البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب النذر]
الأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] [الإنسان: 7] .
فمدحهم على الوفاء بالنذر.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه»
إذا ثبت هذا: فإنه لا يصح النذر إلا من مسلم بالغ عاقل، فإن نذر الكافر لم يصح نذره، ولم يلزمه الوفاء به إذا أسلم.
ومن أصحابنا من قال: يصح، ويلزمه الوفاء به إذا أسلم؛ لما روي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أوف بنذرك» .

(4/471)


والأول أصح؛ لأنه معنى وضع لإيجاب القربة، فلم يصح من الكافر، كالإحرام بالحج. وأما الخبر: فنحمله على الاستحباب.
ولا يصح النذر من الصبي والمجنون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ولأنه إيجاب حق بالقول، فلم يصح من الصبي والمجنون كالضمان. وفيه احتراز من إيجاب الزكاة في ماله، وأرش جنايته، ونفقة أقاربه في ماله.

[مسألة لا صحة للنذر إلا بالقول]
] : ولا يصح النذر إلا بالقول، وهو أن يقول: علي لله كذا، أو علي كذا وإن لم يقل لله؛ لأن القربة لا تكون إلا لله. وهذا في غير الهدي والأضحية، وهل يفتقر النذر في الهدي والأضحية إلى القول؟ فيه قولان، مضى ذكرهما في الأضحية.

[مسألة لزوم النذر]
] : ويلزم بالنذر جميع الطاعات؛ لما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» فإن نذر أن يزني، أو يشرب الخمر، أو يقتل من لا يجب قتله لم يجب نذره؛ لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
وإن نذر أن يذبح ولده أو أباه أو نفسه لم يصح نذره، ولم يلزمه بذلك شيء وبه قال أبو يوسف.
وقال أبو حنيفة ومحمد: (إذا نذر أن يذبح عبده أو والده لم يصح، ولم يلزمه شيء، وإن نذر أن يذبح ولده أو نفسه لزمه شاة) .

(4/472)


وعن أحمد روايتان:
أحدهما: (يلزمه ذبح كبش) .
والثانية: (تلزمه كفارة يمين) ، وهذه الرواية مذهب سعيد بن جبير، وتعلقوا بما روي عن ابن عباس: أنه قال: (من نذر ذبح ولده فعليه شاة) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملكه ابن آدم» وهذا أولى من قول ابن عباس.

[فرع في نذر صوم يوم محرم أو فعل مباح]
] : وإن نذر أن يصوم يوم الفطر أو يوم النحر أو أيام التشريق لم يصح نذره، ولم يلزمه بذلك شيء.
وقال أبو حنيفة: (ينعقد نذره، ويلزمه أن يصوم في غير هذه الأيام، فإن صام فيها أجزأه) .
دليلنا: أنه نذر صوم وقت لا يصح فيه الصوم بحال، فلم ينعقد نذره، ولم يلزمه لأجله شيء، كما لو نذر صوم الليل.
وإن نذرت المرأة صوم أيام حيضها لم ينعقد نذرها، ولم يلزمها لأجله شيء.
وقال الربيع: يلزمها كفارة يمين - وهو مذهب أحمد - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر

(4/473)


كفارة يمين» قال أصحابنا: وهذا من كيس الربيع.
والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر في معصية الله» ، والخبر محمول على نذر اللجاج. وإن نذر فعل شيء من المباحات، كالأكل والشرب والنوم وما أشبهه لم يلزمه بذلك شيء.
وقال أحمد: (ينعقد نذره، ويكون بالخيار: بين الوفاء بنذره، وبين كفارة يمين)
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقف في الشمس، ولا يتكلم، ويصوم، فقال: " مروه فليقعد، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه» .

[مسألة نذر التبرر واللجاج]
] : وإن نذر طاعة فهو على ضربين: نذر تبرر وقربة، ونذر لجاج وغضب.
فأما نذر التبرر والقربة: فينظر فيه: فإن علقه على إصابة خير أو دفع شر، بأن يقول: إن رزقني الله مالا، أو ولدا، أو علما، أو شفى الله مريضي، أو نجاني الله من الحبس وما أشبهه، فعلي لله أن أصوم، أو أتصدق، وما أشبههما من القرب فهذا نذر صحيح، فإن رزقه الله ما رجا، أو دفع عنه ما خاف لزمه الوفاء بما نذره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 77]

(4/474)


[التوبة: 75 - 77] فذمهم الله على ترك الوفاء بنذرهم، وعاقبهم على تركه.
وروى ابن عباس: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: يا رسول الله إن أمي أو أختي ركبت البحر، فنذرت إن نجاها الله أن تصوم، فماتت قبل أن تصوم، فأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تصوم عنها» .
وإن لم يعلق ذلك على شيء، بأن قال ابتداء: علي لله أن أصوم، أو أتصدق فهل يلزمه بذلك شيء؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، وأبي بكر الصيرفي -: أنه لا يلزمه شيء، ولكن يستحب له الوفاء به؛ لأن ما يلزم الإنسان نفسه من الحقوق حقان: حق للآدمي وحق لله، ثم وجدنا أن حق الآدمي يلزم عليه إذا كان بعوض، وهو عقود المعاوضات، وأما ما كان بغير عوض، كالهبة: لا يلزم عليه بالقول من غير قبض، فكذلك حقوق الله تعالى.
والوجه الثاني: يلزمه النذر، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» ولم يفرق. ولأنه ألزم نفسه قربة ما، لا على وجه اللجاج والغضب، فلزمه الوفاء به، كما لو نذر أضحية فإنهما وافقا على ذلك.
وأما نذر اللجاج والغضب: فبأن ينذر طاعة، ويخرج نذره مخرج اليمين بأن يمنع نفسه من فعل شيء، أو يلزم نفسه شيئا، مثل أن يقول: إن كلمت فلانا فلله علي كذا، ويريد منع نفسه من كلامه، أو يقول: إن فعلت كذا فلله علي كذا، أو إن لم أفعله فمالي صدقة أو في سبيل الله، فإن لم يكن المنذور حجا ولا عمرة فالمشهور

(4/475)


من المذهب: أنه إذا وجد الكلام أو ما علقه فهو بالخيار: بين الوفاء بما نذره، وبين أن يكفر كفارة يمين.
وحكى الطبري في " العدة ": أن الشيخ أبا حامد حكى للشافعي قولا آخر: (أنه يلزمه كفارة يمين وله إسقاطها، بأن يفي بما نذر إن كان أكثر من الكفارة، وإن كان أقل لم يكن له ذلك) ، وهو قول عطاء، كما نقول فيمن ملك خمسا من الإبل: إنه يلزمه إخراج شاة، وله إسقاط تلك الشاة بإخراج بعير منها. قال الطبري: وهذا أجري على القياس.
وقال أبو حنيفة: (يلزمه الوفاء بما نذر) . وقد قيل: إنه قول ثالث للشافعي، وليس بشيء.
دليلنا - للقول الأول -: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف بالمشي، أو بالهدي، أو جعل ماله في سبيل الله، أو في المساكين، أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة يمين» . ولأنه يشبه اليمين من حيث إنه قصد منع نفسه من فعل شيء، أو إلزامها فعل شيء، ويشبه النذر من حيث إنه ألزم نفسه قربة في ذمته، فخير بين موجبيهما، وهذا معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر كفارة يمين» . وإن كان المنذور في اللجاج والغضب حجا أو عمرة، وقلنا بالمشهور: أن المنذور لا يتحتم عليه فعله فهل يتحتم عليه فعل الحج والعمرة، أو يكون مخيرا بين فعلهما وبين كفارة اليمين؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد في " التعليق " قولين:

(4/476)


أحدهما: يلزمه الوفاء به ويتحتم عليه؛ لأن الحج لما لزمه بالدخول فيه لزمه بالنذر.
والثاني: لا يتحتم عليه فعله، بل له أن يكفر كفارة يمين: لما رويناه في حديث عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف بالمشي فكفارته كفارة يمين» .
وأما قول الأول: إن الحج يلزم بالدخول فيبطل عليه بالعتق؟ فإنه يلزمه بالدخول، ثم لا يلزمه في اللجاج والغضب.

[مسألة حكم النذر بجميع المال وبعتق رقبة]
] : إذا نذر أن يتصدق بماله لزمه أن يتصدق بجميع ماله.
وقال أحمد في إحدى الروايتين: (يلزمه أن يتصدق بثلث ماله) .
دليلنا: أن اسم المال يعم جميع المال، فلزمه الوفاء به.
فإن نذر عتق رقبة وأطلق قال الشافعي: (فأي رقبة أعتق أجزأه) .
فمن أصحابنا من قال: تجزئه أي رقبة كانت صحيحة أو معيبة، مؤمنة كانت أو كافرة، وهو ظاهر النص؛ لأن اسم الرقبة يقع عليها.
ومنهم من قال: لا يجزئه إلا عتق رقبة تجزئ في الكفارة؛ لأن مطلق النذر محمول على المعهود في الشرع، وتأول هذا القائل كلام الشافعي أنه أراد: مما يجزئ في الكفارة.

[فرع نذر عتق رقبة معينة]
] : وإن نذر أن يعتق رقبة بعينها لزمه إعتاقها، ولا يزول ملكه عنها بنفس النذر، فإن أراد بيعها، أو إبدالها بغيرها لم يجز؛ لأنها تعينت للعتق. وإن تلفت الرقبة أو أتلفها مالكها لم يلزمه إبدالها؛ لأن العتق حق للرقبة، وقد تلفت. وإن أتلفها أجنبي لزمه دفع القيمة إلى المالك، ولا يلزمه صرف ذلك إلى رقبة أخرى؛ لما ذكرناه من المعنى، بخلاف الهدي، فإن الحق فيه للفقراء وهم موجودون.

(4/477)


[مسألة لزوم ما سماه وعينه بالنذر وحكم المطلق]
] : إذا سمى هديا بعينه، مثل أن يقول: علي لله أن أهدي هذا الثوب أو هذا التمر أو هذه الشاة لزمه ما سماه وعينه، جيدا كان أو رديئا؛ لأنه قد ألزم نفسه ذلك.
وإن قال: علي لله أن أهدي وأطلق ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يهدي ما شاء مما يتمول، حتى لو أهدى زبيبة أو تمرة أجزأه) لأنه يقع عليه اسم الهدي لغة وشرعا: أما اللغة: فإنه يقال: أهدى فلان إلى فلان دجاجة أو بيضة.
وأما الشرع: فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال في الجمعة: «من راح في الساعة الأولى فكأنما أهدى بدنة - إلى أن قال -: ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما أهدى دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما أهدى بيضة» .
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجزئه إلا هدي من النعم: إما جذع من الضأن، أو ثني من الإبل أو البقر أو المعز) - وبه قال أحمد وأبو حنيفة - لأن إطلاق الهدي في الشرع إنما ينصرف إلى ذلك، بدليل: أن الله تعالى قال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] فأطلق ذلك، والمراد به ما ذكرناه، وكذلك المطلق في النذر.
فإن قال: علي لله أن أهدي بقرة أو شاة، فإن قلنا بالقول الأول أجزأه ما يقع عليه اسم البقرة والشاة. وإن قلنا بالثاني لم يجزه إلا ما يجزي في الأضحية.
وإن قال: علي لله أن أهدي الهدي لزمه الهدي المعهود في الشرع قولا واحدا؛ لأن الألف واللام للعهد، والعهد في الشرع ذلك.

(4/478)


[فرع نذر شاة في ذمته أو عينها وذبح عنها بدنة أو بقرة]
] : وإن نذر أن يهدي شاة في ذمته، فإن ذبح شاة كان جميعها واجبا، ولا يجوز له أكل شيء منها، وإن ذبح عنها بدنة أو بقرة أجزأه؛ لأنها تجزئ عن سبع من الغنم، وهل يكون الجميع واجبا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الجميع واجب، فلا يجوز له أكل شيء منها؛ لأنه مخير بينهما، فأيهما فعل كان واجبا.
والثاني: أن الواجب سبعها لا غير؛ لأنها تقوم مقام سبع من الغنم.
قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا: يلزمه أن يتصدق بسبعها، وله أن يأكل الباقي.
وإن نذر أن يهدي شاة بعينها لزمه أن يذبحها، فلو أراد أن يذبح عنها بقرة أو بدنة فالذي يقتضي المذهب: أن ذلك لا يجزئه؛ لأنها قد تعينت للقربة، فلا يجوز العدول عنها إلى غيرها، كما نقول في العتق.

[مسألة نذر بدنة وأطلق أو عينها بالنية]
] : قال الشافعي: (ومن نذر بدنة لم يجزه إلا ثني أو ثنية، والخصي يجزي، فإذا لم يجد بدنة فبقرة ثنية، وإذا لم يجد فسبع من الغنم تجزئ ضحايا. وإن كانت نيته على بدنة من الإبل لم يجزه من البقر والغنم إلا بقيمتها) .
قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: إذا نذر بدنة فإن أطلق ولم ينو حيوانا بعينه فإنه يخرج بدنة، وهي: الثنية من الإبل التي استكملت خمس سنين، أو ثنيا ذكرا من الإبل، وهو الذي استكمل خمس سنين، ويجزئه الخصي؛ لأنه أرطب لحما وأوفر.
فإن لم يجد بدنة أجزأته ثنية من البقر، فإن لم يجد ثنية من البقر أجزأه سبع من الغنم، تجزئ كل واحدة في الأضحية لأن مطلق النذر يحمل على المعهود في الشرع، وقد تقرر في الشرع: أن البقرة تقوم مقام البدنة، وأن السبع من الغنم تقوم مقام البقرة عند عدمها، هذا هو المنصوص.

(4/479)


ومن أصحابنا من خرج وجها آخر: أنه مخير: بين البدنة والبقرة، والسبع من الغنم؛ لأن للشافعي قولا آخر - حكاه أبو إسحاق فيمن لزمه بدنة بالوطء في الحج - (أنه مخير بينها، وبين البقرة، والسبع من الغنم) .
وأما صاحب " العدة ": فقال هاهنا: هذا إذا قلنا: إن مطلق النذر يحمل على المعهود في الشرع، فأما إذا قلنا بقوله القديم: (وأنه يجزئه ما يقع عليه الاسم) فلا يجزئه البقرة ولا الغنم هاهنا؛ لأن اسم البدنة من جهة اللسان غير واقع على هذين الجنسين.
قلت: وهذا تفصيل حسن.
وأما إذا نوى - بقوله: بدنة - البدنة من الإبل فقال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: فإن كانت البدنة موجودة لزمه إخراجها، ولم تجزه البقرة ولا الغنم وجها واحدا؛ لأن نيته قطعت جواز العدول إلى غيرها، فتعينت عليه، وإن كانت البدنة معدومة ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز الانتقال إلى البقرة، بل تكون في ذمته إلى أن يجدها؛ لأنها قد تعينت عليه بالنذر.
والثاني - وهو المنصوص -: أنه يجزئه الانتقال إلى البقرة بالقيمة؛ لأنه وإن عين البدنة فإنه يتعين عليه هدي شرعي، والهدي الشرعي له بدل.
فعلى هذا: يقابل بين قيمة البدنة وقيمة البقرة، فإن كانت قيمتهما سواء، أو كانت قيمة البقرة أكثر أخرج البقرة وأجزأه. وإن كانت قيمة البقرة أقل لزمه إخراج البقرة ولزمه أن يتصدق على المساكين بفضل قيمة البدنة على البقرة؛ لأنه ألزم نفسه أمرين مقصودين: النحر، وتفرقة اللحم، فلزمه الإتيان بأكثرهما.

(4/480)


والفرق بين هذه، وبين التي قبلها حيث لم تعتبر القيمة في الأولى؛ لأنه إذا أطلق البدنة انصرفت إلى الإبل بمعهود الشرع، ومعهود الشرع فيها: أن تقوم البقرة فيها مقامها من غير تقويم. وإذا نوى البدنة من الإبل فقد وجبت بإيجابه، فإذا أعوزته كان عليه أكثر الأمرين: مما يقوم مقامها في الشرع، أو قيمتها، كما نقول فيه - إذا أتلف الهدي المعين -: أن عليه أكثر الأمرين: من قيمته، أو هدي مثله.

[مسألة النذر لأفضل بلد أو مطلقا]
] : إذا نذر الهدي للحرم أو لأفضل بلد، أو لأشرف بلد لزمه ذلك بمكة، لأنها أفضل البلاد وأشرفها.
وإن نذر الهدي لبلد غيرها وسماها لزمه صرفه إلى البلد التي سماها؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا - مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية - قال: " لصنم " قالت: لا، قال: " لوثن " قالت: له، قال: " أوفي بنذرك» .
قال أبو عبيد الهروي: (الصنم) : ما اتخذ آلهة مما له صورة. و (الوثن) : ما اتخذ آلهة مما لا صورة له.
وإن قال: لله علي أن أهدي، وأطلق ففيه وجهان:
أحدهما: يصرفه حيث شاء من البلاد؛ لأن اسم البلاد يقع عليه.
والثاني: لا يجزئه إلا في الحرم، حملا على الهدي المعهود في الشرع.

(4/481)


ويشبه أن يكون هذان الوجهان مأخوذين من القولين فيمن أطلق نذر الهدي هل يلزمه ما يقع عليه الاسم من تمرة أو زبيبة أو غير ذلك، أو لا يجزئه إلا ما يجزئ من الأنعام في الهدي؟ وفيه قولان، مضى بيانهما.

[فرع مؤنة نقل الهدي والنذر من غيرالنعم]
فرع: [مؤنة نقل الهدي والنذر من غير النعم] : قال الطبري: وهل يلزمه مؤنة نقل الهدي؟ ينظر فيه: فإن قال: لله علي أن أهدي لزمته مؤنة نقله، وإن قال: جعلته هديا لم يلزمه، بل يباع من ذلك للمؤنة.
قال الطبري: وإن نذر حيوانا غير النعم من طائر أو دابة لزمه أن يتصدق به حيا على فقراء مكة. فإن كان الهدي من النعم لزمه أن يذبح ذلك، ويسلمه إليهم بعد الذبح، فإن سلمه إليهم قبل الذبح لم يجزه، كالهدي الواجب بالشرع.

[فرع النذر لرتاج لكعبة أو لمسجد بعينه أو مطلقا]
فرع: [النذر لرتاج الكعبة أو لمسجد بعينه أو مطلقا] : وإن نذر الهدي لرتاج الكعبة صرف إلى كسوة البيت - وأهل الرتاج: الباب - وهكذا إن نذر ذلك لعمارة مسجد لزمه صرفه فيما عينه له. وإن أطلقه فوجهان:
أحدهما: يلزمه صرفه إلى مساكين ذلك البلد؛ لأن الهدي المعهود في الشرع ما يصرف إلى المساكين.
والثاني: يصرفه في أي وجه شاء من وجوه القرب في ذلك البلد؛ لأن الاسم يقع عليه.
وأصل هذين الوجهين: القولان فيما ينصرف إليه مطلق الهدي.
فإن كان ما نذره مما لا يمكنه نقله كالدار والأرض لزمه أن يبيعه ويصرف ثمنه إلى فقراء البلد الذي سماه؛ لما روي: أن امرأة سألت ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -:

(4/482)


أنها نذرت أن تهدي دارا، فقال: (بيعيها، وتصدقي بثمنها على مساكين الحرم) ولأنه لا يمكن نقله، فنقل ثمنه.

[مسألة ينحر ويفرق اللحم حيث نذر]
] : قال الشافعي: (ولو نذر أن ينحر بمكة لم يجزه أن ينحر بغيرها، ولو نذر أن ينحر بغيرها لم يجزه إلا حيث نذر؛ لأنه وجب لمساكين ذلك البلد) .
وهذا كما قال: لو نذر النحر بمكة والتفرقة فيها لزمه الأمران جميعا بها، وإن نذر النحر بمكة وأطلق لزمه النحر بها، وهل يلزمه تفرقة اللحم بها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه تفرقة اللحم بها، بل يفرقه في أي موضع شاء؛ لأنه نذر فيها أحد مقصودي الهدي، فلم يلزمه الآخر، كما لو نذر التفرقة بها دون النحر.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يلزمه تفرقة اللحم بها؛ لأنه إذا لزمه النحر بها تعينت التفرقة فيها، كالهدايا الواجبة بالشرع.
وإن نذر النحر والتفرقة في بلد غير الحرم لزمه ذلك، وإن نذر النحر بها وأطلق فنقل المزني: (أنه يلزمه) واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: يلزمه النحر في ذلك البلد، والتفرقة فيه؛ لأن ذكر النحر يتضمن التفرقة فيه.
ومنهم من قال: لا يلزمه النحر ولا التفرقة؛ لأن النحر في غير الحرم لا قربة فيه، فلم يتضمن التفرقة، قال: وأخطأ المزني في نقله؛ لأن الشافعي ذكر في " الأم " [2/231] (إذا نذر أن ينحر في بلد ويفرق اللحم به لزمه) فأسقط المزني قوله: (ويفرق) .

(4/483)


[مسألة فيمن نذر صلاة أو ركوعا أو سجودا]
] : إذا نذر أن يصلي أربع ركعات أو غير ذلك لزمه ما سمى. وإن نذر أن يصلي وأطلق ففيه قولان:
أحدهما - وهو قوله القديم -: (أنه يلزمه ركعة) ؛ لأن الركعة صلاة شرعية، وهي: الوتر، فلم يلزمه أكثر منها.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يلزمه ركعتان) - وبه قال أبو حنيفة وأحمد - وهو الصحيح؛ لأن أقل صلاة وجبت في الشرع ركعتان.
وإن قال: علي لله ركوع عنه ففيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما: لا يلزمه شيء؛ لأن الركوع بانفراده ليس بقربة.
والثاني: يلزمه ركعة تامة حملا على المعهود في الشرع.
وإن نذر السجود فالذي يقتضيه المذهب: أنه يلزمه؛ لأن السجود بانفراده قربة، وهو سجود التلاوة، وسجود الشكر.

[فرع نذر الصلاة في المساجد الثلاثة أو في غيرها]
] : وإن نذر الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة - وهي: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى - انعقد نذره بالصلاة، ولم تتعين عليه الصلاة في المسجد الذي عينه؛ لأن غير المساجد الثلاثة متساوية في الفضيلة. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن نذر صلاة الفرض في مسجد غير المساجد الثلاثة فانتقل إلى غيره، فإن كان الذي انتقل إليه: الجمع فيه أعظم وأكثر جاز.

(4/484)


وظاهر كلامه يدل على: أنه تلزمه صلاة الفرض في المسجد الذي عينه بالنذر إن كانت فيه جماعة، وله أن يسقط ذلك بأن يصلي مع جماعة أكثر منها.
فإن قيل: أليس لو نذر الصوم في يوم بعينه لم يجز له أن يصوم في غيره؟ فكيف جاز إذا نذر الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة أن يصلي في غيره؟
فالجواب: أن النذر مردود إلى أصل الشرع، وقد وجب الصوم بالشرع في زمان بعينه، فلذلك تعين بالنذر، وليس كذلك الصلاة؟ فإنها لم تتعين بالشرع في مكان بعينه، فلذلك لم تتعين بالنذر.
وإن نذر أن يصلي في المسجد الحرام لزمه أن يصلي فيه، فإن صلى في غيره لم يجزه عن النذر.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يصلي في غيره) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في المسجد الحرام: تعدل مائة ألف صلاة في غيره من المساجد» فلا يجوز أن يسقط نذره بالصلاة فيه في غيره.
وإن نذر أن يصلي في مسجد المدينة، أو في المسجد الأقصى فهل يتعينان بالنذر؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يتعينان بالنذر؛ لأنه مسجد لا يجب قصده بالنسك، فلم يتعين بنذر الصلاة فيه، كسائر المساجد.
فعلى هذا: يصلي في أي موضع شاء.
والثاني: يتعينان؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» .
فعلى هذا: إذا نذر الصلاة فيهما فصلى في المسجد الحرام سقط نذره لأن الصلاة فيه أفضل من الصلاة فيهما.
فإن صلى في مسجد المدينة ما نذر أن يصلي في المسجد الأقصى أجزأه لما روي: «أن رجلا قال: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صل هاهنا "، فأعادها عليه ثلاثا، وهو يقول

(4/485)


" صل هاهنا» ولأن الصلاة فيه أفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في المسجد الحرام: تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد، وصلاة في مسجدي هذا: تعدل ألف صلاة، وصلاة في المسجد الأقصى: تعدل خمسمائة صلاة» .

[فرع تعليق النذر بمشيئة رجل]
] : قال الطبري: إذا قال: لله علي نذر صلاة أو هدي إن شاء فلان نظر: فإن أراد تعليق عقد النذر على مشيئته لم يصح؛ لأن العقود لا تتعلق بالصفات. وإن أراد به عقد النذر في الحال إلا أنه علق رفعه على مشيئة فلان فلا يكون نذر تبرر، قال: فيخرج على الأقوال الثلاثة المخرجة في نذر اللجاج والغضب.

[مسألة صوم يوم بعينه أو مطلقا أو نصفه]
] : وإن نذر الصوم وأطلق لزمه صوم يوم؛ لأن أقل الصوم يوم. وإن نذر صوم يوم بعينه فالمشهور من المذهب: أنه لا يصح أن يصوم عنه يوما قبله؛ لأن الصوم يتعين في زمان يوم بعينه في الشرع، فكذلك في النذر.
وقال بعض أصحابنا: يجوز أن يصوم عنه يوما قبله - وبه قال أبو يوسف - وليس بشيء.
وإن نذر صوم نصف يوم، أو صوم اليوم الذي هو فيه ولم يكن أكل قبل ذلك ففيه قولان، حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما: لا يلزمه شيء، وهو المشهور؛ لأن ذلك ليس بصوم.
والثاني: يلزمه صوم يوم؛ لأن ذلك يتضمن إيجاب صوم يوم بعينه.

(4/486)


وإن كان قد أكل قبل النذر، فإن قلنا: لا يلزمه إذا لم يأكل فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: يلزمه فهاهنا وجهان.

[فرع نذر الصوم في الحرم]
] : ذكر في " العدة ": إذا نذر أن يصوم أو يصلي في الحرم فقال صاحب " التلخيص ": لا يجوز في غيره.
وقال أصحابنا: أما الصلاة: فكما قال، وأما الصوم: فلا يختص بالحرم؛ لأن المكان لا حظ له فيه، ألا ترى أن الصوم الذي يجب بدلا عن الهدي لا يختص بالحرم، وإن كان مبدله يختص به.
وقال الشيخ أبو زيد: يحتمل ما قاله صاحب " التلخيص "؛ لأن الحرم يختص بأشياء والأول أصح.

[مسألة نذر صوم سنة معينة]
مسألة: [نذر صيام سنة] . إذا نذر صوم سنة معينة، بأن قال: علي لله أن أصوم سنة كذا، أو: علي أن أصوم من هذا الشهر سنة فإنه يلزمه صوم جميع تلك السنة عن النذر، إلا شهر رمضان والعيدين وأيام التشريق: فأما شهر رمضان: فلأنه يستحق صومه بالشرع، فلا يصوم فيه عن النذر. وأما العيدان: فلأنه لا يصح صومهما بحال. وأما أيام التشريق: فلأنه لا يصح صومها على قوله الجديد، وهو الصحيح. ولا يلزمه قضاء ذلك؛ لأن النذر لم يتناولها.
وإن أفطر في غير هذه الأيام نظرت: فإن أفطر لغير عذر أثم بذلك، فإن كان قد شرط فيها التتابع في الصوم فحكى الطبري عن القفال: أنه لا يبطل ما مضى من السنة، فلا يلزمه الاستئناف قياسا على صوم رمضان. والمشهور من المذهب: أنه يلزمه استئناف صوم السنة؛ لأن التتابع لزمه بالشرط، ولا ينقطع التتابع فيها لإفطاره في العيدين وأيام التشريق؛ لأنه لا يمكنه صوم سنة متتابعة وليس فيها هذه الأيام. وإن

(4/487)


لم يشرط التتابع في النذر لزمه قضاء ما أفطر فيها بغير عذر، ولا ينقطع تتابعه؛ لأنه وإن لزمه التتابع في السنة المعينة - وإن لم يشرط ذلك في النذر - إلا أنه تتابع لزمه من ناحية الوقت، فهو كما لو أفطر في رمضان بغير عذر.
وإن أفطر فيها بعذر نظرت: فإن كانت امرأة فحاضت أفطرت، ولا تأثم بذلك، ولا ينقطع التتابع به؛ لأنه لا يمكنها صوم السنة عن الحيض، وهل يلزمها قضاء أيام الحيض؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمها قضاؤها؛ لأن أيام الحيض مستحقة للفطر، فهي كالعيدين وأيام التشريق.
والثاني: يلزمها قضاؤها؛ لأن النذر محمول على الشرع، والحائض يلزمها قضاء الصوم بالشرع، وهو رمضان، فكذلك صوم النذر، ولأن أيام الحيض مما يصح فيها صوم غيرها، وإنما أفطرت لمعنى فيها، بخلاف العيدين وأيام التشريق.
وإن أفطر في صوم السنة المعينة بالمرض لم يأثم بذلك، فإن لم يشترط التتابع فيها فهل يلزمه قضاء أيام المرض؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الحائض.
وإن كان قد شرط التتابع فيها فهل ينقطع تتابعه؟ فيه قولان:
أحدهما: ينقطع؛ لأنه أفطر باختياره.
والثاني: لا ينقطع؛ لأنه أفطر بعذر، فهو كالحائض.
فعلى هذا: هل يلزمه القضاء؟ على وجهين.
وإن أفطر بالسفر لم يأثم بذلك، فإن لم يشترط التتابع لم يلزمه الاستئناف، وهل يلزمه قضاء ما أفطر بالسفر؟ فيه وجهان بناء على القولين في الحائض. وإن شرط التتابع، فإن قلنا: ينقطع التتابع بالمرض فبالسفر أولى أن ينقطع، وإن قلنا: لا ينقطع التتابع بالمرض فهل ينقطع بالسفر؟ فيه قولان:

(4/488)


أحدهما: لا ينقطع؛ لأنه أفطر بعذر، فهو كالمريض، فيكون في القضاء على هذا وجهان.
والثاني: ينقطع؛ لأن السفر كان باختياره، بخلاف المرض.
فإن نذر صوم سنة غير معينة، فإن لم يشترط فيها التتابع جاز أن يصومها متتابعا ومتفرقا، وإن صام اثني عشر شهرا بالأهلة صح، تامة كانت الشهور أو ناقصة، فإن صام شهر شوال لم يصح صومه يوم الفطر، فإن كان الشهر تاما قضى صوم يوم، وإن كان ناقصا قضى صوم يومين. فإذا جاء شهر رمضان صامه عن فرض رمضان، ولا يصح صومه فيه عن النذر؛ لأنه مستحق بالشرع، ويفطر في العيدين وأيام التشريق؛ لأنها مستحقة للفطر، ويلزمه قضاء ذلك؛ لأن فرض النذر تعلق بذمته، فانتقل فيما لم يسلم إلى بدله، كالمسلم فيه إذا رد بالعيب؛ لأنه إذا قال: صوم سنة فيمكن حمل ذلك على سنة ليس فيها شهر رمضان ولا العيدان وأيام التشريق، بخلاف ما لو قال: علي لله صوم سنة كذا فإنها لا تخلو من ذلك. ويجوز أن يقضي صوم ذلك متفرقا ومتتابعا.
وإن شرط التتابع في صومها لزمه صومها متتابعا، فإذا صام رمضان عن رمضان وأفطر في العيدين وأيام التشريق، أو أفطرت المرأة بالحيض لم ينقطع تتابعه بذلك؛ لأنه لا يمكنه صوم سنة متتابعة ليس فيها رمضان والعيدان وأيام التشريق، ولا يمكن صونها عن الحيض، ولكن يلزمه قضاء ذلك متتابعا، لأنها قضاء عن صوم متتابع. وإن أفطر بالمرض فهل ينقطع تتابعه؟ فيه قولان - على ما مضى في التي قبلها - فإذا قلنا: لا ينقطع لزمه قضاء أيام الفطر قولا واحدا؛ لما ذكرناه في رمضان وأيام التشريق. وإن أفطر بالسفر فهل ينقطع التتابع؟ يبنى أيضًا على المرض، فإن قلنا في المرض: ينقطع ففي السفر أولى. وإن قلنا في المرض: لا ينقطع ففي السفر قولان:
فإذا قلنا: لا ينقطع لزمه قضاء تلك الأيام التي يفطر فيها قولا واحدا؛ لما ذكرناه.

(4/489)


[فرع نذر صوم هذه السنة]
قال الطبري: وإن قال: لله علي صوم هذه السنة لزمه صوم باقي سنة التاريخ؛ لأن التعريف بالألف واللام يقتضي المعهود، وهذا هو المعهود.

[مسألة نذر صوم أيام الاثنين]
] : وإن نذر أن يصوم كل اثنين لزمه ذلك، فإذا جاء شهر رمضان صام الأثانين فيه عن رمضان؛ لأنها مستحقة بالشرع، ولا يلزمه قضاؤها؛ لأن النذر لم يتناولها؛ لأنه يعلم أن رمضان لا يخلو من ذلك، وهل يلزمه قضاء ما وافق منها العيدين وأيام التشريق؟ فيه قولان:
أحدهما: يلزمه - وهو اختيار المحاملي في " التجريد " - لأنه نذر ما يجوز أن لا يوافق أيام العيد وأيام التشريق، فإذا وافق ذلك لزمه القضاء.
والثاني: لا يلزمه القضاء - وهو اختيار المزني، والشيخ أبي حامد، وابن الصباغ - لأن هذه الأيام لا يصح صومها عن النذر، فأشبهت أثانين رمضان.
وإن كانت امرأة فحاضت فيها فهل يلزمها قضاء أيام الحيض؟ فيه قولان مضى ذكرهما في المسألة قبلها.
قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إلا أن أصح القولين في الحائض: أنه يلزمها القضاء، والأصح في العيدين: أن لا قضاء؛ لأن يوم العيد لا يصح صومه لكل أحد، وأيام الحيض تختص بها المرأة بالفطر وحدها.
قال ابن الصباغ: وهذا ضعيف؛ لأن الشرع حرم عليها صوم زمان الحيض، كيوم العيد، فلا فرق بينهما، ولهذا لو نذرت صوم أيام الحيض لم يصح، كما لا يصح إذا نذرت صوم يوم العيد.

[فرع من نذر صوم الأثانين وعليه صيام شهرين متتابعين]
وعكسه] : وإن نذر صوم يوم الأثانين، ثم لزمه صوم شهرين متتابعين في الكفارة لزمه صوم الشهرين المتتابعين، ثم يقضي صوم الأثانين فيهما؛ لأنه إذا بدأ بصوم الشهرين

(4/490)


أمكنه قضاء الأثانين بعدهما، ولو بدأ بصوم الأثانين لم يمكنه صوم الشهرين فكان الجمع بينهما أولى.
وإن لزمه صوم الشهرين في الكفارة أولا، ثم نذر صوم الأثانين لزمه صوم الشهرين، وهل يلزمه قضاء الأثانين فيهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه - وهو اختيار المحاملي - لأن صيامهما استحق قبل النذر عن الكفارة، فصار كأثانين رمضان. والثاني: يلزمه القضاء - وهو المنصوص في رواية الربيع - لأنه قد كان يمكنه أن يصوم الأثانين في الشهرين اللذين صامهما عن الكفارة عن النذر.
قلت: فوزانه من المسألة: أنه لو نذر صوم شهرين بأعيانهما، ثم نذر صوم كل اثنين فإنه يصوم الشهرين المعينين عند النذر الأول، ولا يلزمه قضاء الأثانين فيهما عن النذر الثاني؛ لأن صومهما قد استحق عن النذر الأول. وإن نذر صوم كل اثنين، ثم نذر صوم شهرين بأعيانهما فإنه يصوم سائر أيام الشهرين غير الأثانين عن النذر الثاني، وأما الأثانين: فإنه يصومها عن النذر الأول، ولا يلزمه قضاؤها عن النذر الثاني؛ لأنها مستحقة للصوم عن النذر الأول، فلم يتناولها الثاني.

[مسألة تعليق نذر الصوم بقدوم شخص]
وإن نذر صوم اليوم الذي يقدم فيه زيد فهل ينعقد نذره؟ فيه قولان:
أحدهما: لا ينعقد نذره - وهو اختيار الشيخ أبي حامد - لأنه لا يمكنه الوفاء به؛ لأنه قد يقدم نهارا، فيكون ما صامه قبل القدوم تطوعا.
والثاني: ينعقد نذره - وهو اختيار المزني والقاضي أبي الطيب - لأنه يمكنه أن

(4/491)


يتعرف اليوم الذي يقدم فيه، فينوي الصوم فيه من الليل، فانعقد نذره كما لو نذر صوم يوم مطلق.
قال الطبري في " العدة ": واختلف أصحابنا في أصل القولين:
فمنهم من قال: أصلهما فيمن نذر صوم نصف يوم هل يصح نذره؟ فيه قولان مضى ذكرهما.
ومنهم من قال: أصلهما إذا قدم زيد في خلال النهار هل يتبين أن الصوم كان قد وجب عليه من أول النهار، فيه قولان.
قال: وفائدة هذا تظهر فيمن قال: هذا العبد حر يوم يقدم فلان، ثم باع العبد في أول اليوم، ثم قدم فلان بعد البيع، فإن قلنا بالطريقة الأولى صح البيع هاهنا، ولا يلزمه شيء. وإن قلنا بالطريقة الثانية عتق العبد وانفسخ البيع؛ لأنه بان أنه باع حرا، وهذه طريقة ابن الحداد.
فإذا قلنا: لا ينعقد نذره فلا كلام.
وإن قلنا: ينعقد، فإن كان الغالب عنده أنه يقدم غدا، فنوى الصوم من الليل عن نذره، ثم قدم في أثناء النهار فوجهان:
[أحدهما] : قال القفال: لا يصح صومه؛ لأنه لم يقطع النية من الليل؛ لأنه كان يحتمل قدومه ويحتمل عدم قدومه.
و (الثاني) : قال الشيخ أبو حامد: يصح صومه؛ لأنه قد أتى بما يمكنه الإتيان به، وتبين أن ما قبل القدوم كان تطوعا، وما بعده فرضا، ولا يمتنع مثل ذلك. ألا ترى أنه يجوز أن يدخل في صوم التطوع، ثم ينذر إتمامه، فيلزم، وإن قدم في يوم وهو مفطر فيه أو صائم فيه عن تطوع لم يجزه ذلك؛ لأنه لا يمكنه أن ينوي الصوم الواجب بعد طلوع الفجر.
فإن قدم ليلا لم يلزمه شيء؛ لأن الشرط لم يوجد.

(4/492)


[فرع تعليق نذر الصوم بأمس أو قدوم شخص أو بقدوم شخصين]
] : وإن قال: إن قدم فلان فلله علي أن أصوم أمس يوم قدومه فهل يصح نذره؟ فيه طريقان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح نذره قولا واحدا.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: ينبغي أن تكون على قولين، كالتي قبلها.
وإن قال: إن قدم زيد فلله علي أن أصوم يوم قدومه، ثم قال: إن قدم عمرو فلله علي أن أصوم أول اثنين بعده، فقدم عمرو قبل الاثنين لزمه أن ينوي الصوم لقدوم عمرو ليلة الاثنين. فإن نوى الصوم ثم قدم زيد يوم الاثنين، وقلنا: يصح نذره فإنه يجب عليه أن يتم صوم هذا اليوم عن نذره لقدوم عمرو؛ لأنه قد نواه، ويستحب له أن يقضيه بيوم آخر؛ لأنه صامه عن نذر وقد استحق بنذر قبله، ويجب عليه أن يصوم يوما آخر لقدوم زيد؛ لأنه لم يمكنه أن ينوي الصيام لذلك. فإن قيل: أليس لو قدم زيد في أثناء يوم من رمضان لم يجب عليه القضاء؟ قلنا: الفرق بينهما: أن أيام رمضان لا يجوز أن تقع عن النذر بحال، وهاهنا قد كان يجوز أن يقع الصوم فيه عن قدوم زيد.
فإن قال: إن قدم زيد فلله علي أن أصوم يوما يلي يوم قدومه، وإن قدم عمرو فلله علي أن أصوم أول اثنين بعده، فقدما يوم الأحد لزمه أن يصوم يوم الاثنين عن أول نذر نذره، ويجب عليه أن يقضي عن النذر الثاني يوما آخر؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.

[فرع تعليق نذر الاعتكاف على قدوم شخص]
] : وإن نذر اعتكاف اليوم الذي يقدم فيه فلان صح نذره قولا واحدا؛ لأن الاعتكاف يصح في بعض اليوم، بخلاف الصوم. فإن قدم ليلا لم يلزمه شيء؛ لأنه لم يوجد الشرط. وإن قدم نهارا لزمه اعتكاف بقية اليوم، وهل يلزمه قضاء ما فاته من اليوم؟ وجهان:

(4/493)


أحدهما: يلزمه، وهو قول المزني، كما قلنا في الصوم.
والثاني - وهو المذهب -: أنه لا يلزمه؛ لأنه لم يدخل في النذر، ويفارق الصوم: فإنه لا يصح الصوم في بعض اليوم، فلذلك لزمه القضاء.
وإن قدم وهو محبوس أو مريض جاز له ترك الاعتكاف، وهل يلزمه القضاء؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقضي؛ لأنه تعذر عليه الاعتكاف حال الوجوب.
والثاني - وهو المنصوص -: أنه يلزمه القضاء؛ لأن العبادة الواجبة بالشرع إذا تعذرت بالمرض وجب قضاؤها، فكذلك العبادة الواجبة بالنذر.
فإذا قلنا بهذا: فإنه يقضي قدر ما بقي من اليوم بعد القدوم، على المذهب، وعلى قول المزني يلزمه قضاء جميع اليوم.

[مسألة نذر الحج ماشيا]
] : وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام انعقد نذره، ولزمه المشي إليه بحج أو عمرة؛ لأن المشي ليس بقربة لله إلا لذلك، فإذا أطلقه حمل على المعهود في الشرع؛ لأن المشي إلى العبادة أفضل، ولهذا روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يركب في عيد ولا جنازة» .
فإن قيل: فالمشي في الشرع لا يجب، فكيف لزم بالنذر، قلنا: قد يلزم بالنذر من القرب ما ليس بواجب في الشرع ابتداء، مثل: الاعتكاف والإحرام من دويرة أهله.
ومن أين يلزمه المشي؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يلزمه أن يحرم ويمشي من دويرة أهله؛ لأن إتمام

(4/494)


الحج والعمرة يتعلق بذلك، وإنما أجيز تأخير الإحرام إلى الميقات رخصة، فإذا نذر رجع إلى الأصل.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يجب عليه الإحرام والمشي إلا من الميقات - وبه قال أحمد - لأن المطلق محمول على المعهود في الشرع، والإحرام في الشرع إنما يجب من الميقات.
فإن أراد الدخول في الحج فإنه يمشي فيه إلى أن يحل له النساء، وهو بالتحلل الثاني، ولا يلزمه المشي لرمي الجمار الثلاث في أيام التشريق.
وإن أراد الدخول بعمرة فإنه يمشي فيها إلى أن يحل له النساء أيضا، وهو إلى أن يفرغ من الحلاق إذا قلنا: إنه نسك، وإن قلنا: إنه ليس بنسك، فإلى الفراغ من السعي.
وإن أحرم بالحج، ففاته الوقوف بعرفة فإنه يلزمه القضاء ماشيا؛ لأنه بدل عما لزمه، وهل يلزمه المشي في تمام الفائت؟ فيه قولان:
أحدهما: يلزمه؛ لأن ذلك قد لزمه بالإحرام.
والثاني: لا يلزمه؛ لأن هذا لا يجزئه عن النذر.
وإن لزمه المشي فركب نظرت: فإن كان قادرا على المشي فقد أساء بذلك، وحجه صحيح، وعليه هدي؛ لما روى ابن عباس: «أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام، فأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تركب وتهدي هديا» ولأنه ترفه بترك المشي، فأشبه إذا تطيب أو لبس.

(4/495)


وإن كان عاجزا عن المشي جاز له أن يركب؛ لأن الواجب بالشرع يسقط بالعجز عنه فلأن يسقط الواجب بالنذر عند العجز أولى، فإذا ركب فهل يجب عليه دم؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب؛ لأنه لو نذر أن يصلي قائما فعجز كان له أن يصلي قاعدا، ولا شيء عليه، فكذلك هاهنا.
والثاني: يجب عليه الهدي؛ لحديث عقبة بن عامر؛ لأنه لا يجوز أن يأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالركوب إلا مع العجز. ولأنه إذا تركه مع القدرة لزمه الدم، وكذلك إذا تركه عاجزا، كسائر المناسك، بخلاف الصلاة فإنه لا يدخلها الجبران بالهدي، والحج يدخله الجبران. هذا نقل الشيخ أبي حامد والبغداديين من أصحابنا.
وقال صاحب " الإبانة ": إذا نذر الحج ماشيا فهل يلزمه الحج ماشيا أو يجوز له الركوب؟ فيه قولان، بناء على أن الأفضل أن يحج راكبا أو ماشيا، فإن قلنا: إن الأفضل أن يحج ماشيا لزمه المشي، فإن ركب مع القدرة على المشي فهل يصح حجه؟ فيه قولان. فإن قلنا: يصح فعليه الدم، وإن قلنا: لا يصح فعليه القضاء، ومن أين يمشي؟ ينظر في لفظه:
فإن قال: علي لله أن أحج ماشيا أو أحرم ماشيا فمن وقت الإحرام بالحج.
وإن قال: علي لله أن أمشي إلى مكة حاجا فمن حين يخرج من بيته.

[فرع نذر أن يركب إلى المسجد الحرام فمشى أو بغير نسك]
] : وإن نذر أن يركب إلى بيت الله الحرام فمشى فالمشهور من المذهب: أن عليه الدم: لأنه ترفه بترك مؤنة الركوب. وحكى صاحب " الفروع " وجها آخر: أنه لا دم عليه؛ لأن المشي أشق من الركوب.
وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لا حاجا ولا معتمرا فوجهان:
أحدهما: لا ينعقد نذره؛ لأن النذر إنما ينعقد إذا أطلق؛ لأنه محمول على عرف

(4/496)


الشرع بالقصد إليه بالنسك، فإذا شرطه بغير نسك خرج عن معهود الشرع، فلم يصح نذره.
والثاني: يصح نذره، ويلزمه المشي بحج أو عمرة؛ لأن النسك قد لزم بقوله: علي لله أن أمشي إلى بيت الله الحرام، وقوله: (لا حاجا ولا معتمرا) : لغو في الكلام، فوجب إسقاطه.
قال الشيخ أبو حامد: يشبه أن يكون هذان الوجهان مأخوذين من القولين فيمن نذر المشي إلى مسجد المدينة أو المسجد الأقصى؛ لأن المشي هناك لا يتضمن النسك كذا هاهنا إذا صرح بترك النسك.
قال ابن الصباغ: وهذا البناء لا يستقيم؛ لأنه إذا قلنا: يصح النذر هاهنا يلزمه المشي بالنسك، بخلاف المشي إلى مسجد المدينة أو المسجد الأقصى.

[فرع نذر المشي لبيت الله ولم يقل الحرام]
] : إذا نذر المشي إلى بيت الله ولم يقل: الحرام ولا نواه فنقل المزني: (أنه ينعقد نذره) . وقال في " الأم " [2/230] ما يدل على أنه لا يلزمه.
قال ابن الصباغ: ففي المسألة قولان، ولكنها مشهورة بالوجهين:
أحدهما: لا ينعقد نذره؛ لان المساجد كلها بيوت الله.
والثاني: ينعقد نذره، ويلزمه المشي إلى بيت الله الحرام بحج أو عمرة؛ لأن إطلاق بيت الله لا ينصرف إلا إليه. قال المحاملي: والأول أصح.

[فرع النذر إلى موضع من الحرم أو إلى عرفة]
وإن نذر المشي إلى بقعة من الحرم لزمه المشي إليه بحج أو عمرة.
قال الطبري في " العدة ": وسواء قال: علي لله أن أمشي، أو أذهب، أو أسير

(4/497)


أو أنتقل، أو آتي، أو أمضي، فكل ذلك سواء.
وذكر المحاملي في " التجريد ": إذا قال: علي لله أن أذهب إلى مكة، أو إلى البيت، أو إلى الحرم فإنه يلزمه الذهاب بنسك، ولكن لا يلزمه المشي، بل إن شاء ذهب راكبا أو ماشيا؛ لأن اسم الذهاب يقع على الجميع.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه إلا إذا نذر المشي إلى بيت الله، أو إلى مكة، أو إلى الكعبة استحسانا، فإذا نذر المشي إلى بقعة من الحرم غير ذلك فلا يلزمه) .
دليلنا: أنه موضع لا يجوز دخوله بغير إحرام، فلزمه النذر بالمشي إليه بالنسك كالبيت.
وإن نذر المشي إلى عرفة فالمشهور من المذهب: أنه لا يلزمه بذلك شيء.
وحكى صاحب " الفروع ": أن أبا علي بن أبي هريرة قال: يلزمه المشي إليها بنسك؛ لأنها منسك. وليس بشيء؛ لأنه موضع يجوز قصده بغير إحرام، فلم يلزمه المشي إليه بالنذر، كسائر بقاع الحل. وقوله: (إنها منسك) : يبطل بالميقات.

[فرع نذر المشي لمسجد غير الثلاثة أو لمسجد المدينة والأقصى]
] : وإن نذر المشي إلى مسجد غير المساجد الثلاثة لم يجب عليه شيء لأنه لا تشد إليه الرحال.
وإن نذر المشي إلى مسجد المدينة أو المسجد الأقصى فهل ينعقد نذره؟ فيه قولان وقد مضى توجيههما.
فإذا قلنا: لا يصح فلا كلام.
وإذا قلنا: يصح النذر فقال ابن الصباغ: فإذا بلغ إليها صلى ركعتين واجبتين؛ لأن القصد بالسعي إليهما القربة بالصلاة فيهما، فتضمن ذلك نذره.
وقال الطبري في " العدة ": يصلي فيهما ركعتين، أو يعتكف ساعة حتى تكون قربة.

(4/498)


[مسألة نذر الحج السنة]
] : إذا قال: علي لله أن أحج في هذه السنة، فإن وجدت فيه الشرائط المعتبرة لوجوب حجة الإسلام في هذه السنة - وهي: البلوغ والعقل والحرية والإسلام وتخلية الطريق وإمكان السير ووجود الزاد والراحلة - فإن لم يحج استقر الفرض عليه، ولم يسقط عنه الفرض إلا بفعله بعد ذلك.
وإن وجدت فيه هذه الشرائط ولكن أحصر حصرا عاما حتى مضت هذه السنة فالمنصوص: (أنه لا يجب عليه القضاء) كما نقول في حجة الإسلام إذا أحرم بها، ولم يكن تمكن منها قبل ذلك، فأحصر حصرا عاما فتحلل فإنه لا قضاء عليه.
وحكى الطبري في " العدة ": أن أبا العباس ابن سريج قال: يجب على الناذر القضاء؛ لأنه أمر إذا لم يجب بالشرع فإنه يجب بالنذر، كالمريض لا يجب عليه الحج بالشرع، ولو نذر الحج وجب عليه.
فإن أحصر هذا الناذر في هذه السنة حصرا خاصا، بأن مرض أو حبس أو أخطأ الطريق قال المحاملي في " التجريد " والطبري في " العدة ": فإن الفرض يستقر عليه في حجة الإسلام، وفي حجة النذر أيضا، لا لأن الطريق مخلى: وإنما تعذر عليه الحج لمعنى يخصه، فاستقر عليه الفرض، ومتى عدمت الشرائط في هذا الناذر في هذه السنة فقد قلنا: لا يجب عليه، وإن وجدت الشرائط بعد هذه السنة فيه لم يجب عليه؛ لأنه قد نذره في هذه السنة، بخلاف حجة الإسلام.
وبالله التوفيق

(4/499)