البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الصلح]

(6/239)


كتاب الصلح الأصل في جواز الصلح: الكتاب، والسنة، والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] . فأمر الله تعالى بالصلح بين المؤمنين.
وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] [النساء: 128] .

(6/241)


وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] [النساء: 128] .
فدلت هذه الآيات على جواز الصلح.
وأما السنة: فروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا» .
وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على جوازه.

إذا ثبت هذا: فإن الصلح فرع على غيره، وهو ينقسم إلى خمسة أقسام:
[أحدها] : قسم هو فرع على البيع، وهو: أن يدعي عليه عينا في يده، فيقر له بها، فيصالحه من ذلك على عين أو دين.. فهذا حكمه حكم ما لو اشترى منه عينا بعين أخرى، أو بدين، فيعتبر فيه ما يعتبر في البيع من الربا، ويبطل بما يبطل فيه البيع من الغرر، ويثبت فيه ما يثبت في البيع من الخيار؛ لأن ذلك بيع بلفظ الصلح.
وإن ادعى عليه دينا في ذمته، فأقر له به، ثم صالحه منه على دين في ذمته، وتفرقا قبل القبض.. لم يصح الصلح فيه، كما لا يصح في بيع الدين بالدين. وإن صالحه من دين على عين، وقبض العين قبل التفرق.. صح الصلح، إذا كان الدين مما يصح

(6/242)


أخذ العوض عنه، وإن افترقا عن المجلس قبل قبض العين.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنهما افترقا، والعوض والمعوض في ضمان واحد، فلم يصح، كما لو صالحه من دين على دين، وتفرقا قبل القبض.
والثاني: يصح، كما يصح في بيع العين بالدين.
القسم الثاني: صلح هو فرع على الإجارة، وهو: أن يدعي عليه عينا في يده، أو دينا في ذمته، فيقر له به، ثم يصالحه من ذلك على سكنى داره شهرا، أو خدمة عبده مدة معلومة، فيصح ذلك، ويملك المقر ما ادعى عليه به، ويملك المقر له منفعة الدار أو العبد، كما لو استأجر منه ذلك، ويشترط فيه ما يشترط في الإجارة على ما يأتي بيانها في موضعها إن شاء الله تعالى.
القسم الثالث: صلح هو فرع على الإبراء والحطيطة، وهو: أن يدعي عليه ألفا في ذمته، فيقر له بها، فيصالحه على بعضها.
قال الشيخ أبو حامد: فهذا ينقسم قسمين:
أحدهما: أن يقول الذي عليه الحق لمن له الحق: أدفع إليك خمسمائة، بشرط أن تسقط عني الخمسمائة الأخرى. أو يقول صاحب الحق: ادفع إلي خمسمائة، على أن أسقط عنك الخمسمائة الأخرى.. فهذا لا يجوز، فإذا فعلا ذلك.. كان باطلا، وكان لصاحب الألف المقر له أن يطالب بالخمسمائة الأخرى، لأنه دفع إليه بعض حقه، وشرط شرطا لا يلزمه، فسقط الشرط، ووجب الألف بالإقرار.
القسم الثاني: أن يقول: أدفع إليك خمسمائة، وتبرئني من خمسمائة. أو يقول الذي له الحق: ادفع إلي خمسمائة، وقد أبرأتك من الخمسمائة الأخرى.. فإن

(6/243)


هذا يجوز إذا لم يدخل فيه حرف الشرط، وهو قوله: على أن تبرئني، أو بشرط أن تبرئني؛ لأنه كان له حق، فأخذ بعضه، وأبرأ من البعض.
وقال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": وإن صالحه من ألف على خمسمائة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، كما لو باع ألفا بخمسمائة.
والثاني: يصح؛ لأنه لما عقد بلفظ الصلح.. صار كأنه قال: أبرأتك من خمسمائة، وأعطني خمسمائة.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 277] : إذا ادعى عليه ألف درهم حالة، فأقر له بها، ثم صالحه عنها، على خمسمائة مؤجلة.. صح الصلح، ولا يلزم الأجل. وإن ادعى عليه ألف درهم مؤجلة، فأقر له بها، ثم صالحه عنها على خمسمائة حالة.. لم يصح الصلح؛ لأنه جعل الخمسمائة التي تركها عوضا للحلول، وذلك لا يجوز أخذ العوض عليه.
وإن ادعى عليه ألف درهم صحاحا، فأقر له بها، ثم صالحه على خمسمائة مكسرة.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 277] : صح الصلح، ولا يلزمه أخذ المكسرة، بل يجب له خمسمائة صحاح؛ لأن الصحة صفة، فلا يصح الإبراء منها.
ولو ادعى عليه ألف درهم مكسرة، فأقر له بها، ثم صالحه عنها على خمسمائة صحاح.. لم يصح الصلح؛ لأنه أبرأ من خمسمائة، بشرط حصول الصحة في الباقي، ولا تجوز المعاوضة على الصفة.
القسم الرابع: صلح هو فرع على الهبة، وهو: أن يدعي عليه دارا، فيقر له بها، فقال المقر: أدفع إليك نصفها، على أن تهبني نصفها، أو قال المقر له: ادفع إلي نصفها على أن أهبك النصف الآخر.. فهذا الصلح باطل؛ لما ذكرناه في الإبراء. وإن

(6/244)


قال المقر له: ادفع إلي نصفها، ووهبتك النصف الآخر.. صحت الهبة؛ لأنها هبة مجردة غير معلقة على شرط، وإن كان بلفظ الصلح، بأن قال المقر للمقر له: صالحني من هذه الدار بنصفها.. فذكر في " المهذب ": أنها على وجهين:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه باع ماله بماله.
والثاني - ولم يذكر ابن الصباغ غيره -: أنه يصح؛ لأنه لما عقد بلفظ الصلح.. صار كما لو قال: ادفع إلي نصفها، ووهبتك النصف الثاني.
القسم الخامس: صلح هو فرع على العارية، بأن يدعي عليه دارا في يده، فأقر له بها، ثم قال المقر له للمقر: صالحني عن هذه الدار بسكناها سنة، فقال المقر: صالحتك.. صح الصلح، ويكون كأن المقر له أعار المقر أن يسكنها سنة.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 278] : وللمقر له أن يرجع في عاريته. وذكر في " المهذب ": أنها على وجهين:
أحدهما: هذا.
والثاني: لا يصح؛ لأنه ابتاع داره بمنفعتها.

[مسألة: الصلح عن الموروث]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن صالح رجل أخاه عن موروثه، فإن عرفا ما صالحه عليه بشيء يجوز في البيع.. جاز) . وهذا كما قال: إذا ورث الرجلان من أبيهما، أو أخيهما مالا، فصالح أحدهما الآخر عن نصيبه، فإن هذا فرع للبيع، فإذا شاهدا التركة، وعرفا العوض.. صح الصلح، كما لو اشتراه بلفظ الشراء.

[فرع: المصالحة على غير جنس]
وإن صالحه عن الدراهم على دنانير، أو عن الدنانير على دراهم.. فإن ذلك صرف، ويشترط فيه قبض العوض في المجلس، كما قلنا في (الصرف) .

(6/245)


[فرع: المصالحة عما أتلفه]
] : إذا أتلف عليه ثوبا، أو حيوانا قيمته دينار، فأقر له به، ثم صالحه من ذلك على أكثر منه.. لم يصح الصلح. وقال أبو حنيفة: (يصح الصلح) .
دليلنا: أن الواجب في ذمته قيمة المتلف، فلم يصح الصلح على أكثر منه، كما لو غصب منه دينارا، ثم صالحه على أكثر منه.
وإن صالحه عن قيمة الحيوان بعوض، وجعله مؤجلا.. لم يتأجل العوض، ولم يصح الصلح. وقال أبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: أن الواجب هو دين حال في ذمته، فإذا كان العوض عنه مؤجلا.. كان بيع الدين بالدين، وذلك لا يجوز.
وإن ادعى عليه مالا مجهولا، فأقر له به، وصالحه عليه بعوض.. لم يصح الصلح. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح) .
دليلنا: أن ذلك معاوضة، ولهذا يثبت بالشقص فيه الشفعة، فلم يصح في المجهول، كالبيع.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإذا ادعى رجل على رجل شيئا مجملا، فأقر له به، ثم صالحه عنه على شيء.. صح الصلح) .
قال الشيخ أبو حامد: أراد إذا كان المعقود عليه معلوما فيما بين المتعاقدين.. صح وإن لم يسمياه، كما إذا قال: بعت منك الشيء الذي أعرفه أنا وأنت بكذا وكذا، فقال: أبتعت.. فإنه يصح.

[مسألة: الصلح على ما كان أنكره]
] : وإن ادعى عليه عينا في يده، أو دينا في ذمته، فأنكره المدعى عليه، ثم صالحه على عين، أو دين في ذمته.. لم يصح الصلح بلا خلاف على المذهب؛ لأنه ابتاع ملكه.

(6/246)


وإن ادعى عليه ألف درهم في ذمته، فأنكره، ثم صالحه على خمسمائة منها، وقلنا: يصح صلح الحطيطة. فهل يصح هذا الصلح؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 278] :
أحدهما: لا يصح الصلح؛ لأنه صلح على الإنكار، فلم يصح، كما لو ادعى عليه عينا في يده، فأنكره
والثاني: يصح، والفرق بينهما: أن في صلح المعاوضة نحتاج إلى ثبوت العوضين برضا المتعاقدين، وليس العين المدعى بها ثابتة للمدعي حتى يأخذ عليها عوضا، وهاهنا هو إبراء، فلا يحتاج إلى رضا صاحبه. هذا مذهبنا. وإن الصلح على الإنكار لا يصح.
وقال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يصح الصلح على الإنكار) .
وقال ابن أبي ليلى: إن أنكره.. لم يصح الصلح، وإن سكت.. صح الصلح.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] [البقرة: 188] . والصلح على الإنكار من أكل المال بالباطل؛ لأن من ادعى على غيره دارا في يده، وأنكر ذلك المدعى عليه، ثم صالحه عنها بعوض.. فقد ابتاع ماله بماله، وهذا لا يجوز. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال بن الحارث: يا بلال، اعلم أن الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا، أو أحل حراما» وهذا المدعي لا يخلو: إما أن يكون كاذبا، أو صادقا، فإن كان كاذبا.. فهذا الصلح الذي يصالح به يحل له ما هو حرام عليه، وإن كان صادقا.. فإنه يستحق جميع ما يدعيه، فإذا أخذ بعضه بالصلح.. فالصلح يحرم عليه الباقي الذي كان حلالا له، فوجب أن لا يجوز. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد؛ لأن البيع لا يجوز مع الإنكار، وهو أن يدعي عينا في يد غيره، فينكره، فيبيعها من غيره.. فإن البيع لا يصح، فكذلك الصلح

(6/247)


إذا ثبت هذا: فادعي على رجل ألفا في ذمته، فأنكره عنها، ثم إن المدعى أبرأه منها.. صحت البراءة، وهل يشترط في صحة البراءة القبول؟ على وجهين يأتي ذكرهما فيما بعد إن شاء الله تعالى، وإنما صحت البراءة على الإنكار؛ لأنها ليست بمعاوضة.
وإن ادعى عليه ألفا في ذمته، فأنكره عنها، ثم صالحه على بعضها، وقبض ذلك، وأبرأه عن الحق الذي عليه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فالصلح باطل، والإبراء لا يلزم) . فأما الصلح: فيبطل؛ لأنه صلح على إنكار، وعلى المصالح رد ما أخذه، وأما البراءة: فلا تلزمه؛ لأنه إنما أبرأه براءة قبض واستيفاء، وهو أن يسلم له ما أخذه، فإذا لم يسلم له ذلك.. لم تلزمه البراءة، هذا إذا لم يعلم المدعي بفساد الصلح، فأما إذا علم بفساد الصلح، فأبرأ.. صحت براءته) . وهذا كما نقول في رجل: اشترى عبدا شراء فاسدا، فقال البائع للمشتري: أعتق هذا العبد، ولم يعلم البائع بفساد البيع، فأعتقه.. قال الشيخ أبو حامد: لم يصح العتق؛ لأن البائع لم يأمره بإعتاقه عن نفسه، وإنما أمره أن يعتقه بظن أنه قد ملكه بالشراء، وإن علم البائع بفساد البيع، فأمر المشتري بإعتاقه، فأعقته.. صح العتق.
وإن ادعى عليه ألفا في ذمته، فأقر له بها، فصالحه عنها صلح حطيطة، وأبرأه على خمسمائة، فإن قبض منها خمسمائة، وأبرأه عن الباقي، ثم خرجت الخمسمائة التي قبضها مستحقة.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يرجع عليه بالخمسمائة التي أخذها، والإبراء صحيح؛ لأنه لم يبرئه ليسلم له ما قبض، بل أبرأه عن حق هو مقر له به، والإبراء صادق حقه المقر به، فنفذ ذلك، ولم يتعلق بسلامة ما قبضه، وعدم سلامته.

[فرع: صالحه على عوض بدلا عن عين ثم اختلفا]
إذا ادعى عليه عينا، فصالحه منها على عوض، ثم اختلفا، فقال المدعي: إنما صالحت منها على الإنكار، فالصلح باطل، ولي الرجوع إلى أصل الخصومة، وقال

(6/248)


المدعى عليه: لا، بل كنت أقررت لك بها أولا، ثم أنكرت، ثم صالحت منها.. قال الشيخ أبو حامد: فالقول قول المدعي؛ لأن الأصل هو الصلح على الإنكار الذي قد عرف إلى أن تقوم البينة بإقراره بها قبل ذلك.

[فرع: صحة التوكيل في الصلح]
وإن ادعى رجل على رجل حقا، فأنكر، فجاء أجنبي إلى المدعي، وقال: أنت صادق في دعواك، فصالحني عليه.. فلا يخلو: إما أن يكون المدعى دينا، أو عينا: فإن كان المدعى دينا.. نظرت:
فإن صالحه عن المدعى عليه.. صح الصلح؛ لأنه إن كان أذن له في ذلك، فهو وكيله، والتوكيل في الصلح جائز، وإن لم يوكله.. فقد قضى عن غيره دينا، ويجوز للإنسان أن يقضي عن الغير دينه بغير إذنه، فإذا أخذ المدعي المال.. ملكه، وانقطعت دعواه. وهل للأجنبي أن يرجع على المدعى عليه بما دفع؟ ينظر فيه:
فإن صالح عنه بإذنه، ودفع بإذنه.. رجع عليه.
وإن صالح بغير إذنه، ودفع بغير إذنه، أو صالح بإذنه، ودفع بغير إذنه.. لم يرجع عليه بشيء؛ لأنه متطوع بالدفع.
وإن صالح الأجنبي ليكون الدين له.. فإن الشيخ أبا إسحاق قال: هل يصح الصلح؟ فيه وجهان، بناء على جواز بيع الدين من غير من هو عليه. وقال ابن الصباغ: لا يصح، وجها واحدا. وإليه أشار الشيخ أبو حامد؛ لأن الوجهين في بيع الدين مع الإقرار، فأما مع الإنكار: فلا يصح، وجها واحدا، كبيع العين المغصوبة ممن لا يقدر على قبضها.
وإن كان المدعى عينا، فإن صالح عن المدعى عليه، بأن يقول للمدعي: المدعى عليه مقر لك بها في الباطن، وقد وكلني في مصالحتك، فصالحه عنه.. صح

(6/249)


الصلح؛ لأن الاعتبار بالمتعاقدين، وقد اتفقا على ما يجوز العقد عليه، فإذا صالحه.. ملك المدعي ما يأخذه، وانقطع حقه من العين، وهل يملك المدعى عليه العين المدعى بها؟ ينظر فيه:
فإن كان قد وكل الأجنبي.. ملك العين، وإن كان الأجنبي قد دفع العوض من مال نفسه بإذن المدعى عليه.. رجع عليه، وإن دفع بغير إذنه.. لم يرجع عليه؛ لأنه متطوع؛ لأنه إنما أذن له في العقد دون الدفع.
وإن كان المدعى عليه لم يوكل الأجنبي في الصلح.. فهل يملك العين؟ فيه وجهان:
[أحدهما]- المنصوص -: (أنه لا يملكها) .
و [الثاني] : حكى أبو علي في " الإفصاح ": أنه يملكها، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا اشترى رجل أرضا وبناها مسجدا، وجاء رجل، فادعاها، فإن صدقه.. لزمه قيمتها، وإن كذبه، فجاء رجل من جيران المسجد، فصالحه.. صح الصلح؛ لأنه بذل مالا على وجه البر) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لا يجوز أن يملك غيره بغير ولاية، ولا وكالة.
فعلى هذا: يكون الصلح باطلا في الباطن، صحيحا في الظاهر.
وأما المسألة المذكورة في المسجد: فلا تشبه هذه؛ لأن الواجب على المدعى عليه القيمة؛ لأنه قد وقفها، ويجوز الصلح عما في ذمة غيره بغير إذنه.
وإن قال الأجنبي للمدعي: المدعى عليه منكر ذلك، ولكن صالحني عما ادعيت لتكون العين له.. فهل يصح الصلح؟ قال المسعودي ["في الإبانة " ق \ 278] : فيه وجهان.

(6/250)


وأما إذا قال الأجنبي: أنت صادق في دعواك، فصالحني لتكون هذه العين لي، فإني قادر على انتزاعها منه.. فيصح الصلح، كما يصح أن يبتاع شيئا في يد غاصب، فإن قدر الأجنبي على انتزاعها منه.. استقر الصلح، وإن لم يقدر على انتزاعها.. كان له الخيار في فسخ الصلح، كمن ابتاع عينا في يد غاصب ولم يقدر على انتزاعها.
إذا ثبت هذا: فإن كان المدعى عليه قد وكل الأجنبي في أن يصالح عنه.. فهل يصح هذا التوكيل وهذا الصلح فيما بينه وبين الله تعالى؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو العباس: لا يجوز له الإنكار؛ لأنه كاذب، إلا أنه يجوز له بعد ذلك أن يوكل ليصالح عنه على ما ذكرناه.
وقال أبو إسحاق: لا يجوز له ذلك، بل يلزمه الإقرار به لصاحبه، ولا يجوز له الوكالة للمصالحة عنه إذا غصب العين، أو اشتراها من غاصب وهو يعلم ذلك.
فأما إذا مات أبواه، أو من يرثه، وخلف هذه العين له، فجاء رجل، فادعاها، وأنكره، ولا يعلم صدقه، وخاف من اليمين، وخاف إن أقر بها للمدعي أن يأخذها.. فيجوز له أن يوكل الأجنبي في الصلح على ما بيناه؛ لتزول عنه الشبهة.

[فرع: ترد العين المصالح عليها إذا كانت معيبة]
إذا صالح الأجنبي عن المدعى عليه بعوض بعينه، فوجد المدعي بالعوض الذي قبضه من الأجنبي عيبا.. كان له رده بالعيب، ولا يرجع ببدله عليه، ولكن ينفسخ عقد الصلح، ويرجع إلى خصومة المدعى عليه، وكذلك إذا خرج العوض مستحقا، كما لو ابتاع من رجل عينا، فوجد فيها عيبا، فردها، أو خرجت مستحقة.. فإنه لا يطالبه ببدلها.. وإن صالحه على دراهم، أو دنانير في ذمته، ثم سلم إليه دراهم، أو دنانير، فوجد بها عيبا، فردها، أو خرجت مستحقة.. فله أن يطالبه ببدلها، كما قلنا في البيع.

(6/251)


[فرع: إقرار المدعى عليه ليس صلحا]
] : وإن ادعى عينا في يد رجل، فأنكرها المدعى عليه، فقال المدعي: أعطيك ألف درهم، وأقر لي بها، ففعل.. لم يكن صلحا، ولم تلزم الألف، وبذله حرام، وأخذه حرام، وهل يكون إقرارا؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ".

[مسألة: احتمال الصلح المعاوضة وقطع الخصومة يكون إقرارا]
] : إذا ادعى رجل على رجل دينا في ذمته، أو عينا في يده، فأنكره المدعى عليه، ثم قال: صالحني عن ذلك بعوض. لم يكن ذلك إقرارا من المدعى عليه؛ لأن الصلح قد يراد به المعاوضة، وقد يراد قطع الخصومة والدعوى، فإذا احتملهما.. لم نجعله إقرارا. وإن قال المدعى عليه للمدعي: بعني هذه العين، أو ملكني إياها.. فحكى الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ في ذلك وجهين:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه لا يكون إقرارا؛ لأن الصلح والبيع بمعنى واحد، فإذا لم يكن قوله: صالحني، إقرارا.. فكذلك قوله: بعني.
والثاني: يكون إقرارا. وهو قول القاضي أبي الطيب، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن قوله: بعني وملكني، يتضمن الإقرار له بالملك.

[مسألة: جواز اتخاذ الروشن]
] : إذا أخرج جناحا أو روشنا إلى شارع نافذ.. نظرت: فإن كان لا يضر بالمسلمين.. جاز، ولا يمنع من ذلك، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد رحمة الله عليهم.

(6/252)


وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (له إخراجه إلا أن يمنعه المسلمون أو واحد منهم، فإذا منعه رجل من المسلمين.. لم يجز له إخراجه، فإن أخرجه.. قلع) .
دليلنا: ما روي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مر بميزاب للعباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقطر عليه، فأمر بقلعه، فخرج إليه العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: قلعت ميزابا ركبه رسول الله بيده، فقال عمر: والله لا يصعد من ينصبه إلا على ظهري، فصعد العباس على ظهره ونصبه» .
فإذا ثبت هذا في الميزاب.. ثبت في الروشن مثله؛ لأن الميزاب خشبة واحدة، والروشن خشب، ولا فرق بين الجميع، ولأن الناس يخرجون الرواشن من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا من غير إنكار، فدل على أنه إجماع، ولأنه ارتفاق بما لم يتعين عليه ملك أحد من غير إضرار، فجاز كما لو مشى في الطريق.
إذا ثبت هذا: وأخرج جناحا أو روشنا في شارع نافذ.. فإنه لا يملك ذلك المكان، وإنما يكون أحق به؛ لسبقه إليه، فإن انهدم روشنه أو هدمه، فبادره من يجاذبه، فمد خشبة تمنعه من إعادة الأول.. لم يكن للأول منعه من ذلك؛ لأن الأول

(6/253)


كان أحق به؛ لسبقه إليه، فإذا زال روشنه.. سقط حقه، وكان لمن سبق إليه، كما نقول في المرور في الطريق، وإن أخرج من يجاذبه روشنا تحت روشن الأول.. جاز، ولم يكن للأول منعه من ذلك؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك. وإن أراد الثاني أن يخرج روشنا فوق روشن الأول.. قال ابن الصباغ: فإن كان الثاني عاليا لا يضر بالمار فوق روشن الأول.. جاز، وإن كان يضر بالمار فوق روشن الأول.. منع من ذلك، كما لو أخرج روشنا يضر بالمارة في الشارع، فإنه يمنع من ذلك.

[فرع: حرمة الصلح على إشراع الروشن]
] : فإن صالحه الإمام، أو أحد من المسلمين على هذا الجناح الذي لا يضر بعوض. لم يصح الصلح؛ لأن الهواء تابع للقرار، فلا يجوز أن يفرد بالعقد، ولأن ذلك حق لمن سبق إليه، فلم يجز أن يؤخذ منه عليه عوض، كما لا يجوز أن يؤخذ منه عوض على المرور في الطريق.

[فرع: لا يجوز إشراع جناح يضر بالمارة]
وإن أراد إخراج روشن أو جناح إلى شارع نافذ يضر بالمارة فيه.. لم يجز، فإن فعل. قلع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا إضرار» ، ولأنه ليس له الانتفاع بالعرصة بما فيه ضرر على المسلمين، بأن يبني فيها دكة، فكذلك ليس له الانتفاع بالهواء بما يضر به عليهم، فإن صالحه الإمام، أو بعض الرعية على ذلك بعوض.. لم يصح الصلح؛ لأنه إفراد للهواء بالعقد، ولأن في ذلك إضرارا بالمسلمين، وليس للإمام أن يفعل ما فيه ضرر عليهم.

(6/254)


[فرع: تعتبر حاجة المارين]
وأما كيفية الضرر: فإن ذلك معتبر بالعادة في ذلك الشارع، فإن كان شارعا لا تمر فيه القوافل والجيوش والركبان.. فيشترط أن يكون الجناح عاليا بحيث يمر الماشي تحته منتصبا فإن كان الشارع تمر فيه الجيوش والقوافل والركبان.. اشترط أن يكون الجناح عاليا بحيث يمر فيه الراكب على الدابة، وفي الكنيسة منتصبا.
وقال أبو عبيد بن حربوية: يشترط أن يمر الفارس تحته ورمحه منصوب بيده؛ لأن الفرسان قد يزدحمون، فيحتاجون إلى نصب الرماح. وهذا ليس بصحيح؛ لأنه يمكنه أن يحط رمحه على كتفه، ولأن الرمح لا غاية لطوله. وإن أظلم الطريق بهذا الجناح أو الروشن.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الصباغ: يجوز ذلك؛ لأن ظلمة الطريق لا تمنع من المرور فيه، ولأنه لا يذهب الضوء جملة.
و [الثاني] : قال الصيدلاني: لا يجوز؛ لأن ذلك يضر بالمار فيه، فهو كما لو لم يمكنه المشي منتصبا.

[مسألة: لا يرتفق بهواء الجار إلا بإذنه]
وإن أراد أن يخرج جناحا أو روشنا فوق دار غيره، أو شارع جاره بغير إذنه.. لم يجز؛ لأنه لا يملك الارتفاق بقرار أرض جاره إلا بإذنه، فكذلك الارتفاق بهواء أرض جاره، فإن صالحه صاحب الدار أو الشارع على ذلك بعوض.. لم يصح؛ لأنه لا يجوز إفراد الهواء بالعقد.

(6/255)


[مسألة: إذن المعنيين بالروشن جائز]
] : وإن أراد أن يخرج جناحا، أو روشنا إلى درب غير نافذ، وله طريق في هذا الدرب، فإن كان يضر بالمارة.. لم يجز من غير إذن أهل الدرب، كما لا يجوز إخراج جناح يضر إلى شارع نافذ، فإن أذن أهل الدرب له بإخراج جناح يضر بهم.. جاز؛ لأن الحق لقوم معينين، فإذا أذنوا بذلك.. صح. وإن أراد أن يخرج إليه جناحا أو روشنا لا يضر بهم بغير إذنهم.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: يجوز؛ لأنه يجوز له الارتفاق في الأرض بالعبور فيها، فجاز له إخراج الجناح إليها، كما نقول في الشارع النافذ، فإن أراد أهل الدرب أن يصالحوه على ذلك بعوض.. لم يصح الصلح؛ لما ذكرناه في الشارع النافذ.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: لا يجوز له ذلك بغير إذنهم؛ لأنه مملوك لقوم معينين، فلم يجز له إخراج الجناح إليه بغير إذنهم، كدرب الجار، فإن صالحه أهل الدرب على شيء.. لم يصح الصلح؛ لما ذكرناه في درب الجار.

[مسألة: إشراع الساباط]
] : وإن أراد أن يعمل ساباطا على جدار جاره، وصفته: أن يكون له جدار، وبحذائه جدار لجاره، وبينهما شارع، فيمد جذوعا من جداره إلى جدار جاره.. فلا يجوز له ذلك إلا بإذن جاره؛ لأنه حمل على ملك غيره بغير إذنه من غير ضرورة، فلم يجز، كما لو أراد أن يحمل على بهيمة غيره بغير إذنه.
وقولنا: (من غير ضرورة) احتراز من التسقيف على الحائط الرابع لجاره على ما يأتي بيانه.

(6/256)


فإن صالحه على ذلك على عوض.. صح الصلح، ولا بد أن تكون الأخشاب معلومة، إما بالمشاهدة، أو بالصفة، فيقول: صالحني على أن أضع هذه الأخشاب بكذا.
قال الشيخ أبو حامد: وهكذا إن قال: خذ مني مالا وأقر أن لي حقا في أن أضع على جدارك جذوعي هذه، أو يصفها، فإن أقر له بذلك، وأخذ العوض.. جاز. فإن أراد أن يبني عليها.. ذكر طول البناء وعرضه، وما يبني به؛ لأن الغرض يختلف بذلك.
فإن أطلقا ذلك ولم يقدراه بمدة.. كان ذلك بيعا لمغارز الأجذاع، وإن قدرا ذلك بمدة.. كان ذلك إجارة تنقضي بانقضاء المدة. هكذا ذكر الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق، والقاضي أبو الطيب.
وقال ابن الصباغ: لا يكون ذلك بيعا بحال؛ لأن البيع ما يتناول الأعيان، وهذا الصلح على وضع الخشب لا يملك به الواضع شيئا من الحائط الذي يضع عليه؛ لأنه لو كان بيعا.. لملك جميع الحائط، ولكان إذا استهدم.. ملك أخذ آلته، وهذا لا يقوله أحد.
قال: فإن قيل: إنما يكون بيعا لموضع الوضع خاصة.. قيل: لا يصح ذلك؛ لأن موضع الوضع مجمل في بقية الحائط الذي لغيره، وتلك منفعة استحقها، وإذا بطل أن يكون بيعا.. كان ذلك إجارة بكل حال.
قال: فإن قيل: فكيف تجوز الإجارة إلى مدة غير معلومة؟
فالجواب: أن المنفعة يجوز أن يقع العقد عليها في موضع الحاجة غير مقدرة،

(6/257)


كما يقع عقد النكاح على منفعة غير مقدرة، والحاجة تدعو إلى ذلك؛ لأن الخشب وما أشبهه ربما يراد للتأييد ويضر به التقدير، بخلاف سائر الإجارات، ولأن سائر الأعيان لو جوزنا فيها عقد الإجارة على التأبيد.. بطل فيها معنى الملك، وهاهنا وضع الخشب على الحائط لا يمنع مالكه أن ينتفع به منفعة مقصودة. والأول أصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " المختصر ": (ولو اشترى علو بيت على أن يبني على جدارنه، ويسكن على سطحه.. أجزت ذلك إذا سميا منتهى البنيان؛ لأنه ليس كالأرض في احتمال ما يبنى عليها) .
إذا ثبت هذا: فإن أقر صاحب الحائط لصاحب الخشب: أن له حق الوضع على جداره.. لزم ذلك في الحكم، فإن تقدمه صلح.. لزم ظاهرا وباطنا، وإن لم يتقدمه صلح.. لزم في الظاهر دون الباطن.

[مسألة: لا يجوزاستعمال حائط الجار]
مسألة: [لا يجوز استعمال حائط الجار] : ولا يجوز أن يفتح كوة، ولا يتد وتدا في حائط الجار، ولا في الحائط المشترك بينه وبين غيره من غير إذن؛ لأن ذلك يضعف الحائط. ولا يجوز أن يبني عليه من غير إذن، كما لا يجوز أن يحمل على بهيمة غيره بغير إذنه.

[فرع: إحداث مجرى أو مسيل في أرض أو سطح الجار]
] : (ولا يجوز أن يجري الماء في أرض غيره، ولا على سطحه بغير إذنه) . هذا قوله الجديد.
وقال في القديم: (إذا ساق رجل عينا أو بئرا، فلزمته مؤنة، ودعته الضرورة إلى إجرائه في ملك غيره، ولم يكن على المجرى في ملكه ضرر بين.. فقد قال بعض

(6/258)


أصحابنا: يجبر عليه) . فأومأ إلى أنه يجبر؛ لما روي: (أن الضحاك، ومحمد بن مسلمة اختلفا في خليج، أراد الضحاك أن يجريه في أرض محمد بن مسلمة، فامتنع منه، فترافعا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: والله لأمرّنه ولو على بطنك) .
والأول هو المشهور من المذهب؛ لأنه حمل على ملك غيره، فلم يجز من غير إذنه، كالحمل على بهيمته. وأما الخبر: فيحتمل أنه كان له رسم وأجرى الماء في أرضه، فامتنع منه، فلذلك أجبره أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ذلك.
فإن ادعى على رجل مالا، فأقر به، ثم قال: صالحني منه، على أن أعطيك مسيل ماء في ملكي.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن بينا الموضع وقدر الطول والعرض.. صح؛ لأن ذلك بيع لموضع من أرضه، ولا يحتاجان أن يبينا عمقه؛ لأنه إذا ملك الموضع.. كان له النزول إلى تخومه) .
وهل يملك المدعي هواء الساقية؟ فيه وجهان، حكاهما الصيدلاني:
أحدهما: يملكه تبعا للأرض.
والثاني: لا يملكه.
فعلى هذا: لا يمنع مالك الأرض من البناء فوق المسيل.
قال ابن الصباغ: وإن صالحه على أن يجري الماء في ساقية في أرض المصالح..

(6/259)


قال في " الأم " [3/202] : (فإن هذا إجارة تفتقر إلى تقدير المدة) . قال أصحابنا: وإنما يصح إذا كانت الساقية محفورة، فأما إذا لم تكن محفورة.. لم يجز؛ لأنه لا يمكن للمستأجر إجراء الماء إلا بالحفر، وليس له الحفر في ملك غيره، ولأن ذلك إجارة لساقية غير موجودة، فإن حفر الساقية وصالحه.. جاز. وإن كانت الأرض في يد المقر بإجارة.. جاز له أن يصالحه على إجراء الماء في ساقية فيها محفورة مدة معلومة؛ لأنها لا تجاوز مدة إجارته، وإن لم تكن الساقية محفورة.. لم يجز أن يصالحه على ذلك؛ لأنه لا يجوز له إحداث ساقية في أرض في يده بإجارة، وكذلك إذا كانت الأرض وقفا عليه.. جاز أن يصالح على إجراء الماء في ساقية محفورة مدة معلومة، وإن أراد أن يحفر ساقية.. لم يكن له ذلك؛ لأنه لا يملكها، وإنما له أن يستوفي منفعتها، كالأرض المستأجرة. وإن صالحه على إجراء الماء على سطحه.. جاز إذا كان السطح الذي يجري ماؤه عليه معلوما؛ لأن الماء يختلف بكبر السطح وصغره.
قال ابن الصباغ: ولا يحتاج إلى ذكر المدة، ويكون ذلك فرعا للإجارة؛ لأن ذلك لا يستوفي به منافع السطح، بخلاف الساقية، فإنه يستوفي منفعتها، فكانت مدتها مقدرة، ولأنهما يختلفان أيضا، فإن الماء الذي يجري في الساقية لا يحتاج إلى تقدير؛ لأنه لا يجري فيها أكثر من ملئها، ويحتاج إلى ذكر السطح الذي يجري فيه؛ لأنه يجري فيه القليل والكثير.
وإن صالحه على أن يسقي زرعه، أو ماشيته من مائه سقية، أو سقيتين.. لم يصح؛ لأن القدر من الماء الذي يسقي به الزرع والماشية مجهول، فإن صالحه على ربع العين، أو ثلثها.. صح، كما قلنا في البيع.

[مسألة: إمكان الانتفاع بجدار الجار]
] : وإذا أراد الرجل أن يضع أجذاعه على حائط جاره، أو حائط مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه، فإن كانت به إلى ذلك حاجة، مثل: أن يكون له براح من الأرض ويحيط

(6/260)


بالبراح له ثلاثة جدر، ولجاره أو لشريكه جدار رابع، وأراد صاحب الثلاثة الجدر التسقيف.. فهل يجبر صاحب الجدار الرابع على تمكينه من ذلك؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يجبر إذا كان ما يضعه لا يضر بالحائط ضررا بينا) . وبه قال أحمد.
ووجهه: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره» ، وروي: «لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبه في جداره» .
فنكس القوم رؤوسهم، فقال أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمينها بين أظهركم. يعني: معرضين عن هذه السنة.

(6/261)


فإذا قلنا بهذا: فلم يبذل الجار له.. أجبره الإمام.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجبر الجار على ذلك) . وهو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه "، ولأنه انتفاع بملك غيره من غير ضرورة، فلم يجز من غير إذنه، كزراعة أرضه، والبناء في أرضه. وأما الخبر: فله تأويلان.

(6/262)


الأول: أنه محمول على الاستحباب.
والثاني: أن معناه: إذا أراد الرجل أن يضع خشبه على جدار نفسه لإخراج روشن أو جناح إلى شارع نافذ، فليس لجاره المحاذي له أن يمنعه من ذلك؛ لأنه قال: " لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره ". فالكناية ترجع إلى أقرب مذكور، وهو الجار.
فإذا قلنا بالأول، وأراد الجار أن يصالحه بمال يأخذه.. لم يكن له ذلك؛ لأن ما وجب عليه بذله.. لم يجز له أن يأخذ عنه عوضا.
وإن قلنا بالثاني، وأراد الصلح على ذلك بعوض.. جاز، كما قلنا في الساباط.
فأما إذا أراد أن يبني على الحائط، أو يضع عليه خشبا تضر به ضررا بينا، أو له جدار آخر يمكنه أن يسقف عليه.. لم يجبر الجار، قولا واحدا.
فإذا قلنا بقوله الجديد، فأعاره صاحب الحائط الحائط، فوضع الخشب عليه.. لم يكن لصاحب الحائط أن يطالبه بقلعه؛ لأن إذنه يقتضي البقاء على التأبيد، فإن قلع المستعير خشبه، أو سقطت.. فهل له أن يعيد مثلها؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأنه قد استحق دوام بقائها.
والثاني: ليس له أن يعيد مثلها بغير إذن مالك الحائط، وهو الصحيح؛ لأن السقف إذا سقط.. فلا ضرر على المستعير في الرجوع.
وإن أراد صاحب الحائط هدم حائطه، فإن لم يكن مستهدما.. لم يكن له ذلك؛ لأن المستعير قد استحق تبقية خشبه عليه، وإن كان مستهدما.. فله ذلك، وعلى صاحب الخشب نقلها، فإذا أعاد صاحب الحائط حائطه، فإن بناه بآلة أخرى.. لم يكن لصاحب الخشب إعادة خشبه بغير إذن؛ لأن هذا الحائط غير الأول، وإن بناه بآلته الأولى.. فهل له أن يعيد خشبه بغير إذن؟ على الوجهين الأولين.
فإن صالحه بمال ليضع أخشابه على جدار جاره - في قوله الجديد - أو قلنا: يجبر الجار على تمكينه من وضعها - على القديم - فصالح صاحب الجدار مالك الخشب ليضع على جداره الخشب.. صح الصلح؛ لأن ما صح بيعه.. صح انتفاعه، كسائر الأموال.

(6/263)


[مسألة: الهواء تابع للقرار]
] : وإن كانت له شجرة في ملكه، فانتشرت أغصانها فوق ملك جاره.. فللجار أن يطالب مالك الشجرة بإزالة ما انتشر فوق ملكه؛ لأن الهواء تابع للقرار، وليس له أن ينتفع بقرار أرض جاره بغير إذنه، فكذلك هواء أرض جاره، فإن لم يزل مالك الشجرة ذلك.. فللجار أن يزيل ذلك عن هواء أرضه بغير إذن الحاكم، كما لو دخلت بهيمة لغيره إلى أرضه، فله أن يخرجها بنفسه، ثم ينظر فيه:
فإن كان ما انتشر في ملكه لينا يمكنه أن يزيل ذلك عن ملكه من غير قطع.. لواه عن ملكه، فإن قطعه.. لزمه أرش ما نقصت الشجرة بذلك؛ لأنه متعد بالقطع.
وإن كان يابسا لا يمكنه إزالة ذلك عن ملكه إلا بقطعه.. فله أن يقطع ذلك، ولا ضمان عليه.
وإن أراد الجار أن يصالح مالك الشجرة بعوض ليقر ذلك في هواء أرضه، فإن كان غير معتمد على حائط.. لم يجز؛ لأنه أفرد الهواء بالعقد إن كان يابسا، وإن كان رطبا.. لم يجز أيضا لهذه العلة، ولأنه يزيد في كل وقت. وإن كان الغصن معتمدا على حائط الجار، فإن كان رطبا.. لم يجز؛ لأنه يزيد في كل وقت، وإن كان يابسا.. صح الصلح، كما لو صالحه على وضع خشبه على حائطه.

[فرع: لا يجبر من ارتفعت داره على وضع سترة]
] : إذا كان سطح داره أعلى من سطح دار جاره.. لم يجبر من علا سطحه على بناء سترة.
وقال أحمد: (يجبر من علا سطحه على بناء سترة؛ لأنه إذا صعد سطحه.. أشرف على دار جاره، والإنسان ممنوع من الانتفاع بملكه على وجه يستضر به غيره، كما لا يجوز أن يدق في ملكه ما يهتز به حائط جاره) .

(6/264)


دليلنا: أنه حاجز بين ملكيهما، فلا يجبر أحدهما على سترة، كالأسفل.
وما ذكره، فغير صحيح؛ لأن الأعلى ليس له أن يشرف على الأسفل، وإنما يستضر الأسفل بالإشراف عليه دون انتفاعه بملكه، ويخالف الدق؛ لأنه يضر بملك جاره.

[فرع: حرية التصرف في الملك]
ونحوه] : ويجوز للإنسان أن يبني حماما بين الدور، ويتخذ دكان خبز بين العطارين.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يجوز له ذلك) في إحدى الروايتين عنه، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
دليلنا: أنه تصرف في ملكه الذي يختص به، ولم يتعلق به حق غيره، فلم يمنع منه، كما لو طبخ في داره أو خبز.. فإنه لا يمنع من ذلك لئلا يلحق جاره الدخان.

[فرع: جواز فتح نافذة مشرفة]
] : قال الشيخ أبو حامد: يجوز للإنسان أن يفتح في داره كوة مشرفة على جاره، وعلى حريمه، ولا يكون للجار منعه؛ لأنه لو أراد رفع جميع الحائط.. لم يمنع منه، فإذا رفع بعضه.. لم يمنع.

[مسألة: وضع باب على الشارع النافذ]
] : إذا كان لرجل دار لها طريق في درب غير نافذ، وظهرها إلى شارع نافذ.. جاز له أن يفتح بابا إلى الشارع النافذ؛ لأنه يملك الاستطراق في الشارع النافذ. فإن قيل: في ذلك إضرار بأهل الدرب؛ لأنه يجعله نافذا.. فالجواب: أن النافذ هو داره، وليس لأحد أن يستطرق داره بغير إذنه.

(6/265)


وإن كان باب داره إلى الشارع النافذ، وظهرها إلى درب ليس بنافذ، فإن أراد أن يفتح إلى الدرب كوة، أو شباكا.. لم يمنع منه، وكذلك إن أراد أن يرفع جداره إلى الدرب غير النافذ.. جاز؛ لأنه يتصرف في ملكه بما لا ضرر فيه على غيره. وإن أراد أن يفتح إلى الدرب بابا ليستطرق فيه.. لم يكن له الاستطراق؛ لأنه لا حق له في الاستطراق فيه. وإن أراد أن يفتح إليه بابا، وينصب عليه بابا، ويسمره، أو لا يسمره، وقال: لا أدخل فيه، ولا أخرج.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن ذلك دلالة على الاستطراق، فكان لأهل الدرب منعه من ذلك.
والثاني: له ذلك، وهو الصحيح؛ لأنه لو رفع جميع حائطه.. لم يكن لأهل الدرب منعه، فكذلك إذا رفع بعضه، وإذا أراد الاستطراق على دربهم.. منعوه.

[فرع: جواز التصرف في الملك]
] : وإن كان لرجل داران، وباب كل واحدة منهما إلى زقاق غير نافذ، وظهر كل واحدة منهما إلى ظهر الأخرى، فإن أراد صاحب الدارين رفع الحائط بينهما، وجعلهما دارا واحدة.. جاز. وإن أراد أن يفتح من أحدهما بابا إلى الأخرى، ليدخل من كل واحدة من الدارين إلى الأخرى، ويدخل من كل واحد من الدربين إلى كل واحدة من الدارين.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: لا يجوز؛ لأنه يجعل لكل واحدة من الدارين طريقا إلى كل واحد من الدربين، ويجعل الدربين كالدرب الواحد، ولأنه يثبت الشفعة في دور كل واحد من الدربين لأهل الدرب الآخر، في قول من يثبت الشفعة في الدار لاشتراكهما في الطريق، وهذا لا يجوز.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يجوز؛ لأن له أن يرفع الحائط كله، فكان له أن يفتح فيه بابا.

(6/266)


[فرع: غيير محل الباب إلى أول الدرب المشترك]
فرع: [تغيير محل الباب إلى أول الدرب المشترك] : إذا كان لرجلين داران في زقاق غير نافذ، وباب دار أحدهما قريب من أول الدرب، ولداره فناء يمتد إلى آخر الدرب، وباب دار الآخر في وسط الدرب، فإن أراد من باب داره قريب من أول الدرب أن يقدم بابه إلى أول الدرب.. جاز؛ لأنه يترك بعض ما كان له من الاستطراق، وإن أراد أن يؤخر بابه إلى داخل الدرب الذي فناء داره هناك.. ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن فناء داره يمتد، فكان له تأخير بابه إلى هنالك، ولأن له يدا في الدرب، فكان الجميع في يدهما.
والثاني: ليس له ذلك، وهو الصحيح؛ لأنه يريد أن يجعل لنفسه الاستطراق في موضع لم يكن له، بدليل: أنه لو أراد أن يتخطى إلى داخل الدرب.. منع منه.
وإن أراد من باب داره في وسط الدرب أن يقدم بابه.. قال الشيخ أبو حامد: فإن أراد أن يقدمه إلى الموضع الذي لا فناء لصاحبه فيه.. كان له ذلك، وجها واحدا، وإن أراد أن يقدمه إلى الموضع الذي لصحابه هناك فناء.. فهل له ذلك؟ يبنى على الوجهين الأولين:
فإن قلنا: ليس لمن باب داره في أول الدرب أن يؤخر بابه.. فلمن باب داره في وسط الدرب أن يقدم بابه، وهو الصحيح.
وإن قلنا: لمن باب داره في أول الدرب أن يؤخر بابه إلى وسط الدرب.. فليس لمن باب داره في وسطه، أن يقدم بابه إلى فناء دار جاره.
وقال ابن الصباغ: ينبغي له أن يقدم بابه في فنائه إلى فناء صاحبه، وجها واحدا؛ لأنه إنما يفتح الباب في فناء نفسه، ولا حق له فيما جاوز ذلك.

(6/267)


[مسألة: انهدام جدار بين جارين]
] : إذا كان بينهما حائط مشترك، فانهدم، أو هدماه، فدعا أحدهما صاحبه إلى بنائه، وامتنع الآخر.. فهل يجبر الممتنع؟ فيه قولان، وهكذا لو كان بينهما نهر، فطم، أو بئر، فاجتمع فيها الطين.. فهل يجبر الممتنع من كسحها على ذلك؟ فيه قولان.
وقال أبو حنيفة: (لا يجبر الممتنع على بناء الحائط، ويجبر على كسح النهر والبئر) .
وعندنا: الجميع على قولين:
[أحدهما] : قال في القديم: (يجبر الممتنع منهما) . وبه قال مالك رحمة الله عليه، واختاره ابن الصباغ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر، ولا إضرار» ، وإذا لم نجبر الممتنع.. أضررنا بشريكه، ولأنه إنفاق على ملك مشترك؛ لإزالة الضرر، فأجبر الممتنع منهما، كالإنفاق على العبد المشترك.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجبر الممتنع) ؛ لأنه إنفاق على ملك لو انفرد بملكه.. لم يجبر عليه، فإذا كان مشاركا لغيره.. لم يجبر عليه، كما لو كان بينهما براح من الأرض لا بناء عليه، فدعا أحدهما الآخر إلى البناء، فامتنع الآخر.. فإنه لا يجبر، وكما لو كان بينهما أرض مشتركة، فدعا أحدهما الآخر إلى زراعتها، فامتنع.. فإنه لا يجبر، وعكس ذلك العبد، لما لزم صاحبه الإنفاق عليه عند الانفراد بملكه.. أجبر على الإنفاق عليه إذا شارك غيره.
وأما الخبر: فلا حجة فيه؛ لأنا لو أجبرنا الشريك.. لأضررنا به، و: (الضرر لا يزال بالضرر) .
فإذا قلنا بقوله القديم، وطالب الشريك شريكه بالبناء.. لزمه الإنفاق معه بقسط

(6/268)


ما يملك من الحائط، فإن امتنع.. أجبره الحاكم، فإن كان له مال.. أخذ الحاكم منه، وأنفق عليه ما يخصه، وإن كان معسرا.. اقترض له الحاكم من الشريك، أو من غيره. وإن بناه الشريك بإذن الممتنع، أو بإذن الحاكم.. كان الحائط ملكا بينهما كما كان، ويرجع الذي بناه على شريكه بحصته من النفقة، وإن بناه بغير إذن شريكه، ولا إذن الحاكم.. لم يرجع بما أنفق؛ لأنه متطوع بالإنفاق، ثم ينظر: فإن بنى الحائط بآلته الأولى.. كان ملكا بينهما كما كان؛ لأن المنفق إنما أنفق على التأليف، وذلك أثر لا عين يملكها، وإن أراد الذي بناه نقضه.. لم يكن له ذلك؛ لأن الحائط ملك لهما، وإن بناه بآلة أخرى.. كان الحائط للذي بناه، وله أن يمنع شريكه من الارتفاق به، فإن أراد الذي بناه نقضه.. كان له ذلك؛ لأنه منفرد بملكه. فإن قال له الممتنع: لا تنقض، وأنا أدفع ما يخصني من النفقة.. أجبر الذي بناه على التبقية؛ لأنه لما أجبر الشريك على البناء.. أجبر الذي بنى على التبقية ببذل النفقة. وإن كان بينهما نهر أو بئر، وأنفق أحدهما بغير إذن شريكه، وغير إذن الحاكم.. فإنه لا يرجع بما أنفق، وليس له أن يمنع شريكه من نصيبه من الماء؛ لأن الماء ينبع في ملكيهما، وليس له إلا نقل الطين، وذلك أثر لا عين، بخلاف الحائط.
وإن قلنا بقوله الجديد.. لم يجبر الممتنع منهما، فإن أراد أحدهما بناءه.. لم يكن للآخر منعه من ذلك؛ لأنه يزول به الضرر عن الثاني. فإن بناه بآلته.. كان الحائط ملكا لهما كما كان، فلو أراد الذي بناه أن ينقضه.. لم يكن له ذلك؛ لأن الحائط ملكهما، فهو كما لو لم ينفرد ببنائه، وإن بناه بآلة له.. فهو ملك للذي بناه، وله أن يمنع شريكه من الارتفاق به، فإن أراد الذي بناه أن ينقضه.. كان له ذلك؛ لأنه ملك له ينفرد به. فإن قال له الممتنع: لا تنقض، وأنا أدفع إليك ما يخصني من النفقة.. لم يجبر الذي بناه على التبقية؛ لأنه لما لم يجبر على البناء في الابتداء.. لم يجبر على التبقية في الانتهاء.. فإن طالب الشريك الممتنع بنقضه.. لم يكن له ذلك، إلا أن

(6/269)


يكون له رسم خشب، فيقول له: إما أن تأخذ مني ما يخصني من النفقة، وتمكنني من وضع خشبي، أو تقلع حائطك لنبنيه جميعا، فيكون له ذلك؛ لأنه ليس للذي بنى إبطال رسوم شريكه هذا إذا انهدم أو هدماه من غير شرط البناء، فأما إذا هدماه على أن يبنيه أحدهما، أو هما، أو هدمه أحدهما متعديا.. قال الشافعي: (أجبرته على البناء) . واختلف أصحابنا فيه.
فمنهم من قال: هي على قولين، كما لو هدماه من غير شرط، والذي نص عليه الشافعي إنما هو على القول القديم، وهو اختيار المحاملي؛ لأن الحائط لا يضمن بالمثل.
ومنهم من قال: يجبر عليه، قولا واحدا.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأن الشافعي نص على ذلك في الجديد، ولأنه هدمه بهذا الشرط، فلزمه الوفاء به.

[فرع: في الصلح لا يصح ترك الحق بغير عوض]
] : وإن كان هذا الحائط بينهما نصفين، فهدماه، أو انهدم، ثم اصطلحا على أن يبنياه، وينفقا عليه بالسوية، ويكون لأحدهما ثلث الحائط، وللآخر ثلثاه، ويحمل عليه كل واحد منهما ما شاء.. فلا يصح هذا الصلح؛ لأن الصلح هو: أن يترك بعض حقه بعوض، وهاهنا قد ترك أحدهما لصاحبه سدس الحائط بغير عوض، فلم يصح، كما لو ادعى على رجل دارا، فأقر له بها، ثم صالحه المدعي منها على سكناها.. فلا يصح؛ لأنه ملكه الدار والمنفعة، ثم مصالحته على منفعتها ترك حق له بلا عوض، كذلك هاهنا مثله، ولأن هذا شرط فاسد؛ لأن كل واحد منهما شرط أن يحمل عليه ما شاء، والحائط لا يحمل ما شاء، فلم يصح، كما لو صالحه على أن يبني على حائطه ما يشاء.. فإنه لا يصح؛ لأن ذلك مجهول

(6/270)


وإن اصطلحا على أن يبنياه، وينفق عليه أحدهما ثلث النفقة، وينفق عليه الآخر ثلثي النفقة، ويحمل على الحائط خشبا معلومة.. فقد قال الشيخ أبو حامد في درسه أولا: يصح الصلح؛ لأنه لما زاد في الإنفاق.. ترك الآخر بعض حقه بعوض. وقال في درسه ثانية: لا يصح هذا الصلح؛ لأن النفقة التي تزيد على نفقة حقه مجهولة، والصلح على عوض مجهول لا يصح، ولأنه صلح على ما ليس بموجود؛ لأن الحائط وقت العقد معدوم.

[فرع: الجدران المشتركة علوا وسفلا]
] : وإن كان حيطان العلو لرجل، وحيطان السفل لآخر والسقف بينهما، فانهدم الجميع.. فليس لصاحب السفل أن يجبر صاحب العلو على البناء، قولا واحدا؛ لأن حيطان السفل لصاحب السفل، فلا يجبر غيره على بنائها، وهل لصاحب العلو المطالبة بإجبار صاحب السفل على بناء السفل؟ على القولين في الحائط.
فإن قلنا بقوله القديم.. أجبر الحاكم صاحب السفل على البناء، وإن لم يكن له مال.. اقترض عليه من صاحب العلو، أو من غيره، وبنى له سفله، وكان ذلك دينا في ذمته إلى أن يوسر، وهكذا إذا بنى صاحب العلو حيطان السفل بإذن صاحب السفل، أو بإذن الحاكم، جاز، وكانت حيطان السفل لصاحب السفل، ولصاحب العلو أن يرجع بما أنفقه على حيطان السفل على صاحب السفل، ثم يعيد علوه كما كان، وإن أراد صاحب العلو أن يبني السفل من غير إذن الحاكم، وغير إذن صاحب السفل.. لم يمنع من ذلك؛ لأنه يستحق الحمل على حيطان السفل، ولا يرجع بما أنفق عليها؛ لأنه متطوع.
فإن بنى صاحب العلو السفل بآلته.. كان ملكا لصاحب السفل كما كان، وليس لصاحب العلو نقضها، ولكن يعيد علوه عليها.
وإن بناه بآلة أخرى.. كانت الحيطان ملكا لصاحب العلو، وليس لصاحب السفل أن يضع عليها شيئا، ولا يتد فيها وتدا، ولكن له أن يسكن في قرار السفل؛ لأن ذلك قرار ملكه، فإن أراد صاحب العلو نقض ذلك.. كان له ذلك؛ لأنه ملكه. وإن بذل

(6/271)


له صاحب السفل ما أنفق، ولا ينقص.. لم يجبر صاحب العلو على التبقية؛ لأنه لا يجبر على البناء في الابتداء، فلم يجبر على التبقية في الانتهاء.

[مسألة: اصطلحا على بناء معلوم فوق البيت]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو ادعى على رجل بيتا في يده، فاصطلحا بعد الإقرار على أن يكون لأحدهما سطحه، والبناء على جدرانه بناء معلوما.. جاز) .
واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة:
فقال أبو العباس ابن سريج: صورتها: أن يدعي رجل على رجل دارا، في يده علوها وسفلها، فيقر له بها، ثم اصطلحا على أن يكون السفل والعلو للمقر له، ويبني المقر على العلو بناء معلوما.. فيصح الصلح، ويكون ذلك فرعا للعارية، وليس ذلك بصلح معاوضة؛ لأن صلح المعاوضة إسقاط بعض حقه بعوض، وهذا ترك بعض حقه بلا عوض؛ لأنه ملك العلو والسفل بالإقرار، ثم ترك المقر له للمقر العلو بغير عوض، فيكون عارية له الرجوع فيها قبل البناء، وليس له الرجوع بعد البناء، كما قال الشافعي: (إذا ادعى على رجل دارا، فأقر له بها، ثم صالحه منها على سكناها.. فلا يكون صلحا، وإنما يكون عارية) .
ومنهم من قال: صورتها: أن يدعي رجل على رجل سفل بيت عليه علو، ويقر: أن العلو للمدعى عليه، فيقر المدعى عليه للمدعي بالسفل، ثم اصطلحا على أن يكون السفل للمدعى عليه، على أن المدعي يبني على العلو غرفة معلومة البناء.. فيصح.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا أصح التأويلين.
وقال ابن الصباغ: الأول أشبه بكلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

[مسألة: صالح أحد رجلين على دار ملكاها بجهتين]
] : إذا ادعى رجل دارا في يد رجلين، فأقر له أحدهما بنصفها، وأنكر الآخر، وحلف له، فصالح المقر المدعي عن نصف الدار على عوض، وصار ذلك النصف

(6/272)


للمقر.. فهل لشريكه المنكر أن يأخذ ذلك بالشفعة؟ قال الشيخ أبو حامد: إن كانا ملكا بجهتين مختلفتين، مثل: أن كان أحدهما ورث ما بيده، والآخر ابتاع ما بيده.. فللشريك المنكر الشفعة؛ لأن الجهتين إذا اختلفتا.. أمكن أن يكون نصيب أحدهما مستحقا، فيدعيه صاحبه، فيعطيه، ثم يملكه بالصلح، فتثبت فيه الشفعة، وإن اتفقت جهة تمليكهما، كالإرث، أو الابتياع.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس للمنكر الأخذ بالشفعة؛ لأنه يقر بأن أخاه أقر بنصف الدار بغير حق، ولم يملكه بالصلح، وهذا يمنعه من المطالبة بالشفعة.
والثاني: له المطالبة بالشفعة، وهو الصحيح؛ لأنه قد حكم بنصفها للمقر له، وحكم بأنه انتقل ذلك إلى المقر بالصلح، مع أنه يحتمل أن يكون قد انتقل إليه نصيب المقر من غير أن يعلم الآخر.
وأما ترتيب ابن الصباغ فيها: فقال: إن كان إنكار المنكر مطلقا، كأن أنكر ما ادعاه.. فله الأخذ بالشفعة، وإن قال: هذه الدار لنا، ورثناها عن أبينا.. فهل له الأخذ بالشفعة؟ فيه وجهان.

[مسألة: إقرار بعض الورثة بحق لآخر]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإذا أقر أحد الورثة في دار في أيديهم بحق لرجل، ثم صالحه منه على شيء بعينه.. فالصلح جائز، والوارث المقر متطوع، ولا يرجع على إخوته بشيء) . واختلف أصحابنا في صورتها:
فمنهم من قال: صورتها: أن يدعي رجل على جماعة ورثة لرجل دارا في أيديهم، كان أبوهم غصبه إياها، فأقر له أحدهم بذلك، وقال: صدقت في دعواك، وقد وكلني شركائي على مصالحتك بشيء معلوم، فحكم هذا في حق شركائه حكم الأجنبي إذا صالح عن المدعى عليه على عين مع الإنكار على ما مضى.
وقال أبو علي الطبري: تأويلها: أن يدعي رجل على جماعة ورثة دينا على

(6/273)


مورثهم، وأن هذه الدار رهنها عنده بالدين، فيقر له أحدهم بصحة دعواه، ويصالحه عن ذلك بشيء، فحكمه حكم الأجنبي إذا صالح عن المدعى عليه بالدين مع إنكاره. قال: لأن الشافعي قال: (وأقر أحد الورثة في دار في أيديهم بحق) ، ولو أقر بالدار.. لقال: أقر بالدار. وإنما أراد رهن الدار، وأيهما كان.. فقد مضى حكمه.
قال الشيخ أبو حامد: والتأويل الأول أصح، وقد بين الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذلك في " الأم " [3/198 - 199] .

[مسألة: المصالحة على دراهم بدل الزرع]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو ادعى رجل على رجل زرعا في الأرض، فصالحه من ذلك على دراهم.. فجائز) . وهذا كما قال: إذا ادعى رجل على رجل زرعا في أرض، فأقر له به، فصالحه عنه بعوض:
فإن كان بشرط القطع.. صح الصلح، فإن كانت الأرض للمقر.. كان له تبقية الزرع؛ لأن الزرع له، والأرض له.
فإن قيل: هلا كان للمدعي إجباره على القطع؛ لأن له غرضا في ذلك، وهو أنه ربما أصابته جائحة، فرفعه إلى حاكم يرى إيجاب وضع الجوائح، فيضمنه ذلك؟
قال ابن الصباغ: فالجواب: أن ذلك إنما يكون إذا لم يشرط القطع، فأما مع شرط القطع، فلا يضمن البائع الجوائح.
وإن صالحه من غير شرط القطع، فإن كانت الأرض لغير المقر.. لم يصح الصلح، وإن كانت الأرض للمقر.. فهل يصح الصلح؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في البيع.
وإن كان الزرع بين رجلين، فادعى عليهما رجل به، فأقر له أحدهما بنصفه،

(6/274)


وصالحه منه على عوض، فإن كانت الأرض لغير المقر.. لم يصح الصلح، سواء كان مطلقا أو بشرط القطع؛ لأنه إن كان مطلقا.. فلا يصح؛ لأنه زرع أخضر، فلا يصح بيعه من غير شرط القطع، وإن كان بشرط القطع.. لم يصح أيضا؛ لأن نصيبه لا يتميز عن نصيب شريكه، فلا يجبر شريكه على قلع زرعه. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وقد مضى ذكرها في البيوع.
وذكر القاضي أبو الطيب: أن ذلك ينبني على القولين في القسمة، هل هي بيع، أو إفراز حق؟ وإن كانت الأرض للمقر، فإن قلنا: إن من اشترى زرعا في أرضه، يصح من غير شرط القطع.. صح الصلح هاهنا، وإن قلنا: لا يصح أن يشتري زرعا في أرضه إلا بشرط القطع.. لم يصح الصلح هاهنا.

[فرع: المصالحة على نصف الأرض بنصف الزرع]
] : قال ابن الصباغ: وإن ادعى على رجل زرعا في أرضه، فأقر له بنصفه، ثم صالحه منه على نصفه على نصف الأرض.. لم يجز؛ لأن من شرط بيع الزرع قطعه، وذلك لا يمكن في المشاع، وإن صالحه منه على جميع الأرض بشرط القطع على أن يسلم إليه الأرض فارغة.. صح؛ لأن قطع جميع الزرع واجب، نصفه بحكم الصلح، والباقي لتفريغ الأرض، فأمكن القطع، وجرى مجرى من اشترى أرضا فيها زرع، وشرط تفريغ الأرض.. فإنه يجوز، كذلك هاهنا.
وإن أقر له بجميع الزرع، وصالحه من نصفه على نصف الأرض؛ ليكون الزرع والأرض بينهما نصفين، وشرطا القطع في الجميع، فإن كان الزرع زرع في الأرض بغير حق.. جاز الصلح؛ لأن الزرع يجب قطع جميعه، وإن كان الزرع زرع بحق.. لم يصح الصلح؛ لأنه لا يمكن قطع الجميع.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أن أصحابنا قالوا: إذا كان له زرع في أرض غيره، فصالح صاحب الزرع صاحب الأرض من نصف الزرع على نصف الأرض بشرط القطع.. جاز؛ لأن نصف الزرع قد استحق قطعه بالشرط، والنصف الآخر قد استحق أيضا قطعه؛ لأنه يحتاج إلى تفريغ الأرض لتسليمها، فوجب أن

(6/275)


يفرغها. قال: وهذا ضعيف، أما النصف: فقد استحق قطعه، وأما النصف الآخر: فلا يحتاج إلى قطعه؛ لأنه يمكن تسليم الأرض وفيها زرع.
قال ابن الصباغ: ولأن باقي الزرع ليس بمبيع.. فلا يصح شرط قطعه في العقد، ويفارق ما ذكرناه إذا أقر بنصف الزرع، وصالحه على جميع الأرض؛ لأنه شرط تفريغ جميع المبيع.
وبالله التوفيق

(6/276)