهود يعظمون يوم عاشوراء، فقيل لهم في ذلك، فقالوا: هذا هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيماً له، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نحن أحق بموسى منهم "، فصامه، وأمر الناس بصيامه» .

(3/550)


واليوم الذي ظهر فيه موسى على فرعون: هو يوم العاشر من المحرم، ولا خلاف أنه ليس بواجب في وقتنا.
واختلف أصحابنا: هل كان واجبا في أول الإسلام؟ [على قولين] :
فـ[الأول] : منهم من قال: إنه لم يكن واجبا، وإنما كان مستحبا؛ لما روي: «أن معاوية قدم إلى المدينة، فخطب الناس، وقال: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ هذا يوم عاشوراء، سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن الله لم يكتب علينا صيامه، وأنا صائم، فمن شاء.. صام، ومن شاء.. أفطر» .
والثاني - وبه قال أبو حنيفة -: (إنه كان واجبا، ثم نسخ) ؛ لما روت عائشة: «أن قريشا كانت تصوم في هذا اليوم، فصامه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمر بصيامه، فلما فرض شهر رمضان.. ترك صيامه» .
ويستحب أن يصوم اليوم التاسع من المحرم؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صوموا التاسع والعاشر، ولا تتشبهوا باليهود» .
وروي في لفظ آخر: «لئن عشت إلى قابل.. لأصومن التاسع والعاشر» .

(3/551)


ويستحب أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؛ لما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال «وصاني خليلي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر..» .
وقالت حفصة أم المؤمنين: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم ثلاثة أيام من كل شهر: الاثنين، والخميس، والاثنين من الجمعة الأُخرى»
وقالت عائشة: «ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبالي من أي أيام الشهر يصوم» ، أي: هذه الثلاث.
وروى أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان صائماً.. فليصم الأيام البيض»

(3/552)


فقيل هي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر. هذا هو المشهور.
وقال الصيمري: وقيل: هي الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر.
ويستحب أن يصوم يوم الاثنين والخميس؛ لما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصومهما) ، ويقول: «إن أعمال العباد تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس» ، وكان يقول: «ولدت في يوم الاثنين، وفيه أنزل علي القرآن»

[مسألة: صوم الدهر]
حال القدرة] ولا يكره صوم الدهر، إذا أفطر في أيام النهي، ولم يخف ضرراً من الصوم، ولو يضيع فيه حقاً عليه.
وقال بعض الناس: يكره

(3/553)


وقال أبو يوسف: إنما نهى عن ذلك؛ لأنه يضعفه عن العبادة، ويشبه التبتل الذي نهي عنه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عمن صام الدهر؟ فقال: "لا صام ولا أفطر» .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام الدهر.. فقد وهب نفسه من الله تعالى» .
وأما قوله: «لا صام ولا أفطر» : فيحتمل أنه أراد: إذا لم يفطر في أيام النهي، ويحتمل أن يكون: لأن صائم الدهر يعتاد ذلك، فلا تلحقه المشقة بالصيام، فيكون الصوم والفطر عنده سواء.
وإن خاف ضررا يلحقه، أو ضياع حق عليه.. كره له ذلك؛ لما روي: «أن سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جاء يزور أبا الدرداء، فوجد امرأته متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟

(3/554)


فقالت له: إن أخاك لا حاجة له في شيء من الدنيا، فلقيه سلمان، فقال: إن لربك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فصم وأفطر، وصل ونم، وائت أهلك، وأعط كل ذي حق حقه، فذكر ذلك أبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل ذلك» .
ولا يجوز للمرأة أن تصوم التطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تصم المرأة وزوجها حاضر إلا بإذنه» . فإن صامت بغير إذنه.. صح صومها، والثواب إلى الله سبحانه وتعالى.

[مسألة: استحباب إتمام الصيام]
] : إذا دخل في صوم تطوع، أو صلاة تطوع.. استحب له إتمامهما، فإن خرج منهما.. جاز، سواء كان بعذر أو بغير عذر، ولا قضاء عليه، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وأحمد، وإسحاق.

(3/555)


وقال الأوزاعي وأبو حنيفة) إذا أفسدهما، وخرج منهما قبل إتمامهما.. فعليه القضاء. والمنصوص: أنه لا يجوز له الخروج)
ومن أصحابنا من قال: يجوز.
وقال مالك: (إن خرج منها بعذر.. فلا قضاء عليه، وإن كان بغير عذر.. فعليه القضاء)
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «دخل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا رسول الله، خبأنا لك حيساً، فقال: "أما إني كنت أريد الصوم، ولكن قربيه» ، فأكل، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصائم المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام، وإن شاء أفطر»
«وروت أم هانئ: قالت: دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فناولني فضل شرابه فشربته، فقلت: يا رسول الله، إني كنت صائمة، وإني كرهت أن أرد سؤرك؟

(3/556)


فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كان قضاء رمضان، فصومي يوماً مكانه، وإن كان تطوعاً، فإن شئت.. فاقضي، وإن شئت.. فلا تقضيه»

[مسألة: صوم يوم الشك]
] : ولا يجوز صوم يوم الشك عن شهر رمضان، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي هريرة.
وقال أحمد: (إن كانت السماء مصحية.. لم يجز صيامه، وإن كانت متغيمة.. وجب صيامه عن شهر رمضان) . وروي ذلك عن عمر، وابن عمر، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك، ومعاوية، وأبي هريرة، وعائشة، وأسماء ابنة أبي بكر

(3/557)


وقال الحسن، وابن سيرين: إن صام الإمام ... صامت الرعية، وإن لم يصم الإمام.. لم تصم الرعية.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تستقبلوا الشهر بيوم ولا بيومين، إلا أن يوافق صوماً كان يصومه أحدكم، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم.. فأكملوا العدة ثلاثين يوماً»
فإن صامه عن تطوع.. نظرت:
فإن وافق عادة له، بأن كان يصوم يوم الاثنين والخميس، فوافق ذلك يوم الشك، أو كان يصوم الدهر.. جاز صومه للخبر، وإن صامه تطوعاً من غير موافقة عادة له.. لم يصح؛ لأنه قربة، فلا يصح بفعل معصية، وإن صامه عن

(3/558)


نذر أو قضاء.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، لما روي عن عمار بن ياسر: أنه قال: «من صام اليوم الذي يشك فيه أنه من رمضان.. فقد عصى أبا القاسم» . ولم يفرق.
والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب الطبري، واختيار الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ -: أنه يصح؛ لأنه إذا جاز أن يصوم فيه تطوعاً له سبب.. كان الفرض أولى، كالوقت الذي نهي عن الصلاة فيه.
إذا ثبت هذا: فروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا انتصف شعبان.. فلا صيام حتى يكون رمضان» . واختلف أصحابنا في معناه:
فقال الشيخ أبو إسحاق: معناه إذا أراد صوم يوم الشك عن التطوع الذي لا عادة له به، فإن وصله بما قبل النصف.. جاز، وإن وصله بما بعد النصف.. لم يجز.

(3/559)


وقال ابن الصباغ: يحتمل أن يكون ليتقوى به المفطر على صوم رمضان؛ لأن دليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتقدموا الشهر بيوم ولا بيومين» يجوز أن يتقدمه بأكثر من ذلك.
إذا تقرر هذا: فقال المسعودي [في " الإبانة " ق\157] : يوم الشك هو أن يختلف الناس في هلال رمضان، مثل: "أن يقول العبيد والصبيان: رأينا، فلم نقض بقولهم، فأما إذا لم يختلفوا.. فالشك غير متصور.

[مسألة: إفراد يوم الجمعة بالصوم]
] : وهل يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: يكره، إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده. واختاره صاحب " المهذب ".
وهو قول الزهري، وأحمد، وإسحاق، وروي ذلك عن أبي هريرة؛ لما روي «عن محمد بن عباد بن جعفر: أنه قال: (رأيت جابر بن عبد الله، وهو يطوف بالبيت، فقلت له: هل نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيام يوم الجمعة؟ فقال: إي ورب هذا البيت» .

(3/560)


وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على جويرية بنت الحارث يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: "صمت أمس"؟ قالت: لا، قال: "أفتريدين أن تصومي غداً؟ "، قالت: لا، قال: "فأفطري» .
وروى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام يوم الجمعة، إلا أن يصوم يوماً قبله أو بعده» ، ولأنه إذا صام يوماً قبله، قوي عليه، فلم يجهده يوم الجمعة.
والوجه الثاني: لا يكره، وهو المنصوص في رواية المزني، واختاره ابن الصباغ، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لأنه يوم لا يكره صومه إذا صام قبله أو بعده، فلم يكره إفراده بالصوم، كسائر الأيام، وعكسه الأيام التي نهي عن صيامها.
قال ابن الصباغ: وتأول الشافعي هذه الأخبار على من كان الصوم يضعفه ويمنعه من الطاعة، يعني: يوم الجمعة.

[مسألة: صوم العيدين]
وأما يوم النحر ويوم الفطر: فيحرم صومهما؛ لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام هذين اليومين، أما يوم الأضحى: فتأكلون من لحم نسككم، وأما يوم الفطر: ففطركم عن صيامكم»

(3/561)


فإن صام فيهما.. لم يصح صومه، وإن نذر صومهما.. لم ينعقد نذره.
وقال أبو حنيفة: (يحرم صومهما، وإن نذر صومهما.. انعقد نذره، ولزمه أن يصوم غيرهما، وإن صام فيهما.. أجزأه، وإن صام فيهما عن نذر مطلق.. لم يجزه) .
دليلنا: أنه نذر صوماً محرماً، فلم ينعقد نذره، كما لو نذرت المرأة صوم أيام حيضها.

[مسألة: صوم أيام التمتع]
] : وهل يصح صوم المتمتع في أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يجوز) لما روي عن ابن عمر، وعائشة: أنهما قالا: (لم يرخص في صوم أيام التشريق، إلا لمتمتع لم يجد الهدي)
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجوز) . وبه قال أبو حنيفة؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام ستة أيام: يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام التشريق، واليوم الذي يشك فيه أنه من شهر رمضان»

(3/562)


فإن قلنا بالقول القديم.. فهل يجوز أن يصوم فيها تطوعاً عن غير التمتع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن كل يوم صح صومه عن التمتع.. صح صومه عن غير التمتع، كسائر الأيام.
والثاني: لا يجوز؛ لما ذكرناه عن ابن عمر، وعائشة: (أنه لم يرخص في صومها، إلا لمتمتع لم يجد الهدي) .

[فرع: الجود في رمضان وغيره]
والجود مستحب في جميع الأوقات لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله جواد يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها» وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(3/563)


قال: «الجنة دار الأسخياء»
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا»
ويستحب الإكثار من الجود والإفضال في شهر رمضان لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان، فيعرض عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القرآن، فإذا لقيه.. كان أجود من الريح المرسلة بالخير»

[مسألة: فضل ليلة القدر]
] : ليلة القدر ليلة شريفة معظمة في الشرع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] [القدر: 1] .
قال الشافعي: و (القدر) : الحكم، وسميت: ليلة القدر؛ لأن الله تعالى يقدر

(3/564)


فيها ما يكون في تلك السنة، من خير، ومصيبة، ورزق، وغير ذلك) . والعمل فيها أفضل من العمل في غيرها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] [القدر: 3] .
قال الشافعي: (معناه: أن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة قدر) .
وروى الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان وقام ليلة القدر.. غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»
إذا ثبت هذا: فإن ليلة القدر باقية في شهر رمضان، لم ترفع إلى الآن، وهي في العشر الأواخر منه؛ لما «روى أبو ذر، قال: قلت: يا رسول الله، ليلة القدر رفعت مع الأنبياء، أم هي باقية إلى يوم القيامة؟ قال: "بل هي باقية إلى يوم القيامة"، قال: فقلت: أفي رمضان، أم في غيره؟ فقال: "في شهر رمضان"، فقلت: في العشر الأول، أم الثاني، أم الثالث؟ فقال: "بل في العشر الأواخر»
إذا ثبت هذا: فيستحب طلبها في كل ليلة من العشر الأواخر، وهي في الليلة الحادي والعشرين أظهر.
ونقل المزني أو ليلة الثالث والعشرين) .
وقال المزني: أرى أنها تختلف في كل سنة في العشر الأواخر.

(3/565)


قال ابن عمر: (هي ليلة ثلاث وعشرين) . وذهب أبي بن كعب إلى: (أنها ليلة الخامس والعشرين، أو السابع والعشرين)
وقال أبو قلابة: (إنها تتقلب في كل ليلة منها) .
وقال مالك: (هي في العشر الأواخر، وليس فيها تعيين) .
وقال ابن عباس: (هي ليلة السابع والعشرين) . واحتج: بأن سورة القدر ثلاثون كلمة، وقوله: (هي) تمام السبع والعشرين، فدل على: أنها ليلة السابع والعشرين.
دليلنا أنها تطلب في العشر: ما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر»

(3/566)


وروى أبو سعيد الخدري أيضاً: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أريت هذه الليلة، وأردت أن أخبركم، فتلاحى رجلان، فأنسيتها، لكني سجدت صبيحتها في ماء وطين» .
قال أبو سعيد: «كان المطر في تلك الليلة، وكان المسجد عليه عريش، فوكف، فمر بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى جبهته أثر الماء والطين صبيحة ليلة إحدى وعشرين»
وقال عبد الله بن أنيس: «مر بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين صبيحة ليلة ثلاث وعشرين»
وأما قول ابن عباس: فـ (ليلة القدر) هي الكلمة الخامسة، وهي أصرح من قوله: (هي) ، ولا يدل على وجودها فيها.
وصفتها: أنها ليلة طلقة، لا حارة ولا باردة، تطلع الشمس في صبيحتها بيضاء، مثل الطشت لا شعاع لها.
وروي ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(3/567)


وأما الدعاء فيها: «فقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يا رسول الله، إن وافقتها.. بم أدعو؟ فقال: "قولي: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني»

[فرع: تعليق الطلاق ونحوه على ليلة القدر]
] : إذا قال الرجل: امرأته طالق أو عبده حر ليلة القدر، فإن قال ذلك قبل أن تمضي ليلة من العشر الأواخر.. طلقت المرأة، وعتق العبد الليلة الأخيرة منها، وإن قال ذلك بعد مضي ليلة منها ... لم يقع الطلاق ولا الحرية إلا في مثل تلك الليلة من السنة الثانية، لتيقن حصولها.
وبالله التوفيق

(3/568)