البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الحج]

(4/5)


كتاب الحج والحج في اللغة: هو القصد إلى الشيء المعظم، ومنه قول الشاعر:
وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا
أي: يقصدون، و (السب) العمامة، ويقال: الحج، بفتح الحاء وكسرها، ويسمى الحج: نسكا، بإسكان السين، فـ (النسك) - بإسكان السين ـ: اسم لكل عبادة، وبضم السين: الذبح، قال الله تعالى: {أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .

(4/7)


و (المنسك) : موضع الذبح، وقد يكون موضع العبادة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] [البقرة: 128] .
والأصل في وجوب الحج: الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] ، وقَوْله تَعَالَى لإبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] [الحج: 27] .
وروي: «أن إبراهيم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال " يا رب، وأين يبلغ ندائي؟ فقال الله: عليك النداء وعلينا البلاغ، فقيل: إن إبراهيم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ صعد المقام، وقال: يا عباد الله، أجيبوا داعي الله، فأجابه من في أصلاب الرجال، وأرحام النساء»
فقيل: إنه لا يحج إلا من أجاب دعوته، - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
ومن أدلة الكتاب أيضا قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] [آل عمران: 97] .
قال الشافعي: (قال مجاهد: ومعنى قوله هاهنا {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران: 97] يعني: من إذا حج.. لم يره برا، وإن لم يحج.. لم ير تركه مأثما) .
وروي عن عكرمة: أنه قال: لما نزل قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] [آل عمران: 85] .. قالت اليهود: نحن المسلمون، «فأوحى الله إلى نبيه ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: (مرهم بالحج، فأمرهم بالحج، فقالوا: لم يكتب علينا [وأبوا أن يحجوا] فنزل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] » [آل عمران: 97] .

(4/8)


يعني {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران: 97] من أهل الكتاب.. {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] .
وأما السنة: فما روى ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان» فذكر منها الحج، وفيه أخبار كثيرة.
وأجمع المسلمون: على وجوبه.
وقيل: إن أول من حج البيت آدم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما من نبي إلا وحج البيت.
والدليل على فضله: ما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء عند الله إلا الجنة» .

(4/9)


[مسألة وجوب العمرة]
وأما العمرة: فهل تجب؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا تجب، ولا أرخص بتركها لمن قدر عليها) .
وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وهو قول الشعبي، وروي ذلك عن ابن مسعود من الصحابة؛ لما روى جابر: «أن رجلا سأل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فقال: يا رسول الله، العمرة واجبة؟ فقال: لا، وأن تعتمر خير لك» وروى سراقة بن مالك أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» وأراد: أن وجوبها دخل في وجوب الحج.

(4/10)


ولأنها نسك لا تختص بوقت معين، فلم تكن واجبة بالشرع، كطواف القدوم.
و [الثاني] : قال في الجديد: (هي وجبة) . وبه قال من الصحابة: ابن عمر، وابن عباس، وجابر، ومن التابعين: عطاء، وابن المسيب، وسعيد بن جبير.
والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .

(4/11)


وروي عن ابن عمر، وابن عباس: أنهما كانا يقرآن، (وأقيموا الحج والعمرة لله) ، والقراءة الشاذة تجري مجرى أخبار الآحاد.
وروي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: قلت: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ فقال: عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة»
ووجه الدلالة منه: أنها سألته عن وجوب الجهاد على النساء؟ فقال: نعم، وفسره بوجوب الحج والعمرة.
وروى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «الحج والعمرة فريضتان، لا تبال بأيهما بدأت» .
ولأنها عبادة من شرطها الطواف، فجاز أن تكون واجبة بالشرع، كالحج.

(4/12)


وأما الخبر الأول: فغير صحيح؛ لأنه رواية الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف مدلس، وإن صح ... فيحمل على: أن الرجل سأله عن وجوب العمرة في حق نفسه، فعلم النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاله، وأنها لا تجب عليه، بدليل أنه قال له: «وأن تعتمر خير لك» ، ولو كان السؤال على العموم.. لقال: وأن تعتمروا خير لكم.
وأما الخبر الثاني: فلا حجة في ظاهره؛ لأنه يقتضي: أن العمرة قد كانت واجبة، ودخل وجوبها في وجوب الحج، وهذا لا يقوله أحد، وإذا كان ذلك كذلك.. كان له تأويلان:
أحدهما: أن وقت العمرة دخل في وقت الحج إلى يوم القيامة؛ لأن العرب كانت لا ترى العمرة في أشهر الحج، فأمرهم النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أن يعتمروا في أشهر الحج، وقال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» .
والثاني: أنه أراد أن أفعال العمرة دخلت في أفعال الحج، إذا جمع بينهما القران.
وأما طواف القدوم: فليس من الأفعال الراتبة في الحج، وإنما هو لتعظيم البيت، فلم يجب كتحية المسجد.
إذا ثبت هذا: فإن الحج والعمرة لا يجبان - بالشرع - في العمر إلا مرة واحدة.

(4/13)


وقال بعض الناس: يجب في كل سنة. وهذا القائل محجوج بإجماع الأمة، وبما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يخطب فقال: «أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " فقام رجل فقال يا رسول الله، الحج واجب في كل سنة؟ فسكت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، فأعادها ثانيا، فسكت، فأعادها ثالثا، فقال: لو قلت نعم.. لوجب، ولو وجب.. لم تقوموا به»
وروي: «أن الأقرع بن حابس قال: يا رسول الله: الحج في الدهر مرة أو أكثر؟ فقال: بل مرة، وما زاد فهو تطوع» .
«وروي أنه قيل له: يا رسول الله، أحجنا هذا لعامنا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد»

[مسألة دخول مكة لغير الحج]
ومن أراد دخول مكة لغير الحج والعمرة ... فهو ينقسم على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يدخلها لقتال، مثال: أن يكون فيها قوم بغاة على الإمام، فيحتاج إلى

(4/14)


قتالهم، أو يدخلها خائفا من ظالم، أو يخاف غريما له يلازمه ويحبسه، ولا يتمكن من أداء حقه، فيجوز له أن يدخلها بغير إحرام؛ لـ «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلها يوم الفتح وعلى رأسه المغفر» ، وهذه صفة من ليس بمحرم.
فإن قيل: فهذا كان خاصا له لأنه قال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ:
«مكة حرام، لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار» .
فالجواب: أن معناه: أحلت لي ولمن هو في مثل حالي.
فإن قيل فعندكم: أنه دخلها مصالحا. قلنا: إنما وقع منه الصلح مع أبي سفيان، ولم يك ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمنا من غدرهم، فلذلك دخلها بغير إحرام.
والضرب الثاني: أن يدخلها لتجارة، أو زيارة، أو كان مكيا، فسافر إلى غيرها، ثم رجع إلى وطنه.. ففيه قولان:
أحدهما: يستحب له الإحرام، ولا يجب عليه، وبه قال ابن عمر، لما روي: «أن الأقرع بن حابس قال: يا رسول الله، الحج مرة أو أكثر؟ فقال: بل مرة، وما

(4/15)


زاد فهو تطوع» ولأنه داخل إلى مكة لغير نسك، فلم بجب عليه الإحرام، كالحطابين.
والثاني ـ هو الأشهر ـ: أنه يجب عليه الإحرام؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار» .
والضرب الثالث: أن يدخلها لحاجة تتكرر، كالحطابين، والصيادين، ومن ينقل الميرة، فالمنصوص: (أنه يجوز لهم أن يدخلوها بغير إحرام) .
غير أن الشافعي قال: (ينبغي لهم أن يحرموا في كل سنة مرة؛ لكي لا يستخفوا بحرمة الحرم، ولا تلحقهم مشقة في ذلك) .
والأول أصح؛ لأن دخولهم يكثر، فلو أوجبنا عليهم الإحرام.. شق وضاق، ولا معنى لوجوبه في وقت دون وقت.
وهذا نقل الشيخ أبي حامد.
وذكر المسعودي [" في الإبانة " ق \ 180 "] : هل يجب عليهم الإحرام؟ فيه وجهان:
فإن قلنا: يجب الإحرام على من يدخلها لزيارة أو تجارة لا تتكرر، فدخلها بغير إحرام.. لم يجب عليه القضاء.
وقال أبو حنيفة: (عليه أن يقضي، فإن أتى بباقي سنته بحج أو عمرة.. أجزأه عن القضاء) .
دليلنا: حديث الأقرع بن حابس، ولأن الإحرام لدخول مكة مشروع؛ لحرمة المكان، فإذا لم يأت به ... لم يجب قضاؤه، كتحية المسجد.
فإن قلنا: تحية المسجد لا تقضى؛ لأنها سنة، والإحرام لدخول مكة واجب: فالجواب: أن تحية المسجد لم يسقط قضاؤها، لكونها سنة؛ لأن المسنونات

(4/16)


تقضى، ألا ترى أن النوافل الراتبة تقضى، وليست بواجبة، وكذلك التكبيرات في الصلاة والتسبيح، وإنما لم تقض؛ لأنها متعلقة بحرمة المكان.
قال ابن الصباغ: وذكر أصحابنا دليلا آخر: وهو أن إيجاب القضاء يؤدي إلى تسلسل القضاء، فإن الدخول الثاني يجب لأجله أيضا إحرام، وما أتى به كان عما تقدم قبله.
وقد فرع ابن القاص على هذا الدليل، فقال: لا يجب القضاء إلا في مسألة واحدة، وهو إذا دخل بغير إحرام، ثم صار حطّابا ... فإنه يجب القضاء؛ لأنه لا يتسلسل القضاء.
قال ابن الصباغ: وهذا ضعيف؛ لأن الدخول إذا كان بإحرام ... كفاه، سواء كان لأجله أو لأجل غيره، كالصوم في الاعتكاف، قال: وهذا كما قلنا - فيمن أفسد القضاء في الحج ـ: لا يجب عليه قضاءان، وإنما يجب عليه قضاء واحد.
والدليل الصحيح: ما تقدم.

[فرع دخول البريد مكة]
] . وأما البريد: فإنه يتكرر دخوله، قال ابن الصباغ: فمن أصحابنا من قال: هم مثل الحطّابين، ومنهم من قال: فيه وجهان.

[مسألة شروط الحج]
] . ولا يجب الحج والعمرة، إلا على مسلم، بالغ، عاقل، حر، مستطيع.
فأما الكافر: فإن كان أصليا: فلا يصح منه؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «أيما أعرابي حج، ثم هاجر ... فعليه حجة الإسلام» وأراد بقوله: " هاجر " أي: أسلم. وهل يأثم بتركه

(4/17)


في حال كفره؟ فيه وجهان، بناء على أن الكفار مخاطبون بالشرعيات.
وإن كان مرتدا ... لم يصح منه؛ لأن الكفر ينافي العبادات، فلا يصح فعلها معه، كالصلاة والصوم، ولكنه يأثم بتركه في حالة الردة؛ لأنه قد التزم وجوبه بالإسلام، فلا يسقط بالردة.
وأما المجنون: فلا يصح منه؛ لأنه ليس من أهل العبادات، ولا يجب عليه؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «رفع القلم عن ثلاثة " فذكر فيه: " وعن المجنون حتى يفيق» .

[مسألة حج الصبي]
وأما الصبي: فلا يجب عليه الحج؛ للخبر، ولأن الحج من عبادات البدن، فلا يجب عليه، كالصلاة والصوم.
ويصح منه، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح الحج من الصبي، وإنما يأذن له الولي في الإحرام؛ ليتعلم أفعال الحج، ويجتنب ما يتجنب المحرم، فإن فعل شيئا من ذلك.. فلا فدية عليه) .

(4/18)


دليلنا: ما روى ابن عباس ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـ «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قفل من مكة، فلما بلغ الروحاء.. لقيه ركب، فقال: " من القوم؟ " قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: " رسول الله " فرفعت امرأة صبيا من محفتها، وقالت: يا رسول الله، ألهذا الصبي حج؟ فقال: نعم، ولك أجر»
وروي «عن ابن عباس: قال: خرجنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فكنا نحرم عن أنفسنا وعن الصبيان»
ولأن الحج عبادة يصح التنفل بها، فصحت من الصبي، كالطهارة.
إذا ثبت هذا: فإن كان الصبي مميزا وأحرم بإذن الولي , صح إحرامه، وإن أحرم بغير إذن الوالي ففيه وجهان:

(4/19)


أحدهما: يصح، وهو قول أبي إسحاق؛ لأنه عبادة، فصح إحرامه فيها بغير إذن الولي، كالصلاة والصوم.
والثاني لا يصح، وهو الصحيح؛ لأن الحج يتعلق أداؤه بإنفاق المال، والصبي لا يملك إنفاق المال بغير إذن الولي، كالبيع والشراء، بخلاف الصلاة والصوم.
وإن كان الصبي غير مميز.. أحرم عنه الولي.
قال الشيخ أبو حامد: فينوي الولي أنه جعله محرما، فيصير الصبي محرما بذلك، سواء كان الولي محلا أو محرما، وسواء كان الولي قد حج عن نفسه أو لم يحج، فإنه يصح؛ لأنه لا يحرم هو، وإنما يعقد الإحرام له.
وأما الولي الذي يحرم عنه: فذكر الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: إن كان الولي أبا أو جدا.. جاز أن يحرم عنه إن كان غير مميز، ويأذن له في الإحرام إن كان مميزا؛ لأنهما يليان على ماله بغير تولية.
فأما غيرهما من العصبات: كالأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم.. فإن لهم حقا في الحضانة، وتعليم الصبي وتأديبه، ولا يملكون التصرف في ماله بأنفسهم إلا بوصية من الأب أو الجد، أو تولية من الحاكم، فإن جعل لهم التصرف بماله.. كان لهم أن يحرموا عنه، أو يأذنوا له في الإحرام، وإن لم يجعل إليهم التصرف بماله..فلهم أن يحرموا عنه بالحج، أو يأذنوا له في الإحرام؟ فيه وجهان:
أحدهما: لهم ذلك؛ لأنه لما كان لهم تعليمه وتأديبه والإنفاق على تلك الأشياء من ماله، فكذلك الإحرام بالحج.
والثاني: ليس لهم الإحرام عنه، ولا الإذن له بالإحرام، وهو الصحيح؛ لأنهم لا يملكون التصرف في ماله، فلم يكن لهم الإحرام عنه، ولا الإذن بالإحرام كالأجانب، ويخالف النفقة على التأديب والتعليم؛ لأنه نفل، فسومح به.
وأما الأم: فإن قلنا بقول أبي سعيد الإصطخري، وأنها تلي على ماله بنفسها.. فلها أن تحرم عنه، وقد احتج الإصطخري بهذا الخبر، حيث قال لها النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «نعم، ولك أجر»

(4/20)


وإن قلنا بمذهب الشافعي، وأنها لا تلي بنفسها على مال الصبي.. فهي كسائر العصبات: من الإخوة وبينهم، والأعمام وبينهم، وقد ذكرنا حكمهم.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فذكر في " المهذب " أن الأم تحرم عنه؛ للخبر، ويجوز للأب والجد أن يحرما عنه، قياسا على الأم.
قال ابن الصباغ: وليس في الخبر ما يدل على أن الأم أحرمت عنه، ويحتمل أن يكون أحرم عنه وليه، وإنما جعل لها الأجر بحملها له، ومعونتها له على مناسك الحج، والإنفاق عليه.
إذا تقرر ما ذكرناه، وصح إحرام الصبي ... فإنه يفعل بنفسه ما يقدر عليه، وما لا يقدر عليه.. يفعله عنه الولي؛ لما روي عن ابن عمر: أنه قال: (كنا نحج بصبياننا، فمن استطاع منهم.. رمى، ومن لم يستطع.. رمي عنه) .

[فرع نفقة الصبي في الحج]
] . وأما نفقة الصبي في الحج: قال الشيخ أبو حامد: فلا يختلف المذهب أن القدر الذي يحتاج إليه من النفقة في الحضر يكون في ماله، وما زاد على ذلك لأجل الحج.

(4/21)


فيه وجهان. وأما القاضي أبو الطيب: فحكاهما قولين، واختار ذلك الشيخ أبو إسحاق صاحب " المهذب " إلا أنه قال: وفي نفقة حج الصبي قولان - ولعله أراد ما زاد لأجل الحج:
أحدهما: يتعلق بمال الصبي؛ لأنه يتعلق بمصلحته، فهو كأجرة التعليم.
والثاني: في مال الولي، وهو الصحيح؛ لأنه أدخله فيما له منه بد.
قال الشيخ أبو حامد: ويفارق أجرة التأديب والتعليم؛ لأن ذلك نفقة يسيرة ولا تجحف بماله، ونفقة الحج كثيرة. ولأن بالصبي حاجة إلى تعلم القرآن الصلاة قبل البلوغ ليتمرن عليه ولا يكسل عن ذلك بعد البلوغ، ولا حاجة به إلى التطوع بالحج. ولأن الصلاة تجب على الفور إذا بلغ، ومن شرط صحتها القراءة، فإذا لم يتعلم القراءة قبل البلوغ.. احتاج إلى أن يتعلمها بعد البلوغ، وإلى أن يتعلمها تفوته الصلاة، بخلاف الحج، فإنه على التراخي.

[مسألة حج العبد]
وأما العبد: فلا يجب عليه الحج؛ لأن منافعه مستحقة لمولاه، فلم يجب عليه، فإن أحرم بإذن المولى.. صح إحرامه؛ لأنه من أهل العبادات، وإن أحرم بغير إذن المولى.. صح إحرامه، وللمولى أن يحلله منه؛ لأن عليه ضررا في بقائه على الإحرام.
وقال داود: (لا يصح إحرامه بغير إذن المولى) .
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «وأيما عبد حج ثم أعتق.. فعليه حجة الإسلام» . ولم

(4/22)


يفرق بين أن يحرم بإذن سيده أو بغير إذنه، ولأنها عبادة بدنية، فصحت منه بغير إذن سيده، كصلاة النافلة.
فإن إذن له السيد بالإحرام، ثم رجع.. نظرت: فإن رجع قبل أن يحرم العبد، وعلم العبد بذلك.. بطل الإذن، فإن أحرم بعد ذلك.. كان له أن يحلله؛ لأن إذنه الأول قد زال، فصار كما لو لم يأذن له. وإن لم يعلم العبد بالرجوع، حتى أحرم.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم ما لو أحرم بغير إذنه.
والثاني: حكمه حكم من أحرم بإذنه، بناء على القولين في الموكل إذا عزل الوكيل، فتصرف الوكيل بعد العزل وقبل العلم به.
وإن رجع السيد في الإذن بعد إحرام العبد.. لم يبطل إذنه، ولم يكن له تحليله.
وقال أبو حنيفة: (لا تلزمه الإقامة على الإذن، وله تحليله) .
دليلنا: أنه عقد لازم، عقده بإذن السيد، فلم يكن للسيد منعه منه، كالنكاح.

[فرع ارتكاب العبد لما يوجب الفدية]
وإن ارتكب العبد شيئا من محظورات الإحرام، مثل: أن تطيب أو لبس أو قتل صيدا. وجبت الفدية على العبد؛ لأنها وجبت بجنايته، ويجب الصوم عليه؛ لأنه لا يملك المال، وللسيد منعه من الصوم؛ لأنه وجب عليه بغير إذنه.
وإن ملكه السيد مالا، وأذن له أن يفتدي به، فإن قلنا: إنه لا يملك المال.. لم يكن له أن يفتدي به، وإن قلنا: إنه يملك المال , ... كان له أن يفتدي به.
وإن أذن له في التمتع أو القران، فإن قلنا: إن العبد لا يملك المال إذا ملكه السيد.. ففرضه الصوم، وليس للسيد منعه منه؛ لأنه وجب عليه بإذنه.
وإن قلنا: إنه يملكه إذا ملكه السيد.. فهل يلزم السيد أن يدفع إليه المال ليفتدي به؟ فيه قولان:
أحدهما: يلزمه؛ لأنه أذن له في سببه.

(4/23)


والثاني: لا يلزمه؛ لأنه أذن له في الإحرام، فلم يلزمه ما يجب بسببه، ألا ترى أن العبد إذا أذن له السيد في النكاح ... فإن النفقة والمهر لا يجبان في مال السيد، وإنما يجبان في كسب العبد.

[فرع حج الصبي والعبد باعتبار كمالهما]
فإن حج الصبي ثم بلغ بعد الفراغ من الحج، أو حج العبد ثم أعتق بعد الفراغ منه.. لم يجزهما عن حجة الإسلام؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «أيما صبي حج، ثم بلغ.. فعليه حجة أخرى، وأيما أعرابي حج، ثم هاجر ... فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج، ثم أعتق
فعليه حجة أخرى» .
وإن بلغ الصبي، أو أعتق العبد في الإحرام.. نظرت: فإن كان بعد الوقوف بعرفة، وبعد فوات وقته.. لم يجزئهما عن حجة الإسلام؛ لأن معظم الحج قد فات في حال النقصان، فلم يجزئهما، كما لو أدرك الإمام بعد الركوع.. فإنه لا يحتسب له بتلك الركعة.
وإن كان قبل الوقوف بعرفة، أو في حال الوقوف.. أجزأهما عن حجة الإسلام. وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يجزئهما) .
ولا يتصور الخلاف مع أبي حنيفة، إلا في العبد، فأما الصبي: فلا يصح إحرامه عنده.
دليلنا: أنه وقف بعرفة، وهو كامل في إحرام صحيح، فوجب أن يجزئه عن حجة الإسلام، كما لو كان كاملا حال الإحرام.
وإن بلغ الصبي، أو أعتق العبد بعد الوقوف، وقبل فوات وقته، مثل: أن كان

(4/24)


ذلك ليلة النحر بالمزدلفة، ولم يرجعا إلى عرفة.. فهل يجزئهما عن حجة الإسلام؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي عباس بن سريج: أن يجزئهما؛ لأنهما كملا في وقت الوقوف، فأجزأ ما تقدم من وقوفهما، كما لو أحرما، ثم كملا.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: أنه لا يجزئهما؛ لأنهما لم يقفا بعرفة في حال الكمال، فلم يجز عنهما، كما لو كملا بعد مضي وقت الوقوف.

[فرع سعي الصبي والعبد قبل كمالهما]
وإن سعى الصبي أو العبد عقيب طواف القدوم، ثم بلغ الصبي أو عتق العبد قبل الوقوف.. فهل يجزئهما ذلك السعي؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 210] : أحدهما - ولم يذكر في " الإفصاح " غيره: أنه لا يجزئ عنهما؛ لأنهما أديا بعض فرائض الحج في حال النقص، فلم يجزئهما، كما لو وقف بعرفة. والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره: أنه يجزئهما؛ لأنهما قد وقفا بعرفة في حال الكمال، فأجزأهما السعي المتقدم، كالإحرام.

[مسألة شروط الاستطاعة]
] : وأما غير المستطيع: فلا يجب عليه الحج والعمرة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] [آل عمران: 97] .
والمستطيع اثنان: مستطيع ببدنه، ومستطيع بغيره.
فأما المستطيع ببدنه: فله شروط: أحدها أن يكون صحيح البدن.
الثاني: أن يكون واجدا للزاد والماء بثمن المثل، في المواضع التي جرت العادة بوجوده فيها.

(4/25)


الثالث: أن يكون واجدا لراحلة تصلح لمثله، إن كان بينه وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة.
الرابع: أن يكون الطريق آمنًا.
الخامس: أن تجتمع هذه الشروط، وقد بقي من الوقت ما يتمكن فيه من الوصول إلى الحج، فإن كان مريضا تلحقه مشقة غير معتادة في الركوب.. لم يلزمه الحج:
لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة، أو مرض حابس، أو سلطان جائر، فمات ولم يحج.. فليمت: إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا» .

[فرع عدم لزوم الحج لغير واجد الزاد]
وإن لم يجد الزاد.. لم يلزمه الحج، وروي ذلك: عن ابن عباس وابن عمر.
وقال ابن الزبير، وعكرمة، وعطاء: (الاستطاعة صحة البدن) .

(4/26)


دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن رجلا قال: يا رسول الله، ما السبيل الذي قال الله تعالى؟ قال: الزاد والراحلة»
وإن وجد الزاد، ولم يجد الماء.. لم يجب عليه الحج؛ لأن الحاجة إلى الماء أشد وإن وجد الزاد والماء بأكثر من ثمن مثلهما في المواضع التي جرت العادة بوجودهما فيه.. لم يجب عليه الحج؛ لأن وجود الشيء بأكثر من ثمن مثله كعدمه.

[فرع حكم الراحلة]
) : وإن لم يجد راحلة، أو وجدها بأكثر من ثمن مثلها أو أجرة مثلها، أو وجد راحلة لا تصلح لمثله، بأن يكون شيخا أو شابا مترفا لا يقدر على الركوب إلا بالمحمل والعمارية ... لم يجب عليه الحج، حتى يجد ذلك.
هذا مذهبنا، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه.
وقال مالك: (الراحلة ليست بشرط، فإذا كان قادرا على المشي، أو عادته

(4/27)


المشي.. وجب عليه الحج) ، وكذلك لا يعتبر عنده أن يكون مالكا للزاد، بل إذا كان قادرا على تحصيله بصنعة أو سؤال الناس ومن عادته السؤال.. وجب عليه الحج.
دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن رجلا قال: يا رسول الله، ما السبيل؟ فقال: الزاد والراحلة»
وروى علي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من وجد من الزاد والراحلة ما يبلغه، فلم يحج.. فليمت، إن شاء يهوديا أو نصرانيا» ، وفي بعض الأخبار: «ولا عليه، أن يموت: إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا» .
فلما علق الوعيد في ترك الحج على من وجد الزاد والراحلة.. دل على: أن وجودهما شرط في وجوب الحج، ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة، فكان من شرط وجوبها الزاد والراحلة، كالجهاد.
فإن وجد الزاد والراحلة لذهابه دون رجوعه، فإن كان له في البلد أهل.. لم يجب عليه الحج، وإن لم يكن له أهل.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه؛ لأن البلاد في حقه سواء.
والثاني: لا يجب عليه، وهو الصحيح؛ لأن عليه مشقة في المقام بغير وطنه.

(4/28)


[فرع حكم الدائن والمدين في وجوب الحج]
] : وإن كان عليه دين لا يفضل عنه ما يكفيه لحجه.. لم يجب عليه الحج، حالا كان الدين أو مؤجلا، نص عليه في " الإملاء "؛ لأن الحال على الفور، والحج على التراخي. وعليه ضرر في بقاء الدين المؤجل في ذمته، فقدم على الحج.
وكذلك لا يجب عليه الحج إلا بعد أن يفضل عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته ما يكفيه للحج؛ لأن النفقة على الفور، والحج على التراخي.
وإن كان ماله دينا على غيره، فإن كان حالا على مليء باذل له.. وجب عليه الحج: لأنه قادر على قبضه. وإن كان على مليء جاحد له، ولا بينة له به، أو كان على معسر، أو كان الدين مؤجلا.. لم يجب عليه الحج: لأنه غير قادر على الزاد والراحلة.

[فرع بيع المسكن والخادم للحج]
] : ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إذا كان له خادم يخدمه، ومسكن يسكنه، فإن كان، ممن لا يخدم مثله، بل جرت عادته أن يخدم نفسه.. فإن هذا الخادم فضل عن نفقته وكفايته، فإن كان إذا بيع أمكنه أن يحج بثمنه.. لزمه فرض الحج. وإن كان لا يمكنه أن يحج بثمنه.. لم يجب عليه.
وإن كان يحتاج إلى خدمته، بأن يكون شيخا لا يقدر على خدمة نفسه، أو كان يقدر ولكن هو من أهل العلم والشرف والمروءات الذين لم تجر عادتهم بأن يخدموا أنفسهم.. نظرت في الخادم والمسكن: فإن كان وافق قدر حاجته.. لم يجب عليه بيعه.
وإن كان أكثر مما يحتاج إليه؛ مثل: أن يكون له دار كبيرة الثمن ومثله يسكن دون تلك الدار، أو كان الخادم نفيسا له ثمن كبير؛ لنجابة فيه، ومثله يكتفي بدون

(4/29)


ذلك الخادم.. نظرت في الفضل: فإن كان يكفي للحج.. وجب عليه بيعه، ويشتري ما يحتاج إليه من المسكن والخادم، ويحج بالفضل. وإن كان الفضل لا يكفي الحج.. لم يجب عليه الحج.
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: يجب عليه بيع مسكنه وخادمه وإن كانت حاجته تستغرقه ـ وهو قول أبي حنيفة ـ لأنه يمكنه أن يكتري مسكنا وخادما، كما نقول في زكاة الفطر: إنه يعتبر الفضل عن كفايته يومه.
والأول أصح؛ لأن حاجته تستغرق ذلك، فهو بمنزلة من وجبت عليه الكفارة.
قال ابن الصباغ: فإن لم يكن معه مسكن ولا خادم، ومعه ما يقوم بهما، فمن قال: يجب عليه أن يبيع المسكن والخادم للحج.. فإنه يقول هاهنا: يحج ولا يشتري المسكن والخادم.
ومن قال: لا يجب عليه بيع المسكن والخادم.. قال هاهنا: لا يجب عليه الحج، بل يجوز له أن يشتري بما في يده المسكن والخادم.

[فرع وجوب الحج لمحتاج النكاح]
] : ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: إذا كان معه ما يكفيه للحج، واحتاج إلى التزويج به.. وجب عليه الحج، ولا يقدم النكاح على الحج؛ لأنه من الملاذ التي تصبر النفس عنها، ولأن الحج واجب، والنكاح غير واجب، إلا أنه يجوز له تأخير الحج، فإن كان يخشى العنت.. كان تقديم التزويج أولى، وإن كان لا يخاف العنت.. كان تقديم الحج أولى.

[فرع بيع البضاعة للحج]
إذا كانت له بضاعة يكتسب بها ما يقوته ويقوت عياله إن كان له عيال.. فهل يلزمه صرف البضاعة في الحج؟ فيه وجهان:

(4/30)


أحدهما: لا يلزمه، وهو قول أبي العباس بن سريج، واختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن في ذلك مضرة وانقطاع المعاش به، وقد قال الشافعي في المفلس: (إنه يترك له ما يتجر به؛ لئلا ينقطع ويحتاج إلى الناس) ، فإذا جاز أن يقطع من ديون الغرماء؛ ويجعل بضاعة للمفلس؛ ليعيش بها.. فلأن لا يلزم الإنسان صرف بضاعته بالحج أولى.
والثاني ـ وهو قول سائر أصحابنا، وقول أبي حنيفة ـ: أنه يلزمه الحج؛ لأنه واجد للزاد والراحلة، فوجب عليه الحج.
قال الشيخ أبو حامد: ولأنا لو قلنا هذا.. لوجب أن يقول: إن من لا يمكنه أن يتعيش إلا بألف دينار، إذا كان معه ألف دينار.. لا يجب عليه الحج؛ لأنه لا يمكنه أن يتجر بأقل من ذلك، وهذا لا يقوله أحد؛ لأنه واجد لأكثر من الزاد والراحلة.
قال المحاملي: وأما ما ذكره الشافعي في المفلس.. فإنما يترك ذلك برضا الغرماء فأما بغير رضاهم.. فلا.
قال ابن الصباغ: وهل يعتبر وجود الزاد والراحلة فاضلا عن كفايته على الدوام؟ فيه وجهان، ووجههما ما ذكرناه للوجهين في التي قبلها.

[فرع الاقتراض للحج]
] : إذا كان قادرا على أن يستقرض ما يحج به.. لم يجب عليه الحج؛ لأنه غَيْرُ مالك للزاد والراحلة، ولأنه إذا استقرض.. صار ذلك دينا في ذمته، والدين يمنع وجوب الحج عليه.
وإن قدر على أن يؤاجر نفسه.. استحب له أن يحج؛ لأنه يتوصل إلى الحج بوجه مباح، ولا يجب عليه؛ لأنه غير مالك للزاد والراحلة.
فإن أكرى نفسه، فحضر موضع الحج.. لزمه الحج وإن كان التوصل إليه غير واجب عليه؛ لأنه الآن متمكن من فعل الحج بغير مال.

(4/31)


وإن غصب مالا فحج به، أو حمولة فركبها وحج.. أثم بذلك، ولزمه ضمان ما غصب، وأجزأه الحج.
وقال أحمد: (لا يجزئه) .
دليلنا: أن الحج فعل البدن، وقد فعله، فهو كمن ركب المخافة حتى وصل إلى الحج فحج.. فإنه يجزئه.

[فرع الاتجار في الحج]
] : إذا خرج الإنسان بنية الحج والتجارة، فحج واتجر.. صح حجه، ويسقط فرضه: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] [البقرة: 198] .
قال ابن عباس: يعني: أن تحجوا، وتتجروا.
قال الشيخ أبو حامد: فأما الثواب.. فإن ثواب من قصد الحج دون التجارة أكثر ممن قصد الحج والتجارة؛ لأنه قصد القربة دون غيرها، وهذا قصد القربة وغيرها.
قال: وحكي في هذا المعنى: أن رجلا من أهل الخير والصلاح حج، فرأى فيما يرى النائم كأن أعمال الحجيج تعرض على الله، فقيل: فلان، فقيل: يكتب حاجا، وقيل: فلان، فقيل: يكتب تاجرا، حتى بلغ إليه، فقيل: يكتب تاجرا، قال:

(4/32)


فقمت من نومي، وقلت: ولم، ولست بتاجر؟ فقال: بل حملت معك كبة غزل تبيعها على أهل مكة.
فدل على: أن من كانت قربته خالصة لم يشبها بشيء من الدنيا.. فثوابه فيه أكثر.

[فرع ركوب البحر للحج]
وإن كان الطريق غير آمن، ويحتاج فيه إلى خفارة.. لم يجب عليه الحج؛ لأن في ذلك تغريرا بالنفس والمال.
وإن لم يكن له طريق إلا في البحر.. فقد قال الشافعي في " الأم " [2/103] : (لا يبين لي أن أوجب عليه ركوب البحر) .
وقال في " الإملاء ": (إذا لم يكن له طريق إلا في البحر.. لا يبين لي أن لا أوجب عليه ركوب البحر للحج) .
واختلف أصحابنا فيه على أربع طرق:
(الأول) : منهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه؛ لأنه طريق مسلوك، فأشبه البر.
والثاني: لا يجب عليه؛ لأن البحر يخاف فيه الهلاك، فأشبه الطريق المخوف في البر.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (يجب عليه ركوبه) .. إذا كان الغالب منه السلامة.
وحيث قال: (لا يجب عليه) .. إذا كان الغالب منه الهلاك، وبهذا قال أبو حنيفة.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: بل هي على حالين آخرين:

(4/33)


فحيث قال: (يجب عليه) : إذا كان له عادة في ركوب البحر في معيشته؛ لأنه لا يشق عليه ركوبه:
وحيث قال: (لا يجب عليه) ... إذا لم تجر له عادة في ركوب البحر؛ لأنه يشق عليه.
و [الطريق الرابع] : منهم من قال: لا يجب عليه ركوبه بحال، سواء كان جريئا على ركوبه وله عادة بذلك، أو غير جريء على ركوبه، كما لا يجب على الشجاع المقاتل الحج، إذا كان على طريقه لصوص يضطر إلى قتالهم، وحيث قال الشافعي: (يجب عليه) .. أراد: إذا كان قد ركب البحر لغير الحج، ودنا من الشط الذي يلي مكة، فحينئذ: يجب عليه الحج.
فلو توسط في البحر، مثل أن يكون ما قدامه مثل ما وراءه.. فهل يجب عليه الحج على هذا الطريق؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه؛ لأن ذلك إيجاب لركوب البحر للحج.
والثاني: يجب عليه؛ لأن الجهات قد استوت في حقه، فهو كما لو استوت الجهات في الأمن.
قال الصيمري: وأما قطع نهر كدجلة.. فيلزمه بلا خلاف.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: لا يجب عليه ركوب البحر.. فإنه يستحب للرجال ركوبه؛ لأنهم يتوصلون بذلك إلى إسقاط الفرض عن ذممهم.
وهل يستحب للنساء ركوبه؟ فيه قولان، حكاهما في " العدة ":
أحدهما: يستحب لهن كما يستحب للرجال.
والثاني: لا يستحب؛ لأن المرأة عورة وربما تغرق.. فتنكشف.

(4/34)


[فرع حج الأعمى وذوي العاهات]
] : إذا وجد الأعمى زادا وراحلة، ومن يقوده ويهديه عند النزول، ومن يركبه وينزله، وكان قادرا على الثبوت على الراحلة من غير مشقة شديدة.. وجب عليه الحج. وكذلك مقطوع اليدين والرجلين. ولا يجوز له أن يستأجر من يحج عنه، وبهذا قال أحمد وأبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة ـ في أصح الروايتين عنه ـ: (يجوز له الاستئجار على الحج، ولا يلزمه الحج بنفسه) . وحكاه الصيمري عن بعض أصحابنا.
دليلنا: أنه يتمكن من الثبوت على الراحلة بغير مشقة شديدة، فلزمه الحج بنفسه، كالبصير.

[فرع حكم المحرم مع المرأة]
وإن كانت امرأة.. فهل يشترط في حقها وجود المحرم معها؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال الخراسانيون من أصحابنا: وجوده شرط - وبه قال أبو حنيفة، والنخعي، وأحمد، وإسحاق - لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم» .

(4/35)


وقال البغداديون من أصحابنا: وجوده ليس بشرط؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لعدي بن حاتم، وهو يصف استظهار الإسلام إلى أن قال: «حتى لتوشك الظعينة أن تخرج من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالكعبة» . فلو لم يجز ذلك.. لما مدح به الإسلام، ومن قال بهذا.. حمل الخبر الأول إذا كان السفر غير واجب.
فإذا قلنا: يشترط وجود المحرم، واجتمع نسوة.. فهل يقمن مقام المحرم؟ فيه وجهان.
فإذا قلنا: يقمن مقام المحرم.. فهل يشترط أن يكون معهن، أو مع واحدة منهن محرم لها أو زوج؟ فيه وجهان:
أحدهما: يشترط ذلك؛ ليتقوين به، وليتكلم عنهن.
والثاني: لا يشترط ذلك؛ لأن أطماع الرجال تنقطع عنهن إذا كثرن وصرن جماعة.

[فرع الخنثى المشكل]
] : وأما الخنثى المشكل: فإنه يجب عليه الحج، ويشترط في حقه من المحرم ما يشترط في حق المرأة. فإن كان معه نسوة، فإن كن أخواته، أو أمهاته، أو بنات أخيه، أو بنات أخته، أو عماته، أو خالاته.. جاز ذلك. وإن كن أجنبيات عنه.. لم يجز؛ لأنه لا يجوز له الخلوة بهن.

(4/36)


[فرع يشترط للحج إمكان السير]
وأما إمكان السير: فهو شرط في وجوب الحج، فإن وجدت فيه هذه الشرائط، ولكن لم يبق من الزمان ما يتمكن فيه من الوصول إلى الحج.. لم يجب عليه الحج.
وقال أحمد: (إمكان السير له ليس بشرط في الوجوب، وإنما هو شرط في الأداء) وكذلك أمن الطريق عنده.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] [آل عمران: 97] .
وهذا غير مستطيع، ولأنه معنى يتعذر معه فعل الحج، فمنع من وجوبه، كالزاد والراحلة.

[مسألة وجوب الحج لمن هو دون مسافة القصر]
فأما أهل مكة، ومن كان داره من مكة على مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فإن كان صحيحا يقدر على المشي.. لم يكن من شرط وجوب الحج عليه، وجود الراحلة؛ لأنه ما من أحد إلا ويقدر على قطع مثل هذه المسافة من غير أن يناله مشقة كثيرة، فلم يمنع ذلك من وجوب الحج عليه، كما لا يمنع قطع المسافة من بيته إلى الجامع من وجوب الجمعة عليه. ولأن أهل الآفاق ينالهم من المشقة بالركوب إلى الحج أكثر مما ينال أهل مكة بالمشي إلى الحج، وذلك لا يمنع من وجوب الحج عليهم، فكذلك هذا مثله.
وإن كان زمنا.. فلا حج عليه إلا بوجود الراحلة، ولا يجب عليه الحبو؛ لأن المشقة بالحبو في المسافة القريبة أكثر من المشقة بالسير في المسافة البعيدة.
وأما الزاد، وما يحتاج إليه من النفقة في أيام شغله بالنسك: فلا بد من وجوده، فإن لم يجد إلا نفقة يوم بيوم، مثل: أن يكون صانعا يكتسب كل يوم ما يقوته إن لم

(4/37)


يكن له عيال، أو يقوته ويقوت عياله، ولا يفضل عنه شيء.. فلا يجب عليه الحج؛ لأنه غير واجد للزاد.

[مسألة أفضلية الركوب للحج]
] : قال الشافعي: (الركوب في الحج أفضل من المشي فيه) ، ثم قال الشافعي في موضع آخر: (إن أوصى أن يحج عنه ماشيا.. حج عنه ماشيا، ولو نذر الحج ماشيا.. لزمه المشي فيه) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: أن الركوب أفضل؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ حج راكبا» ، ولأنه أعون على قضاء المناسك، كما قلنا: إن الإفطار يوم عرفة للحاج أفضل.
والثاني: أن المشي أفضل من الركوب؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (ما آسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا) ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] [الحج: 27] و: (كان الحسين بن علي يمشي في الحج) .

(4/38)


ومن أصحابنا من قال: الركوب أفضل، قولا واحدا ـ وهي طريقة البغداديين من أصحابنا ـ لما ذكرناه. وأما نصه في (الوصية) : فلا يدل على أن ذلك الأفضل من مذهبه؛ لأنه يجب عليه في الوصية ما وصى به وإن كان غيره أفضل منه، ألا ترى أنه لو أوصى: أن يتصدق بدرهم.. لم يجزه أن يتصدق عنه بدينار، وإن كان أفضل منه. وأما ما روي عن ابن عباس: ففعل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أولى بالاتباع.

[مسألة المستطيع بغيره]
وأما المستطيع بغيره: فهو أن يكون معضوبا في بدنه لا يقدر على أن يثبت على مركب إلا بمشقة غير محتملة، أو بلغ من الكبر ما لا يمكنه الاستمساك على المركب، أو كان شابا نضو الخلق لا يستمسك على الراحلة، فإن لم يكن له مال، ولا من يطيعه.. لم يجب عليه الحج؛ للآية.
وإن كان له مال يمكنه أن يدفعه إلى من يحج عنه، ولم يجد من يستأجره به.. لم يجب عليه الحج؛ للآية.
وإن كان له مال، ووجد من يستأجره بأجرة المثل للحج.. وجب عليه أن يستأجره، فإن فعل ذلك، وإلا.. استقر فرض الحج في ذمته. وبه قال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق.

(4/39)


وقال مالك: (لا يجب عليه أن يستأجر) .
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن امرأة من خثعم أتت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فقالت:
يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: " نعم "، قالت: أينفعه ذلك؟ قال: نعم، كما لو كان على أبيك دين، فقضيته عنه.. نفعه»
وسئل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن شيخ يجد الاستطاعة؟ فقال: (يجهز من يحج عنه) . ولأنها عبادة يجب عليه بإفسادها الكفارة، فجاز أن يقوم غير فعله مقام فعله فيها، كالصوم إذا عجز عنه.. فإنه يفتدي.
وإن لم يكن للمعضوب مال، ولكن له من يطيعه بالحج.. فإنه يجب عليه الحج بذلك.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (لا يجب عليه الحج بطاعة غيره له) .
دليلنا: ما روي «عن أبي رزين العقيلي: أنه قال: قلت: يا رسول الله، إن لي أبا شيخا كبيرا لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن، أفأحج عنه؟ فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: حج عن أبيك واعتمر» ، وروى أبو هريرة: «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن

(4/40)


أمي أسلمت، ولا تكاد أن تثبت على مركب، وإن ربطتها خفت أن تموت، أفأحج عنها؟ فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: حج عن أمك» ، وهذا صيغته صيغة الأمر، والأمر إذا تجرد عن القرائن.. اقتضى الوجوب، فدل على: أنه وجب الحج على المحجوج عنه بوجود من يطيعه، ولهذا أمر المطيع بالحج، ولأنه يمكنه أن يحصل الحج عن نفسه، فلزمه الحج، كما لو قدر على المال.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإنما نريد بقولنا: (يجب على المعضوب الحج ببذل الطاعة) : وهو أن يكون للمعضوب من يطيعه، ويثق بطاعته إذا أمره بذلك.. فيجب على المعضوب الحج بذلك، سواء بذل له المطيع أو لم يبذل له.
وقولنا: (بذل له الطاعة) توسع في الكلام ومجاز فيه؛ لأن الشافعي قال: (متى قدر على من يطيعه في الحج عنه.. لزمه الفرض) .
ولا يجب عليه الحج، إلا أن يكون في المطاع ثلاثة شرائط، وفي المطيع ثلاثة شرائط.

(4/41)


فأما الشرائط في المطاع: فأن يكون لم يحج عن نفسه، وأن يكون ميؤسا من حجه بنفسه بزمانة أو كبر، وأن يكون فقيرا، فأما إذا كان له مال يمكنه أن يستأجر به من يحج عنه.. وجب عليه الحج بماله.
وأما الشرائط في المطيع: فأن لا يكون عليه حج واجب: إما فرض أو نذر، وأن يكون المطيع موثوقا بطاعته في أنه يفي بما بذل، فأما إذا كان مشكوكا في طاعته.. فلا يجب عليه؛ لأن العبادة لا تجب بالشك، وأن يكون الباذل ممن يجب عليه الحج بنفسه، بأن تكون الشرائط التسع موجودة فيه.
فإن كان فقيرا.. فهل يجب على المطاع الحج إذا كان واثقا بطاعته؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه الحج؛ لأنه واجد لمن يطيعه وإن كان بمشقة، فوجب عليه الحج، كما لو زمن ومعه دراهم لا تقوم بأجرة المثل للحج، فرضي رجل بأن يحج بها عنه.
والثاني: لا يلزمه، وهو الصحيح؛ لأن المطاع لو كان فقيرا يقدر على المشي بنفسه، لم يجب عليه الحج.. فلأن لا يجب عليه الحج بقدرة غيره على المشي أولى.

[فرع وجوب الحج على المطاع]
فإن كان هذا المطيع ولدا للمطاع، أو ولد ولده وإن سفل.. وجب على المطاع الحج بذلك، بلا خلاف على المذهب.

(4/42)


وإن كان أخا له، أو ابن أخ، ومن أشبههما من العصبات، أو أجنبيا عنه ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه الحج بطاعته؛ لأن الحج إنما وجب عليه بطاعة الولد؛ لأن ماله كماله؛ بدليل: أن نفقته تجب عليه، ولا يقطع بسرقة ماله، وغير ذلك من الأحكام، وهذا لا يوجد لغير الابن.
والثاني: يجب عليه، وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي أطلق ذلك، ولأنه واجد لمن يطيعه في الحج، فأشبه الولد.

[فرع وجود المطيع بلا علم المطاع]
وإن كان له من يطيعه، وهو لا يعلم به.. فذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أن ذلك بمنزلة أن يكون له مال لا يعلم به، بأن يموت مورثه. ولم يذكر حكمه.
قال ابن الصباغ، والطبري في " العدة ": يجري ذلك مجرى من نسي الماء في رحله وتيمم وصلى.. هل يسقط عنه الفرض؟ فيه قولان.

[فرع استئذان المطيع]
] : وإذا كان له من يطيعه.. فإنه يجب على المطاع أن يأمره بالحج، وإن استأذنه المطيع بالحج عنه.. وجب عليه أن يأذن له. فإن حج عنه بغير إذنه.. لم يجزه.
وإن استأذنه، فلم يأذن له.. فإن الحاكم يأمره بأن يأذن له، فإن لم يفعل، وأقام على الامتناع.. فهل يجوز للحاكم أن يأذن للمطيع بالحج عن المطاع؟ فيه وجهان:

(4/43)


أحدهما: يجوز للحاكم أن يأذن للمطيع، فإذا حج عن المطاع.. وقع عنه، كما إذا كان عليه زكاة أو دين، وامتنع من أدائه.. فإن الحاكم ينوب عنه في ذلك.
والثاني: لا يجوز إذن الحاكم بذلك، وهو الصحيح؛ لأن الحج عن الغير بغير إذنه لا يجوز، فلو جوزنا إذن الحاكم في ذلك.. لوقع الحج عنه بغير إذنه مع إمكانه، فلم يجز، ويخالف الزكاة والدين؛ لأن ذلك يتعلق به حق الآدمي، بخلاف الحج عنه.
وإن كان للمعضوب مال، ولم يستأجر من يحج عنه.. فقال البغداديون من أصحابنا: لا ينوب عنه الحاكم في الاستئجار وجها واحدا. والفرق بينه وبين الإذن للمطيع: أن له غرضا في تأخير الاستئجار، بأن ينتفع بماله.
وأما المسعودي [في " الإبانة " ق 173] : فحكى فيه وجهين:
أحدهما: هذا؛ لأن الحج لا يستأجر عنه؛ لأنه على التراخي.
والثاني: يستأجر عنه، قال: وهو الأصح؛ لأن الحج إنما يكون على التراخي في الصحة، فأما إذا زمن.. فقد يضيق وقته، فلم يكن له التأخير.

[فرع رجوع الباذل ببذله]
وهل يجوز للباذل الرجوع عنه بعد البذل؟ ينظر فيه:
فإن كان قد أحرم عن المبذول عنه.. لم يجز له الرجوع؛ لأن الحج يلزم بالشروع فيه. وإن كان لم يحرم عنه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له الرجوع؛ لأنه قد لزم المبذول له الحج ببذله، فلزم الباذل.
والثاني: يجوز له الرجوع، وهو الصحيح؛ لأنه لا يجب عليه البذل، فلم يلزمه بالبذل حكم.

[فرع وجوب الحج على المطاع بيسار ولده أو ببذل الأجنبي]
] : فإن كان الولد المطيع معضوبا، لا يقدر على الحج عن والده بنفسه، ولكن له مال يمكنه أن يستأجر به من يحج عنه، وبذل له ذلك.. فذكر الشيخ أبو حامد،

(4/44)


والمحاملي، وابن الصباغ في " التعليق " و " المجموع " و " الشامل ": أنه يجب الحج على المبذول له بذلك وجها واحدا؛ لأنا قد أقمنا المطيع مقام المطاع، وقد ثبت أن اليسار الذي في المطيع لو كان في المطاع.. لوجب عليه الحج به، فكذلك إذا كان فيمن أقمناه مقامه.. وجب عليه الحج بذلك.
فأما إذا بذل الولد لوالده المال ليستأجر هو به عن نفسه من يحج عنه، أو كان الوالد صحيحا معسرا فبذل له الولد المال ليحج عن نفسه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه الحج بذلك، كما يلزمه الحج إذا بذل الحج لا بنفسه.
والثاني: لا يلزمه، وهو الصحيح؛ لأنه لا يصير قادرا على الحج إلا بعد تملك المال، وتملك المال اكتساب، والاكتساب لا يجب عليه. والفرق بينه وبين بذل الحج بالبدن: أن الإنسان لا يلحقه كثير منة بعمل البدن، وتلحقه المنة العظيمة بقبول قليل المال.
وأما إذا بذل له الأجنبي المال؛ ليستأجر به عن نفسه، أو يحج به عن نفسه.. قال صاحب " الفروع ":
فإن قلنا في الولد: لا يلزمه.. ففي الأجنبي أولى أن لا يلزمه.
وإن قلنا: يلزمه ببذل الولد له ذلك.. ففي الأجنبي وجهان، الصحيح: أنه لا يلزمه؛ لأن مال ولده كماله في النفقة وغيرها، بخلاف مال الأجنبي.

[مسألة الحج على التراخي]
] : إذا وجدت شرائط وجوب الحج.. وجب عليه الحج، ويجوز له أداؤه على التراخي.
والمستحب له: أن يقدمه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] [البقرة: 148] .

(4/45)


هذا مذهبنا، وبه قال الأوزاعي، والثوري، ومحمد بن الحسن.
وقال أبو يوسف: الحج يجب على الفور، فمتى أخر الحج عن أول سنة يمكنه الحج فيها.. أثم، وبه قال مالك، وأحمد، والمزني، وكان الكرخي يقول: هو مذهب أبي حنيفة. وليس بمشهور عنه.
واحتجوا بقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من وجد من الزاد والراحلة ما يبلغه الحج، فلم يحج.. فليمت: إن شاء يهوديا، أو نصرانيا» ، فلو كان على التراخي.. لما توعده.
دليلنا: ما روي: أن فريضة الحج أنزلت سنة ست من الهجرة، وحكى الطبري وجها آخر: أنه كان واجبا قبل الهجرة، وليس بشيء.
وبالإجماع: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لم يحج إلا سنة عشر من الهجرة ومعه مياسير الصحابة، مثل: عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهما، فلو كان الحج على الفور.. لما جاز لهم التأخير مع إمكانه.
فإن قيل: إنما أخره النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ إلى سنة عشر؛ لأن المشركين صدوه عن المسجد الحرام، أو كان غير واجد للزاد والراحلة إلى سنة عشر.
فالجواب: أن هذا غلط؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أحصر بالحديبية سنة ست، وفيها نزل قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] فخرج إليه سهيل بن عمرو، وصالحه على: أن يرجع إلى المدينة تلك السنة، ثم يرجع إلى مكة العام المقبل، فرجع إلى المدينة، ثم دخل مكة في العام المقبل معتمرا، ولهذا سميت عمرة القضاء، وقد كان يمكنه أن يجعل بدل العمرة الحج.

(4/46)


وأيضا: فإنه قد فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وصارت دار الإسلام وقد بقي بينه وبين الحج مدة قريبة، ولا يكاد يعدم النفقة لتلك المدة، فلم يقم بمكة، بل أمر عليها عتاب بن أسيد، ورجع إلى المدينة، وأمر أبا بكر على الحج سنة تسع، وأردفه بعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وسار بعد ذلك إلى قتال هوازن، فلما فرغ منهم اعتمر من الجعرانة، وقد كان بقي بينه وبين الحج عشرون يوما، فلم يقف بل رجع إلى المدينة، ولم يكن عادما للزاد، لأنه روي: «أنه أهدى في عمرته سبعين

(4/47)


بدنة» فلما كان سنة عشر، حج من المدينة، وحج معه مياسير الصحابة، فدل على: أن الحج على التراخي.
وأما الخبر الذي احتجوا به: فلا يدل على أن الحج على الفور؛ لأن من وجد الزاد والراحلة فلم يحج حتى مات.. فهو متوعد، ونحن نقول: إنه يأثم.
ولأن التعلق بظاهر الخبر لا يمكن؛ لأنه يقتضي: أن من وجب عليه الحج، وأمكنه الحج، فلم يفعل حتى مات.. إن موته كموت اليهودي والنصراني، ولا يقول بهذا أحد؛ لأن الإنسان لا يكفر بترك الحج، فعلم: أن المراد بالخبر إذا تركه ولم يعتقد وجوبه.. فإنه يموت إن شاء يهوديا أو نصرانيا.
إذا ثبت ما ذكرناه: ووجب عليه الحج، فلم يحج حتى مات.. فهل يأثم بذلك؟
فيه ثلاثة أوجه:
أحدها ـ حكاه القفال ـ: أنه لا يأثم بذلك؟ لأنا جاوزنا التأخير، فلم يفعل شيئا محظورا.
والثاني ـ حكاه ابن الصباغ: إن خاف الكبر والفقر والضعف، فلم يحج حتى مات.. أثم بذلك. وإن اخترمته المنية قبل خوف الفوات.. لم يأثم؛ لأنه لا يمتنع أن يعلق الحكم على غلبة ظنه، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] [البقرة: 180] . وأراد: إذا غلب على ظنه.
والثالث ـ وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه يأثم؛ لأنه إنما جاوزنا له التأخير بشرط السلامة، كما جوز للمعلم ضرب الصبي، وللزوج ضرب زوجته بشرط السلامة، فأما إذا أفضى ضربهما إلى التلف.. وجب عليهما الضمان، فكذلك هذا مثله.

(4/48)


فإذا قلنا بهذا: فمتى يأثم؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه يأثم بتأخيره عن السنة الأخيرة التي فاته الحج بتأخيره عنها؛ لأن الفوات حصل بها.
والثاني: يأثم بتأخيره عن السنة الأولى؛ لأنه إنما جوز له التأخير عنها، بشرط أن يفعله بعدها، فإذا لم يفعل.. تبين أنه أثم بتأخيره عنها.
والثالث: أنه يأثم لا في وقت بعينه، وإنما يحكم عليه بالموت قبل الحج بالإثم.
والرابع: أنه يأثم من حين تبين في نفسه الضعف والكبر؛ لأنه كان من سبيله أن يحج قبل ذلك.
فأما إذا دخل عليه وقت الصلاة، وتمكن من فعلها، فلم يصل حتى مات.. فهل يكون عاصيا؟
إن قلنا: لا يكون عاصيا في الحج.. ففي الصلاة أولى أن لا يكون عاصيا.
وإن قلنا: يكون عاصيا في الحج.. ففي الصلاة وجهان.
والفرق بينهما: أن لوقت الصلاة آخرا معلوما، فلا يكون عاصيا مفرطا بالتأخير إليه، وليس لوقت الحج آخر معلوم؛ لأن آخر وقته العمر، وذلك غير معلوم، فكان من سبيله التعجيل، فإذا لم يفعل.. كان عاصيا.

[مسألة الحج عن الميت]
) : إذا وجدت في الإنسان الشرائط التي يجب عليه بها الحج، فمات قبل أن يتمكن من الأداء.. لم يجب عليه القضاء.
وحكى الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أن أبا يحيى البلخي قال: يجب القضاء من ماله.
وليس بشيء؛ لأنه مات قبل أن يتمكن من أدائه، فلم يجب عليه القضاء، كما لو هلك المال بعد الحول، وقبل التمكن من أداء الزكاة

(4/49)


فإن وجدت فيه الشرائط، وتمكن من فعل الحج، فمات.. لم يسقط عنه الحج، وروي ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة.
وقال مالك وأبو حنيفة: (يسقط عنه بموته، ولا يجوز الحج عنه، إلا إذا أوصى، ويكون تطوعا) .
دليلنا: «أن المرأة الخثعمية قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: " نعم "، قالت: أو ينفعه ذلك؟ قال: نعم، كما لو كان على أبيك دين، فقضيته.. نفعه» ، فأذن لها بالحج عن أبيها، ولم يسأل عنه: أحي هو أم ميت؟ ولم يفرق بين أن يوصي أو لم يوص، ولأنه شبهه بقضاء الدين، وقضاء الدين يجوز بعد الموت بغير وصية، فكذلك الحج.
«وروى ابن عباس: أن امرأة سألته أن يسأل لها رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أن أمها ماتت ولم تحج، فهل يجزئها أن تحج عنها؟ فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: لو كان على أمها دين فقضته عنها.. أما كان يجزئ عنها؟»

(4/50)


ولأنه حق تدخله النيابة، استقر وجوبه في حال الحياة، فلم يسقط بالموت، كالدين.
فقولنا: (تدخله النيابة) احتراز من الصلاة والصوم.
وقولنا: (استقر وجوبه في حال الحياة) احتراز منه إذا مات قبل أن يتمكن منه، ومن مال الكتابة؛ لأنه يسقط بموت المكاتب.
إذا ثبت هذا: فإن كان له مال.. قضي عنه من رأس المال، وذكر الشافعي في موضع: (أنه لو قيل: إن أوصى بحج.. حج له من الثلث، وإن لم يوص.. لم يحج) .
قال صاحب " الإبانة " [ق\ 174] فمن أصحابنا من جعل هذا قولا آخر.
ومنهم من قال: يحج عنه من رأس المال قولا واحدا، وهو الصحيح.
وحيث قال: (يحج عنه من ثلثه) إنما قاله حكاية لمذهب أبي حنيفة؛ لأنه مذهبه.
وإن اجتمع الحج والدين، وضاقت التركة عنهما.. ففيه ثلاثة أقوال، ذكرناها في الزكاة.
وإن لم يكن له مال.. لم يجب على وارثه أن يحج عنه، فإن تطوع عنه وارثه جاز، ويكون بالخيار: بين أن يحج عن نفسه بنفسه، أو يستأجر من يحج عنه من ماله، وإذا فعل ذلك.. سقط الفرض عنه، ولا يفتقر إلى إذنه؛ لأنه خرج عن أن يكون من أهل الإذن.

[مسألة النيابة في الحج]
] : الحج تدخله النيابة، ويقع الحج عن المحجوج عنه، وهي رواية الأصول عن أبي حنيفة.

(4/51)


وروي عنه رواية شاذة، رواها عنه محمد: أن الحج لا يدخله النيابة، وإذا استناب.. وقع الحج عن الحاج، وللمحجوج عنه أجر النفقة.
دليلنا: ما ذكرناه من خبر الخثعمية، وخبر ابن عباس، ولأنها عبادة تدخلها الاستنابة، فدخلتها النيابة، كالزكاة.
والمراد بقولنا: (الاستنابة) : هو أنه يلزمه أن يدفع المال إلى من يحج عنه.
إذا ثبت هذا: فيجوز للرجل أن يحج عن الرجل والمرأة، ويجوز للمرأة أن تحج عن الرجل والمرأة.
وقال الحسن بن صالح: يكره أن تحج المرأة عن الرجل.
دليلنا: ما ذكرناه من حديث الخثعمية.

[فرع مواضع الإنابة في الحج]
] : ويجوز النيابة في حج الفرض في موضعين:
أحدهما: في حق الميت: لحديث ابن عباس الذي تقدم.
والثاني: في حق من لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة شديدة؛ لما ذكرناه من حديث الخثعمية.
فأما إذا أراد الصحيح أن يستأجر من يحج عنه حجا واجبا أو تطوعا، أو أراد إنسان أن يحج عن المعضوب بغير إذنه، أو أراد إنسان أن يحج عن الميت حجا ليس بواجب عليه ولم يوص به.. قال الشيخ أبو حامد: فلا يختلف المذهب: أنه لا يجوز النيابة في هذه المسائل.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (يجوز للصحيح القادر أن يستنيب في حج التطوع) .
دليلنا: أنه قادر على أداء الحج بنفسه، فلم تجزه الاستنابة فيه، كالفرض.

(4/52)


فإذا أراد المعضوب أن يستأجر من يحج عنه تطوعا، أو أوصى الميت أن يحج عنه تطوعا.. فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز، وهو قول أبي حنيفة ومالك، واختيار الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق؛ لأن كل عبادة دخلت النيابة في فرضها.. دخلت النيابة في نفلها، كالزكاة، وعكسه الصلاة والصوم.
والثاني: لا يجوز، وهو اختيار المحاملي؛ لأنه من عبادة البدن، وإنما دخلت النيابة في الفرض منه لموضع الضرورة، ولا ضرورة إلى التطوع.
ودليل هذا القول: ينكسر بالتيمم.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: تجوز النيابة في حج التطوع.. جاز للمعضوب أن يستأجر من يحج عنه حجتين وثلاثا وأكثر، وكذلك تجوز الوصية بحجتين وثلاث وأكثر، ويستحق الأجير الأجرة المسماة.
وإن قلنا: لا تجوز النيابة في حج التطوع، فخالف المعضوب واستأجر من يحج عنه أو أوصى بذلك، وحج الأجير عنه.. كانت الإجارة فاسدة، ووقع الحج عن الأجير، ولا يستحق الأجير المسمى قولا واحدا، وهل يستحق أجرة المثل؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يستحق ذلك؛ لأن الإحرام انعقد له، فلم يستحق أجرة، كما لو استأجر صرورة.
والثاني: يستحق أجرة المثل؛ لأنه لم يبذل له منافعه إلا بعوض يحصل له، وقد تلفت عليه تلك المنافع؛ لأنه لم يحصل له بالحج فائدة؛ لأن فرضه لم يسقط به، فاستحق أجره، ولا يحصل له ثواب؛ لأن الثواب إنما يكون على القصد، ولم

(4/53)


يقصد التطوع عن نفسه، فاستحق أجرة المثل، كما لو غصب من رجل شيئا، واستأجر من ينقله من مكان إلى مكان.. فإن الناقل يستحق عليه الأجرة، ويخالف الصرورة؛ فإن الفرض يسقط عنه، فحصل له الثواب.

[فرع استحقاق الأجير أجره بصرفه الإحرام لنفسه]
] : إذا أحرم الأجير عن المستأجر في موضع يصح إحرامه عنه فيه، ثم بعد ذلك صرف الأجير الإحرام إلى نفسه، وأتى بالأفعال معتقدا أنها عن نفسه.. لم ينصرف إليه؛ لأن الإحرام إذا انعقد عن شخص.. لم ينتقل إلى غيره، وهل يستحق الأجرة؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا أجرة له؛ لأنه قد اعتقد أن الأفعال لنفسه، فلم يستحق أجرتها على غيره.
والثاني: يستحق الأجرة، وهو الصحيح؛ لأن النسك حصل للمحجوج عنه، ولا تأثير لما اعتقده الأجير، كما لو استأجره لبناء، فبناه معتقدا أنه لنفسه.

[فرع استنابة المريض]
وأما المرض: فضربان:
ضرب: خفيف لا يخشى منه التلف، كالصداع، ووجع العين والضرس، وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز أن يحج الغير عنه فيه بلا خلاف؛ لأنه متمكن منه بنفسه.
و [الضرب الثاني] : إن كان المرض مخوفا، فإن كان غير ميؤس من برئه.. لم يجز له أن يستنيب الغير، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (يجوز) .
دليلنا: أنه غير ميؤس من حجه بنفسه، فلا يجوز له الاستنابة، كالفقير.

(4/54)


إذا ثبت هذا: فإن خالف، فاستناب عن نفسه من حج عنه.. نظرت: فإن برئ من مرضه.. وجب عليه إعادة الحج بنفسه؛ لأن الأول لم يقع عنه. وإن مات من ذلك المرض أو صار ميؤسا منه.. فهل يجزئه؟ فيه قولان:
أحدهما: يجزئه لأنا تبينا أن المريض كان ميؤسا منه، حيث اتصل به الموت.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه استناب وهو غير ميؤس منه، فأشبه إذا برئ.
فأما إذا كان ميؤسا من برئه.. جاز له أن يستنيب.
فإن حج عنه.. نظرت: فإن مات.. فقد أجزأه. وإن برئ من مرضه.. ففيه طريقان:
[الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان كالأولى:
[أحدهما] إن قلنا ثَمَّ: يجزئه اعتبارا بما آل إليه.. لم يجزئه هاهنا؛ لأنه آل إلى الصحة.
و [الثاني] : إن قلنا ثَمَّ: لا يجزئه اعتبارا بحال الاستنابة.. فهاهنا يجزئه؛ لأن حال الاستنابة كان محكوما بإياس البرء منه.
[والطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يجزئه قولا واحدا؛ لأنا تبينا أنه لم يكن ميؤسا منه، وإنما أخطأنا في ظننا، فيجب عليه أن يحج بنفسه.
فكل موضع قلنا: يصح الحج عن المريض.. استحق الأجير الأجرة المسماة. وكل موضع قلنا: لا يقع الحج عن المريض.. فقد وقع عن الأجير، ولم يستحق الأجرة المسماة، وهل يستحق أجرة المثل؟ فيه قولان، كما قلنا في الأجير، إذا صرف الإحرام إلى نفسه.

(4/55)


[فرع الاستنابة عن المجنون]
] : الجنون غَيْر ميؤس من زواله، فإذا وجب عليه الحج، ثم جن.. لم يجز أن يستنيب من يحج عنه.
قال ابن الصباغ: فإذا استنيب عنه في حال جنونه من يحج عنه، ثم أفاق.. لزمته الإعادة قولا واحدا. فإن مات فيه.. فينبغي أن يكون على القولين، مثل التي قبلها.

[مسألة الاستنابة لمن عليه الحج]
لا يجوز لمن عليه حجة الإسلام، أو حجة نذر أو قضاء أن يحج عن غيره، وكذلك في العمرة.
فإن أحرم عن غيره.. وقع الحج عن الحاج، لا عن المحجوج عنه، وبه قال ابن عباس، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
وعن أحمد رواية أخرى: (أنه لا ينعقد عنه، ولا عن غيره) .
وقال مالك وأبو حنيفة: (يجوز أن يحج عن غيره، وعليه فرض الحج، أو نذره أو قضاؤه) .
وقال الثوري: إن كان قادرا على الحج عن نفسه.. لم يجز أن يحج عن غيره، وإن كان غير قادر لعدم الزاد والراحلة. جاز أن يحج عن غيره.
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلا يلبي عن شبرمة، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " ومن شبرمة؟ " قال: أخ لي، أو قريب لي، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " أحججت عن نفسك؟ " فقال: لا، قال: فحج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة»

(4/56)


ومعنى قوله: «حج عن نفسك» أي: استدم هذا الحج عن نفسك؛ لأن المتلبس بالشيء إذا خوطب بفعله.. فمعناه الاستدامة له، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء: 136] [النساء: 136] أي استديموا الإيمان.
وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] [الأحزاب: 1] وأراد استدام التقى؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يفارقه التقى.
وقد روي عنه: أنه قال له: «هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة،» وهذا نص.
ولأن الإحرام ركن من أركان الحج، فلم يقع فعله عن غيره وعليه فرضه، كطواف الزيارة.
ولا يجوز أن يحج العبد عن غيره وإن كان بإذن سيده؛ لأنه لم يحج عن نفسه حجة الإسلام، فلم يصح أن يحج عن غيره، كالصبي والكافر.

(4/57)


[فرع إحرام التطوع والنذر لمن عليه حجة الإسلام]
وحكم تسمية الصرورة] : ولا يجوز أن يحرم بتطوع الحج والعمرة وعليه فرضهما، وكذلك لا يجوز أن يحرم بهما عن النذر وعليه فرضهما.
فإن أحرم عن النذر، أو عن التطوع وعليه حجة الإسلام.. انصرف إلى فرض حجة الإسلام.
وقال مالك وأبو حنيفة: (يجوز أن يتطوع بالحج والعمرة وعليه فرضهما، وكذلك يأتي بالنذر عنهما وعليه فرضهما) .
دليلنا: أنه أحرم بالحج وعليه فرضه، فوقع عن الفرض، كما لو أحرم مطلقا.
فإن أمر المعضوب من يحج عنه عن التطوع، أو عن النذر، وعليه فرضه.. انعقد عن الفرض؛ لأنه قائم مقامه، وحكمه في نفسه هكذا، فكذلك من يقوم مقامه.
قال الشافعي: (وأكره أن يسمى من لم يحج صرورة) ؛ لما روى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال «لا صرورة في الإسلام» وقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المسلم ليس بصرورة» . والكراهية كراهية تنزيه لا تحريم، و (الصرورة) ـ عند العرب ـ: من لم يحج، أومن لم يتزوج، قال النابغة:
لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة المتعبد
لرنا لبهجتها وحسن حديثها ... ولخاله رشدا وإن لم يرشد

(4/58)


[مسألة الاستنابة لحجتين في عام واحد]
] : إذا كان على المعضوب حجتان: حجة الإسلام، وحجة نذر، فأحرم عنه رجلان بإذنه، في سنة واحدة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجرئه عن حجة الإسلام دون حجة النذر؛ لأنه لا يجوز أن يحج عن نفسه في سنة واحدة حجتين، فكذلك من يقوم مقامه عنه.
والثاني: يجزئه عنهما، وهو المنصوص؛ لأنه لا يؤدي إلى وقوع المنذورة قبل حجة الإسلام، بل يقعان معًا.

[مسألة وجوب الحج في أشهره]
ولا يجوز الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج، وروي ذلك عن ابن عباس، وجابر.

(4/59)


وقال مالك، والثوري، وأبو حنيفة: (يصح إحرامه بالحج، ولكن لا يأتي بشيء، من الأفعال قبل أشهر الحج) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] .
وتقدير الآية: وقت إحرام الحج أشهر، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، ولا يجوز أن يكون تقديرها: وقت أفعال الحج أشهر؛ لأن أفعال الحج تقع في يومين أو ثلاثة، فلا تفتقر إلى الأشهر.
ولأن الله تعالى قال: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] و (الفرض) : هو النية، فثبت أنه: أراد الإحرام.
ولأن الحج عبادة أفعالها مؤقتة، فكان الإحرام به مؤقتا، كالصلاة.
ولأن الإحرام ركن من أركان الحج، فكان مؤقتا، كالوقوف والطواف.
إذا ثبت هذا: فأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، وبه قال ابن الزبير، وابن مسعود، وإحدى الروايتين عن علي وابن عباس.

(4/60)


وقال أبو حنيفة: (أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، ويوم النحر) ، فخالفنا في يوم النحر.
وقال مالك: (أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وجميع ذي الحجة) وهو قول الشافعي في " الإملاء "، والرواية الأخرى عن علي وابن عباس.
والصحيح هو الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] .
و (الرفث) : الجماع، والمحرم بالحج يحل له الجماع يوم النحر: لأنه يمكنه أن يطوف ويسعى، ثم يجامع فيه، فثبت أنه: ليس من أشهر الحج؛ ولأن يوم النحر يوم يسن فيه الرمي، فلم يكن من أشهر الحج، كأيام التشريق. وهذا على أبي حنيفة.
وعلى مالك: أن أيام ذي الحجة زمان لو اعتمر فيه مضافا إلى حجه.. لم يكن متمتعا، فلم يكن من أشهر الحج، كأيام رمضان، وعكسه: ما قبل يوم النحر.
فإن قيل: الأشهر جمع، وأقل الجمع ثلاثة؟
فالجواب: أنه قد يعبر بالجمع عن الاثنين وبعض الثالث، ألا ترى أن الناس يقولون في كتبهم: لثلاث خلون، والمراد به اثنان وبعض الثالثة.

[فرع الإحرام بالحج في غير وقته]
] : فإن أحرم بالحج في غير أشهر الحج.. فالمشهور من المذهب - وهو نقل أصحابنا

(4/61)


البغداديين ـ: أن إحرامه ينعقد بعمرة.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "، ق \ 178 و 179] : أن الشافعي قال في القديم: (يتحلل من فاته الحج بعمل عمرة) .
فمن أصحابنا من قال: المراد ـ بنصه هذا في القديم ـ: أن إحرامه لا ينعقد بحج ولا عمرة، ولكن يتحلل كما يتحلل من فاته الحج بعمل عمرة.
ومنهم من قال: بل المراد به: إن شاء صرف إحرامه إلى عمرة.
والصحيح: أنه ينعقد بعمرة.
وقال مالك، والثوري، وأبو حنيفة، وأحمد: (ينعقد إحرامه بالحج، ولكن يكون مكروها) .
دليلنا: أن الحج عبادة مؤقتة، فإذا أحرم به في غير وقته.. لم ينعقد إحرامه، وانعقد ما هو من جنسه، كما لو أحرم بالظهر قبل الزوال.. فإن إحرامه ينعقد بنافلة.
ولا يصح له الإحرام في الحج في السنة إلا مرة واحدة؛ لأن الوقت يستغرق أفعاله.

(4/62)


[مسألة الإحرام بالعمرة في جميع السنة]
] : وأما العمرة: فيجوز فعلها في جميع السنة، ولا يكره فعلها في وقت من السنة.
وقال أبو حنيفة: (يكره فعلها في خمسة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق الثلاث) .
وقال أبو يوسف: يكره فعلها يوم النحر، وأيام التشريق.
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» ولم يفرق، ولأن كل وقت لم يكره فيه استدامة العمرة.. لم يكره فيه ابتداؤها، كسائر الأوقات.

[فرع تكرار العمرة في السنة]
ويجوز أن يعتمر في السنة مرتين، وثلاثا، وأكثر. ويستحب الإكثار منها، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا يجوز في السنة إلا عمرة واحدة) . وبه قال النخعي، وابن سيرين.
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» ولم يفرق بين أن تكونا في سنة أو سنتين.
وروي: «أن عائشة ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ» .

(4/63)


وروي عن علي: (أنه كان يعتمر في كل يوم) ، وعن ابن عمر: (أنه كان يعتمر في كل يوم من أيام ابن الزبير) ، ولأن الحج عبادة تتعين في السنة بوقت، فوجب أن تكون من جنس ما يفعل على التوالي والتكرار، كالصوم، ولأن العمرة إنما سميت عمرة؛ لأنها تفعل في جميع العمر.
وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تفعل في موضع عامر.
وقيل: لأن العمرة هي القصد في اللغة، وفيها قصد.
ويستحب أن يكثر من العمرة في رمضان؛ لما روي: «أن أم معقل الأسدية قالت: يا رسول الله، إني أريد الحج وجملي أعجف، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: اعتمري في رمضان، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة»

(4/64)


[فرع الشك في الإحرام بحج أو عمرة]
وإن أحرم قبل أشهر الحج، ثم شك: هل أحرم بحج أم بعمرة؟ حكم بإحرامه بعمرة، ولا شك فيها.
وإن أحرم بالحج، ثم شك في أشهر الحج: هل كان إحرامه قبل أشهر الحج، أو في أشهر الحج؟ قال الصيمري: فهو في حج؛ لأنه على يقين من هذا الزمان، وفي شك من تقدمه.

[مسألة التخيير في كيفية أداء الحج والعمرة]
ومن أراد الحج والعمرة في سنة واحدة.. فهو بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين أن يفرد، أو يتمتع، أو يقرُِن؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «خرجنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ عام حجة الوداع، فمنا من أهل بالحج، ومنا من أهل بالعمرة، ومنا من أهل بالحج العمرة ... » .

(4/65)


إذا ثبت هذا: فالمشهور من المذهب: أن الإفراد والتمتع أفضل من القران، وفي الإفراد والتمتع قولان: أحدهما: أن الإفراد أفضل.
والثاني: أن التمتع أفضل.
وقال أبو حنيفة والثوري: (القران أفضل من الإفراد والتمتع) ، واختاره المزني، وأبو إسحاق المروزي، وابن المنذر.
وحكى صاحب " الفروع ": أنه قول ثالث للشافعي، ذكره في " أحكام القرآن "، وإنما اختلف في ذلك، لاختلاف الرواية في أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قرن أو تمتع أو أفرد، فمن قال: إن القران أفضل.. احتج بما روى أنس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: لبيك بحجة وعمرة»

(4/66)


وكذلك رواه عمر بن الخطاب وعمران بن الحصين.
وإذا قلنا: إن التمتع أفضل ـ وبه قال أحمد بن حنبل ـ فوجهه: ما روي عن علي، وابن عباس، وسعد بن أبي وقاص: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: تمتع بالحج» ، وروي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل على حفصة، فقالت: يا رسول الله، ما بال الناس حلوا من عمرتهم، ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر» .

(4/67)


وروى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت.. لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة» ، فتأسف على ترك التمتع، فعلم أنه أفضل، ولأنه أتى بالعبادتين في وقت شريف، وهو أشهر الحج، فكان أولى.
وإذا قلنا: إن الإفراد أفضل.. فإنما نريد به: إذا أتى بالحج، ثم أتى بالعمرة بعده، فأما إذا أتى بالحج دون العمرة.. فالتمتع أفضل. وهذا هو الصحيح.
ووجهه: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: خرجنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ في حجة الودع، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " من أراد أن يهل بالحج.. فليفعل، ومن أراد أن يهل بالعمرة.. فليفعل، ومن أراد أن يهل بالحج والعمرة.. فليفعل، وأما أنا: فأهل بالحج»

(4/68)


وروي: «أن رجلا سأل ابن عمر عن حج النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ؟ فقال: (أفرد الحج، ولم يقرن، ولم يتمتع) ثم سأله في العام الثاني؟ فقال: أليس قد سألتني في العام الأول، فأخبرتك؟ فقال: إن أنسا يقول: (إنه قد قرن بين الحج والعمرة) فقال ابن عمر (إن أنسا كان يتولج على النساء، وهن متكشفات لصغره لا يستترن منه، وأنا تحت ناقة النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يمسني لعابها، أسمعه يقول: " لبيك بحج» .
وروى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أحرم إحراما موقوفا لا بحج ولا بعمرة، فلما كان بين الصفا والمروة.. انتظر القضاء، فنزل القضاء، وجعل إحرامه حجا) ، وفي بعض الروايات: (أمر بالحج» .
وأما أخبار من روى: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان قارنا) ..» فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن من روى الإفراد أعرف بالقصة، وأكثر ضبطا لها؛ لأن عائشة

(4/69)


- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زوج النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وهي معه في الليل والنهار، فهي أعرف بأموره، وابن عمر كان بالقرب منه، وتحت ناقته، وجابر بن عبد الله اهتم بنقل المناسك أكثر مما اهتم بها سواهُ، ولهذا وصف: أن إحرام النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان موقوفا، وأنه انتظر القضاء، وأنس كان صغيرا، كما قال ابن عمر.
والجواب الثاني: أن نتأولها، فنقول: خبر أنس: أنه سمعه يقول: «لبيك بحجة وعمرة» أي: لبيك بحجة حين كان محرما بالحج، ولبيك بعمرة حين كان محرما بعمرة، فجمع بينهما في الرواية، وهذا كما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ نهى عن استقبال القبلتين» يعني: الكعبة وبيت المقدس، وأراد: أن ذلك كان في وقتين.
وأما حديث علي وابن عباس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ تمتع بالحج» .. فنحمله على أنه تمتع بالطيب واللباس والحلاق والنساء بعد الفراغ من الحج وقبل العمرة؛ لأنه يسمى تمتعا.
وأما حديث حفصة: فليس على ظاهره؛ لأن أصحاب النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لم يكونوا محرمين بالعمرة، وإنما كانوا محرمين بالحج، فكانوا يكرهون الاعتمار في أشهر الحج، فلما قدم النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ مكة.. أمر من لم يسق الهدي أن يفسخ إحرام الحج، ويتحلل منه بعمل عمرة، فقولها: «حلوا من عمرتهم» تريد: أنهم حلوا من حجتهم بعمل عمرة، وقولها: «وأنت لم تحل من عمرتك» أي: وأنت لم تحل من إحرامك بعمل عمرة. فقال: «لأني لبدت رأسي، وسقت الهدي، وإنما أمرت بفسخ الحج من لم يسق الهدي» ، ولهذا قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت.. لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة» ؛ لأن لا أكون في نسك، وهم في نسك غيره؛ لأن التمتع أفضل، ولأن الإفراد مجمع على إباحته، والتمتع والقران مختلف في إباحتهما.
فروي عن عمر وعثمان: (أنهما كرها التمتع) ، وكره سلمان بن ربيعة،

(4/70)


وزيد بن صوحان القران، فكان ما أجمع عليه أولى من المختلف فيه.

[مسألة معنى الإفراد والتمتع والقران وإدخال الحج على العمرة]
و (الإفراد) : هو أن يحرم بالحج، وبعد التحلل منه يأتي بعمرة.
و (التمتع) : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، وبعد التحلل منها يأتي بالحج في سنته.
و (القران) : هو أن يحرم بحجة وعمرة معا.
فإن أحرم بعمرة، ثم أدخل الحج في أشهر الحج قبل التلبس بالطواف ... صح ذلك، وكان قارنا؛ لما روي: «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أحرمت بالعمرة، فلما حصلت بسرف حاضت، فدخل عليها النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وهي تبكي، فقال لها النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فأهلي بالحج، واصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت ". وفي رواية أخرى: أنه قال لها: " ارفضي عمرتك، وأهلي

(4/71)


بالحج» ، والمراد بذلك: ارفضي أفعال عمرتك؛ لأن الحيض يمنعها من الطواف دون الإحرام. يدل على ذلك: أنه قال: «طوافك بالبيت، وسعيك بين الصفا والمروة.. يكفيك بحجك وعمرتك» .
فأما إذا طاف للعمرة، أو أخذ في الطواف، وأراد أن يدخل عليها الحج.. لم يصح إحرامه بالحج، نص عليه الشافعي، واختلف أصحابنا في علته:
فمنهم من قال: العلة فيه: أنه إذا طاف.. فقد أخذ في التحلل، وقرب أن يخرج من عمرته، وإنما يدخل عليها الحج ما دام زمنها تاما.
ومنهم من قال: العلة فيه: أنه قد أتى بمعظم العمرة وأكثر أفعالها، فلم يجز إدخال نسك آخر عليها.
وإن استلم الركن للطواف ولم يمش خطوة في الطواف.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: يصح له الإحرام بالحج؛ لأن الاستلام مقدمة للطواف، وليس منه.
والثاني: لا يصح؛ لأنه أول أبعاض الطواف.

(4/72)


[فرع إدخال الحج على العمرة]
] : وإن أحرم بالعمرة في أشهر الحج، أو في غير أشهر الحج، ثم أدخل عليها الحج في غير أشهر الحج.. لم يصر قارنا، وإنما يتعين إحرامه بالعمرة؛ لأن الإحرام بالحج في غير أشهر الحج لا يصح.
وإن أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج، وأدخل عليها الحج في أشهر الحج قبل الطواف.. صح ذلك، وكان قارنا قولا واحدا؛ لأن إحرامه في كل واحد منهما في وقته صحيح.

[فرع إدخال العمرة على الحج]
] : وإن أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة.. فهل يصح؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يصح ويكون قارنا) . وبه قال أبو حنيفة: لأنه أحد النسكين، فصح إدخال الآخر عليه، كالعمرة.
[الثاني] : قال في الجديد: (لا يصح إحرامه بالعمرة) . وبه قال أحمد، وهو الصحيح؛ لأن الحج أقوى من العمرة؛ لأن فيه وقوفا ورميا، فلم يصح إدخال الأضعف عليه وإن صح دخوله على العمرة، كما أن الفراش بالنكاح، لما كان أقوى من الفراش بملك اليمين؛ لأنه يتعلق به أحكام كالطلاق والظهار والإيلاء.. صح أن يدخل فراش النكاح على فراش ملك اليمين، وهو إذا كان تحته أمة يطؤها بملك اليمين ثم تزوج أختها.. فإنه يصح النكاح، ويحرم عليه المملوكة، فإن كان عنده زوجة، ثم ملك أختها.. لم يجز له وطء المملوكة.

(4/73)


إذا ثبت هذا: فإن قلنا بالجديد.. فلا تفريع عليه، وإن قلنا بالقديم.. جاز إدخال العمرة على الحج قبل الوقوف بعرفة.
وأما إذا وقف بعرفة، ولم يرم، ولم يطف.. فهل يصح إدخال العمرة هاهنا؟ فيه وجهان مبنيان على التعليلين في أنه لا يصح إدخال الحج على العمرة بعد الطواف:
[أحدهما] : فإن قلنا هناك: لا يجوز؛ لأنه قد أتى بمعظم العمرة.. لم يجز هاهنا أيضا؛ لأنه قد أتى بمعظم الحج.
و [الثاني] : إن قلنا هناك: لا يجوز؛ لأنه قد أخذ في التحلل.. جاز إدخال العمرة هاهنا على الحج؛ لأنه لا يأخذ في التحلل من الحج إلا بالرمي والطواف.
قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز له أن يعتمر وقد بقي عليه شيء من أفعال الحج. فلا يصح له أن يعتمر يوم النحر، ولا في اليوم الأول من أيام التشريق؛ لأن عليه الرمي وهو من أفعال الحج.
وأما في اليوم الثاني من أيام التشريق، فإن كان قبل الزوال.. لم يصح؛ لما ذكرناه. وأما بعد الزوال والرمي.. فينظر فيه: فإن نفر وخرج من منى قبل الغروب.. صح له أن يعتمر؛ لأنه بنفره قد سقط عنه رمي يوم الثالث، وإن لم ينفر حتى غابت الشمس.. لزمه رمي يوم الثالث، فلا يجوز له أن يعتمر حتى يرمي في اليوم الثالث.

(4/74)


[فرع إدخال الحج على عمرة فاسدة]
] : وإن أحرم بالعمرة فأفسدها، ثم أدخل عليها الحج.. ففيه وجهان:
أحدهما: ينعقد الحج، ويكون فاسدا؛ لأنه إدخال حج على عمرة، فأشبه إذا كانا صحيحين.
والثاني: لا ينعقد الحج، وهو الصحيح؛ لأنه لا يجوز أن يقال: إن إحرامه بالحج يقع صحيحا؛ لأنه مقارن لفاسد، ولا يجوز أن يقال: إنه ينعقد ويكون فاسدا؛ لأنه لم يطرأ على إحرامه ما يفسده، ولا يفسد بالوطء قبله، فلم يبق إلا أن يقال: لا ينعقد أصلا.

[مسألة جواز التمتع وشروط وجوب الدم]
] : قد ذكرنا أن التمتع جائز، وهو قول كافة أهل العلم، إلا ما روي عن عمر ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـ: (أنه كان ينهى عنه) ، فروي عنه: أنه قال: (متعتان كانتا على عهد رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أنا أنهى عنهما، بل أعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحج) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
فأباح التمتع، وأوجب فيه الهدي.

(4/75)


وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من أراد أن يهل بالحج.. فليفعل، ومن أراد أن يهل بالعمرة.. فليفعل، ومن أراد أن يهل بالحج والعمرة.. فليفعل» .
وروي: «أن رجلا سأل ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بالشام: أيجوز التمتع؟ فقال: يجوز، فقال: إن أباك كان ينهى عنه، فقال: أرأيت لو فعل رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ شيئا، ونهى عنه أبي.. أكنت تأخذ بفعل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أو بنهي أبي؟ فقال: بل بفعل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: (تمتع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وتمتعنا معه»
قال الشيخ أبو حامد: وما روي عن عمر، فله تأويلان:
أحدهما: أنه كان ينهى عن التمتع الذي فعله أصحاب النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، وهو: أن يحرم بالحج، ثم يفسخه إلى عمرة؛ لأن ذلك كان خاصا لهم؛ لأنهم كانوا لا يرون جواز الاعتمار في أشهر الحج، ففسخ النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ حجهم إلى عمرة؛ ليبين لهم جواز الاعتمار في أشهر الحج.
والثاني: أن عمر كان ينهى عن التمتع اختيارا منه للإفراد؛ لكي يزيل الإنسان شعره وشعثه في الحج لا في العمرة.
إذا ثبت هذا: فإنه يجب على المتمتع دم؛ للآية، وإنما يجب عليه الدم بشروط:
الشرط الأول: أن يعتمر في أشهر الحج فإن اعتمر في غير أشهر الحج، ثم حج في أشهره.. لم يلزمه الدم.

(4/76)


وقال طاووس: بل يلزمه الدم.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
فأقام (إِلَى) مقام (في) ؛ لأن حروف الصفات ينوب بعضها مناب بعض، وهذا يقتضي: أن يأتي بالعمرة في أشهر الحج. ولأنه لم يأت بالعمرة في أشهر الحج. فلم يجب عليه الدم، كالمفرد.
فإن أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج، وأتى بأفعالها في أشهر الحج ... ففيه قولان:
أحدهما: لا دم عليه، وهو قول قتادة، وأحمد، وإسحاق، وروي ذلك عن جابر؛ لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج، فهو كما لو فرغ من العمرة قبل أشهر الحج.
والثاني: عليه الدم، وهو قول الحسن، والحكم، وابن شبرمة؛ لأنه أتى بأفعالها في أشهر الحج، فهو كما لو أحرم بها في أشهر الحج.
فإن طاف للعمرة في غير أشهر الحج.. قال الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: لا يجب عليه الدم قولا واحدا.
وقال القفال: إذا أتى بالحلاق في أشهر الحج وحده، وقلنا: إنه نسك، وأتى بباقي أفعالها في غير أشهر الحج.. فهل يكون متمتعا؟ فيه قولان، كما لو أحرم بها

(4/77)


في غير أشهر الحج، وأتى بباقي أفعالها في أشهر الحج. وهذا يوافق قول مالك، وعطاء، والحسن.
دليلنا عليهم: أنه أتى بأفعال العمرة في غير أشهر الحج، فهو كما لو تحلل منها في غير أشهر الحج.
فإذا قلنا: يجب عليه الدم.. فلا كلام.
وإن قلنا: لا يجب عليه الدم.. فقال أبو العباس بن سريج: إنما لا يجب عليه الدم، إذا مر بالميقات قبل أشهر الحج، فأما إذا مر بالميقات في أشهر الحج.. لزمه الدم؛ لأنه مر بالميقات في أشهر الحج، وهو مريد للحج.
والشرط الثاني: أن يحج من سنته، وهل يشترط أن يجمع بين الحج والعمرة في شهر واحد؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: لا يشترط.
و [الثاني] : قال أحمد وأبو علي بن خيران: (يشترط) .
فأما إذا اعتمر في سنة، ثم حج في عام آخر.. لم يجب عليه الدم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
ولأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج، فلم يلزمه الدم، كالمفرد.
والشرط الثالث: أن لا يعود لإحرام الحج إلى ميقات بلده، فإن عاد إلى ميقات

(4/78)


بلده، وأحرم منه بالحج.. لم يجب عليه الدم؛ لأنه إنما وجب عليه الدم لأجل ترك الميقات للحج، وهذا لم يتركه.
قال الطبري: وهكذا لو لم يرجع إلى ميقات بلده الذي مر به، لكن رجع إلى مثل تلك المسافة من ناحية أخرى، وأحرم بالحج منها.. لم يجب عليه الدم.
وذكر صاحب " الإبانة " (ق\187) : أنه إذا سافر بعد عمرته سفرا تقصر فيه الصلاة، ثم حج من سنته.. أنه لا دم عليه.
فعلى قياس ما ذكره الطبري، وصاحب " الإبانة ": إذا أحرم الأفقي بالعمرة في أشهر الحج من ميقات بلده، وتحلل منها، ثم خرج إلى مدينة رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأحرم بالحج من ذي الحليفة، ثم حج من سنته.. فإنه لا يجب عليه دم التمتع.
قال ابن الصباغ: ذكر الشيخ أبو حامد: أن الشافعي قال في القديم: (إذا مر بالميقات، ولم يحرم بالعمرة منه حتى صار بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فأحرم بالعمرة من هناك.. لم يلزمه دم التمتع) ؛ لأنه صار من حاضري المسجد الحرام، وإنما يجب عليه دم لترك الميقات.

[فرع إحرام المتمتع والتعريف بحاضري المسجد الحرام]
فرع: [إحرام المتمتع من مكة أو من خارجها والتعريف بحاضري المسجد الحرام] : إذا لم يرد المتمتع العود إلى ميقات بلده.. فإنه يحرم بالحج من مكة، وفي موضع استحباب الإحرام منها قولان، حكاهما في " العدة ":

(4/79)


أحدهما: أن الأفضل أن يطوف بالبيت سبعا، ثم يصلي ركعتي الطواف، ثم يحرم.
والثاني: أن الأفضل أن يحرم من جوف منزله، ثم يطوف بالبيت بعد ذلك محرما.
فإن أحرم بالحج من مكة، ثم رجع إلى ميقات بلده محرما بالحج قبل التلبس بشيء من أفعال الحج.. فهل يسقط عنه دم التمتع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط؛ لأنه مر بالميقات محرما بالحج قبل الوقوف، فهو كما لو أحرم منه.
والثاني: لا يسقط، وبه قال مالك؛ لأن له ميقاتين يجب عليه الدم بالإحرام من أحدهما فإن أحرم منه.. لم يسقط عنه الدم بالعود إلى الآخر، كما لو عاد بعد الوقوف.
وقال أبو حنيفة: (لا يسقط عنه الدم حتى يعود إلى بلده) .
دليلنا: أن بلده موضع لا يجب عليه الإحرام منه بابتداء الشرع، فلا يسقط عنه الدم بالعود إليه، كسائر البلاد.
وإن خرج من مكة إلى الحل، وأحرم بالحج من هنالك.. فقد ترك ميقاته، فإن عاد إلى مكة محرما قبل الوقوف.. كان كما لو أحرم من مكة. وإن مضى إلى عرفات قبل أن يعود إلى مكة.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: يجب عليه دمان: دم التمتع، ودم لترك الإحرام من مكة.

(4/80)


و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لا يجب عليه إلا دم واحد؛ لأن دم التمتع إنما وجب لترك الإحرام بالحج من ميقات بلده، ولا فرق بين أن يترك من الميقات مسافة قليلة أو كثيرة، فإنه لا يجب عليه إلا دم واحد.
وإن أحرم بالحج من موضع من الحرم خارج مكة، ولم يعد إلى مكة قبل الوقوف.. فهل هو كمن أحرم من مكة؟
قال ابن الصباغ: من أصحابنا من قال: فيه قولان، ومنهم من قال: فيه وجهان:
أحدهما: أنه كمن أحرم من مكة؛ لأن مكة والحرم في الحرمة سواء، كما نقول في ذبح الهدي، وتحريم الصيد والشجر.
والثاني: أنه كمن أحرم من الحل؛ لأن مكة صارت ميقاتا له، فهو كمن لزمه الإحرام من قرية، فخرج عنها وأحرم.
والشرط الرابع: أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
إذا ثبت هذا: في (حاضروا المسجد الحرام) : من كان بالحرم، أو كان في موضع بينه وبين الحرم مسافة لا تقصر فيها الصلاة.
وقال ابن عباس: (حاضروا المسجد الحرام: من كان بالحرم خاصة لا غير) وبه قال مجاهد، والثوري.

(4/81)


وقال مالك: (حاضرو المسجد الحرام: أهل مكة، ومن كان بذي طوى لا غير) .
وقال أبو حنيفة، ومكحول: (حاضرو المسجد الحرام: من كان داره دون الميقات) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
فكل موضع ذكر الله تعالى المسجد، فإنما أراد به الحرم كله لا المسجد بنفسه، وذلك كقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] [الإسراء: 1] ،
وأراد به بيت خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
وقَوْله تَعَالَى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح: 25] [الفتح: 25] وأراد به الحرم.
وقَوْله تَعَالَى في المشركين: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] [التوبة: 28] .
ولا خلاف بين أهل العلم: أنه لا يجوز للمشرك دخول الحرم، وإذا كان كذلك.. فحاضرو الشيء من كان مجاورا له وبالقرب منه، بدليل أنه يقال: فلان بحضرة دار فلان، وإنما يراد به: أنه بالقرب منه، ويقال: فلان بحضرة الأمير، وإنما يراد: بالقرب منه.

(4/82)


[مسألة تمتع وقران حاضري المسجد الحرام]
] : فإن تمتع من كان من حاضري المسجد الحرام، أو قرن ... صح تمتعه وقرانه، ولكن لا يجب عليه دم، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح منه تمتع ولا قران، فإن أحرم بهما.. ارتفضت عمرته، فإن أحرم بالحج بعدما فعل شوطا من الطواف للعمرة.. ارتفض حجه) في قول أبي حنيفة، و (ارتفضت عمرته) في قول أبي يوسف ومحمد، (فإن أحرم بعد ما أتى بأكثر الطواف.. مضى فيهما، ولزمه دم جبران) .
دليلنا: أن من لا يكره له الإفراد.. لم يكره له التمتع والقران، كالأفقي.

[فرع تمتع المكي من خارج مكة]
] : وإن خرج المكي إلى بعض الآفاق لحاجة، ثم رجع وأحرم بالعمرة منها، أو من ميقاتها في أشهر الحج، وحج من عامه.. لم يلزمه الدم.
وقال طاووس: يلزمه الدم.
دليلنا: أن من لا يلزمه الدم إذا تمتع من بلده.. لم يلزمه الدم وإن تمتع من غير بلده، كما لو لم يحج من سنته.
وإن كان مولده ومنشؤه مكة، فانتقل عنها إلى غيرها، ثم عاد إلى مكة متمتعا أو قارنا ... لزمه الدم؛ لأنه خرج بالانتقال عن أن يكون من أهلها.
وإن كان من غير حاضري المسجد الحرام، فخرج من بيته يقصد مكة متمتعا ناويا للمقام بمكة بعد فراغه من الحج، فتمتع أو قرن.. لم يسقط عنه الدم؛ لأنه لا يصير مقيما إلا بالنية والفعل.

(4/83)


فإذا استوطنها ثم تمتع بعد ذلك، أو قرن.. فلا دم عليه؛ لأنه صار من حاضري المسجد الحرام.

[فرع تعدد المنزل للمتمتع]
إذا كان للرجل منزلان، أحدهما من الحرم على مسافة تقتصر فيها الصلاة، والآخر منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فتمتع بالعمرة إلى الحج.. قال الشافعي: (فأحب إلي أن يهرق دما بكل حال، فإن أبى إلا ما يلزمه.. نظر في مقامه: في أي المنزلين أكثر؟ فيكون حكمه حكم ذلك المنزل، فإن استوى مقامه فيهما.. نظر إلى ماله: في أي المنزلين أكثر؟ فيكون الحكم له فإن استويا في ذلك.. نظر إلى بيته في الإقامة بعد فراغه من الحج، فيكون الحكم له) ، فإن استويا في ذلك.. قال أصحابنا: ينظر إلى الموضع الذي أنشأ منه العمرة، فيكون الحكم له.

[فرع نية التمتع]
وهل يشترط نية التمتع؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها ليست بشرط؛ لأن الدم إنما وجب عليه لتركه الإحرام بالحج من

(4/84)


ميقات بلده، وهذا المعنى موجود وإن لم ينو التمتع.
والثاني: أنها شرط في وجود الدم؛ لأنه جمع بين العبادتين في وقت إحداهما، فافتقرت إلى النية، كالجمع بين الصلاتين.
فإذا قلنا بهذا: فهل من شرط هذه النية أن تكون عند الإحرام بالعمرة، أو يكفي أن ينوي ذلك في نية الجمع قبل الفراغ من أفعال العمرة؟ فيه وجهان، بناء على القولين في نية الجمع بين الصلاتين في وقت الأولى.
وهل يشترط أن تكون العمرة والحج من شخص واحد؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: لا يشترط ذلك.
و [الثاني] : قال الخضري: يشترط ذلك. والأول أصح.

[فرع العمرة بعد الحج أو القران من أدنى الحل لنفسه أو عن غيره]
] : قال الشافعي في القديم: (إذا حج الإنسان عن نفسه من الميقات في أشهر الحج فلما تحلل منه اعتمر عن نفسه من أدنى الحل، أو تمتع أو قرن عن نفسه من الميقات فلما فرغ أحرم بالعمرة عن نفسه من أدنى الحل.. فلا دم عليه في ذلك كله؛ لإحرامه بالعمرة المتأخرة عن الحج من أدنى الحل) .
وكذلك لو أفرد عن غيره الحج من الميقات ثم اعتمر عنه من أدنى الحل، أو

(4/85)


تمتع أو قرن عنه من الميقات ثم أحرم عنه بالعمرة من أدنى الحل.. لم يجب عليه غير دم التمتع أو القران؛ لأن عمل الأجير كعمل المستأجر.
فأما إذا اعتمر عن نفسه من الميقات ثم حج عن غيره من مكة، أو حج عن نفسه من الميقات ثم اعتمر عن غيره من أدنى الحل.. فعليه الدم في هاتين المسألتين، خلافا لأبي حنيفة.
دليلنا: أن الإحرامين إذا كانا عن شخصين.. فإنه يستحق فعلهما جميعا من الميقات، فإذا ترك الميقات لأحدهما.. وجب عليه الدم لأجله، كمن مر بالميقات مريدا للنسك، فلم يحرم منه، وأحرم من دونه، ولم يعد إليه قبل التلبس بنسك.
قلت: وعلى قياس هذا: ما يفعل الأجير في وقتنا: أنه يحرم بالعمرة عن المستأجر من الميقات، فإذا تحلل منها أقام يعتمر عن نفسه من أدنى الحل، ثم يحرم

(4/86)


بالحج عن المستأجر من مكة.. فيجب عليه للعمرة الأولى عن نفسه من أدنى الحل دم؛ لما ذكرناه فيما قبلها، ولا يجب عليه الدم لأجل ما بعدها من العمر؛ لأن المأجور عليه أن يحرم عن نفسه من الميقات بنسك واحد لا غير.

[فرع فقد بعض شروط التمتع المعتبرة في وجوب الدم]
] : ذكر الطبري في " العدة ": إذا عدمت بعض الشرائط المعتبرة في وجوب الدم في التمتع. فهل يقع عليه اسم المتمتع؟ اختلف أصحابنا فيه:
قال الشيخ أبو حامد: يقع عليه اسم المتمتع، إلا أنه لا يجب عليه الدم، لفقد الشرائط.
وقال القفال: لا يسمى متمتعا، وهذه الشرائط معتبرة في استحقاق هذا الاسم. وحكي: أن الشافعي نص على هذا.

[مسألة حل محظورات الإحرام لتحلل المتمتع]
] : إذا فرغ المتمتع من أفعال العمرة.. فله أن يتحلل ويتمتع بالطيب واللباس والنساء وغير ذلك، سواء ساق الهدي أو لم يسق، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (إن لم يكن معه الهدي.. فله أن يتحلل، وإن كان معه هدي.. لم يجز له أن يتحلل، بل يقيم حتى يحرم بالحج، ثم يتحلل منهما جميعا) .
واحتجوا بما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل على حفصة في حجة الوداع، فقالت له: يا رسول الله، ما بال الناس قد حلوا من عمرتهم، ولم تحل من عمرتك؟ فقال:

(4/87)


إني لبدت رأسي، وقلدت هديي.. فلا أحل حتى أنحر» .
دليلنا: أنه متمتع أكمل أفعال العمرة، فكان له التحلل، كما لو لم يكن معه هدي.
وأما حديث حفصة: فلا حجة فيه؛ لأنه كان مفردا عندنا، وقارنا عندهم، ولم يكن متمتعا، بدليل ما روى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت.. لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة» ومحال أن يكون متمتعا، ويتأسف على العمرة.
وأما معنى قول حفصة: «ما بال الناس قد حلوا من عمرتهم، ولم تحل أنت من عمرتك» فمعناه: لم يحل بعمرة، كما حل الناس من حجهم بعمرة؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان قد فسخ الحج على من لم يكن معه هدي من الصحابة؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الاعتمار في أشهر الحج لا يجوز، فأمرهم بالفسخ؛ ليبين لهم الجواز.

[فرع فسخ الحج إلى العمرة]
) : ومن أحرم بالحج.. لم يجز له فسخه إلى العمرة، وبه قال عامة الفقهاء. وقال أحمد: (يجوز ذلك لمن لم يكن معه هدي) ، واحتج بما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أحرم هو وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي، إلا النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وطلحة،
فأمر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ من لم يكن معه هدي أن يفسخ الحج، ويحرم بالعمرة» .
دليلنا: ما «روى بلال بن الحارث، قال: قلت: يا رسول الله، الفسخ لنا خاصة أو لمن بعدنا؟ فقال: بل لنا خاصة» ، ولأنه عبادة لا يخرج منها بالفساد، فلا يخرج منها بالفسخ، كالعمرة.

(4/88)


وأما الحديث المذكور في الفسخ: فأومأ الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الأم " [2/109] إلى: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وأصحابه أحرموا إحراما موقوفا، فلما انتظر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ القضاء بين الصفا والمروة.. نزل عليه القضاء: «من ساق الهدي.. فليجعله حجا، ومن لم يسق الهدي.. فليجعله عمرة» ، وروي ذلك عن طاووس.
فإن كان على هذا التأويل.. فهو جائز في وقتنا هذا.
قال الشيخ أبو حامد: والمشهور في الأخبار خلاف هذا، وأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم هو وأصحابه بالحج، فلما دخل مكة.. فسخ الحج على من لم يكن معه هدي، وأمرهم بالإحرام بالعمرة، وإنما فعل ذلك؛ ليبين جواز الاعتمار في أشهر الحج؛ لأن أهل الجاهلية كانوا لا يرون ذلك، ويقولون: (هو من أفجر الفجور، ويقولون: إذا عفا الأثر، وبرأ الدبر، وانسلخ صفر.. حلت العمرة لمن اعتمر) فأحب النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أن يبين الجواز بأظهر ما يكون، ففسخ عليهم الحج، وإنما خص بالفسخ من لم يكن معه هدي؛ لأنه فرضهم الصوم، ولا ضرر عليهم في الصوم بمكة، ولو فسخها على الذين معهم هدي.. لاحتاجوا إلى ذبح هديهم بمكة، وفي ذلك ضرر؛ لأنهم يحرمون بالحج من مكة، والمتمتع يذبح هديه إذا أحرم بالحج، فكان يصير سنة الذبح بمكة، وفي ذلك ضرر؛ لأنها تتلوث بالدم، فتركهم على إحرامهم لكي يذبحوا بمنى، وتكون سنة الذبح بها، ولا تتلوث مكة بالدم.

(4/89)


فإذا كان على هذا التأويل.. فإن الفسخ يكون خاصا لأصحاب النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، وهذا هو الصحيح؛ لما ذكرناه من حديث بلال بن الحارث.

[مسألة وقت إحرام المتمتع بالحج]
إذا تحلل المتمتع من عمرته، وكان واجدا للهدي.. فالمستحب له أن يحرم بالحج يوم التروية: وهو اليوم الثامن، فيحرم بعد الزوال متوجها إلى منى.
وقال مالك: (يستحب له الإحرام عنه إهلال ذي الحجة) .
دليلنا: ما روى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إذا توجهتم إلى منى رائحين.. فأهلوا بالحج» .
وإن كان عادما للهدي.. ففرضه الصوم، ويستحب له أن يفرغ من صوم الثالث يوم التروية، ولا يجوز الصوم قبل الإحرام بالحج على ما يأتي بيانه، إن شاء الله تعالى.

(4/90)


[مسألة وقت وجوب دم التمتع]
وأما وقت وجوب دم التمتع على من وجدت فيه شرائطه ... فيجب - عندنا - إذا أحرم بالحج، وبه قال أبو حنيفة.
وقال عطاء: لا يجب حتى يقف بعرفة.
وقال مالك: (لا يجب حتى يرمي جمرة العقبة) ، فاعتبر كمال الحج.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
وهذا قد فعل ذلك؛ لأن ما جعل غاية.. فوجود أوله كاف، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] .
ولأن الشرائط توجد بوجود الإحرام بالحج، فتعلق الوجوب فيه.
وأما وقت نحره: فالأفضل أن لا يذبح إلا يوم النحر، فإن ذبح بعد الإحرام بالحج، وقبل يوم النحر.. جاز عندنا.
وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يجوز) .
دليلنا: أنه دم يتعلق بالإحرام، فجاز إخراجه قبل يوم النحر، كدم الطيب واللباس.
وإن ذبح بعد الفراغ من العمرة، وقبل الإحرام بالحج.. ففيه قولان، حكاهما أبو علي في " الإفصاح "، وحكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 184] وجهين:
أحدهما: لا يجوز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
وما لم يحرم بالحج.. فلم يوجد التمتع. ولأن للهدي عملا يتعلق به عمل البدن، وهو تفرقة الهدي، فلم يجز تقديمه على وجوبه، كالصوم.

(4/91)


والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لأنه حق مال يتعلق بأسباب، فإذا وجد شرطها أو أكثرها.. جاز تقديمه على ما بقي منها، كالزكاة بعد ملك النصاب، وقبل الحول، وككفارة اليمين بعد الحلف، وقبل الحنث.
وإن أراد أن يذبح بعد الإحرام بالعمرة، وقبل الفراغ منها.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا يجزئه وجها واحدا.
وأما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 185] ، فقال: إذا قلنا: يجوز أن يذبح بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج.. فهل يجوز له أن يذبح قبل الفراغ من العمرة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز له؛ لأنه قد وجد بعض أسباب وجوبه، وهو الشروع في العمرة، فصار كما لو ذبح بعد الفراغ من العمرة.
والثاني: لا يجزئه، وهو الصحيح؛ لأن أحد سببي الوجوب بكماله - وهو العمرة ـ لم يوجد، فصار كما لو ذبح قبل الإحرام بالعمرة.

[مسألة انتقال المتمتع من الهدي إلى الصوم]
] : وإذا كان المتمتع واجدا للهدي في موضعه.. لم يجز له الانتقال إلى الصوم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
فنقله إلى الصوم، بشرط عدم الهدي.
وإن كان عادما للهدي في موضعه، وفي بلده.. جاز له الانتقال إلى الصوم،

(4/92)


وهو: صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع؛ للآية، وهكذا إذا كان عادما له في موضع.
وإن كان واجدا له في بلده.. كان له أن ينتقل إلى الصوم؛ لأنا لو لم نجوز له الصوم.. فاته الدم والصوم؛ لأن وقت الدم يوم النحر وأيام التشريق، ووقت صوم الثلاث قبل يوم النحر، وبالتأخير يفوتان جميعا.
إذا ثبت هذا: فلا يجوز له أن يصوم الثلاث قبل الإحرام بالحج، وروي ذلك عن ابن عمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له صوم الثلاث بعد الإحرام بالعمرة، وقبل التحلل منها) ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
والرواية الأخرى عنه: (يصومها بعد الفراغ منها) وهو قول عطاء.
دليلنا: أنه صوم واجب، فلا يجوز تقديمه على وقت وجوبه، كسائر الصوم

(4/93)


الواجب، ولأنه وقت لا يجوز فيه فعل المبدل، فلم يجز فيه فعل البدل، كما قبل الإحرام بالعمرة.
إذا تقرر ما ذكرناه: وأراد المتمتع أن يصوم الثلاث بعد الإحرام بالحج.. فالأفضل: أن يفرغ منها قبل يوم عرفة؛ لأن الأفضل للحاج أن يكون مفطرا يوم عرفة؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان مفطرا فيه؛ ولأن ذلك أقوى له على الدعاء.
وإن صام يوم عرفة منها.. جاز؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «يصوم المتمتع إذا لم يجد الهدي ثلاثة أيام إلى يوم النحر» ، ولا يجوز أن يصوم يوم النحر؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ نهى عن صيامه) .
وهل يجوز صوم الثلاث في أيام التشريق؟ فيه قولان، ذكرناهما في الصيام.

[فرع لا يفوت صوم الثلاث بفوات عرفة]
صوم الثلاث لا يفوت بفوات يوم عرفة.
فإن قلنا: يجوز صوم أيام التشريق.. صام فيها، ويكون مؤديا للصوم، لا قاضيا.

(4/94)


وإن قلنا: لا يجوز صوم أيام التشريق.. صام بعدها، ويكون قاضيا.
وقال أبو حنيفة: (إذا لم يصم الثلاث قبل يوم النحر.. سقط الصوم، ولم يقض، ولكن استقر عليه الهدي في ذمته، ويلزمه دم آخر؛ لتأخير الصوم عن وقته) .
وحكى الشيخ أبو حامد: أن أبا إسحاق خرج قولا آخر: أن الصوم يسقط، ولا يقضى، ولكن يجب في ذمته دم تمتع إلى أن يقدر، وحكاه في، " المجموع " و " الشامل " عن أبي العباس.
ووجهه: أن الله تعالى أمر بالهدي مطلقا، وأمر بالصوم عند عدم الهدي مقيدا بوقت، فإذا فات وقت الصوم.. وجب أن يرجع إلى الهدي المطلق.

(4/95)


دليلنا - على أبي حنيفة ـ: أنه صوم واجب، فلا يسقط بفوات وقته، كصوم رمضان.
ودليلنا - على بطلان القول المخرج ـ: أن الصوم بدل عن الهدي، فإذا فات الصوم.. وجب قضاؤه بالصوم لا بالهدي، ولأنا لو ألزمناه الهدي ... لأدى إلى أن يكون المبدل بدلا، وهذا لا يجوز.

[فرع موت المتمتع قبل التمكن من الصوم]
] : فإن أحرم المتمتع بالحج وهو عادم للهدي.. فإن فرضه الصوم، فلو مات قبل أن يتمكن من الصوم.. ففيه قولان:
أحدهما: يسقط عنه الصوم، ويهدى عنه من ماله؛ لأن الصوم قد فات بموته، ولا يمكن أن يصام عنه، ويمكن أن يهدى عنه.
والثاني: لا يجب عليه الهدي من ماله؛ لأنه لم يجب في حياته، فلم يجب بعد

(4/96)


موته، ولا يصام عنه؛ لأن النيابة في الصوم لا تجوز، ولا يجب أن يطعم عنه؛ لأن الإطعام إنما يجب عن صوم تمكن منه.

[فرع الصوم بدل عن الهدي وبيان وقته]
] : ويصوم سبعة أيام إذا رجع، والعشر كلها بدل عن الهدي.
وقال أبو حنيفة: (الثلاثة وحدها بدل عن الهدي، وأما السبع: فليست ببدل) .
دليلنا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
فعلق وجوبها بعدم الهدي، فكان الجميع بدلا منه، كالثلاثة الأيام.
وللشافعي في الرجوع - الذي هو وقت لجواز صوم السبع - قولان:
أحدهما - نقله المزني وحرملة ـ: (أنه الرجوع إلى الأهل والوطن) .
وهو الصحيح.
واختلف أصحابنا: في القول الثاني:
فمنهم من قال: هو إذا فرغ من أفعال الحج، وهو قول أبي حنيفة وأحمد.
ووجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
والرجوع يجب أن يكون رجوعا عن المذكور، وهو الحج، ولأنه متمتع فرغ من أفعال الحج، فجاز له صوم السبع، كما لو أقام بمكة.
ومن أصحابنا من قال: القول الثاني: هو إذا أخذ في السير خارجا من مكة، وبه قال مالك، وهو المذكور في " المهذب "؛ لأن ابتداء الرجوع هو الابتداء بالسير

(4/97)


من مكة. ووجه - ما نقل المزني وحرملة -: قَوْله تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
ولا يجوز أن يكون المراد به الفراغ من أفعال الحج؛ لأنه لا يصح أن يقال: رجعت عن فعل كذا، ولو أراد ذلك.. لقال: وسبعة إذا فرغتم، وإنما يقال ذلك لمن رجع إلى وطنه. وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت.. لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة، فمن كان معه هدي.. فليهد، ومن لم يكن معه هدي.. فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله» . فإذا قلنا بهذا، فصام السبع قبل أن يرجع إلى وطنه.. لم يجزه. وإذا قلنا: إن الرجوع هو الفراغ من أفعال الحج، أو إذا أخذ في السير، فأخره حتى رجع إلى أهله، ثم صامها.. أجزأه. وإن صامها في ابتداء السير.. أجزأه، وفي الأفضل قولان: أحدهما: أن تقديمه أفضل؛ لأن فعل العبادة في أول وقتها أفضل. والثاني: أن تأخيره إلى الوطن أفضل - وبه قال مالك - ليخرج بذلك من الخلاف.

[فرع تأخير صوم الثلاثة عن وقتها وتتابع العشر]
] : إذا أخر صوم الثلاثة إلى أن رجع إلى وطنه، أو إلى أن فرغ من أفعال الحج، أو أخذ في السير.. فقد ذكرنا: أن صوم الثلاثة لا يفوت، على المشهور من المذهب، ولكن يصومها قضاء، وقد اجتمعت عليه مع صوم السبعة الأيام، وهل يجب عليه

(4/98)


التفريق بينهما؟ حكى البغداديون من أصحابنا فيها وجهين، وحكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\186] قولين:
أحدهما: لا يجب التفريق بينهما، ويجوز أن يوالي بينهما ـ وبه قال أحمد - لأن التفريق بينهما إنما كان في الأداء لأجل الوقت، وقد فات الوقت، فسقط التفريق، كالتفريق بين الظهر والعصر.
والثاني: يجب التفريق بينهما في القضاء، وهو الصحيح؛ لأن التفريق بينهما وجب من حيث الفعل؛ لأنه أمر أن يصوم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع، والرجوع فعل، وما وجب الترتيب فيه من ناحية الفعل.. لم يسقط الترتيب فيه بفوات الوقت، كترتيب أفعال الصلاة.
فإذا قلنا بالأول.. صام العشرة، كيف شاء.
وإن قلنا بالثاني.. فلا يجب عليه التفريق بين الثلاثة بنفسها، ولا بين السبعة بنفسها، بل: إن شاء صام الثلاثة متتابعا، وإن شاء متفرقا، وكذلك السبعة.
وإنما يجب التفريق بين السبعة والثلاثة. قال الشيخ أبو إسحاق صاحب " المهذب ": والفرق بينهما بمقدار ما وجب التفريق بينهما في الأداء.
ومعنى هذا: أنه يبنى على أصلين:
أحدهما: في صوم أيام التشريق، هل يصح عن المتمتع؟

(4/99)


والثاني: الرجوع المذكور في الآية.
وفي كل واحد من الأصلين قولان، مضى بيان ذلك.
فإذا قلنا بالقول القديم، وأن صوم أيام التشريق يجوز للمتمتع.. بني على القولين في الرجوع المذكور في الآية.
فإن قلنا: إن الرجوع هو الفراغ من أفعال الحج، أو الأخذ في السير.. لم يلزمه هاهنا تفريق؛ لأنه كان يمكنه في الأداء أن يصوم الثلاثة في أيام التشريق، ثم يصوم بعدها السبعة؛ لأنه يفرغ من أفعال الحج في أيام التشريق، ويبتدئ بالسير فيها إلى بلده.
وإن قلنا: إن الرجوع هو الرجوع إلى وطنه.. قال أصحابنا: فإنه يفرق بينهما هاهنا بقدر مسافة السفر إلى وطنه؛ لأنه كان يمكنه أن يصوم الثلاثة الأيام في أيام التشريق، ثم يسير إلى وطنه.
قلت: وينبغي أن يقال على هذا: يلزمه التفريق بقدر مسافة السفر إلى وطنه إلا يوما؛ لأنه كان يمكنه أن يصوم الثلاث في أيام التشريق، وينفر في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الرمي وطواف الوداع، فيجتمع في اليوم الثالث من أيام التشريق الصوم عن الثلاث، والسفر إلى بلده.
وإن قلنا بقوله الجديد، وأن صوم أيام التشريق لا يجوز للمتمتع.. بني على القولين في الرجوع.
فإن قلنا: إنه بالفراغ من أفعال الحج أو الابتداء في السير إلى بلده.. لزمه أن يفرق بينهما هاهنا بأربعة أيام؛ لأنه كان يمكنه في الأداء أن يجعل آخر الثلاثة يوم عرفة، ثم يفطر يوم النحر وأيام التشريق ثلاثا، وفيها يفرغ من الحج، أو يبتدئ السير.
وإن قلنا: إن الرجوع هو الرجوع إلى وطنه.. لزمه أن يفرق بينهما بأربعة أيام، وقدر مسافة سفره إلى بلده؛ لأن أقل ما يمكنه على هذا أن يجعل آخر الثلاثة يوم عرفة، ثم يفطر يوم النحر وأيام التشريق، ثم يرجع إلى وطنه، وتعتبر مدة السير المعتاد، هكذا ذكر أصحابنا.

(4/100)


قلت: ويحتمل على هذا القول، أن يقال: لا يجب عليه التفريق إلا بثلاثة أيام ومدة سيره إلى وطنه؛ لأنه كان يمكنه في الأداء أن يجعل آخر الثلاثة يوم عرفة، ثم يقف بمنى يوم النحر واليومين الأولين من أيام التشريق، ثم ينفر في النفر الأول، وهو بعد الزوال في اليوم الثاني من أيام التشريق، ويروح إلى مكة ويودع، ثم يبتدئ بالسير إلى بلده آخر الثاني من أيام التشريق.
إذا ثبت هذا: فذكر الشافعي في " الإملاء ": (أن أقل ما يفرق بينهما بيوم) ، واختلف أصحابنا: من أي معنى أخذه الشافعي؟
فقال أبو إسحاق: إنما قال الشافعي هذا، إذا قلنا: يجوز صوم أيام التشريق عن الثلاث.. جاز أن يصام فيها كل صوم له سبب؛ لأنه كان يمكنه أن يفرغ من الثلاثة يوم عرفة، ثم يفطر يوم النحر، ثم يصوم أيام التشريق عن السبع.
ومنهم من قال: لم يأخذه الشافعي من هذا؛ لأن صوم السبع لا يصح في أيام التشريق؛ لأنا إن قلنا: إن الرجوع هو الفراغ من أفعال الحج.. فلا يمكنه أن يفرغ من أفعاله أول يوم من أيام التشريق، فيكون التفريق بيوم. وإن قلنا: الرجوع هو الرجوع إلى وطنه.. لم يمكنه ذلك إلى أول يوم من أيام التشريق. وإنما قال الشافعي: (يفرق بينهما بيوم) ؛ لأن الله - تعالى - أمر بالتفريق بينهما، وأقله يوم، لا كما ذكره أبو إسحاق.
فإن صام العشر متتابعة.. أجزأته الثلاثة الأولى. فإن قلنا: يجب التفريق

(4/101)


بيوم ... لم يجزه صوم يوم الرابع، وهل يجزئه ما بعد الرابع؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 186 ـ 187] :
أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه إذا صام اليوم الخامس.. كان عنده هو الثاني من السبع، فلم يجزه عن الأول منها، وكذلك ما بعده.
والثاني: يجزئه، وهو الصحيح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره، وعليه التفريع.
فعلى هذا: يصوم يوما بعد العشر.
وإن قلنا: يجب التفريق بينهما بأربعة أيام.. لم يجزه الرابع والخامس والسادس والسابع، ويجزئه الثامن والتاسع والعاشر عن السبع، ثم يصوم أربعة أيام بعد ذلك.
وإن قلنا: يفرق بينهما بأربعة أيام، وبمسافة السفر إلى بلده.. قضى صوم السبع إذا مر هذا القدر من الزمان.

[فرع موت المتمتع قبل الصوم وبعد التمكن]
وإن مات بعدما تمكن من صوم العشرة الأيام، فإن قلنا بقوله القديم: (إن النيابة تدخل في الصوم) .. صام عنه وليه. وإن قلنا بقوله بالجديد: (إن النيابة لا تدخل في الصوم) ، وهو الصحيح.. تُصُدِّقَ عنه عن كل يوم مد من طعام.
قال الشيخ أبو إسحاق في " الشرح ": وهذا أولى من قول الشافعي: إنه يتصدق عنه عن كل يوم بدرهم، أو ثلث شاة. يومئ إلى: أن في ذلك ثلاثة أقوال. قال أصحابنا: وهذه الأقوال إنما هي في إتلاف شعره أو ظفره، وليست هاهنا.

(4/102)


[مسألة وجود الهدي بعد الشروع بالصيام]
] : إذا دخل في صوم الثلاث، ثم وجد الهدي.. لم يلزمه الانتقال إليه.
وقال أبو حنيفة: (يلزمه الانتقال إليه) ، ووافقنا أبو حنيفة: أنه إذا وجد الهدي بعد صوم الثلاث.. لا يلزمه الانتقال إليه، وإنما يستحب له الانتقال إليه.
دليلنا: أن صوم الثلاث لزمه عند عدم الهدي، فلا يلزمه الانتقال إليه بعد الدخول فيه لوجود الهدي، كصوم السبع.
فأما إذا أحرم بالحج، وهو عادم للهدي، فقبل أن يدخل في الصوم وجد الهدي.. فهل يلزمه الانتقال إليه؟ يبنى على: أن الاعتبار بالكفارة حال الوجوب، أو حال الأداء، أو أغلظ الحالين، وفي ذلك ثلاثة أقوال، يأتي ذكرها في (الظهار) إن شاء الله تعالى.

[مسألة وجوب الدم على القارن]
] : ويجب على القارن دم، وهو شاة، وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال الشعبي: عليه بدنة.
وقال داود: (لا دم عليه) وحكي: أن ابن داود دخل مكة، فسئل: هل على

(4/103)


القارن دم؟ فقال: لا دم عليه، فجروه برجله، وهذا لشهرة الأمر بينهم في وجوب الدم عليه.
دليلنا: ما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من قرن بين الحج والعمرة.. فليهرق دما» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أهدى عن نسائه بقرة وكن قارنات» . وهذا يرد قول الشعبي وداود.
قال الشافعي: (والقارن أخف حالا من المتمتع) .
قال أصحابنا: فيحتمل أن يكون أراد بهذا ردا على الشعبي، حيث قال: عليه بدنة؛ لأن القارن أحرم بالنسكين من الميقات، والمتمتع أحرم من الميقات بأحد النسكين، ولأن المتمتع إذا فرغ من عمرته، يتمتع بالطيب واللباس والنساء وغير ذلك، والقارن لا يكون له ذلك، فإذا لم يجب على المتمتع بدنة.. فلأن لا يجب على القارن بدنة أولى.

(4/104)


ويحتمل أن يكون أراد بذلك ردا على داود؛ لأن أفعال القارن أخف من أفعال المتمتع؛ لأنه يكتفي بإحرام واحد، وطواف واحد، وسعي واحد. بخلاف المتمتع، فإذا وجب الدم على المتمتع.. فالقارن أولى بالإيجاب عليه.
[وبالله التوفيق]

(4/105)