البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الحوالة]

(6/277)


كتاب الحوالة الحوالة: نقل حق من ذمة إلى ذمة، مشتقة من قولهم: حولت الشيء من موضع إلى موضع: إذا نقلته إليه.
والأصل في جوازها: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم على مليء.. فليحتل» ، وروي: «وإذا اتبع أحدكم على مليء.. فليتبع» . والمراد به الحوالة.

(6/279)


وأجمع المسلمون على جوازها، ولا تتم إلا بثلاثة أنفس: محيل، وهو: من يحيل بما عليه، ومحتال، وهو: من يحتال بما له من الحق، ومحال عليه، وهو: من ينتقل حق المحتال إليه.

[مسألة: الحوالة ثابتة للحق المستقر في الذمة]
) : وتجوز الحوالة بعوض القرض، وبدل المتلف؛ لأنه حق ثابت مستقر في الذمة، فجازت الحوالة به كبيعه.
قال الشيخ أبو حامد: وتجوز الحوالة بثمن المبيع؛ لأنه دين مستقر.
وهل تجوز الحوالة بالثمن في مدة الخيار؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - وهو قول القاضي أبي حامد -: أنه لا تصح الحوالة به؛ لأنه ليس بثابت.
والثاني: تصح؛ لأنه يئول إلى اللزوم، ولا تجوز الحوالة بالمبيع قبل القبض؛ لأنه غير مستقر؛ لأنه قد يتلف فيبطل البيع فيه.

(6/280)


[فرع: عدم صحة الحوالة بمال غير مستقر]
] : ولا تجوز الحوالة بدين السلم، ولا عليه، لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلم في شيء.. فلا يصرفه إلى غيره» .
وأما المكاتب إذا حصلت عليه ديون لغير سيده من المعاملة، وله ديون.. جاز له أن يحيل بعض غرمائه على بعض، وجاز لغرمائه أن يحيلوا عليه بما لهم في ذمته؛ لأن الحق ثابت في ذمته، وأما ما في ذمته من مال الكتابة: فلا يجوز لسيده أن يحيل به عليه؛ لأنه غير مستقر؛ لأن له أن يعجز نفسه متى شاء، فلا معنى للحوالة به، وإن أراد المكاتب أن يحيل سيده بمال الكتابة الذي عليه على غريم المكاتب.. قال ابن الصباغ: صحت الحوالة. واشترط صاحب " المجموع " أن يكون النجم قد حل؛ لأنه بمنزلة أن يقضيه ذلك من يده.
وإن كان لسيده عليه مال من جهة المعاملة.. فهل يجوز للسيد أن يحيل غريما له عليه؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري:
أحدهما: يصح، ولم يذكر ابن الصباغ غيره؛ لأنه دين لازم.
والثاني: لا يصح؛ لأنه قد يعجز نفسه، فيسقط ما في ذمته لسيده من دين المعاملة وغيرها؛ لأن السيد لا يثبت له المال على عبده.
قال الصيمري: وإن أحاله رجل على عبده، فإن كان مأذونا له في التجارة جاز، وإن كان غير مأذون له ... ففيه وجهان، الأصح: لا تصح الحوالة.

[مسألة: صحة الحوالة بالنقد المعلوم]
] : تجوز الحوالة بالدراهم، والدنانير، وبما له مثل، كالطعام والأدهان؛ لأن القصد من الحوالة إيفاء الغريم حقه من غير زيادة ولا نقصان، وذلك يحصل بما ذكرناه.

(6/281)


وهل تصح الحوالة بما لا مثل مما يضبط بالصفة، كالثياب، والحيوان، والعروض التي يصح السلم عليها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه مال ثابت في الذمة مستقر، فصحت الحوالة به، كالدراهم والدنانير.
والثاني: لا يصح؛ لأن المثل فيه لا ينحصر، ولهذا لا يضمن بمثله في الإتلاف.
فإذا قلنا بهذا: لم تجز الحوالة بإبل الدية، وإذا قلنا بالأول.. فهل تصح الحوالة بإبل الدية؟ فيه وجهان، مخرَّجان من القولين للشافعي: (إذا جنت امرأة على رجل موضحة، فتزوجها على خمس من الإبل في ذمتها له أرش جنايتها عليه) ، وكذلك قال في (الصلح) : (إذا كان له في ذمته أرش جناية، خمس من الإبل، فصالح عنها) .. فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: (يصح) ؛ لأنه دين مستقر في الذمة معلوم العدد والسن.
والثاني: (لا يصح) ، وهو الصحيح؛ لأنها مجهولة الصفة؛ لأنه لا يتعين على من وجبت عليه أن يسلمها من لون مخصوص.

[مسألة: كون الحقين متجانسين]
) : ولا تصح الحوالة إلا إذا كان الحقان من جنس واحد، فإن كان عليه لرجل دنانير، فأحاله بها على رجل له عليه دراهم، أو أحال من له عليه حنطة على من له عليه شعير، أو ذرة.. لم تصح الحوالة؛ لأن موضوع الحوالة: أنها لا تفتقر إلى رضا المحال عليه، فلو صححناها بغير جنس الحق.. لاشترط فيها رضاه؛ لأنه لا يجيز على تسليم غير الجنس الذي عليه، ولأن الحوالة تجري مجرى المقاصة؛ لأن المحيل يسقط

(6/282)


ما في ذمته بما له في ذمة المحال عليه، ثم المقاصة لا تصح في جنس بجنس آخر، فكذلك الحوالة.
ولا تصح الحوالة إلا إن كان الحقان من نوع لجنس واحد؛ لما ذكرناه في الجنس، فإن كان له على رجل ألف درهم صحاح، فأحاله بها على من له عليه ألف درهم مكسرة، أو كان بالعكس من ذلك.. لم تصح الحوالة؛ لأن الحوالة في الحقيقة بيع دين بدين، وبيع الدراهم بالدراهم صرف من شرطه القبض في المجلس، إلا أنه جوز تأخير القبض في الحوالة؛ لأنه عقد إرفاق ومعروف، فإذا دخل فيه الفضل.. صار بيعا وتجارة، وبيع الدين بالدين لا يجوز، ألا ترى أن القرض في الحقيقة صرف؛ لأنه يعطي درهما بدرهم، ولكن جوزنا تأخير القبض فيه؛ لأنه إرفاق؟
ولو قال: أقرضتك هذه الدراهم المكسرة لترد علي صحاحا.. لم يصح. فكذلك هذا مثله.

[فرع: يحال الدين الحال على الحال، والمؤجل على المؤجل]
] : وإن أحاله بدين حال على رجل له عليه دين حال، أو بدين مؤجل على دين مؤجل، وهما متساويان في الأجل.. صح، وإن أحاله بدين حال عليه على دين مؤجل له.. لم يصح؛ لأن الحال لا يتأجل عندنا، ولأن المحتال قد نقص من حقه، وهو أن دينه كان معجلا، فجعله مؤجلا، لينقل حقه من ذمة إلى ذمة، فلم يصح، كما لو كان له دين مؤجل، فقال: من عليه الدين لمن له الدين: انقص من دينك، لأقدم لك دينك قبل حلوله.. فإن هذا لا يصح.
وإن كان عليه لرجل دين مؤجل، فأحاله به على دين له حال.. فهل تصح الحوالة؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 282] :
أحدهما: تصح؛ لأنه يمكنه تعجيل المؤجل.
والثاني: لا تصح، وهو قول البغداديين من أصحابنا؛ لأن المحيل قد زاد المحتال في حقه، لينقل حقه من ذمته إلى ذمة غيره، فلم يصح، كما لو كان له عليه ألف حال، فزاده فيه ليجعله مؤجلا.

(6/283)


[فرع: الإحالة على مدين وضامن]
] : وإن كان لرجل على رجلين ألف درهم، على كل واحد منهما خمسمائة، وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه، فأحاله أحدهما على الآخر بألف؛ برئت ذمتهما مما له عليهما، وإن أحال عليهما رجلا له عليه ألف ليأخذ من كل واحد منهما خمسمائة.. صح، وإن أحاله عليهما، على أن يطالب من شاء منهما بالألف.. فهل تصح الحوالة؟ فيه وجهان، حكاهما أبو العباس:
أحدهما: تصح الحوالة، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأن المحتال لا يأخذ إلا قدر حقه؛ لأن الزيادة إنما تكون في القدر، أو الصفة، ألا ترى أنه يجوز أن يحيل على من هو أملى منه؟
والثاني: لا تصح الحوالة، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه يستفيد بهذه الحوالة زيادة في المطالبة؛ لأنه كان يطالب واحدا، فصار يطالب اثنين، ولأن الحوالة بيع، فإذا كان الحق على اثنين.. كان المقبوض منه منهما مجهولا، فلم تصح.
قال الشيخ أبو حامد:
فعلى هذا الوجه: لا تصح الحوالة بدين فيه ضمان، أو رهن.
وقال ابن الصباغ: ينبغي أن لا تصح الحوالة بدين لا رهن به على دين به رهن، وجها واحدا؛ لأن الرهن عقد وقع له، فلا يقبل النقل إلى غيره، بخلاف الذي له على الضامن؛ لأنه يقبل النقل. ولهذا لو أحاله عليه وحده.. جاز.

[مسألة: الإحالة على من لا حق له عنده]
] : إذا كان لرجل على رجل حق، فأحاله على من لا حق له عليه، فإن لم يقبل المحال عليه الحوالة.. لم تصح الحوالة، ولم تبرأ ذمة المحيل؛ لأنه لا يستحق شيئا على المحال عليه، وإن قبل المحال عليه الحوالة.. فهل تصح الحوالة؟ فيه وجهان:

(6/284)


أحدهما: لا تصح، وهو قول أكثر أصحابنا، وهو ظاهر كلام المزني: لأن الحوالة معاوضة، فإذا كان لا يملك شيئا في ذمة المحال عليه.. لم تصح، كما لو اشترى شاة حية بشاة ميتة، ولأنه لو أحاله على من له عليه دين غير لازم، أو غير مستقر، أو مخالف لصفة دينه.. لم تصح الحوالة، فلأن لا تصح الحوالة على من لا دين له عليه أولى.
والثاني: تصح الحوالة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لأن المحال عليه إذا قبل الحوالة.. صار كأنه قال لصاحب الحق: أسقط عنه حقك، أو أبرئه، وعلي عوضه، ولو قال ذلك.. للزمه؛ لأنه استدعاء إتلاف ملك بعوض، فكذلك هذا مثله.
فإذا قلنا بهذا: فللمحال عليه أن يطالب المحيل بتخليصه. كما يطالب الضامن المضمون عنه بتخليصه، فإن وزن المحال عليه الحق، فإن كان يغير إذن المحيل.. لم يرجع على المحيل بشيء؛ لأنه متطوع، وإن وزن بإذنه.. رجع عليه، وإن أبرأ المحتال المحال عليه.. برئ، ولا يرجع المحال عليه على المحيل بشيء؛ لأنه لم يغرم شيئا، والذي يقتضي المذهب: أن المحتال لا يرجع على المحيل بشيء؛ لأن ذمته قد برئت بالحوالة على هذا، وإن قبض المحتال الحق من المحال عليه بإذن المحيل، ثم وهبه المحتال للمحال عليه.. فهل يرجع المحال عليه على المحيل بشيء؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه لم يغرم شيئا؛ لأن ما دفع.. رجع إليه.
والثاني: يرجع عليه، وهو المذهب؛ لأنه قد غرم، وإنما عاد إليه بسبب آخر.
وإن كان عليه دين مؤجل، فأحاله على رجل لا شيء له عليه، وقبل المحال عليه الحوالة، وقلنا: تصح، فإن قضاه المحال عليه الحق في محله بإذن المحيل..

(6/285)


رجع عليه، وإن قضاه قبل حلول الحق.. لم يرجع على المحيل قبل محل الدين؛ لأنه متطوع بالتقديم. فإن اختلف المحيل والمحال عليه، فقال المحال عليه: أحلت علي، ولا حق لك علي، وأنا أستحق الرجوع عليك؛ لأني قضيت بإذنك. وقال المحيل: بل أحلت بحق لي عليك.. فالقول قول المحال عليه مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الدين.

[مسألة: صحة الحوالة برضا المحتال]
] : ولا تصح الحوالة إلا برضا المحتال، وبه قال كافة أهل العلم.
وقال داود، وأهل الظاهر: (لا يعتبر رضاه، إذا كان المحال عليه مليئا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أحيل أحدكم على مليء.. فليحتل» . وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب) .
دليلنا: أن الحق قد تعلق بذمة المحيل، فلا يملك نقله إلى غير ذمته بغير رضا من له الحق، كما لو تعلق الحق بعين.. فليس له أن ينقله إلى عين أخرى بغير رضا من له الحق. وأما الخبر: فمحمول على الاستحباب.
وأما المحيل: فإن البغداديين من أصحابنا قالوا: يعتبر رضاه؛ لأن الحق عليه، فلا تتعين عليه جهة قضائه، كما لو كان له دراهم في كيسه.. فليس لصاحب الحق أن يطالب بإجباره على أن يقضيه حقه من كيس معين.
وأما الخراسانيون: فقالوا: هل يعتبر رضا المحيل؟ فيه وجهان، وصورتها: أن يقول المحال عليه لرجل: أحلتك على نفسي بالحق الذي لك على فلان. فإذا قال: قبلت.. فهل يصح؟ على الوجهين، بناء على الوجهين فيما لو قال: ضمنت عنه بشرط أن يبرئه.
وعندي: أن هذين الوجهين إنما يتصوران في المحال عليه إذا لم يكن عليه حق للمحيل، وقلنا: تصح الحوالة على من لا حق عليه برضاه، فأما إذا كان للمحيل على المحال عليه حق.. فلا يصح بغير رضا المحيل، وجها واحدا.

(6/286)


وأما رضا المحال عليه إذا كان عليه حق للمحيل.. فهل يعتبر في صحة الحوالة رضاه؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول ابن القاص، وأبي سعيد الإصطخري -: أن الحوالة لا تصح إلا برضاه، وهو قول الزهري؛ لأنه أحد من تتم به الحوالة، فاعتبر رضاه، كالمحيل والمحتال.
والثاني - وهو المذهب -: أن الحوالة تصح من غير رضاه؛ لأن المحيل أقام المحتال مقامه في القبض، فلم يعتبر رضا من عليه الحق، كما لو وكل من له الحق وكيلا في القبض.. فإنه لا يعتبر رضا من عليه الحق.

[مسألة: الحوالة بيع أو رفق]
] : قال الشيخ أبو حامد: واختلف أصحابنا في الحوالة، هل هي بيع، أو رفق؟ على وجهين:
فـ[الأول] : منهم من قال: إنها رفق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا أحيل أحدكم على مليء.. فليحتل» . فندب إلى الحوالة، والبيع مباح لا مندوب إليه، وإنما المندوب إليه الرفق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القرض: «قرض درهم خير من صدقته» ، ولأن الحوالة لو كانت بيعا لدخل فيها الفضل، ولما صحت بالدين.
و [الوجه الثاني] : منهم من قال: إن الحوالة بيع، إلا أن البيع ضربان: ضرب بلفظ البيع، فيدخله الربح والفضل والمغابنة، وضرب منه بغير لفظه، فيكون القصد

(6/287)


منه الرفق، فلا يدخله الفضل والمغابنة، ولأنها تقتضي التمليك، كالبيع؛ لأن المحيل يملك المحتال ما له في ذمة المحال عليه، إلا أنهما اختلفا في الاسم ليعرف به المطلوب من كل واحد منهما.
فإذا قلنا: إنها رفق.. لم يدخلها خيار المجلس، كالقرض، وإذا قلنا: إنها بيع.. دخلها خيار المجلس، كالصرف، وأما خيار الثلاث: فلا يدخلها بالإجماع، وعندي: أن الوجهين في الحوالة على من لا حق له عليه برضا المحال عليه مأخوذان من هذا، فإذا قلنا: إن الحوالة رفق. صحت، وإذا قلنا: إنها بيع.. لم تصح.

[مسألة: انتقال الدين بالحوالة]
] : إذا أحال بالحق.. انتقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وبرئت ذمة المحيل، وهو قول كافة العلماء.
وقال زفر: لا ينتقل الحق من ذمة المحيل، وإنما يكون له مطالبة أيهما شاء، كالضمان.
دليلنا: أن الحوالة مشتقة من تحويل الحق، والضمان مشتق من ضم ذمة إلى ذمة، فيجب أن يعطى كل لفظ ما يقتضيه.
إذا ثبت: أن الحق انتقل من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.. فإن الحق لا يعود إلى ذمة المحيل بإفلاس المحال عليه، ولا بموته، ولا بجحوده ويمينه، وبه قال مالك، والليث، وأحمد، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وقال أبو حنيفة: (يرجع إليه في حالين: إذا مات المحال عليه مفلسا، وإذا جحد الحق وحلف) .

(6/288)


وقال محمد، وأبو يوسف: يرجع إليه في هذين الحالين، وفي حالة ثالثة: إذا أفلس المحال عليه وحجر عليه.
وقال الحكم: يرجع إليه في حالة واحدة: إذا مات المحال عليه مفلسا. وأيس من الوصول إلى حقه.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء.. فليتبع» .
قال الشافعي: (فلما ندب المحتال إلى اتباع المحال عليه، بشرط أن يكون المحال عليه مليئا.. علم أن الحق يتحول عن المحيل إلى ذمة المحال عليه تحولا يمنع المحتال من الرجوع إلى المحيل، إذ لو كان له الرجوع إليه.. لم يكن بفقد هذا الشرط عليه ضرر) .
قال أصحابنا: ولأن عموم الخبر يدل على: أنه يتبع أبدا وإن مات مفلسا. أو جحده فحلف.
وروي: أن أبا سعيد بن المسيب كان له على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حق، فسأله أن يحيله به على رجل، فأحاله به عليه، فمات المحال عليه. فعاد أبو سعيد يسأل عليا حقه، فقال له علي: (اخترت علينا غيرنا، أبعدك الله) . فثبت أنه إجماع؛ لأنه لم ينكر على علي أحد من الصحابة، ولأنه لا يخلو: إما أن يكون بالحوالة سقط حقه من ذمة المحيل، أو لم يسقط، فإن لم يسقط حقه عنه.. كان له الرجوع عليه، سواء مات المحال عليه، أو لم يمت، وسواء أفلس أو لم يفلس، وإن كان قد سقط حقه عنه، فكيف يرجع بالإعسار والجحود؟! لأن الحوالة كالقبض للحق، فلم يرجع على المحيل، كما لو قبض عن حقه عوضا، فتلف في يده.

(6/289)


[فرع: تصح الإحالة بعد القبض]
] : إذا كان عليه دين لرجل، فأحاله على من له عليه دين، ثم إن المحيل قضى المحتال.. صح القضاء، ولا يرجع المحيل على المحال عليه بشيء إذا قضى بغير إذنه.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (يكون له الرجوع عليه) .
دليلنا: أن الحوالة قد صحت، وإنما تبرع بالقضاء عنه، فلم يرجع عليه بشيء، ولأنه لا يملك إبطال الحوالة، فكان بدفعه متبرعا، كما لو قضى عنه أجنبي.

[فرع: الإحالة على مجهول الحال]
] : وإن أحال على رجل، ولم يشترط أنه مليء، أو معسر، فبان أنه معسر.. لم يرجع المحتال على المحيل، سواء علم بإعساره أو لم يعلم، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إذا لم يعلم بإعساره.. كان له الرجوع على المحيل) .
دليلنا: أن الإعسار لو حدث بعد الحوالة، وقبل القبض.. لم يثبت للمحتال الخيار، فكذلك إذا ثبت أنه معسر حال العقد.
وأما إذا أحاله على رجل بشرط أنه مليء.. قال الشيخ أبو حامد: فإن قال: أحلتك على فلان الموسر، أو فلان، وهو موسر، فقبل الحوالة، ثم بان أنه معسر.. فقد روى المزني عن الشافعي: (أن المحتال لا يرجع على المحيل أبدا، سواء كان المحال عليه غنيا أو فقيرا، أفلس أو مات معدما، غره أو لم يغره) .
واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو العباس: له أن يرجع على المحيل، كما لو باعه سلعة بشرط أنها سليمة من العيب، فبانت بخلافها. قال: وما نقله المزني.. فلا أعرفه للشافعي في شيء من كتبه.

(6/290)


وقال أكثر أصحابنا: ليس له أن يرجع عليه، كما نقله المزني؛ لأن الإعسار لو كان عيبا في الحوالة.. لثبت له فيه الخيار من غير شرط، كالعيب في المبيع، ولأن التفريط في البيع من جهة البائع، حيث لم يبين العيب في سلعته، فإذا لم يبين.. ثبت للمشتري الخيار، والتفريط هاهنا من جهة المحتال، حيث لم يختبر حال المحال عليه، ولأن نفس السلعة حق للمشتري، فإذا وجدها ناقصة.. كان له الرجوع إلى الثمن، وليس كذلك ذمة المحال عليه؛ لأنها ليست نفس حق المحتال، وإنما هي محل لحقه، فوجود الإعسار بذمة المحال عليه ليس بنقصان في حقه، وإنما يتأخر حقه، ألا ترى أنه قد يتوصل إلى حقه من هذه الذمة الخربة بأن يوسر، أو يستدين، فيقضيه حقه، بخلاف المبيع إذا وجده معيبا؟

[مسألة: لا تبطل الحوالة بعد قبضها إن وجد عيبا]
] : وإن اشترى رجل من رجل عبدا بألف، ثم أحال المشتري البائع بالألف على رجل عليه للمشتري ألف، ثم وجد المشتري بالعبد عيبا، فرده، فإن رده بعد أن قبض البائع مال الحوالة.. انفسخ البيع، ولم تبطل الحوالة بلا خلاف على المذهب، بل قد برئت ذمة المحال عليه، ويرجع المشتري على البائع بالثمن، وإن رده قبل قبض البائع مال الحوالة.. فقد ذكر المزني في " المختصر ": (أن الحوالة باطلة) . وقال في " الجامع الكبير ": (الحوالة ثابتة) .
واختلف أصحابنا فيها على أربع طرق: فـ[الطريق الأولى] : قال أبو إسحاق، وأبو علي بن أبي هريرة: تبطل الحوالة، كما ذكر في " المختصر "؛ لأن الحوالة وقعت بالثمن، فإذا رد العبد بالعيب.. انفسخ البيع، وسقط الثمن، فبطلت الحوالة.
و [الطريق الثانية] : قال أبو علي في " الإفصاح ": لا تبطل الحوالة، كما ذكر في " الجامع "؛ لأن الحوالة كالقبض، فلم تبطل برد المبيع، كما لو قبض المحتال مال الحوالة، ثم وجد المشتري بالعبد عيبا، فرده، ولأن المبتاع دفع إلى البائع بدل ما له في ذمته، وعاوضه بما في ذمة المحال عليه، فإذا انفسخ العقد الأول.. لم ينفسخ

(6/291)


الثاني، كما لو أعطاه بالثمن ثوبا، وسلمه إليه، ثم وجد بالعبد عيبا، فرده.. فإن العقد لا ينفسخ في الثوب.
و [الطريق الثالثة] : منهم من قال: هي على حالين:
فـ[الأول] : حيث قال: (الحوالة باطلة) أراد: إذا رد العبد قبل أن يقبض البائع مال الحوالة.
و [الثاني] : حيث قال: (الحوالة لا تبطل) أراد: إذا رد العبد بعد أن يقبض البائع مال الحوالة.
و [الطريق الرابعة] : منهم من قال: بل هي على حالين آخرين:
فـ[الأول] : حيث قال: (تبطل الحوالة) أراد: إذا ادعى المشتري وجود العيب، وعزاه إلى حال العقد، فصدقه البائع؛ لأن الحوالة تمت بهما جميعا، فانحلت بهما.
و [الثاني] : حيث قال: (لا تبطل) أراد: إذا ادعى المشتري أن العيب كان موجودا حال العقد، وقال البائع: بل حدث في يدك. وكان مما يمكن حدوثه، فلم يحلف البائع، وحلف المشتري.. فإن الحوالة لا تنفسخ؛ لأن الحوالة تمت بهما، فلا تنفسخ بأحدهما.
هذا إذا كان الرد بعد مدة الخيار، فأما إذا كان الرد في مدة الخيار: فإن البيع ينفسخ، والحوالة تبطل، وجها واحدا، سواء كان قبل القبض، أو بعده؛ لأن البيع لا يلزم قبل انقضاء الخيار، وإذا لم يلزم البيع.. لم تلزم الحوالة؛ لأنها متعلقة بالثمن. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وهذا يدل من قوله: إن الحوالة بالثمن في مدة الخيار تصح. وقد مضى فيه وجهان.

[فرع: تصح الحوالة مهرا]
] : وإن أحال الزوج زوجته بالمهر، ثم ارتدت قبل الدخول، أو وجد أحدهما بالآخر عيبا، ففسخ النكاح، فإن كان ذلك بعد أن قبضت المرأة مال الحوالة.. لم تبطل الحوالة، وإن كان ذلك قبل القبض.. فعلى الخلاف المذكور في البيع.

(6/292)


[فرع: لا يضر العيب بالمشترى حوالة]
] : وإن أحال البائع رجلا بالثمن على المشتري، ثم وجد المشتري بالعبد عيبا، فرده.. لم تنفسخ الحوالة، وجها واحدا؛ لأنه تعلق بالحوالة، حق غير المتعاقدين، وهو الأجنبي، فلم يبطل حقه بغير رضاه، وهكذا لو أحالت الزوجة بمهرها على الزوج رجلا، ثم ارتدت قبل الدخول.. لم تبطل الحوالة؛ لأنه تعلق بالحوالة حق أجنبي، وهو المحتال، فلا تبطل من غير رضاه.

[مسألة: الحوالة لا تصحح العقد الفاسد]
] : ولو اشترى رجل من رجل عبدا بألف، ثم أحال البائع رجلا له عليه ألف على المشتري، ثم تصادق البائع والمشتري: أن العبد كان حرا وقت البيع، فإن صدقهما المحتال على حرية العبد وقت البيع، وأن الحوالة وقعت بالثمن.. حكم ببطلان الحوالة، وكان للمحتال أن يطالب البائع بما له عليه؛ لأن الحوالة وقعت بالثمن وقد صدقهما أنه لا ثمن للبائع على المشتري. وإن كذبهما المحتال، ولم يكن هناك بينة.. فالقول قول المحتال مع يمينه؛ لأن الحوالة تمت بالمحيل والمحتال، فلا تنحل إلا بهما، كما أن البيع لما تم بالبائع والمشتري.. لا ينفسخ البيع إلا بهما، ولأنه قد تعلق بالثمن حق غير المتبايعين، فلا يبطل حقه بقول المتبايعين، كما لو اشترى عبدا، فقبضه، وباعه من آخر، ثم اتفق المتبايعان الأولان أن العبد كان حرا.. فإنهما لا يقبلان على المبتاع الثاني، فإذا حلف المحتال.. قبض المال من المشتري، وهل يرجع المشتري على البائع بذلك؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال صاحب " الفروع ": يرجع عليه؛ لأن المشتري قضى عن البائع دينه بإذنه، فرجع عليه.
و [الثاني] : قال الطبري في " العدة ": لا يرجع عليه؛ لأن المشتري يقر أن

(6/293)


المحتال ظلمه بأخذ ذلك منه، فلا يرجع به على غير من ظلمه.
وإن أقام البائع أو المشتري بينة.. فهل تسمع؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو إسحاق: لا تسمع؛ لأنهما كذبا البينة بدخولهما في البيع.
[والثاني] : قال الشيخ أبو حامد، وصاحب " الفروع ": إن شهدت البينة بأن العبد حر الأصل، وأن الحوالة وقعت بالثمن، أو شهدت بأنه حر الأصل، وأقر المحتال بأن الحوالة وقعت بالثمن. بطلت الحوالة؛ لأنه إذا ثبت أنه حر.. تبينا أنه لم يتعلق بذمة المشتري شيء، فحكم ببطلان الحوالة.
وإن أقام العبد بينة بحريته.. قال ابن الصباغ: ثبتت حريته وبطلت الحوالة، ولم يذكر له وجها، والذي يقتضي المذهب: أن الحوالة لا تبطل بذلك؛ لأن العبد يحكم بحريته بتصادق البائع والمشتري، ولا تبطل الحوالة بذلك، فكذلك إذا أقام العبد بينة، ولأن المتبايعين إذا كانا مقرين بحريته، فلا حاجة لنا إلى إقامة البينة، فلا تبطل الحوالة بإقامته للبينة.
وإن صدقهما المحتال أنه كان حرا، وادعى أن الحوالة وقعت بغير الثمن، وقالا: بل وقعت بالثمن، أو أقاما البينة أن العبد كان حرا، ولم تذكر البينة أن الحوالة وقعت بالثمن.. فالقول قول المحتال مع يمينه؛ لأنهما يدعيان ما يفسدها، والأصل صحتها.
قال الشيخ أبو حامد: ويحلف على العلم.

[مسألة: الحوالة في القبض توكيل]
] : قال أبو العباس: إذا كان لرجل عند رجل ألف، فقال من له الدين لرجل لا شيء عليه له: أحلتك على فلان بألف.. فهذا توكيل منه في القبض، وليس بحوالة؛ لأن الحوالة إنما تكون لمن له حق، ولا حق للمحتال عليه هاهنا، فثبت أن ذلك توكيل.
وإن كان لزيد على عمرو ألف درهم، ولعمرو على خالد ألف درهم، واختلف

(6/294)


زيد وعمرو، فقال زيد لعمرو: أحلني بالألف التي عليك لي بالألف التي لك على خالد - بلفظ الحوالة - وقال عمرو: بل وكلتك أن تقبضها لي منه - بلفظ الوكالة - فالقول قول عمرو؛ لأنهما اختلفا في لفظه، وهو أعلم بلفظه، ولأنه قد ثبت استحقاق عمرو للألف في ذمة خالد، وزيد يدعي أن ملكها قد انتقل إليه بالحوالة، والأصل بقاء ملك عمرو عليها، وعدم ملك زيد.
وإن قال عمرو لزيد: أحلتك على خالد بالألف التي لي عليه، فقبل زيد، ثم اختلفا: فقال عمرو: وكلتك لتقبضها لي منه، ومعنى قولي: أحلتك، أي: سلطتك عليه. وقال زيد: بل أحلتني عليه بديني الذي لي عليك.. فاختلف أصحابنا [على وجهين] :
فـ[الوجه الأول] : قال المزني: القول قول المحيل، وهو عمرو، وبه قال الشيخ أبو حامد، والطبري، وأبو إسحاق، وأبو العباس، وأكثر أصحابنا، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنهما قد اتفقا على ملك عمرو للألف التي في ذمة خالد، واختلفا في انتقالها إلى زيد؛ وهو المحتال، فكان القول قول عمرو؛ لأن الأصل بقاء ملكه عليها وإن كان الظاهر مع زيد، كما لو كان لرجل عبد في يد آخر، فادعى من هو في يده أن مالكه وهبه منه، وقال المالك، بل أعرتكه.. فالقول قول المالك، وكما لو كانت دار في يد رجل، فادعى رجل أنه ورثها من أبيه، أو ابتاعها، وأقام على ذلك بينة، وادعى من هي بيده أنها ملكه.. فإنه يحكم بها لصاحب البينة؛ لأنه قد عرف له أصل ملك، وإن كان الظاهر مع صاحب اليد.
والوجه الثاني - حكاه الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ، عن أبي العباس -: أن القول قول زيد، وهو المحتال؛ لأن اسم الحوالة موضوع لتحويل الحق من ذمة إلى ذمة، فكان اللفظ يشهد له، كما لو تنازعا دارا وهي في يد أحدهما.. فالقول قوله. والأول أظهر.
فإذا قلنا: إن القول قول المحيل، فحلف.. ثبتت الوكالة له، فإن كان زيد قد قبض الحق من خالد.. فقد برئت ذمة خالد؛ لأنه دفع دفعا مأذونا فيه، إما من جهة الحوالة أو الوكالة. فإن كان الحق باقيا في يد القابض.. لزمه دفعه إلى المحيل

(6/295)


بظاهر الحكم؛ لأنه قد أثبت بيمينه: أنه وكيله، فإذا رده عليه.. فهل للمحتال أن يرجع بحقه على المحيل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأنه إن كان وكيلا.. فحقه باق في ذمة المحيل، وإن كان محتالا.. فقد أخذ منه المحيل ما كان أخذه، وذلك ظلم منه، فرجع عليه به؛ لأنه واجب عليه بقولهما.
والثاني: لا يرجع عليه في ظاهر الحكم، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأنه يقر أنه قبض حقه من المحال عليه، ولكن يرجع عليه فيما بينه وبين الله تعالى، فإن كان قادرا على أخذ حقه من المحيل من غير هذا المقبوض.. لم يحل له إمساك هذا المقبوض؛ لأن من عليه حق لغيره.. فله أن يقبضه من أي جهة شاء، وإن كان لا يقدر على أخذ حقه منه.. حل له إمساك هذا المقبوض فيما بينه وبين الله تعالى، وإن كان المقبوض قد تلف في يد القابض، فإن تلف في يده بتفريط منه، أو أتلفه.. فقد وجب عليه مثل حقه في ظاهر الحكم، ويتقاصان، وإن تلف في يده بغير تفريط.. فلا تراجع بينهما؛ لأن المحيل يقول: تلف مالي في يد وكيلي على وجه الأمانة، فلا شيء عليه لي، ولكن عندي له ألف لا يدعيها، والقابض يقول: تلف مالي في يدي، فلم يرجع أحدهما على الآخر بشيء، كما لو تزوج امرأة بألف، وسلمها إليها، ثم طلقها، فقال: طلقتك بعد الدخول، فلي الرجعة، وعليك العدة، ولا رجوع لي عليك بشيء من المهر، وقالت المرأة: بل طلقتني قبل الدخول، فلا عدة علي، ولا رجعة لك، ولك الرجوع علي بنصف المهر.. فالقول قولها مع يمينها، فإذا حلفت.. فلا رجعة له، ولا عدة عليها، ولا رجوع له عليها.
وأما إذا كان المحتال لم يقبض الحق.. فللمحيل مطالبة المحال عليه بحقه؛ لأنه قد أثبت بيمينه وكالة المحتال.
قال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: وقد انعزل عن الوكالة بإنكاره لها.
وقال الشيخ أبو حامد: للموكل أن يعزله. وهذا يدل من قوله: على أنه لم ينعزل بالإنكار.

(6/296)


فإذا قبض المحيل الحق من المحال عليه.. فهل للمحتال أن يرجع على المحيل بحقه؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يرجع؛ لأنا قد حكمنا بأنه وكيل.
والثاني: لا يرجع على المحيل؛ لأنه يقول: حقي في ذمة المحال عليه. والمحيل قد أخذه ظلما. فلا يستحق الرجوع عليه بشيء.
وعندي: أنه لا يرجع عليه هاهنا، وجها واحدا؛ لأنه يقر أن حقه في ذمة المحال عليه لم يتعين فيما قبضه المحيل من المحال عليه، بخلاف ما لو قبض المحتال. ثم أخذه منه المحيل.. فإنه يقر أن حقه قد تعين فيما قبضه، مع أنه قد قيل للشيخ أبي حامد: فإن وجد المُحيل للمحال عليه مالا.. هل يحل له أخذه فيما بينه وبين الله تعالى؟ فقال: يحل له؛ لأنه يقول: حقي في ذمته. وهذا يدل على ما ذكرته.
وإن قلنا: القول قول المحتال، فحلف فحكمه حكم الحوالة الصحيحة. أن يقبض حقه من المحال عليه؛ وإن كان قد قبضه.. فقد برئت ذمة المحال عليه. وإذ اتفقا أن المحيل قال: أحلتك بالحق الذي علي لك على فلان، ثم قال للمحيل: أردت بذلك: الوكالة، وقال المحتال: بل أحلتني.. فالقول قول المحتال، وجها واحدا؛ لأن ذلك لا يحتمل إلا تحويل الحق، وإن قال: أحلتك على فلان بما لي عليه، ثم قال المحيل: أردت بذلك: أحلتك بدينك الذي لك علي عليه، وقال المحتال: بل وكلتني بذلك لأقبضه لك، وحقي باق في ذمتك.. فعلى قول المحيل ومن تابعه: القول قول المحتال؛ لأن المحيل قد أقر بثبوت الحق له في ذمته، ويدعي انتقال ذلك عن ذمته، والأصل بقاؤه في ذمته. وعلى قول من خالف المزني فيها من أصحابنا: القول قول المحيل؛ لأن اللفظ يشهد له.
فإن قلنا: القول قول المحتال، فحلف.. ثبت أنه وكيل، فإن كان قد قبض الحق من المحال عليه.. فقد برئت ذمته؛ لأنه دفع مأذون فيه، فإن كان ما قبضه باقيا.. قال له الحاكم: أنت تدعي على المحيل ألفا، وفي يدك ألف، فخذه بحقك، وإن

(6/297)


كان تالفا، فإن كان تلفه بتفريط منه.. ثبت ذلك في ذمته للمحيل، وله مثل ذلك، فيتقاصان، وإن تلف بغير تفريط منه.. لم يلزمه ضمانه؛ لأنه وكيل تلف المال في يده بغير تفريط، وللمحتال أن يرجع بحقه على المحيل، فإذا رجع عليه.. قال الشيخ أبو حامد: حل للمحيل أن يأخذ من مال المحتال مثل ما أخذه منه فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يقول: قد أحلته بحقه، وما أخذه مني بعد ذلك أخذه ظلما.. وإن كان المحتال لم يقبض الحق من المحال عليه.. فله أن يرجع بحقه على المحيل؛ لأنه قد أثبت بيمنه أنه وكيل للمحيل، وله أن يعزل نفسه عن الوكالة، فإذا أخذ حقه من المحيل.. فهل للمحيل أن يرجع على المحال عليه بشيء؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه قد أقر: أنه لا شيء له في ذمته، بل ذلك للمحتال.
والثاني: له أن يرجع عليه؛ لأن المحتال إن كان صادقا.. فإن الذي في ذمة المحال عليه للمحيل، وإن كان المحتال كاذبا.. فقد استحق المحيل على المحتال ما أخذه منه ظلما، وللمحتال حق على المحال عليه يمكنه أخذه عن حقه.
فإذا قلنا: يرجع عليه.. فالذي يقتضي المذهب: أنه يرجع عليه بأقل الأمرين مما أخذه منه المحتال، أو الدين الذي على المحال عليه؛ لأنه إن أعطى المحتال أكثر من حقه.. لم يستحق الرجوع على المحال عليه بأكثر مما عنده، وإن كان أعطى المحتال أقل من حقه.. فهو يقر أن جميع ما على المحال عليه للمحتال، وإنما يرجع من ماله بالقدر الذي أخذ منه، وما زاد عليه يقر به للمحتال.
وإن قلنا: القول قول المحيل، فحلف.. برئ من دين المحتال، وكان للمحتال مطالبة المحال عليه، إما بحكم الحوالة، أو الوكالة، فإذا أخذ منه المال.. أمسكه بحقه؛ لأن المحيل يقول: هو له بحق الحوالة. والمحتال يقول: هو للمحيل، ولي عليه مثله. وهو غير قادر على حقه من جهة المحيل، فكان له أخذه.

(6/298)


[مسألة: تصديق المحال يوجب دفع المال]
] : إذا كان لزيد على عمرو ألف درهم، ولخالد على زيد ألف درهم، فجاء خالد إلى عمرو، وقال: قد أحالني زيد بالألف التي عليك له، فإن صدقه.. وجب عليه دفع المال إليه، ثم ينظر في زيد: فإن صدقه.. فلا كلام، وإن كذبه.. كان القول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحوالة، فإذا حلف.. رجع زيد بالألف على عمرو، ولا يرجع خالد على زيد بشيء؛ لأنه إن كان قد قبض حقه من عمرو.. فقد استوفاه، وإن لم يقبضه.. فله أن يطالبه بحقه؛ لأنهما متصادقان على الحوالة.
وإن كذب عمرو خالدا، ولا بينة.. فالقول قول عمرو مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحوالة، فإذا حلف.. سقطت دعوى خالد، ولم يكن لخالد الرجوع على زيد بشيء؛ لأنه يقر أن ذمته قد برئت من حقه، ثم ينظر في زيد: فإن كان كذب خالدا.. كان له مطالبة عمرو بدينه، وإن صدق خالدا.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: يبرأ عمرو من دين زيد؛ لأنه قد أقر بذلك.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: إذا قلنا: ليس من شرط الحوالة رضا المحال عليه.. فإن الحوالة تثبت بتصادق المحيل والمحتال.

[فرع: الحوالة على غائب]
] : إذا كان لرجل على رجل ألف درهم، فطالبه بها، فقال من عليه الدين: قد أحلت بها علي فلانا الغائب، وأنكر المحيل.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحوالة، فإن أقام من عليه الدين بينة بالحوالة.. قال ابن الصباغ: سمعت البينة لإسقاط حق المحيل عنه، ولا يثبت بها الحق للغائب؛ لأن الغائب لا يقضى له بالبينة، فإذا قدم الغائب، وادعى فإنما يدعي على المحال عليه دون المحيل، وهو مقر له بذلك، فلا يحتاج إلى إقامة البينة.
ولو ادعى رجل على رجل أنه أحاله على فلان الغائب، وأنكر المدعى عليه..

(6/299)


فالقول قوله مع يمينه، وإن أقام المدعي بينة.. ثبت في حقه وحق الغائب؛ لأن البينة يقضى بها على الغائب، فإن شهد للمحتال ابناه.. لم تقبل شهادتهما؛ لأنهما يشهدان لأبيهما، وإن شهد له ابنا المحال عليه، أو أبناء المحيل.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على أبيهما ... وبالله التوفيق

(6/300)