البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب صفة الحج والعمرة]
لا يكره دخول مكة ليلا.
وقال النخعي وإسحاق: الأولى أن يدخلها نهارا.
وقال ابن جريج: سألت عطاء: أيجوز للمحرم أن يدخل مكة ليلا؟ فقال: لا؛ لـ: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخلها حين ارتفعت الشمس.
دليلنا: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخلها في عمرة الجعرانة ليلا» .
إذا ثبت هذا: فيستحب لمن أراد أن يدخل مكة أن يغتسل في طرفها؛ لما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ اغتسل بذي طوى» : وهو بطرف مكة. ولأن الناس يجتمعون الدخول، فسن له الغسل، كالجمعة. ويسن هذا الغسل للطاهر والحائض والنفساء؛ «لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لعائشة، وقد حاضت: " اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» وهذا مما يصنعه الحاج.
ويستحب أن يدخل مكة من ثنية كدى من أعلى مكة بالبطحاء، ويخرج من ثنية

(4/269)


كدى من أسفل مكة؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل مكة من الثنية العليا،
وخرج من السفلى» . هكذا ذكر عامة أصحابنا على الإطلاق.
وذكر المسعودي [في " الإبانة " ق \ 201] : أن ذلك إنما يسن للمدني، ومن جاء من تلك الناحية؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل منها اتفاقا) ، وأيضا: فإنه يشق على من جاء من غير تلك الناحية أن يدور إلى الثنية العليا ليدخل منها.
ويسن الدخول من باب بني شيبة: وهو الباب الأعظم لمن جاء من تلك الناحية ومن غيرها؛ لأنه لا يشق عليه أن يدور إليه.
فإذا رأى البيت.. فالمستحب: أن يدعو؛ لما روى أبو أمامة: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «تستجاب دعوة المسلم عند رؤيته الكعبة» .
قال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: ويستحب أن يرفع يديه في الدعاء عند رؤية البيت؛ لما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواضع: عند رؤية البيت، وعلى الصفا، والمروة، وفي الصلاة، وفي الموقف، وعند الجمرتين» . هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في " التعليق ".

(4/270)


وذكر ابن الصباغ: أن الشافعي قال في " الإملاء ": (لا أكرهه، ولا أستحبه، ولكن إن فعله.. كان حسنا) . وكان مالك لا يرى ذلك لما روي: أنه سئل جابر عن ذلك، فقال: «ما يفعله إلا اليهود وقد حججنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فلم يفعله» .
ودليلنا: الخبر الأول؛ لأنه مثبت، وحديث جابر في ذلك ناف، والمثبت أولى من النافي.
إذا ثبت هذا: فيستحب أن يقول إذا رأى البيت: " اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وزد من شرفه وعظمه، ممن حجه أو اعتمره، تشريفا وتعظيما وتكريما وبرا " ونقل المزني: (ومهابة) .
قال سائر أصحابنا: وهو غلط، بل نص الشافعي في " الأم " [2/144] :

(4/271)


(وبرا) ، وهو أليق؛ لأن المهابة للبيت، والبر للإنسان؛ لما روى ابن جريج: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان إذا رأى البيت.. رفع يديه، وقال ذلك» .
والمستحب: أن يضيف إلى ذلك: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام) ، لما روي عن سعيد بن المسيب: أنه كان يقول ذلك. وهو ممن لقي كبار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

[مسألة استحباب الدخول من باب بني شيبة]
وطواف القدوم وطواف المرأة ليلا] : ويستحب أن يدخل من باب بني شيبة، ويبتدئ بطواف القدوم؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل مكة عند ارتفاع الضحى، فأناخ راحلته عند باب بني شيبة ودخل منه، فأتى الحجر واستلمه بيده وقبله، ورمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم استلمه بيديه جميعا، ومسح بهما وجهه) ووقف ودعا، وفاضت عيناه بالدموع، ثم التفت فرأى عمر بن الخطاب يبكي، فقال: " يا عمر هاهنا تسكب العبرات» . ولأن طواف القدوم تحية البيت، فاستحب البداية به، كتحية المسجد. فإن اتفق ما هو

(4/272)


أهم من الطواف، مثل: أن يدخل وقد أقيمت الجماعة.. بدأ بالجماعة، وكذلك إن كان عليه قضاء فائتة.. بدأ بها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة، أو نسيها.. فليصلها إذا ذكرها؛ فذلك وقتها» . وكذلك إذا خاف فوات وقت فريضة أو سنة مؤكدة.... بدأ بها؛ لأنها تفوت، والطواف لا يفوت.
وقال الشافعي: (وإن كانت امرأة ذات حظوة وجمال.. أحببت لها أن تطوف ليلا) . فمن أصحابنا من قال: أراد طواف القدوم، فأما طواف الإفاضة: فإنه يكون يوم النحر، فلا تؤخره.
ومنهم من قال: بل أراد طواف الإفاضة، فأما طواف القدوم: فإنه تحية، وإنما يؤتى بالتحية عقيب القدوم، كتحية المسجد، وإذا أخرها.. كانت صلاة مستأنفة لا تحية.
إذا ثبت هذا: فإن طواف القدوم سنة، إذا تركه.. لم يجب عليه شيء، هذا هو المشهور.
وحكى أبو علي السنجي: إذا قلنا: يجب الدم بترك طواف الوداع.. فهل يجب بترك طواف القدوم؟ فيه قولان، خرجهما بعض الأصحاب:
أحدهما: يجب عليه الدم. وهو قول أبي ثور: لأنه يتعلق بحرمة البيت ابتداء، كما يتعلق طواف الوداع بحرمته انتهاء.
والثاني: لا يجب عليه شيء، وهو الصحيح؛ لأن هذا تحية، فلم يجب بتركه شيء، كتحية المسجد.

[فرع شروط الطواف]
] : لا يصح الطواف إلا بالطهارة عن الحدث والنجس، وستر العورة، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (الطهارة ليست بشرط في الطواف، فإن طاف بغير طهارة ... صح طوافه، ويجبره بالدم) .

(4/273)


دليلنا: ما روت عائشة: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما أراد أن يطوف.. توضأ، ثم طاف» ، وقال: «خذوا عني مناسككم» قلنا: منه دليلان:
أحدهما: أن الله تعالى أمر بالطواف مجملا فبين النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كيفية المجمل في الآية، فدل على: أن المراد بالطواف المذكور في الآية هو الطواف بالطهارة.
والثاني: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «خذوا عني مناسككم» وهذا أمر بما فعله.
وروى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله تعالى أباح فيه النطق، فمن نطق.. فلا ينطق إلا بخير» .

(4/274)


ولم يرد: أنه صلاة في اللغة، وإنما أراد به: أنه صلاة في الشرع؛ لأنه بعث لبيان الشرع، فإن أراد: أنه يسمى في الشرع صلاة.. فقد أجمعنا: أن الصلاة لا تصح إلا بطهارة، وإن أراد: أن حكمه حكم الصلاة دون التسمية.. فمن حكم الصلاة: أنها لا تصح إلا بطهارة.
والدليل - على أن ستر العورة شرط فيه -: ما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا بكر الصديق إلى مكة فنادى: ألا لا يطوفَنَّ بالبيت مشرك ولا عريان» .

[فرع الحدث في الطواف]
] : فإن أحدث في أثناء الطواف.. نظرت: فإن كان عامدا.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيِّب: تبطل طهارته وما مضى من طوافه، كما إذا أحدث في الصلاة عامدا.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: تبطل طهارته ولا يبطل ما مضى من طوافه، فإن كان الماء قريبا منه.. توضأ وبنى على طوافه، وإن كان الماء بعيدا منه.. فهل يبني على ما مضى من الطواف أو يستأنفه.. فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يستأنف) ؛ لأنه عبادة تتعلق بالبيت، فأبطلها التفريق الكثير، كالصلاة.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يبني على ما مضى من طوافه) ؛ لأنها عبادة لا يبطلها التفريق القليل، فلم يبطلها التفريق الكثير كالزكاة، وعكسه الصلاة.
وإن سبقه الحدث في الطواف فإن قلنا: إذا سبقه الحدث في الصلاة لا تبطل

(4/275)


صلاته.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يتوضأ ويبني على طوافه بكل حال. وإن قلنا: إن صلاته تبطل إذا سبقه الحدث.. كان كما لو تعمد الحدث في الطواف، فإن كان الماء قريبا.. توضأ وبنى، وإن كان بعيدا.. فعلى قولين كما مضى.

[فرع تيقن الحدث في طواف أحد النسكين ولم يعينه ووطئ بعد العمرة]
] : قال ابن الحداد: إذا أحرم بالعمرة وطاف لها وسعى وحلق، ثم أحرم بالحج ووقف بعرفة وطاف وسعى، ثم تيقن أنه ترك الطهارة في أحد الطوافين ولم يعرفه بعينه.. فعليه أن يتوضأ، ثم يأتي بطواف وسعى، وعليه دم؛ لأنه إن ترك الطهارة في طواف العمرة.. لم يصح تحلله منها، فلما أحرم بالحج.. صار مدخلا للحج على العمرة قبل طواف، فيصح ويكون قارنا وعليه دم القران، وقد صح طوافه وسعيه للحج.
وإن كان ترك الطهارة في طواف الحج.. فقد صح تحلله من العمرة، فلما أحرم بالحج.. صار متمتعا، ولم يصح طوافه للحج ولا سعيه؛ لفقد الطهارة في الطواف، فيلزمه أن يطوف ويسعى؛ ليسقط الفرض عن ذمته بيقين، ويلزمه دم: إما للقران أو للتمتع، ولا يلزمه دم الحلق في العمرة؛ لأنه يشك في وجوبه.
فإن كانت بحالها، إلا أنه وطئ بعد فراغه من العمرة فإن قلنا: إن وطء الناسي لا يفسد الحج.. فالحكم فيه كالأولى.
وإن قلنا: إنه يفسد.. فيحتمل أنه ترك الطهارة في طواف العمرة، فقد فسدت وعليه بدنة، ولم يصح إحرامه بالحج، على المذهب. ويحتمل أنه ترك الطهارة في طواف الحج.. فقد صحت عمرته، ووجب عليه الطواف والسعي للحج. وإذا احتمل هذين.. لم تجب البدنة للشك في وجوبها، وهل تجب عليه شاة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجب؛ لأنها إما أن تجب بالحلاق أو بالتمتع.
والثاني: لا تجب: لجواز أن تفسد العمرة، فلم يصح التمتع. والأول أصح.

(4/276)


قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: ويجب عليه قضاء العمرة؛ لجواز أن يكون أفسدها، ولا يجزئه الحج.
قال ابن الصباغ: وعندي أن العمرة إن كانت واجبة عليه.... فلا يجزئه، وإن لم تكن واجبة عليه.. فلا يجب عليه قضاؤها للشك في سبب القضاء.
فإن شك: هل طاف محدثا أو متطهرا؟ لم يلزمه شيء؛ لأن الشك في العبادة بعد الفراغ منها لا يؤثر فيها.

[فرع طلب النية للطواف]
وإذا أراد أن يطوف.. فهل يفتقر إلى النية؟ ينظر فيه:
فإن كان الطواف نافلة أو طواف نذر.. افتقر إلى النية وجها واحدا؛ لأنه قربة تتعلق بالبيت فافتقر إلى النية، كالصلاة.
وإن كان طواف العمرة أو طواف الإفاضة في الحج.. فهل يفتقر إلى النية؟ فيه وجهان:
أحدهما: يفتقر إلى النية؛ لأنه عبادة تفتقر إلى البيت فافتقرت إلى النية، كالصلاة.
والثاني: لا يفتقر إلى النية؛ لأن نية الحج والعمرة تأتي عليه كما تأتي على الوقوف.

[فرع استحباب الاضطباع لطواف يعقبه سعي]
] : ويستحب لمن أراد أن يطوف للنسك (أن يضطبع) وهو: أن يشتمل بردائه من تحت منكبه الأيمن، ويجعل طرفي الرداء فوق منكبه الأيسر، ويكون المنكب الأيمن

(4/277)


مكشوفا. وهو مأخوذ من (الضبع) وهو: عضد الإنسان، وكان أصله: الاضتباع، فقلبوا التاء طاء. والأصل فيه: ما روى ابن عباس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما قدم مكة وأراد أن يطوف، قعدت له قريش في الحجر؛ لينظروا طوافه وقالوا: إن حمى يثرب قد أنهكتهم.. فاضطبع النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وأمرهم فاضطبعوا، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، وقذفوها على عواتقهم، ورملوا» وذلك لإظهار الجلد والقوة للمشركين.
قال الشافعي: (ويترك الاضطباع حتى يكمل سعيه) .
قال أصحابنا: فإذا فرغ من الطواف.. حل الاضطباع ليصلي ركعتي الطواف،
وغطى منكبه؛ لأن الصلاة موضع خشوع وخضوع، وليست مما يظهر فيها الجلد. فإذا فرغ منها: أعاد الاضطباع للسعي. وقد بين الشافعي ذلك في موضع آخر، وقد روي عنه: (حتى يكمل سبعه) يعني: طوافه.

(4/278)


[فرع كون الطواف سبعة أشواط وكراهية تسميته بغير اسمه]
] : ولا يجزئه الطواف حتى يطوف سبع طوفات، فإن ترك طوفة أو طوفتين لم يعتد بالطواف حتى يكمل السبع، سواء كان بمكة أو خارجا منها، ولا ينجبر الدم. وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (إذا طاف أربع طوفات، فإن كان بمكة.. لزمه الطواف وإن خرج منها.. جبره بالدم) .
دليلنا: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف بالبيت سبعا» وقال: «خذوا عني مناسككم» فعلم أنه أراد بذلك: بيان الطواف الذي ورد به القرآن مجملا. ولأن الطواف عبادة تفتقر إلى البيت، فلم يجبر الدم بعض أجزائه، كالصلاة.
فإن طاف في يوم طوفة، وفي يوم آخر طوفة حتى أكمل السبع.. فهل يجزئه؟ فيه قولان، كالقولين في تفريق الوضوء. فلو طاف بعض طوفة فقطع وطال الزمان، فإن قلنا: يلزمه الاستئناف.. فلا كلام، وإن قلنا: يجوز البناء.. فهاهنا وجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: يستأنف.
والثاني: يبني من حيث قطع.
قال الشافعي: (وروي عن مجاهد: أنه قال: وأكره أن يقال في الطواف شوط ودور) . وقال الشافعي: (وأكره من ذلك ما كره مجاهد، وإنما يقال: طوفة وطوفتان وثلاث؛ لأن الله تعالى قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] [الحج: 29] , فسماه طوافا) .

(4/279)


[فرع الطواف حول البيت والحجروالشاذروان جميعا]
فرع: [الطواف حول البيت والحجر والشاذروان جميعا] : ولا يجزئه الطواف حتى يطوف حول جميع البيت المبني والقدر الذي ترك منه في الحجر. قال الشيخ أبو حامد: وهو ستة أذرع أو سبعة.
فإن طاف في الحجر أو على شاذروان الكعبة.. لم يجزه؛ لأن الشاذروان من الدكة السفلى في البيت.
وقال أبو حنيفة: (إذا طاف حول البيت وترك الحجر.. جاز) .
دليلنا: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أصلي في البيت، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " صلي في الحجر؛ فإنه من البيت» .
وروي أيضا: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «يا عائشة لولا حدثان قومك بالكفر.. لنقضت البيت ورددته على قواعد إبراهيم؛ إن قومك لما أرادوا بناء البيت قصرت بهم النفقة فتركوا بعض البيت في الحجر» .

(4/280)


قال الشيخ أبو حامد: ولم يرد بقوله: (قصرت بهم النفقة) : أنه لم يكن لقريش مال يتمون به بناء الكعبة، وإنما أراد بذلك: أنهم قصرت بهم النفقة الطيبة الحلال؛ وذلك أن قريشا لما أرادت بناء الكعبة جمعت مالا عظيما، فخرج عليهم ثعبان ومنعهم من البناء، فتشاوروا، وقالوا: إن لهذا البيت حرمة، وإن الله طيب، وإنه لا يقبل إلا الطيب من أموالكم، فجمعوا الطيب الحلال من أموالهم، فقصر بناؤهم عن قواعد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فأخرجوا بعض البيت وجعلوه في الحجر.
وفي رواية أخرى: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال لعائشة: (إن شئت أريتك القدر الذي أخرجوه من البيت، حتى إن أراد قومك أن يبنوه.. بنوه عليه "، قالت: فأراني نحوا من سبعة أذرع» .

[فرع الطواف ماشيا أوراكبا أو محمولا]
فرع: [الطواف ماشيا أو راكبا أو محمولا] : والأفضل أن يطوف ماشيا؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف ماشيا في أكثر طوافه. ولأنه إذا طاف راكبا.. زاحم الناس وآذاهم بدابته، ولأنها ربما راثت في الموضع فتنجسه. ولأن القيام في العبادة أفضل من القعود.
فإن طاف راكبا.. جاز، سواء كان لعذر أو لغير عذر.
وقال مالك وأبو حنيفة: (إن طاف راكبا لعذر.. فلا شيء عليه، وإن كان لغير عذر.. فعليه دم) .
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف بالبيت وبالصفا والمروة راكبا على

(4/281)


راحلته؛ ليشرف على الناس، وليسألوه» .
فبين أنه طاف لذلك. ولأنه فعل من أفعال الحج، فإذا فعله راكبا.. لم يجب عليه الدم، كما لو كان له عذر، أو كما لو وقف بعرفة راكبا.
فإن حمل محرم محرما ونويا الطواف، وطاف به.. لم يجزه عنهما، ولمن يكون الطواف؟ فيه قولان:
أحدهما: يقع عن المحمول؛ لأن الحامل آلة له، فهو كالراكب.
والثاني: يقع عن الحامل. قال ابن الصباغ: وهو الأظهر؛ لأن الفعل وجد منه.
وقال أبو حنيفة: (يجزئ عنهما) .
دليلنا: أنه طواف واحد، فلا يجزئ عن طوافين، ولا ينتقض بالحامل في عرفة؛ لأن الوقوف لا يعتبر فيه الفعل، وإنما يعتبر فيه الكون هناك، وقد حصل الكون منهما فيها بخلاف الطواف.

[فرع ابتداء الطواف واستلام الحجر الأسود وتقبيله وما يقوله]
ويبتدئ بالطواف من الركن الذي فيه الحجر الأسود، فإن أتى من وجه الكعبة.. لم يكن طائفا حتى يمر بالحجر الأسود؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ابتدأ الطواف منه، وقال: «خذوا عني مناسككم» وفي محاذاته للحجر ثلاث مسائل:

(4/282)


إحداهن: أن يحاذي جميع الحجر بجميع بدنه، بأن يقف على يمين الحجر مما يلي الشق اليماني، ثم يمر به مستقبلا له، وهذا هو الأكمل.
الثانية: أن يحاذي بجميع بدنه بعض الحجر إن أمكنه فيجزئه، ولكن لا يمكن؛ لأن جثة الإنسان أكبر من الحجر، فإن أمكنه.. أجزأه، كما إذا استقبل بجميع بدنه بعض البيت في الصلاة.. فإنه يجزئه.
الثالثة: أن يحاذي ببعض بدنه جميع الحجر، مثل: أن يقف حذاء وسط الحجر؛ فإن بعض بدنه يكون خارجا من الحجر.. فهل يجزئه هذا؟ فيه قولان:
(الأول) : قال في القديم: (يجزئه) : لأنه حكم يتعلق ببدنه، فاستوى فيه جملة البدن وبعضه كوقوع الحد على بعض البدن.
و (الثاني) : قال في الجديد: (لا يجزئه) ؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ استقبل الحجر واستلمه» وظاهر هذا: أنه استقبله بجميع بدنه. ولأن ما وجب فيه محاذاة البيت.. وجب محاذاته بجميع البدن، كالاستقبال في الصلاة؛ فإنه لو استقبل الكعبة في الصلاة ببعض بدنه، بأن يقف بحذاء بعض الأركان.. فإنه لا يجزئه: لأن بعض بدنه يكون خارجا عن الكعبة.
فإذا قلنا بهذا: لم تجزه الطوفة الأولى، فإذا طاف الثانية.. احتسبت له أولى؛ لأنه يمر على الحجر بجميع بدنه.
فإن طاف وهو واضع يده على جدار الكعبة.. قال المسعودي (في " الإبانة " ق\ 203] : فعلى القولين فيمن حاذى الحجر ببعض بدنه.

(4/283)


إذا ثبت هذا: فروى ابن عباس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قبل الحجر وسجد عليه، ثم قبله وسجد عليه» .
قال الشافعي: (وأحب للطائف أن يفعل ذلك إن أمكنه، فإن لم يمكنه ثلاثا.. فعل ما أمكنه منها، فإن لم يمكنه السجود أمكنه منها، فإن لم يمكنه السجود عليه.. اقتصر على التقبيل، وإن لم يمكنه التقبيل بأن يتأذى بغيره أو يؤذي غيره.. استلمه بيده) ؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ استلم الحجر الأسود» .
وروى ابن عباس: «أن عمر ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـ انكب على الحجر وقبله، وقال: أما إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت حبيبي رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يقبلك.. ما أقبلك) . وقرأ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] » [الأحزاب: 21] .

(4/284)


ويستحب أن يقبل يده؛ لما روي: «أن ابن عمر استلم الحجر الأسود وقبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يفعله» .
وإنما خص الحجر الأسود بالتقبيل: لما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه قال: سمعت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يقول: «الحجر والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، ولولا أن الله تعالى طمس نورهما.. لأضاءا ما بين المشرق والمغرب» .
وروى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «يحشر الحجر الأسود يوم القيامة وله عينان ولسان يشهد لكل من استلمه بحق» .
وروي عن ابن عباس: أنه قال: «نزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضا من الثلج، حتى سودته خطايا بني آدم» . قال: فإن لم يمكنه الاستلام.. فإنه يشير إليه

(4/285)


بيده، ولا يشير بالقبلة؛ لأنه قد روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما ازدحم الطواف.. استلم الركن بمحجن بيده» . ولم يشر إليه بالقبلة.
وروي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال لعمر: " إنك رجل قوي، فلا تزاحم الناس على الركن، فتمنع الضعيف وتؤذي القوي، ولكن إن خلا لك.. فقبل، وإلا.. فكبر وامض» .
قال النبي: و (الاستلام) : مأخوذ من السلام، وهي الحجارة، فإذا مس الحجر بيده.. قيل: استلم، أي: مس السلام، وقيل: إنه مأخوذ من السلام "، أي: أنه يحيي نفسه عن الحجر، إذ ليس الحجر ممن يجيبه، يقال: اختدم: إذا لم يكن له خادم، وإنما خدم نفسه. وحكي عن ابن الأعرابي: أنه قال: هو مهموز ترك همزه، وهو مأخوذ من الملاءمة والموافقة، كما يقال: استلأم كذا استلئامًا: إذا رآه موافقا له وملائما.
ويستحب أن يقول عند ابتداء الطواف والاستلام: باسم الله، والله أكبر، اللهم

(4/286)


إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك محمد ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، رواه عبد الله بن السائب عن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ. وروي مثل ذلك عن علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وإن قرأ القرآن في الطواف.. كان حسنا؛ لما روي عن مجاهد: أنه كان يقرأ القرآن في الطواف.

(4/287)


وإن قال في طوافه: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. كان مستحبا؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من طاف بالبيت سبعا ولم يتكلم فيه إلا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات» .

[فرع يشترط الترتيب في الطواف ويستحب الدنو منه]
] : الترتيب شرط في الطواف، وهو: أن يجعل البيت على يساره، ويمشي على يمينه، فإن مشى على يساره.. لم يجزه. وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (إذا مشى على يساره، فإن كان بمكة.. أعاد، وإن خرج إلى بلده.. أجزأه وعليه دم) .
دليلنا: أن الله تعالى قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] [الحج: 29] .
فأمر بالطواف مجملا.
وروى جابر وابن عباس: «أن النبي طاف مرتبا، فجعل البيت على يساره، ومشى على يمينه» . وقال: «خذوا عني مناسككم» فكان فعله هذا بيانا لما ورد به القرآن مجملا.
وما روي: أن أحدا طاف على خلاف ذلك إلا محمد بن داود، فهموا بقتله لولا

(4/288)


أنه اختفى بمكة، وهذا يدل على شهرته. ولأنه عبادة تفتقر إلى البيت، فكان الترتيب فيها مستحقا، كالصلاة:
ويستحب أن يدنو من البيت؛ لأنه هو المقصود، فكان الدنو منه أفضل، فإن كان هناك زحمة.. لم يستحب له أن يزاحم للدنو من البيت؛ لأنه يؤذي الناس بذلك، فإن تباعد من البيت وطاف ملاصقا لجدار المسجد.. جاز. وإن طاف خارجا من المسجد.. لم يجزه؛ لأن حائط المسجد حائل بينه وبين الكعبة

[فرع ما يستحب استلامه من الأركان وما يفعله]
] : فإذا بلغ إلى الركن اليماني.. استلمه بيده وقبل يده ولا يقبله، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 204] : في كيفية استلام اليماني وتقبيله وجهان:
أحدهما: يقبل يده أولا، ثم يضعها عليه، كأنه ينقل القبلة إليه.
والثاني: يضع يده على الركن ثم يقبلها، فكأنه ينقل بركته إلى نفسه.
وقال مالك: (يستلمه ولا يقبل يده، ولكن يضعها على فيه) .
وقال أحمد: (يقبله) .
وقال أبو حنيفة: (لا يستلمه، ولا يقبل يده) .
دليلنا ـ على استلامه ـ: ما روى ابن عمر: «أن: النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يستلم الحجر الأسود والركن اليماني في كل طوفة، ولا يستلم الآخرين» .

(4/289)


وأما تقبيل اليد: فروي عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري: (أنهم كانوا يتسلمون الركن اليماني ويقبلون أيديهم) ، ولا مخالف لهم. ولأنه ركن بني على قواعد إبراهيم، فسن فيه الاستلام، كالأسود.
وأما الركن العراقي والشامي ـ وهما اللذان يليان الحجر ـ: فلا يستلمان ـ عندنا ـ وروي ذلك عن عمر وابن عمر ومعاوية.
وروي عن جابر وابن الزبير وأنس وابن عباس: (أنهم كانوا يستلمون الأركان الأربعة) .
وروي «عن ابن عباس أو ابن الزبير: (أنه استلم الأركان الأربعة، فقال له معاوية:

(4/290)


ما كان رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال ليس في البيت شيء مهجور» .
دليلنا: حديث ابن عمر قال الشافعي: (ليس ترك استلامهما هجرانا لهما؛ لأن الطواف يقع بهما، ألا ترى أن جدران البيت لا تستلم، ولا يقال في ذلك. هجران جدرانه) .
إذا ثبت هذا: فيستحب للطائف كلما حاذى الحجر الأسود أن يكبر، ويستحب له أن يستلم الركنين في كل طوفة؛ لحديث ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يستلمهما في كل طوفة» .
وروى ابن عباس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يطوف على راحلته، فكلما أتى على الركنين: الأسود واليماني.. أشار بشيء في يده وكبر وقبله» .

(4/291)


قال الشافعي: (فإن لم يمكنه الاستلام في كل طوفة.. فالمستحب: أن يستلمهما في كل وتر، وهو الأول والثالث والخامس والسابع؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «إن الله وتر يحب الوتر» .
ويستحب أن يدعو بين الركن اليماني والركن الأسود؛ لما روي عن ابن عباس: «أنه قال: (عند الركن اليماني ملك قائم يقول: آمين آمين، فإذا مررتم به.. فقولوا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] [البقرة: 201] » .

[مسألة مشروعية الرمل والاضطباع وما يقوله]
الرمل هيئة في الطواف، فيستحب لمن طاف الطواف الأول في النسك أن يرمل في الثلاثة الأولى، ويمشي في الأربعة.
قال الشافعي: (والرمل: سرعة المشي مع تقارب الخطو، ولا أحب أن يثب من الأرض) ، والدليل على ذلك: ما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما دخل مكة هو وأصحابه، قالت قريش: إن حمى يثرب قد نهكتهم، فجلسوا في الحجر لينظروا طوافهم، فرمل رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ في الثلاثة الأولى، وأمر أصحابنا بذلك " فلما رأوهم قالوا: ما نراهم إلا مثل الغزلان» .

(4/292)


قال المسعودي [في " الإبانة، ق \ 204] : واختلفت الرواية في موضع الرمل:
فروى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمل من الحجر إلى الحجر» يعني: حول جميع الكعبة.
وروى ابن عباس: «أنه رمل من الحجر الأسود إلى اليماني، ومشى بين الركنين» لأنه كان يقصد إظهار الجلد للمشركين وهم لا يرونه في ذلك الموضع؛ إذ كانوا في الحجر. وقد حكى ابن الصباغ هذه الرواية عن ابن عباس.
فإن قيل: فإنما أمر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بالاضطباع والرمل؛ ليري المشركين القوة وقد زال هذا المعنى.
فالجواب: أنه روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمل في عمرة الجعرانة» وذلك بعد الفتح، وكذلك رمل في حجته بعد الفتح، فثبت أنه سنة.
فان قيل: فإن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف راكبا فكيف يصح هذا؟
قلنا: إنما طاف النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ راكبا في طواف الإفاضة، وطاف ماشيا في طواف القدوم، وسعى بعده، فرمل فيهما.
فإن طاف راكبا أو محمولا.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\204] :
أحدهما: يحرك دابته في موضع الرمل، ويرمل به الحامل؛ لأنه هيئة في الطواف.
والثاني: لا يرمل؛ لأنه يؤذي الناس بذلك.

(4/293)


وأما الشيخ أبو حامد: فحكى في رمل الحامل قولين:
[الأول] : قال في الجديد: (يرمل) .
و [الثاني] : قال في القديم: (لا يرمل) .
فإن أمكن الطائف الدنو من البيت والرمل.. فعل ذلك. وإن لم يمكنه أن يرمل في طوافه بقرب البيت من زحمة الناس ... نظرت: فإن كان إذا وقف ساعة وجد فرجة يرمل بقرب البيت.. وقف ساعة ليقرب من البيت ويرمل، وإن لم يرج بوقوفه إدراك فرجة أو خفة الزحمة.. لم يقف، بل يخرج إلى حاشية الطواف، فيرمل؛ لأن الرمل هيئة في الطواف، والدنو من البيت فضيلة في الطواف، فكان مراعاة الهيئة أولى من مراعاة الفضيلة.
فإن كان بحاشية الطواف نساء إذا خرج اختلط بهن.. لم يخرج لئلا يختلط بالنساء؛ لأنه يخاف عليه الافتتان بهن، ولكنه يطوف ويقرب من البيت، ويحرك نفسه أكثر ما يقدر عليه.
وإن ترك الرمل في الثلاثة الأولى.. لم يقضه في الأربعة؛ لأنه هيئة، فإذا فات محله.. لم يقض، كالجهر في الركعتين الأولتين، ولأن السنة أن يمشي في الأربعة، فإذا رمل فيها.. خالف السنة من وجهين:
ويستحب أن يقول في رمله: اللهم اجعله حجا مبرورا، وذنبا مغفورا، وسعيا مشكورا. ويقول في مشيه: اللهم اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم؛ إنك أنت الأعز الأكرم، اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار؛ لما روى السائب بن يزيد: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال ذلك في طوافه. ويدعو بما أحب من أمر الدين والدنيا.

(4/294)


فإذا طاف للقدوم وسعى بعده، فاضطبع ورمل فيهما.. فقد سقط فرض السعي عنه، ولا يعيد الاضطباع والرَّمَل في طواف الزيارة، لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان إذا طاف الطواف الأول.. خب ثلاثا، ومشى أربعا» فدل على: أنه لم يفعله إلا في الأول.
وإن طاف للقدوم فاضطبع ورمل فيه، ولكن لم يسع بعده.. فإنه يضطبع ويرمل في طواف الزيارة؛ لأنه يحتاج إلى الاضطباع والرّمل في السعي، ولا يمكنه أن يفعل ذلك في السعي دون الطواف؛ لأن السعي تابع للطواف، فلا يكون التابع أكمل من المتبوع.
وإن طاف للقدوم وسعى بعده، ولم يضطبع ولم يرمل فيهما.. فهل يضطبع ويرمل في طواف الزيارة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يضطبع ويرمل فيه ـ ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره- لئلا تفوته سنة الاضطباع والرمل.
والثاني: لا يضطبع ولا يرمل في طواف الزيارة، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق، كما إذا ترك ذلك في الثلاثة الأولى.. فإنه لا يفعله في الأربعة بعدها.

[فرع: الرمل والاضطباع للمرأة وترك الهيئات للرجل]
فرع: [لم يشرع للمرأة الرمل والاضطباع ولا شيء على الرجل بترك الهيئات] : ولا تضطبع المرأة ولا ترمل؛ لأن معنى ذلك: هو إظهار الجلد، والجلد في أصله لا يوجد فيهن، ولأن ذلك يقدح في سترهن.

(4/295)


قال القاضي: وكذلك الخنثى لا يفعل ذلك كالمرأة.
وإن ترك الرجل الاضطباع والرمل والاستلام والتقبيل والدعاء في الطواف.. جاز، ولا يلزمه بذلك شيء.. وبه قال عامة الفقهاء.
وقال الحسن البصري، والثوري، وعبد الملك الماجشون: يجب عليه الدم.
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: (ليس على من ترك الرمل شيء) ولا يقول ذلك إلا توقيفا. ولأن ذلك هيئة، فلم يجب عليه شيء بتركه، كوضع اليمين على الشمال في الصلاة.

[فرع الشرب في الطواف وكراهة تغطية الفم]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا بأس بشرب الماء في الطواف، ولا أكرهه بمعنى المأثم، لكني أحب تركه؛ لأن ذلك حسن في الأدب) .
وروي: أن ابن عباس: (كان يطوف فاستدعى ماء، فشربه في الطواف) .

(4/296)


قال الشيخ أبو حامد: وروي من وجه لا يثبت: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ شرب الماء في الطواف» .
قال ابن الصباغ: ويكره لمن طاف بالبيت أن يضع يده على فيه في الطواف؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، وذلك يكره في الصلاة.

[مسألة الطواف بلباس محرم وقطعه للصلاة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الإملاء ": (وإذا طاف المحرم وعليه ثوب لا يحل للمحرم لبسه.. صح طوافه، وكان عليه الفدية) ؛ لأن تحريم اللبس لا يختص بالطواف، وإنما يتعلق بالإحرام، فلم يمنع صحة الطواف.
قال الشيخ أبو حامد: وإذا كان على الإنسان طواف واجب فطاف بنية النفل.. كان ذلك عن الواجب عليه؛ لأن الطواف أحد أركان الحج، فإذا فعل من جنسه بنية النفل وعليه فرضه.. كان عن فرضه، كالإحرام بالحج.
قال الشافعي: (وإن دخل في الطواف، ثم أقيمت الصلاة.. خرج وصلى، وبنى

(4/297)


على طوافه؛ لأن الجماعة تفوت والطواف لا يفوت، فكان الجمع بينهما أولى) .
قال: (وأكره له أن يخرج من الطواف أو السعي إلى صلاة الجنازة إلا أن تكون الجنازة على طريقه، فيصلي عليها من غير أن يعرج إليها، ولو خرج إليها.. لم يكن عليه الاستئناف، بل يبني على ما مضى) .

[مسألة صلاة ركعتي الطواف]
فإذا فرغ من الطواف.. صلى ركعتين، وهل هما واجبتان أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنهما تجبان، وبه قال أبو حنيفة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] [البقرة: 125] وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وروى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف راكبا، ثم نزل فصلى ركعتين خلف المقام» فلو كانتا مستحبتين.. لصلاهما رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ على الراحلة.
والثاني: أنهما سنة ـ وهو قول مالك ـ لما روى طلحة بن عبيد الله في «حديث الأعرابي الذي سأل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ عن الإسلام، فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " خمس صلوات في اليوم والليلة ". فقال: هل علي غيرها؟ فقال: (لا، إلا أن تطوع» . ولأنها صلاة ذات ركوع وليس لها وقت راتب، فلم تكن واجبة بأصل الشرع، كصلاة الخسوف.
فقولنا: (ذات ركوع) احتراز من صلاة الجنازة.
وقولنا: (ليس لها وقت راتب) احتراز من سائر الصلوات المفروضات.
وقولنا: (بأصل الشرع) احتراز من النذر.
ومن قال بهذا.. قال: ليس في الآية ما يدل على إيجاب ركعتي المقام، وإنما

(4/298)


أمرنا بأن نتخذ من المقام مصلى. وأما صلاة النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ على الأرض: فلأن صلاة النافلة على الأرض أفضل.
فإذا قلنا: إنهما سنة.. جاز أن يصليهما قاعدا من غير عذر
وإذا قلنا: إنهما واجبتان.. فهل يجوز أن يصليهما قاعدا من غير عذر؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: لا يجوز، كالصلاة الواجبة.
والثاني: يجزئ، كالطواف راكبا.
واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان في طواف الفرض، في فأما طواف القدوم: فلا يجبان فيه قولا واحدا؛ لأن طواف القدوم نفسه لا يجب، فكذلك ما يتبعه.
ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو الصحيح، بمعنى أنه: لا يحكم له
بصحة الطواف حتى يأتي بالركعتين؛ لأن النفل يجوز أن يشترط في صحته ما هو فرض، كالطهارة والستارة والقراءة والركوع والسجود.
فإن صلى بعد الطواف صلاة فرض، فإن قلنا: إن ركعتي الطواف سنة.. أجزأه ذلك عنهما، كما إذا صلى الفرض عند دخول المسجد.. فإنها تجزئ عن تحية المسجد، وقد روي عن ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من طاف بالبيت أسبوعا، ثم وافق صلاة مكتوبة.. أجزأته عن ركعتي الطواف» . وروي عن ابن عمر: أنه فعل ذلك، ولا مخالف له. وهذا يدل على استحبابهما.

(4/299)


وإن قلنا: إنهما واجبتان.. لم تقم الفريضة مقامهما؛ لأنهما فريضة، فلا تدخلان في غيرهما، كسائر الفرائض.

[فرع الجمع بين أسابيع الطواف]
قال الشيخ أبو نصر: لا يكره أن يجمع بين أسابيع من الطواف، ثم يركع لكل واحد منها. وروي ذلك عن عائشة والمسور بن مخرمة.
وقال الحسن، والزهري، وعروة، ومالك، وأبو حنيفة: (يكره ذلك) ، وروي ذلك: عن ابن عمر.
دليلنا: ما روى السائب بن يزيد عن أمه: أنها قالت: (طفت مع عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثلاثة أسابيع، ثم دخلت الحجر فصلت ست ركعات) .
قال الصيمري: إذا طاف أسابيع متصلة، ثم صلى ركعتين.. جاز.
قلت: ويحتمل أنه أراد إذا قلنا: إنهما سنة.

[فرع صلاة ركعتي الطواف عن الصبي]
وموضعها والرجوع بدونها] : إذا طاف بصبي لا يعقل، وصلى ركعتين.. فهل تقعان عن الصبي؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول ابن القاص ـ: أنهما تقعان عن الصبي؛ لأنهما تبع للطواف، ولما دخلت النيابة في الطواف.. دخلت في تبعه.
والثاني: تقعان عن الحامل؛ لأنه لا مدخل للنيابة في الصلاة بحال.

(4/300)


وقد قال مالك: (لا يجوز أن يصلي عن الصبي) .
دليلنا: ما ذكرناه للوجه الأول.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن المستحب: أن يصليهما خلف المقام، ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثانية بعد الفاتحة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما فرغ من الطواف.. نزل، فصلى خلف المقام ركعتين، فقرأ في الأولى منهما: بفاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية: فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد» .
فإن صلاهما في غيره من المواضع.. جاز. وقال مالك والثوري: (إن لم يصلهما خلف المقام.. لم يجزه، وعليه دم) .
دليلنا: أنها صلاة، فلم تختص بمكان، كسائر الصلوات.
فإن لم يصلهما حتى رجع إلى بلده.. قال الشافعي: (صلاهما، وأراق دما) .
قال أصحابنا: إراقة الدم مستحبة لا واجبة.

[فرع يرقى إلى الصفا بعد ركعتي الطواف]
فإذا فرغ الطائف من ركعتي المقام.. فالمستحب له: أن يرجع إلى الحجر الأسود فيستلمه بيده، ويمسح بها وجهه. وإن أراد السعي.. خرج من باب الصفا؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فعل ذلك لما فرغ من ركعتي المقام» .

(4/301)


[مسألة وجوب السعي بين الصفا والمروة]
وكونه بعد طواف] :
ثم يسعى بين الصفا والمروة، وهو ركن من أركان الحج والعمرة، إذا تركه.. لم يحل من إحرامه، ولم ينجبر بالدم. وبه قال من الصحابة عائشة. ومن الفقهاء: أحمد، ومالك.
وقال أبو حنيفة: (هو واجب وليس بركن، فإن تركه.. جبره بالدم) . وروي ذلك: عن ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وأنس.
دليلنا: ما روي «عن صفية بنت شيبة، عن جدتها حبيبة ـ إحدى نساء بني عبد الدارـ: أنها قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين لأنظر إلى رسول الله وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور في وسطه من شدة السعي حتى لأقول: إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول: " اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي» . وهذه اللفظة أبلغ لفظة في كون السعي فرضا.

(4/302)


وأما قول الله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] [البقرة: 158] : فأراد رفع الجناح عنهم في السعي بينهما؛ لأنهم كرهوا ذلك خوفا من التشبه بالمشركين؛ لأنه كان عليهما لهم صنمان: إساف ونائلة، فكانوا يطوفون بينهما، فلما جاء الإسلام تحرج المسلمون من الطواف بينهما.. فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة: 158] الآية [البقرة: 158]
وقيل: إن أصل السعي بينهما: أن أم إسماعيل بن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - سعت من ناحية الصفا إلى ناحية المروة، في طلب الماء لإسماعيل سبع مرات، حتى أنبع الله ماء زمزم، ثم جعل الله تعالى ذلك شرعا.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن السعي لا يصح إلا بعد طواف؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما قدم مكة.. طاف للقدوم، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم سعى بين الصفا والمروة» .
قال الشيخ أبو نصر: ويجوز لمن أحرم بالحج من مكة، إذا طاف للوداع لخروجه إلى منى أن يقدم السعي بعد هذا الطواف.

(4/303)


وقال مالك وأحمد وإسحاق: (لا يجوز تقديم السعي لمن أحرم بالحج من مكة، وإنما يجوز ذلك للقادم) .
دليلنا: ما روي: (أن ابن عمر كان يفعل ذلك، إذا أحرم من مكة) . وروي: (أن ابن الزبير لما أهل هلال ذي الحجة.. أهل وطاف وسعى وخرج) . وأجاز ذلك القاسم بن محمد. ولأنه: إذا جاز ذلك لمن أحرم من غير مكة.. جاز ذلك لمن أحرم منها. والمستحب: أن يوالي بين الطواف والسعي.
قال الشيخ أبو حامد: فإن فرق بينهما بيوم أو شهر أو سنة.. أجزأه؛ لأنهما ركنان في الحج، فلم تجب الموالاة بينهما، كالوقوف والطواف.
وهكذا قال القفال، إلا أنه قال: يجوز الفصل بينهما بما شاء من الزمان إلا أن يتخللهما ركن، مثل: أن يطوف للقدوم، ثم يقف بعرفة، ثم يسعى بين الصفا والمروة.. فإنه لا يحتسب له بذلك، لا لوقوع الفصل بينهما؛ ولكن لأن السعي يجب أن يكون تبعا للطواف وهاهنا يكون السعي تبعا للوقوف، فلم يجز. هذا مذهبنا.
وقال عطاء وبعض أصحاب الحديث: إذا قدم السعي على الطواف.. جاز.
دليلنا: ما ذكرناه من الخبر.

[فرع ترتيب السعي وحسابه]
الترتيب شرط في السعي، وهو أن يبدأ بالصفا، ويختم بالمروة.
وقال عطاء: إن بدأ بالمروة وكان جاهلا.. أجزأه.

(4/304)


دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما خرج إلى السعي.. تلا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] [البقرة: 158] . ثم قال: " ابدءوا بما بدأ الله تعالى به " وبدأ بالصفا، حتى فرغ من آخر سعيه على المروة» .
فإذا مشى من الصفا إلى المروة.. احتسب له بذلك مرة، فإذا مشى من المروة إلى الصفا.. احتسب له بذلك مرة ثانية، حتى يستوفي المشي بينهما سبع مرات، ويحصل له الوقوف على كل واحد من الصفا والمروة أربع مرات.
وحكي: أن أبا بكر الصيرفي وابن خيران قالا: لا يحتسب له بمرة حتى يمشي من الصفا إلى المروة، ثم يرجع إلى الصفا، كالطواف بالبيت لا يحتسب له بمرة حتى يعود إلى الموضع الذي بدأ منه. وهو قول ابن جرير الطبري.
والمذهب الأول؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بدأ بالصفا، وفرغ من آخر سعيه بالمروة» . وهذا لا يكون إلا على ما ذكرناه، وما ذكروه من الطواف.. فهو الحجة عليهم؛ لأن الطواف بالبيت لا يمكنه استيفاء الطوفة الواحدة حتى يبلغ من الحجر إلى الحجر، وفي السعي بين الصفا والمروة، إذا مشى من الصفا إلى المروة.. فقد استوفى السعي بينهما، فاحتسب بذلك مرة، كالطواف بالبيت.

[فرع الصعود على الصفا والمروة]
والدعاء وصفة السعي بينهما] : ويرقى على الصفا، حتى يرى البيت ويستقبله، ويقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، لا إله إلا الله وحده

(4/305)


لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولوكره الكافرون. ويقول ذلك ثلاثا؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال ذلك على الصفا والمروة» . ثم يدعو لنفسه بما أحب من أمر الدين والدنيا؛ لما روي: (أن ابن عمر كان يدعو لنفسه على الصفا والمروة) .
فإذا فرغ.. نزل ومشى حتى يبقى بينه وبين الميل الأخضر المعلق في ركن المسجد نحو من ستة أذرع، ثم يسعى سعيا شديدا حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد وحذاء دار العباس، فيقطع السعي الشديد، ويمشي على سجية مشيه حتى يصعد المروة ويستقبل البيت، ويدعو عليها بمثل ما دعا على الصفا، ثم ينزل ويمشي في موضع المشي، ويسعى في موضع السعي؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما نزل من الصفا.. مشى، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي.. سعى سعيا شديدا» وإنما فعل ذلك؛ لأنه كان بحذاء السوق، وقد كانت قريش قعدت له لتنظر إليه كيف يسعى؟ فسعى سعيا شديدا إلى الموضع الذي غاب عنهم، يقصد بذلك تكذيبهم بقولهم: إن محمدا وأصحابنا قد نهكتهم حمى يثرب. فإن ترك السعي الشديد ومشى في الجميع.. جاز؛ لما روي: «أن ابن عمر كان يمشي بينهما، وقال: قد رأيت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يمشي بينهما» .

(4/306)


قال الشيخ أبو إسحاق: ويستحب أن يقول في سعيه: رب اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم؛ إنك أنت الأعز الأكرم؛ لما روي: «أن امرأة من بني نوفل قالت سمعت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يقول ذلك في سعيه» .
وأما الشيخ أبو حامد: فذكر: أنه يقول ذلك في الطواف، ولم يذكر في حال السعي ذكرا.
فإن سعى راكبا.. جاز، سواء كان لعذر أو لغير عذر، غير أن المستحب: أن يسعى ماشيا.
وقال عروة بن الزبير وعائشة: (يكره له أن يسعى راكبا) .
وقال أبو ثور: (لا يجزئه، وتلزمه إعادته) .

(4/307)


وقال أبو حنيفة: (يعيد إن كان بمكة، وإن رجع إلى بلده.. أجزأه، وعليه دم)
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف بالبيت على راحلته، وبين الصفا والمروة» .
وعن أنس: (أنه كان يطوف بينهما على حمار) .
فإن لم يرق على الصفا والمروة.. أجزأه.
وقال أبو حفص بن الوكيل: لا يجزئه؛ لأنه لا يمكنه استيفاء ما بينهما إلا بأن يرقى عليهما.
والمذهب الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] [البقرة: 158] ، والمراد: السعي بينهما. وروي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كان يقف في حوض في أسفل الصفا، ولا يرقى عليه) ولا مخالف له.
وأما استيفاء ما بينهما: فيمكنه ذلك بأن يلصق عقبه بهما، فإن أخل أحد بشيء مما بينهما وإن قل.. لم يجزه.

[فرع استحباب الطهارة للسعي وقطعه وسعي المرأة]
] : والمستحب إذا سعى: أن يكون على طهارة؛ لأنه قربة وعبادة، فاستحب أن يكون فيها على طهارة.
فإن سعى محدثا أو جنبا أو كانت المرأة حائضا أو نفساء.. صح؛ «لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لعائشة وقد حاضت: " اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت» فخص الطواف بالنهي، فدل على أن فعل الباقي جائز.

(4/308)


فإن عرض له عارض في السعي فقطعه وطال الزمان.. استحب له أن يستأنف، فإن بنى عليه.. جاز قولا واحدا، بخلاف الطواف؛ لأنه لا يفتقر إلى الطهارة، فلم يقطعه الفصل الطويل، كالوقوف والرمي.
وإن كانت امرأة ذات جمال.. سعت ليلا، خوف الافتتان بها، وتمشي في الجميع، كما قلنا في الطواف.

[مسألة خطب الحج أربع والتعريف بيوم التروية]
] : قال الشافعي: (ويخطب الإمام يوم السابع من ذي الحجة بعد الظهر] .
وجملة ذلك: أن الخطب في الحج أربع:
خطبة يوم السابع بمكة، وخطبة بعرفة، وخطبة بمنى يوم النحر، وخطبة بمنى يوم النفر الأول، وكلها بعد الصلاة إلا خطبة عرفة.. فإنها قبل الصلاة.
وقال أحمد: (لا تسن الخطبة يوم السابع) .
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ صلى الظهر بمكة يوم السابع وخطب» .
إذا ثبت هذا: فإنه يعلمهم المناسك.
قال الشافعي: (وإن كان فقيها.. قال: هل من سائل؟ ويأمرهم بالخروج في يوم التروية ـ وهو اليوم الثامن ـ إلى منى) .
قال الصيمري وسمي يوم التروية؛ لأن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أرى إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مناسكه في هذا اليوم.

(4/309)


وقيل: لأن آدم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رأى حواء فيه عندما أهبط إلى الأرض.
وقيل: لأن الناس يتروون الماء ويحملونه في الروايا إلى منى. وهذا هو المشهور.
قال ابن الصباغ: فإن وافق يوم السابع يوم الجمعة.. صلى، ثم خطب بعد الصلاة؛ لما ذكرناه. وإن وافق يوم التروية يوم الجمعة.. أمرهم أن يخرجوا قبل طلوع الفجر؛ لأن الفجر إذا طلع.. لم يجز الخروج إلى سفر، وترك الجمعة في أحد القولين.
قال الشافعي: (ولا تصلى الجمعة بمنى، ولا بعرفات إلا أن تحدث فيهما قرية مجتمعة البناء يستوطنها أربعون رجلا) .

[فرع الرواح إلى منى وما يصنع الإمام والناس حتى وصولهم عرفة]
] : قال الشافعي: (ويأمرهم بالغدو بكرة إلى منى) . وقال في موضع آخر (يروحون إلى منى) .
وليست على قولين، بل هم مخيرون: بين أن يغدوا بكرة، وبين أن يروحوا بعد الزوال، وهذا أولى؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال لأصحابه: «إذا توجهتم إلى منى رائحين.. فأهلوا» . فندبهم إلى الرواح.
ويصلون الظهر والعصر والمغرب والعشاء بمنى، ويبيتون بها.
قال الشيخ أبو حامد: وهذه البيتوتة بمنى ليست بواجبة ولا بسنة، وإنما هي هيئة إن فعلها.. فقد أحسن، وإن تركها.. فلا شيء عليه.
فإذا صلى الإمام الصبح بمنى.. وقف، فإذا طلعت الشمس على ثبير ـ وهو أعلى جبل بمنى ـ سار إلى عرفة، فإذا بلغ إلى وادي عرنة.. نزل بنمرة ـ وهي بعرفة، وليست من عرفة ـ فإذا زالت الشمس سار إلى مسجد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لما

(4/310)


روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ صلى الصبح بمنى، فلما بزغت الشمس.. رحل في أول بزوغها إلى عرفات، فلما بلغ إلى عرفة.. أمر فضربت له قبة من شعر» .
وروي: «من أدم حمراء بنمرة، فنزل بها حتى زالت الشمس.. ثم سار إلى المسجد، فجمع بين الظهر والعصر» .
فإذا بلغ الإمام مسجد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.. صعد المنبر، فخطب الخطبة الأولى وأوجز، ثم يجلس بعدها بقدر قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثم يقوم إلى الخطبة الثانية، ويبدأ المؤذن بالأذان، ويكون فراغ الإمام من الخطبة الثانية مع فراغ المؤذن من الأذان.
وقال أبو حنيفة: (يأمر المؤذن بالأذان، ثم يخطب بعده كالجمعة) .
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما زالت الشمس.. صعد المنبر وخطب الخطبة الأولى، ثم جلس وأمر المؤذن بالأذان، ثم قام فخطب الخطبة الثانية، ثم أمره فأقام الصلاة» .
فأخبر: أنه أمر بالأذان بين الخطبتين، فدل على أن هذا هو السنة، هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.

(4/311)


وذكر ابن الصباغ: أنه يأمر بالأذان عند قيامه في الخطبة الثانية، فإذا فرغ الإمام من الخطبتين، فإن كان مسافرا.. فله أن يقصر الظهر والعصر، ويجمع بينهما، وكذلك من بعده من المسافرين.
قال الشافعي: (وإذا دخل الحجاج مكة ونووا أن يقيموا بها أربعا.. أتموا الصلاة ولم يقصروا، فإذا خرجوا يوم التروية، ونووا الرواح إلى بلدهم عند الفراغ من نسكهم.. كان لهم أن يقصروا الصلاة؛ لأنهم قد أنشئوا سفرا تقصر فيه الصلاة.
وأما أهل مكة ومن فيها من المقيمين: فلا يجوز لهم القصر، وكذلك لا يجوز للإمام إذا كان مقيما القصر، ويتم من خلفه من المسافرين) .
وقال مالك: (يجوز القصر للمسافرين بعرفة وأهل مكة ومن بها من المقيمين)
واحتج بـ: (أن ابن عمر أتم الصلاة بمكة، وقصر بعرفة) .
وأيضا فـ: «إن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قصر بعرفة وكان معه أهل مكة وغيرهم، فلم ينههم عن ذلك» .
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد» وذلك: بين

(4/312)


مكة إلى عسفان والطائف. وهذا نص، في أنه قد نهاهم عن القصر فيما دون ذلك. وأما ابن عمر: قال الشافعي: (فإنه أتم بمكة؛ لأنه كان مقيما بها، ولما خرج إلى عرفة.. صار على السفر، ونوى أن ينفر إلى المدينة عند الفراغ من نسكه، فلذلك قصر الصلاة) .
وأما الجمع بعرفة لأهل مكة ومن كان مقيما بها: فقال الشيخ أبو حامد: إن قلنا: يجوز الجمع في السفر القصير.. جاز لهم الجمع، وإن قلنا: لا يجوز لهم الجمع إلا في السفر الطويل.. لم يجز لهم الجمع، بل يصلون الظهر في وقتها، والعصر في وقتها.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\203] هل الجمع بعرفة لأجل النسك أو لأجل السفر؟ فيه وجهان.
وهذا إنما يكون على القول الجديد، الذي يقول: (لا يجوز الجمع في السفر القصير) .
فإذا قلنا: إنه للنسك جاز الجمع فيها لأهل مكة وغيرهم، وهو قول القاضي أبي القاسم الصيمري..
وإذا قلنا: إنه للسفر.. اختص بأهل السفر الطويل.
وقال أبو حنيفة: (إن صلوا مع الإمام.. جاز لهم الجمع، وإن صلوا منفردين ... لم يجز لهم الجمع) . وهذا غلط؛ لأن كل صلاتين جاز الجمع بينهما مع الإمام
وجب أن يجوز الجمع بينهما منفردا، كالصلاتين بالمزدلفة؛ فإن أبا حنيفة وافقنا عليهما.

[مسألة دخول النبي صلى الله عليه وسلم عرفة والتعريف بها]
مسألة: [دخول النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ عرفة والتعريف بها وما يستحب لها] : فإذا فرغ من الصلاة في مسجد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.. راح إلى الموقف لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما فرغ من الصلاة.. ركب ناقته القصواء، وراح إلى الموقف، ووقف» .

(4/313)


و (الوقوف بعرفة) : ركن من أركان الحج، وهو من أعظم أركانه؛ لأن فوات الحج وإدراكه يتعلق به.
والدليل عليه: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «الحج عرفة، فمن أدرك عرفة.. فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفة.. فقد فاته الحج»
وروي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف بعرفة» ، وقال: «خذوا عني مناسككم»
قال الصيمري: وسميت عرفة؛ لتعريف جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فيها مناسكه.
وقيل: لأن آدم عرف فيها حواء.
وقيل: لحصول الناس في موضع عال، والعرب تسمي العالي: عرفة وأعرافا.
ويستحب الاغتسال للوقوف؛ لأنه موضع يجتمع فيه الناس للعبادة، فسن فيه الاغتسال كالجمعة.
و (حد عرفة) : ما بين الجبل المشرف على بطن عرفة إلى الجبال المقابلة يمينا وشمالا.

(4/314)


وأما وادي عرنة، والمسجد: فليس من عرفة.
وقال مالك: (هو من عرفة) .
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «عرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة» . وروي: «عرفة كلها موقف إلا وادي عرنة» ".
والأفضل أن يقف عند الصخرات السود عند جبل الرحمة؛ لأن آدم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ومن بعده والنبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ والصحابة وقفوا عندها، وإن وقف في أي موضع شاء من عرفة.. صح.
قال الشافعي: (وأي موضع خلا بنفسه ... كان أفضل؛ ليتوفر على الدعاء والذكر) . ويستحب أن يكون مستقبل القبلة، لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف مستقبلا القبلة) وقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " خير المجالس ما استقبل به القبلة»

(4/315)


ويستحب للإنسان يوم عرفة أن يكثر من قراءة القرآن والذكر، والصلاة، ويكثر في دعائه قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير؛ لما روى طلحة بن عبيد الله: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيين من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له» . وروي: «أنه كان يكثر في دعائه عشية يوم عرفة: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير» .
وسئل سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة؟ فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فقيل له: هذا ثناء، وليس بدعاء، فقال: أما سمعت بقول الشاعر:

(4/316)


إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
ويستحب أن يرفع يديه في الدعاء؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ترفع الأيدي عند الموقفين - يعني - عند عرفة، والمشعر الحرام» .
وهل الأفضل أن يكون راكبا؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: أن الراكب والنازل سواء.
والثاني: أن الراكب أفضل، وهو الأصح لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقف راكبا» ، ولأنه أقوى على الدعاء، ولهذا: كان الإفطار بعرفة أفضل؛ لأنه أقوى على الدعاء.

[فرع زمن الوقوف بعرفة وصفة الواقف بها]
] : وأول وقت الوقوف: إذا زالت الشمس يوم عرفة، وآخره: إذا طلع الفجر الثاني من يوم النحر، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال أحمد: (جميع يوم عرفة وقت للوقوف) .
وقال مالك: (الاعتماد في الوقوف هو الليل، والنهار تبع له، والأفضل أن

(4/317)


يجمع بينهما، فإن وقف بالليل دون النهار.. أجزأه، وإن وقف بالنهار دون الليل.. لم يجزه) .
دليلنا ـ على أحمد ـ: ما روي في حديث جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما صلى الصبح بمنى يوم عرفة.. مكث حتى طلعت الشمس، ثم سار إلى نمرة، فضربت له بها قبة من أدم، فنزل بها حتى زالت الشمس، فسار إلى المسجد فخطب وصلى، ثم راح إلى الموقف» ولو كان ما قبل الزوال وقتا للوقوف.. لكان يغدو إليها؛ لأن حصوله في موضع الطاعة والقربة أفضل وأكثر للثواب من نزوله في غيرها.
والدليل ـ على مالك ـ: ما روي «عن الحارث بن مضرس: أنه قال: أتيت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وهو بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله أتيت من جبل طيئ أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، ولم أدع حبلا إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " من صلى صلاتنا هذه، وكان قد وقف معنا بعرفة ساعة من ليل أو نهار.. فقد تم حجه، وقضى تفثه» . قال ابن الصباغ: و (الحبل) : هو الواحد من حبال الرمل.
وأيضا فـ: (إن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقف الكثير من النهار، والجزء اليسير من الليل) ، فلو كان الليل هو الاعتماد في الوقوف.. لكان يقف أكثر الليل وأقل النهار.

(4/318)


وأما قدر الإجزاء: فإذا حصل بعرفة ـ من حين الزوال إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر ـ لحظة: إما قاعدا أو قائما أو راكبا أو سائرا.. فإنه يجزئه؛ لحديث الحارث بن مضرس.
قال الشيخ أبو حامد: وليس مسيره فيها بأكثر من مشي المعتكف في المسجد.
ولو اعتكف الرجل في المسجد فلم يجلس، بل لا يزال يمشي في المسجد من أحد طرفيه إلى الآخر.. أجزأه؛ لأن (الاعتكاف) : هو اللبث في المسجد، وقد وجد منه ذلك، فكذلك هذا مثله.
وإن وقف بعرفة وهو نائم.. أجزأه؛ لأنه كالمستيقظ في الحكم.
وحكى ابن القطان في النائم وجها آخر: أنه لا يصح، وليس بشيء.
وإن وقف وهو مغمى عليه أو مجنون.. فالمشهور: أنه لا يجزئه؛ لأنه لو أغمي عليه أو جن جميع نهار يوم من رمضان.. لم يصح صومه، ولو نام جميع نهار رمضان.. صح صومه.
وحكى ابن القطان وجها آخر: أنه يصح، وليس بشيء.
فإن وقف بعرفة سكران من غير معصية.. فهو كالمغمى عليه، وإن كان سكران بمعصية.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: لا يجزئه؛ تغليظا عليه.
والثاني: يجزئه: لأنه في حكم الصاحي.
وإن وقف بعرفة وهو لا يعلم أنها عرفة.. فالمشهور: أنه يصح؛ لحديث الحارث بن مضرس؛ لأنه قال: لم أدع حبلا إلا وقد وقفت عليه ـ فلو كان يعلم عرفة.. لم يحتج إلى الوقوف بغيرها ـ فقال له النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من صلى صلاتنا هذه،

(4/319)


وكان قد وقف معنا بعرفة ساعة من ليل أو نهار.. فقد تم حجه» . ولم يفرق بين أن يكون عرفها أم لا.
وحكى ابن القطان وجها آخر عن ابن الوكيل: أنه لا يجزئه ـ وهو قول أبي ثور ـ وليس بشيء.
إذا ثبت هذا: فإن الأفضل أن يقف من حين الزوال إلى أن تغرب الشمس من ليلة النحر، ثم يدفع من عرفة؛ لما روى علي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقف بها حتى غابت الشمس، ثم دفع منها» .
وروى المسور بن مخرمة: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من عرفة إذا صارت الشمس على رءوس الجبال مثل عمائم الرجال في وجوههم، وإنا لندفع بعد غروب الشمس مخالفة لأهل الشرك والأوثان» .

(4/320)


فإن دفع منها قبل غروب الشمس ولم يعد إليها حتى طلع الفجر من يوم النحر أراق دما، وهل هو واجب أو مستحب؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه واجب، ـ وبه قال أبو حنيفة ـ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقف بعرفة إلى أن غربت الشمس، وقال: «خذوا عني مناسككم» ، وقد قال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا.. فعليه دم» ولأن الوقوف ركن، فإذا لم يأت به على الوجه المشروع، بل أخل ببعضه.. أجزأه، ولزمه الدم، كما لو أحرم دون الميقات.
والثاني: أنه مستحب؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ للحارث بن مضرس: «وكان قد وقف معنا ساعة من ليل أو نهار.. فقد تم حجه» وتمامه يقتضي: أن لا دم عليه؛ لأن الدم يراد لجبر النقص. ولأنه وقف في أحد زماني الوقوف، فلم يجب عليه الدم، كما لو وقف بالليل دون النهار.
وإن رجع إليها بعد الغروب.. سقط عنه الدم.
وقال أبو حنيفة: (لا يسقط) ، وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين.
دليلنا: أنه جمع في وقوفه بين الليل والنهار، فسقط عنا الدم، كما لو رجع قبل الغروب ووقف حتى غربت، ثم دفع.

[مسألة الانطلاق إلى المزدلفة وما يصنع بها ومتى يخرج منها]
] : فإذا غربت الشمس.. دفع إلى المزدلفة؛ لحديث علي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إليها بعد الغروب» .
وسميت مزدلفة بذلك؛ لاجتماع الناس بها، قال الله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء: 64] [الشعراء: 64] ، أي: جمعناهم.

(4/321)


ويمشي عند الازدحام على سجية مشيه؛ لما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يشير إلى الناس بيده ويقول: " على رسلكم " عند الازدحام. فإذا وجد فرجة.. أسرع المشي؛» لما روي: أنه «سئل أسامة بن زيد عن سير رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ من عرفة إلى المزدلفة، فقال: (كان يسير العَنَق، فإذا وجد فرجة نصَّ» يعني: رفع في السير، وظهر فيه، و (النص) : مأخوذ من الرفع؛ لأنه رفع في بيانه إلى أقصى غايته، وسميت المنصة منصة؛ لظهورها وارتفاعها.
والمستحب: أن يمر إلى المزدلفة على طريق المأزِمين؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ سلكه) فإن سلك الطريق الآخر.. جاز.
فإذا بلغ الإمام المزدلفة.. جمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ جمع بينهما فيها) .

(4/322)


قال في " الإملاء ": (فإن خاف فوت النصف الأول من الليل قبل أن يوافي مزدلفة.. نزل وصلى في أي موضع كان لئلا يفوت وقتها المختار) . فإذا وافى مزدلفة.. قال الشافعي: (صلى قبل حط رحله) ؛ لـ: (أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هكذا فعلوا) .
قال الشافعي: (فإن صلى كل واحدة منهما في وقتها.. صح) .
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز أن يصلي المغرب بعرفة ولا في طريقه، فإن فعل ذلك.. أعادها مع العشاء بمزدلفة) .
دليلنا: أن كل صلاتين جاز الجمع بينهما في وقت أحدهما.. جاز فعل كل واحدة منهما في وقتها، كالظهر والعصر بعرفة.
قال الشيخ أبو إسحاق: ولأن الجمع رخصة لأجل السفر، فجاز له تركه، وهذا يدل من قوله: (أن الجمع بمزدلفة لأهل السفر الطويل) .
فأما أهل مكة والمقيمون بها: فإنما لهم ذلك على القول القديم.
ويبيت بها لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بات بها) ، وهذا المبيت ليس بركن في الحج، في قول عامة العلماء.
وقال الشعبي والنخعي: هو ركن، فإن تركه.. لم يصح حجه.
دليلنا: ما ذكرناه من حديث الحارث بن مضرس. وروي عنه ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أنه قال: «الحج عرفة، فمن أدركها.. فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفة.. فقد فاته الحج» .
ولأنه مبيت فلم يكن ركنا، كالمبيت بمنى ليلة عرفة.

(4/323)


إذا ثبت أنه ليس بركن.. فقال الشيخ أبو حامد: هل هو سنة، أو هيئة؟ فيه قولان. وسمى ما وجب بتركه الدم سنة مثل الرمي، كالسنن التي يقتضي تركها سجود السهو في الصلاة، وما لا يجب بتركه الدم، كالاضبطاع والرمل هيئة.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فقال: هل هو واجب أم لا؟ فيه قولان.
فإذا قلنا: إنه سنة على عبارة الشيخ أبي حامد، أو واجب على عبارة الشيخ أبي إسحاق.. وجب بتركه الدم. ووجهه: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا.. فعليه دم» .
وإذا قلنا: إنه هيئة.. لم يجب بتركه الدم. ووجهه: حديث الحارث بن مضرس، ولأنه مبيت، فلم يجب بتركه الدم، كالمبيت بمنى ليلة عرفة.
وفي أي موضع من المزدلفة بات.. أجزأه.
قال الشافعي: (وحد مزدلفة: ما بين مأزمي عرفة إلى مأزمي محسر على يمينك وشمالك من تلك المواطن الظواهر، والقوابل والشعاب) . والمأزمان - بوادي محسر ـ ليستا من المزدلفة؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «مزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن محسر» .
والمستحب له: أن يبيت بها إلى أن يطلع الفجر الثاني من يوم النحر؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بات بها إلى أن طلع الفجر، وصلى بها الصبح) ، فإذا طلع الفجر.. فالمستحب: أن يصلي الفجر في أول وقتها، وهكذا يستحب في سائر الأيام إلا أن

(4/324)


التغليس في صلاة هذا اليوم أشد استحبابا من سائر الأيام؛ لما روي عن ابن مسعود: أنه قال: «لم يصل رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ صلاة الصبح قبل وقتها إلا صلاة الصبح بجمع ـ يعني: بالمزدلفة ـ فإنه صلاها قبل وقتها» ولم يرد: أنه صلاها قبل طلوع الفجر؛ لأن ذلك لا يجوز، وإنما أراد: أنه صلاها قبل وقتها المعتاد؛ لأنه كان في سائر الأيام لا يصلي الصبح حتى يظهر الفجر ويستبين، وفي ذلك اليوم صلاها مع أول طلوع الفجر.
فإذا فرغ من الصلاة.. فالسنة أن يأتي إلى المشعر الحرام، ويقف على (قزح) : وهو جبل بالمزدلفة، وهو المشعر الحرام، ويستقبل القبلة، ويدعو الله تعالى إلى أن يسفر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] [البقرة: 198] . وأقل أحوال الأمر الاستحباب. وأيضا فإن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فعل هكذا.
فإذا أسفر.. استحب أن يدفع قبل طلوع الشمس، فإن أخر الدفع حتى طلعت الشمس.. كره؛ لما روى سفيان، عن ابن طاووس، عن أبيه: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس، وقال: " إن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس، ومن المزدلفة بعد طلوعها، وكانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير» فأخر هذه وقدم هذه؛ ليخالف هدينا هدي أهل الأوثان والشرك، و (الهدي) : الطريقة والسمت.
وإن خرج من المزدلفة بعد نصف الليل.. فلا شيء عليه؛ لأن الواجب عليه أن يحصل بالمزدلفة في جزء من النصف الثاني من الليل، ولا يجب عليه أن يكون بها في النصف الأول من الليل.
وقال أبو حنيفة: (إذا لم يكن بالمزدلفة عند طلوع الفجر.. كان عليه دم) .

(4/325)


دليلنا: ما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أمر أم سلمة فأفاضت في النصف الأخير من الليل من المزدلفة» . وروت عائشة: «أن سودة استأذنت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أن تفيض من المزدلفة في النصف الأخير من الليل، وكانت امرأة ثبطة، فأذن لها رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وليتني كنت استأذنته كما استأذنته سودة» .

[فرع أخذ حصى الرمي وصفتها]
] : قال الشافعي: (ويأخذ من المزدلفة الحصى للرمي، ويكون بقدر حصى الخذف) .
قال الشيخ أبو حامد: وأطلق الشافعي هذا، وإنما أراد أنه يأخذ منها الحصى التي يرمي بها جمرة العقبة، وهي سبع حصيات.
قال الصيمري: وقد قال قوم يأخذ منها سبعين حصاة، وهو خلاف السنة؛ لما «روى الفضل بن العباس قال: قال لي النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ غداة يوم النحر وهو على ناقته: " القط

(4/326)


لي سبع حصيات من حصى الخذف " قال: فلقطتهن، فلما وضعتهن في كفه.. قال: " بمثل هذا فارموا " قالها ثلاثا» .
ولأنه يستحب له إذا أتى الجمرة أن يبدأ بالرمي تحية لها، فإذا أخذ الحصى من المزدلفة.. لم يشتغل بغير الرمي.
ويستحب له أن يلتقطهن وأن لا يكسر الحجارة كما يفعل رعاع الناس؛ لحديث الفضل بن العباس.
والمستحب: أن يكون ما يأخذه مثل حصى الحذف؛ لما ذكرناه من حديث الفضل بن العباس.
وروي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضا، وإذا رميتم الجمرة.. فارموا بمثل حصى الخذف» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وحصى الخذف: أصغر من الأنملة طولا وعرضا)

(4/327)


ومنهم من قال: بقدر النواة، ومنهم من قال: مثل الباقلاء.
قال ابن الصباغ: وهذه المقادير متقاربة، يقال: خذف الحصاة: إذا تركها على رأس سبابته، ووضع إبهامه عليها، وخذف بالحصى: إذا رمى بها.
وإن رمى بحجر كبير.. أجزأه؛ لوقوع اسم الحجر عليه، وكره له ذلك؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «إياكم والغلو في الدين» .
وإن أخذ الحصى من غير المزدلفة.. أجزأه؛ لأن الاسم يقع عليه.

[فرع صفة المشي في المزدلفة ووادي محسر]
وإذا دفع من المزدلفة.. فالمستحب: أن يمشي على سجية مشيه.
قال الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: فإذا وجد فرجة.. أسرع؛ لما ذكرناه في الدفع من عرفات، ولم يذكر الشيخ أبو حامد ذلك إلا في وادي محسر. فإذا بلغ إلى بطن محسر.. أسرع ـ إن كان ماشيا ـ وحرك دابته ـ إن كان راكبا ـ قدر رمية حجر؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما أتى محسرا.. حرك قليلا، وسلك الطريق الوسطى» .
قال الشيخ أبو حامد: وروى العباس بن عبد المطلب: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما دفع من المزدلفة.. كان يسير وعليه السكينة والوقار، فلما هبط وادي محسر.. أوضع» .
و (الإيضاع) : هو الإسراع في السير.

(4/328)


وروي: (أن عمر ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـ لما هبط إلى وادي محسر ... حرك راحلته، وأنشأ يقول:
تشكو إليك قلقا وضينها ... مخالفا دين النصارى دينها

معترضا في بطنها جنينها
)
قال الطبري: وقيل: إنما سن الإسراع في وادي محسر؛ لأنه كان موقفا

(4/329)


للنصارى، فخالفهم النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فيما فعلوا. وهذا صحيح يدل عليه قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
مخالفا دين النصارى دينها
وإن ترك الإسراع.. فلا شيء عليه؛ لأنه لم يترك نسكا.

[مسألة أعمال يوم النحر والبدء برمي جمرة العقبة]
وإذا أتى إلى منى يوم النحر.. بدأ برمي جمرة العقبة فيرمي بسبع حصيات، وهي أول جمرة يجدها إذا جاء من مكة
والرمي: من مناسك الحج: لما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رماها يوم النحر بسبع حصيات) وقال: " خذوا عني مناسككم» . والمستحب: أن لا يرميها حتى تطلع الشمس؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمى جمرة العقبة ضحى يوم النحر» .
«وروى ابن عباس قال: قدمني رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ في أغيلمة من بني عبد المطلب على حمرات من المزدلفة، فجعل يلطح أفخاذنا، ويقول: " أبنيي، لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس. وقوله: (أبنيي) : تصغير ابني» .

(4/330)


فإن رمى في النصف الأول من الليل.. لم يصح. وإن رمى في النصف الثاني من الليل.. صح، وبه قال عطاء وعكرمة.
وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: (يجوز رميها بعد طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، ولا يجوز قبله) .
وقال الثوري، والنخعي: لا يجوز رميها قبل طلوع الشمس؛ لحديث ابن عباس.
دليلنا: ما روي «عن أم سلمة: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أمرها أن تعجل الإفاضة لترمي، وتوافي صلاة الصبح بمكة، وكان يومها من رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، فأحب أن توافيه وهي حلال» . ولأن بعد نصف الليل وقت للدفع من المزدلفة، فكان وقتا للرمي قياسا على ما بعد الفجر. وحديث ابن عباس نحمله على الاستحباب، بدليل حديث أم سلمة.
ويستحب أن يرميها من بطن الوادي، وهو أن يستدبر الكعبة ويستقبل الجمرة؛

(4/331)


لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمى جمرة العقبة وهو مستدبر للكعبة من بطن الوادي» فإن جعل الكعبة على يساره، ومنى على يمينه ورماها.. جاز؛ لما روي: (أن ابن مسعود رمى هكذا) ، وقال: (والذي لا إله إلا غيره، إن هذا هو المقام الذي أنزلت على رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فيه سورة البقرة) .
ويستحب أن يرمي راكبا، وأن يكبر مع كل حصاة؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رماها راكبا) ، و: (كان يكبر مع كل حصاة) ، ويرفع يده حتى يرى بياض إبطه. ولأن ذلك أعون للحاج على الرمي.

[فرع متى تقطع التلبية]
؟] : ولا يقطع الحاج التلبية إلا مع أول حصاة يرمي بها جمرة العقبة، ويبتدئ بالتكبير، وكذلك المعتمر لا يزال يلبي حتى يفتتح الطواف.

(4/332)


وقال مالك: (لا يلبي الحاج بعد الوقوف، وأما المعتمر: فإن أنشأ العمرة من الميقات.. فإنه يقطع التلبية إذا دخل في الحرم، وإن أحرم بها من أدنى الحل ... قطع التلبية إذا رأى البيت) .
دليلنا: ما روى الفضل بن العباس، قال: «كنت رديف رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ من جمع إلى منى، فلم يزل يلبي حتى يرمي جمرة العقبة» .
وروى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر الأسود» .
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ اعتمر ثلاث عمر فكان لا يزال يلبي حتى يفتتح الطواف» .

[فرع ما يجوز به الرمي]
ولا يجوز الرمي إلا بالحجر، فإن رمى بغيره من الكحل والزرنيخ والتوتياء وإن كان مستحجرا، أو رمى بذهب أو فضة.. لم يجزه ذلك، وبه قال مالك وأحمد.

(4/333)


وقال أبو حنيفة: (يجوز الرمي بالحجر وبكل ما كان من جنس الأرض مثل: الكحل والزرنيخ والنورة إلا الذهب والفضة، فإنه لا يجوز الرمي بهما) .
وقال داود وأهل الظاهر: (يجوز الرمي بكل شيء حتى لو رمى بعصا وبدمية.. أجزأه) ، واحتجوا: بأن سكينة بنت الحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رمت بست حصيات، فأعوزتها السابعة، فقلعت خاتمها ورمت به) .
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «عليكم بحصى الخذف» وهذا أمر بالحصى، والأمر يقتضي الوجوب. ولأنه لا يقع عليه اسم الحجر، فلم يجزه، كما لو رمى بثوب.
وأما ما روي عن سكينة: فلا حجة فيه؛ لأنها تابعية، وفعل التابعي ليس بحجة. على أنه يحتمل أنها رمته لفقير لتتصدق عليه به لا للرمي، أو يجوز أن يكون فيه فص من ياقوت أو عقيق أو فيروزج، وأيها كان.. فهو حجر يجوز الرمي به.

[فرع الأماكن التي يكره أخذ الحصى منها]
] : قال الشيخ أبو حامد: ويكره أخذ الحصى من ثلاثة مواضع:
أحدها: من الموضع النجس، مثل: الحش وغيره؛ لأن الرمي قربة، فكره بالنجس، ولكيلا يباشر النجاسة بيده.
والثاني: من المسجد؛ لأن حصى المسجد قد ثبت لها فضيلة المسجد، وتوقي الأنجاس، فكره إخراجها إلى موضع لا توقى فيه الأنجاس.
والثالث: من جمرة، ويومي بها؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (الرمي

(4/334)


قربان فما تقبل منه.. رفع، وما لم يتقبل منه.. ترك) فكره الرمي بما رد، فإن رمى بما قد رمي به.. أجزأه، سواء كان هو الذي رمى به أو غيره.
وقال أحمد: (لا يجزئه) .
وقال المزني: يجوز أن يرمي بما رمى به غيره، ولا يجوز أن يرمي بما رمى به هو.
دليلنا: (أن ابن مسعود أخذ الحصى من الجمرة، ورمى به) ، ولأنه يقع عليه اسم الحجر فأجزأه، كما لو لم يرم به. هذه طريقة البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 208] : إذ رمى بحجر رمى بها غيره أو رمى هو بها في غير هذه الجمرة، أو في هذه الجمرة في غير هذا اليوم.. أجزأه، وإن رمى هو بها في هذه الجمرة في هذا اليوم، ثم أراد رميها بها ثانيا.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يجزئه، كما لو عاد إليه الطعام الذي كفر به، فيجزئه أن يعطيه مسكينا آخر.
والثاني: لا يجزئه، ولا بد من حصاة أخرى، كما لا يجوز أن يعطي المد الثاني إلا مسكينا ثانيا.

(4/335)


[فرع كيفية الرمي وبعض صوره]
] : ويجب أن يرمي، فإن أخذ حصاة وتركها في المرمى.. لم يجزه؛ لأنه لم يرم. ويجب أن يرمي واحدة واحدة، فإن رمى بسبع حصيات مرة واحدة.. لم يجزه إلا حصاة واحدة.
وقال عطاء: يجزئه ولكن يكبر لكل حصاة تكبيرة.
وقال الأصم: يجزئه.
وقال الحسن: إن كان جاهلا.. أجزأه.
دليلنا: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمى واحدة واحدة» .
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خذوا عني مناسككم» . ولأنه نقل الخلف عن السلف، فثبت: أنه إجماع.
وإن رمى حصاة، ثم أتبعها الثانية قبل وقوع الأولى، فإن وقعت الأولى، ثم وقعت الثانية.. أجزأه. وإن وقعت الثانية، ثم وقعت الأولى.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 208] :

(4/336)


أحدهما: لا يجزئه؛ لأن هذا أبلغ من أن يرمي حصاتين دفعة في الجمع.
والثاني: يجزئه، وهو الأصح، اعتبارا برميه.
وإن رمى حصاة في الهواء فوقعت في المرمى.. لم يجزه؛ لأنه لم يقصد الرمي إلى المرمى.
وإن رمى حصاة فوقعت على أخرى، ووقعت الثانية في المرمى.. لم يجزه؛ لأن الثانية حصلت في المرمى بغير قصده. وإن رمى فوقعت على محمل أو عنق بعير أو ثوب، ثم وقعت في المرمى من غير نفض ممن وقعت عليه.. أجزأه؛ لأنها وقعت في المرمى بقصده وفعله، وإن نفضها من وقعت عليه حتى وقعت في المرمى.. لم يجزه.
وقال أحمد: (يجزئه) .
دليلنا: أنها حصلت في المرمى بغير فعله، فلم يجزه، كما لو وقعت في موضع فأخذها غيره حتى تركها في المرمى.
وإن وقعت على محمل أو عنق بعير أو ثوب إنسان، ثم وقعت في المرمى، ولم يدر: هل وقعت في المرمى بنفسها أو بتحريك ممن وقعت عليه؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، وغيره حكاهما وجهين:
أحدهما: يجزئه؛ لأن الرمي قد وجد منه وحصلت في المرمى، فالظاهر: أنها حصلت فيه بفعله؛ لأن الأصل عدم فعل غيره في حصولها فيه. .
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه يشك: هل حصلت بفعله، فيسقط الفرض عنه، أو بغير فعله، فلم يسقط الفرض عنه؟ والأصل بقاء الفرض في ذمته.
وإن رمى بحصاة وشك: هل وقعت بالمرمى أم بغيره؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما - وهو قوله القديم ـ: (أنها تجزئه) ؛ لأن الظاهر إذا رمى بها: أنها قد حصلت في المرمى.

(4/337)


والثاني ـ قاله في الجديد ـ: (أنه لا تجزئه) ؛ لأنه يشك في سقوط الفرض عنه، والأصل بقاؤه في ذمته.
وإن رمى بحصاة إلى المرمى فوقعت على مكان أعلى منه، ثم تدحرجت منه ووقعت في المرمى.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأنها حصلت في المرمى بفعله، ولم يوجد من غيره فعل في حصولها فيه.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنها لم تحصل في المرمى بفعله، وإنما حصلت فيه لعلو الموضع الذي وقعت فيه.

[مسألة موضع الذبح ووقته]
] : فإذا فرغ من رمي جمرة العقبة، فإن كان معه هدي.. ذبحه؛ لما روى أنس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما رمى جمرة العقبة يوم النحر.. رجع إلى منزله بمنى، ثم دعا بذبح فذبحه، ثم دعا بالحلاق فأعطاه شقه الأيمن فحلقه، فدفعه إلى أبي طلحة ليفرقه بين الناس، ثم أعطاه شقه الأيسر فحلقه، ثم دفعه إلى أبي طلحة ليفرقه بين الناس» .
ويجوز النحر في جميع منى، و (حدها) : ما بين بطن وادي محسر إلى جمرة العقبة: لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «منى وفجاج مكة كلها منحر» .

(4/338)


[مسألة الحلق والتقصير]
] : ثم يحلق رأسه؛ لحديث أنس. وإن قصر شعر رأسه.. جاز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] [الفتح: 27] .
فذكر الحلق والتقصير، ولم يرتب أحدهما على الآخر، فدل على: أنه مخير بينهما.
وروى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أمر أصحابه أن يحلقوا أو يقصروا» والحلق أفضل من التقصير؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] .
فذكر الحلق قبل التقصير، والعرب تبدأ بالأهم فالأهم، ولـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلق رأسه ولم يقصر» ولا يفعل إلا الأفضل.
وروى ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «رحم الله المحلقين " فقيل: يا رسول الله والمقصرين، فقال: " رحم الله المحلقين " إلى أن قال في الرابعة: " والمقصرين» فدل على: أن الحلاق أفضل.

(4/339)


والمستحب: أن يحلق جميع شعر رأسه، كما فعل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ.
وإن أراد التقصير.. فالمستحب: أن يقصر من جميع شعر رأسه كالحلق، وإن اقتصر على حلق ثلاث شعرات أو تقصيرها.. أجزأه، ولا فرق بين أن يقصر من الشعر الذي يحاذي الرأس أو من الشعر الذي نزل عن حد الرأس.. فإنه يجزئه.
وحكى ابن الصباغ وجها آخر: أنه لا يجزئه تقصير ما نزل عن حد الرأس كالمسح. وليس بشيء؛ لأن المقصود تقصير شعر الرأس، وذلك يقع على ما حاذى الرأس وعلى ما نزل عنه، بخلاف المسح: فإن المقصود منه مسح الرأس، وذلك لا يقع على ما نزل عن حد الرأس. هذا مذهبنا.
وقال مالك: (لا يجزئه إلا الأكثر) .
وقال أبو حنيفة: (لا يجزئه أقل من الربع) .
دليلنا: أنه حلق أو قصر من شعر رأسه ما يقع عليه اسم الجمع المطلق، فأجزأه، كالأكثر: على مالك، والربع: على أبي حنيفة.
ولا فرق بين أن يحلق بالموسى أو بالنورة، أو يقصره بالجلم أو بأسنانه، أو يقطعه بيده، أو ينتفه.. فإنه يجزئه؛ لأن القصد إزالته، وقد وجد.
وإن كان أصلع، فإن كان على رأسه شعرة أو شعرتان أو ثلاث.. وجب عليه إزالة ذلك، وهكذا لو كان على رأسه زغب.. وجب عليه أن يزيل منه ما يقع عليه اسم الجمع المطلق وهو ثلاث.

(4/340)


وإن لم يكن عليه شعر أصلا، بأن حلق ولا شعر عليه، أو كان قد حلق واعتمر من ساعته.. فالمستحب له: أن يمر الموسى على رأسه.
قال الشافعي: (وأحب إلي لو أخذ من شعر لحيته أو شاربه، لكي يقطع شيئا من شعره لله تعالى، ولا يجب عليه ذلك) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] [الفتح: 27] .
فخص الرأس بالحلق والتقصير، ولا يجب عليه إمرار الموسى على رأسه.
وقال أبو حنيفة: (يجب عليه إمرار الموسى على رأسه) .
دليلنا: أن الله تعالى أمر بحلق شعر الرأس، وهذا لا شعر على رأسه. فلم يتناوله الأمر.
وأما النساء: فلا يحلقن، وإنما يقصرن؛ لما روى ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ليس على النساء حلق، ولكن على النساء التقصير» . ولأن الحلق في النساء مثلة، فلم يؤمرن به.

(4/341)


قال الشافعي: (وأحب أن تجمع ضفائرها، وتأخذ من أطرافها قدر أنملة؛ لتعم الشعر كله، وإن قصرت ثلاث شعرات.. أجزأها كالرجل) .
قال ابن الصباغ: ويستحب أن يدفن ما حلق أو قصر من الشعر.

[فرع تلبيد الشعر يوجب حلقه]
] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 207] : إذا لبد شعر رأسه.. فهل يكون كمن نذر حلقه فيلزمه حلقه؟ فيه قولان، كما لو قلد الهدي وأشعره.. فهل يلزما نحره؟ فيه قولان، وكما لو وجد هديا مذبوحا مشعرا.. فهل يحل له تناوله؟ فيه قولان.

[فرع الحلق نسك وحكم تقديم نسك على آخر]
] : وهل الحلاق نسك يجب عليه فعله ويثاب على فعله، أو استباحة محظور؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه نسك يثاب على فعله، ويحصل التحلل به، وهو قول مالك وأبي حنيفة، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] [الفتح: 27] .
فأثنى الله تعالى على المتنسكين بالحلق والتقصير، فدل على: أنه نسك، إذ لا يستحق الثناء إلا بما يثاب على فعله، ولقول النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «رحم الله المحلقين " قالوا: يا رسول الله والمقصرين، فقال: " رحم الله المحلقين " إلى أن قال في الرابعة: " والمقصرين» ، فلولا أنه نسك.. لما دعا للمحلقين، ولما فاضل بينهما.
والثاني: أنه استباحة محظور؛ لأن ما كان محرما بالإحرام لا يكون نسكا، كالطيب واللباس.
إذا ثبت هذا: فإن حلق قبل أن يذبح.. جاز، وإن ذبح قبل أن يرمي.. جاز، وإن

(4/342)


حلق قبل أن يرمي، فإن قلنا: إن الحلاق نسك.. جاز. وإن قلنا إنه استباحة محظور.. لم يجز. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا قدم الحلاق على الذبح.. لزمه دم إن كان قارنا أو متمتعا، ولا شيء عليه إن كان مفردا) .
وقال مالك: (إذا قدم الحلق على الذبح.. فلا شيء عليه، وإن قدمه على الرمي.. وجب عليه الدم) .
وقال أحمد: (إذا قدم الحلاق على الذبح أو الرمي، فإن كان ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه، وإن كان عامدا.. ففي وجوب الدم عليه روايتان) .
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بمنى يوم النحر، فقال له: زرت قبل أن أرمي، فقال له: " ارم، ولا حرج "، فقال له آخر: حلقت قبل أن أرمي، فقال: " ارم، ولا حرج "، فقال له آخر: ذبحت قبل أن أرمي، فقال: " ارم، ولا حرج» .
«وروى عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقف بمنى يوم النحر للناس؛ ليسألوه، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر حتى حلقت قبل أن أنحر، فقال: " انحر، ولا حرج "، وجاءه آخر، فقال: يا رسول الله لم أشعر حتى نحرت قبل أن أرمي، فقال: " ارم، ولا حرج ". قال عبد الله: فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر.. إلا قال: " افعل، ولا حرج» .

(4/343)


[مسألة خطبة منى يوم النحر]
قال الشافعي: (ويخطب الإمام بعد الظهر بمنى يوم النحر) .
وهذا كما قال: يستحب للإمام أن يخطب بمنى يوم النحر بعد الظهر، ويعلم الناس ما يحتاجون إليه من الرمي والذبح والحلق والطواف والبيتوتة بمنى ليالي منى، وأن من أراد أن يتعجل في يومين.. فله ذلك، وغير ذلك مما يحتاج إليه. وهذه الخطبة الثالثة من الخطب الأربع المسنونات في الحج.
وقال أبو حنيفة: (لا تستحب هذه الخطبة) .
دليلنا: ما روى الهرماس بن زياد الباهلي قال: «رأيت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يوم النحر بمنى يخطب على ناقته العضباء» .
وروي «عن ابن عباس قال: خطب رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بنا بمنى يوم النحر على ناقته، بعد رميه الجمرة، فقال في خطبته: " إن هذا يوم الحج الأكبر» .
ولأن في الناس عالما وجاهلا، وبهم حاجة إلى أن يعرفهم ما يفعلون في يومهم وما بعده من المناسك، فاستحبت الخطبة لأجل ذلك.

[مسألة طواف الإفاضة أو الزيارة]
] : وإذا رمى ونحر وحلق.. فإنه يفيض إلى مكة ويطوف بالبيت، وهذا الطواف يسمى: طواف الإفاضة؛ لأنه يفيض من منى إلى مكة، ويسمى: طواف الزيارة؛ لأنه يزور البيت بعد أن فارقه ويعود إلى منى، ويسمى: طواف الفرض؛ لكونه ركنا.

(4/344)


قال القاضي أبو الطيب: ومن الناس من يسميه طواف الصدر، وليس بشيء؛ لأن طواف الصدر إنما هو طواف الوداع.
والدليل ـ على ما ذكرناه ـ: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما رمى جمرة العقبة، وذبح، وحلق.. ركب وطاف بالبيت» وهذا الطواف ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] [الحج: 29] .
وروي: «أنه قيل له: يا رسول الله إن صفية بنت حيي حاضت، فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " عقرى حلقى، أحابستنا هي؟ " فقيل: إنها قد أفاضت، فقال: " فلا إذن» فدل على: أن هذا الطواف لا بد منه. ومعنى قوله: " «عقرى حلقى» " أي: عقرها الله وحلقها، أي: أصابها العقر في حلقها.
وأول وقت هذا الطواف: إذا انتصف الليل من ليلة النحر، ولم ينص الشافعي عليه.
قال أصحابنا: ولكنه مقيس على الدفع من المزدلفة. وليس لآخره حد ـ عندنا ـ غير أن المستحب: أن يطوف يوم النحر؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف يوم النحر» .
وقال أبو حنيفة: (أول وقته: إذا طلع الفجر الثاني يوم النحر، وآخره: اليوم الثاني من أيام التشريق، فإن أخره إلى اليوم الثالث.. وجب عليه دم) .

(4/345)


دليلنا: ما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أرسل أم سلمة يوم الفجر فرمت قبل الفجر، ثم أفاضت» ولأنه إذا طاف في اليوم الثالث.. فقد طاف طوافا صحيحا، فلم يجب عليه به دم، كما لو طاف في اليوم الثاني.

[فرع تغيير النية من الزيارة إلى الوداع]
] : وإذا لم يطف للزيارة وطاف للوداع.. فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وغيرهما من أصحابنا: أنه يقع عن طواف الزيارة.
وقال أحمد: (لا يقع عنه طواف الزيارة، وإنما يقع عما عينه) .
دليلنا: أنه ركن من أركان الحج، فلم يفتقر إلى تعيين النية كالإحرام. وهذا من قولهم يدل على: أن الطواف لا يفتقر إلى تعيين النية وجها واحدا، وإنما الوجهان: في أنه هل يجب عليه القصد إلى الطواف؟ وقد مضى توجيههما.

[مسألة حل محظورات الإحرام]
وإذا رمى وحلق وطاف وسعى.. حل له جميع ما حظر عليه في الإحرام، وهو تسعة أشياء: الطيب، واللباس، وحلق الشعر، وتقليم الأظفار، وقتل الصيد، واللمس بشهوة، والوطء فيما دون الفرج، والوطء في الفرج، وعقد النكاح.
ولا يحرم عليه شيء من ذلك لأجل ما بقي عليه من رمي أيام التشريق؛ لأن للحج تحللين، فإذا أتى بهذه الأشياء.. فقد تحلل التحللين جميعا.
وأما التحلل الأول: فإن كان قد قدم السعي بعد طواف القدوم:
فإن قلنا: إن الحلاق نسك.. فإن التحلل الأول يحصل باثنين من ثلاثة: إما رمي وحلاق، أو طواف وحلاق، أو طواف ورمي. ويحصل له التحلل الثاني بفعل الثالث منها، هذا هو المشهور.

(4/346)


وقال القاضي أبو حامد المروروذي في " الجامع ": يحصل له التحلل الأول على هذا القول بالرمي وحده؛ لأن الشافعي نص في المنسكين: " الأوسط " و " الصغير " على: (أنه يتحلل بالرمي) . وفي هذين الكتابين: (الحلاق نسك) .
وإن قلنا: إن الحلاق ليس بنسك.. حصل له التحلل الأول، إما بالرمي أو بالطواف، وحصل له التحلل الثاني بالثاني.
وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا دخل وقت الرمي.. حصل له التحلل الأول وإن لم يرم، كما إذا فاته وقت الرمي.. فإنه يحصل له التحلل. وهذا ليس بشيء؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «إذا رميتم وحلقتم.. فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» فعلقه بفعل الرمي لا بدخول وقته.
إذا ثبت هذا: فإن بالتحلل الأول.. يحل له اللباس والحلق وتقليم الأظفار قولا واحدا، ولا يحل له الوطء، في الفرج قولا واحدا. وفي عقد النكاح، واللمس بشهوة، والوطء، فيما دون الفرج، وقتل الصيد.. قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يحل له) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] ، وهذا محرم. ولقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لا ينكح المحرم، ولا ينكح»

(4/347)


وهذا محرم، ولأن اللمس والقبلة بشهوة من دواعي الجماع، فإذا كان الجماع محرما.. كانت دواعيه محرمة.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يحل له هذه الأشياء) وهو الصحيح؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إذا رميتم وحلقتم.... فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» . وأما الطيب: ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان؛ لأنه من دواعي الجماع، فكان كاللمس..
و [الثاني] : منهم من قال: يحل بالتحلل الأول قولا واحدا كاللباس ـ وهو المنصوص ـ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «طيبت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت» .
وإن كان قد أخر السعي إلى ما بعد طواف الزيارة.. فإن التحلل يقف عليه؛ لأنه ركن كالطواف.

[فرع التحلل من العمرة]
وأما العمرة: فليس لها إلا تحلل واحد.
فإن قلنا: إن الحلق نسك.. لم يحصل التحلل منها إلا بالطواف والسعي والحلاق.
وإن قلنا: إن الحلق ليس بنسك.. حصل له التحلل منها بالطواف والسعي.

(4/348)


[مسألة الرمي في أيام التشريق]
] : فإذا فرغ من طواف الزيارة.. رجع إلى منى وأقام بها ثلاثة أيام بعد يوم النحر ـ وهذه الأيام تسمى: أيام الرمي، والأيام المعدودات، وأيام التشريق. فيرمي كل يوم الجمار الثلاث، كل جمرة بسبع حصيات، ويأخذ لها الحصى من أي موضع شاء، إلا من الموضع النجس، والمسجد، والجمار.
فيأتي الجمرة الأولى ـ وهي التي تلي مسجد الخيف ـ فيرميها بسبع حصيات، واحدة بعد واحدة، يكبر مع كل حصاة. فإذا فرغ من رميها.. تقدم عنها وجعلها على يساره، ووقف بحيث لا يناله الحصى، يدعو الله تعالى بقدر قراءة سورة البقرة. ثم يأتي الجمرة الوسطى فيجعلها على يمينه، ويستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات كالأولى، ثم يتجاوزها إلى الثالثة، ويولي ظهره إلى التي رماها، ويستقبل القبلة، ويدعو ويتضرع بقدر قراءة سورة البقرة. ثم يتقدم إلى الجمرة الثالثة، وهي جمرة العقبة فيجعلها على يمينه ويستقبل الكعبة ويرميها بسبع حصيات، وينصرف ولا يقف عندها: لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أفاض يوم النحر بعد الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمار إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية، فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها» وإنما وقف عند الأولى والثانية ولم يقف عند الثالثة؛ لاتساع المكان عند الأوليين، وضيقه عند الثالثة.
ويستحب له أن يرفع اليدين في الدعاء عند الجمرتين، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر.

(4/349)


وقال مالك: (لا يرفع) .
دليلنا: ما روي: «أن رسول ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يرفع يديه لذلك» .
وإن ترك الدعاء عند الجمرتين.. فلا شيء عليه.
وقال الثوري: يطعم شيئا، وإن أراق دما.. كان أحب إلي.
دليلنا: أنه موقف يستحب فيه الدعاء، فلم يجب بتركه شيء كالدعاء بعرفة.
ولا يجوز الرمي في هذه الجمار إلا مرتبا: يبدأ بالأولى، ثم بالثانية، ثم بجمرة العقبة، وبه قال أحمد ابن حنبل.
وقال أبو حنيفة: (إذا رمى منكسا.. أعاد، فإن لم يفعل.. أجزأه، ولا شيء عليه) .
دليلنا: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رماها مرتبا) وقال: " خذوا عني مناسككم» ، ولأنه نسك يتكرر، فكان الترتيب فيه شرطا كالسعي.
إذا ثبت هذا: فإن رمى الجمار الثلاث مرتبا ونسي حصاة، ولم يعلم من أي الجمار تركها.. قال الشافعي: (جعلها من الأولى فيرميها بحصاة، ثم يرمي الثانية، والثالثة؛ ليسقط الفرض بيقين) .

[فرع الرمي بعد الزوال]
ولا يجوز الرمي في هذه الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال.
وقال عطاء: إن جهل فرمى قبل الزوال.. أجزأه.

(4/350)


وقال طاووس: إن شاء.. رمى أول النهار ونفر.
وقال عكرمة: إن شاء.. رمى أول النهار، ولكن لا ينفر إلا بعد الزوال.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يرمي في اليوم الثالث قبل الزوال استحبابا) ، وحكي عنه أيضا: أنه قال: (يجوز أن يرمي في اليوم الأول والثاني قبل الزوال أيضا)
والمشهور عنه هو الأول.
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمى جمرة العقبة يوم النحر ضحى، ورمى سائر الأيام بعد ما زالت الشمس» .
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال في " الإملاء ": (يرمي عقيب الزوال قبل الصلاة) ؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «رمى رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ حين زالت الشيء» ويرمي في اليوم الأخير راكبا، وفي اليومين الأولين ماشيا، لأن في اليوم الأخير يتعقب الرمي النفر، فإذا كان راكبا.. مضى عقيب الرمي، كما يرمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا؛ لأنه يوافي من المزدلفة راكبا، وفي اليومين الأولين هو مقيم بمنى، فلم يسن له الركوب.

[فرع ما يجب بترك]
الرمي والتعريف بيومي القر والنفر الرمي والتعريف بيومي القر والنفر] : إذا ترك رمي اليوم الثالث من أيام التشريق.. سقط الرمي ولم يقض؛ لأنه فات أيام الرمي، والمشهور: أنه يجب عليه دم؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا.. فعليه دم»
وحكى أبو إسحاق المروزي في " الشرح ": أن الشافعي قال في موضع من

(4/351)


" الإملاء ": (إن ترك رمي يوم ... فعليه مد وإن ترك رمي يومين.. فعليه مدان، وإن ترك رمي ثلاثة.. فعليه دم) .
فعلى هذا: يجب في الحصاة مد إلى رمي يوم.
قال: وحكي: أنه يجب درهم في اليوم، أو ثلث دم، وهذا كله ليس بشيء.
وإن ترك رمي اليوم الأول إلى الثاني، أو ترك رمي اليوم الثاني إلى الثالث.. ففيه قولان:
أحدهما ـ وهو قوله في " الإملاء " ـ: (أن رمي كل يوم مؤقت بيومه) ؛ لأنه رمي يوم من أيام التشريق، فكان محدودا بيومه، كاليوم الثالث. ولأنه لو كان غير محدود.. لجاز تأخير رمي اليوم الأول إلى الثاني.
والقول الثاني ـ وهو الأصح المشهور ـ: أن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد، ولا يفوت رمي يوم منها إلا بخروج الأيام الثلاثة؛ لأنه يجوز لرعاء الإبل تأخير رمي يوم إلى ما بعده منها، فلو لم تكن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد.. لما جاز لهم ذلك، بخلاف اليوم الأخير؛ لأنه إذا خرج.. فقد فات وقت الرمي.
إذا ثبت هذا: فترك رمي يوم القر ـ وهو اليوم الأول من أيام التشريق ـ حتى غابت الشمس ـ وسمي يوم القر؛ لأن الناس يقرون فيه بمنى ـ فإن قلنا بالصحيح: وأن الأيام الثلاثة كاليوم.. فهل له أن يرمي عن اليوم الأول ليلة النفر، أو في يوم النفر ـ وهو اليوم الثاني من أيام التشريق ـ قبل الزوال؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\209] :
أحدهما: ليس له ذلك، حتى تزول الشمس في يوم النفر؛ لأن ذلك وقت للرمي.
والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أن له أن يرميه؛ لأن ذلك أقرب إلى وقته

(4/352)


المستحب، فيجعل ليلة النفر تبعا ليوم القر، كليلة يوم النحر تبع ليوم عرفة في الوقوف.
وإن لم يرم ليوم القر حتى زالت الشمس في يوم النفر.. فقد تدارك عليه رمي يومين، فإن رمى الجمار الثلاث مرتبا عن اليوم الأول، ثم رماها مرتبا عن اليوم الثاني.. أجزأه. وإن نوى بالرمي الأول عن اليوم الثاني.. فقد ذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: أنه يقع عن رمى اليوم الأول. وذكر في " المهذب " وجهين:
أحدهما: هذا.
والثاني: لا يجزئه عن أحدهما؛ لأنه لم يرتب.
وهكذا إذا ترك رمي اليومين الأولين إلى الثالث.. فالحكم فيه: ما ذكرناه إذا ترك رمي اليوم الأول إلى اليوم الثاني.
وإذا أراد أن يرمي رمي يوم النفر الأول في يوم القر.. فهل يجوز؟
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\209] : إن قلنا: إنه إذا فاته رمي يوم يقضيه فيما بعده.. فهل يجوز له تعجيل رمي يوم النفر إلى يوم القر؟ فيه وجهان، بناء على أنه إذا رمى الفائت في اليوم الأول في اليوم الثاني.. هل يكون قضاء أو أداء؟ فيه وجهان:
فإن قلنا: إنه أداء.. جاز له التعجيل، وكان رمي الأيام الثلاثة كلها عبادة واحدة، فيكون كالرمي في أول الوقت.
وإن قلنا: إنه قضاء.. فلا يجوز له التعجيل: لأن القضاء يكون بعد الفوات ولم يفته الرمي بعد.
وإن قلنا: إن رمي كل يوم محدود بيومه فترك رمي اليوم الأول إلى الثاني، أو الثاني إلى الثالث.. ففيه ثلاثة أقوال:

(4/353)


أحدها: يرمي في اليوم الثاني ما ترك في الأول ويريق دما، كما إذا أخر قضاء رمضان حتى دخل شهر رمضان آخر.
والثاني: لا يقضيه، ويريق دما، كرمي اليوم الثالث.
والثالث: يقضيه، ولا دم عليه، كرعاء الإبل.
فعلى هذا: إذا رمى عن اليوم الثاني قبل الأول.. جاز: لأنه قضاء، فلا يجب فيه الترتيب، كالصلوات الفائتة. وإن رمى كل جمرة بأربع عشرة حصاة: سبع عن أمسه، وسبع عن يومه.. أجزأه.
وأما إذا ترك رمي يوم النحر.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: هو كما لو ترك رمي اليوم الأول من أيام التشريق إلى الثاني، فيكون على قولين.
و [الثاني] : منهم من قال: يفوت بخروج يومه قولا واحدا؛ لأنه يخالف رمي أيام التشريق في الوقت والعدد.
والطريق الأول أصح؛ لأن الشافعي نص على أنه: (إذا فاته رمي يوم النحر حتى غربت الشمس.. كان له أن يرميه في أيام التشريق) .

[فرع ما يجب بترك الرمي]
ومن ترك رمي الجمار الثلاث في يوم.. لزمه دم؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا ... فعليه دم» . .
وإن ترك ثلاث حصيات من الجمرة الأخيرة.... لزمه دم؛ لأن ذلك جمع مطلق هذا هو المشهور.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\210] قولا آخر: أنه لا يجب الدم إلا إذا ترك جمرة العقبة أو إحدى الجمرتين الأوليين.

(4/354)


وإن ترك حصاة واحدة.. ففيه ثلاثة أقوال، كما لو حلق شعرة. وهذا إنما يتصور إذا ترك حصاة من آخر جمرة من الجمرات؛ لأنه إذا تركها من الأولى أو من الثانية ... لم يعتد له برمي ما بعدها، حتى يكمل ما قبلها.
وإن ترك رمي أيام التشريق، فإن قلنا: إن رمي كل يوم مؤقت بيومه ... لزمه ثلاثة دماء. وإن قلنا: إنها كاليوم الواحد.. لزمه دم واحد.
وإن ترك رمي يوم النحر وأيام التشريق، فإن قلنا: إن رمي كل يوم مؤقت بيومه لزمه أربعة دماء. وإن قلنا: إن أيام التشريق كاليوم الواحد، فإن قلنا: إن يوم النحر كمثلها.. لزمه دم واحد. وإن قلنا: إنه ليس كمثلها.. لزمه دمان: دم ليوم النحر، ودم لأيام التشريق.

[مسألة الاستنابة في الرمي]
] : ومن عجز عن الرمي لمرض.. جاز له أن يستنيب من يرمي عنه بأجرة، أو بغير أجرة، سواء كان المرض ميئوسا من برئه، أو غير ميئوس من برئه. والفرق بينه وبين الحج، حيث قلنا: لا يجوز الاستنابة في الحج حتى ييأس من الحج بنفسه؛ لأن الحج فرض موسع الوقت، والرمي فرض مضيق الوقت، فلو منعناه من الاستنابة فيه.. ربما فات وقته قبل الرمي.
قال الشافعي: (فإن أمكنه أن يضع الحصاة في كف من يرمي عنه ... أحببت له أن يفعل ذلك؛ ليكون له في الرمي أثر. فإن لم يفعل.. فلا شيء عليه) .
قال الشيخ أبو حامد: فإن كان محبوسا بحق أو بغير حق، لكنه منع من الرمي.. جاز له أن يأمر غيره أن يرمي عنه؛ لأنه غير متمكن من الرمي بنفسه، فهو كالمريض.
وإن أغمى عليه قبل الرمي، فإن كان قد أذن لغيره بالرمي عنه.. جاز له أن يرمي

(4/355)


عنه، وإن كان لم يأذن لغيره في ذلك.. لم يجز أن يرمي عنه. ولا يبطل إذنه بالرمي بالإغماء، كما تبطل الوكالة بالبيع والشراء؛ لأن هذا متعلق بالنسك، وذلك لا يبطل بالإغماء. ألا ترى أن المعضوب إذا أذن في الحج، ثم مات.. لم يبطل إذنه بالموت، ولو أذن له في بيع أو شراء، ثم مات.. بطل إذنه في ذلك.
فإن برئ من المرض، أو أطلق من الحبس، أو أفاق من الإغماء، فإن كان لم يرم عنه النائب.. وجب عليه أن يرمي بنفسه؛ لأن المانع قد زال. وإن كان قد رمى عنه.. فالمستحب له: أن يعيد الرمي إن كان وقت الرمي باقيا، ولا يجب عليه ذلك؛ لأن الرمي الفرض قد سقط عنه.
هذا نقل البغداديين من أصحابنا، وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 210] في وجوب إعادة الرمي قولين.

[مسألة المبيت بمنى]
ويبيت بمنى ليالي الرمي؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بات بها) فإن ترك المبيت بها.. فهل يجب عليه بذلك الدم؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا.. فعليه دم» .
والثاني: لا يجب عليه الدم، كما لا يجب الدم بترك المبيت بمنى ليلة عرفة.
فإذا قلنا: يجب المبيت، فإن ترك المبيت في الليالي الثلاث.. وجب عليه دم.
وإن ترك المبيت ليلة أو ليلتين.. ففيه ثلاثة أقوال، كما لو حلق شعرة أو شعرتين.
فإن قيل: لم أوجبتم الدم بترك المبيت ليلة الثالث، وهي مما يجوز له تركها؟

(4/356)


قيل: إنما يجوز له تركها إذا بات الليلة الأولى والثانية، فأما من لم يبت الليلة الأولى والثانية: فلا يجوز له ترك المبيت في الليلة الثالثة) .

[مسألة الرخصة لرعاة الإبل وأهل السقاية ومن يقاس عليهم]
] : ويجوز لرعاء الإبل وأهل سقاية العباس أن يتركوا المبيت بمنى ليالي الرمي، وأن يرموا يوم النحر جمرة العقبة، ثم يدعوا الرمي يوم القر، ويرموا يوم النفر ما فاتهم في اليوم الأول.
قال الطبري في " العدة ": وأهل السقاية، هم الذين يعدون السويق والماء للحجيج بمكة.
والأصل فيه: ما روى عاصم بن عدي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، ومن بعد الغد بيومين، ويرمون يوم النفر» .
وروى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أرخص للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى؛ من أجل سقايته» . وهل تختص الرخصة لأهل السقاية ممن كان من أهل بيت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:

(4/357)


أحدهما: تختص بهم، فإن استعمل عليها غيرهم.. لم يجز لهم ترك المبيت والرمي.
وبه قال مالك؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أرخص لأهل السقاية من أهل بيته» .
والثاني: يجوز ذلك لمن كان من أهل السقاية منهم ومن غيرهم، وهو المنصوص؛ لأن المعنى الذي أرخص فيه لهم لأجله موجود فيمن استعمل عليها من غيرهم، وأما الخبر: فلا حجة فيه؛ لأن العاملين عليها في زمن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كانوا من أهل بيته، فلذلك خصهم بالرخصة.
فإن أقام الرعاء بمنى حتى غربت الشمس.. لم يجز لهم ترك المبيت في هذه الليلة. وإن أقام أهل السقاية بمنى حتى غربت الشمس.. جاز لهم ترك المبيت؛ لأن الرعي لا يكون إلا بالنهار، والاشتغال بالسقاية موجود ليلا ونهارا.
وأما من كان له مال يخاف ضياعه إن بات بمنى، أو كان مريض في غير منى يشق عليه البيتوتة بمنى لأجله، أو أبق له عبد فمضى في طلبه.. فهل يجوز لهم ترك المبيت بمنى لذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز لهم ذلك؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رخص لأهل السقاية ولرعاء الإبل» ولم يرخص لغيرهم.
والثاني: يجوز؛ لأنه المعنى الذي رخص لأجله لأهل السقاية والرعاء موجود فيهم.

[فرع قضاء المعذورين للرمي]
فإن تدارك على أهل السقاية أو الرعاء أو غيرهم من المعذورين رمي يومين.. فهل يجب عليهم الترتيب في الرمي أو يستحب؟ فيه قولان. حكاهما الشيخ أبو حامد، بناء

(4/358)


على أن رمي كل يوم مؤقت بيومه، أو أن جميع أيام التشريق كاليوم الواحد ـ:
فإن قلنا: إن رمي كل يوم مؤقت بيومه.. لم يجب الترتيب، وإنما يستحب؛ لأن ما يرميه في اليوم الثاني يكون قضاء، والترتيب في القضاء لا يجب، كما إذا فاتته صلاة الظهر والعصر.. فله أن يقضي العصر أولا ثم الظهر.
فعلى هذا: يستحب له أن يرمي أول الجمرات الثلاث مرتبا لأمسه، ثم يرميها مرتبا ليومه، فإن بدأ فرماها ليومه، ثم رماها لأمسه.. جاز، وإن رمى كل جمرة بأربع عشرة حصاة: سبع عن أمسه، وسبع عن يومه.. أجزأه ذلك.
وإن قلنا: إن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد.. فإن الرمي في اليوم الثاني عن الفائت في اليوم الأول أداء، لا قضاء، فيكون الترتيب فيها واجبا، فيرمي الجمار الثلاث أولا عن أمسه، ثم يرميها عن يومه، فإن رماها ونواها عن يومه أولا.. لم تجزه عن يومه؛ لأن عليه رمي أمسه، وهل يجزئه ذلك عن أمسه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجزئه عن أمسه؛ لأنه لم ينوه عنه.
والثاني ـ وهو المذهب ـ: أنه يجزئه عن أمسه؛ لأن من عليه في الحج فرض ففعل من جنسه بنية غيره.. وقع عن فرضه، كما لو كان عليه طواف الزيارة فطاف بنية النافلة.. فإنه يقع عن طواف الزيارة.
فإن كان عليه رمي يوم النحر فرى جمرة العقبة يوم القر بأربع عشرة حصاة: سبع عن أمسه وسبع عن يومه.. أجزأه عن أمسه ولم يجزه عن يومه؛ لأن عليه رمي جمرتين قبلها. وإن نوى بالسبع الأولى عن يومه، وبالثانية عن أمسه.. لم تجزه الأولى عن يومه، وهل تجزئه الثانية عن أمسه؟
على الوجهين الأولين، فإن قلنا: تجزئه الأولى عن أمسه.. لم تجزه الثانية عن يومه؛ لأن عليه رمي جمرتين قبلها. وإن قلنا: لا تجزئه الأولى عن أمسه.. أجزأته السبع الثانية عن؛ لأن الأولى قد سقطت وصار كأن لم يرم لها.

(4/359)


[مسألة الخطبة ثاني أيام التشريق والتخيير في النفر]
] : قال الشافعي: (ويخطب الإمام بعد الظهر يوم الثالث من أيام النحر، وهو يوم النفر الأول) .
وهذا كما قال: يستحب للإمام أن يخطب يوم النفر الأول ـ وهو اليوم الثاني من أيام التشريق ـ بعد الظهر بمنى، ويعرف الناس ما بقي عليهم، وأن من أراد التعجيل بالنفر.. فله ذلك، ومن أراد التأخير.. فله ذلك، ويأمرهم أن يختموا حجهم بتقوى الله وطاعته والصدقة، ويودع الحاج، وهي الخطبة الرابعة في الحج. وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا تسن هذه الخطبة) .
دليلنا: ما «روي عن رجلين من بني بكر: أنهما قالا: (رأينا رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يخطب بمنى على ناقته أوسط أيام التشريق» . ولأن بالناس حاجة إلى هذه الخطبة؛ ليعلموا مالهم من النفر وما بقي عليهم.
إذا ثبت هذا: فإن رمى في اليوم الثاني من أيام التشريق.. فهو بالخيار: بين أن ينفر، ويترك المبيت في الليلة الثالثة، والرمي في اليوم الثالث. وبين أن لا ينفر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] . [البقرة: 203] .
فإن قيل: أما قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] : فمفهوم المعنى، وهو: أنه لا إثم عليه في التعجيل، فما معنى قوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] والتأخير فضيلة؟

(4/360)


قلنا: أراد من ترك التعجيل الذي أباحه الله ورخص فيه، وثقل على نفسه، وجلس حتى يرمي اليوم الثالث.. فلا إثم عليه في ترك الرخصة، وقيل: إن الآية وردت على سبب، وهو أن قوما قالوا: لا يجوز التعجيل، وقال آخرون: لا يجوز التأخير، فأنزل الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] .
فإن لم ينفر حتى غربت الشمس.. لزمه المبيت والرمي في اليوم الثالث.
وقال الحسن البصري: إن لم ينفر حتى دخل وقت العصر.. لم يجز له النفر.
وقال أبو حنيفة: (له أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الثالث من أيام التشريق) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] . [البقرة: 203] .
و (اليوم) : اسم للنهار، فإذا غربت الشمس.. فقد خرج اليومان.
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (من أدركه المساء في اليوم الثاني.. فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس) .

[فرع تعجيل النفر من منى]
] : وإن رحل رجل من منى فغربت الشمس وهو راحل قبل انفصاله من منى.. لم يلزمه المقام: لأن عليه مشقة في الحط بعد الترحال. وإن غابت الشمس وهو مشغول

(4/361)


بالتأهب للرحيل.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يلزمه المقام؛ لأنه لم يرحل.
والثاني: لا يلزمه؛ لأنه مشغول بالترحال، فهو كما لو كان قد رحل.
فأما إذا كان قد رحل منها، ثم رجع إليها سائرا إلى موضع أو زائرا لإنسان، أو نسي شيئا من رحله.. لم يلزمه المقام؛ لأن الرخصة قد حصلت له بالرحيل، فلم يلزمه المقام بعد ذلك، فإن بات بمنى.. لم يلزمه الرمي في اليوم الثالث لأن البيتوتة لم تلزمه.

[فرع النفر قبل الوقت المشروع]
] : إذا خرج من منى في اليوم الثاني من أيام التشريق قبل الزوال.. فسمعت الإمام العثماني من أصحابنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: لا يسقط عنه المبيت في الليلة الثالثة، ولا الرمي في اليوم الثاني، واليوم الثالث؛ لأن ذلك إنما يسقط عنه بنفر جائز، وهذا نفر غير جائز، ولأنه لو سقط عنه المبيت في الليلة الثالثة، والرمي في اليوم الثالث إذا نفر في اليوم الثاني قبل الزوال.. لسقط عنه ذلك إذا خرج من منى يوم النحر أو يوم القر، إذ لا فرق بينهما في أنه لا يجوز له النفر فيه.

[فرع رح ما بقي من حصى الجمار]
فرع: [طرح ما بقي من حصى الجمار] : فإذا نفر في اليوم الثاني وقد بقي معه حصى اليوم الثالث.. قال ابن الصباغ: فإنه يطرحها، أو يدفعها إلى من يرمي بها، فأما ما يفعله الناس من دفنها: فلا أثر فيه.

[فرع استحباب النزول في المحصب لمن شاء]
وإذا نفر من منى في اليوم الثاني من أيام التشريق، أو في اليوم الثالث.. فالمستحب: أن ينزل بالمحصب ـ وهو الأبطح، وحده: ما بين الجبل المتصل بالمقابر إلى الجبال التي في مقابلته، ويسمى: بالمحصب لاجتماع الحصباء فيه؛ لأنه موضع

(4/362)


منهبط، والسيل يحمل إليه الحصى من الجمار ـ فيصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما نفر من منى.. نزل بالمحصب فصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم هجع هجعة، ثم دخل مكة فطاف بالبيت، ثم خرج ورحل إلى المدينة» .
إذا ثبت هذا: فإن النزول فيه ليس بنسك.
وقال عمر بن الخطاب: (هو نسك)
دليلنا: ما روي «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (المحصب ليس بسنة، وإنما هو منزل نزله رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ـ) .
«وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (المحصب ليس بشيء، وإنما نزله رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ليكون أسمح لخروجه ... فمن شاء.. فعل
ومن شاء.. ترك» .

(4/363)


وروي «عن أبي رافع: أنه قال: (أنا ضربت القبة للنبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بالمحصب، ولم يأمرني به، وكان على رحل رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ـ) فدل على: أن أبا رافع فعله برأيه؛ لمصلحة الخروج إلى المدينة.

[مسألة وداع البيت الحرام]
] : قال الشافعي: (وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت، فيودع وينصرف إلى بلده) .
وهذا كما قال: إذا فرغ الحاج من الرمي، فإن كان من أهل مكة، أو من غير أهلها وأراد أن يقيم بها.. فليس عليه وداع البيت؛ لأن الوداع يراد لتوديع البيت، وهذا لا يفارق مكة. وإن كان يريد الانصراف.. فعليه أن يطوف بالبيت سبعا، ويصلي بعده ركعتين، سواء كان منزله قريبا من مكة أو بعيدا منها.
وقال أبو حنيفة: (لا توديع على من كان بالمواقيت أو دونها)
دليلنا: ما «روى ابن عباس: أن الناس كانوا ينصرفون من كل وجه، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» .

(4/364)


وهل هو نسك من مناسك الحج يجب بتركه الدم أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه نسك ويجب بتركه الدم ـ وبه قال أبو حنيفة ـ لما روى الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «لا ينفرن أحد حتى يطوف بالبيت؛ فإنه آخر نسك في الحج» فأخبر: أنه نسك.
وقد قال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا.. فعليه دم» .
والثاني: أنه ليس بنسك، فلا يجب بتركه الدم، وإنما يستحب؛ لأن كل ما لو تركه المكي لم يجب عليه به دم.. أوجب إذا تركه غير المكي أن لا يجب به دم، كالمبيت بمنى ليلة عرفة. ولأنه لو كان يجب به الدم إذا تركه من غير عذر.. لوجب به الدم وإن تركه بعذر، كالرمي.

(4/365)


إذا ثبت هذا: فإن طاف للوداع، وصلى ركعتي الطواف وانصرف من غير لبث، أو اشترى زادا في طريقه.. فقد حصل الوداع.
وإن حضرت صلاة مكتوبة فصلاها، ثم خرج.. لم يلزمه إعادة الطواف.
وقال عطاء: يلزمه؛ ليكون آخر عهده بالبيت.
دليلنا: أنه لم يشتغل عن مسيره بعد الطواف بما يتضمن الإقامة، فأجزأه، كما لو اشترى في طريقه شيئا يحتاج إليه.
وإن أقام بعد الطواف على زيارة صديق، أو شراء متاع، أو عيادة مريض فيها لبث.. فإنه يعيد طواف الوداع، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يعيد الطواف للإقامة بعده شهرا أو شهرين)
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» ولأنه إذا أقام.. خرج عن أن يكون وداعا، فكان عليه الإعادة.

[فرع الوداع يوم النحر]
إذا نوى الحاج النفر من منى بعد الرمي، فودع البيت يوم النحر بعد طواف الزيارة والسعي.. فقد اختلف أصحابنا المتأخرون فيها:
فقال الشريف العثماني: يجزئه؛ لأن طواف الوداع يراد لمن أراد مفارقة البيت، وهذا قد أراد مفارقته.
ومنهم من قال: لا يجزئه ـ وهو ظاهر كلام الشافعي، وظاهر الخبر ـ لأن الشافعي قال: (وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت) فيودع وينصرف إلى بلده.

(4/366)


وفي رواية ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ينفرن أحد حتى يطوف بالبيت؛ فإنه آخر نسك في الحج» فمنه دليلان:
أما أحدهما: فقوله: «لا ينفرن أحد» ولا يطلق النفر الجائز إلا بعد الرمي
والثاني: قوله: «فإنه آخر نسك في الحج» .

[فرع طواف الوداع إذا نوى الإقامة بمكة]
] : إذا قدم إلى مكة، فلما فرغ من أفعال الحج، نوى الإقامة بمكة.. فإنه لا وداع عليه وبه قال أبو يوسف.
وقال أبو حنيفة: (إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر الأول.. لم يسقط عنه طواف الوداع) .
دليلنا: أنه غير مفارق للبيت، فلم يلزمه وداعه، كما لو نوى الإقامة قبل زمان النفر.

[فرع رجوع الحاج لطواف الوداع]
] : إذا قلنا: يجب طواف الوداع، فخرج ولم يودع ثم رجع.. نظرت: فإن رجع قبل أن يبلغ مسافة القصر.. لم يستقر عليه الدم؛ لأنه في حكم المقيم. وإذا رجع بعد ما بلغ مسافة القصر من مكة.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\205] ، المشهور: أنه يستقر عليه الدم؛ لأنه قد صار بينه وبين البيت سفر طويل.
وقال عطاء: إن عاد بعدما خرج من الحرم.. لم يسقط عنه الدم. وإن عاد قبل أن يخرج من الحرم.. سقط عنه الدم.
دليلنا: أن الاعتبار بالقرب والبعد، وذلك يعتبر بما تقصر فيه الصلاة، فلا معنى لاعتبار الحرم.

(4/367)


[فرع ليس على المقيم الخارج إلى التنعيم وداع]
] : ذكر الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": ليس على المقيم الخارج إلى التنعيم وداع.
وقال الثوري: إن لم يودع.. فعليه دم.
دليلنا: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم، ولم يأمرها بوداع البيت» . فلو كان واجبا.. لأمرها به. ولـ: (أن عليا وابن عمر كانا يعتمران كل يوم مرة مدة مقامهما بمكة ولم ينقل: أنهما كانا يطوفان للوداع) .

[فرع وداع الحائض]
ويجوز للحائض أن تنفر بلا وداع.
وقال عمر وابن عمر وزيد بن ثابت: (عليها أن تقيم حتى تطهر ثم تطوف للوداع) .
فأما ابن عمر وزيد بن ثابت: فقد روي عنهما: (أنهما رجعا) .

(4/368)


دليلنا: ما روي: «أن صفية بنت حيي حاضت، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " أحابستنا هي؟ " فقالوا: قد أفاضت، قال: " فلا إذن " ونفر بها، ولم تودع» .
فإن نفرت الحائض من غير وداع، ثم طهرت، فإن طهرت قبل أن تفارق بنيان مكة.. عادت واغتسلت وطافت. وإن طهرت بعد أن فارقت بنيان مكة.. لم تعد؛ لأنها إذا لم تفارق البنيان.. لم تصر مسافرة، وإذا فارقته.. فقد صارت مسافرة. فإن قيل: هلا اعتبرتم مسافة القصر، كما يعتبر ذلك فيمن ترك طواف الوداع؟
قيل: الفرق بينهما: أن من ترك الوداع.. فقد ترك واجبا عليه، فلا يسقط عنه بمفارقته البنيان. وإذا كان بينهما مسافة القصر.. فلأنه أنشأ سفرا طويلا، فلذلك لم يجب عليه العود، وهاهنا لم يجب عليها. فإذا أمكنها بعد الانفصال.. عليها، كما لا يجب على المسافر إتمام الصلاة بعد الانفصال من البنيان.

[فرع لا ينتظر الركب الحائض]
] : قال الشيخ أبو نصر: لا يحبس الجمال لأجل المرأة الحائض، إذا لم تكن هي طافت طواف الإفاضة، ويقال لها: احملي مكانك مثلك.
وقال مالك: (يحبس أقصى ما يحبسها الدم، ثم تستظهر بستة أيام) .

(4/369)


دليلنا: أنه تعذر الركوب بمعنى لا يمكنها رفعه عن نفسها، فلم تحبس الجمال لأجله، كما لو مرضت.

[فرع دعاء الخروج من مكة إلى الوطن]
] : قال الشافعي في (المختصر الصغير) : (وإذا فرغ من طواف الوداع.. فالمستحب: أن يقف في الملتزم ـ وهو: ما بين الركن الأسود والباب ـ فيدعو ويقول: اللهم إن البيت بيتك، والعبد عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك، وأعنتني على قضاء مناسكك، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، هذا أوان انصرافي، إن أذنت لي غير مستبدل بك، ولا ببيتك، ولا بنبيك ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في بدني، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني) . وزاد أبو حامد في " جامعه ": واجمع لي خير الدنيا والآخرة؛ إنك على كل شيء قادر.
وما زاد فحسن؛ لأنه روي عن بعض السلف.

[مسألة أركان العمرة]
أركان العمرة: الإحرام، والطواف، والسعي. فإن قلنا: إن الحلاق ليس بنسك.. فإنه يتحلل من عمرته إذا فرغ من السعي، فتكون أفعالها ثلاثة أشياء لا غير.
وإن قلنا: إن الحلق نسك.. فإنه لا يتحلل منها إلا بالحلاق.
فعلى هذا: أفعالها أربعة أشياء.

(4/370)


والدليل ـ على ذلك ـ: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: خرجنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فمنا من أهل بالحج، ومنا من أهل بالعمرة، ومنا من أهل بالحج والعمرة، وأهل رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بالحج. فأما من أهل بالعمرة: فأحلوا حين طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، وأما من أهل بالحج والعمرة: فلم يحلوا إلا يوم النحر» .

[فرع الطواف والسعي في القران]
] : وإن قرن بين الحج والعمرة.. فلا خلاف بين أهل العلم: أنه يكفيه لهما حلاق واحد.
وأما الطواف والسعي: فيكفيه ـ عندنا ـ لهما طواف واحد وسعي واحد، غير أنا نستحب له طوافين وسعيين، وبه قال جابر بن عبد الله. ومن التابعين: عطاء وطاووس، ومجاهد والحسن. ومن الفقهاء: ربيعة ومالك.
وقال علي وابن مسعود: يجب على القارن طوافان وسعيان، وبه قال أهل

(4/371)


العراق، والنخعي، والشعبي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وتفصيل مذهب أبي حنيفة، هو أنه يقول: (على القارن أن يطوف ويسعى لعمرته قبل الوقوف بعرفة، ثم يطوف ويسعى لحجه بعد الوقوف، فإن لم يطف ولم يسع لعمرته حتى وقف بعرفة.. انقضت عمرته، وثبت الحج، فإذا قضى عمرته.. كان عليه دم) .
دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من جمع بين الحج والعمرة أجزأه لهما طواف واحد، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا» .
وروي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك» .
ولأنه يكتفى بحلاق واحد، فاكتفي بطواف واحد وسعي واحد، كالمفرد.

(4/372)


[مسألة أركان الحج ومسنوناته وهيئاته]
] : ذكر الشيخ أبو حامد: أن الحج يشتمل على أركان ومسنونات وهيئات.
فالأركان: أربعة: الإحرام، والوقوف بعرفة، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة. فمن ترك ركنا منها.. لم يحل من إحرامه ولم يجبر بالدم.
وأما المسنونات ـ وسماها صاحب " المهذب " الشيخ أبو إسحاق: الواجبات ـ فهي: ما لا يؤثر تركها في التحلل، وينجبر بالدم. وهي ستة أشياء:
فشيئان لا خلاف فيهما، وهما: الإحرام من الميقات، والرمي.
وأربعة أشياء للشافعي في كل واحد منها قولان، وهي: الوقوف بعرفة إلى أن تغرب الشمس، والمبيت بالمزدلفة، والمبيت بمنى ليالي الرمي، وطواف الوداع.
وأما الهيئات ـ وسماها الشيخ أبو إسحاق: المسنونات ـ وهي: طواف القدوم، والرمل، والاضطباع، واستلام الركن، وتقبيله، والسعي في موضع السعي، والمشي في موضع المشي، والخطب، والأذكار. فإذا تركها أو ترك شيئا منها ... لم يؤثر تركها بالتحلل، ولم يجب على من تركها دم.

[مسألة دخول الكعبة وفضيلة المسجد الحرام على بقية المساجد]
] : قال الشافعي: (وأستحب دخول البيت لكل أحد) ؛ لما روى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من دخل البيت.. دخل في حسنة، وخرج من سيئة، وخرج مغفورا له» . ويستحب أن يصلي فيه؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف

(4/373)


صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة صلاة في مسجدي» .

[فرع فضيلة الشرب من ماء زمزم ونبيذ السقاية]
] : ويستحب أن يشرب من ماء زمزم ويتضلع منه؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «ماء زمزم لما شرب له»
وروى عطاء: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما أفاض. نزع هو لنفسه بدلو مرتين من ماء بئر زمزم، ولم ينزع معه أحد، فشرب منه، ثم أفرغ باقي الدلو في البئر» .
قال ابن الصباغ: ويستحب أن يشرب من نبيذ السقاية؛ لما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أتى السقاية ليشرب منها، فقال له العباس: إنه نبيذ، قد خاضت فيه الأيدي، ووقع

(4/374)


فيه الذباب، ولنا في البيت نبيذ صاف، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " هات " فشرب منه» .
ولا يشرب من النبيذ إلا ما لم يكن مسكرا.

[مسألة الخروج من مكة]
وإذا خرج من مكة.. استحب له أن يخرج من أسفلها؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل من أعلاها، وخرج من أسفلها» .
قال أبو عبد الله الزبيري: ويخرج وبصره يتبع البيت حتى يكون آخر عهده به.

[فرع أفضلية مكة على المدينة]
مكة ـ عندنا ـ أفضل من المدينة.
وقال مالك: (المدينة أفضل من مكة) ؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «المدينة خير البقاع» .
ولقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «المدينة خير من مكة» .
دليلنا: ما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «صلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف

(4/375)


صلاة في غيره، وصلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة، وصلاة في المسجد الأقصى تعدل خمسمائة صلاة» فدل على: أن مكة أفضل.
وروي «عن عبد الله بن عدي قال: سمعت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وهو واقف بالحزورة في سوق مكة يقول: " إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليه، والله لولا أني أخرجت منك ما خرجت» .
وأما قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «المدينة خير البقاع» فأراد بعد مكة، بدليل ما ذكرناه.
وأما قوله: «المدينة خير من مكة» أراد أن أهل المدينة خير من أهل مكة؛ لأنهم آووه ونصروه، وأهل مكة قاتلوه وأخرجوه، ولهذا قال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «كل البلاد فتحت بالسيف إلا المدينة، فإنها فتحت بـ: لا إله إلا الله "، وروي بـ: " القرآن» .

(4/376)


[مسألة زيارة القبر الشريف]
] : ويستحب زيارة قبر رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ؛ لما روي عن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أنه قال «من حج ولم يزرني.. فقد جفاني» ذكره الشيخ أبو حامد.
وروى ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من زار قبري.. وجبت له الجنة» .

(4/377)


وروي عنه ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من زارني بعد وفاتي.. فكأنما زارني في حياتي» .
وروي عنه ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أنه قال. «من زار قبري.. وجبت له شفاعتي»
وحكى العتبي قال: كنت جالسا عند قبر رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ إذ جاء أعرابي فسلم على

(4/378)


النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ثم قال: يا رسول الله سمعت الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] [النساء: 64] .
وقد جئتك مستغفرا من ذنبي، مستشفعا بك إلى ربي، وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيناي، فنمت. فرأيت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النوم يقول: يا عتبي، الحق الأعرابي وبشره بأن الله قد غفر له.
ويستحب لمن زار قبر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أن يصلي في مسجده: لما ذكرناه من الخبر
وبالله التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل

(4/379)