البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الاعتكاف]

(3/569)


كتاب الاعتكاف قال الشافعي: (والاعتكاف لزوم المرء شيئا، وحبس نفسه عليه، براً كان أو إثماً) .
قال الله تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] [الأعراف: 138] .
وقَوْله تَعَالَى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] [الأنبياء: 52] .
يقال: عكف يعكف ويعكف بكسر الكاف وضمها في المستقبل.
وأما في الشرع: فـ (الاعتكاف) : هو اللبث في المسجد على وجه القربة، وهو اسم منقول من اللغة إلى الشرع بنقصان، وهو عبادة مسنونة لا تجب إلا بالنذر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] .
وروى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أراد أن يعتكف.. فليعتكف العشر الأواخر» ، يعني: من شهر رمضان، فعلقه بالإرادة.
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، إلى أن قبضه الله تعالى» .

(3/571)


[مسألة: شروط الاعتكاف]
ولا يصح الاعتكاف إلا من مسلم عاقل.
فأما الكافر: فلا يصح اعتكافه، أصلياً كان أو مرتداً، كما لا يصح منه الصلاة ولا الصوم.
وأما المجنون والمبرسم: فلا يصح منهما؛ ليسا من أهل العبادات، فلم يصح منهما، كالكافر، ويصح الاعتكاف من الصبي المميز، كما تصح منه الصلاة والصوم.

[مسألة: اعتكاف المرأة]
] : ولا يجوز للمرأة أن تعتكف بغير إذن زوجها؛ لأن استمتاعه بها في كل وقت ملك له، فلا يجوز تفويته عليه بغير إذنه.
ولا يجوز للعبد أن يعتكف بغير إذن مولاه، لأن منافعه ملك لمولاه، فلا يجوز تفويتها عليه بغير إذنه.
فإن اعتكفت المرأة بإذن زوجها، أو العبد بإذن مولاه، وكان تطوعاً.. جاز للزوج وللسيد إخراجهما منه.
وقال أبو حنيفة: (للسيد أن يخرج عبده، وليس للزوج أن يخرج زوجته) .
وقال مالك: (ليس للزوج إخراج زوجته، ولا للسيد إخراج عبده) .

(3/572)


دليلنا على إخراج الزوجة: ما روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لعائشة وحفصة وزينب أمهات المؤمنين في الاعتكاف، ثم منعهن من ذلك بعد أن دخلن فيه» .
ولأن من ملك منع غيره من الاعتكاف، فإذا أذن له في الشروع فيه - وكان تطوعا كان له منعه منه، كما لو لم يشرع فيه.
وإن أذن الزوج لزوجته بنذر الاعتكاف، أو أذن السيد لعبده بنذر الاعتكاف، فنذراه.. نظرت:
فإن كان غير متعلق بزمان بعينه.. لم يجز لهما أن يدخلا فيه بغير إذن؛ لأنه على التراخي، وحق الزوج والسيد على الفور.
وإن كان متعلقاً بزمان بعينه.. جاز لهما أن يدخلا فيه بغير إذن؛ لأنه تعين عليه فعله بالإذن.
فإن أذن لأحدهما بالدخول في الاعتكاف في نذر لا يتعلق بزمان بعينه، فدخل فيه.. فهل يجوز له إخراجه منه؟ ينظر فيه:
فإن كان الاعتكاف متتابعاً.. لم يجز له إخراجه منه؛ لأنه لا يجوز له إبطال

(3/573)


عبادته الواجبة، وقد صح اعتكافه، فلو جوزنا له إخراجه منه.. لبطل ما قد فعله، وذلك لا يجوز، كما نقول في الصلاة المفروضة.
وإن كان الاعتكاف غير متتابع.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه وجب بإذنه، ودخل فيه بإذنه، فهو كما لو كان متتابعاً.
والثاني: يجوز؛ لأنه يجوز له الخروج منه، فجاز إخراجه منه، كالتطوع، بخلاف المتتابع.

[مسألة: اعتكاف المكاتب]
] : ويجوز للمكاتب أن يعتكف بغير إذن مولاه.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) . وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين؛ لأن عليه أن يكتسب، ويحصل النجوم، وذلك يبطل بالاعتكاف، وهذا ليس بشيء؛ لأن منافعه غير مملوكة لسيده فجاز له الاعتكاف بغير إذن السيد، كالحر.
وأما من نصفه حر ونصفه مملوك، فإن لم يكن بينه وبين سيده مهايأة.. فلا يجوز له أن يعتكف إلا بإذن سيده، لتعلق حق سيده من كل جزء في اليوم، وإن كان بينهما مهايأه.. جاز له أن يعتكف في اليوم الذي منفعته لنفسه بغير إذن سيده؛ لأنه لا حق لسيده في منفعته فيه، ولا يجوز له أن يعتكف في اليوم الذي منفعته لسيده إلا بإذنه؛ لأن منفعته له.

[مسألة: مكان اعتكاف المرأة]
] : ولا يصح اعتكاف المرأة إلا في المسجد، فإن اعتكفت في مسجد بيتها - وهو الذي جعلته لصلاتها من بيتها- ففيه قولان، حكاهما ابن الصباغ، وصاحب " التتمة ":

(3/574)


أحدهما - وهو قوله في الجديد - (أنه لا يصح) .
و [الثاني] : قال في القديم: (يصح) . وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه موضع فضيلة صلواتها، فكان موضع اعتكافها، كالمسجد في حق الرجل، والأول أصح؛ لأنه موضع يجوز للجنب اللبث فيه، فلم يصح الاعتكاف فيه، كالصحراء. وأما الرجل: فهل يصح اعتكافه في مسجد بيته الذي جعله لصلاته؟
إذا قلنا في المرأة: لا يصح.. فالرجل أولى ألا يصح، وإن قلنا في المرأة: يصح.. ففي الرجل وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\166] ، الأصح: لا يصح، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه لا يستحب له الاستتار، بخلاف المرأة.
قال ابن الصباغ: فأما إذا جعل الرجل أو المرأة في داره مسجداً.. جاز له الاعتكاف فيه، وعلى سطحه؛ لأن السطح من جملة المسجد، ولهذا يمنع الجنب من اللبث فيه.

[مسألة: الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة]
] : ويصح الاعتكاف في جميع المساجد
وقال علي بن أبي طالب، وحماد: (لا يصح إلا في المسجد الحرام)

(3/575)


وقال عطاء: لا يصح إلا في المسجد الحرام، ومسجد المدينة.
وقال حذيفة: (لا يصح إلا في المسجد الحرام، أو مسجد المدينة، أو المسجد الأقصى)
وقال الزهري: لا يصح إلا في مسجد تقام فيه الجمعة. وحكى الشيخ أبو حامد: أن ذلك قول للشافعي في القديم. وليس بمشهور.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يصح إلا في مسجد تقام فيه الجماعة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] .
فعم المساجد ولم يخص؛ ولأنه مسجد بني للصلاة، فجاز الاعتكاف فيه، كالمنفق عليه.

[فرع: تعيين المسجد للاعتكاف]
] : إذا نذر أن يعتكف في مسجد بعينه غير المساجد الثلاثة.. لم يتعين عليه ذلك المسجد، وجاز له الاعتكاف في غيره من المساجد؛ لأنه لا مزية لبعضها على بعض.

(3/576)


ولو نذر أن يصوم في يوم معين.. لم يجز له أن يصوم في غيره من الأيام، والفرق بينهما: أن النذر مردود إلى أصل الشرع، وقد وجب الصوم بالشرع في زمان بعينه، لا يجوز له في غيره، فكذلك إذا نذره، وليس كذلك الاعتكاف، فإنه لم يجب بأصل الشرع في موضع بعينه. هذه طريقة أصحابنا البغداديين.
وحكى الخراسانيون من أصحابنا في المسجد المعين وجهين:
أحدهما: لا يتعين عليه، كما لو نذر الصلاة فيه.
والثاني: يتعين عليه الاعتكاف بذلك المسجد؛ لأن للمسجد تأثيراً في الاعتكاف، هو: أنه لا يصح إلا في مسجد، فتعين بالنذر، كالصوم بخلاف الصلاة، فإنها تصح في غير مسجد، قال أصحابنا البغداديون: قال ابن القاص: ولا يتعين الاعتكاف في مسجد غير المساجد الثلاثة إلا في موضعين:
أحدهما: أن ينذر اعتكافاً متتابعاً، ثم يشرع فيه في مسجد، فلا يجوز له الانتقال إلى غيره؛ لأن خروجه للانتقال يقطعه، وذلك لا يجوز.
والثاني: أن ينذر اعتكاف سبعة أيام، وما زاد متتابعاً، فلا يجوز، إلا في المسجد الذي تقام فيه الجمعة.
وإن نذر أن يعتكف في المسجد الحرام.. تعين عليه الاعتكاف فيه، ولا يسقط هذا النذر بالاعتكاف بغيره من المساجد؛ لما روي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله، إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أوف بنذرك» ، ولأنه يختص بوقوع النسك فيه، وهو الطواف، فتعين الاعتكاف فيه بالنذر.

(3/577)


إذا ثبت هذا: فالذي تبين لي أنه لا يسقط النذر إلا بالاعتكاف في الكعبة، أو فيما في الحجر من البيت، دون مسجد مكة، وقد مضى الدليل عليه في استقبال القبلة.
وإن نذر اعتكافاً في مسجد المدينة أو المسجد الأقصى، فأراد الاعتكاف عن هذا النذر في المسجد الحرام.. صح لأنه أفضل منهما وإن أراد الاعتكاف عن ذلك في غير ذلك من المساجد.. ففيه قولان:
أحدهما: يصح؛ لأنه مسجد لا يجب قصده بالنسك، فلم يتعين بالنذر، كسائر المساجد: المسجد.
والثاني: لا يصح، وهو قول أحمد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشد الرحال إلا ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى»

[مسألة: الاعتكاف بغير صيام]
] : والمستحب: أن يعتكف وهو صائم؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكف العشر الأواخر من رمضان» فإن اعتكف بغير صوم، أو اعتكف بالليل، أو بالأيام التي لا يصح الصوم فيها.. صح اعتكافه، وبه قال في الصحابة علي، وابن مسعود، وفي التابعين الحسن، وفي الفقهاء أحمد، وإسحاق.

(3/578)


وذهبت طائفة إلى: أن من شرط صحة الاعتكاف الصوم، ولا يصح في الأيام التي نهي عن الصوم فيها، ولا بالليل دون النهار، فإن اعتكف وهو صائم، فأفسد صومه.. فسد اعتكافه، ذهب إليه في الصحابة ابن عمر، وابن عباس، وفي الفقهاء مالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، إلا أن أبا حنيفة يقول: (إن ابتدأ الاعتكاف ليلا.. جاز، وكان تبعاً للنهار)
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» وروى ابن عمر: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نذر أن يعتكف ليلة في الجاهلية، فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "أوف بنذرك» .
ولو كان الصوم شرطاً فيه.. لم يصح اعتكافه بالليل.

(3/579)


فإن نذر أن يعتكف يوماً بصوم، فاعتكف من غير صوم.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي الطبري: يصح اعتكافه، وعليه أن يصوم يوماً آخر، كما لو نذر أن يعتكف مصلياً، أو قارئاً، فاعتكف بغير صلاة ولا قراءة.
والثاني: لا يصح اعتكافه، وهو المنصوص؛ لأن الصوم صفة مقصودة بالاعتكاف، فإذا أخل به.. لم يصح اعتكافه، كالتتابع.
قال أبو المحاسن من أصحابنا: فإن نذر أن يعتكف شهراً بصوم، فاعتكف شهراً صائماً عن قضاء لم يجزه خلافا لأبي حنيفة.
دليلنا: أنه التزم بنذره اعتكافه بصفة وهو أن يكون صائما عن نذره فلم يجزه إذا صامه عن القضاء كما لو اعتكف من غير صوم.
وإن نذر أن يعتكف شهر رمضان، فمضى الشهر، ولم يعتكف فيه.. قال الصيدلاني: اعتكف شهراً آخر بغير صوم؛ لأن الصوم لم يلزمه لرمضان من ناحية النذر، لكن من ناحية الشرع.

[مسألة: الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان]
] : الأفضل أن يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف فيهن، فإن اعتكف في غيرها من الزمان.. جاز.
وليس لأقل الاعتكاف حد عندنا، فإن نذر أن يعتكف، وأطلق.. جاز أن يعتكف ما شاء من الزمان.

(3/580)


قال الصيدلاني: ولا بد من مكث في المسجد، فأما أن يدخل ويخرج فلا يجزئه. وبه قال أحمد.
وقال مالك: (لا يصح الاعتكاف أقل من يوم) .
وعن أبي حنيفة روايتان:
إحداهما: رواها عنه الحسن، كقول مالك.
والثانية: رواها محمد في " الأصول "، كقولنا.
دليلنا: أنه لبث في مكان مخصوص.. فأجزأ ما يقع عليه الاسم، كالوقوف بعرفة.
فإن دخل المسجد، ونوى الاعتكاف، ووقف ساعة، ثم خرج، ثم عاد، ونوى الاعتكاف، ثم خرج، ثم عاد، ونوى الاعتكاف، ووقف ساعة.. صح اعتكافه على المذهب.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\166] وجها آخر: أنه لا يصح؛ لأن عادة الإنسان قد جرت هكذا: يدخل المسجد ساعة، ويخرج أُخرى. والصحيح هو الأول؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اعتكف فواق ناقة.. فكأنما أعتق نسمة»

(3/581)


قال: وأصل الوجهين هاهنا الوجهان فيمن نذر اعتكاف يوم، ففرقه بساعات من أيام.

[فرع: نذر الاعتكاف]
] : وإن نذر اعتكاف العشر الأواخر من شهر رمضان، أو أراد أن يعتكف ذلك من غير نذر.. فإنه يدخل فيها قبل غروب الشمس من يوم العشرين من الشهر بلحظة؛ ليستوفي العشر بيقين، وبه قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال الأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور: (يدخل فيه أول نهار الحادي والعشرين) .
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف العشر الأواسط من شهر رمضان، فلما كان عاماً.. أراد أن يعتكف العشر الأواخر، فصعد المنبر في الليلة التي كان يخرج فيها من اعتكافه، فخطب، وقال: "من أراد أن يعتكف العشر الأواخر معنا.. فليلبث في معتكفه» ولأن كل ليلة حكمها حكم اليوم الذي يليها.
إذا ثبت هذا: فإنه يخرج من اعتكافه بآخر جزء من الشهر، تاماً كان الشهر أو ناقصاً؛ لأن العشر اسم لما بين العشرين، وأول الشهر.
وإن نذر أن يعتكف عشرة أيام في آخر الشهر.. لزمه أن يدخل فيه قبل طلوع الفجر من يوم الحادي والعشرين بلحظة؛ لأن اليوم اسم لبياض النهار، وإنما يدخل الليل بينهما تبعاً، ويفارق العشر، فإنه اسم لليل والنهار، فإن نقص الشهر.. لزمه أن يعتكف يوماً آخر؛ لأنه عبارة أيام آحاد، بخلاف العشر.

(3/582)


[مسألة: النذر المعين]
] : إذا نذر اعتكاف شهر بعينه.. لزمه أن يعتكف فيه ليلا ونهاراً، تاماً كان أو ناقصاً؛ لأن الشهر ما بين الهلالين، إلا أن ينذر أيام الشهر أو لياليه، فيلزمه ما سماه لا غير، فإن فات.. لزمه قضاؤه.
فإن كان قد نذر اعتكافه متتابعاً.. لزمه التتابع في القضاء، وحكى صاحب " الإبانة " [ق\167] وجهاً آخر: أنه لا يلزمه التتابع في القضاء؛ لأن التتابع في الأداء لتعين الوقت، كما لو فاته أيام من رمضان، فإنه لا يلزمه التتابع في قضائها. وهذا ليس بشيء؛ لأن التتابع لزمه بالنذر. وإن أطلق النذر.. جاز أن يقضيه متتابعاً أو متفرقاً.
وقال أحمد: (يلزمه أن يقضيه متتابعاً، كالأداء) .
دليلنا: أن التتابع في الأداء بحكم الوقت، فإذا فات.. سقط التتابع، كقضاء شهر رمضان.

[فرع: تعيين زمن الاعتكاف عن الماضي]
] : وإن نذر اعتكاف شهر رمضان، بأن قال: عليه لله أن يعتكف شهر رمضان في سنة تسع وعشرين، وكان في سنة ثلاثين.. لم يلزمه؛ لأن الاعتكاف في زمان مضى محال.
فإن نذر اعتكاف شهر غير معين، فإن اعتكف شهراً بالهلال.. جاز، تاماً كان أو ناقصاً؛ لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين، وإن نذر اعتكاف ثلاثين يوماً.. جاز، فإن شرط التتابع فيها.. لزمه التتابع بالنذر.
وإن أطلق، أو قال: متفرقا، فإن اعتكف متتابعاً.. أجزأه، وإن اعتكف متفرقاً.. فالمنصوص: (أنه يصح) .
وقال أبو حنيفة: (لا يصح) . وهو قول متخرج لنا، حكاه أبو العباس بن سريج.

(3/583)


دليلنا: أنه نذر علقه بمدة مطلقة، فلم يكن من شرطه التتابع، كما لو نذر أن يصوم شهراً.. فإنه يصح أن يأتي به متفرقاً، ووافقنا عليه أبو حنيفة.
وإن نذر اعتكاف يوم.. دخل فيه قبل طلوع الفجر بلحظة، وخرج منه بعد غروب الشمس؛ ليستوفي الفرض بيقين، فإن فرقه في ساعات من أيام.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأن اليوم اسم لما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
والثاني: يجزئه، كما لو نذر اعتكاف شهر.. فإنه يجزئه أن يأتي به من أشهر.

[فرع: نذر الاعتكاف المقيد بزمن]
] : وإن نذر اعتكاف يومين.. فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنه إن شرط التتابع فيهما، أو نوى ذلك.. لزمه اعتكاف اليومين والليلة التي بينهما، وإن أطلق.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه اعتكاف الليلة التي بينهما؛ لأن اليوم اسم لبياض النهار دون الليل.
والثاني: يلزمه أن يعتكف اليومين والليلة التي بينهما؛ لأنه لو شرط التتابع.. لزمه اعتكاف الليلة التي بينهما، والتتابع صفة لا تقتضي الزيادة، فعلم أنها لزمته بإطلاق النذر.
وحكى الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " وجها ثالثاً، واختاره: أنه لا يلزمه اعتكاف تلك الليلة، سواء شرط التتابع أو أطلق؛ لأنه لم يتناولها النذر، فلم يلزمه اعتكافها، كالليلة التي قبل اليومين، والليلة التي بعدهما.
وقال أبو حنيفة: (إذا نذر اعتكاف يومين.. لزمه أن يعتكف يومين وليلتين) .
دليلنا: أن اليوم اسم لبياض النهار، فلا تلزمه الليلة التي بينهما، كسائر الليالي.

(3/584)


وإن نذر اعتكاف ثلاثين يوماً.. فعلى ما قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وإن نذر التتابع أو نواه.. لزمه اعتكاف الأيام والليالي، وجهاً واحداً، وإن أطلق.. لزمه اعتكاف الأيام، وفي الليالي وجهان، وقال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": هل يلزمه اعتكاف الليالي؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يلزمه، كليالي العشر.
والثاني: لا يلزمه لأنه لم يسمها.
والثالث: إن شرط التتابع.. لزمه اعتكافها، وإن لم يشرط التتابع.. لم يلزمه اعتكافها.

[مسألة: النية للاعتكاف]
] : ولا يصح الاعتكاف إلا بالنية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى» ، ولأنها عبادة محضة.. فافتقرت إلى النية، كالصلاة،
قال الشيح أبو إسحاق: فإن كان الاعتكاف فرضا.. لزمه تعيين الفرض؛ ليتميز عن التطوع، فإن دخل فيه، ثم نوى الخروج منه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل، كما لو نوى الخروج من الصلاة.
والثاني: لا يبطل؛ لأنه قربة تتعلق بمكان، فلم تبطل بنية الخروج منه، كالحج، وفيه احتراز من الصلاة، فإنها لا تتعلق بمكان.

[مسألة: خروج المعتكف بغير عذر]
] : وإن خرج المعتكف من المسجد بغير عذر.. بطل اعتكافه؛ لأن الخروج ينافي الاعتكاف، فأبطله بغير عذر، كما لو أكل الصائم، فإن أخرج بعض بدنه.. لم يبطل اعتكافه؛ لما روت عائشة: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اعتكف.. أدنى إلي رأسه لأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» ، وروي عنها: أنها

(3/585)


قالت: «كنت أغسل رأس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا حائض» .
ففي هذا الخبر فوائد:
منها: أن إخراج بعض البدن لا يبطل الاعتكاف.
ومنها: أن يد الحائض ليست بنجسة.
ومنها: أن يد المرأة ليست بعورة؛ لأن المسجد لا يخلو من ناسٍ.
ومنها: أن للمعتكف أن يتزين؛ لأن الترجيل من التزين، بخلاف المحرم.
ومنها: أن المسجد شرط في الاعتكاف.
ومنها: أن الخروج لحاجة الإنسان لا يبطل الاعتكاف.

[مسألة: خروج المعتكف لعذر]
] : يجوز للمعتكف أن يخرج إلى منزله للغائط والبول؛ لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فإن كان للمسجد سقاية، أو بذل له صديق له ذلك في بيته.. لم يلزمه قضاء الحاجة فيه، بل له أن يمضي إلى منزله، قال المزني: وإن بعد.
قال الشيخ أبو حامد: لا أعرف هذه اللفظة للشافعي، وينبغي أن يراعى بعد لا يتفاحش، فإن كان بعداً يتفاحش.. لم يخرج إليه، وهكذا قال الصيدلاني: إذا كان داره بعيداً.. بطل اعتكافه بالخروج إليه؛ لأن أكثر زمانه في غير الاعتكاف.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\168] وجهاً آخر: أنه لا يبطل، كما لو كان داره قريباً.

(3/586)


وإن كان له منزلان، أحدهما أقرب إلى المسجد من الآخر.. فهل له أن يمضي إلى الأبعد لقضاء الحاجة.. فيه وجهان:
أحدهما -وهو الأظهر -: أنه لا يجوز؛ لأنه لا حاجة به إليه، فهو كما لو خرج إلى غير الغائط والبول.
والثاني: يجوز؛ لأنه خروج لحاجته إلى بيته، فهو كما لو لم يكن له بيت سواه. وهل له أن يخرج إلى البيت للأكل؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي العباس بن سريج، ومالك، وأبي حنيفة -: (ليس له ذلك) ؛ لأنه يمكنه الأكل في المسجد.
والثاني: -وهو المنصوص -: (أن له أن يأكل في البيت) ؛ لأن عليه مشقة في الأكل بالمسجد؛ لأن الأكل في المسجد ترك مروءة، وقد يحتاج أن يخفي جنس قوته، وقد يكون في المسجد غيره، فيشق عليه الأكل دونه، وقد لا يكفي الطعام لأكل الجميع، فكان ذلك كله عذرا في جواز الأكل في البيت.

[مسألة: اعتكاف المؤذن]
] : وإن كان المعتكف مؤذنا، فصعد المنارة للأذان، فإن كانت المنارة في المسجد أو في رحبة المسجد- و (رحبته) : ما كان مضافا إليه محجرا عليه - جاز، لأن الرحبة من المسجد، وقد نص الشافعي على: (أنه إذا اعتكف في رحبة المسجد.. صح اعتكافه) .
قال الشيخ أبو حامد: وهكذا لو لم تكن المنارة في الرحبة، إلا أنها ملصقة بالمسجد، وبابها إلى المسجد.. جاز أن يصعد إليها؛ لأنها من جملة المسجد، وإن كانت المنارة منفصلة عن المسجد ورحبته.. فهل يبطل اعتكافه بالخروج إليها للأذان؟
فيه ثلاثة أقوال:

(3/587)


أحدها: يبطل؛ لأنه خروج إلى ما لا حاجة به إليه.
والثاني: لا يبطل، وهو ظاهر النص؛ لأنها بنيت للمسجد وأذانه، فصارت كالملتصقة به.
والثالث - حكاه في " المهذب " عن أبي إسحاق المروزي -: إن كان المؤذن ممن ألف الناس صوته.. لم يبطل اعتكافه بالخروج إليها؛ لأن الحاجة تدعو إليه، لإعلام الناس بالوقت، وإن لم يألفوا صوته.. بطل اعتكافه بالخروج إليها؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك.

[مسألة: صلاة الجنازة للمعتكف]
] : وإن عرضت صلاة جنازة، فإن كان اعتكافه تطوعاً.. فالأفضل أن يخرج، ويصلي على الجنازة؛ لأنها من فرائض الكفايات، والاعتكاف تطوع، فكانت أولى، وإن كان اعتكافه منذوراً.. لم يخرج لصلاة الجنازة؛ لأنها إن لم تتعين عليه.. فليست بواجبة عليه، وإن تعينت عليه.. قال ابن الصباغ: فيمكنه أن يصلي عليها في المسجد، ولا حاجة به إلى الخروج، فإن خرج.. بطل اعتكافه.
وأما الخروج لعيادة المريض: فإن كان اعتكافه تطوعاً.. قال ابن الصباغ في " الشامل ": فقد قال بعض أصحابنا: هي والاعتكاف سواء، فيفعل أيهما شاء، ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " غير هذا.
قال ابن الصباغ: وظاهر السنة بخلاف ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يعرج على المريض، وإنما يسأل عنه، ولا يقف، وكان اعتكافه تطوعاً.
فإن خرج المعتكف لحاجة الإنسان، فسأل عن المريض في طريقه، ولم يقف.. جاز، ولم يبطل اعتكافه؛ لما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج إلى حاجة الإنسان.. يمر بالمريض، ولا يعرج عليه، بل يسأل عنه، ويمضي»

(3/588)


وروي عن عائشة أيضاً: قالت «من السنة أن لا يعود المعتكف مريضاً، ولا يشيع جنازة، ولا يباشر امرأة، ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة لا بد له منها»
وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإن خرج من الاعتكاف لحاجة الإنسان، ثم مر في طريقه بمسجد، واعتكف فيه.. جاز؛ لأن المساجد غير المساجد الثلاثة سواء.

[مسألة: الخروج للجمعة للمعتكف]
] : وإن اعتكف في غير الجامع، وحضرت الجمعة.. لزمه الخروج إليها؛ لأنها فرض على الأعيان، فإن كان اعتكافه تطوعاً.. بطل اعتكافه، وإن كان واجباً، فإن كان غير متتابع.. لم يحتسب له مدة مضيه إلى المسجد، فإذا بلغ المسجد.. بنى على الأول.
وإن كان متتابعاً.. ففيه قولان حكاهما في " المهذب ". وأكثر أصحابنا يحكيهما وجهين:
أحدهما - وهو المشهور -: أنه يبطل اعتكافه؛ لأنه قد كان يمكنه الاحتراز منه، بأن يعتكف في الجامع.
والثاني: لا يبطل؛ لأنه خروج لما لا بد له منه، فهو كالخروج لحاجة الإنسان.

[فرع: خروج المعتكف من المسجد لأداء الشهادة]
] : وإن خرج لأداء شهادة عليه، فإن لم يتعين عليه حال التحمل والأداء، أو تعين عليه التحمل، ولم يتعين عليه الأداء.. بطل اعتكافه؛ لأنه خروج لما له منه بد، وإن

(3/589)


تعين عليه التحمل والأداء.. لم يبطل اعتكافه؛ لأنه خروج لما لا بد له منه، وإن تعين عليه الأداء، ولم يتعين عليه التحمل.. قال الشافعي (خرج من اعتكافه) .
وقال في المرأة (إذا وجبت عليها العدة، فخرجت.. لا ينقطع اعتكافها) .
فقال أبو العباس: لا فرق بينهما، وخرجهما على قولين:
أحدهما: يبطل؛ لأن السبب باختياره.
والثاني: لا يبطل؛ لأنه خروج لما لا بد له منه.
وحملهما أبو إسحاق على ظاهرهما، وفرق بينهما؛ لأن بالمرأة حاجة إلى النكاح؛ لأنه جهة معاينتها، وليس لهذا المتحمل حاجة إلى التحمل، ولأن التحمل الذي تطوع به، ألجأه إلى الأداء، وأما النكاح: فلم يلجئها إلى الطلاق؛ لأن النكاح لا يقصد به الطلاق، بخلاف التحمل.

[مسألة: أعذار الخروج للمعتكف]
] : وإذا مرض المعتكف، فخرج.. نظر فيه:
فإن كان مرضا يسيراً، مثل: الحمى الخفيفة، والصداع اليسير، ووجع الضرس.. لم يجز له الخروج، وإن خرج لذلك.. بطل اعتكافه؛ لأنه يمكنه المقام معه في المسجد من غير مشقة.
وإن كان مرضاً لا يمكن معه المقام في المسجد؛ كانطلاق الجوف الذي يخاف منه تلويث المسجد، وما أشبهه.. جاز له الخروج؛ لأنه موضع عذر، فإذا برئ.. رجع، وبنى على اعتكافه؛ لأنه مضطر إلى الخروج، فهو كالخروج لحاجة الإنسان.
وإن كان مرضاً يمكن معه المقام في المسجد، ولكن بمشقة، مثل: أن يحتاج إلى الفراش والطبيب والمداواة.. جاز له الخروج، وهل يبطل التتابع بذلك؟ قال ابن

(3/590)


الصباغ: ظاهر قول الشافعي: (أنه إذا برئ.. بنى) . قال: ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، كالمرض في الشهرين المتتابعين، هل يبطل. وفيه قولان، ولم يذكر الشيح أبو إسحاق في " المهذب " غير هذا.
فإن أغمي عليه، فأخرج من المسجد.. لم يبطل اعتكافه، قولا واحدا؛ لأنه أخرج بغير اختياره.

[مسألة: السكر والردة تبطل الاعتكاف]
] : قال الشافعي: (وإذا شرب المعتكف، فسكر.. بطل اعتكافه) . وقال: (إذا ارتد المعتكف، ثم أسلم.. بنى على اعتكافه) . واختلف أصحابنا فيهما:
فمنهم من قال: لا يبطل الاعتكاف فيهما؛ لأنهما لم يخرجا من المسجد، وما قال الشافعي في السكران أراد: إذا سكر، وأخرج من المسجد، أو أخرج ليقام عليه الحد؛ لأن الذي وجد منه تناول المحرم، وذلك لا يبطل الاعتكاف.
ومنهم من قال: يبطل اعتكافه بنفس السكر والردة وإن لم يخرج من المسجد؛ لأن السكران ليس من أهل المقام في المسجد، والمرتد خرج عن أن يكون من أهل العبادات.
وقيل: إن مسألة المرتد قرئت على الربيع، فقال: اضربوا عليها؛ لأن الشافعي قال في السكران: (يبطل اعتكافه) . والمرتد أسوأ حالاً منه.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما، وهو المذهب، فيبطل الاعتكاف بنفس السكر ولا يبطل بنفس الردة؛ لأن السكران ليس من أهل المقام في المسجد، والمرتد من أهل الإقامة في المسجد؛ لأنه يجوز إقراره فيه، ألا ترى: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنزل الكفار في المسجد) ، و: (ربط ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد) ؟

(3/591)


[مسألة: حيض المعتكفة]
] : وإذا حاضت المعتكفة.. خرجت من المسجد؛ لأنه لا يمكنها المقام فيه، فإن كان اعتكافها تطوعا.. بنت عليه إذا طهرت، وهكذا: إذا كان نذرا غير متتابع، وإن كان نذرا متتابعاً.. نظرت في المدة المنذورة:
فإن كان مدة لا يمكنها حفظها من الحيض.. لم يبطل التتابع بذلك، كما لو حاضت في صوم الشهرين المتتابعين.
وإن كانت مدة يمكنها حفظها من الحيض.. بطل تتابعها، كما لو حاضت في صوم الثلاث المتتابعة. هذا مذهبنا.
وحكي عن أبي قلابة: أنه قال: (إذا حاضت المعتكفة.. لم تخرج إلى منزلها، بل تضرب خباءها على باب المسجد، فإذا طهرت.. رجعت إلى المسجد) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد لزمها الخروج من المسجد، فلم يؤثر وقوفها على باب المسجد.

[مسألة: إحرام المعتكف بالحج]
] : وإن أحرم المعتكف بالحج.. صح إحرامه، فإن كان الوقت واسعا.. لزمه أن يقعد للاعتكاف، ثم يحج، وإن كان وقت الحج ضيقاً.. لزمه أن يخرج للحج؛ لأن الحج يجب عليه بالشرع، فإذا خرج.. بطل اعتكافه؛ لأن سببه باختياره.

[مسألة: انهدام المسجد حال الاعتكاف المنذور]
قال في " الأم " [2/90] : (وإذا نذر اعتكافاً، ثم دخل مسجداً، فاعتكف فيه، ثم انهدم المسجد: فإن أمكنه أن يقيم فيه.. أقام حتى يتم اعتكافه، وإن لم يمكنه..

(3/592)


خرج، فإذا بني المسجد.. عاد، ويتمم اعتكافه) .
وجملة ذلك: أنه إذا بقي موضع يمكنه أن يقيم فيه.. أقام فيه، وإن لم يتبق منه موضع يقيم فيه.. خرج منه، وتمم ما بقي من اعتكافه في غيره من المساجد، ولا يبطل بالخروج؛ لأنه لحاجة.
وأما قول الشافعي: (فإذا بني المسجد.. عاد، ويتمم) : فتأوله أصحابنا تأويلين:
أحدهما: أنه أراد: إذا عين أحد المساجد الثلاثة، وقلنا بتعين مسجد المدينة، والمسجد الأقصى.
والتأويل الثاني: إذا نذر اعتكافا غير متتابع، ولا متعلق بزمان بعينه: فإذا انهدم المسجد.. كان بالخيار: إن شاء.. اعتكف في غيره، وإن شاء.. انتظر عمارة المسجد المنهدم.
قال الشيخ أبو حامد: ويحتمل تأويلا ثالثاً: وهو أن يكون في موضع ليس فيه إلا مسجد واحد وانهدم.

[مسألة: خروج المعتكف ناسيا]
وإن خرج المعتكف من المسجد ناسيا أو مكرها.. لم يبطل اعتكافه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» .
وإن أكره حتى خرج بنفسه.. فهل يبطل اعتكافه. فيه قولان، كما لو أكره الصائم حتى أكل بنفسه.
وإن أخرجه السلطان، فإن أخرجه بغير حق، مثل: أن يطالبه بما ليس عليه، أو يطالبه بما عليه إلا أنه مفلس، أو طلبه ليصادره بغير حق، فهرب منه.. لم يبطل اعتكافه، وإذا عاد.. بنى؛ لأنه خروج بغير اختياره، وإن أخرجه بحق، مثل: أن يكون عليه دين وهو قادر على قضائه، فأخرجه السلطان ليقضيه.. بطل اعتكافه؛ لأنه خرج باختياره؛ لأنه كان يمكنه أن يقضيه في المسجد.

(3/593)


وإن أخرجه ليقيم عليه حداً.. فذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي في " المجموع "، وابن الصباغ في " الشامل ": أنه لا يبطل اعتكافه؛ لأنه مكره على خروجه، أو لأنه مضطر إليه، فهو كالخروج لحاجة الإنسان.
وذكر في " المهذب ": إن ثبت بإقراره.. بطل اعتكافه؛ لأنه خروج باختياره، وإن ثبت بالبينة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل؛ لأنه اختار سببه.
والثاني: لا يبطل؛ لأنه لم يشرب، ولم يزن، ولم يسرق ليخرج، فيقام عليه الحد.

[مسألة: رجوع المعتكف بعد زوال العذر]
وإن خرج المعتكف من المسجد لعذر، ثم رجع بعد زوال العذر.. جاز.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\168] : ولا يحتاج إلى تجديد النية؛ لأن النية الأولى لم تبطل، وإن أقام بعد زوال العذر.. بطل الاعتكاف؛ لأنه تركه من غير عذر، وإذا رجع.. فعليه تجديد نية أخرى؛ لأن الأولى قد بطلت بالإقامة، فإن كان قد نذر اعتكافا غير متتابع في زمان معين، فدخل فيه بنية الاعتكاف، ثم خرج منه لغير حاجة، أو جامع فيه.. فإنه يبطل اعتكافه بذلك، وإذا رجع.. لم يجب عليه تجديد النية؛ لأن الزمان مستحق للاعتكاف، وقد صح دخوله فيه بالنية الأولى.

[مسألة: يحرم على المعتكف المباشرة بشهوة]
] : ويحرم على المعتكف المباشرة بشهوة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187]

(3/594)


فإن وطئها في الفرج، ذاكراً للاعتكاف، عالما بالتحريم.. فسد اعتكافه؛ لأن كل عبادة حرم فيها الوطء أبطلها، كالصوم والحج، ولا تجب عليه الكفارة.
وقال الحسن، والزهري: تجب عليه الكفارة
دليلنا: أنها عبادة لا ينوب فيها المال، فلم يجب بإفسادها كفارة، كالصلاة. وإن قبلها بشهوة، أو وطئها فيما دون الفرج بشهوة.. حرم عليه ذلك كله؛ للآية، وهل يبطل اعتكافه؟ فيه قولان:
أحدهما: يبطل؛ للآية، والنهي يقتضي الفساد.
والثاني: لا يبطل، وهو الصحيح؛ لأنه عبادة تختص بمكان، فلم تبطل بالمباشرة فيما دون الفرج بشهوة، كالحج.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (إن أنزل.. بطل اعتكافه، وإن لم ينزل.. لم يبطل، كالصوم) . وبه قال أبو إسحاق المروزي من أصحابنا، وهذا لا يصح؛ لأنا لو قلنا يبطل بالإنزال مع المباشرة.. لساوينا بينه وبين الوطء في الفرج، وهذا لا يجوز، بخلاف الصوم، فإنهما يستويان في الإبطال، وللوطء في الفرج مزية بإيجاب الكفارة.

[مسألة: المباشرة بغير شهوة]
] : فإن باشرها بغير شهوة، مثل: أن يعتمد على يدها، أو يقبلها إكراماً لها، فإنه لا يفسد اعتكافه؛ لحديث عائشة: «أنها كانت ترجل شعر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو معتكف» .
وإن جامعها في الفرج ناسيا أو جاهلا بالتحريم.. فقد قال البغداديون، وبعض الخراسانيين من أصحابنا: لا يبطل اعتكافه، قولا واحداً.
ومن أصحابنا الخرسانيين من قال: في جماع الناسي في الصوم والاعتكاف

(3/595)


قولان، كالحج، والصحيح هو الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» . ويخالف الحج، فإن من محظوراته ما سوي فيه بين العمد والخطأ، وهو: قتل الصيد وحلق الشعر، فجعل الوطء من جملتها، بخلاف الصوم والاعتكاف.

[مسألة: التزين للمعتكف]
] : ولا يكره للمعتكف لبس الرفيع من الثياب والطيب.
وقال أحمد: (يكره له ذلك) .
دليلنا: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكف ولم يغير شيئاً من ملابسه) ، ولأنها عبادة لا يحرم فيها ترجيل الشعر، فلم يحرم فيها الطيب، كالصوم، وفيه احتراز من الحج.
ويجوز أن يتزوج ويزوج؛ لأنها عبادة لا يحرم فيها الطيب، فلم يحرم فيها النكاح، كالصوم.
ويستحب له دراسة العلم، وتعليمه، وتعليم القرآن. قال أصحابنا: وذلك أفضل من صلاة النافلة.
وقال مالك، وأحمد: (لا يستحب له قراءة القرآن، وتدريس العلم، ودرسه، وإنما يشتغل بذكر الله، والتسبيح، والصلاة) .
دليلنا: أن القراءة وتدريس العلم قربة وطاعة، فاستحب للمعتكف، كالصلاة والذكر،
ويجوز أن يتحدث بما ليس فيه فحش ومعصية؛ لما روي «عن صفية بنت حيي بن أخطب: أنها قالت: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو معتكف في المسجد لأزوره، فقعد معي، وتحدثنا، فلما قمت.. قام معي ليقلبني إلى أهلي، فرآه رجلان من الأنصار،

(3/596)


فأسرعا، فصاح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال "هذه صفية زوجتي"، فقالا: سبحان الله! يا رسول الله، فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا» .
وهل يكره البيع والشراء في المسجد؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يكره، ولم يذكر في " التعليق " غيره؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البيع والشراء في المسجد» ، وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد، فقال: "أيها الناشد، غيرك الواجد، إنما بنيت المساجد لذكر الله والصلاة» .

(3/597)


والثاني: لا يكره؛ لأنه كلام مباح، فلم يكره، كالحديث، والأول أصح.
قال ابن الصباغ: فإن كان محتاجا إلى شراء قوته، وما لا بد منه.. لم يكره، وإن أكثر من ذلك.. لم يبطل اعتكافه.
وقال في القديم: (إن فعل ذلك، والاعتكاف منذور.. رأيت أن يستقبله) .
وهذا قول مرجوع عنه.
وكذلك تكره الخياطة في المسجد، وما أشبهها، إلا أن يخيط ثوبه وما يحتاج إلى لبسه، فلا يكره.
وقال مالك: (إن كانت الخياطة حرفته.. لم يصح اعتكافه؛ لأنه قعد محترفا، لا معتكفا) ؟
دليلنا: أن الاعتكاف: هو اللبث في المسجد بنية القربة، وقد وجد ذلك منه، فهو كما لو كان نائما فيه.
ويكره له السباب، والجدال، والخصومة؛ لأن ذلك يكره لغير المعتكف، فالمعتكف أولى، فإن فعل ذلك.. لم يفسد اعتكافه، كما قلنا في الصوم.

(3/598)


[فرع: الأكل والحجامة للمعتكف]
] : ويجوز أن يأكل في المسجد، ويضع فيه المائدة؛ لأنها تقي المسجد من أن يتلوث بما يأكله، أو يتناثر فيه شيء من الطعام، فيجتمع عليه الهوام.
ويجوز أن يغسل يديه فيه، فإن غسلها في الطست.. فهو أولى.
قال ابن الصباغ: وأما الحجامة والفصد في المسجد إذا لم يلوث به المسجد.. فيجوز، والأولى: تركه، فإن أراد الخروج لذلك، فإن كانت الحاجة داعية إلى ذلك، بحيث لا يمكن تأخيرها.. جاز الخروج، وإن أمكن تأخيرها.. لم يجز، فيجري مجرى المرض المحتمل وغير المحتمل.
ولا يخرج من المسجد لتجديد الطهارة، وإن توضأ في المسجد.. جاز، وإن توضأ في الطست.. كان أولى.
وأما البول في المسجد في إناء: قال ابن الصباغ: فيحتمل أن يجري مجرى الحجامة والفصد، ويحتمل أن يفرق بينهما، بأن ذلك مما يستحقان به، ويستقبح، فينزه المسجد عنه.

[مسألة: نذر التبرر للمعتكف]
إذا قال: إذا كلمت فلانا، أو: إن كلمته، فلله علي أن أعتكف شهرا، فإن كان

(3/599)


على وجه التبرر والقربة، مثل: أن كان محتاجا إلى كلامه، فقال: إن كلمته-بمعنى: إن رزقني الله كلامه- فلله علي أن أعتكف شهرا.. فإنه إذا رزق كلامه.. لزمه أن يعتكف؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله.. فليطعه، ومن نذر أن يعصيه.. فلا يعصه» .
وإن أراد منع نفسه من كلامه.. فهو نذر لجاج وغضب، فإذا كلمه ... كان بالخيار: بين أن يعتكف شهرا، وبين أن يكفر كفارة يمين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر كفارة يمين» . وهذا معناه.

[مسألة: نذر التتابع للمعتكف]
] : إذا نذر اعتكافا متتابعا، وشرط إن عرض له عارض، أو بدت له حاجة، كمرض أو غيره، أو عيادة مريض، أو شهود جنازة، خرج منه.. صح نذره، فإذا عرض له ذلك.. جاز له الخروج له، فإذا قضى حاجته.. رجع، وبنى على اعتكافه) .
وقال مالك، والأوزاعي: (لا يجوز الشرط في الاعتكاف) .
دليلنا: أنه لا يلزمه بأصل الشرع، وإنما لزمه بنذره فجاز له الشرط فيه، كما لو

(3/600)


أوجبه على نفسه متفرقا، وأما إذا نذر صوما أو صلاة، وشرط الخروج منه عند العارض.. ففيه وجهان، حكاهما في " الفروع ":
أحدهما - ولم يحك في " التعليق " غيره-: أنه يصح كالاعتكاف.
والثاني: لا يصح؛ لأنهما يلزمان في الشرع، بخلاف الاعتكاف.

[مسألة: مما يبطل به الاعتكاف]
] : وإذا فعل المعتكف ما يبطله، من الإقامة في البيت بعد قضاء الحاجة، أو الخروج من المسجد لما لا يجوز له الخروج له، فإن كان اعتكافه تطوعا.. لم يبطل ما مضى منه، ولا يلزمه العود إليه؛ لأنه لا يلزمه بالدخول، وإن كان منذورا، فإن لم يشترط التتابع فيه.. لم يبطل ما مضى، فإذا رجع.. بنى على الأول. وإن شرط فيه التتابع.. بطل اعتكافه الأول، وكان عليه الاستئناف.
وقال أبو يوسف، ومحمد: لا يبطل حتى تكون إقامته أكثر من نصف يوم.
دليلنا: أنه خرج من معتكفه بغير حاجة، فبطل، كما لو أقام أكثر من نصف يوم.

[مسألة: قضاء الاعتكاف عن الميت]
] : إذا مات وعليه اعتكاف واجب.. لم يعتكف عنه، ولم يطعم عنه.
وقال أبو ثور: (يعتكف عنه) . وروي ذلك عن عائشة، وابن عباس.
وقال أبو حنيفة: (يطعم عنه لكل يوم نصف صاع) .

(3/601)


وقد حكي الصيدلاني: أنه يطعم عنه لكل يوم مسكين. ولم أجده لغيره من أصحابنا.
دليلنا: أنها عبادة لا يدخلها الجبران بالمال في الحياة.. فلم يدخلها بعد الوفاة، فلا تقضى، كالطهارة والصلاة
والله أعلم بالصواب

(3/602)