البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب الإحرام وما يحرم فيه]
ينبغي لمن أراد أن يحرم: أن يتجرد عن ثيابه، فيغتسل؛ لما روى زيد بن ثابت «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ تجرد عن ثيابه لإحرامه، واغتسل» .
قال الشافعي: (لم أترك الغسل للإحرام قط، ولقد اغتسلت وأنا مريض أخاف من الماء، وما صحبت أحدا أقتدي به ترك الغسل للإحرام) .
ويستحب الغسل للرجل والصبي والمرأة والحائض والنفساء؛ لما روى جابر قال: «ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بذي الحليفة، فأمرها النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أن تغتسل وتحرم» ، وروى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «النفساء

(4/119)


والحائض إذا أتتا على المواقيت.. تغتسلان وتحرمان، وتقضيان المناسك كلها، غير الطواف بالبيت» .
ولأن الحيض والنفاس لا ينافيان هذه العبادة، فلا يمنعان الاغتسال لها.
قال الشافعي: (ومتى حاضت المرأة، أو نفست في الميقات أو قبله، فإن أمكنها أن تقف حتى تطهر فتغتسل وتحرم.. أحببت لها أن تقف لتدخل في الإحرام على أكمل أحوالها، فإن لم يمكنها ذلك.. اغتسلت وأحرمت) ؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أذن لعائشة أن تحرم بالحج وهي حائض» و: «أذن لأسماء بنت عميس أن تحرم وهي نفساء» .
إذا ثبت هذا: فإن الغسل للإحرام ليس بواجب.
وقال الحسن البصري: إذا نسي الغسل عند إحرامه.. اغتسل إذا ذكره.
فإن أراد: أن ذلك مستحب.. فهو وفاق، وإن أراد: أنه واجب.. فالدليل عليه: أنه لو كان واجبا.. لما أمر به من لا يصح منه الغسل، وهو الحائض والنفساء كغسل الجنابة. ولأنه غسل لأمر مستقبل، فلم يكن واجبا، كغسل الجمعة والعيدين.
فإن لم يجد الماء.. تيمم؛ لأن التيمم ينوب عن الغسل الواجب، فناب عن المسنون.

[فرع الأماكن التي يستحب لها الغسل]
] : قال الشافعي في الجديد: (ويستحب الاغتسال للحج في سبعة مواطن:
للإحرام، ولدخول مكة، وللوقوف بعرفة، وللوقوف بالمزدلفة، ولرمي الجمار الثلاث في أيام التشريق، ولا يستحب ذلك لرمي جمرة العقبة؛ لأن الناس لا يجتمعون لها)

(4/120)


وزاد في القديم ثلاث اغتسالات: (لطواف الزيارة، ولطواف الوداع، وللحلق) ولم يحك الشيخ أبو حامد الغسل للحلق، وإنما حكاه القاضي أبو الطيب.

[مسألة ما يلبسه المحرم]
] : فإذا فرغ المريد للإحرام من الاغتسال.. فإنه يلبس إزارا ورداء، ويكشف رأسه، ويخلع خفيه، ويلبس نعلين، لما روى ابن عمر أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين» .
والمستحب: أن يكون ثوباه أبيضين؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «خير ثيابك البياض فألبسوها أحياءكم، وكفنوا فيها موتاكم» والمحرم على أكمل أحواله، فاستحب له أفضل الثياب.
والجديد أحب إلينا من المغسول، فإن لم يجد جديدا.. لبس مغسولا.

(4/121)


[فرع الطيب للمحرم]
] : فإذا فرغ من الاغتسال، ولبس الثوبين.. فالمستحب له: أن يتطيب قبل إحرامه، ولا فرق بين أن يتطيب بطيب تبقى عينه أو أثره، كالمسك والغالية والعود، وبين أن يتطيب بطيب لا تبقى عينه أو أثره، وروي ذلك عن ابن عباس، وابن الزبير، وسعد بن أبي وقاص، ومعاوية، وعائشة، وأم حبيبة وهو قول أبي حنيفة وأحمد وأبي يوسف.
وحكى صاحب " الفروع " وجها آخر لبعض أصحابنا: أنه لا يتطيب بطيب تبقى عينه. وليس بشيء.

(4/122)


وقال مالك وعطاء: (يكره له أن يتطيب بطيب تبقى رائحته بعد الإحرام) .
وروي ذلك عن عمر بن الخطاب.
واحتجوا: بما «روى يعلى بن أمية قال: (كنا عند رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجعرانة، فأتاه رجل أعرابي، وعليه مقطعة ـ يعني: جبة وهو متضمخ بالخلوق. وفي بعض الروايات: عليه ردع من زعفران ـ فقال: يا رسول الله أحرمت بعمرة، وعلي هذه وأنا متضمخ بالخلوق، فقال رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " ما كنت تصنع في حجك؟ " قال: كنت أنزع عني هذه المقطعة، وأغسل عني هذا الخلوق، فقال له ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " ما كنت صانعا في حجك.. فاصنعه في عمرتك» .
ودليلنا: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (طيبت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، لإحرامه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت» ، وروي عنها: أنها قالت: «رأيت وبيص المسك في مفرق رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بعد ثلاث من إحرامه» .
ولأن الطيب معنى يراد للاستدامة والبقاء، فلم يمنع الإحرام من استدامته كالنكاح.

(4/123)


وأما حديث يعلى بن أمية: فإنما ذلك لأن الخلوق فيه الزعفران، والرجل ممنوع من لبس المزعفر؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ نهى الرجل عن لبس المزعفر» .
قال أبو علي الطبري في " الإفصاح "، والشيخ أبو حامد: ويستوي في النهي عن المزعفر الرجل الحلال والمحرم؛ للخبر المذكور.
وأيضا: فإن خبرنا متأخر عن خبر يعلى بن أمية، فكان ناسخا له.

[فرع انتشار الطيب بالعرق وتطييب الثوب]
] : فإن تطيب قبل الإحرام، ثم عرق بعد الإحرام، وسال الطيب من موضع من بدنه إلى موضع آخر منه.. ففيه وجهان:
أحدهما: عليه الفدية: لأنه حصل الطيب على موضع من بدنه بعد الإحرام بعد أن لم يكن عليه بسبب فعله، فوجبت عليه الفدية به، كما لو طيبه ابتداء.
والثاني ـ وهو المذهب ـ: أنه لا فدية عليه: لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كنا إذا أردنا الإحرام.. نضمد جباهنا بالسك المطيب، فإذا عرقت إحدانا، سال ذلك على وجهها.. فيراه رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فلا ينكر عليها» . ولأنه ليس بتطيب من جهته بعد الإحرام، فهو كما لو ثبت مكانه.

(4/124)


فإن نقل الطيب من موضع في بدنه إلى موضع غيره، أو تعمد مسه، أو نحاه من موضعه ورده إليه.. وجبت عليه الفدية، كما لو تطيب ابتداء.
وإن طيب ثوبا ولبسه، ثم أحرم.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها المسعودي [في " الإبانة " ق\191] :
أحدها: يجوز، كما لو طيب بدنه.
والثاني: لا يجوز؛ لأن الطيب يبقى على الثوب، ولا يستهلك بخلاف البدن.
والثالث ـ وهي طريقة أصحابنا البغداديين ـ: إن استدام لبسه.. فلا شيء عليه، كما لو طيب بدنه واستدام الطيب عليه.
وإن نزع الثوب في الإحرام، ثم رده.. فعليه الفدية، كما لو ابتدأ الطيب في بدنه أوثيابه.

[مسألة من يستحب له الحناء والطيب]
] : وأما المرأة: فإذا أرادت الإحرام.. فيستحب لها أن تختضب بالحناء قبل الإحرام؛ لما روي «عن عبد الله بن دينار: أنه قال: (من السنة أن تختضب المرأة إذا أرادت الإحرام» وإذا قال الصحابي أو التابعي: (من السنة كذا) .. اقتضى سنة رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ.

(4/125)


وأما الخنثى المشكل: فقال القاضي أبو الفتوح في كتاب (الخناثى) : لا يسن له الخضاب للإحرام، كالرجل.
ويستحب للمرأة أن تختضب بالحناء في كل وقت إذا كانت ذات زوج؛ لأن هذا زينة وجمال، وقد استحب لها التجمل للزوج. وروي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ مدت إليه امرأة يدها لتبايعه، فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «يد رجل أم يد امرأة؟ " فقالت: بل يد امرأة، فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " ما أدري، فأين الخضاب؟!» .
وإن كانت غير ذات زوج، ولم ترد الإحرام.. لم يستحب لها الخضاب، بل يكره لها ذلك؛ لأنه لا زوج لها تتزين له، وربما غرت الناس، فافتتنوا بها.
ويستحب للمرأة إذا أرادت الإحرام أن تتطيب، كما يستحب ذلك للرجل؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (خرجنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ إلى مكة، فلما كان عند الإحرام.. ضمدنا جباهنا بالسك، فكنا إذا عرقنا، سال على وجوهنا.. فيراه رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ولا ينكره» .
إذا ثبت هذا: فيستحب ذلك للشابة والعجوز.
والفرق بينه وبين الجمعة، حيث قلنا: لا يستحب ذلك في حقها إذا أرادت حضور الجمعة؛ لأن موضع حضور الجمعة أضيق؛ لأنها تقعد بالقرب من الرجال، ولهذا لم

(4/126)


يسن للشابة حضور الجمعة، وليس كذلك الإحرام؛ لأن موضعه واسع لا يؤدي إلى اختلاطهن بالرجال، ولهذا لم يفرق في حضوره بين العجوز والشابة.

[مسألة ركعتا الإحرام وأفضلية وقته]
إذا فرغ المريد للنسك مما ذكرناه.. فالمستحب له: أن يصلي ركعتين، ثم يحرم؛ لما روى ابن عباس، وجابر بن عبد الله: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ صلى بذي الحليفة ركعتين، ثم أحرم» .
قال الشيخ أبو حامد: فإن أراد أن يحرم في وقت لا يجوز فيه الصلاة، وهو بعد صلاة الصبح، وقبل طلوع الشمس، أو عند غروبها، وما أشبه ذلك من الأوقات المنهي عنها.. نظرت: فإن أمكنه أن يقف حتى تطلع الشمس، وتحل الصلاة، ثم يصلي ويحرم.. فعل ذلك؛ لأن الركعتين زيادة قربة وطاعة. وإن لم يمكنه ذلك.. فإنه يحرم بغير صلاة؛ لأن ابتداء النافلة في ذلك الوقت لا يجوز. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 78] : ولأن سبب الصلاة متأخر عنها.
فإذا فرغ من الركعتين.. فهل الأفضل أن يحرم عقيبهما، أو حتى تنبعث به راحلته، أو يبتدئ بالسير إن كان ماشيا؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (الأفضل أن يحرم عقيب الركعتين) . وبه قال أبو حنيفة.

(4/127)


و [الثاني] : قال في الجديد: (الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته إن كان راكبا، أو إذا ابتدأ بالسير إن كان ماشيا) .
وقال مالك: (يحرم إذا أشرف على البيداء) .
فإذا قلنا بالقديم.. فوجهه: ما روي «عن سعيد بن جبير: أنه قال: قلت لابن عباس: عجبت من اختلاف أصحاب النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ في إحرامه حين أوجب! فقال بعضهم: أهل حين فرغ من الصلاة، وقال بعضهم: أهل حين انبعثت به راحلته، وقال بعضهم: أهل حين أشرف على البيداء. فقال ابن عباس: (أنا أعلم الناس بذلك: إن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما أتى مسجده بذي الحليفة.. صلى ركعتين، ثم أوجب في مجلسه، فحفظه قوم، وقالوا: أهل حين فرغ من الصلاة، فلما ركب وانبعثت به راحلته.. أهل، فأدركه قوم، وقالوا: أهل حين انبعثت به راحلته، فلما أشرف على البيداء.. أهل، فأدركه قوم، فقالوا: أهل حين أشرف على البيداء» .
وإذا قلنا بقوله الجديد.. فوجهه: ما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لم يكن يهل حتى تنبعث به راحلته» ، وهذا نفي وإثبات. وروى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال:
«إذا رحتم إلى منى متوجهين.. فأهلوا بالحج» .

(4/128)


[فرع انعقاد الإحرام بغير تلبية ولا بد من النية]
وينوي الإحرام، ويستحب له أن يلبي، فإن نوى الإحرام، ولم يلب.... انعقد إحرامه.
وقال أبو عبد الله الزبيري: لا ينعقد إحرامه إلا بالنية والتلبية. قال في " الإفصاح ": وبه قال ابن خيران.
وقال مالك وأبو حنيفة: (لا ينعقد إحرامه إلا بالنية والتلبية، أو بالنية وسوق الهدي) .
دليلنا: أنها عبادة لا يجب النطق في آخرها، فلم يجب في أولها، كالصوم والطهارة، وعكسه الصلاة.
فإن لبى ولم ينو.. لم ينعقد إحرامه.
وقال داود: (ينعقد إحرامه بالتلبية دون النية) ، وحكي أن أبا العباس ابن سريج قال لداود: صف لنا تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرها، فقال له: صرت محرما، فقال: لقد تزببت حصرما.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى» ، ولأنها عبادة محضة طريقها الأفعال، فلم تصح من غير نية، كالصلاة والصوم.

[فرع تعيين النسك بالنية]
] : وله أن يعين ما يحرم به من إفراد أو تمتع أو قران.
فإن لبى بحج ونوى عمرة، أو لبى بعمرة ونوى حجا.. انعقد إحرامه بما نواه، لا بما لبى به؛ لأن النسك ينعقد بالنية دون التلبية.
وإن أحرم إحراما مطلقا، ولم ينو حجا ولا عمرة ولا قرانا.. صح إحرامه، وكان له أن يصرفه إلى أي وجوه الإحرام شاء.

(4/129)


والدليل عليه: ما روى طاووس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسم حجا ولا عمرة حتى وقف بين الصفا والمروة، ينتظر القضاء.. فأمر أن يهل بالحج» ، وروي: «أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قدم من اليمن، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بم أهللت؟ " قال: قلت: أهللت إهلالا كإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " فأقم على إحرامك "، وفي رواية أخرى: أنه قال: " أما إني سقت الهدي.. فلا أحل حتى أنحر» ، وكذلك روي: أن أبا موسى الأشعري فعل كذلك.
وهي الأفضل أن يطلق إحرامه، أو يعين ما أحرم به؟ فيه قولان:
أحدهما: أن الإطلاق أفضل؛ لما ذكرناه من حديث طاووس، ولأنه أقل غررا؛ لأنه يصرفه إلى الأسهل.
والثاني: أن التعيين أفضل؛ لأن جابرًا روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أحرموا بالحج» وهذا أولى؛ لأن حديث طاووس مرسل، ولأنه يكون عالما بما يدخل به من العبادة.

(4/130)


وهل الأفضل أن يذكر ما أحرم به في تلبيته، أو يقتصر على النية فقط؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص للشافعي -: أن الأفضل أن لا ينطق بما أحرم به.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: الأفضل أن ينطق بما أحرم به - وبه قال أحمد - لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال - وهو بالعقيق -: " أتاني الليلة آت من عند ربي عز وجل، فقال لي: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: حجة في عمرة» ولأن ذلك أبعد عن النسيان.
ووجه الأول: حديث طاووس، وما حكي: أن ابن عمر سمع رجلا يقول: لبيك بحجة، فدفع في صدره، وقال: (هو يعلم ما في نفسك) ، ولأن التلبية ذكر لله تعالى، وتسمية النسك ليست بذكر لله عز وجل، فلم يستحب أن يشوب ذكر الله عز وجل بما ليس بذكر له.

[فرع إطلاق النية في الإحرام]
فإن أحرم إحراما مطلقا.. فله أن يصرفه إلى الحج، أو العمرة، أو إليهما.
فإن طاف، أو وقف بعرفة قبل أن يصرف إحرامه إلى شيء ... لم ينصرف إحرامه بنفس الطواف أو الوقوف، بل لو صرف إحرامه بعد الطواف إلى الحج.. وقع الطواف عن طواف القدوم.

(4/131)


وقال أبو حنيفة: (إذا طاف.. انصرف إحرامه إلى العمرة، وإن وقف بعرفة.. انصرف إلى الحج) .
دليلنا: أن نية التعيين شرط، ولم يوجد منه ذلك، فلم يتعين عليه بفعل النسك، كما لو طاف أو وقف قبل الإحرام.

[فرع تعليق الإحرام بإحرام الغير]
وإن أحرم كإحرام زيد.. صح؛ لما ذكرناه من حديث علي: أنه قال: «أهللت إهلالا كإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -) ، ثم ينظر فيه: فإن كان زيد قد أحرم بنسك معين.. انصرف إحرام هذا الذي علق إحرامه عليه إلى النسك الذي أحرم به زيد. وإن أحرم زيد إحراما موقوفا.. كان إحرام هذا الرجل موقوفا أيضا، ولكل واحد منهما أن يصرف إحرامه إلى ما شاء، ولا يتعين على هذا أن يصرف إحرامه إلى ما صرف زيد إحرامه إليه.
وإن أحرم زيد إحراما موقوفا، ثم صرف إحرامه إلى نسك معين، ثم علق رجل إحرامه بإحرام زيد بعد ذلك، فإن قال: أحرمت بإحرام كابتداء إحرام زيد.. انعقد إحرامه موقوفا، وله أن يصرف إحرامه إلى ما شاء، ولا يتعين عليه بما صرف زيد إليه إحرامه. وإن قال: كإحرام زيد الآن.. انعقد إحرامه بما صرف زيد إحرامه إليه.
وإن بان أن زيدا لم يحرم.. انعقد إحرام هذا موقوفا؛ لأنه قد عقد الإحرام،

(4/132)


وإنما علق التعيين على إحرام زيد، فإذا بان أن زيدا لم يحرم.. انعقد إحرام هذا موقوفا.
وإن لم يعلم ما أحرم به زيد، بأن مات أو جن أو عاد وتعذر العلم بإحرامه.. فقال البغداديون من أصحابنا: لزمه أن يقرن؛ لأنه اليقين، والفرق بينه وبين من أحرم بنسك معين، ثم نسيه، حيث جوزنا له التحري في أحد القولين؛ لأنه يمكنه أن يتحرى في فعل نفسه، ولا يمكنه ذلك في فعل غيره.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\183] : هي على قولين، كمن شك في تعيين ما أحرم به، على ما يأتي ذكرهما.

[مسألة الإحرام بنسكين متفقين]
إذا أحرم بحجتين، أو عمرتين، أو أحرم بحجة ثم أدخل عليها حجا، أو أحرم بعمرة ثم أدخل عليها عمرة.. لم ينعقد إحرامه إلا بواحد من النسكين.
وقال أبو حنيفة: (ينعقد إحرامه بهما، [ولا يمكنه] المضي فيهما، فترتفض إحداهما) ، واختلفوا متى ترتفض؟.
فقال أبو يوسف: تنتقض في الحال.
وقال أبو حنيفة ومحمد: (ترتفض إذا أخذ في السير، فلو أحصر مكانه.. تحلل منهما) .
دليلنا: أنه لا يمكنه المضي فيهما، فلم يصح الدخول فيهما، قياسا على صوم النذر وصوم رمضان.

[فرع الإحرام عن رجلين]
فإن استأجره رجلان ليحج عنهما، فأحرم عنهما جميعا.. انعقد الإحرام للأجير؛ لأن الإحرام الواحد لا ينعقد عن اثنين، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فانعقد الإحرام لنفسه دونهما.

(4/133)


وإن أحرم عن أحدهما لا بعينه.. قال ابن الصباغ: انعقد إحرامه، وكان له أن يصرفه إلى أيهما شاء قبل أن يتلبس بشيء من أفعال النسك. وبه قال أبو حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف: يقع عن نفسه.
دليلنا: أن ما ملك تعيينه في الابتداء.. ملك الإحرام به مطلقا، ثم يعينه، كالإحرام عن نفسه.
وإن استأجره رجل ليحج عنه، فأحرم عن المستأجر، وعن نفسه بحج.. انعقد الإحرام بالحج عن نفسه؛ لأن الإحرام انعقد، ولم يصح عن غيره، فوقع عن نفسه، كالصرورة.
وإن استأجره رجل ليحج عنه، فأحرم بالعمرة عن نفسه وبالحج عن المستأجر، وقرن بينهما.. فقد قال الشافعي في " المنسك الكبير ": (كان الحج والعمرة عن الأجير؛ لأن الإحرام واحد، فلا يجوز أن يقع عن اثنين، ولا يجوز أن يقع عن غيره مع نيته له عن نفسه) . قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": وقد أومأ الشافعي في القديم إلى: أنهما يقعان على ما نوى، العمرة عن نفسه، والحج عن المستأجر.
ومن أصحابنا من قال: يقعان معا عي المستأجر؛ لأن العمرة تتبع الحج، والحج لا يتبعها.
والأول أصح.

[مسألة الشك في النسك]
إذا أحرم بنسك معين، ثم شك بماذا أحرم؟ ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (إنه يتحرى، ويبني على ما يغلب على ظنه أنه أحرم به) ؛ لأن هذا اشتباه في شرط من شرائط العبادة، فكان له الاجتهاد فيه، كالإناءين والقبلة.

(4/134)


فعلى هذا: يعمل على ما يغلب على ظنه، والمستحب له: أن يقرن.
و [الثاني] : قال في الجديد: (إنه يلزمه أن يقرن) ، وهو الصحيح؛ لأنه شك لحقه في فعله بعد التلبس بالعبادة، فلم يكن له الاجتهاد، وإنما يلزمه اليقين، كمن شك في عدد الركعات، ويخالف الإناءين والقبلة؛ لأن له على ذلك هناك أمارات يرجع إليها عند الاشتباه، وهاهنا لا أمارة له على نفسه يرجع إليها.
فعلى هذا: يلزمه أن ينوي القران.
ونقل المزني: (أنه يصير قارنا) ، وليس هذا على ظاهره، بل أراد: أنه يلزمه نية القران.
وهل يجزئه ما يأتي به عن فرض الحج والعمرة؟ ينظر فيه:
فإن طرأ عليه هذا الشك قبل أن يفعل شيئا من المناسك بعد الإحرام، ونوى القران.. أجزأه الحج، بلا خلاف على المذهب؛ لأنه إن كان قد أحرم به.. فقد انعقد، وإن كان قد أحرم بعمرة.. فقد أدخل عليها الحج قبل الطواف، وذلك جائز.
وأما العمرة: فإن قلنا: يجوز إدخالها على الحج.. سقط عنه فرض العمرة أيضا ووجب عليه دم القران. وإن قلنا: لا يجوز إدخال العمرة على الحج.. فهل تجزئه: العمرة هاهنا؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق في " الشرح ": تجزئه العمرة أيضا؛ لأن إدخال

(4/135)


العمرة على الحج إنما لا يجوز من غير حاجة، وهاهنا به حاجة إلى إدخالها.
فعلى هذا: يجب عليه دم القران أيضا.
والثاني - وهو قول عامة أصحابنا، وهو الصحيح -: أنه لا تجزئه العمرة؛ لجواز أن يكون قد أحرم بالحج، والفرض لا يسقط بالشك.
فعلى هذا: هل يجب عليه دم القران؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو الصحيح -: أنه لا يجب عليه؛ لأنا لم نحكم له بالقران، والأصل براءة ذمته منه.
والثاني: يجب عليه: لجواز أن يكون قارنا.
وإن طرأ عليه هذا الشك قبل طواف القدوم، وبعد أن وقف بعرفة، وكان وقت الوقوف باقيا.. فإنه ينوي القران، ويقف بعرفة، ويجزئه الحج، وهذا مراد الشيخ أبي إسحاق في " المهذب " بقوله: إذا نسي بعد الوقوف، وقبل طواف القدوم.
وأما العمرة.. فهل يسقط عنه فرضها؟ إن قلنا: يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف.. سقط عنه فرضها، وكان عليه دم القران. وإن قلنا: لا يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف، أو لا يجوز إدخالها عليه أصلا.. لم يسقط عنه فرضها، وفي دم القران وجهان، مضى توجيههما.
وإن طرأ عليه هذا الشك بعد الوقوف بعرفة وبعد فوات وقته، وقبل طواف القدوم، ونوى القران.. لم يجزه عن الحج؛ لجواز أنه لم يحرم به إلا وقد فات الوقوف.
وأما العمرة: فإن قلنا: لا يجوز إدخالها على الحج أصلا، أو قلنا: يجوز إدخالها عليه قبل الوقوف لا غير، ولا يجوز بعده.. لم تجزه العمرة أيضا. وإن قلنا: يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف.. أجزأته العمرة.

(4/136)


وإن طرأ عليه هذا الشك بعد طواف القدوم، وبعد الوقوف بعرفة.. لم يجزه الحج؛ لجواز أنه لم يحرم به إلا وقد طاف للعمرة.
وأما العمرة: فإن قلنا: لا يجوز إدخالها على الحج أصلا، أو قلنا: يجوز إدخالها قبل الوقوف لا غير.. لم تجزه العمرة أيضا. وإن قلنا: يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف.. أجزأته العمرة.
وإن طرأ عليه هذا الشك بعد طواف القدوم، وقبل الوقوف بعرفة. فإن قلنا: يجوز إدخال العمرة على الحج، أو نوى القران.. صحت له العمرة، ولا يصح له الحج؛ لأنه لا يجوز له إدخال الحج على العمرة بعد الطواف. وإن قلنا: لا يجوز إدخال العمرة على الحج.. لم يصح له الحج ولا العمرة؛ لأنه يحتمل أنه كان معتمرا، فلا يصح إدخال الحج عليها بعد الطواف، ويحتمل أنه كان حاجا، وإدخال العمرة على الحج لا يجوز.
قال ابن الحداد: فإن أراد أن يجزئه الحج.. فإنه لا ينوي القران، ولكن يسعى، بين الصفا والمروة، ويحلق رأسه، ثم يحرم بالحج؛ لأنه إن كان معتمرا.. فهذا وقت الحلاق والتحلل، وإن كان حاجا أو قارنا.. فلا يضره تجديد إحرام آخر.
وذكر في " المهذب ": أنه يعيد الطواف. ولا معنى له؛ لأنه قد طاف.
وقال أبو زيد المروزي: إن كان الرجل فقيها، وفعل ما قال ابن الحداد باجتهاده.. فلا كلام، وأما إذا استفتى.. فإنا لا نفتي بجواز الحلاق؛ لأنه يحتمل أن يكون محرما بالحج، فلا يجوز له الحلق قبل وقته.
قال القاضي أبو الطيب: ويمكن ابن الحداد أن يجيب، فيقول: الحلق يستباح للحاجة إليه، وبه هاهنا حاجة إليه لئلا يلغو عمله، فلا يحتسب له بحجة ولا عمرة.
فإذا قلنا بقول ابن الحداد.. وجب عليه دم؛ لأنه إن كان معتمرا.. فعليه دم التمتع، وإن كان حاجا أو قارنا.. فقد حلق في غير وقته.

(4/137)


ومن أصحابنا من قال: يجب عليه دمان؛ لجواز أن يكون قارنا، فيجب عليه: دم القران، ودم الحلاق. وهذا ليس بشيء؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على دم واحد.

[مسألة أحوال التلبية]
قال الشافعي: (ويلبي المحرم قائما وقاعدا، وراكبا ونازلا، وجنبا ومتطهرا) .
وهذا صحيح؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أهل مهل قط ... إلا بشر، ولا كبر مكبر قط
إلا بشر " قيل: يا رسول الله، بالجنة؟ قال: " نعم» ، وروي عن ابن عباس: أنه قال: (التلبية زينة الحج) .
وسئل محمد ابن الحنفية عن الجنب يلبي؟ فقال: نعم.
ويستحب ذلك للحائض؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة - وقد حاضت وهي محرمة -: " اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت» ، والحاج يلبي، فكذلك الحائض.
ويستحب أن يلبي عند اصطدام الرفاق، وعند الإشراف، والهبوط؛ لما روي:

(4/138)


«أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبي إذا رأى ركبا، أو علا أكمة، أو هبط واديا» .
ويستحب أن يلبي في أدبار المكتوبة، وفي إقبال الليل والنهار؛ لأنه روي ذلك عن بعض السلف، ولأنه وقت صعود ملائكة النهار، ونزول ملائكة الليل.
ويستحب أن يلبي في مسجد مكة، ومسجد الخيف بمنى، ومسجد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بعرفات، وفيما عدا هذا من المساجد قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يلبي) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (يلبي) ، وهو الأصح؛ لعموم الأمر بالتلبية ولأنه مسجد بني للجماعة، فاستحب فيه التلبية، كالمساجد الثلاثة.
وأما التلبية في حال الطواف: فقال في القديم: (لا يلبي، وإن لبى.. لم يجهر به) لما روي عن ابن عمر: (أنه كان لا يلبي في الطواف) ، وروي عن

(4/139)


سفيان: أنه قال: ما علمت أن أحدا كان يلبي في الطواف إلا عطاء بن السائب، فأخبر: أن هذا إجماع، ولأن للطواف ذكرا يختص به.
وقال في " الإملاء ": (وأحب ترك التلبية في الطواف للأثر، فإن لبى.. فلا بأس) . والأثر هو: ما ذكرناه عن ابن عمر وسفيان.
وأما التلبية في السعي: فقال الشافعي في " الإملاء ": (فلا بأس أن يلبي المحرم على الصفا والمروة، وبينهما، غير أني أحب له تركها؛ لأن الذي روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوقوف عليهما والتكبير والدعاء، فكذلك بينهما، فأحب له من ذلك ما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير أن أكره التلبية) .
وهاتان المسألتان إنما تتصوران في المحرم بالحج، إذا طاف طواف القدوم، وسعى بعده للحج. فأما في طواف الفرض في الحج، أو في طواف العمرة وسعيها.. فلا يتصور له ذلك.
ويستحب له رفع الصوت بالتلبية؛ لما روى زيد بن خالد الجهني: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " أتاني جبريل، فقال: يا محمد، مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية؛ فإنها من شعائر الحج» ، وروى أبو بكر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل: أي الحج

(4/140)


أفضل؟ فقال: " العج والثج» ، ومعنى (العج) : رفع الصوت بالتلبية، و (الثج) : إسالة دم الهدي، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ: 14] [النبأ: 14] ، وروي: «أن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا لا يبلغون الروحاء.. حتى تبح حلوقهم» يعني: من رفع الصوت في التلبية.
وإن كانت امرأة ... لا ترفع صوتها؛ لأنه يخاف الافتتان بها.
وإن كان خنثى.. لم يرفع الصوت: لجواز أن يكون امرأة.

[مسألة صفة التلبية وما يقول إذا فرغ منها]
] : والتلبية أن يقول: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ؛ لما روى ابن عمر: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبي هكذا) .

(4/141)


وهل تكره الزيادة على ذلك؟
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 182] : يكره؛ لما روي: «أن سعد بن أبي وقاص سمع ابنه يلبي ويقول: (لبيك يا ذا المعارج) ، فقال: (يا بني، أما إنه ذو المعارج، ولكنا لم نقل هكذا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»
وقال الشيخ أبو حامد: وذكر أهل العراق عن الشافعي: (أنه تكره الزيادة على ذلك) وغلطوا، بل لا يكره ذلك، ولا يستحب ذلك؛ لما روي في بعض الأخبار: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في تلبيته: " لبيك حقا حقا، عبودية ورقا» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجتمع عليه الناس، فلما تفرقوا عنه.. أعجبه ذلك، فقال: «لبيك إن

(4/142)


العيش عيش الآخرة» وروي: أن ابن عمر كان يزيد في تلبيته: (لبيك وسعديك والخير بيديك، والرغبة إليك والعمل) ، فدل على: أنه لا يكره الزيادة.
إذا ثبت هذا: فيجوز كسر الهمزة من قوله: " إن الحمد " وفتحها، فالكسر على معنى الابتداء وهو أولى، والفتح بمعنى؛ لأن الحمد والنعمة لك.
و (التلبية) : مأخوذة من قولهم: ألب بالمكان، إذا لزمه وأقام فيه، ومعناه: أنا مقيم عند طاعتك، وعلى أمرك، غير خارج عن ذلك، ولا شارد عنه، ثم ثنوه للتأكيد.
قال الهروي: ومعنى " وسعديك "؛ أي ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة.
فإذا فرغ من التلبية ... صلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] [الانشراح: 4] ، يقول: «لا أذكر إلا وتذكر معي» .

(4/143)


ثم يسأل الله رضوانه والجنة، ويستعيذ برحمته من النار؛ لما روى خزيمة بن ثابت: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسأل الله ذلك بعد التلبية) .

[فرع التكلم أثناء التلبية وترجمتها]
قال الشافعي: (ولا بأس أن يرد الملبي السلام، ويأمر ببعض حاجته، غير أني لا أحب له أن يأمر بحاجته. ويرد السلام؛ لأن الرد فرض، والتلبية سنة) .
قال: (والأعجمي أن أحسن التلبية بالعربية، وإلا.. لبى بها بلسانه) .
وقال أبو حنيفة: (يلبي بأي لغة شاء) ، كما قال في التكبير، وقد مضى الدليل عليه في الصلاة.

[مسألة حلق الشعر للمحرم]
وإذا أحرم.. حرم عليه حلق رأسه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]

(4/144)


[البقرة: 196] . ويحرم عليه حلق شعر البدن.
وقال أهل الظاهر: (لا يحرم عليه غير حلق شعر الرأس) .
دليلنا: أنه شعر يتنظف به ويترفه، فلم يجز للمحرم حلقه، كشعر الرأس، وتجب به الفدية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
قال ابن عباس: (معنى قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 196] أي: برأسه قروح [أو] فيه أذى) ، ومعني الآية: فحلق.. ففدية.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بكعب بن عجرة وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم، وهو يوقد تحت برمة له - والقمل ينحدر من رأسه - فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أتوذيك هوام رأسك يا كعب؟ " فقال: نعم، قال: " احلقه، وانسك شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو تصدق بثلاثة آصع على ستة مساكين» .

(4/145)


[فرع حلق المحرم شعر الحلال]
ويجوز للمحرم حلق شعر الحلال، ولا شيء عليه بذلك.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز له ذلك، فإن فعل.. لزمه أن يتصدق بصدقة) .
وقال مالك في إحدى الروايتين: (تلزمه الفدية) .
ودليلنا: أنه شعر لا يتعلق به حرمة الإحرام، فلم يمنع من إزالته، ولا يجب عليه بإزالته شيء، كشعر البهيمة.

[مسألة تقليم الأظافر للمحرم وإبانة أحد أعضائه]
ويحرم عليه تقليم شيء من أظفاره؛ لأنه يقع به الترفه والنظافة، وهو مما ينمو، فحرم عليه، كالشعر، وتجب به الفدية قياسا على الشعر.
فإن قطع المحرم يده، وعليها شعر وأظفار.. لم تجب عليه الفدية؛ لأن الشعر والظفر تابع لليد، فلا تنفرد بضمان، واليد لا يضمنها بالفدية، كذلك الشعر والظفر، بدليل: أنه لو كانت له زوجة صغيرة، فأرضعتها أمه.. انفسخ النكاح، وضمنت له المهر، ولو قتلتها.. انفسخ النكاح، ولم تضمن المهر.

[مسألة غطاء رأس ووجه المحرم]
ولا يجوز للرجل المحرم أن يغطي رأسه بمخيط ولا بغير مخيط، ويجوز له أن يغطي وجهه بغير المخيط.
وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يجوز له أن يغطي وجهه، فإن فعل.. كان عليه الفدية) .

(4/146)


دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المحرم الذي خر من بعيره فمات: " كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما، ولا تقربوه طيبا، ولا تخمروا رأسه وخمروا وجهه» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المحرم: «لا يلبس عمامة ولا برنسا» ، والعمامة ليست بمخيطة، والبرنس مخيط، ولأن الوجه عضو لا يتعلق النسك بحلق شعره، فوجب أن يجوز للمحرم ستره، كسائر البدن.
فإن غطى رأسه ... وجبت فيه الفدية؛ لأنه فعل محرم في الإحرام، فوجبت به الفدية، كحلق الرأس.

[فرع عصابة المحرم]
وإن عصب رأسه بخيط.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 188] : فلا بأس به؛ لأنه لا يقصد به الستر. وإن تعصب بعصابة.. فعليه الفدية؛ لأنه يقصد بها الستر.

(4/147)


[فرع الحمل أو وضع اليد على الرأس للمحرم]
] : وإن حمل المحرم على رأسه مكتلا.. فهل يلزمه الفدية؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق -: أنه لا فدية عليه؛ لأنه لا يقصد به ستر الرأس، وإنما يقصد حمله، فلم يمنع منه، كما لا يمنع المحدث من حمل المصحف في جملة القماش للنقل.
والثاني: أن عليه الفدية، وحكى ابن المنذر والشيخ أبو حامد: أن الشافعي نص على هذا. ووجهه: أنه ستر رأسه، فأشبه ما لو طلاه بالطين أو الحناء.
وإن ترك المحرم يده على رأسه.. فلا شيء عليه؛ لأن ذلك ليس بتغطية في العادة، ولأنه ستره بما هو متصل به، ولهذا لا يجوز أن يستر عورته بيده.

[فرع الطلي بالحناء وغيره للمحرم]
وإن طلا رأسه بحناء أو طين أو نورة، فإن كان ثخينا بحيث يمنع النظر إلى الرأس.. وجبت عليه الفدية، كما لو غطاه بثوب. وإن كان رقيقا.. لم تجب عليه الفدية، كما لو غسله بماء وسدر.
قال الشافعي: (ولو طلاه بعسل أو لبن.. فلا فدية عليه) .

[فرع ما يحرم لبسه للمحرم]
ولا يجوز للرجل المحرم ستر بدنه بما عمل على قدره، كالقميص والجبة، ولا بما عمل على قدر عضو من أعضائه، كالسراويل والخفين والساعدين والقفازين،

(4/148)


سواء كان معمولا بالخياطة، أو منسوجا على هيئته، أو ملزقا بلزاق؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عما يلبسه المحرم؟ فقال: " لا يلبس قميصا، ولا جبة، ولا عمامة، ولا برنسا، ولا سراويل، ولا خفين، إلا أن لا يجد نعلين.. فليلبس الخفين، وليقطعهما، حتى يكونا أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران» .
فإن لبس شيئا مما ذكرناه.. وجبت عليه الفدية؛ لأنه محرم في الإحرام، فتعلقت به الفدية، كحلق الرأس.
وإن لبس القباء.. وجبت عليه الفدية، سواء أدخل يديه في الكمين أو لم يدخلهما، وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه الفدية إلا إذا أدخل يده في الكمين) .
دليلنا: أنه لبس مخيطا على ما جرت العادة بلبسه، فوجبت عليه الفدية، كالقميص ولأن من لبس القباء.. فمن عادته أن يدخل كفيه فيه، ولا يخرج يديه من كميه في غالب الأحوال، ولا يكاد يخرج يده من كميه إلا لحاجة أو ركوب، فجرى مجرى القميص.

[فرع الجراحة ببدن المحرم أو رأسه]
وإن كان على المحرم جراحة، فشد عليها خرقة، فإن كانت في غير الرأس فلا شيء عليه؛ لأنه لا يمنع من تغطية بدنه بغير المخيط.
وإن كانت على الرأس.. لزمته الفدية؛ لأنه يمنع من تغطية رأسه بالمخيط وغيره.

(4/149)


[فرع ما يقاس على السراويل وما يصنع بالإزار للمحرم]
فرع: [ما يقاس على السراويل وما يصنع بالإزار] :
والتبان والران كالسراويل؛ لأنه في معناه، فإن شق إزارا وجعل على كل ساق قطعة، وشد كل خرقة على ساق.. لم يجز؛ لأنه كالسراويل.
وله أن يعقد إزاره؛ لأنه من مصلحته، ويجوز أن يعقد على الإزار تكة أو خيطا، ويجوز أن يجعل له حجزة ويدخل التكة فيها ويعقده؛ لأن كل هذا من مصلحته، ولا بأس أن يتوشح بالرداء، ويغرز أطرافه في أطراف إزاره. ولا يزره ولا يشوكه، ولا يعقده عليه.
قال الشيخ أبو حامد: فإن فعل شيئا من ذلك.. وجبت عليه الفدية.
وذكر الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": أنه إذا عقد عليه رداءه.. لم تجب عليه الفدية؛ لأنه ليس بمخيط، فهو كما لو التحف به.

(4/150)


[فرع لبس السراويل لفاقد الإزار]
إذا لم يجد إزارا.. جاز أن يلبس السراويل، ولا فدية عليه، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\189] : إذا كان يمكنه فتق السراويل والائتزار به فلبسه قبل الفتق ... كان عليه الفدية.
وقال مالك: (لا يجوز له لبسه، فإن فعل.. فعليه الفدية) .
وقال أبو حنيفة: (يفتقه ويلبسه، فإن لبسه من غير فتق.. فعليه الفدية) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن لم يجد الإزار.. فليلبس السراويل» .
وإن لم يجد الإزار.. لم يجز له لبس القميص؛ لأنه يمكنه لبسه على صفته، كالمئزر، بخلاف السراويل.

(4/151)


فإن لبس السراويل مع عدم الإزار، ثم وجد الإزار.. لزمه خلع السراويل، فإن لم يفعل مع العلم.. وجبت عليه الفدية؛ لأنه إنما جاز له لبس السراويل بشرط عدم الإزار، وقد وجده.

[فرع لبس المنطقة وما أشبهها للمحرم]
فرع: [لبس المنطقة وما أشبهها] :
ويجوز للمحرم أن يلبس المنطقة، ويشدها على وسطه.
وأصحابنا يحكون عن مالك: أنه قال: (لا يجوز له ذلك) . وأصحابه يحكون عنه: (أنه يجوز) .
دليلنا: ما روي: (أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سئلت عن المحرم يشد الهميان في وسطه؟ فقالت: نعم) .
وله أن يتقلد السيف، ويتنكب المصحف؛ لـ: (أن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلوا المسجد متقلدين السيوف، وهم محرمون) .

(4/152)


[فرع لبس الخفين عند فقد النعلين للمحرم]
فرع: [لبس الخفين عند فقد النعلين] :
ولا يجوز للمحرم لبس الخفين؛ للخبر، فإن فعل.. وجبت عليه الفدية، قياسا على الحلق. فإن لم يجد نعلين.. جاز له أن يلبس الخفين بعد أن يقطعهما من أسفل الكعبين، ويجعلهما شمشكين.
فإن لبسهما قبل القطع مع عدم النعلين.. لزمته الفدية، وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال عطاء، وسعيد بن سالم القداح، وأحمد بن حنبل: (لا فدية عليه) .
دليلنا: ما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فإن لم يجد نعلين.. فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين» .
فإن وجد النعلين.. فهل يجوز له استدامة لبس الخفين المقطوعين؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: أنه لا يجوز له، كما قلنا في لبس السراويل بعد وجود الإزار.
والثاني: يجوز - وبه قال أبو حنيفة - لأنهما في معنى النعلين، بدليل: أنه

(4/153)


لا يجوز المسح عليهما. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الخف المخرق لا يجوز المسح عليه، ولا يجوز للمحرم لبسه.

[فرع إدخال إحدى الرجلين بالخف أو كليهما إلى الساق]
ذكر الصيمري إذا أدخل الرجلين إلى ساق الخفين، أو أدخل إحدى الرجلين إلى قرار الخف دون الأخرى.. فلا فدية عليه؛ لأنه ليس بلابس الخفين.

[مسألة إحرام المرأة]
وإذا أحرمت المرأة.. فإنه لا يجب عليها كشف رأسها، ولكن لا يجوز لها تغطية وجهها، ولسنا نريد بذلك أنها تبرزه للناس، وإنما نريد أنها لا تغطيه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إحرام المرأة في وجهها» فدل: على أن حكمه لا يتعلق بالرأس.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى المرأة المحرمة عن النقاب» . ولأن رأسها عورة وكشف العورة لا يجوز.

(4/154)


إذا ثبت هذا: فلها أن تستر من وجهها ما لا يمكنها ستر الرأس إلا به، كما نقول في المتوضئ: إنه يغسل جزءا من رأسه؛ لاستيفاء غسل الوجه.
فإن أرادت المرأة أن تستر وجهها عن الناس.. عقدت الثوب على رأسها، وسدلته على وجهها، وجافته عن الوجه بعود حتى لا يقع على وجهها؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن محرمات، فكان إذا مر بنا الركبان وحاذوا بنا.. سدلت إحدانا جلبابها من فوق رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا.. رفعته» . فإن وقع الثوب على وجهها بغير اختيارها، فإن رفعته في الحال.. فلا شيء عليها. وإن أقرته مع القدرة على رفعه، وهي ذاكرة عالمة بالتحريم.. وجبت عليها الفدية.
ويجوز لها لبس القميص والسراويل والخفين؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى النساء في إحرامهن عن النقاب والقفازين وما مسه الورس والزعفران، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف» .

(4/155)


وهل يجوز لها لبس القفازين، وهو مخيط يلبس على الكفين بمنزلة الخفين على الرجلين؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز - وبه قال الثوري وأبو حنيفة، وحكي عن سعد بن أبي وقاص - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرم المرأة في وجهها» ، ولأنه عضو يجوز لها ستره بغير المخيط، فجاز لها ستره بالمخيط كرجلها.
والثاني: لا يجوز، وبه قال علي، وعمر، وعائشة، وهو الصحيح؛ لحديث ابن عمر، ولأن يدها ليست بعورة منها فيتعلق بها حكم الإحرام، كالوجه.

[فرع تغطية رأس ووجه الخنثى وما يلبسه]
قال القاضي أبو الفتوح: وإن كان المحرم خنثى مشكلا، فإن غطى رأسه.. لم تجب عليه الفدية؛ لجواز أن تكون امرأة. وإن غطى وجهه.. لم تجب عليه الفدية؛

(4/156)


لجواز أن يكون رجلا. وإن غطاهما جميعا.. وجبت عليه الفدية؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون امرأة أو رجلا. فإن قال: أنا أكشف رأسي ووجهي.. قلنا: في إخلال بالواجب.
قال القاضي أبو الفتوح: ولو قيل: يؤمر بكشف الوجه.. كان صحيحا؛ لأنه إن كان رجلا، فكشف الوجه لا يؤثر، ولا هو ممنوع من كشفه. وإن كان امرأة فهو الواجب عليه.
قلت: وعلى قياس ما قاله القاضي أبو الفتوح: إذا لبس الخنثى قميصا أو سراويل أو خفا.. لم يجب عليه الفدية: لجواز أن يكون امرأة، ويستحب له أن لا يستر بالقميص والسراويل والخفين: لجواز أن يكون رجلا، ويمكنه أن يستر ذلك من بدنه بغير المخيط.

[مسألة حكم استعمال الطيب للمحرم]
ويحرم على المحرم استعمال الطيب في ثيابه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس ولا زعفران» ، فنص على الورس والزعفران؛ لينبه على غيرهما؛ لأن غيرهما من الطيب أعلى منهما.
ولا يجوز أن يلبس ثوبا مبخرا بالطيب، كالثوب المبخر بالند أو العود.
ولا يلبس ثوبا مصبوغا بماء الورد وغيره؛ لأن ذلك كله طيب.
ولا يجوز له الجلوس عليه، ولا الاضطجاع؛ لأن ذلك استعمال للطيب، فإن فرش فوقه ثوبا آخر غير مطيب وجلس عليه، فإن كان ذلك الثوب صفيقا.. فلا شيء عليه؛ لأن تلك الرائحة عن ثياب مجاورة.

(4/157)


وإن كان رقيقا بحيث لا يمنع من مس بشرته المطيب.. كان عليه الفدية؛ لأن وجود ما فوقه كعدمه.
وإن كان رقيقا إلا أنه يمنع من مس المطيب.. كره له ذلك، ولا فدية عليه؛ لأنه غير مباشر للطيب.

[فرع زوال رائحة الثوب المطيب]
وإن انقطعت رائحة الثوب المطيب؛ لطول مكثه بحيث لا تفوح رائحة الطيب، وإن أصابه الماء.. جاز له لبسه، ولا فدية عليه وإن كان لون الطيب ظاهرا؛ لأن الاعتبار في الطيب بالرائحة دون اللون، ألا ترى أن العصفر أشهر لونا من الطيب، ولا شيء فيه؟
وهكذا إن صبغ الثوب المطيب بصبغ غيره، فقطع رائحة الطيب.. جاز له لبسه لما ذكرناه.
ولا يجوز له استعمال الطيب في خفه؛ لأنه ملبوس، فأشبه الثوب.
فإن فعل شيئا من ذلك، عالما بالتحريم.. وجبت عليه الفدية؛ لأنه محرم في الإحرام، فتعلقت به الفدية، كالحلق.

[فرع استعمال الطيب في البدن أو في الأكل والشرب]
ولا يجوز له استعمال الطيب في بدنه؛ لأنه إذا لم يجز له لبس الثوب المطيب..
فلأن لا يجوز له تطييب بدنه أولى، وهكذا لا يجوز له أكل الطيب، ولا الاكتحال به، ولا الاستعاط به، ولا الاحتقان به؛ لأن ذلك أكثر من استعماله في ظاهر بدنه.

(4/158)


فإن فعل شيئًا من ذلك عالما بتحريمه.. وجبت به الفدية، قياسا على الحلق وإن جعل الطيب في مأكول أو مشروب.. نظرت: فإن لم يكن له طعم ولا لون، ولا رائحة.. جاز له أكله وشربه؛ لأنه قد صار كالمعدوم. وإن بقي له رائحة.. لم يجز له أكله ولا شربه، فإن فعل.. وجبت عليه الفدية.
وقال أبو حنيفة: (إن طبخ.. فلا فدية عليه؛ لأنه قد استحال بالطبخ، وإن لم يطبخ.. فلا كفارة عليه، ولكن يكره؛ لبقاء الرائحة) .
دليلنا: أن الترفه به حاصل، فهو كما لو كان متميزًا.
وإن بقي لونه دون رائحته.. فذكر الشافعي في موضع من كتبه: (أن فيه الفدية) وذكر في موضع آخر: (أنه لا فدية عليه) واختلف أصحابنا فيه على طريقين:
فـ[الأول] : قال أبو إسحاق: لا فدية عليه قولا واحدا؛ لأن المقصود هو الرائحة، وقد ذهبت، وحيث قال: (عليه الفدية) .. أراد: إذا بقيت له رائحة؛ لأن اللون إذا بقي.. فالظاهر أن الرائحة تبقى.
و (الثاني) : قال أبو العباس: فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه الفدية؛ لأن بقاء اللون يدل على بقاء الرائحة.
والثاني: لا يجب عليه الفدية؛ لأن مجرد اللون ليس بطيب، كالعصفر.
وأما إذا بقي طعم الطيب لا غير.. فذكر ابن الصباغ فيها ثلاث طرق:
[الأول] : من أصحابنا من قال: لا فدية عليه قولا واحدا.
و [الثاني] : منهم من قال: فيه قولان.
و [الثالث] : منهم من قال: تجب الفدية قولا واحدا؛ لأن الطعم لا يخلو من رائحة، بخلاف اللون.

(4/159)


[مسألة ما يحرم من النبات للمحرم]
النبات على ثلاثة أضرب:
ضرب: ينبت للطيب، ويتخذ منه الطيب، وهو الورس، والزعفران، والورد، والكاذي، والياسمين، والصندل، فهذا لا يجوز للمحرم شمه رطبا، ولا يابسا، ولا يلبس ما صبغ به. وفي معناه: الكافور والمسك والعنبر لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نص على الورس والزعفران، ونبه على ما في معناهما، وما هو أعلى منهما) .
وقال الصيدلاني: و (العنبر) : نبت ينبت في البحر يبلعه حوت، وأما (الكافور) : فهو صمغ شجرة..
وضرب: لا ينبت للطيب! ولا يتخذ منه الطيب، مثل: الشيح، والقيصوم وشقائق النعمان، والإذخر. وكذلك ما يؤكل منه، كالتفاح، والسفرجل، والأترج، والزنجبيل، والدارصيني، والمصطكي، والفلفل، وما كان

(4/160)


في معناه، فهذا يجوز للمحرم شمه وأكله وصبغ الثوب به؛ لأنه لا ينبت للطيب ولا يتخذ منه الطيب.
وضرب: ينبت للطيب، ولا يتخذ منه الطيب، كـ (الريحان الفارسي) : وهو ما لا يبقى ريحه على الماء. والآس، والنرجس واللينوفر، والرياحين كلها، ففيها قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يجوز للمحرم شمها وصبغ الثوب بها) ، وبه قال عثمان بن عفان، حيث قيل له: أيدخل المحرم البستان؟ قال: (نعم، ويشم الريحان) ، ولأنه نبات لا يتخذ منه الطيب، فأشبه الشيح والقيصوم.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجوز) ، وبه قال ابن عمر، وهو الصحيح؛ لأنه ينبت للطيب، فأشبه الورد.

(4/161)


وأما البنفسج: فقد قال الشافعي: (لا شيء فيه؛ لأنه مربب للدواء) ، واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق:
فـ[الأول] : منهم من قال: بظاهر قوله، وأنه لا فدية فيه؛ لأنه لا يراد للطيب وإنما يراد لتربيب الدواء به.
و [الثاني] : منهم من قال: هو طيب قولا واحدا، كالورد، وإنما أراد الشافعي: (لا شيء فيه) إذا جف وربب به الدواء؛ لأن معنى الطيب قد زال عنه.
و [الثالث] : منهم من قال: فيه قولان، كالريحان الفارسي.
واختلف أصحابنا في القرنفل:
فذكر الصيمري: أنه طيب كالزعفران.
وذكر الصيدلاني: أنه ليس بطيب، بل هو نبت ينبته الأدميون، كالأترج والدارصيني. والأول أظهر.

[فرع استعمال العصفر والحناء للمحرم]
فرع: [استعمال العصفر والحناء] :
والعصفر والحناء ليس واحد منهما بطيب عندنا.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "، ق \ 190] : أن الشافعي قال: (لو اختضبت امرأة بالحناء، ولفت بيدها خرقة.. فعليها الفدية) .

(4/162)


فمنهم من قال: فيه قولان.
ومنهم من قال: ليس بطيب قولا واحدا، وإنما القولان في لف الخرقة كالقولين في القفازين. وهذه طريقة البغداديين من أصحابنا.
وقال أبو حنيفة: (العصفر والحناء طيبان، فإذا لبس المعصفر، فإذا نفض عليه الحمرة.. فعليه الفدية. وإن لم ينفض عليه الحمرة.. فلا فدية عليه) .
دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وليلبسن ما أحببن من معصفر» و «نهاهن عن لبس ما مسه ورس أو زعفران» ، ولو كان المعصفر طيبا.. لما رخص لهن في لبسه وأما الحناء: فروي «أن عائشة وأزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كن يختضبن بالحناء وهن محرمات» ولأنه يقصد منه لونه، فأشبه (المشق) وهو المغرة.

[مسألة الدهن للمحرم]
وأما الدهن: فعلى ضربين:
ضرب: فيه طيب.
وضرب: لا طيب فيه.
فأما ما فيه طيب: فهو كدهن الورد والزنبق، ودهن البان المنشوش فلا يجوز

(4/163)


للمحرم استعماله في شيء من بدنه ولا شعره؛ لأنه طيب.
وأما ما ليس بطيب: كالزيت، والشيرج، واللبان الذي ليس بمنشوش والبنفسج، والزبد، والسمن، فيجوز له استعماله في بدنه ظاهره وباطنه، ولا يجوز له استعماله في رأسه ولحيته.
وقال مالك: (إن دهن به ظاهر البدن.. فعليه الفدية، وإن دهن به باطنه.. فلا فدية عليه) .
وقال الحسن بن صالح: إذا دهن رأسه ولحيته بما لا طيب فيه.. فلا شيء عليه.
وقال أبو حنيفة: (إذا استعمل الزيت أو الشيرج في شيء من رأسه أو بدنه أو لحيته.. فعليه الفدية، إلا أن يداوي به جرحه أو شقوق رجله) .
دليلنا: ما روى ابن عمر، وابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دهن بدنه بزيت غير مقتت، وهو محرم» قال أبو عبيد: أي: غير مطيب. وهذا على مالك وأبي حنيفة.
وعلى الحسن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الحاج أشعث أغبر) والدهن في الرأس واللحية يزيلهما، فمنع منه.

(4/164)


فإن دهن رأسه ولحيته بما لا طيب فيه وهو أصلع، أو دهن الأمرد لحييه بذلك فلا شيء عليه؛ لأنه لا يوجد فيه ترجيل الشعر.
وإن كان رأسه محلوقا، فدهنه بما لا طيب فيه قبل أن ينبت الشعر ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 190] :
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد، والبغداديين من أصحابنا -: أن عليه الفدية؛ لأن الدهن يحسن نبات الشعر ويزينه، فهو كما لو دهن الشعر.
والثاني - وهو قول المزني، واختيار المسعودي [في " الإبانة " ق \ 190] أنه لا شيء عليه، إذ لا شعر عليه. فيزول به شعثه.
وإن كان في رأسه شجة، فجعل الدهن في داخلها.. قال الصباغ: فلا شيء عليه.

[فرع شم الريح الطيب للمحرم من غيره]
وللمحرم أن يجلس عند الكعبة وهي تجمر، وإن كان يشم ريح الطيب؛ لأن ذلك ليس مما يتطيب به الإنسان في العادة. ولا يكره له الجلوس عندها؛ لأن ذلك قربة وله أن يجلس عند العطار، وعند رجل مطيب، ولا شيء عليه في ذلك كله لما ذكرناه، وهل يكره له ذلك؟ ينظر فيه:
فإن جلس إليه لحاجة.. لم يكره.

(4/165)


وإن جلس ليشم الطيب.. فحكى الشيخ أبو حامد فيه قولين:
أحدهما: لا يكره، كما لا يكره الجلوس عند الكعبة وهي تجمر.
والثاني: يكره له ذلك، كما لو أخذ الطيب في صرة فشمه.

[فرع شراء المحرم الطيب]
ويجوز للمحرم أن يشتري الطيب، كما يجوز له أن يشتري المخيط والجارية.
قال الشافعي في " الأم " [2/129] (فإن عقد طيبا، فحمله في خرقة أو غيرها وريحه يظهر منها.. لم يكن عليه فدية، وكرهت له ذلك) .
قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من قال: إذا جعل المسك في خرقة، وقصد شمه.. لزمته الفدية، وحمل كلام الشافعي إذا لم يقصد شمه.
وهكذا قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 191] : التطيب يقع بإمساك الطيب معه وإن لم يستهلك عينه.
ومن قال بالأول.. قال: هذه رائحته عن مجاورة، فأشبه إذا جلس في العطارين.

[فرع مس المحرم الطيب]
وإذا مس المحرم طيبا.. فلا يخلو: إما أن يكون رطبا أو يابسا.
فإن كان يابسا، كالمسك والكافور والذريرة، فإن علق بيده لونه وريحه.. كان عليه الفدية؛ لأن الطيب هكذا يستعمل، فهو كما لو تبخر بالعود.

(4/166)


فإن بقي في يده الرائحة، دون اللون.. ففيه قولان:
أحدهما: لا فدية عليه؛ لأن هذه الرائحة عن مجاورة، فهو كما لو جلس عند الكعبة وهي تجمر.
والثاني: عليه الفدية؛ لأن هذه رائحة عن مباشرة، فهو كما لو بقي معه اللون.
وإن كان الطيب رطبا، فإن علم أنه رطب، وقصد إلى مسه، فعلق بيده منه.. لزمته الفدية. وإن مسه، وعنده أنه يابس، فكان رطبا، فعلق بيده منه.. ففيه قولان:
أحدهما: أن عليه الفدية؛ لأنه مس الطيب عن قصد منه وعلق به، فكان عليه الفدية، كما لو مسه مع العلم برطوبته.
والثاني: لا فدية عليه؛ لأن تعلق الطيب بيده كان بغير اختياره، فلم يكن عليه الفدية، كما لو رش عليه ماء ورد بغير اختياره.
ولو كان أخشم، فتطيب.. وجبت عليه الفدية؛ لأنه قد وجد منه استعمال الطيب مع العلم بتحريمه وإن لم ينتفع به، فوجبت عليه الفدية، كما لو حلق رأسه ولم يرتفق به.

[فرع وجوب إزالة الطيب عن المحرم]
وإذا تطيب المحرم.. وجب عليه إزالة الطيب، والمستحب له: أن يأمر محلا بإزالته عنه، حتى لا يباشره بنفسه. فإن أزاله بنفسه ومسه عند الإزالة.. جاز؛ لأن ذلك ليس بتطيب، وإنما هو إزالة.
فإن كان معه من الماء ما لا يكفيه لغسل الطيب والطهارة به، فإن لم يمكنه إزالة الطيب بغير الماء.. فإنه يغسل الطيب بالماء، ويتيمم لأن للوضوء بدلا. وإن أمكنه

(4/167)


إزالة الطيب بغير ماء.. أزاله به وتوضأ بالماء؛ لأن المقصود إزالة رائحة الطيب، وذلك قد يحصل بغير الماء.
وإن كان معه ماء يحتاج إليه لغسل نجاسة عليه، وعليه طيب.. أزال النجاسة بالماء؛ لأن النجاسة تمنع صحة الصلاة، والطيب لا يمنع صحة الحج.

[مسألة عقد النكاح للمحرم]
ولا يجوز للمحرم أن يتزوج ولا يزوج غيره بالولاية الخاصة، كتزوجه ابنته أو أخته، ولا أن يتوكل للزوج ولا للولي، ولا يزوج المرأة المحرمة. وبه قال من الصحابة: عمر، وعلي، وابن عمر، وزيد بن ثابت. وفي التابعين: سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والزهري. وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يتزوج ويزوج غيره) ، وبه قال الحكم.

(4/168)


دليلنا: ما روى عثمان بن عفان: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ينكح المحرم ولا ينكح، ولا يخطب» .

(4/169)


ولأنها عبادة تحرم الطيب، فتمنع النكاح، كالعدة، وفيه احتراز من الصوم والاعتكاف.
إذا ثبت هذا: فإن عقد المحرم النكاح، أو عقد على المرأة المحرمة النكاح.. كان باطلا ويفرق بينهما بغير طلاق.
وقال مالك: (يفرق بينهما بطلقة) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينكح المحرم، ولا ينكح» ، والنهي يقتضي: فساد المنهي عنه، ولأن الطلاق من خصائص أحكام النكاح، فلم يتعلق بالفاسد، كالإيلاء والظهار.

[فرع تزويج الإمام المحرم]
وهل يجوز للإمام والحاكم المحرمين أن يزوجا بالولاية العامة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لعموم الخبر.
والثاني: يجوز؛ لأن الولاية العامة أوسع، بدليل: أن له أن يزوج الكافرة، ولا يملك الرجل المسلم تزويج ابنته الكافرة. ولأن بالناس إلى النكاح حاجة، وفي منع النكاح من الإمام والحاكم إذا كانا محرمين مشقة.

[فرع الزواج في الإحرام الفاسد وتوكيل الحلال المحرم]
] : وإن فسد إحرامه.. لم يجز له أن يتزوج فيه، أو يزوج؛ لأن حكم الإحرام الفاسد - فيما يمنع منه - حكم الصحيح.

(4/170)


قال في " الإبانة " [ق \ 196] : إذا وكل حلال محرما ليوكل له محلا، ليتزوج له.. جاز؛ لأنه مستعار بينهما.

[فرع توكيل المحل قبل إحرامه مثله ليتزوج له والعكس]
وإن وكل محل محلا ليتزوج له امرأة، فأحرم الموكل، وتزوج له الوكيل، فإن اتفق الزوجان أن العقد وقع بعد إحرام الموكل.. حكم بفساد النكاح. وإن اختلفا، فإن كان مع أحدهما بينة: أن العقد وقع بعد إحرام الموكل.. حكم بفساده أيضا.
وإن لم تكن بينة.. نظرت: فإن ادعت الزوجة: أن العقد وقع بعد الإحرام، وأنكر الزوج.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الظاهر سلامة العقد مما يفسده. وإن ادعت المرأة صحة العقد، وادعى الزوج فساده.. فالقول قولها مع يمينها؛ لما ذكرناه، ولكن يحكم بانفساخه في الحال؛ لأنه أقر بتحريمها عليه. فإن كان قبل الدخول.. كان لها نصف المهر. وإن كان بعد الدخول.. وجب لها جميعه.
وإن لم يدع الزوجان شيئا من ذلك، وشكا: هل كان العقد قبل الإحرام أو بعده؟ قال الشافعي: (فالنكاح صحيح في الظاهر) ؛ لأن العقد قد وقع صحيحا في الظاهر.
والأصل أن لا إحرام. قال (غير أني أحب له في الورع أن ينزل عنها بطلقة؛ لجواز أن يكون قد وقع بعد الإحرام؛ لتحل لغيره بيقين) .
فأما إذا وكل المحرم محلا ليتزوج له امرأة، فحل المحرم من إحرامه، وتزوج له الوكيل بالوكالة الأولى.. فالنكاح صحيح؛ لأن الاعتبار بحال العقد، وفساد الوكالة لا يوجب فساد العقد، كما لو وكل رجلا في بيع شيء وكالة فاسدة، فباعه.. فإن البيع صحيح. ولو وكل صبي وكيلا في بيع شيء، فلم يبع الوكيل حتى بلغ الصبي، ثم باع.. فالبيع باطل.
والفرق بينهما: أن قول الصبي لا حكم له، فلم يتعلق بإذنه جواز التصرف، وليس كذلك هاهنا، فإن الوكالة وإن كانت فاسدة، إلا أن الإذن قائم.

(4/171)


[فرع شهادة المحرم في النكاح وخطبة المحرم]
فإن كان الزوجان والولي محلين، والشاهدان محرمين.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه لا يصح النكاح؛ لأنه قد روي في بعض الأخبار: «لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يشهد» ، ولأن الشهادة أحد ما ينعقد به النكاح، فمنع منه الإحرام، كالزوجين والولي.
و [الثاني]- وهو المنصوص، وبه قال عامه أصحابنا -: أنه يصح، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وشاهدين» .
ولم يفرق في الشاهدين، بين أن يكونا محلين أو محرمين. ولأن الشاهد لا صنع له في النكاح. وأما ما احتجوا به من الخبر: فغير ثابت، وإن صح.. حمل على أنه لا يشهد في نكاح عقده الولي، وهو محرم.
قال الشافعي: (وأحب له أن لا يخطب) ؛ لحديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ولا يخطب) فإن خطب.. لم يحرم عليه.

(4/172)


والفرق بين الإحرام والعدة، حيث حرمنا فيها الخطبة؛ لأنه ربما دعت الخطبة المرأة إلى أن تخبرنا بانقضاء عدتها قبل انقضائها، وهذا مأمون في مسألتنا.

[فرع جواز مراجعة المحرم]
ويجوز للمحرم أن يراجع زوجته، وبه قال كافة أهل العلم.
وقال أحمد: (لا يجوز له أن يراجعها) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . ولم يفرق.
ولأن الرجعة عقد لا يفتقر إلى الإشهاد، فلم يمنع منه الإحرام، كالبيع. أو لأنه استباحة بضع يختص به الزوج، فلم يمنع منه الإحرام، كالتكفير في الظهار.

[مسألة تحريم الوطء والمباشرة في الإحرام]
] : ويحرم على المحرم الوطء في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] . ومعنى قوله: (فرض) أي: أوجب.
قال ابن عباس: (الرفث: الجماع) .
وتجب به الكفارة على ما يأتي ذكرها، إن شاء الله تعالى.
ويحرم عليه المباشرة فيما دون الفرج بشهوة؛ لأنه إذا حرم عليه عقد النكاح..

(4/173)


فلأن يحرم عليه المباشرة بشهوة - وهي أدعى إلى الوطء في الفرج - أولى، وتجب به الفدية على ما يأتي ذكرها، إن شاء الله تعالى.

[مسألة صيد المحرم]
ويحرم على المحرم أخذ صيد البر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] [المائدة: 96] . و (الحرم) : جمع حرام، و (الحرام) : هو المحرم.
ولقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] [المائدة: 2] فأباح الاصطياد للمحرم، إذا حل، فدل على: أنه كان قبل التحلل محرما عليه.
فإن أخذه.. لم يملكه، كما لو غصب مال غيره. فإن كان الصيد مملوكا لآدمي.. وجب عليه رده إلى مالكه. وإن كان مباحا.. وجب عليه أن يرسله في موضع يمتنع فيه عمن يأخذه. ولا يزول عنه الضمان إلا بذلك؛ لأن ما حرم أخذه لحق الغير، إذا أخذه.. وجب رده على مالكه، كالمغصوب. وإن تلف عنده.. وجب عليه الجزاء، كما لو غصب مال غيره وتلف عنده.

[فرع هلاك الصيد بإنقاذه]
قال الشافعي: (وإن خلص حمامة من فم هرة أو سبع أو شق جدار لحجت فيه أي بغرر أو أصابتها لدغة فسقاها ترياقا أو غيره ليداويها، فماتت.. فلا ضمان عليه؛ لأنه أراد صلاحها ومداواتها. ولو قال قائل: إن عليه الضمان؛ لأنه قد أراد صلاحها، إلا أنها تلفت في يده، فضمها باليد.. كان وجها محتملا) ؛ فحصل فيها قولان.

(4/174)


[فرع صيد البحر]
وإن أخذ المحرم شيئا من صيد البحر.. جاز، ولا جزاء عليه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] [المائدة: 96] .
فأحل صيد البحر، ولم يفرق، وخص تحريم صيد البر على المحرم، فدل على أن صيد البحر لا يحرم عليه.

[فرع قتل المحرم الصيد]
وما حرم على المحرم أخذه من الصيد.. حرم عليه قتله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
فإن قتله عمدا أو خطأ.. وجب عليه الجزاء، وبه قال عامة الفقهاء.
وقال داود: (إن قتله عمدا.. وجب عليه الجزاء، وإن قتله خطأ.. لم يجب عليه) ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
وقال مجاهد: إن قتله عمدا.. لم يجب عليه الجزاء؛ لأن ذنبه أعظم من أن يكفره الجزاء. وإن قتله خطأ أو ناسيا لإحرامه.. وجب عليه الجزاء.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
وهذا يسقط قول مجاهد.
وعلى داود: ما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الضبع صيد، وفيه كبش إذا أصابه المحرم» ، ولم يفصل. ولأن هذا تكفير يتعلق بالقتل، فاستوى فيه العمد والخطأ، ككفارة القتل.

(4/175)


[فرع قتل المحرم للصيد المملوك]
وإن كان الصيد المقتول مملوكا لآدمي، فقتله ... فعليه القيمة لمالكه، والجزاء للمساكين، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك والمزني: (تجب فيه القيمة دون الجزاء) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
ولم يفصل بين المملوك والمباح. ولأنه صيد ممنوع من قتله؛ لحرمة الإحرام، فوجب بقتله الجزاء، كغير المملوك.

[فرع جرح الصيد وإتلاف بعضه]
ويحرم عليه جرح الصيد وإتلاف أجزائه؛ لأن ما منع من إتلافه لحق الغير.. منع من جرحه وإتلاف أجزائه، كالآدمي. فإن جرحه أو أتلف جزءا منه.. وجب عليه الجزاء.
وقال مالك وأبو حنيفة وداود: (لا جزاء عليه في جرح الصيد، ولا في قطع عضو منه) .
دليلنا: أن الصيد حيوان مضمون بالإتلاف، فوجب أن تكون الجناية عليه مضمونة، قياسا على العبد وسائر الدواب.

(4/176)


[فرع تنفير الصيد]
ويحرم عليه تنفير الصيد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة: «لا ينفر صيدها» ، وإذا حرم ذلك في صيد الحرم.. حرم ذلك على المحرم.
فإن نفره، فتلف من نفوره، بأن صدمة شيء أو وقع في ماء أو بئر أو أكله في حال نفوره حية أو سبع.. فإن عليه الجزاء؛ لما روي: أن عمر علق رداءه، فوقع عليه طير، فخاف أن ينجسه، فطيره فنهشته حية، فقال: (أنا طردته حتى نهشته الحية، فسأل من كان معه أن يحكموا عليه، فحكموا عليه بشاة) . ولأنه تلف بسبب فعله، فهو كما لو جرحه، فمات.
قال الشافعي: (وإن كان راكبا دابة، أو سائقا لها، أو قائدا لها، فأتلفت بفمها أو يديها أو رجلها أو ذنبها صيدا.. فعليه الجزاء) ؛ لأنها في يده، فكانت جنايتها كجنايته.

[فرع قتل الصيد وغيره بسبب فعله]
قال الشافعي في القديم: (وإن رمى المحرم إلى صيد سهما، فأصابه وأنفذه إلى آخر، فأصابه وقتلهما ... كان عليه جزاؤهما) ؛ لأن الأول قتله عمدا، والثاني قتله خطأ.

(4/177)


وإن رمى إلى صيد سهما.. فأصابه، فاضطرب الصيد، فوقع على فرخة فقتلها، أو على بيضة فكسرها.. كان عليه ضمان الصيد والفرخ والبيض؛ لأن الصيد قتله بفعله، والفرخ والبيض بسبب فعله.

[فرع الدلالة والإعانة على قتل الصيد]
ويحرم على المحرم أن يعين على قتل الصيد بدلالة أو إعارة آلة؛ لأن ما منع من إتلافه.. حرمت عليه الإعانة على قتله، كالآدمي. فإن خالف وأعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة.. كان الجزاء على قاتله إن كان محرما، ولا شيء عليه إن كان محلا، ولا يجب على المعين جزاء، سواء كانت الدلالة أو إعارة الآلة مما يستغنى عنهما، بأن يكون الصيد ظاهرا يراه كل أحد، فدل عليه المحرم، أو أعار القاتل سلاحا ومعه مثله. أو كان ما فعله مما لا يستغني عنه القاتل، بأن يكون الصيد مختفيا لم يره غير المحرم، أو أعار القاتل سلاحا وليس مع المستعير ذلك. وبهذا قال مالك.
وقال أبو حنيفة في الدلالة الظاهرة وإعارة السلاح الذي يستغنى عنه مثل قولنا.
فأما في الدلالة الخفية وإعارة ما لا يستغني عنه القاتل.. فعلى كل واحد منهما جزاء.
وقال عطاء ومجاهد وحماد وأحمد: (إن كانا محرمين.. وجب عليهما جزاء واحد، وإن كان القاتل حلالا.. وجب الجزاء على المحرم المعين) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .

(4/178)


والدال والمعير ليسا بقاتلين للصيد. ولأن ضمان الصيد ضمان نفس، فوجب أن لا يتعلق بالدلالة وإعارة السلاح، كضمان الآدمي.

[فرع أكل المحرم للصيد]
يجوز للمحرم أكل ما لم يصد له، ولا أعان على قتله. فإن صيد له.. حرم عليه أكله سواء علم به وأمر، أو لم يعلم به ولم يأمر. وكذلك يحرم عليه أكل ما أعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة، سواء دل عليه دلالة ظاهرة أو خفية، وسواء أعاره ما يستغني عنه القاتل أو ما لا يستغني عنه.
وقال أبو حنيفة كقولنا فيما صيد له بأمره، أو كان له أثر لا يستغني عنه القاتل.
فأما إذا صيد له بغير علمه، أو أعان عليه بدلالة ظاهرة أو إعارة آلة يستغني عنها القاتل.. فيجوز له أكله.
وقال بعض الناس: لا يجوز للمحرم أكل الصيد بحال.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصيد حلال لكم، ما لم تصيدوه أو يصد لكم» . وهذا

(4/179)


يبطل قول من قال: لا يحل الصيد بحال وقول أبي حنيفة.
وما «روى أبو قتادة قال: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وهم محرمون، وأنا حلال، فرأيت حمارا وحشيا، فسألتهم أن يناولوني رمحا، فلم يفعلوا، وسألتهم أن يناولوني سوطا، فلم يفعلوا، فشددت على دابتي فأخذته، فبعضهم أكل وبعضهم لم يأكل، ثم أخبروا بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " طعمة أطعمكموها الله ". وفي رواية: أنه قال: " هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ " قالوا: لا، فقال: " كلوا ما بقي» ولم يفصل في الإشارة والإعانة.
فإن خالف وأكل من لحم ما صيد له، أو أعان على قتله.. فهل يضمن ما أكله بالجزاء؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يجب عليه الجزاء) ؛ لأن الأكل ممنوع منه، كما أن القتل ممنوع منه، فإذا وجب عليه الجزاء بالقتل.. وجب عليه بالأكل.

(4/180)


و [الثاني] : قال في الجديد: (لا جزاء عليه) ، وهو الصحيح؛ لأن كل لحم لو أكله الحلال.. لم يضمنه بالجزاء، فإذا أكله المحرم.. لم يضمنه بالجزاء، كما لو أكل من لحم صيد قتله بنفسه. ولأن الجزاء إنما يجب بإتلاف ما كان ناميا، كالصيد وشجر الحرم، أو ما يكون منه النماء، كالبيض. واللحم ليس بنام ولا يؤول إلى النماء، فهو كالبيض المذر، والشجر اليابس.

[فرع أكل ما ذبحه المحرم من الصيد]
إذا ذبح المحرم صيدا.. لم يحل له أكله؛ لأنه إذا لم يحل له أكل ما صيد له.. فلأن لا يحل له أكل ما ذبحه أولى، وهل يحل لغيره؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يحل) ؛ لأن كل من حل بذكاته غير الصيد.. حل بذكاته الصيد، كالحلال والذمي، وعكسه المجوسي.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يحل) لأنها ذكاة ممنوع منها، لحق الله تعالى، فلم يبح الأكل، كذكاة المجوسي وفيه احتراز من ذبح شاة الغير بغير إذنه.. فإنه ممنوع منها؛ لحق مالكها.
فإن أكل المحرم من لحم ما ذبحه.. فقد فعل محرما، ولا جزاء عليه للأكل.
وقال أبو حنيفة: (عليه الجزاء) ، وهو: ضمان قيمة ما أكل.
دليلنا: قوله: «الضبع صيد، وفيه كبش إذا أصابه المحرم» ، ولم يفصل بين أن يأكل منه أو لا يأكل، فاقتضى الظاهر: أن هذا جميع ما يلزمه.

(4/181)


[فرع تملك المحرم للصيد]
ولا يجوز للمحرم أن يتهب الصيد، ولا يقبل هديته. فإن اتهبه أو قبل الهدية فيه.. لم يملكه؛ لما روى ابن عباس: «أن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمارا وحشيا فرده عليه، وقال: " إنه ليس بنا رد، ولكنا حرم» .
وكذلك لا يملك المحرم الصيد بالابتياع؛ لأنه سبب يملك به باختياره، فلم يملك به الصيد، كالهدية.
وإن مات للمحرم من يرثه، وفي ملكه صيد.. فهل يرثه المحرم؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يدخل في ملك المحرم؛ لأن الإرث أحد أسباب الملك، فلم يملك به المحرم الصيد، كالهدية والبيع.
فعلى هذا: يبقى الصيد في حكم ملك الميت، حتى يحل المحرم من إحرامه، فيملكه.
والثاني: أنه يملكه؛ لأن الإرث أقوى من الهدية والبيع؛ لأنه يدخل في ملكه بغير اختياره.

(4/182)


قال القاضي أبو الطيب: لا يتصور هذا الوجه إلا إذا قلنا: لا يزول ملكه عن الصيد بالإحرام، وأما إذا قلنا: يزول ملكه.. فلا يرثه. وهذه طريقة أصحابنا البغداديين.
وقال القفال: المحرم يملك الصيد بالإرث قولا واحدا، وهل يملكه بالهبة والبيع؟ فيه قولان. كما يملك الكافر العبد المسلم بالإرث قولا واحدا، وهل يملكه بالهبة والبيع؟ فيه قولان.
إذا ثبت هذا: فاتهب المحرم صيدا، أو ابتاعه وقبضه، وقلنا: لا يملكه فإن تلف في يده.. قال ابن الصباغ: أو أتلفه متلف.. وجب عليه الجزاء، ولم يجب عليه قيمة الموهوب لمالكه، ووجبت عليه قيمة المبيع.
والفرق بينهما: أن الهبة الصحيحة لا تقتضي الضمان، فكذلك الفاسدة، والبيع الصحيح يقتضي الضمان، وكذلك الفاسد.
وإن كان الصيد باقيا في يده.. قال الشافعي: (فعليه إرساله) .
فمن قال من أصحابنا: إن المحرم يملك الصيد بالهبة والبيع.. تعلق بهذه اللفظة وقال: لولا أنه ملكه.. لما ملك إرساله.
ومن قال منهم: لا يملكه.. قال: أراد به إرساله من يده.
واختلف من قال: لا يملكه في كيفية الإرسال:
فقال الشيخ أبو حامد: يرده إلى يد مالكه ولا يسيبه حتى يتوحش؛ لأن ملك

(4/183)


الواهب والبائع لم يزل عنه بالهبة والبيع.
وقال ابن الصباغ: بل يحمل كلام الشافعي على ظاهره، فيرسله بحيث يتوحش، ويمتنع على من يأخذه. ويرد على مالكه القيمة؛ لأن برده إلى مالكه.. لا يزول عنه ضمان الجزاء، وإنما يسقط عنه ضمان قيمته. فإذا أمكنه الجمع بين الحقين.. لم يسقط أحدهما.
فإن قيل: فكيف يسقط حق المالك من الصيد مع بقاء ملكه عليه؟
قيل: لأنه كان السبب؛ لكونه في يد المحرم، وإيجاب إرساله عليه.

[فرع الإحرام بعد بيع الصيد]
فإن باع المحل صيدا من محل، فأفلس المشتري، وقد أحرم البائع.. لم يكن له أن يرجع فيه، كما لا يجوز له أن يبتاعه.
وإن أحرم البائع، ووجد المشتري بالصيد عيبا، وأراد رده، فإن قلنا: إن المحرم يرث الصيد.. جاز للمشتري رده عليه؛ لأنه يدخل في ملكه بغير اختياره، وإن قلنا: لا يرث الصيد.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يرده؛ لأن ذلك حق للمشتري، فلا يسقط بإحرام البائع.
والثاني: لا يرده؛ لأنه لا يملك الصيد، فلم يملك رده عليه.
فعلى هذا: ما يصنع المشتري؟ فيه وجهان:

(4/184)


[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: يرد البائع عليه الثمن، ويوقف الصيد حتى يتحلل فيرده عليه؛ لأن الذي يتعذر هو رد الصيد دون رد الثمن.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: يكون بالخيار: بين أن يقفه حتى يتحلل ويرده، أو يرجع بالأرش؛ لتعذر الرد في الحال؛ لأنه لو ملك المشتري الثمن.. لزال ملكه عن الصيد إلى البائع ولوجب رده عليه.

[فرع الإحرام حال ملك الصيد]
وإن أحرم وفي ملكه صيد.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يزول ملكه عنه - وبه قال مالك، وأحمد، وأبو حنيفة - لأنه ملكه، فلا يزول عنه بالإحرام، كالزوجة. ولأن المحل لو أخذ صيدا من الحل، وأدخله الحرم.. لم يزل ملكه عنه بدخوله إلى الحرم، فكذلك بدخوله في الإحرام.
والثاني: يزول ملكه عنه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] [المائدة: 96] .
ولم يفرق. ولأن الصيد لا يراد للاستدامة والبقاء، فإذا منع المحرم من ابتداء ملكه.. منع من استدامة ملكه، كلبس المخيط، وفيه احتراز من النكاح والطيب؛ لأنه لا ينكح ليطلق، ولا يتطيب ليغسله، وإنما اللباس يلبس وينزعه عند الغسل والنوم. وكذلك الصيد يتملكه ليبيعه أو يهبه أو يذبحه، فهو باللباس أشبه.
فإن قلنا: لا يزول ملكه عنه.. فله أن يتصرف فيه بالبيع والهبة وغيرهما، ولا يجوز له قتله، فإن قتله.. وجب عليه الجزاء.

(4/185)


وإن قلنا: يزول ملكه عنه.. وجب عليه إرساله بحيث يمتنع ممن يريد أخذه، فإن تلف في يده.. نظرت: فإن تلف قبل أن يتمكن من إرساله.. فلا جزاء عليه. وإن تلف بعدما تمكن من إرساله.. كان عليه الجزاء؛ لأنه مفرط في إمساكه.
وإن أتلفه غيره، فإن كان محلا.. فلا جزاء عليه. وإن كان محرما.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: أن الجزاء على القاتل؛ لأنه صاحب مباشرة، والممسك صاحب سبب، والضمان يتعلق بالمباشرة.
والثاني: أن الجزاء عليهما نصفان؛ لأنه وجد من كل واحد منهما معنى يضمن به الصيد، فاشتركا في الضمان، كما لو قتلاه.
وإن لم يرسله، حتى حل من إحرامه.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: أنه يلزمه إرساله؛ لأنه متعد بامتناعه من الإرسال، فلا يزول التعدي إلا بإرساله.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يعود إلى ملكه؛ لأنه إنما زال ملكه عنه بالإحرام، وقد زال الإحرام، فوجب أن يعود إلى ملكه.
فإن قلنا بالمنصوص، فقتله بعد تحلله.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا جزاء عليه؛ لأنه محل قتل صيدا في الحل.

(4/186)


والثاني - وهو المذهب -: أن عليه الجزاء؛ لأنه قد ضمنه باليد في حال الإحرام، فلم يزل عنه الضمان إلا بالإرسال. هذا مذهبنا.
وقد وافقنا أبو حنيفة: أنه لا يزول ملكه عنه بالإحرام، ولكن قال: (إن كان ممسكا له بيده.. لزمه رفع اليد عنه، وإن كان ممسكا له في بيته.. لم يلزمه رفع اليد عنه) ، ففرق بين اليد المشاهدة واليد الحكمية، وعندنا لا فرق بينهما.
دليلنا: أن كل ما لا يلزمه إزالة يده الحكمية عنه.. لا يلزمه إزالة اليد المشاهدة عنه، كسائر أملاكه.

[مسألة الصيد المتولد بين مأكول وغيره]
وإن كان الصيد غير مأكول.. نظرت: فإن كان متولدا بين ما يؤكل وما لا يؤكل كالسبع: المتولد بين الذئب والضبع، والحمار المتولد بين حمار الوحش وحمار الأهل.. وجب الجزاء بقتله، تغليبا لما يجب فيه الجزاء، كما حرم أكله، تغليبا لما لا يحل أكله.
قال الشافعي: (وإذا ذبح المحرم دجاجة أهلية.. فلا جزاء عليه، ولو ذبح دجاجة حبشية.. كان عليه الجزاء) .

(4/187)


قال الشيخ أبو حامد: أراد بالدجاجة الحبشية التي قد ملكت واستأنست؛ لأنها على أصلها.

[فرع ذبح ما يؤكل وجزاء ما لا يؤكل]
] : وإن ذبح المحرم الإبل والبقر والغنم.. جاز، ولا جزاء عليه، بلا خلاف.
وأما ما لا يؤكل من الوحش.. فعلى ثلاثة أضرب:
ضرب: يجب فيه الجزاء، بلا خلاف، وهو المتولد بين ما يؤكل وما لا يؤكل، وقد مضى ذكره.
وضرب: لا يجب فيه الجزاء، بلا خلاف، وهو الحية والعقرب والفأرة وما شاكل ذلك من حشرات الأرض، ومن الطيور: الحدأة وما لا يحل من الغراب، ومن البهائم: كالكلب العقور والذئب.
وضرب: اختلف فيه، وهو الأسد والفهد والنمر، ومن الجوارح مثل: الصقر والشاهين.. فهذا لا جزاء فيه عندنا.
وقال أبو حنيفة: (يضمن بالجزاء) ، غير أنه قال في السبع: (إنه يضمن بأقل الأمرين: من قيمته أو شاة) .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس لا جناح على من قتلهن في حل ولا حرم: العقرب، والفأرة، والحدأة، والغراب، والكلب العقور» .

(4/188)


فنبه بكل واحدة من هذه الخمس على ما كان في معناها: فنبه بالعقرب على الحيات؛ لأن الأذى فيهن أكثر، ونبه بالفأرة على الوزغ والقراد والحلم، ونبه بالغراب والحدأة على العقاب والصقر والبازي والشاهين؛ لأن العدوان فيهن أكثر، ونبه بالكلب على الأسد والفهد والنمر؛ لأن العقر والعدو فيهن أكثر.

(4/189)


إذا ثبت هذا: فهل يكره قتل ما لا جزاء فيه؟ ينظر فيه:
فإن كان فيه أذى.. جاز لكل واحد قتله، بل هو مندوب إليه، وذلك مثل: السبع والنمر والذئب والكلب العقور وما أشبه ذلك، وكذلك حشرات الأرض، مثل: الحية والعقرب والقراد والحلم، ومن الطيور: الحدأة والغراب.
قال الشافعي: (وفي هذا المعنى الزنابير والبراغيث والقمل، غير أن المحرم لا يقتل القمل من رأسه ولحيته، فإن فعل ذلك.. تصدق بشيء لا لأجل القملة، ولكن لأجل إماطة الأذى عن رأسه، وليس ذلك بواجب عليه، وإن قتلها من ثيابه وبدنه.. فلا شيء عليه) .
وأما ما ليس بمؤذ، مثل: الخنافس والجعلان وبنات وردان والرخمة.. فالمحل والمحرم فيه سواء، فإن شاء.. قتله، وإن شاء.. تركه، والأولى أن لا يقتله؛ لأنه لا غرض له فيه.
قال الشافعي: (وأكره قتل النملة) ؛ لأنه روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلها) فإن قتلها.. فلا شيء عليه؛ لأنها ليست بصيد. هذا مذهبنا.

(4/190)


وقال مالك: (لا يجوز للمحرم تقريد بعيره) وروي ذلك عن ابن عمر.
وقال سعيد بن المسيب في المحرم إذا قتل قرادا: يتصدق بتمرة أو تمرتين.
دليلنا: ما روي عن عمر: (أنه كان يقرد بعيره بالسقيا بالطين الرطيب) . ولأنه يتأذى به، فأشبه الحية.

[مسألة إتلاف بيض الصيد]
كل صيد وجب على المحرم الجزاء بقتله.. وجب عليه الجزاء بإتلاف بيضه.
وبه قال كافة أهل العلم.
وقال المزني وداود: (لا يجب فيه الجزاء) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] [المائدة: 94] .

(4/191)


قال مجاهد: ما تناله أيدينا: البيض والفرخ، وما تناله رماحنا: الصيد.
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كسر المحرم بيض نعامة.. فعليه ثمنها» .
إذا ثبت هذا: فإن كسر بيض الجراد.. ضمنه؛ لأن الجراد مضمون، فكذلك بيضه. وإن أخذ بيض صيد وتركه تحت الدجاجة.. نظرت: فإن حضنتها تحتها وطارت ونشأت.. فلا شيء عليه، وإن فسدت.. ضمنها.
وإن أخذ بيض دجاجة فجعلها تحت الصيد، فلم يقعد الصيد على بيضه، أو قعد عليه ففسد.. فعليه ضمان بيض الصيد؛ لأن الظاهر أنه إنما لم يقعد على بيضه لأجل ما ترك تحته من بيض الدجاج، وكذلك فساده فضمنه.
وإن نزا ديك على يعقوبة فباضت، أو نزا يعقوب على دجاجة فباضت.. لم يجز للمحرم كسر ذلك البيض تغليبا للتحريم، وكذلك لا يجوز إتلاف فرخه، فإن أتلفه.. فعليه الجزاء.

(4/192)


[فرع كسر المحرم بيض الصيد]
إذا كسر بيضة من بيض الصيد.. لم يجز له أكلها، كما إذا ذبح صيدا.. لم يحل له أكله. قال الشافعي: (ويحل لغيره) .
قال الشيخ أبو حامد: هذا على أحد القولين في المحرم إذا ذبح صيدا ... هل يحل لغيره؟ وكذلك الجرادة إذا قتلها المحرم.
وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: يحل لغيره قولا واحدا؛ لأن البيض والجراد لا تفتقر إباحته إلى الذكاة، بدليل: أنه لو ابتلع بيضة من غير كسر.. جاز، وكذلك لو ماتت الجرادة حتف أنفها.. حلت، فلم يكن لفعل المحرم تأثير في إباحتها، بخلاف الصيد الذي لا يحل إلا بذكاة.

[فرع كسر البيض الفاسد]
] : وإن كسر بيضة مذرة - وهي الفاسدة - فإن كانت بيضة نعامة.. وجب عليه الجزاء؛ لأن لقشرها قيمة. وإن كانت من غير النعامة.. لم يجب عليه الجزاء؛ لأنه لا قيمة لها.

(4/193)


[فرع حلب لبن الصيد للمحرم]
فرع: [حلب لبن الصيد] :
وإن حلب لبن صيد.. ضمنه.
قال ابن الصباغ: وحكى أصحابنا عن أبي حنيفة: (إن نقص الصيد بذلك.. ضمنه، وإن لم ينقص.. لم يضمنه) .
دليلنا: أنه أتلف شيئا من الصيد، فأشبه البيض والريش.

[فرع حبس الطائر في الحل وفرخه في الحرم وعكسه]
إذا حبس المحل طائرا في الحل وله فرخ في الحرم، حتى مات الطائر والفرخ.. ضمن الفرخ دون الطائر؛ لأنه أتلف الطائر في الحل، وأتلف الفرخ في الحرم بسبب كان منه في الحل، فهو كما لو رماه من الحل.
وإن حبس طائرا في الحرم وله فرخ في الحل، فمات الطائر والفرخ.. ضمنهما جميعا؛ لأنه أتلف الطائر في الحرم وأتلف فرخه بسبب كان منه في الحرم، فهو كما لو رماه من الحرم إلى الحل.

[مسألة اضطرار المحرم لفعل محظور]
مسألة: [اضطرارالمحرم لفعل محظور المحرم لفعل محظور] :
كل ما نهي عنه المحرم إذا احتاج إلى فعله، مثل: أن يحتاج إلى اللباس لحر أو برد، أو احتاج إلى الطيب لمرض، أو احتاج إلى حلق الرأس أو قطع الظفر للأذى، أو إلى قتل الصيد للمجاعة.. جاز له فعله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] [الحج: 78] .
وفي المنع من هذا عند الحاجة إليه حرج. وتجب عليه الفدية، إلا في لبس السراويل عند عدم الإزار.. فإنه لا فدية عليه، وقد مضى بيانه.

(4/194)


والدليل - على وجوب الفدية في هذه الأشياء -: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
وتقدير الآية: فمن كان منكم مريضا فتطيب، أو به أذى من رأسه فحلق شعره ... ففدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. ولحديث كعب بن عجرة الذي تقدم ذكره.

[فرع صيال الصيد]
وإن صال عليه صيد، فلم يندفع عنه إلا بقتله، فقتله.. لم يجب عليه الجزاء. وقال أبو حنيفة: (عليه الجزاء) .
دليلنا: أنه ألجأه إلى قتله، فهو كما لو قتل آدميا دفعا عن نفسه.. فإنه لا شيء عليه.

[فرع إيذاء الشعر أو قلم بعض الظفر]
وإن نبت شعر في عينيه فقلعه، أو نزل شعر حاجبيه فغطى عينيه فقص المسترسل.. فلا جزاء عليه؛ لأنه ألجأه إلى ذلك، فهو كالصيد إذا صال عليه.
فإن قيل: فقد يكثر الشعر على الرأس فيؤذيه ويحميه، فهلا أجزتم تقصيره من غير فدية؟

(4/195)


قلنا: لا نقول ذلك؛ لأن الحمي مضاف إلى الوقت وإن كان الشعر سببا، ألا ترى أن الشعر لا يحمي عليه في زمان البرد.
وإن انكسر بعض ظفره فأخذه.. فلا شيء عليه. نص عليه الشافعي في (مختصر الحج) ؛ لأن ذلك يؤذيه، فهو بمنزلة الشعر في عينيه. وإن أزال مع المكسور شيئا من الصحيح.. ضمنه بما يضمن به الظفر؛ لأنه لو أزال بعض الظفر ابتداء.. وجب ضمانه.
قال الشافعي: (وإن قلم بعض ظفره ولكنه لم يستوف ما على اليد منه، بل خففه أو أخذ بعضه.. ففيه الفدية، وضمنه بما يضمن جميع الظفر. وهو: مد؛ لأنه لا يتبعض) .
قال الشيخ أبو حامد: وينبغي أن يكون الحكم، إذا أخذ بعض شعره، كالحكم في الظفر.

[فرع افتراش الجراد الطريق وإباضة الصيد على الفراش]
وإن افترش الجراد في الطريق، فلم يجد المحرم سبيلا إلى المشي فيه إلا بقتل الجراد، فمشى فيه وقتل الجراد.. ففيه قولان:
أحدهما: لا جزاء عليه؛ لأنه مضطر إلى قتله، فلم يجب عليه الجزاء، كما لو صال عليه صيد فقتله.
والثاني: يجب عليه الجزاء. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأشبه؛ لأنه أتلفه لمنفعة نفسه فضمنه، كما لو اضطر إلى أكله فأكله.
وإن باض صيد على فراشه فنقله عنه، ولم يحضنه الصيد حتى فسد ... ففيه قولان، كالجراد إذا مشى عليه في الطريق.

(4/196)


[مسألة فعل محظور سهوا أو جهلا]
وإن لبس، أو تطيب، أو دهن رأسه أو لحيته ناسيا أو جاهلا بالتحريم ... فلا فدية عليه. وبه قال الثوري وعطاء والزهري.
وقال مالك وأبو حنيفة والمزني: (يجب عليه الفدية) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، ولم يرد رفع الفعل؛ لأن الفعل إذا وقع.. لم يرتفع، وإنما أراد رفع حكم الخطأ من الإثم والفدية.
«وروى يعلى بن أمية قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجعرانة، فأتاه أعرابي وعليه مقطعة - يعني: جبة مضمخة بالخلوق - فقال: يا رسول الله، أحرمت بعمرة وعلى هذه، فما أصنع؟ فقال: " ما كنت تصنع في حجك؟ " قال: كنت أنزع الجبة وأغسل الصفرة، فقال: " اصنع في عمرتك ما كنت تصنع في حجك» . ولم يأمره بالفدية.
فإن ذكر ما فعله ناسيا، أو علم ما فعله جاهلا.. فإنه ينزع عنه اللباس ويزيل عنه الطيب في الحال إذا أمكنه ذلك وإن طال الزمان بنزع الثياب وإزالة الطيب؛ لأن ذلك ترك له. وإن تركه مع إمكانه.. لزمته الفدية قل ذلك أو كثر؛ لأنه كابتدائه للطيب واللباس.
وإن تعذر عليه ذلك، بأن كان بيده علة أو كان زمنا، ولا يمكنه نزع الثياب ولا إزالة الطيب، فانتظر من ينزع الثياب عنه ويزيل الطيب.. فلا فدية عليه؛ لأنه كالمكره على استدامته.
إذا ثبت هذا: فإنه ينزع عنه الثياب، كما ينزع لباسه في العادة، فإن كان قميصا نزعه من قبل رأسه.

(4/197)


وحكي عن بعض التابعين: أنه قال: يشق [عن] بدنه، ولا ينتظر نزعه من قبل رأسه.
دليلنا: ما روى أبو داود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الأعرابي أن ينزع الجبة، فنزعها من قبل رأسه، ولم ينكر عليه» .

[فرع جهل معرفة الطيب]
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\191] : لو علم أن الطيب محظور، ولكن تطيب بطيب وهو يجهل أنه طيب، أو يظن أنه ليس بطيب فكان طيبا.. فإن عليه الفدية، كما لو أمسك وردا وظن أنه ليس بطيب.

[فرع الترفه ناسيا أو جاهلا للمحرم وقتل غير المكلف للصيد]
فرع: [الترفه ناسيا أو جاهلا وقتل غير المكلف للصيد] :
وإن حلق الشعر، أو قلم الظفر، أو قتل الصيد ناسيا أو جاهلا بالتحريم.. قال الشافعي: (فعليه الفدية) .
ولو زال عقله بجنون أو إغماء، وقتل صيدا.. ففيه قولان:
أحدهما: أن عليه الفدية؛ لأن ضمان الصيد يجري مجرى حقوق الآدميين.
والثاني: لا فدية عليه؛ لأنه إنما منع من قتله للتعبد، والمجنون والمغمى عليه ليسا من أهل التعبد.

(4/198)


فمن أصحابنا: من نقل هذين القولين إلى الناسي في إتلاف الشعر والظفر والصيد. ومنهم من قال: بل تجب الفدية على الناسي قولا واحدا؛ لأن المجنون غير مكلف، والناسي مكلف.

[فرع الجماع ناسيا أو جاهلا]
] : وإن جامع ناسيا، أو جاهلا بالتحريم.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يفسد حجه، ويلزمه الكفارة) - وبه قال مالك، وأبو حنيفة - لأنه سبب يتعلق به وجوب القضاء، فاستوى عمده وسهوه كالفوات.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يفسد حجه، ولا يلزمه الكفارة) . وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
والمراد به: رفع الحكم. ولأنا لو أفسدنا الحج عليه، وأوجبنا عليه القضاء.. لم يؤمن مثل ذلك في القضاء؛ لأن الاحتراز من النسيان لا يمكن، وما كان هذا سبيله.. سقط، كما قلنا في الناس إذا أخطؤوا ووقفوا يوم العاشر أو الثامن بعرفة.

[فرع شعر المحرم على سبيل الوديعة أو العارية]
ولا يجوز للمحرم ولا للمحل أن يحلقا شعر المحرم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .

(4/199)


والمراد به: لا يحلق بنفسه ولا بغيره، وانصرافه إلى حلقه بغيره أظهر؛ لأن العادة أن الإنسان لا يحلق رأسه بنفسه.
إذا ثبت هذا: فإن حلق واحد منهما شعر المحرم.. نظرت: فإن كان بأمره.. وجبت الفدية على المحلوق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكعب بن عجرة: «احلق رأسك، وانسك شاة» ولم يفرق بين أن يحلقه بنفسه، أو بغيره. ولأنه مستحفظ على شعره، أما على سبيل العارية أو الوديعة، فأيهما كان وأتلفه في يده باختياره.. وجب عليه الضمان، ولا يجب على الحالق شيء.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الحالق محرما.. كان عليه صدقة) .
دليلنا: أنه أزال شعره بإذنه، فلم يكن على المزيل شيء، كما لو كان الحالق حلالا.
وإن حلقه غيره بغير إذنه، بأن كان نائما أو أكرهه على ذلك.. وجبت الفدية وعلى من تجب؟ فيه طريقان:
[الأول] : قال أبو علي بن أبي هريرة: تجب على الحالق قولا واحدا. فإن هرب، أو غاب، أو كان معسرا.. فهل تجب على المحلوق؟ فيه قولان.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق والشيخ أبو حامد وعامة أصحابنا: في الوجوب قولان:
أحدهما: يجب على الحالق ولا شيء على المحلوق. وبه قال مالك وأبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
ولأنه شعر زال عنه بغير اختياره، فأشبه إذا مرض وتمعط عنه شعره. ولأنه أمانة عنده، فإذا أتلفه غيره.. كان الضمان على المتلف، كالوديعة.
والثاني: يجب على المحلوق، ويرجع بها على الحالق؛ لأن المحلوق هو الذي

(4/200)


ترفه بالحلق، فكانت الفدية عليه. ولأنه شعر زال عن المحرم بفعل آدمي، فكانت الفدية عليه، كما لو حلقه بإذنه.
قال الشيخ أبو حامد: وأصل المسألة أن قول الشافعي اختلف في أن شعر المحرم عنده على سبيل الوديعة أو العارية؟ وفيه قولان:
أحدهما: أنه كالوديعة.
فعلى هذا: إذا تلفا بغير تفريط.. فلا ضمان عليه.
والثاني: أنه كالعارية، فإذا تلف بأي وجه كان.. فعليه الضمان.
وقال القاضي أبو الطيب: هذا خطأ عندي، وينبغي أن يكون كالوديعة؛ لأن العارية ما أمسكها لمنفعة نفسه، وهذا منفعته في إزالته. ولأنه لو احترق بشرارة وقعت عليه أو تمعط بمرض.. لم يجب عليه ضمانه.
قال الشيخ أبو حامد: ولا يلزم على قولنا: إنه على سبيل العارية، إذا تلف بشرارة أو مرض؛ لأن العارية إنما يجب ضمانها على المستعير إذا تلفت بغير فعل المالك وهاهنا إذا زال شعره بالاحتراق أو بالمرض.. فإنما هو بمنزلة من أعار غيره عينا، فأتلفها المالك.. فإنه لا ضمان على المستعير.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن قلنا: إن الفدية تجب على الحالق ابتداء.. نظرت: فإن أخرجها.. فلا كلام، وهو مخير في الافتداء بين: الهدي أو الإطعام أو الصيام، وإن لم يخرجها.. فقال عامة أصحابنا: للمحلوق مطالبته بالإخراج؛ لأنه وجب بسببه، وقال ابن الصباغ: ليس له ذلك؛ لأن الوجوب تعلق بالفاعل لحق الله تعالى دون المحلوق. فإن كان الحالق معسرا.. بقيت في ذمته ولا شيء على المحلوق وإن قلنا: إن الفدية تجب على المحلوق، فإن كان الحالق حاضرا قادرا على

(4/201)


الكفارة.. قال الشيخ أبو حامد: وجب عليه أن يفتدي لأنه لا معنى أن نأمر المحلوق بالفدية، ثم يرجع على الحالق. فإن أراد المحلوق هاهنا أن يفتدي.. كان عليه أن يفتدي بالهدي، أو بالإطعام، وأما بالصيام: فلا؛ لأنه يتحمل هذه الفدية بدلا عن غيره، والصوم لا يصح فيه التحمل. وإن غاب الحالق، أو هرب، أو كان حاضرا وهو معسر بالهدي، أو الإطعام.. كان على المحلوق أن يفتدي ليسقط الفرض عن نفسه، وله أن يفتدي: بالهدي أو الإطعام أو الصيام، فإن افتدى بالهدي أو الإطعام.. رجع بأقلهما قيمة، فإن افتدى بالهدي، وكانت قيمة الطعام أقل من قيمة الهدي.. رجع عليه بقيمة الطعام. وإن افتدى بالإطعام، وكانت قيمة الهدي أقل.. رجع عليه بقيمة الهدي؛ لأن الفرض يسقط عنه بأقلهما، فإذا افتدى بالأكثر.. كان كالمتطوع في الزائد، فلم يرجع به. وإن افتدى بالصوم.. فالمذهب: أنه لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه له قيمة للصوم، فيرجع به. ومن أصحابنا من قال: يرجع عليه بثلاثة أمداد؛ لأن صوم كل يوم مقدر بمد. وليس بشيء.
وإن حلق رأسه، والمحلوق متيقظ ساكت لم يمنعه.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: حكمه حكم ما لو أكرهه، فيكون على قولين؛ لأن سكوت المتلف عليه.. لا يوجب ضمان ما يجب له، كما لو خرق رجل ثوبه وهو ساكت.
و [الثاني] : منهم من قال: حكمه حكم ما لو أمره.. فتكون الفدية على المحلوق. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأن الشعر عنده إما أن يكون على سبيل الوديعة، أو العارية، وأيهما كان.. فإنه إذا قدر على منع من يتلف ذلك، فلم يفعل.. وجب عليه الضمان.

(4/202)


[مسألة اغتسال المحرم والغطس في الماء]
يجوز للمحرم أن يغسل رأسه وبدنه بالماء، ويدخل الحمام؛ لما روى أبو أيوب الأنصاري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل وهو محرم» .
وروي: (أن ابن عباس دخل حماما بالجحفة، وقال: ما يعبأ الله بأوساخنا شيئا) .
وأما دلك البدن باليد عند الغسل: فجائز؛ لأنه لا يخشى منه قلع الشعر؛ لأن شعر البدن لا ينقطع بذلك.
ولا يكره دلك البدن، وإزالة الوسخ عنه.
وقال مالك: (لا يفعل، فإن فعل.. كان عليه صدقة) .
دليلنا: حديث ابن عباس، حيث قال: (ما يعبأ الله بأوساخنا شيئا) .
وأما دلك شعر الرأس واللحية في الغسل، فإن كان الغسل للتبرد والتنظف. لم يحرك شعره بيده مخافة أن يقطع به الشعر. وإن كان يغتسل للجنابة، أو للحيض، أو للنفاس.. خلل شعره ببطون أنامله، ولا يحركه بأظفاره، ويخلل الماء في أصول شعره تخليلا رفيقا؛ لما روي: أنه «سئل أبو أيوب: كيف اغتسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم؟ وكان أبو أيوب يغتسل، فأمر من يصب الماء على رأسه، ووضع يده على

(4/203)


رأسه ودلك شعره ببطون أصابعه، وقال: هكذا رأيته يفعل»
فإن دلك شعره بيده - إما دلكا رفيقا أو شديدا - وخرج على يده شعر.. فالاحتياط أن يفتدي مخافة أن يكون قد قلعه، ولا يجب عليه شيء حتى يتيقن أنه انقلع بفعله؛ لأن الشعر قد يكون مقلوعا، فإذا مسه خرج.
ويجوز للمحرم أن ينزل في الماء ويتغطس فيه: لما روي عن ابن عباس: أنه قال: قال لي عمر بن الخطاب: (تعال حتى أباقيك في الماء: لننظر: أينا أطول نفسا ونحن محرمان.

[فرع غسل المحرم رأسه بالمنظفات]
ويجوز للمحرم أن يغسل رأسا بالسدر والخطمي، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز، وإذا غسله بالخطمي.. وجبت عليه الفدية) .
دليلنا: أن هذا ليس بطيب، ولا يحصل به ترجيل الشعر، فلم يمنع منه المحرم كالماء.

(4/204)


[فرع الحجامة والافتصاد للمحرم وحج الأغلف]
ويجوز للمحرم أن يحتجم، ويفتصد، ويقطع العروق ما لم يقطع الشعر لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم، وهو صائم محرم» وإذا ثبت الاحتجام بالخبر.. جاز الافتصاد قياسا عليه.
قال الشافعي: (وكذلك لو استاك فأدمى فمه أو حك بدنه فأدماه.. فلا شيء عليه لأنه أقل من الحجامة. وقال الشافعي: (وإذا حج الرجل وهو أغلف.. صح حجه) ؛ لأن أكثر ما فيه أنه وجب عليه قطع جلدة من بدنه، وذلك لا يمنع صحة الحج، كما لو كان عليه قطع في سرقة أو قصاص.

[فرع اكتحال المحرم]
وأما الاكتحال بما لا طيب فيه، فإنه كان أبيض كالتوتياء ... فيجوز للمحرم أن يكتحل به لحاجة ولغير حاجة؛ لأنه يقصد به التداوي، ولا يحسن العين، بل يزيدها مرها وقبحا. وإن كان أسود - وهو الإثمد - فإن لم يكن بالمحرم إليه حاجة
كره له أن يكتحل به؛ لأنه يحسن العين ويزيل شعثها وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الحاج أشعث أغبر.

(4/205)


قال الشافعي: (والمرأة في ذلك أشد كراهية من الرجل) ؛ لأن لها بالكحل من الجمال ما ليس للرجل.
فإن اكتحل.. فلا فدية عليه؛ لأنه لا يرجل العين.
وإن كان المحرم يحتاج إلى الكحل الذي لا طيب فيه لمرض في عينيه.. لم يكره له. لما روي: «أن رجلا اشتكى عينه وهو محرم، فسأل أبان بن عثمان وكان أميرا على الحاج، فقال له: (أضمدها بالصبر؛ فإني سمعت عثمان بن عفان يروي ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وروي: (أن ابن عمر اشتكت عينه وهو محرم، فقطر فيها الصبر) .

[فرع نظر المحرم في المرآة]
قال في " المعتمد ": لا يكره للمحرم النظر في المرآة. وروي ذلك عن ابن عباس، وفعله أبو هريرة؛ لأنه ليس فيه استمتاع، ولا إزالة شعث، فلم يكره، كالنظر إلى شيء يستحسن.

(4/206)


وقال في " الفروع ": ذكر الشافعي في " الإملاء ": (أنه يكره) - وبه قال مالك وعطاء - لأنه يدعوه إلى التنظف، والمستحب للحاج أن يكون أشعث أغبر، فحصل في الكراهة وجهان، المنصوص: (أنه يكره) .

[فرع استظلال المحرم]
يجوز للمحرم أن يستظل نازلا تحت سقف بيت وكنيسة وعمارية، وكذلك يجوز راكبا في الكنيسة والعمارية والهودج، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك وأحمد: (يجوز أن يستظل نازلا، ولا يجوز راكبا تحت سقف مثل الكنيسة والعمارية والهودج، ويجوز أن يستظل تحت ثوب) .
دليلنا: «أن امرأة رفعت صبيا من هودجها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: ألهذا حج؟ قال: " نعم "، ولك أجر» والهودج مسقف له محالة، ولم ينكر ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروت أم الحصين قالت: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه بلال، وأسامة بن زيد أحدهما آخذ بزمام ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والآخر رافع ثوبه يستره من الشمس، حتى رمى جمرة العقبة» .

[فرع كراهة لبس المصبغ وحمل ما يصطاد للمحرم]
فرع: [كراهة لبس المصبغ وحمل ما يصطاد] :
ويكره للمحرم أن يلبس الثياب المصبغة؛ لما روي: أن عمر رأى على طلحة

(4/207)


ثوبين مصبوغين وهو محرم، فقال: (لا يلبسن أحدكم من هذه الثياب المصبغة في الإحرام شيئا) .
ويكره له أن يحمل بازيا، أو كلبا معلما؛ لأنه ينفر به الصيد، وربما قتل صيدا. وينبغي له أن ينزه إحرامه عن الخصومة، والشتم، والكلام القبيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] .
قال ابن عباس: (الفسوق: المنابزة بالألقاب، والجدال: المماراة) .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حج لله، فلم يرفث ولم يفسق.. رجع كهيئة ولدته أمه» .
وبالله التوفيق.

(4/208)