البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب ما يجب بمحظورات الإحرام]
إذا حلق المحرم جميع رأسه.. وجبت عليه الفدية، وهو مخير بين ثلاثة أشياء: بين أن يذبح شاة، أو يطعم ستة مساكين ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع، أو يصوم ثلاثة أيام.
والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] ، فوردت الآية بوجوب ذلك مجملا، وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك في حديث كعب بن عجرة، حيث قال: «احلق رأسك، وانسك شاة، أو طعم ستة مساكين ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع، أو صم ثلاثة أيام» .
وإن حلق رأسه ثلاث شعرات.. وجب فيه ما يجب في حلق جميع الرأس وقال أبو حنيفة: (إن حلق ربع رأسه.. وجب عليه الدم، وإن حلق أقل من الربع.. فعليه صدقة) ، ويريدون بالصدقة نصف صاع من طعام.
وقال أبو يوسف: لا يجب الدم إلا بحلق النصف.
وقال مالك: (إن حلق من رأسه ما أماط عنه الأذى.. فعليه الفدية. وإن حلق منه ما لا يحصل به إماطة الأذى.. فلا فدية عليه) .

(4/209)


وعن أحمد روايتان:
أحدهما: مثل قولنا. والثانية: (لا تجب الفدية إلا بحلق أربع شعرات) ..
دليلنا: أن الثلاث أقل الجمع، فوجب فيها الدم، قياسا على الربع عند أبي حنيفة، والنصف عند أبي يوسف.
وإن حلق من رأسه أقل من ثلاث شعرات.. فهو مضمون.
وقال مجاهد وعطاء: ليس بمضمون.
دليلنا: أن ما ضمنت جملته.. ضمنت أبعاضه، كالصيد.
إذا ثبت هذا: ففيما يجب في الشعرة والشعرتين؟ ثلاثة أقوال:
أحدها: يجب في الشعرة ثلث دم، وفي الشعرتين ثلثا دم؛ لأنه لما وجب في الثلاث دم كامل.. وجب فيما دونها بالقسط من ذلك.
والثاني: يجب في الشعرة درهم، وفي الشعرتين درهمان؛ لأن تبعيض الحيوان يشق، فقومت الشاة بثلاثة دراهم، نحو قيمتها في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرجع في التقويم إلى النقد، كما يرجع في سائر المقومات.
والثالث: يجب في الشعرة مد، وفي الشعرتين مدان؛ لأن التعديل في الشرع، إنما كان في الحيوان بالإطعام، فإذا عدل عن الحيوان في جزاء الصيد إلى غيره.. فكذلك هاهنا، وأقل ما يجب للمسكين مد، فوجب ذلك في أقل الشعر.

(4/210)


وإن حلق شعر رأسه وشعر بدنه في مجلس واحد.. وجبت عليه فدية واحدة وقال أبو القاسم الأنماطي: تجب عليه فديتان؛ لأنهما جنسان، بدليل أن التحلل يقع بشعر الرأس دون شعر البدن. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الشعر كله جنس واحد وإن اختلفا في التحلل، ألا ترى أن شعر الرأس يختلف في المسح في الطهارة ولا يختلف في الفدية.

[فرع تقليم الأظفار للمحرم]
وإن قلم ثلاثة أظفار فما زاد.. وجب عليه دم.
وإن قلم ظفرا، أو ظفرين.. فعلى الأقوال الثلاثة في الشعرة والشعرتين، سواء كان ذلك من يد أو يدين.
وقال أبو حنيفة: (إن قلم خمسة أظفار من يد، فعليه دم، وإن قلم أقل من خمسة من يدين فعليه صدقة، وكذلك إن قلم خمسة من يدين فعليه صدقة) . وبه قال أبو يوسف.
وقال محمد بن الحسن: إذا قلم خمسة أظفار.. فعليه دم، سواء كان ذلك من يد أو يدين.
دليلنا: أنه قطع من أظفاره الممنوع منها لحرمة الإحرام دفعة واحدة ما يقع عليه اسم الجمع المطلق، فوجب عليه الدم، كما لو قلم خمسة أظفار من يد واحدة

(4/211)


[مسألة الفدية في فعل المحظور]
وإن تطيب، أو لبس المخيط، أو غطى رأسه عامدا.. وجبت عليه الفدية، سواء طيب عضوا كاملا أو بعض عضو، وسواء استدام اللبس يوما كاملا أو بعض يوم، وكذلك إذا ستر جزءا من رأسه زمانا يسيرا أو كثيرا.. فالحكم فيه واحد.
وقال أبو حنيفة: (إن طيب عضوا كاملا.. فعليه الفدية. وإن طيب أقل من عضو.. فعليه صدقة: وهي نصف صاع، وإن لبس المخيط يوما كاملا.. فعليه الفدية. وإن لبس أقل من يوم.. فعليه صدقة) .
وقد روي عنه: (إن لبس أكثر النهار.. فعليه الفدية. ورجع عنه إلى اليوم - فإن ستر ربع رأسه يوما كاملا.. فعليه الفدية. وإن ستر أقل من الربع أقل من اليوم.. فعليه صدقة) .
وقال محمد بن الحسن: إن ستر نصف الرأس يوما. فعليه الفدية. وإن ستر أقل من النصف فعليه صدقة.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
وتقدير الآية: فمن كان منكم مريضًا فلبس أو تطيب.. ففدية. ولم يفرق بين أن يلبس يوما، أو أقل من يوم، فهو على العموم فيما يقع عليه أثم الطيب واللباس.
ولأن ما كان مضمونا بالفدية.. تعلقت بعينه، ولا تعتبر فيه الاستدامة، كالوطء.
إذا ثبت هذا: فإن الفدية التي تجب في الطيب، أو اللباس، أو تغطية الرأس، أو دهنه، أو دهن اللحية.. هي الفدية التي تجب بحلق الرأس، وهي: شاة، أو إطعام

(4/212)


ستة مساكين ثلاثة آصع، أو صوم ثلاثة أيام؛ لأنه زينة وترفه، فهو كحلق الرأس هذا هو المشهور في المذهب.
وحكى أبو علي في " الإفصاح " قولين آخرين:
أحدهما: أنه كدم التمتع، فإن لم يجد الهدي.. صام عشرة أيام على ما مضى.
والثاني: أنه إذا لم يجد الهدي.. قوم الهدي دراهم، والدراهم طعاما. ثم يصوم عن كل مد يوما.

[فرع ارتكاب أكثر من محظور باعتبار المجلس]
إذا تطيب، فقبل أن يكفر عن الطيب لبس مخيطا أو غطى رأسه، وكان ذلك في مجلس واحد.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أن عليه فدية واحدة؛ لأنهما نوعا استمتاع، فهو كما لو لبس القميص والعمامة.
والثاني - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: إن كان السبب واحدا، مثل: أن تصيبه شجة فيحتاج إلى مداواتها بالطيب وسترها.. فعليه فدية واحدة؛ لأن سببها واحد.
وإن كانت أسبابها مختلفة.. فلكل جنس منها فدية؛ لأنها أجناس.

(4/213)


الثالث - وهو المذهب -: أنه يجب لكل واحد فدية؛ لأنهما جنسان مختلفان؛ فهو كما لو حلق الشعر، وقلم الظفر.
فإن لبس مخيطا مطيبا، أو طلا رأسه بطيب، بحيث غطى بعض الشعر، فإن قلنا: إن الطيب واللباس جنس واحد.. لزمه هاهنا فدية واحدة. وإن قلنا بالمذهب وأنهما جنسان.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: يلزمه فديتان؛ لأنه حصل اللباس والطيب، أو التغطية والطيب.
والثاني: يلزمه فدية واحدة؛ لأن الطيب تابع للثوب أو التغطية.
وإن تطيب في مجلس، ولبس المخيط في مجلس آخر.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\193] : لزمه لكل واحد منهما كفارة؛ لافتراق المجلسين.

[فرع ارتكاب نفس المحظور باعتبار المجلس]
وإن لبس ثم لبس، أو تطيب ثم تطيب.. نظرت: فإن كان ذلك في مجلس واحد، مثل: أن يلبس القميص والسراويل والعمامة في مجلس واحد، أو تطيب بماء الورد والكافور وتبخر بالعود، أو قبل ثم قبل، في مجلس واحد قبل أن يكفر عن الأول.. لزمته كفارة واحدة لكل جنس؛ لأنه كالفعلة الواحدة. وإن كفر للأول.. لزمته للثاني كفارة أخرى؛ لأن الأول استقر حكمه.
وإن كان ذلك في مجالس، مثل: أن لبس القميص في مجلس، وتسرول في مجلس آخر، أو تبخر بالعود في مجلس وبالند في مجلس آخر، فإن فعل الثاني بعد

(4/214)


أن كفر عن الأول.. لزمه للثاني كفارة أخرى؛ لأن حكم الأول قد استقر بالتكفير كما لو زنا فحد، ثم زنا.. فإنه يحد للثاني. وإن فعل الثاني قبل أن يكفر من الأول نظرت: فإن كان السبب واحدا، مثل: أن يلبس للبرد فيهما، أو يتطيب لمرض واحد.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يجزئه فدية واحدة) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحدود كفارات» والحدود إذا ترادفت تداخلت، فكذلك الكفارة. ولأنها جنس استمتاع متكرر منع المحرم منها، ولم يتخللها تكفير فتداخلت، كما لو اتصل فعلها.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يلزمه لكل واحد كفارة وهو الصحيح لأنها أفعال متكررة في مجالس يجب لكل واحد منها فدية إذا تفرد، فوجب لكل واحد فدية وإن اجتمع مع غيره، كما لو كفر عن الأول.
وإن تكرر الفعلان بسببين مختلفين مثل: أن يلبس بكرة لأجل البرد فينزعه، ثم لبس عشية لأجل الحر.. ففيه طريقان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
[الأول] : من أصحابنا من قال: يجب عليه فديتان قولا واحدا؛ لأن اختلاف الأسباب يجري مجرى الأجناس.
و [الثاني] : منهم من قال: هي على قولين كالأولى، وهو الصحيح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يعتبر اختلاف الأسباب، وإنما اعتبر اختلاف الأجناس.
فإذا قلنا: يكفيه للجميع فدية واحدة فارتكب محظورا وأخرج الفدية، ونوى

(4/215)


بإخراجها الفدية عما ارتكبه وعما سيرتكبه من جنسه. فهل يجزئه ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\ 193] :
أحدهما: يجزئه، كما يجزئه تقديم إخراج كفارة التمتع قبل وقت وجوبها.
والثاني: لا يجزئه؛ لأن في ذلك سببا إلى ارتكاب المحظور، فصار كتقديم كفارة الجماع في رمضان على الجماع.

[فرع حلق المحرم شعره في وقت أو أكثر]
وإن حلق شعر رأسه.. نظرت: فإن كان في وقت واحد.. لزمه فدية واحدة وإن طال الزمان بفعله، كما لو حلف أن لا يأكل في النهار إلا مرة واحدة، فنصبت المائدة، وجعل يأكل من بكرة إلى الظهر لقمة بعد لقمة.. فإنه لا يحنث وإن كان ذلك في أوقات متفرقة، مثل: أن حلق ثلاث شعرات بكرة، وثلاثا عشية قبل أن يكفر عن الأول. ففيه طريقان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: يجب لكل حلق كفارة قولا واحدا؛ لأن هذا إتلاف، فلم يتداخل كقتل الصيد.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: هو على قولين كالطيب واللباس، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق في " المهذب ".

(4/216)


فإن حلق ثلاث شعرات في ثلاثة أوقات.. فعلى ما ذكر الشيخ أبو حامد: يكون فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: يجب في الجميع دم.
والثاني: يجب ثلاثة دراهم.
والثالث: يجب ثلاثة أمداد.
وعلى ما حكاه القاضي والشيخ أبو إسحاق: إن قلنا: يتداخل.. لزمه دم قولا واحدا. وإن قلنا: لا يتداخل.. ففيه ثلاثة أقوال.
وذكر في " الإبانة " [ق \ 192] : إذا نتف ثلاث شعرات من ثلاثة مواضع في وقت واحد.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم ما لو نتفها من موضع واحد، فيلزمه دم واحد.
والثاني: حكمه حكم ما لو نتفها في ثلاثة أوقات، فيكون على ما مضى.
وإن حلق تسع شعرات في ثلاثة أوقات، في كل وقت ثلاثا.. فعلى ما قال الشيخ أبو حامد: يجب عليه ثلاثة دماء قولا واحدا. وعلى ما حكاه القاضي والشيخ أبو إسحاق: إن قلنا: يتداخل.. لزمه دم واحد، وإن قلنا: لا يتداخل.. لزمه ثلاثة دماء.
إذا ثبت هذا: فلا فرق بين أن يحلق الشعر، أو ينتفه، أو يحرقه بالنار، فإن عليه الفدية؛ لأن الفدية وجبت لإزالته عن البدن، وهذا موجود فيه بهذه الأفعال.

[مسألة الجماع في الحج]
إذا وطئ المحرم بالحج في الفرج عامدا قبل الوقوف بعرفة، أو بعد الوقوف وقبل التحلل الأول ... فسد حجه ووجبت عليه بدنة.

(4/217)


وقال أبو حنيفة: (إن وطئ قبل الوقوف بعرفة.. فسد حجه، ووجبت عليه شاة، وإن وطئ بعد الوقوف.. لم يفسد حجه ووجبت عليه بدنة) .
دليلنا - على فساد الحج -: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] .
و (الرفث) : الجماع، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولم يفرق بين أن يكون قبل الوقوف بعرفة أو بعده، ولأنه وطئ في الحج - قبل التحلل ففسد حجه، كالوطء قبل الوقوف.
والدليل - على وجوب الكفارة: أن كل عبادة حرمت الوطء، وغيره.. كان للوطء مزية على غيره، كالصوم.
والدليل على أنها بدنة -: ما روي عن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: (إذا وطئ امرأته قبل عرفة.. فسد حجه وعليه بدنة) ولا مخالف لهما في الصحابة. ولأن هذا وطء صادف إحراما لم يتحلل منه فوجبت فيه بدنة، كالوطء بعد الوقوف.

[فرع جماع المعتمر قبل التحلل]
وإن وطئ المعتمر قبل التحلل.. فسدت عمرته، ووجبت عليه بدنة.
وقال أبو حنيفة: (إذا وطئ قبل أن يطوف أربعة أشواط.. فسدت عمرته، ووجبت عليه شاة. وإن وطئ بعد أن طاف أربعة أشواط، لم تفسد عمرته وجبت عليه شاة) .

(4/218)


دليلنا - على وجوب البدنة -: أنها عبادة تشتمل على طواف وسعي فوجب بإفسادها البدنة قياسا على الحج.
والدليل - على أنها تفسد بعد طواف أربعة أشواط -: أنه وطئ قبل التحلل من عمرته فأفسدها، كما لو وطئ قبل أربعة أشواط.

[فرع المضي في الحج والعمرة عند فسادهما وعليه القضاء]
ويجب على من أفسد الحج أو العمرة أن يمضي في فاسدهما، وبه قال كافة أهل العلم إلا داود، فإنه قال: (يخرج منه بالفساد) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] فأمر بإتمامهما، ولم يفرق بين الفاسد والصحيح.
ويجب عليه القضاء؛ لما روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس: أنهم قالوا: (يمضي في فاسده، ويقضي من قابل) وهل يجب القضاء على الفور، أو يجوز على التراخي؟ فيه وجهان:

(4/219)


أحدهما: يجوز على التراخي؛ لأن الأداء على التراخي، فكذلك القضاء.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يجب على الفور؛ لما روي عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: (يقضي من قابل) ولا مخالف لهما في الصحابة. ولأن هذا القضاء وجب بدلا عن حجة وجب المضي فيها على الفور.
فإذا قلنا: يجب على الفور، فلم يحج على الفور.. أثم بالتأخير، ولا يسقط القضاء عن ذمته.

[مسألة جواز قضاء المحصر حجه لو فسد في عامه]
إذا ثبت هذا: فقال أصحابنا: لا يتأتى القضاء في الحج في السنة التي أفسد فيها الحج إلا في مسألة واحدة، وهو: إذا أفسد حجه قبل وقوفه بعرفة فأحصر، أو أحصر فأفسده.. فله أن يتحلل منه، كما يتحلل من الصحيح. فلو زال الحصر قبل الوقوف بعرفة.. فله أن يحرم بالحج عن القضاء في هذه السنة؛ لأنه قد أمكنه ذلك.
فإن قلنا: إن القضاء يجب على الفور.. فإنه يجب عليه هاهنا أن يحرم بالحج عن القضاء؛ لأنه أقرب من العام القابل.

[فرع الإحرام بالقضاء]
وإذا أراد الإحرام بالقضاء.. فإنه يجب عليه أن يحرم من أبعد المكانين وهما: الميقات الشرعي، أو الموضع الذي أحرم منه بالنسك الذي أفسده.

(4/220)


وقال أبو حنيفة: (يقضي الحج من الميقات، ويقضي العمرة من أدنى الحل بكل حال) .
دليلنا: أن كل ما لزم الإنسان المضي فيه بالدخول في الإحرام إذا أفسده.. لزمه قضاؤه، كحجة التطوع. فإن سلك طريقا آخر.. لزمه أن يحرم إذا حاذى الموضع الذي لزمه الإحرام منه، كما قلنا فيمن سلك طريقا لا ميقات فيه.

[فرع قضاء الحج بالزوجة التي جامعها فيه]
قال الشافعي: (ويحج بامرأته) .
فمن أصحابنا من احتج بظاهر هذه اللفظة، وقال: يجب على الزوج نفقة زوجته في القضاء، وهو الصحيح؛ لأن هذا مال تعلق بالوطء، فكان على الزوج كالمهر.
ومنهم من قال: تجب نفقتها في مالها، كنفقة الأداء.
قال القاضي أبو الطيب: وينبغي أن يكون في ثمن الماء الذي تغتسل به المرأة هذان الوجهان.
فإذا بلغا إلى الموضع الذي جامعها فيه.. فرق بينهما، وهل هو مستحب أو واجب؟ فيه وجهان:

(4/221)


أحدهما: أنه مستحب، وبه قال أبو حنيفة، كما لا يجب التفريق بينهما في غيره من المواضع، ولا في الموضع الذي جامعها فيه في نهار رمضان في نهار القضاء.
والثاني: يجب، وبه قال مالك؛ لما روي عن عثمان، وابن عباس: أنهما قالا: (إذا بلغا إلى ذلك الموضع.. فرق بينهما) . ولأنه إذا لم يفرق بينهما.. ربما تذكرا ما جرى بينهما، فدعاهما ذلك إلى مثله.
فإذا قلنا بهذا: فلم يفعلا.. أثما بذلك لا غير.

[فرع جماع القارن قبل التحلل]
وإن وطئ القارن قبل التحلل.. فسد قرانه، ووجب عليه المضي في فاسده والقضاء، ويجب عليه بدنه. وهل يلزمه دم القران؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 194] :
أحدهما: لا يجب؛ لأن نسكه لم يصح قرانه.. فلم يجب عليه دم القران.
والثاني: يجب عليه دم، وهو قول الشيخ أبي حامد والبغداديين من أصحابنا؛ لأنه قد وجب عليه بالإحرام، فلا يسقط بالوطء.
وعليه أن يقضي قارنا، فإن قضى مفردا.. صح؛ لأنه أفضل من القران، ولا يسقط عنه دم القران الواجب بالقضاء؛ لأنه لما أفسد القران.. لزمه أن يقضي بالقران، ومن حكم القران: أنه يجب فيه الدم، فإذا قضى مفردا.. صح، ولم يسقط عنه الدم الذي كان يلزمه في القضاء، هذا مذهبنا.

(4/222)


وقال أبو حنيفة: (إذا وطئ، القارن قبل الطواف والسعي للعمرة.. فسد إحرامه وعليه قضاء الحج والعمرة، وشاة لفساد الحج، وشاة لفساد العمرة، وشاة لفساد القران. وإن وطئ بعد ما طاف أربعة أشواط للعمرة.. لم تفسد عمرته ولزمه شاة، وفسد حجه وعليه شاة، وشاة للقران. وإن وطئ بعد أن طاف وسعى.. فعليه بدنة وشاة) .
وبنى ذلك على أصله: أن القارن كالمفرد في الطواف والسعي، وعلى: أن المفسد للنسك يلزمه شاة، وإذا لم يفسد.. فعليه بدنة بالوطء وقد مضى الكلام معه.

[فرع ترتيب الفدية على المجامع]
قد ذكرنا أن على المجامع في الحج أو العمرة قبل التحلل بدنة، وهل هي على الترتيب، أو على التخيير؟
المنصوص: (أنها تجب على الترتيب) فيجب عليه بدنة، فإن لم يجد البدنة.. أجزأته بقرة، فإن لم يجد البقرة.. أجزأه سبع من الغنم، فإن لم يجد الغنم.. قومت البدنة بمكة بدراهم واشترى بالدراهم طعاما وتصدق به، فإن لم يمكنه ذلك.. صام عن كل مد يوما.

(4/223)


وبهذا قال ابن عباس.
وخرج أبو إسحاق قولا آخر: أنه مخير بين البدنة والبقرة والسبع من الغنم. فإن لم يجد واحدا من هذه الثلاثة.. قوم أي الثلاثة شاء بدراهم، واشترى بالدراهم طعاما وتصدق به، فإن لم يجد.. صام عن كل مد يوما. وبه قال ابن عمر، ولأن هذه بدنة وجبت لهتك حرمة الإحرام، فوجب أن يكون على التخيير، كالبدنة الواجبة بقتل النعامة.
ووجه المنصوص: أنها كفارة وجبت لإفساد عبادة، فكانت على الترتيب، ككفارة إفساد الصوم، ولأن البقرة دون البدنة، فلا تقوم مقامها.
إذا ثبت هذا: فإن الكلام فيمن يجب عليه الكفارة كالكلام في الكفارة في إفساد الصوم على قولين:
أحدهما: يجب على كل واحد منهما بدنة.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه يجب على الزوج بدنة.
وهل يجب عليه دونها، أو عنه وعنها؟ فيه وجهان، وقد مضى دليل ذلك في الصوم.

[مسألة جماع الصبي غيره في الإحرام]
وإن وطئ الصبي في إحرامه قبل التحلل عامدا، فإن قلنا: إن عمد الصبي خطأ

(4/224)


فهل يفسد حجه؟ على قولين، وإن قلنا: إن عمده عمد.. فسد نسكه؛ لأن من صح إحرامه.. فسد بالوطء كالبالغ، ووجبت الكفارة، وعلى من تجب؟ فيه وجهان وقيل: قولان:
أحدهما: تجب في ماله.
والثاني: على وليه. وقد مضى ذكرهما.
فإن قلنا يفسد حج الصبي بالوطء.. فهل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب؛ لأنه عبادة بدنية، فلم تجب على الصبي كالصوم والصلاة.
والثاني: يجب؛ لأن من فسد الحج بوطئه.. وجب عليه القضاء، كالبالغ.
فإذا قلنا بهذا: فهل يصح منه القضاء في حال الصغر؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه حج واجب، فلم يصح من الصبي، كحجة الإسلام. والثاني: يصح؛ لأنه يصح منه أداؤه، فصح قضاؤه، كالبالغ.

[فرع جماع العبد في الإحرام]
] : وإن وطئ العبد في إحرامه عامدا قبل التحلل.. فسد نسكه بلا خلاف، كالحر، وهل يجب عليه القضاء؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه؛ لأنه حج واجب، فلم يجب عليه، كحجة الإسلام.
والثاني: يجب عليه، وهو المذهب؛ لأن الحج يجب عليه بالدخول، وهذا بدل عنه.
فإذا قلنا بهذا: فهل يصح منه القضاء في حال الرق؟ فيه وجهان كما قلنا في الصبي.
فإذا قلنا: يصح منه.. فهل للسيد منعه منه؟ ينظر فيه:
فإن دخل في الذي أفسد بغير إذنه.. فله منعه.

(4/225)


وإن دخل فيه بإذنه ... فهل له منعه؟
إن قلنا: إن القضاء على التراخي ... فللسيد منعه، وإن قلنا على الفور.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس له منعه؛ لأنه قد أذن له في الذي أفسده وهذا من موجب ما أذن فيه.
والثاني: له منعه؛ لأنه أذن له في الحج دون الإفساد.
فإن أعتق بعد التحلل وقبل القضاء لم يجز له أن يقضي حتى يحج حجة الإسلام. فإن أعتق قبل أن يتحلل من الفاسد ... لزمه أن يقضي وجها واحدا؛ لأنه حر.. وإن كان عتقه قبل الوقوف أو في حال الوقوف.. أجزأه القضاء عن القضاء وعن حجة الإسلام؛ لأن الفاسد لو لم يفسد
لأجزأه عن حجة الإسلام، فكذلك ما قام مقامه ... وإن كان عتقه بعد الوقوف في الفاسد
لم تجزه حجة القضاء عن حجة الإسلام؛ لأن الفاسد كان لا يجزئه عن حجة الإسلام وإن لم تفسد، فكذلك ما قام مقامه.

[مسألة تكرار الجماع قبل التحلل]
وإن وطئ الرجل قبل التحلل، ثم وطئ ثانيا ... نظرت: فإن كفر عن الأول قبل الوطء الثاني
لزمه أن يكفر عن الثاني قولا واحدا؛ لأن الأول قد استقر حكمه، وفي الكفارة التي تلزمه للثاني قولان:
أحدهما: بدنة، كالوطء الأول.
والثاني: شاة؛ لأنه وطء لم يفسد به النسك، فهو كما لو وطئ، فيما دون الفرج.
وإن كان الوطء الثاني قبل أن يكفر عن الأول فهل يلزمه للثاني كفارة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه كما لو كرر الوطء في يوم واحد من رمضان.. فإنه لا يلزمه لغير الأول كفارة.

(4/226)


والثاني: يلزمه لأنه وطئ في إحرام منعقد لأنه لا يخرج من الحج بالإفساد بل لو ارتكب محظورا فيه وجبت عليه فيه الفدية، كالصحيح، بخلاف الصوم.
فإذا قلنا بهذا: فهل يلزمه لكل وطء بعد الأول بدنة أو شاة؟ فيه قولان على ما مضى.

[فرع الجماع بين التحللين]
] : وإن وطئ بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني فإنه لا يفسد حجة، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وأحمد: (يفسد ما بقي من إحرامه، فإذا فرغ منه ... لزمه أن يأتي بعمرة لتكون قضاء عنه) .
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: (من وطئ بعد التحلل.. فحجه تام وعليه ناقة) ، ولا مخالف له ولأنه وطئ بعد التحلل الأول، فلم يفسد حجه، كما لو وطئ بعد التحلل الثاني.
إذا ثبت هذا: فإن عليه الكفارة، وما تلك الكفارة؟ فيه قولان:
أحدهما: بدنة؛ لقول ابن عباس.

(4/227)


والثاني: شاة لأنه وطء لم يفسد به الحج، فهو كالوطء، فيما دون الفرج.
وإن أفسد القضاء.. لزمه المضي في فاسده، ولزمته بدنة، ويجزئه قضاء واحد؛ لأن القضاء الذي لزمه إنما يجزئه إذا أتى به على شرائطه، فإذا لم يأت به على شرائطه.. بقي في ذمته.

[مسألة الوطء في الدبر أو في الفرج بخرقة]
] : وإن وطئ امرأة في دبرها، أو لاط بغلام، أو أتى بهيمة.. فسد بذلك حجه ووجبت عليه الكفارة.
وقال أبو حنيفة: (لا يفسد بذلك حجه، ولا تلزمه الكفارة) .
دليلنا: أنه فرج يجب بالإيلاج فيه الغسل وإن لم ينزل، ففسد الحج بالإيلاج فيه كقبل المرأة.
وإن لف على ذكره خرقة، ثم أولج في فرج.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الصيمري:
أحدها: يفسد به الحج؛ لأنه أولج في فرج، فهو كما لو لم يكن عليه شيء.
والثاني: لا يفسد به الحج؛ لأن ذكره لم يباشر فرجها، فهو كما لو أولج في غير الفرج.
والثالث - وهو قول أبي الفياض، واختيار القاضي أبي القاسم الصيمري: إن كانت الخرقة رقيقة.. فسد الحج، وإن كانت كثيفة.. لم يفسد؛ لأن الرقيقة وجودها كعدمها، بخلاف الكثيفة.

(4/228)


[مسألة مقدمات الجماع حال الإحرام]
وإن قبل أو لمس أو وطئ فيما دون الفرج بشهوة.. لم يفسد بذلك حجه، ووجبت عليه شاة، سواء أنزل أو لم ينزل، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إن أنزل.. فسد حجه) وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
دليلنا: ما روي عن ابن عمر وابن عباس: أنهما قالا: (إذا قبل المحرم امرأته فأنزل.. فلا قضاء عليه) ولا مخالف لهما. ولأنه استمتاع لا يجب به الحد، فلم يفسد به الحج، كما لو لم ينزل، وإنما أوجبنا الشاة: لأنه تلذذ به، فوجبت عليه الشاة كالطيب.
وإن قبل امرأته وهي قادمة من سفر أو كان مودعا لها، وقال: لم أرد الشهوة.. فلا عليه؛ لأن شاهد الحال يدل عليه. وإن قال: قصدت الشهوة.. فعليه الفدية؛ لأنه قد وجد منه الاستمتاع. وإن قال ما قصدت هذا ولا هذا.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: عليه الفدية؛ لأنها موضوعة للشهوة.
والثاني: لا فدية عليه؛ لأنه لم يقصد به الشهوة.

[فرع تكرار نظر المحرم للمرأة ونكاح اليد]
وإن كرر النظر إلى امرأة فأنزل.. فلا شيء عليه.
وحكى الشيخ أبو نصر صاحب " المعتمد " عن الحسن البصري ومالك وعطاء: أن عليه القضاء من قابل.

(4/229)


وعن ابن عباس في الكفارة روايتان:
إحداهما: (يلزمه بدنة) .
والثانية: (شاة) ، وبه قال سعيد بن جبير، وأحمد، وإسحاق.
دليلنا: أنه إنزال عن غير مباشرة، فهو كما لو فكر وأنزل.
ولو استمنى بكفه.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\213] .
أحدهما: أن عليه شاة؛ لأنه إنزال عن مباشرة، فهو كما لو وطئ دون الفرج.
والثاني: لا شيء عليه، لأنه لم يشاركه في هذا غيره، فهو كما لو نظر فأنزل.

[مسألة جزاء الصيد ومن يحكم فيه]
إذا قتل المحرم صيدا، فإن كان له مثل من النعم من طريق الخلقة.. وجب فيه مثله من النعم. و (النعم) : هي الإبل، والبقر، والغنم. وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (الصيد كله مضمون بقيمته) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
و (الهدي الذي يبلغ الكعبة) : هو النعم دون القيمة.
وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الضبع صيد، وفيه كبش إذا أصابه المحرم» فاقتضى هذا: أن الكبش هو جميع ما يجب في الضبع، ولم يفرق بين أن يكون بقيمة الضبع أو أقل.
إذا ثبت هذا: فإن كل صيد حكمت الصحابة فيه أو التابعون بأن؛ له مثلا من

(4/230)


النعم.. فإنه يجب ذلك المثل من غير اجتهاد فيه.
وقال مالك: (يجب الاجتهاد فيه) .
دليلنا: أن الله تعالى قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
والصحابة كلهم عدول مرضيون، ولأنهم شاهدوا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والوحي وعرفوا التنزيل والتأويل، فكان نظرهم أولى من نظر غيرهم، وذلك مثل: ما روي عن عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن الزبير: (أنهم قضوا في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحش ببقرة) ،

(4/231)


وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعناق. قال ابن الصباغ: و (العناق) : ولد المعز إذا اشتد.
وقال الشيخ أبو حامد: (العناق) : السخلة من الضأن.
وقضوا: (في اليربوع بجفرة) : وهي ولد المعز إذا امتلأ جوفها من الماء والشجر.
قال الشافعي: (وإذا وجب في حمار الوحش بقرة.. ففي بقرة الوحشي بقرة؛ لأنها أقرب إليها) .
وعن عثمان: (أنه حكم في أم حبين بحلان) . و (أم حبين) هي: دابة

(4/232)


منتفخة البطن، سميت أم حبين؛ لانتفاخ بطنها، وهي تصغير (حبن) وهو: الذي استسقى وانتفخ بطنه، وأما (الحلان) فهو: الحمل.
وقال الأزهري: هو الجدي، وفيه لغة أخرى: حلام بالميم. قال الشاعر:
كل قتيل في كليب حلام ... حتى ينال القتل آل همام
وعن مجاهد وعطاء: أنهما حكما في الوبر بشاة.
قال الشافعي: (إن كان الوبر تأكله العرب.. ففيه جفرة؛ لأنه ليس بأكبر بدنا منها) .
وقال ابن الصباغ: (الوبر) هي: دويبة مثل الجرذ، إلا أنه أنبل منها وأكرم، وهي: كحلاء طحلاء من جنس بنات عرس.
قال الشافعي: (وفي الثعلب شاة) ؛ لأنه روي ذلك عن بعض التابعين.
وأما الوعل: فقال ابن الصباغ: إن فيه بقرة. وحكى الصيمري: أن فيه تيسا. وفي الضب جدي؛ لما روي عن طارق بن شهاب: أنه قال: (خرجنا حجاجا،

(4/233)


فوطئ رجل منا - يقال له: أربد - ضبا، ففرى ظهره، فقدمنا على عمر فسأله، فقال له عمر: احكم يا أربد فيه، فقال: أنت خير مني يا أمير المؤمنين وأعلم. فقال له عمر: إنما أمرتك أن تحكم به، ولم آمرك أن تزكيني. فقال أربد: أرى فيه جديا قد جمع الماء والشجر. فقال عمر: فذلك فيه) . وأما ما لم يحكم فيه الصحابة والتابعون: فإنه يرجع في معرفة مثله من النعم إلى ذوي عدل من المسلمين، فيلحقانه بما هو أقرب إليه من الأجناس الثلاثة.
قال الشافعي: (وأحب أن يكونا فقيهين) . وهل يجوز أن يكون أحدهما هو القاتل؟ وإن اشترك اثنان في قتل الصيد.. فهل يجوز أن يحكما على أنفسهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يجوز، وهو المنصوص؛ لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث جوز لأربد أن يحكم على نفسه وإن كان قاتلا، وحكم عمر معه بذلك. ولأنه مال يخرج في حق الله سبحانه وتعالى، فجاز أن يكون من وجب عليه أمينا فيه كالزكاة.
والثاني: لا يجوز، وبه قال مالك؛ لأنه متلف، ولم يرجع إليه في تقويمه، كقيم المتلفات.

(4/234)


[فرع الصيد من صغار الحيوان وفداء الذكر بالأنثى وعكسه]
ويجب في صغار ما له مثل من النعم صغير مثله من النعم.
وقال مالك: (يجب في صغار الصيد كبير من مثله من النعم) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
ومثل الصغير صغير. ولأن ما ضمن باليد والجناية.. اختلف في ضمانه الصغير والكبير، كالعبد والبهيمة.
قال الشافعي: (ويفدي الذكر بالذكر والأنثى بالأنثى) .
وإن قتل صيدا ذكرا، وأراد أن يفديه بأنثى من مثله.. قال الشافعي: (كان أحب إلي) .
واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنها ليست بمثل له.
والثاني: يجوز، كما لو وجب عليه في الزكاة إخراج ذكر، فأخرج أنثى من سنه. وقال القاضي أبو حامد: إن أراد الذبح.. لم يجز؛ لأن لحم الذكر أطيب من لحم الأنثى. وإن أراد التقويم.. جاز؛ لأنها أكثر قيمة.
وقال الشيخ أبو حامد: يجوز قولا واحدا؛ لأن لحم الأنثى أرطب من لحم الذكر.

(4/235)


ومنهم من قال: إن كانت الأنثى لم تلد ... قامت مقام الذكر، وإن كانت قد ولدت
. فلا.
ومنهم من قال: إن قتل ذكرا صغيرا.. جازت الأنثى الصغيرة، وإن قتل ذكرا كبيرا.. لم تجزئ الأنثى الكبيرة.
وإن قتل أنثى من الصيد، وأراد أن يفديها بذكر من مثلها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يجزئه؛ لأن الذكر أكثر لحما من الأنثى.
والثاني: لا يجزئه؛ لأن الأنثى أرطب لحما من الذكر، فهي أفضل منه.

[فرع قتل الصيد المعيب]
وإن قتل صيدا معيبا، ففداه بمعيب من مثله من النعم.. أجزأه، إلا أن يختلف العيبان، مثل: أن يكون الصيد أعور والمثل أعرج.. فلا يجوز.
فإن فدى الأعور من اليمين بالأعور من اليسار.. جاز؛ لأن التفاوت يسير.
وقال مالك: (إذا قتل صيدا معيبا.. فداه بمثله صحيحا) .
دليلنا عليه: ما مضى في الصغار.

[فرع صيد الماخض]
ذكر الشيخ أبو حامد: أن الشافعي قال: (إذا قتل صيدا ماخضا.. فداه بمثله من النعم ماخضا) .

(4/236)


وذكر ابن الصباغ: أن الشافعي قال في " الجامع الكبير ": (أنه يضمنه بقيمة شاة ماخض) .
قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: لا يخرج الماخض إلى المساكين؛ لأنها أقل لحما من الحامل، وإنما تجب قيمتها؛ لأن الحمل في الصيد زيادة، وهو كذلك في الشاة، إلا أنه ينقص من لحمها، فأوجبنا القيمة؛ لتحصل الزيادة.
قال ابن الصباغ: وليس لهذه المسألة نظير.

[مسألة التخيير في فدية صيد له مثل وتقويمه]
إذا قتل صيدا له مثل من النعم.. وجب عليه المثل، وهو بالخيار: بين أن يخرج المثل فيذبحه ويفرقه على المساكين، وإن ملكهم إياه مذبوحا.. جاز؛ لأن الذبح واجب عليه. وإن شاء قوم المثل من النعم. لا الصيد نفسه - بدراهم، ثم اشترى بالدراهم طعاما، وتصدق بالطعام على المساكين. وإن شاء صام عن كل مد يوما.
وتعتبر قيمة المثل حال ما يعدل إلى التقويم لا حال الإتلاف. هذا مذهبنا.
وقال ابن سيرين، والحسن، وزفر، وأحمد - في إحدى الروايتين -: (هو على الترتيب، فإن قدر على المثل.. لم يجز أن يقومه، وإذا قدر على إخراج الطعام.. لم يجز له أن يصوم) . وروي ذلك عن ابن عباس.
وقال مالك: (يقوم الصيد لا المثل) .

(4/237)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
و (أو) - في الأمر - للتخيير.
ودليلنا - على مالك -: أن الذي يخرج هو المثل لا الصيد، فيقوم ما يخرج، لا ما لا يخرج.

[مسألة جرح الصيد]
وإن جرح صيدا له مثل من النعم، فنقص عشر قيمته.. فالمنصوص: (أنه يجب عليه عشر ثمن مثله) . وقال المزني: عليه عشر مثله.
فمن أصحابنا من قال: الصحيح ما قال المزني؛ لأن كل جملة ضمنت بالمثل.. ضمن بعض تلك الجملة ببعض المثل، كالحبوب، وحملوا النص عليه إذا لم يتمكن من عشر مثله.
ومنهم من قال: يجب عليه عشر ثمن مثله؛ لأن إيجاب عشر المثل يشق، فعدل عنه إلى قيمته، كما (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عدل في خمس من الإبل عن إيجاب جزء منها إلى إيجاب شاة فيها) .
قال الشيخ أبو حامد: ويكون بالخيار - في عشر ثمن المثل - بين أربعة أشياء:

(4/238)


أن يتصدق على المساكين، أو يشتري به جزءا من مثل ذلك الصيد ويخرجه إلى المساكين، أو يشتري به طعاما ويتصدق به، أو يصوم عن كل مد يوما. وإنما زدنا هنا تخييرا رابعا، بأن يتصدق بالقيمة؛ لأنه يشق عليه الشراء به.

[فرع ضرب بطن الصيد الحامل]
وإن ضرب بطن صيد حامل.. نظرت: فإن ألقت الولد حيا، ثم ماتا.. ضمن كل واحد منهما بمثله؛ لأن الظاهر أنهما ماتا بجنايته. وإن عاشا جميعا.. فلا شيء عليه. وإن مات أحدهما.. ضمن الميت بمثله.
وإن ألقت الجنين ميتا، وعاشت الأم.. قومت الأم ماخضا، ثم قومت حائلا، وكان عليه ما بين القيمتين.
وإن ألقت الجنين ميتا، وماتت الأم.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد: يضمن الأم بمثلها من النعم ماخضا، ويدخل أرش النقصان فيه.
وقال ابن الصباغ: يضمن ما نقص من قيمتها بوضعه لأجل الولد، ويضمن مثلها بموتها لأجلها.

[مسألة الصيد الذي لا مثل له وتقويمه]
وإن قتل صيدا لا مثل له من النعم.. وجبت عليه قيمته؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (إذا قتل صيدا لا مثل له من النعم.. فعليه قيمته تهدى إلى مكة) .

(4/239)


ولأنه تعذر إيجاب المثل، فعدل إلى القيمة.
إذا ثبت هذا: فمتى تعتبر قيمته؟
المنصوص - للشافعي في أكثر كتبه -: (أنه يقوم يوم إخراج الطعام) .
وقال في موضع آخر: (يجب تقويمه يوم قتل الصيد) .
واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: ليست على قولين، بل هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (تعتبر فيه القيمة يوم الانتقال إلى الطعام) إذا كان الصيد مما له مثل. والموضع الذي قال: (تعتبر فيه القيمة يوم القتل) إذا كان الصيد لا مثل له.
ومنهم من قال: أما الصيد الذي له مثل.. فلا يختلف المذهب: أن الاعتبار بقيمة المثل يوم الانتقال إلى الطعام، لا يوم قتل الصيد. وأما الصيد الذي لا مثل له.. ففيه قولان:
أحدهما: أن الاعتبار بقيمته يوم القتل؛ لأنها حالة الوجوب.
والثاني: أن الاعتبار بقيمته يوم إخراج الطعام؛ لأنها حالة أداء الكفارة وإسقاط الفرض عن الذمة، فوجب أن يكون الاعتبار بها دون ما تقدمها.
قال الشيخ أبو حامد: والصحيح: هي الطريقة الأولى وأنها على حالين.

(4/240)


إذا ثبت هذا: فإنه بالخيار - فيما يجب عليه من القيمة -: بين أن يشتري بها طعاما ويتصدق به، وبين الصوم عن كل مد يوما.

[فرع جزاء الصيد من الطيور]
وإن كان الصيد طائرا.. نظرت: فإن كان حماما.. وجب في كل حمامة شاة، وسواء في ذلك حمام الحرم والحل.
وقال مالك: (في حمامة الحرم شاة، وفي حمامة الحل قيمتها) .
دليلنا: ما روي عن عمر، وعثمان، وابن عباس، وابن عمر، ونافع بن عبد الحارث: (أنهم حكموا في الحمامة بشاة) .
قال الشافعي: (والحمام: ما عب وهدر) . قال الشيخ أبو حامد:

(4/241)


و (العب) : هو أن يشرب الماء بنفس واحد، و (الهدر) : هو مواصلة الصوت.
وأراد به الترجيع، والتغريد، فيدخل في ذلك الحمام المعروف والقمارى والدباس، والفواخت، والعرب تسمي كل مطوق حماما.
قال الكسائي: (الحمام) : هو الوحشي و (اليمام) : هو المتسأنس الذي يألف البيت. قال الصيمري: فيجب الجزاء في اليمام والحمام.
قال الشيخ أبو حامد: وإنما أوجبنا الشاة في الحمامة؛ اتباعا للصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لا بالقياس. ومن أصحابنا من قال: إنها تشبه الغنم؛ لأنها تعب الماء إذا شربت فهي كالغنم. قال: وليس بشيء.
وإن كان الطائر أصغر من الحمام، كالعصافير والقنابر والبلابل والجراد.. ضمنه بقيمته.

(4/242)


وقال داود: (لا يجب في ذلك شيء) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
وذلك من جملة الصيد. فنقول: لأنه ممنوع من قتله؛ لحرمة الإحرام.. فوجب بقتله الجزاء، كالحمام.
وإن كان الطير أكبر من الحمام، كالبط، والإوز، والكركي، وغيرها من طيور الماء المأكولة.. ففيه قولان:
أحدهما: يجب في كل واحد منها شاة؛ لأنها أكبر من الحمام، فإذا وجب في الحمامة شاة.. ففي ما هو أكبر منها أولى.
والثاني: تجب قيمتها؛ لأن القياس كان يقتضي: أن يجب في الحمامة قيمتها، وإنما تركنا القياس فيها لإجماع الصحابة، وما سواها لم يجمع الصحابة فيه على شيء، فبقي على ما اقتضاه القياس.

[فرع كسر بيض المأكول ونتف ريش الطائر]
وإن كسر بيض صيد مأكول.. وجبت قيمته.
وقال مالك: (يضمن بعشر ثمن أمه) .

(4/243)


دليلنا: ما روى كعب بن عجرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في بيض النعامة إذا أصابه المحرم.. يفديه بقيمته ". وروي: " بثمنه» .
وإن نتف ريش طائر فنبت.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا شيء فيه.
والثاني: عليه ما نقص من قيمته، بناء على القولين فيمن قلع سن غيره، فنبت له مكانه سن أخرى.

[فرع جزاء قتل الجراد]
ويجب في الجراد قيمته.
وقال أبو سعيد الخدري: لا جزاء في الجراد؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«الجراد من صيد البحر لا جزاء فيه» .
دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أنه قال: (في الجرادة تمرة) .

(4/244)


وعن ابن عباس: (أن فيها قبضة من طعام) . ولأنه صيد يعيش جنسه في البر، فضمنه بالجزاء، كسائر الصيود.
وأما قوله: «الجراد من صيد البحر؛» فإنما أراد: أن أصله من صيد البحر؛ لأنه يقال: (إن الجراد نثر حوت) ثم يأوي إلى البر ويعيش فيه، وهذا لا يسقط الجزاء فيه، ألا ترى أن البط، والإوز، وسائر طيور الماء فيها الجزاء؟ وإنما يغوص في الماء على ما يأكله، كالآدمي.
وقد قيل: إن الخيل كانت متوحشة، ثم أنسها إسماعيل بن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومع هذا فلا يجب فيها الجزاء اعتبارا بحالها الآن.
إذا ثبت هذا: قال الشافعي: (وفي الدباء قيمته) ، و (الدباء) : هي الجراد الصغار، وقيمته أقل من قيمة الجراد.
وما روي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في تقدير الجزاء في الجراد: فإنما ذلك على طريق القيمة.

(4/245)


[مسألة جزاء تكرار الصيد]
إذا قتل صيدا بعد صيد.. وجب لكل واحد جزاء.
وقال الحسن، ومجاهد، وشريح، وسعيد بن جبير، وقتادة، والنخعي، وداود: (يجب الجزاء بقتل الأول، ولا يجب بالثاني، ولا بالثالث شيء) . وروي ذلك عن ابن عباس.
وقال أحمد في رواية عنه: (إن لم يكن كفر عن الأول.. تداخلا وكفاه جزاء واحد، وإن كفر عن الأول.... لزمه للثاني جزاء) . وقال أبو حنيفة: (إن قصد بالقتل رفض الإحرام أو التحلل.. لزمه جزاء واحد، وإن لم يقصد ذلك.. لزمه لكل واحد جزاء) دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
ولم يفرق بين الأول والثاني، وبين أن يقصد رفض الإحرام أو لم يقصد. ولأنه ضمان متلف، فتكرر بتكرر الإتلاف، كالآدمي. على الفرقة الأولى.
وعلى أبي حنيفة: كما لو لم يقصد الرفض.

(4/246)


[فرع اشتراك الجماعة في الصيد]
إذا اشترك جماعة من المحرمين في قتل صيد.. وجب عليهم جزاء واحد. وبهذا قال الزهري، وعطاء، وسليمان بن يسار، وأحمد، وإسحاق.
وقال النخعي، والشعبي، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه: (يجب على كل واحد منهم جزاء) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
ولفظة (من) : يدخل تحتها الواحد والجماعة، فاقتضى ظاهر الآية: أن جنس المحرمين إذا قتلوا صيدا.. فعليهم جزاء مثله.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الضبع صيد، وفيه كبش، إذا أصابه المحرم» واسم المحرم يعم الجنس. ولأنه مقتول واحد، فوجب فيه جزاء واحد، كما لو قتله واحد.
وإن اشترك محل ومحرم في قتل صيد.. وجب على المحرم نصف الجزاء؛ لأنه ممن يجب عليه الجزاء، ولا يجب على المحل شيء؛ لأنه ممن لا يجب عليه الجزاء.

[فرع إمساك المحرم الصيد وقتل المحل له]
وإن أمسك محرم صيدا فقتله محل في يده.. وجب الجزاء على المحرم، وهل يرجع به على المحل القاتل؟ فيه وجهان:

(4/247)


أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد، واختيار ابن الصباغ -: أنه لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه أتلف صيدا يجوز له إتلافه؛ لأنه غير ممنوع منه لحق الله تعالى، ولا لحق المحرم؛ لأنه لم يملكه بالإمساك.
والثاني: يرجع عليه، وهو قول القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق؛ لأن القاتل أدخل المحرم في الضمان فرجع عليه، كما لو غصب مالا فأتلفه آخر في يده.
وإن قتله محرم مثله.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يجب الجزاء على القاتل؛ لأنه وجد منه مباشرة، ومن الممسك سبب، وإذا اجتمع السبب والمباشرة.. تعلق الضمان بالمباشرة.
والثاني: يجب عليهما جزاء واحد؛ لأنه قد وجد من كل واحد منهما ما يضمن به الصيد لو انفرد به، فإذا اشتركا.. كان عليهما الضمان، كما لو اشتركا في جرحه.
وقال القاضي أبو الطيب: يجب الضمان على كل واحد منهما، فإن أخرجه الممسك.. رجع به على القاتل. وإن أخرجه القاتل.. لم يرجع به على الممسك، كما لو غصب شيئا فأتلفه آخر في يده.
قال ابن الصباغ: وهذا أقيس عندي؛ لأن ما ذكره الشيخ أبو حامد للوجه الأول ينتقض، بمن غصب شيئا وأتلفه غيره في يده، وما ذكره للثاني لا يستقيم؛ لأن الضمان لا ينقسم على المباشرة والسبب غير الملجئ ليس في شيء من الأصول.

(4/248)


[مسألة جناية المحرم على الصيد دون أن يقتله]
إذا جنى المحرم على صيد، فأزال امتناعه، فإن قتله غيره.. ففيه طريقان:
[الأول] : قال أبو العباس: يجب على الجارح أرش ما نقص قولا واحدا، وعلى القاتل جزاؤه مجروحا إن كان محرما، ولا شيء عليه إن كان محلا؛ لأن الأول جارح وليس بقاتل.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: هذا.
والثاني: يجب على كل واحد منهما جزاء كامل؛ لأن الأول أزال امتناعه، فصار كما لو قتله، والثاني وجد منه القتل، والأول أصح.
وإن اندمل جرح الأول، وبقي الصيد غير ممتنع.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المذهب.: أنه يلزم الجارح ما نقص؛ لأنه جرح ولم يقتل.
فعلى هذا: إن كان الصيد لا مثل له من النعم.. وجب عليه ما نقص من قيمته.
وإن كان له مثل.. فهل يجب ما نقص من القيمة، أو جزء من المثل؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
والوجه الثاني: أنه يجب على الجارح جزاؤه كاملا؛ لأنه جعله كالميت.

(4/249)


وإن غاب الصيد ولم يعلم: هل برئ من جراحته، أو مات؟ ففيه وجهان:
أحدهما- وهو المذهب -: أن عليه ضمان ما نقص.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: عليه جزاؤه كاملا - وهو قول مالك - لأنه قد صيره غير ممتنع، والظاهر بقاؤه على هذه الحالة.
وإن أطعمه وسقاه حتى عاد ممتنعا.. فهل يسقط عنه الضمان؟ فيه وجهان، بناء على القولين فيمن قلع سنا فنبتت مكانها أخرى.
فإذا قلنا: لا يسقط عنه الضمان.. فهل يلزمه جزاؤه كاملا، أو ما نقص؟ على الوجهين الأولين. وهل يلزمه قسط الناقص من المثل، أو من القيمة؟ على الوجهين الأولين.

[مسألة قتل القارن للصيد]
إذا قتل القارن صيدا، أو ارتكب محظورا من محظورات الإحرام ... لزمه جزاء واحد، وكفارة واحدة.

(4/250)


وقال أبو حنيفة: (يلزمه جزاءان وكفارتان) .
دليلنا: أنهما حرمتان لو انفردت كل واحدة منهما بالهتك.. لزمه لكل واحدة منهما كفارة، فإذا جمع بينهما في الهتك.. لزمه كفارة واحدة، كالإحرام والحرم.

[مسألة صيد الحرم]
ويحرم صيد الحرم على المحل والمحرم، فإن قتله محل ... وجب عليه جزاؤه. وبه قال عامة أهل العلم، إلا داود، فإنه قال: (هو ممنوع من تنفيره، فإن قتله محل
فلا جزاء عليه) .
والدليل - على تحريم ذلك -: ما روي عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله حرم مكة، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها» .
والدليل - على وجوب الجزاء فيه -: قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
و (الحرم) : جمع محرم، ومن في الحرم، فإنه يسمى محرما، قال الشاعر:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... فدعا فلم أر مثله مقتولا
فسماه محرما؛ لكونه في حرم المدينة، لا أنه كان محرما بحج أو عمرة.
ولأنه صيد ممنوع من قتله؛ لحق الله تعالى ... فوجب بقتله الجزاء، كالمحرم.

(4/251)


إذا ثبت هذا: فإن قتل المحرم صيدا في الحرم.. لزمه جزاء واحد؛ لأن المقتول واحد.

[فرع إدخال المحل صيدا للحرم]
وإن اصطاد المحل صيدا في الحل وأدخله إلى الحرم.. جاز له أن يتصرف فيه بجميع التصرفات من الإمساك، والبيع، والهبة، والذبح، والأكل.
وقال أبو حنيفة: (إذا أدخله إلى الحرم.. لزمه رفع يده عنه، فإن لم يفعل وتلف في يده أو أتلفه.. كان عليه الجزاء) .
دليلنا: أن صيد المدينة يحرم، كصيد مكة، وقد روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للصبي: «يا أبا عمير ما فعل النغير» فأقره على إمساك عصفور كان في يده، ولا يجوز له ذلك إلا من الوجه الذي ذكرناه، بأن يكون ملكه في الحل وأدخله إلى الحرم.
لأن كل من جاز له الأمر بالصيد.. جاز له إمساك الصيد، كالمحل، وعكسه المحرم.

(4/252)


فإن ذبح المحل صيدا من صيود الحرم.. لم يحل له أكله، وهل يحل لغيره؟ فيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالمحرم إذا ذبح صيدا.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يحل لغيره قولا واحدا؛ لأن صيد الحرم محرم على كل أحد، فهو كالحيوان الذي لا يحل أكله.

[فرع الرمي من الحل أو الحرم لصيد وحبس الصيد وله فرخ]
إذا رمى المحل من الحل إلى صيد في الحرم فقتله. كان عليه الجزاء؛ لأن الصيد في الحرم.
وإن رمى من الحرم إلى صيد في الحل فقتله.. كان عليه الجزاء؛ لأن كونه في الحرم يحرم الصيد عليه.
وإن رمى من الحل إلى صيد في الحل فقتله.. كان عليه الجزاء؛ لأن كونه في الحرم يحرم الصيد عليه.
وإن رمى من الحل إلى صيد في الحل، فاخترق السهم شيئا من الحرم، ثم أصاب الصيد في الحل فقتله.. ففيه وجهان:
أحدهما: عليه الجزاء؛ لمرور السهم في الحرم، فهو كما لو كان الرامي في الحرم.
والثاني: لا جزاء عليه، وهو المذهب؛ لأن الرامي والصيد في الحل.
وإن حبس المحل صيدا في الحل وله فرخ في الحرم، فماتت الأم والفرخ.. ضمن الفرخ دون الأم.

(4/253)


وإن حبس صيدا في الحرم وله فرخ في الحل، فماتا.. كان عليه الجزاء فيهما؛ لأن الأم في الحرم، ولأن كونه في الحرم يحرم الصيد عليه.

[فرع رمي الصيد وهو على غصن وقطع الغصن]
وإن نبتت في الحرم شجرة ولها أغصان في الحل، فوقع صيد على غصنها الخارج إلى الحل، فرماه محل من الحل وقتله..... فلا جزاء عليه؛ لأنه تابع لهواء الحل. ولو قطع الغصن.. كان عليه الجزاء فيه؛ تبعا لأصل الشجرة.
وإن كان أصل الشجرة في الحل وأغصانها في الحرم، فوقع طائر على غصن منها في الحرم، فرماه وقتله.. كان عليه الجزاء فيه؛ تبعا لهواء الحرم. ولو قطع الغصن.. فلا جزاء عليه فيه؛ لأنه تابع لأصل الشجرة.

[فرع قتل صيد الحرم خطأ أو بكلب]
وحكم الصيد بين الحل والحرم] :
وإن رمى إلى صيد في الحل، فعدل السهم وأصاب صيدا في الحرم فقتله.. فعليه الجزاء؛ لأن العمد والخطأ في قتل الصيد - عندنا - واحد في وجوب الجزاء.
وإن أرسل المحل كلبا وهو في الحل على صيد في الحل، فهرب الصيد منه إلى الحرم وقتله الكلب في الحرم.. فلا جزاء عليه؛ لأن للكلب اختيارا.
وإن كان بعض الصيد في الحل، وبعضه في الحرم، فرماه محل من الحل وقتله.. فإنه يكون مضمونا بكل حال.

(4/254)


وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كانت قوائمه في الحل ورأسه في الحرم يرعى فليس بمضمون. وإن كان بعض قوائمه في الحرم ورأسه في الحل.. فهو مضمون، وهكذا لو كان نائما وقائمه في الحل ورأسه في الحرم.. كان مضمونا.
وعللوا: بأنه إذا كانت قوائمه في الحل وهو غير نائم.. فهو مستقر في الحل، وإذا كان نائما.. فليس بمستقر على قوائمه، وإنما الاعتبار بموضعه.
دليلنا: أن بعضه في الحرم، فكان مضمونا، كما لو كانت قوائمه في الحرم، أو كان نائما.

[فرع إرسال الكلب من الحرم على صيد في الحل]
وإن أرسل كلبا من الحرم على صيد في الحل فقتله، أو أرسل كلبا من الحل على صيد في الحرم فقتله.. كان عليه الجزاء فيهما.
وقال أبو ثور: (لا جزاء عليه فيهما) .

(4/255)


دليلنا: أن كون المرسل - أو الصيد في الحرم - يوجب تحريم الصيد فوجب الجزاء بقتله، كما لو كان المرسل والصيد في الحرم.

[مسألة الجزاء في صيد الحرم وتخييره كصيد المحرم]
وإذا وجب الجزاء في صيد الحرم.. فالحكم فيه كالحكم في الصيد الذي يقتله المحرم في اعتبار المثل، ويكون بالخيار: بين أن يذبح المثل ويفرقه، وبين أن يقومه بدراهم ويشتري بالدراهم طعاما ويتصدق به، وبين أن يصوم عن كل مد يوما.
وقال أبو حنيفة: (لا مدخل للصوم في جزاء صيد الحرم) .
دليلنا: أنه صيد ممنوع من قتله؛ لحق الله تعالى، فدخل في بدله الصوم، كصيد المحرم.

(4/256)


[مسألة قتل الكافر الصيد في الحرم]
] : وإن دخل كافر إلى الحرم فقتل صيدا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه الجزاء؛ لأنه ضمان يتعلق بالإتلاف، فاستوى فيه المسلم والكافر، كضمان الأموال.
فعلى هذا: لا مدخل للصوم في الجزاء عليه؛ لأنه لا يصح منه.
والثاني - وهو قول الشيخ أبي إسحاق ـ: أنه لا جزاء عليه؛ لأن ضمان صيد الحرم لحق الله تعالى، وهو غير ملتزم لحقوق الله تعالى.

[مسألة تحريم قطع شجر الحرم]
] : ولا يجوز للمحل ولا للمحرم قطع شجر الحرم، فإن قطعه.. كان عليه الجزاء.
وقال مالك وداود وأبو ثور: (هو ممنوع من إتلافه، فإن أتلفه.. فلا جزاء عليه) .
وحكى الطبري في " العدة ": أن هذا قول آخر للشافعي وليس بصحيح؛ لأنه ممنوع من إتلافه لحق الله تعالى، فوجب بإتلافه الجزاء، كالصيد، وسواء في ذلك

(4/257)


الشجر الذي أنبته الله، أو أنبته الآدميون ... مما كان أصله في الحرم.
ومن أصحابنا من قال: ما أنبته الآدميون.. جاز قطعه.
وقال أبو حنيفة: (إن كان من جنس ما ينبته الآدميون.. جاز قطعه. وإن كان مما لا ينبت الآدميون جنسه، فإن أنبته الآدمي.. جاز قطعه. وإن نبت بنفسه.. لم يجز قطعه) .
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لا يعضد شجرها» ولم يفرق. ولأنه شجر نام غير مؤذ نبت أصله في الحرم، فوجب بإتلافه الجزاء، كالشجر الذي أنبته الله.
فقولنا: (نام) احتراز من اليابس.
وقولنا: (غير مؤذ) احتراز من الشوك.
وقولنا: (نبت أصله في الحرم) احتراز ممن قلع شجرة من الحل، فغرسها في الحرم فنبتت، ثم قلعها هو أو غيره.. فلا شيء على قالعها وجها واحدا، كما إذا أدخل صيدا من الحل إلى الحرم.. فإن له ذبحه.
ومسألة الوجهين فيما أنبته الآدمي: هو أن يأخذ غصنا من شجر الحرم فينبته في موضع من الحرم.
وإن قلع شجرة من الحرم وغرسها في موضع من الحرم فإن نبتت.. لم يجب عليه شيء ولم يؤمر بردها؛ لأن حرمة جميع الحرم واحدة.
وإن قلع شجرة من الحرم وأنبتها في موضع من الحل فنبتت.. وجب عليه ردها، فإن لم يفعل.. وجب عليه الجزاء، فإذا ردها، فإن علقت.. فلا شيء

(4/258)


عليه، وإن لم تعلق.. فعليه الجزاء؛ لأنها تلفت بسبب منه. وإن قلعها غيره من الحل.. فذكر ابن الصباغ والطبري في " العدة ": أن على القالع الجزاء؛ لأن الاعتبار في الشجر بمنبتها، وقد ثبت لها حكم الحرم، ولهذا يجب عليه ردها إليه، بخلاف ما لو نفر صيدا من الحرم إلى الحل فصاده غيره من الحل.. فلا ضمان عليه؛ لأنه ينتقل من موضع إلى موضع بخلاف الشجر.
وذكر المسعودي أيضا [في " الإبانة " ق \ 200] : أنه إذا أخذ غصنا من أغصان شجر الحرم أو نواة فغرسها في موضع.. ثبت لها حرمة الأصل.

[فرع الضمان في قطع غصن أو أخذ ورق من شجر الحرم]
وإن قطع غصنا من أغصان شجرة بالحرم، فإن لم يعد مثله في مكانه.. كان عليه ضمان ما نقص من قيمتها. وإن عاد مكانه مثله.. فهل يسقط عنه الضمان؟ فيه قولان، كالسن إذا عادت.
وهل يجب دفع ما نقص منها من الحيوان أو يجوز دفعه من القيمة؟ فيه وجهان.
فأما إذا أخذ الورق من شجر الحرم، والأغصان الصغار للسواك.. فقال الشافعي في القديم: (يجوز ذلك) . وقال في " الإملاء ": (لا يجوز) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (يجوز) أراد: إذا لقط الورق بيده، وكسر الأغصان بيده بحيث لم ينل نفس الشجرة أذى.

(4/259)


والموضع الذي قال: (لا يجوز) أراد: إذا خبط الشجرة حتى تساقط الورق وتكسرت الأغصان؛ لأن ذلك يضر بالشجرة، ولما روي: (أن ابن عمر رأى رجلا يخبط شجرة في الحرم فانتهره) .

[فرع الجزاء في قطع الشجر]
شجرة الحرم تضمن بمقدر، فيجب في الشجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة.
وقال أبو حنيفة: (يضمنها بقيمتها بكل حال) .
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: (في الشجرة الدوحة بقرة، وفي الجزلة شاة) .
قال الشيخ أبو حامد: و (الدوحة) : هي الشجرة الكبيرة التي لها أغصان، و (الجزلة) : الشابة التي لا أغصان لها.

[مسألة قطع نبات الحرم من زرع ونحوه]
والرعي فيه] : قال ابن الصباغ: الزرع في الحرم يجوز قطعه، لأن الحاجة داعية إليه.

(4/260)


وأما الحشيش ـ غير الإذخر في الحرم - فالمشهور من المذهب ": أنه لا يجوز قطع شيء منه.
وحكى أبو علي السنجي في " شرح التلخيص " عن بعض أصحابنا: أنه يجوز له أن يأخذ العلف بيده، كورق الشجر.
وحكى في " الفروع ": إنه يجوز أخذ اليسير منه.
والأول أصح؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لا يختلى خلاها» ولم يفرق.
وأما الإذخر: فيجوز أخذه؛ «لأن العباس قال للنبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: إلا الإذخر لبيوتنا وقبورنا وصياغتنا؟ فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " إلا الإذخر» . فإن جز الحشيش.. نظرت: فإن استخلف مكانه مثله.. سقط عنه الضمان قولا واحدا؛ لأنه يستخلف في العادة، فهو كما لو قلع سن صغير لم يثغر فنبت مكانها مثلها. وإن لم يستخلف ولم يضر أصله.. كان عليه ما نقص من قيمته، وإن جف أصله.. كان عليه قيمته؛ لأنه تلف بسبب منه. ويجوز رعي الدواب فيه.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) .
دليلنا: ما روي عن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أنه قال: «ولا يختلى خلاها، إلا رعي الدواب فيه» وروي: «أن ابن عمر رعى حماره في الحرم، فرآه النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ولم ينهه عن ذلك» فدل على جوازه. وأيضا: فإن الناس كانوا من لدن رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ إلى وقتنا

(4/261)


هذا يحملون الهدايا ويرعونها في الحرم من غير إنكار، ولا نقل: أن أحدا سد أفواهها، فدل الإجماع على ذلك. ويجوز قطع الشوك والعوسج؛ لأنه يؤذي، فلم يمنع من إتلافه كالسبع والذئب.

[مسألة يحرم إخراج حصباء وتراب الحرم]
ولا يجوز إخراج تراب الحرم وحجارته.
وذهب بعض الناس إلى أنه يجوز.
دليلنا: ما روي عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر: أنه قال: (دخلنا على صفية بنت شيبة، فأهدت لنا قطعة من الركن إكراما لنا ـ هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " وأبو نصر في " المعتمد " وذكر في " المهذب ": من الصفا - قال: فلما خرجنا مرضنا فقيل لنا: إنه لا يجوز إخراج شيء من الحرم، قال: وكنت أمثلهم فأخذته ورددته إليها فلما رجعت إليهم.. قالوا: ما هو إلا أن رددته فكأنما أنشطنا

(4/262)


من عقل) فدل على: أنه لا يجوز؛ لأنه أخبر عن بعض أهل العلم: أنهم أمروه برده.

[فرع إخراج ماء زمزم وإدخال التراب والأحجار من وإلى الحرم]
ويجوز إخراج ماء زمزم من الحرم؛ لما روي: «أن سهيل بن عمرو أهدى إلى النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ راوية من ماء زمزم بالحديبية» .
ولأن الماء يستخلف في العادة، بخلاف التراب والأحجار.
قال الشيخ أبو إسحاق: ولا يجوز إدخال شيء من تراب الحل وأحجاره إلى الحرم

[مسألة الحظر من صيد حرم المدينة]
قال الشافعي: (ولا يحرم قتل صيد إلا صيد الحرم، وأكره قتل صيد المدينة) .
قال أصحابنا: هذه الكراهة كراهة تحريم.

(4/263)


قال ابن الصباغ: وهذا خلاف ظاهر كلامه، فكأنه يومئ إلى أنه يكره قتل صيد المدينة كراهة تنزيه.
وقال أبو حنيفة: (لا يحرم اصطياده ولا قتله) .
ودليلنا: ما روى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «حرم إبراهيم مكة، وأنا حرمت المدينة، ما بين لابتيها: لا ينفر صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد» .

(4/264)


فإن قتل صيدا في حرم المدينة.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في الجديد: (يأثم ولا جزاء عليه) ، وهو الصحيح؛ لأنها بقعة يجوز دخولها بغير إحرام، فلم يضمن صيدها، كسائر البقاع.
و [الثاني] : قال في القديم: (يسلب القاتل) - وبه قال أحمد بن حنبل - لما روي: «أن سعد بن أبي وقاص رأى رجلا قد اصطاد بالمدينة صيدا فأخذ سلبه، فأتاه موالي ذلك الرجل فسألوه أن يرد عليهم، فقال: لا أرد طعمة أطعمنيها رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ؛ سمعت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يقول: " من وجدتموه يقتل صيدا في حرم المدينة.. فاسلبوه " فإن أردتم ثمنه.. أعطيتكموه» . هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 201] : إذا قلنا بقوله القديم.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب فيه ما يجب بصيد حرم مكة.
والثاني: يسلب، وهو المشهور.
فإذا قلنا: يسلب.. فإنه يسلب كما يسلب المقتول من الكفار، فيؤخذ جميع ما عليه من الثياب والسلاح والفرس ويترك له ما يستر به عورته. وهل يؤخذ منه المنطقة والهميان والنفقة التي معه؟ فيه وجهان.

(4/265)


وإلى من يصرف ذلك السلب؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصرف إلى مساكين المدينة، كما يصرف جزاء صيد مكة إلى مساكين مكة.
والثاني: يختص به السالب؛ لما ذكرناه من حديث سعد بن أبي وقاص.

[مسألة كراهة صيد واد وج]
قال الشافعي: (وأكره قتل صيد وج) .
قال أصحابنا: وظاهر هذا: أنه كراهة تحريم؛ لما روى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «وج حرام محرم، لا ينفر صيده، ولا يعضد عضاهه» .
فإن قتل صيدا فيه، أو قطع فيه شجرا.. لم يجب فيه الجزاء، ولم يسلب؛ لأنه لم يرو فيه شيء من ذلك، ولا يبلغ حرمة مكة والمدينة. و (وج) : واد في الطائف.

(4/266)


[مسألة تصرف سائر الدماء لمساكين الحرم]
] : وإذا وجب على المحرم دم لأجل الإحرام، كدم التمتع والقران، ودم الطيب، أو جزاء الصيد.. وجب عليه صرفه إلى مساكين الحرم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
فإن ذبح الهدي في الحرم وفرقه في الحرم.. فقد فعل ما وجب عليه. وإن ذبحه في الحل وفرقه في الحل.. لم يجزه؛ لأن الله تعالى قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] .
وهذا لم يبلع الكعبة.
وإن ذبحه في الحرم وفرقه في الحل.. لم يجزه.
وقال أبو حنيفة: (يجزئه)
دليلنا: أنه أحد مقصودي الهدي، فاختص بالحرم كالذبح.
وإن ذبحه في الحل وفرقه في الحرم.. نظرت: فإن أوصله إليهم متغيرا.. لم يجزه؛ لأن المستحق إيصاله إليهم كاملا. وإن أوصله إليهم غير متغير.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق، وحكاهما الشيخ أبو حامد في " التعليق " قولين:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأن إراقة الدم في الحرم مقصودة، كما أن التفرقة مقصودة، ثم ثبت أنه لو لم يفرق اللحم في الحرم.. لم يجزه، فكذلك الذبح.
والثاني: يجزئه؛ لأن المقصد من ذبحه بالحرم إيصال اللحم إليهم غضا طريا وقد وجد ذلك.
وإن وجب عليه إطعام ... وجب عليه صرفه إلى مساكين الحرم، قياسا على الهدي.
وإن وجب عليه صوم.... جاز له أن يصومه في كل مكان؛ لأنه لا منفعة لأهل الحرم بصومه فيه.

(4/267)


وإن وجب عليه هدي فيه، فأحصر عن الحرم.. جاز له أن يذبحه ويفرقه حيث أحصر؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما أحصره المشركون بالحديبية عن مكة.. نحر فيها هديه، وأمر أصحابه فنحروا فيها» ، وبين الحديبية وبين مكة ثلاثة أميال. ولأنه موضع تحلله فأشبه الحرم.
(وبالله التوفيق)

(4/268)