البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الضمان]

(6/301)


كتاب الضمان الأصل في جواز الضمان: الكتاب، والسنة، والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] [يوسف: 72] .
قال ابن عباس: (الزعيم: الكفيل) .
وأما السنة: فروى أبو أمامة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يوم فتح مكة، فقال: " ألا إن

(6/303)


الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، ولا تنفق امرأة شيئا من بيتها إلا بإذن زوجها، والعارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم» و (الزعيم) : الضمين، فلولا أن الضمان يلزمه إذا ضمن.. لم يجعله غارما.
وروى قبيصة بن المخارق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل الصدقة إلا لثلاثة " فذكر: " رجلا تحمل بحمالة، فحلت له المسألة حتى يؤديها، ثم يمسك» . فأباح له الصدقة حتى يؤدي، فدل على: أن الحمالة قد لزمته.
وأما الإجماع: فإن أحدا من العلماء لم يخالف في صحة الضمان، وإن اختلفوا في فروع منه.
إذا ثبت هذا: فإنه يقال: زعيم، وضمين، وحميل، وكفيل، وقبيل بمعنى واحد.

[مسألة: ضمان دين الميت]
] : يصح ضمان الدين عن الميت، سواء خلف وفاء لدينه أو لم يخلف، وبه قال مالك، وأبو يوسف، ومحمد.

(6/304)


وقال الثوري، وأبو حنيفة: (لا يصح الضمان عن الميت إذا لم يخلف وفاء لماله، أو بضمان ضامن) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤتى بالمتوفى وعليه دين، فيقول " هل خلف لدينه قضاء؟ " - وروي: " وفاء " - فإن قيل له: لم يخلف وفاء.. قال للمسلمين: " صلوا عليه "، فلما فتح الله عليه الفتوح.. قال: " من خلف مالا.. فلورثته، ومن خلف دينا.. فعلي قضاؤه» . فضمن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القضاء.
«وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: مات منا رجل، فغسلناه، وحنطناه، وكفناه، فأتينا به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلنا له: صل عليه، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هل عليه دين؟ "، فقلنا: نعم، ديناران.. فقال: صلوا على صاحبكم "، وانصرف، فتحملها أبو قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وقال: هما علي يا رسول الله، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حق الغريم عليك، والميت منه بريء؟ "، فقال: نعم، فصلى عليه» .

(6/305)


وروى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحضرت جنازة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هل عليه دين؟ " فقالوا: درهمان، فقال " صلوا على صاحبكم " فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وأنا لهما ضامن، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " جزاك الله عن الإسلام خيرا، وفك رهانك كما فككت رهان أخيك "، فصلى عليه» .
فموضع الدليل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز الضمان عن الميت، ولم يسأل: هل خلف وفاء، أم لا؟ ولأنه لم يكن يمتنع من الصلاة إلا على من مات وعليه دين، ولم يخلف وفاء، بدليل حديث أبي هريرة، وإنما كان امتناعه في أول الإسلام؛ لأن صلاته رحمة، والدين يحجب عن ذلك، بدليل ما روي «عن أنس: أنه قال: من استطاع منكم أن يموت وليس عليه دين.. فليفعل، فإني شهدت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد أتي بجنازة، فقالوا: صل عليها، فقال: " أليس عليه دين؟ "، فقالوا: بلى، فقال: " ما تنفعكم صلاتي عليه، وهو مرتهن في قبره، فإن ضمنه أحدكم.. قمت، فصليت عليه، وكانت صلاتي تنفعه» ، ولأن كل من صح الضمان عنه إذا كان له وفاء بما عليه، صح الضمان عنه، وإذا لم يكن له وفاء كالحي.

(6/306)


[فرع: ألفاظ الضمان]
] : قال الطبري: لو قال: تكفلت لك بما لك على فلان.. صح، وإن قال: أنا به قبيل.. لم يكن صريحا في الضمان في أحد الوجهين، خلافا لأبي حنيفة؛ لأن القبيل بمعنى: قابل، كالسميع بمعنى: سامع، وإيجاب الضمان لا يكون موقوفا على قبوله، فلم يصح، وإن قال: إلي دين فلان.. لم يكن صريحا في الضمان في أحد الوجهين، خلافا لأبي حنيفة.
دليلنا: أنه يحتمل قوله: إلي، بمعنى: أزن عنه، ويحتمل: مرجعه إلي لحق استحقه.
ولو قال: خل عن فلان، والدين الذي عليه لك عندي.. لم يكن صريحا في الضمان، خلافا لأبي حنيفة؛ لأن كلمة (عندي) تستعمل في غير مضمون، كقولهم: الوزير عند الأمير.

[مسألة: أهلية الضمان]
] : ويصح الضمان من كل جائز التصرف في المال، فأما الصبي، والمجنون، والسفيه: فلا يصح ضمان واحد منهم؛ لأنه إيجاب مال بعقد، فلم يصح منهم، كالبيع.
فقولنا: (بعقد) احتراز من إيجاب المال عليه بالجناية، ومن نفقة قريبه، ومن الزكاة.
وأما المحجور عليه للإفلاس: فيصح ضمانه؛ لأنه إيجاب مال في الذمة في العقد، فصح من المفلس، كالشراء بثمن في ذمته.
ويصح الضمان من المرأة الجائزة التصرف.
وقال مالك: (لا يصح، إلا أن يكون بإذن زوجها) .
دليلنا: أن كل من لزمه الثمن في البيع، والأجرة في الإجارة.. صح ضمانه، كالرجل.

(6/307)


[فرع: الضمان بغير الكلام]
] : ولا يصح الضمان من المبرسم الذي لا يعقل؛ لأنه لا حكم لكلامه، فأما الأخرس: فإن لم يكن له إشارة مفهومة أو كتابة معقولة.. لم يصح ضمانه، وإن كانت له إشارة مفهومة، وكتابة معقولة ... صح ضمانه؛ لأنه حصل مع الكتابة إشارة مفهومة أنه قصد بها الضمان، وإن انفردت إشارته المفهومة بالضمان.. صح، وإن انفردت الكتابة في الضمان عن إشارة يفهم بها أنه قصد الضمان.. قال ابن الصباغ: لم يصح الضمان؛ لأن الكتابة قد تكون عبثا، أو تجربة القلم، أو حكاية الخط، فلم يلزمه الضمان بمجردها.

[مسألة: ضمان العبد]
] : وإن ضمن العبد دينا لغير سيده، فإن كان غير مأذون له في التجارة.. نظرت: فإن كان بغير إذن سيده.. فهل يصح ضمانه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح ضمانه؛ لأنه مكلف، له قول صحيح، وإنما منع من التصرف فيما فيه ضرر على السيد، ولا ضرر على السيد في ضمانه، فهو كما لو أقر لغيره بمال.
فعلى هذا: يثبت في ذمته إلى أن يعتق.
والثاني: لا يصح، وهو الصحيح؛ لأنه إثبات مال لآدمي بعقد، فلم يصح من العبد بغير إذن سيده، كالمهر.
فقولنا: (لآدمي) احتراز من النذر.
وقولنا: (بعقد) احتراز من الإقرار؛ لأنه إخبار، ومن الجناية على غير سيده.
وإن ضمن بإذن السيد.. صح؛ لأن المنع منه لحق السيد، وقد أذن فيه، فإن أذن له أن يؤديه من كسبه.. قضاه منه، وإن أطلق الإذن.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقضيه من كسبه، كما لو أذن له سيده في النكاح.. فإن المهر والنفقة يقضيان من كسبه.

(6/308)


والثاني: لا يقضيان من كسبه، ولكن يتبع به إذا عتق؛ لأن السيد إنما أذن في الضمان دون القضاء.. فتعلق ذلك بذمة العبد؛ لأنها محل الضمان، ويفارق المهر النفقة، فإنهما يجبان عوضا عن الاستمتاع المعجل، فكان ما في مقابلتهما معجلا.
وحكى أبو علي السنجي وجها آخر: أنه يتعلق برقبته، وليس بشيء.
وإن كان العبد مأذونا له في التجارة، فلا يخلو: إما أن يضمن بإذن السيد أو بغير إذنه.
فإن كان ضمن بغير إذنه.. نظرت:
فإن قال: ضمنت لك حتى أؤدي من هذا المال.. لم يصح الضمان؛ لأن السيد إنما أذن له في التجارة فيما ينمي المال، لا فيما يتلفه.
وإن ضمن له مطلقا.. فهل يصح ضمانه؟ على الوجهين في غير المأذون.
فإذا قلنا: لا يصح.. فلا كلام، وإن قلنا: يصح.. فإنه لا يجوز له أن يقضي مما في يده من مال التجارة، ولكن يثبت في ذمته إلى أن يعتق - وإن ضمن بإذن السيد.. صح الضمان، فإن كان إذن السيد بالضمان مطلقا، فمن أين يقضي العبد دين الضمان؟ فيه وجهان:
أحدهما: من كسبه، أو مما في يده للتجارة.
والثاني: يثبت في ذمته إلى أن يعتق.
وإن أذن له السيد بالضمان في المال الذي في يده فقال: ضمنت لك حقك الذي لك على فلان حتى أؤدي من المال في يدي.. صح الضمان، ولزمه أن يؤدي من المال الذي في يده للتجارة؛ لأن المنع منه لأجل السيد، وقد أذن، فجاز.
فأما إذا قال الحر: ضمنت لك دينك على فلان في هذا المال.. لم يصح الضمان، والفرق بينهما: أن العبد ضمن الحق في ذمته. وإنما علق الأداء في مال بعينه، والحر لم يضمن الحق في ذمته، وإنما ضمنه في المال بعينه، فوزانه أن يقول الحر: ضمنت لك دينك على فلان، وأزنه من هذا المال فيصح الضمان، فإن كان على المأذون له دين يستغرق ما بيده، ثم أذن له السيد بالضمان والقضاء مما في

(6/309)


يده من مال التجارة، أو قلنا: يلزمه القضاء منه على أحد الوجهين.. فهل يشارك المضمون له الغرماء؟ فيه وجهان:
أحدهما: يشاركهم؛ لأن المال للسيد، وقد أذن بالقضاء منه، إما بصريح القول، أو من جهة الحكم.
والثاني: لا يشاركهم؛ لأن حقوق أصحاب الديون متعلقة بما في يده، فصار ذلك كالمرهون بحقوقهم، ألا ترى أن السيد لو أراد أخذ ذلك قبل قضاء الغرماء.. لم يكن له ذلك؟

[فرع: الضمان عن العبد]
] : وإن كان في ذمة العبد دين، فضمن عنه ضامن.. صح الضمان؛ لأن الدين الذي في ذمته لازم، وإنما لا يطالب به لعجزه في حال رقه، فصح الضمان عنه، كالدين على المعسر.
قال الصيمري: لو ثبت على عبده دين بالمعاملة، فضمنه عنه سيده.. صح ضمانه، كالأجنبي.

[فرع: ضمان المكاتب]
] : وأما إذا ضمن المكاتب دينا على غيره، فإن كان بغير إذن السيد.. فهل يصح؟ فيه وجهان، كما قلنا في العبد القن.
فإن قلنا: لا يصح.. فلا كلام، وإن قلنا: يصح.. كان ذلك في ذمته إلى أن يعتق.
وإن ضمن بإذن سيده، فإن قلنا: يجوز للمكاتب أن يهب شيئا من ماله بإذن سيده.. صار كالعبد المأذون له إذا ضمن بإذن سيده على ما مضى، وإن قلنا: لا يجوز للمكاتب أن يهب شيئا لغيره بغير إذن سيده.. فالذي يقتضي المذهب: أن يصح الضمان، ويتبع به إذا عتق، ولا يقضي من المال الذي بيده قبل أداء الكتابة.

(6/310)


[مسألة: لا يشترط رضا المضمون عنه]
] : يصح الضمان من غير رضا المضمون عنه؛ لأن عليا وأبا قتادة ضمنا عن الميتين بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والميت لا يمكن رضاه، ولأنه لما جاز له أن يقضي الدين بغير إذنه.. جاز أن يضمن عنه الدين بغير إذنه.
وأما المضمون له: فهل يعتبر رضاه، فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي الطبري: يعتبر رضاه. وبه قال أبو حنيفة، ومحمد، إلا في مسألة واحدة، وهو إذا قال المريض لبعض ورثته: اضمن عني دينا لفلان الغائب، فضمن عنه بغير إذن المضمون له، وإن لم يسم الدين استحسانا؛ لأنه إثبات مال لآدمي، فلم يصح إلا برضاه، أو من ينوب عنه، كالبيع له، والشراء.
فقولنا: (لآدمي) احتراز من النذر.
و [الثاني] : قال أبو العباس: يصح من غير رضاه. ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، وبه قال أبو يوسف؛ لأن عليا وأبا قتادة ضمنا الدين بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يعتبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رضا المضمون له، ولأن الضمان وثيقة بالحق، فلم يفتقر إلى رضا من له الوثيقة، كما لو أشهد من عليه الدين بنفسه.. صحت الشهادة، وإن لم يرض المشهود له.
وأما معرفة الضامن لعين المضمون له والمضمون عنه، فهل يفتقر إلى ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لا يفتقر إلى معرفة عين واحد منهما، وإنما يضمن بالاسم والنسب، ووجهه: أن عليا وأبا قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ضمنا، ولم يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل يعرفان عين المضمون له والمضمون عنه، أم لا؟ ولو كان الحكم يختلف بذلك.. لبيَّنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأن الواجب أداء الحق، فلا حاجة إلى معرفة ما سوى ذلك.
والثاني: أنه لا يصح حتى يعرف الضامن عينهما؛ لأن معاملته مع المضمون له،

(6/311)


فلا بد له من معرفته؛ ليعلم هل هو سهل الاقتضاء، أم شديد الاقتضاء؟ وقد تبرع عن المضمون عنه، فلا بد من معرفته بعينه؛ ليعلم هل هو أهل أن يسدى إليه الجميل، أم لا؟
والثالث: أنه يفتقر إلى معرفة عين المضمون له؛ لأن معاملته معه، ولا يفتقر إلى معرفة المضمون عنه؛ لأنه لا معاملة بينه وبينه.
قال المحاملي: فإذا قلنا بهذا افتقر إلى قبوله، فإن قبل.. لزم الضمان، وإن رد.. بطل، وإن رجع الضامن قبل قبول المضمون له.. صح رجوعه.

[مسألة: البيع بشرط الضمين]
] : وإن باع رجل من غيره عبدا بثمن في ذمته، بشرط أن يضمن له بالثمن ضامن معين.. صح البيع والشرط؛ لأن الحاجة تدعو إلى شرط الضمين في عقد البيع، فإن لم يضمن له الضمين المعين.. ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع؛ لأنه إنما دخل في البيع بهذا الشرط، فإذا لم يف له المشتري بالشرط.. ثبت للبائع الخيار. وإن أتاه المشتري بضمين غير الضمين المعين.. لم يلزم البائع قبوله، بل يثبت له الخيار وإن كان الذي جاءه به أملأ من المعين؛ لأنه قد يكون له غرض في ضمان المعين.
وإن شرط في البيع أن يضمن له بالثمن ثقة.. لم يصح الشرط، وبطل البيع؛ لأن الثقات يتفاوتون، وإذا كان الشرط مجهولا.. بطل البيع.

(6/312)


[فرع: البيع بشرط الشهود]
] : وإن باعه سلعة بثمن، بشرط أن يُشهد له شاهدين.. جاز من غير تعيين، وكان عليه أن يُشهد له شاهدين عدلين؛ لأن الأغراض لا تختلف باختلاف الشهود، فإذا لم يشهد له.. ثبت لصاحبه الخيار في فسخ البيع، وإن باعه بشرط أن يُشهد له شاهدين معينين، فأشهد له شاهدين عدلين غير المعينين.. فهل يسقط خيار الآخر؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزم الآخر قبول ذلك، بل يثبت له الخيار في فسخ البيع، كما قلنا في الضمين المعين.
والثاني: يلزم قبول ذلك، ولا خيار له؛ لأنه لا غرض له في أعيان الشهود إذا حصلت العدالة.
ولهذا قلنا: لا بد في شرط الضمين من تعيينه، وفي الشهادة يجوز شرط شاهدين عدلين وإن كانا غير معينين، والذي يقتضي المذهب: أن هذا الشرط في الشهادة يصح أن يكون وثيقة لكل واحد من المتبايعين، ويثبت لكل واحد منهما الخيار إذا شرط ذلك على الآخر، ولم يف الآخر له بذلك؛ لأن للبائع غرضا في الاستيثاق بالشهادة خوفا أن يستحق عليه الثمن، فيرجع به، وللمشتري غرض في الاستيثاق بالشهادة خوفا أن يستحق عليه المبيع، فيرجع بالثمن على البائع.

[مسألة: فيما له مصير إلى اللزوم]
] : قال المزني: وكذلك كل ضامن في دين، وكفالة بدين، وأجرة ... إلى آخر الفصل.
قال أصحابنا: الحقوق على أربعة أضرب:
أحدها: حق لازم مستقر، كالثمن في الذمة بعد قبض المبيع، والأجرة في الذمة بعد انقضاء الإجارة، ومال الجعالة بعد العمل، والمهر بعد الدخول، وعوض

(6/313)


القرض، وقيم المتلفات، فهذا يصح ضمانه؛ لأنه دين لازم مستقر.
الضرب الثاني: دين لازم غير مستقر، كالمهر قبل الدخول، وثمن المبيع قبل قبض المبيع، والأجرة قبل انقضاء الإجارة، ودين السلم، فهذا يصح ضمانه أيضا.
وقال أحمد في إحدى الروايتين: (لا يصح ضمان المسلم فيه؛ لأنه يؤدي إلى استيفاء المسلم فيه من غير المسلم عليه، فهو كالحوالة) .
ودليلنا: أنه دين لازم، فصح ضمانه، كالمهر بعد الدخول.
الضرب الثالث: دين ليس بلازم، ولا يئول إلى اللزوم، وهو دين الكتابة، فلا يصح ضمانه؛ لأن المكاتب يملك إسقاطه، بأن يعجز نفسه، فلا معنى لضمانه، ولأن ذمة الضامن فرع لذمة المضمون عنه، فإذا لم يلزم الأصل.. لم يلزم الفرع، ومن حكم الضمان أن يكون لازما.
وإن كان على المكاتب دين لأجنبي.. صح ضمانه؛ لأنه دين لازم عليه، وإن كان عليه لسيده دين من جهة غير جهة الكتابة.. فهل يصح ضمانه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح ضمانه؛ لأنه يجبر على أدائه.
والثاني: لا يصح ضمانه؛ لأنه قد يعجز نفسه، فيسقط ما في ذمته لسيده. وأصلهما الوجهان، هل يستدام ثبوت الدين في ذمته لسيده بعد أن يصير ملكا له؟ فيه وجهان.
فإن قلنا: يستدام ثبوته.. صح ضمانه. وإن قلنا: لا يستدام ثبوته.. لم يصح ضمانه.
الضرب الرابع: دين غير لازم، إلا أنه يئول إلى اللزوم، وهو مال الجعالة قبل العمل، بأن يقول: من رد عبدي.. فله دينار، فإذا ضمن عنه غيره ذلك قبل رد العبد.. هل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] [يوسف: 72] . فضمن المنادي مال الجعالة، وحمل البعير معلوم.
والثاني: لا يصح؛ لأنه دين غير لازم، فلا يصح ضمانه، كمال الكتابة.

(6/314)


ومن قال بهذا.. قال: لم يضمن المنادي، وإنما أخبر عن الملك: أنه بذل لمن رده حمل البعير، وأن الملك قال: (وأنا به زعيم) .
وأما ضمان ثمن المبيع في مدة الخيار: فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه وجهان، كمال الجعالة قبل العمل.
ومنهم من قال: يصح ضمانه، وجها واحدا؛ لأنه يئول إلى اللزوم، ولأن الثمن قد لزم، وإنما له إسقاطه بالفسخ، بخلاف مال الجعالة، فإنه لا يلزم بحال.

[فرع: ضمان مال السبق والرمي]
] : وأما مال السبق والرمي بعد العمل: فيصح ضمانه؛ لأنه دين لازم مستقر، فهو كالمهر بعد الدخول، وأما قبل العمل: فإن كان المخرج للسبق أحدهما، أو أجنبيا.. فهل يصح ضمانه؟ فيه وجهان، كمال الجعالة، وإن كان مال السبق منهما، وبينهما محلل، فإن قلنا: إن ذلك كالإجارة.. صح ضمانه كضمان الأجرة قبل انقضاء مدة الإجارة، وإن قلنا: إنها كالجعالة.. كان في ضمان المال عنهما، أو عن أحدهما وجهان كمال الجعالة.

[فرع: ضمان أرش الجناية]
] : وأما أرش الجناية والدية: فإن كان دراهم، أو دنانير، مثل: أن جنى على عبد، أو كانت الإبل معدومة، فأوجبنا قيمتها وكانت معلومة، أو قلنا: يجب ألف مثقال، أو اثنا عشر ألف درهم.. صح ضمانها، فإن كان الواجب الإبل.. فهل يصح ضمانها، فيه وجهان بناء على القولين في جواز بيعها.

(6/315)


[فرع: ضمان نفقة الزوجة]
] : وأما ضمان نفقة الزوجة: فإن ضمن عنه نفقة مدة قد مضت.. صح ضمانها؛ لأنه دين لازم مستقر، فهي كالمهر بعد الدخول، وإن ضمن عنه نفقة يومه الذي هو فيه.. صح أيضا؛ لأنه دين لازم، فصح ضمانه وإن كان غير مستقر، كضمان المهر قبل الدخول.
وإن ضمن عنه نفقة مدة مستقبلة معلومة.. فهل يصح؟ فيه قولان؛ بناء على أن النفقة تجب بالعقد، أو بالعقد والتمكين من الاستمتاع:
فقال في القديم: (تجب بالعقد، وإنما يجب استيفاؤها يوما بيوم) .
فعلى هذا: يصح أن يضمن نفقة مدة معلومة، ولكن لا يضمن إلا نفقة المعسر، وإن كان الزوج وقت الضمان موسرا؛ لأن نفقة المعسر متحققة، وما زاد على ذلك مشكوك فيه.
وقال في الجديد: (لا تجب النفقة إلا بالعقد، والتمكين من الاستمتاع) .
فعلى هذا: لا يصح أن يضمن نفقة مدة مستقبلة بحال.

[مسألة: لا يضمن مجهول]
] : ولا يصح ضمان مال مجهول، وهو أن يقول: ضمنت لك ما تستحقه على فلان من الدين، وهو لا يعلم قدره، وكذلك لا يصح ضمان ما لم يجب، وهو أن يقول: ضمن لك ما تداين فلانا. وبه قال الليث، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري، وأحمد.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (تصح ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب) .
قال أبو العباس - وهو قول الشافعي في القديم -: (يصح ضمان نفقة الزوجة

(6/316)


مدة مستقبلة) .
وهذا ضمان ما لم يجب، وضمان مجهول. وهذه طريقة الخراسانيين: أنها على قولين.
قال الشيخ أبو حامد: وأبى سائر أصحابنا ذلك، وقالوا: لا يصح ضمانهما. قولا واحدا. وما قاله الشافعي في القديم: (يصح ضمان نفقة الزوجة مدة مستقبلة) .. فإنما أجازه؛ لأن النفقة تجب على هذا بالعقد. فقد ضمن ما وجب.
ولا يصح منها إلا ضمان شيء مقدر، وليس بمجهول.
ودليلنا - على أنه لا يصح ضمانهما -: أنه إثبات مال في الذمة بعقد لازم. فلم يصح مع جهله، ولا قبل ثبوته، كالثمن في البيع، والمهر في النكاح.
فقولنا: (في الذمة) احتراز ممن غصب من رجل شيئا مجهولا.
وقولنا: (بعقد) احتراز ممن أتلف على غيره مالا، أو وطئ امرأة بعقد فاسد. فإن ذلك يثبت في ذمته مالا، وإن كان لا يعلم قدره.

[فرع: ضمان معلوم جملة مجهول قدرا]
قال في " الإبانة " [ق \ 283] : فلو جهل مقدار الدين، إلا أنه قال: ضمنت لك من درهم إلى عشرة، وقلنا: لا يصح ضمان المجهول.. فهل يصح هذا؟ فيه قولان:
أحدهما - قال، وهو الأشهر -: يصح؛ لأن جملة ما ضمن معلومة.
والثاني - وهو الأقيس -: أنه لا يصح؛ لأن مقدار الحق مجهول.

[فرع: ضمان ما يعطي الوكيل]
] : وأما إذا قال الرجل لغيره: ضمنت لك ما تعطي وكيلي، وما يأخذ منك. فإنه يلزمه ذلك؛ لأن ذلك لا من جهة الضمان، ولكن من جهة التوكيل، وذلك أن يد الوكيل يد الموكل.

(6/317)


[مسألة: تعليق الضمان]
] : ولا يصح تعليق الضمان على شرط، بأن يقول: إذا جاء رأس الشهر.. فقد ضمنت لك دينك على فلان.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 283] : أن أبا حنيفة قال: (يصح) .
دليلنا: أنه إيجاب مال لآدمي بعقد، فلم يصح تعليقه على شرط، كالبيع.
فقولنا: (لآدمي) احتراز من النذر.
وقولنا: (يعقد) احتراز من وجوب نفقة القريب والزوجة، فإنه متعلق بشروط.

[فرع: ضمان متاع غير موصوف]
] : إذا قال رجل لغيره في البحر عند تموجه، وخوف الغرق: ألق متاعك في البحر، وعلي ضمانه، فألقاه.. وجب على المستدعي ضمانه.
وقال أبو ثور: (لا يجب) ؛ لأنه ضمان ما لم يجب.
دليلنا: أنه استدعاء إتلاف ملك بعوض لغرض صحيح، فصح، كما لو قال: طلق امرأتك بمائة درهم علي.
وإن قال رجل لغيره: بع عبدك من زيد بألف، وعلي لك خمسمائة. فباعه، قال الصيدلاني: وقاله في العقد.. فهل يصلح البيع؟ فيه وجهان لأبي العباس:
أحدهما: يصح البيع، ويستحق البائع على المشتري خمسمائة، وعلى المستدعي للبيع خمسمائة؛ لأنه مال بذله في مقابله إزالة ملكه، فصح، كما لو قال: ألق متاعك في البحر، وعلي ضمانه. أو طلق امرأتك، وعلي لك ألف.
والثاني: لا يصح البيع، ولا يستحق على الباذل شيء؛ لأن الثمن يجب أن يكون جميعه على المشتري، فإذا شرط أن يكون بعضه على غيره.. لم يصح.

(6/318)


قال صاحب " الفروع " فأما إذا قال: بع عبدك من فلان بألف، على أن أزن منه خمسمائة.. جاز، وينظر: فإن ضمن قبل البيع.. لم يلزمه؛ لأنه ضمان قبل الوجوب، فإن ضمنه بعده.. لزمه.

[مسألة: صحة ضمان الدين المعجل بمؤجل]
وإن كان لرجل على غيره دين حال، فضمنه عنه ضامن إلى أجل معلوم.. صح الضمان، وكان الدين معجلا على المضمون عنه، مؤجلا على الضامن؛ لأن الضمان رفق ومعروف، فكان على حسب الشرط، وكذلك إذا كان الدين مؤجلا إلى شهر، فضمنه عنه ضامن مؤجلا إلى شهرين.. كان مؤجلا على المضمون عنه إلى شهر، وعلى الضامن إلى شهرين.
فإن قيل: فعندكم الدين الحال لا يتأجل، فكيف يتأجل هذا على الضامن؟
فالجواب: أن الدين لم يثبت على الضامن حالا، وإنما يثبت عليه مؤجلا، والدين يتأجل في ابتداء ثبوته.
وإن كان الدين على رجل مؤجلا، فضمنه عنه ضامن حالا كان، أو مؤجلا على من هو عليه إلى شهرين، فضمنه عنه ضامن إلى شهر.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها المحاملي، وابن الصباغ:
أحدها: يصح الضمان، ويلزم الضامن تعجيل الدين دون المضمون عنه؛ لأنه ضمن له دينا بعقد، فكان على حسب ما ضمنه، كما لو ضمن المعجل مؤجلا.
والثاني: لا يصح الضمان؛ لأن الضامن فرع للمضمون عنه، فلا يجوز أن يستحق مطالبة الضامن دون المضمون عنه.
والثالث: يصح الضمان، ولا يلزمه التعجيل، كأصله.
إذا ثبت هذا: فضمن الحال مؤجلا، فمات الضامن.. حل عليه الدين، ووجب دفع ذلك من تركته، ولم يكن لورثته الرجوع على المضمون عنه حتى يحل الأجل.

(6/319)


وقال زفر: يرجعون عليه في الحال.
دليلنا: أن المضمون عنه لم يأذن في الضمان عنه إلا إلى أجل، فلا يستحق الرجوع عليه في الحال.
وإن مات المضمون عنه، وكان الدين مؤجلا عليهما.. حل الدين في تركة المضمون عنه، فإن اختار المضمون له الرجوع على الضامن.. لم يطالبه قبل حلول الأجل، وإن اختار المطالبة من تركة المضمون عنه.. كان له ذلك في الحال.

[مسألة: لا خيار في الضمان]
لا يجوز شرط الخيار في الضمان، فإذا شرط فيه.. أبطله.
وقال أبو حنيفة: (يصح الضمان، ويبطل الشرط) .
دليلنا: أن الخيار يراد لطلب الحظ، والضامن يعلم أنه مغبون من جهة المال، لا من جهة الثواب، ولهذا يقال: الكفالة أولها ندامة، وأوسطها ملامة، وآخرها غرامة.
وإذا ثبت: أنه لا وجه لشرط الخيار فيه.. قلنا: عقد لا يدخله خيار الشرط، فأبطله، كالصرف والسلم.

[مسألة: الضمان بشرط فاسد]
ويبطل الضمان بالشروط الفاسدة؛ لأنه عقد يبطل بجهالة المال، فبطل بالشروط الفاسدة، كالبيع، وفيه احتراز من الوصية.
فإن قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم، على أن يضمن لي فلان بها عليك، على أنه بالخيار.. فهذا شرط يفسد الضمان، وهل يفسد البيع في العبد بذلك؟ فيه قولان، كالقولين فيمن شرط رهنا فاسدا في بيع، وقد مضى توجيههما في الرهن.

(6/320)


[مسألة: براءة ذمة المضمون عنه بالضمان]
وإذا ضمن عن غيره دينا.. تعلق الدين بذمة الضامن، ولا يبرأ المضمون عنه بالضمان، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم.
وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وداود، وأبو ثور: (يبرأ المضمون عنه بالضمان، ويتحول الحق إلى ذمة الضامن) . واحتجوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي قتادة: «حق الغريم عليك، والميت منه بريء؟ "، فقال: نعم» . وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «فك الله رهانك، كما فككت رهان أخيك» .
ودليلنا: ما «روى جابر في الرجل الذي ضمن عنه أبو قتادة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقي أبا قتادة بعد ذلك بيوم، فقال له: " ما فعل الديناران؟ "، فقال: إنما مات بالأمس. ثم جاءه أبو قتادة من الغد، وقال: قد قضيتهما يا رسول الله، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الآن بردت عليه جلده» فلو كان قد تحول الدين عن المضمون عنه بالضمان.. لكان قد برد جلده بالضمان، ولأن الضمان وثيقة بدين، فلم يتحول إلى الوثيقة. ويسقط عن الذمة، كالرهن والشهادة.
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي قتادة: «والميت منه بريء» يريد به: من الرجوع في تركته، وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: «فك الله رهانك، كما فككت رهان أخيك» أراد به: لامتناعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصلاة عليه لأجل ما عليه من الدين. فلما ضمنهما عنه.. فك رهانه بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن صلاته رحمة.
إذا ثبت هذا: فيجوز للمضمون له مطالبة من شاء من الضامن والمضمون منه.. قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال مالك رحمة الله عليه: (لا يطالب الضامن، إلا إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه) .
دليلنا: أن الحق متعلق بذمة كل واحد منهما، فكان له مطالبة كل واحد منهما كالضامنين.

(6/321)


[فرع: يصح ضمان الضامن]
فإن ضمن عن الضامن ضامن أجنبي.. صح الضمان؛ لأنه دين لازم عليه، فصح كالضمان الأول، وإن ضمن عن الضامن المضمون عنه.. لم يصح ضمانه؛ لأن الضمان يستفاد به حق المطالبة، ولا فائدة في هذا الضمان؛ لأن الحق ثابت في ذمته قبل الضمان، ولأن الضامن فرع، والمضمون عنه أصل، فلا يجوز أن ينقلب الأصل فرعا، والفرع أصلا.

[مسألة: الضمان من غير إذن]
] : إذا ضمن عن غيره دينا بغير إذنه.. لم يكن للضامن مطالبة المضمون عنه بتخليص ذمته؛ لأنه لم يدخل فيه بإذنه، فلم يلزمه تخليصه. وإن ضمن عنه بإذنه، فإن طالب المضمون له الضامن بالحق.. كان للضامن أن يطالب المضمون عنه بتخليصه؛ لأنه دخل في الضمان بإذنه، وإن لم يطالب المضمون له الضامن.. فهل للضامن أن يطالب المضمون عنه؟ قال الشيخ أبو حامد: نظرت:
فإن قال: أعطني المال الذي ضمنته عنك ليكون عندي حتى إذا طالبني المضمون له أعطيته ذلك.. لم يكن له ذلك لأنه لم يغرم.
وإن قال: خلصني من حق المضمون له، وفك ذمتي من حقه كما أوقعتني فيه، فهل له ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأنه لزمه هذا الحق من جهته وبأمره، فكان له مطالبته بتخليصه، كما لو استعار عبدا ليرهنه، فرهنه.. فللمعير أن يطالب المستعير بقضاء الدين، وفك العبد.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه إذا لم يطالبه المضمون له.. فلا ضرر عليه في كون الحق في ذمته، فلم يكن له مطالبته بذلك، ويفارق العبد المرهون؛ لأن على المولى ضررا في كون العبد مرهونا.

(6/322)


قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 285] : وأصل هذين الوجهين ما قال ابن سريج: هل ينعقد بين الضامن والمضمون عنه حكم بنفس الضمان؟ على قولين، ولهذا خمس فوائد:
إحداهن: هذه المسألة المتقدمة.
الثانية: إذا دفع المضمون عنه إلى الضامن مال الضمانة عوضا عما سيغرم.. فهل يملكه الضامن؟ فيه وجهان:
أحدهما: يملكه؛ لأن الرجوع يتعلق بسببي الضمان والغرم، وقد وجد أحدهما، فجاز تقديمه على الآخر، كإخراج الزكاة بعد النصاب وقبل الحول.
فعلى هذا: إن قضى الحق.. استقر ملكه على ما قبض، وإن أبرئ من الدين قبل القضاء.. وجب رد ما أخذ.
والوجه الثاني: أنه لا يملك ما قبض؛ لأنه أخذه بدلا عما يجب في الثاني، فلا يملكه، كما لو دفع إليه شيء عن بيع لم يعقد.
فعلى هذا: يجب رده، وإن تلف.. ضمنه؛ لأنه قبضه على وجه البدل، فضمنه، كالمقبوض بسوم البيع.
المسألة الثالثة: لو أبرأ الضامن المضمون عما سيغرم.. هل يصح؟ على الوجهين.
الرابعة: لو ضمن الضامن من ضامن عن المضمون عنه.. هل يصح؟ فيه وجهان.
وعلى قياس هذا: إذا رهن المضمون عنه الضامن بما ضمن عنه.. هل يصح؟ على الوجهين.

(6/323)


الخامسة: لو ضمن في الابتداء، بشرط أن يعطيه المضمون عنه ضامنا معينا بما ضمن.. هل يصح؟ على الوجهين.
وعلى قياس هذا: إذا ضمن عنه بإذنه بشرط أن يرهنه رهنا معلوما.. هل يصح؟ على الوجهين.

[مسألة: براءة الضامن إذا قبض المضمون]
] : إذا قبض المضمون له الحق من المضمون عنه.. برئ الضامن؛ لأن الضمان وثيقة بالحق. فانحلت باستيفاء الحق، كما لو استوفى المرتهن الحق من غير الرهن. وإن قبض الحق من الضامن.. برئ المضمون عنه؛ لأنه قبض الحق من الوثيقة، فبرئ من عليه الحق، كالمرتهن إذا استوفى حقه من ثمن الرهن.
وإن أبرأ المضمون له المضمون عنه.. برئ المضمون عنه، وبرئ الضامن؛ لأن المضمون عنه أصل، والضامن فرع، فإذا برئ الأصل.. برئ الفرع، وإن أبرأ الضامن.. برئ الضامن، ولم يبرأ المضمون عنه، كالمرتهن إذا أسقط حقه من الرهن.. فإن الراهن لا يبرأ.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 285] : وإن قال المضمون له للضامن: وهبت الحق منك، أو تصدقت به عليك.. كان ذلك إبراء منه للضامن.
وقال أبو حنيفة: (يكون كما لو استوفى منه الحق) .
دليلنا: أن الاستيفاء منه هو أن يغرم الضامن، ولم يغرم شيئا.

[فرع: ضمان الضامن جائز وإن تسلسل]
] : وإن ضمن عن الضامن ضامن، ثم ضمن عن الضامن الثاني ثالث، ثم رابع عن الثالث.. صح ذلك، فإذا قبض المضمون له حقه من أحدهم.. برئ الجميع منهم؛ لأنه قد استوفى حقه، وإن أبرأ المضمون له المضمون عنه أولا.. برئوا جميعا، وإن

(6/324)


أبرأ أحد الضمناء.. برئ، وبرئ فرعه، وفرع فرعه، ولا يبرأ أصله؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.

[مسألة: قضاء الضامن الحق]
] : وإذا قضى الضامن الحق.. فهل يرجع على المضمون عنه؟ فيه أربع مسائل:
إحداهن: إن ضمن بإذنه، وقضى بإذنه.. فإنه يرجع عليه، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (إن قال: اضمن عني هذا الدين، أو انقد عني.. رجع عليه وإن قال: اضمن هذا الدين، أو انقده ولم يقل عني: لم يرجع عليه، إلا أن يكون بينهما خلطة، مثل: أن يكون يودع أحدهما الآخر. أو يستقرض أحدهما من الآخر، أو يكون ذا قرابة منه، أو زوجية، فالاستحسان: أن يرجع عليه) .
دليلنا: أنه ضمن عنه بأمره، وقضى عنه بأمره، فرجع عليه، كما لو قال: اضمن عني، أو كان بينهما قرابة.
الثانية: أن يضمن عنه بغير أمره، ويقضي عنه بغير إذنه، فإنه لا يرجع عليه، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وأحمد: (له أن يرجع) .
دليلنا: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يصلي على من عليه دين) . وقد ضمن علي وأبو قتادة عن الميتين بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير إذنهما، فصلى عليهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو كان للضامن أن يرجع على المضمون عنه إذا ضمن بغير إذنه.. لما صلى عليهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي قتادة: «الآن بردت عليه جلده» . فلو كان إذا قضى عنه يستحق عليه الرجوع.. لم يبرد عليه جلده.

(6/325)


ولأنه ضمن عنه بغير إذنه، وقضى عنه بغير أمره، فلم يرجع عليه، كما لو علف دوابه، أو أطعم عبيده.
الثالثة: إذا ضمن بغير إذنه، وقضى بإذنه.. فهل يرجع عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع عليه، وهو المذهب؛ لأنه لزمه بغير إذنه، وأمره بالقضاء انصرف إلى ما وجب عليه بالضمان.
والثاني: يرجع عليه؛ لأنه أدى عنه بأمره، فرجع عليه، كما لو ضمن عنه بإذنه. وأصل هذين الوجهين: من قال لغيره: اقض عني ديني، وقضى عنه.. فهل له أن يرجع عليه؟ فيه وجهان.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 286] ، والصيمري: إلا أن الأصح هاهنا: أن يرجع، والأصح في الأولى: أن لا يرجع، والفرق بينهما: أن في الضمان وجب في ذمته بغير إذنه، وفي القضاء لم يتعلق الحق بذمته، بل حصل القضاء بإذنه.
وإن قال: اقض الدين، ولم يقل عني، فإن قلنا في التي قبلها: لا يرجع عليه.. فهاهنا أولى أن لا يرجع عليه. وإن قلنا هناك: يرجع.. فهاهنا فيه وجهان، حكاهما الصيمري، الصحيح أنه لا يرجع.
وإن قال: اقض عني ديني لترجع علي، فقضى عنه.. رجع عليه، وجها واحدا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون عند شروطهم» .
وإن قال: اقض عن فلان دينه، فقضى عنه.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 286] : لم يرجع عليه، وجها واحدا؛ لأنه لا غرض له في ذلك.
المسألة الرابعة: إذا ضمن عنه بأمره، وقضى بغير إذنه.. فهل له أن يرجع عليه؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها: يرجع عليه، وهو المذهب؛ لأنه دين لزمه بإذنه، فرجع عليه، كما لو ضمن بإذنه، وقضى بإذنه.
والثاني: لا يرجع عليه؛ لأنه أسقط الدين عنه بغير إذنه، فلم يرجع عليه، كما لو ضمن بغير إذنه، وقضى بغير إذنه.

(6/326)


والثالث - وهو قول أبي إسحاق -: إن كان الضامن مضطرا إلى القضاء، مثل: أن يطالبه المضمون له، والمضمون عنه غائب أو حاضر معسر. فقضى المضمون له.. رجع الضامن؛ لأنه مضطر إلى القضاء، وإن كان غير مضطر إلى القضاء، مثل: أن كان المضمون عنه حاضرا موسرا يمكنه أن يطالبه بتخليصه من الضمان، فقضى.. لم يرجع؛ لأنه متطوع بالأداء.
وكل موضع يثبت للضامن الرجوع على المضمون عنه، فأحال الضامن المضمون له بالحق على من له عليه دين، فإنه يرجع على المضمون عنه في المحال؛ لأن الحوالة كالقبض، وإن أحاله على من لا حق له عليه، وقبل المحال عليه، وقلنا: يصح.. برئ الضامن والمضمون عنه، ولا يرجع الضامن على المضمون عنه بشيء في الحال؛ لأنه لم يغرم شيئا، فإن قبض المحتال من المحال عليه، ورجع الحال عليه على الضامن.. رجع الضامن على المضمون عنه، وإن أبرأ المحتال المحال عليه من مال الحوالة.. لم يرجع المحال عليه على المحيل، وهو الضامن بشيء، ولم يرجع الضامن على المضمون عنه؛ لأنه لم يغرم واحد منهما شيئا، وإن قبض المحتال الحق من المحال عليه، ثم وهبه منه، أو قبض المضمون له الحق من الضامن، ثم وهبه منه.. فهل لهما الرجوع؟ فيه وجهان، بناء على القولين في المرأة إذا وهبت صداقها من الزوج، ثم طلقها قبل الدخول.

[فرع: القبض من أحد المدينين المتضامنين]
وإن كان لرجل على رجلين ألف درهم، على كل واحد منهما خمسمائة، وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه.. فلمن له الدين أن يطالب بالألف من شاء منهما جميعا، فإن قبض من أحدهما ألفا.. برئا جميعا، وكان للدافع أن يرجع على صاحبه بخمسمائة إن ضمن بإذنه، وقضى بإذنه.
وإن قبض من أحدهما خمسمائة، فإن قال الدافع: خذها عن التي لك علي أصلا.. لم يرجع الدافع على صاحبه بشيء، وإن قال: خذها عن التي ضمنت.. برئا عنها، وكان رجوعه على صاحبه على ما مضى، وإن دفعها إليه وأطلق، فاختلف

(6/327)


الدافع والقابض، فقال الدافع: دفعتها وعينتها عن التي ضمنتها، أو نويتها عنها، وقال المضمون له: بل عينتها، أو نويتها عن التي هي أصل عليك.. فالقول قول الدافع مع يمينه؛ لأنه أعلم بقوله ونيته، وإن اتفقا أنه لم يعينها عن أحدهما، ولا نواها، ثم اختلفا في جهة صرفها.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصرف إليهما نصفين.
والثاني: للدافع أن يصرفها إلى أيهما شاء، وقد مضى دليل الوجهين في الرهن.
وإن أبرأه المضمون له عن خمسمائة واختلفا فيما وقعت عليه البراءة.. ففي هذه المسائل: القول قول المضمون له، فيما أبرأ عنه إذا اختلفا في تعيينه، أو نيته.
وإن أطلق.. ففيه وجهان:
أحدهما: ينصرف إليهما.
والثاني: يعينه المضمون له فيما شاء.

[فرع: دفع الضامن الصحاح بدل المكسرة]
إذا ضمن عن غيره ألف درهم مكسرة، فدفع إليه ألف درهم صحاحا في موضع ثبت له الرجوع على المضمون عنه.. فإنه لا يرجع عليه بالصحاح؛ لأنه تطوع بتسليمها، وإنما يرجع بالمكسرة.
وإن ضمن عنه ألف درهم صحاحا، فدفع ألفا مكسرة.. لم يرجع إلا بالمكسرة؛ لأنه لم يغرم غيرها.
وإن صالح الضامن عن الألف على ثوب.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المشهور -: أنه يرجع على المضمون عنه بأقل الأمرين من قيمة الثوب، أو الألف؛ لأنه إن كان قيمة الثوب أقل.. لم يرجع بما زاد عليه؛ لأنه لم يغرم غير ذلك. وإن كانت قيمة الثوب أكثر من الألف.. لم يرجع بما زاد على الألف؛ لأنه متطوع بالزيادة عليه.
والوجه الثاني - حكاه المسعودي [في " الإبانة " ق \ 286] ، والشيخ أبو نصرـ: أنه

(6/328)


يرجع بالألف بكل حال، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، كما لو اشترى شقصا بألف، ثم أعطاه عن الألف ثوبا يساوي خمسمائة.. فإن المشتري يرجع على الشفيع بألف، وأما إذا صالح الضامن المضمون له عن الألف على خمسمائة، وقلنا يصح.. فإن الضامن والمضمون عنه يسقط عنهما الألف، كما لو أخذ بالألف ثوبا يساوي خمسمائة.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 286] : ولا يرجع الضامن على المضمون عنه إلا بخمسمائة، وجها واحدا؛ لأنه لم يغرم غيرها.

[فرع: ضمان ذمي لذمي عن مسلم]
] : وإن كان على مسلم لذمي ألف درهم، فضمن عنه ذمي، ثم إن الضامن صالح المضمون له عن الدين الذي ضمنه على المسلم على خمر أو خنزير.. فهل يصح الصلح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، ولا يبرأ واحد منهما عن حق المضمون له؛ لأنه متصل بحق المسلم.
والثاني: يصح؛ لأن المعاملة بين ذميين.
فإذا قلنا بهذا: فبماذا يرجع الضامن على المسلم؟
إن قلنا: إنه إذا صالحه على ثوب يرجع عليه بأقل الأمرين.. لم يرجع هاهنا بشيء، وإن قلنا: يرجع عليه بالألف.. رجع هاهنا بها أيضا.

[فرع: تعجيل الضامن الدفع]
] : وإن ضمن عن غيره دينا مؤجلا بإذنه، ثم إن الضامن عجل الدين للمضمون له قبل أجله.. لم يرجع على المضمون عنه قبل حلول الأجل؛ لأنه تطوع بالتعجيل.
وإن ضمن رجل صداق امرأة، فأداه إليها الضامن، فارتدت قبل الدخول.. سقط مهرها.

(6/329)


قال المسعودي: [في " الإبانة " ق \ 286] : وترد المرأة ما قبضت من الصداق إلى الزوج، ثم ترده إلى الضامن.

[فرع: إنكار المضمون له القبض يقبل مع يمينه]
] : إذا ضمن رجل عن غيره ألف درهم بإذنه، ثم ادعى الضامن أنه دفعها إلى المضمون له، وأنكر المضمون له ذلك، ولم تكن هناك بينة.. فالقول قول المضمون له مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القبض، فإذا حلف.. كان له أن يطالب أيهما شاء؛ لأن حقه ثابت في ذمتهما، فإن أخذ الألف من المضمون عنه.. برئت ذمته، وذمة الضامن، وهل للضامن أن يرجع بالألف الأولى على المضمون عنه؟ لا يخلو: إما أن يكون دفع بغير محضر المضمون عنه، أو بمحضره:
فإن دفع بغير محضره، فلا يخلو: إما أن يشهد على الدفع أو لم يشهد، فإن لم يشهد على الدفع، نظرت في المضمون عنه:
فإن صدق الضامن أنه دفع.. فهل له الرجوع عليه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - وهو قول علي بن أبي هريرة -: أنه يرجع عليه؛ لأنه قد صدقه أنه أبرأ ذمته بدفع الألف، فكان له الرجوع عليه، كما لو كان دفع بحضرته.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه لا يرجع عليه بشيء، وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنه يقول: وإن دفعت، فلم تدفع دفعا يبرئني من حقه؛ لأنك لم تسقط بذلك عني المطالبة، فلم تستحق علي بذلك رجوعا، ويخالف إذا كان بحضرته، فإن المفرط هو المضمون عنه.
وإن كذبه المضمون عنه.. فهل عليه اليمين؟
إن قلنا: لو صدقه كان له الرجوع.. كان على المضمون عنه أن يحلف: أنه ما يعلم أنه دفع.

(6/330)


وإن قلنا: لو صدقه لا رجوع له عليه.. فلا يمين عليه.
وإن اختار المضمون له أن يرجع على الضامن، فرجع عليه.. برئت ذمة المضمون عنه والضامن، وهل للضامن أن يرجع على المضمون عنه إذا صدقه في دفع الأولى؟
إن قولنا بقول أبي علي بن أبي هريرة: إن للضامن أن يرجع بالأولى على المضمون عنه إذا رجع المضمون له على المضمون عنه.. رجع الضامن هاهنا بالألف الأولى على المضمون عنه، ولا يرجع عليه بالثانية؛ لأنه يعترف أنه وزنها ظلما. فلا يرجع على غير من ظلمه. وإن قلنا بالمشهور: إنه لا يرجع عليه بشيء في الأولى.. فهل يرجع هاهنا بشيء؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يرجع عليه بشيء، أما الأولى: فقد مضى الدليل عليها، وأما الثانية: فلا يرجع بها؛ لأنه يعترف أن المضمون له ظلمه بأخذها، فلا يرجع بها على غير من ظلمه.
والثاني: يرجع عليه، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنه قد أبرأ المضمون عنه بدفعه عنه ظاهرا وباطنا، فكان له الرجوع عليه، كما لو دفع بالبينة.
فإذا قلنا بهذا: فبأيتهما يرجع؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول القاضي أبي حامد -: أنه يرجع عليه بالثانية؛ لأن المطالبة عن المضمون عنه سقطت بها في الظاهر.
والثاني: يرجع بالأولى؛ لأن براءة الذمة حصلت بها في الباطن.
والثالث - وهو قول ابن الصباغ -: أنه يرجع بأقلهما؛ لأنه إن كان قد ادعى أنه دفع في المرة الأولى ثوبا قيمته دون الألف، وفي الثانية دفع الألف.. فقد أقر بأن الثانية ظلمه بها المضمون له، فلا يرجع بها على غير من ظلمه، وإن كان يدعي أنه دفع في المرة الأولى ألف درهم، وفي المرة الثانية ثوبا قيمته دون الألف.. لم يرجع إلا بقيمة الثوب؛ لأنه لو لم يدفعه.. لم يستحق الرجوع بالأولى، فلم يستحق إلا قيمة الثوب.
فإن كان الضامن حين دفع الأولى بغير محضر المضمون عنه قد أشهد على الدفع، فإن كانت البينة قائمة.. حكم بها على المضمون له، ولم تقبل يمينه، ويكون

(6/331)


للضامن أن يرجع على المضمون عنه، وإن كانت البينة غير قائمة، فصدقه المضمون عنه أنه قد دفع، وأشهد.. نظرت:
فإن كان قد أشهد شاهدين عدلين، إلا أنهما غابا، أو ماتا، أو فسقا.. فإن المضمون له إذا حلف.. كان له أن يرجع على أيهما شاء، فإن رجع على المضمون عنه.. كان للضامن أن يرجع أيضا على المضمون عنه بالألف التي قد دفع عنه؛ لأنه قد اعترف أنه دفع عنه دفعا يبرئه، ولا صنع له في تعذر الشهادة، وإن رجع المضمون له على الضامن.. لم يرجع بالثانية؛ لأنه ظلمه بها، وإنما يرجع بالأولى؛ لما ذكرناه.
وإن أشهد شاهدين عبدين، أو كافرين، أو فاسقين ظاهري الفسق.. فهو كما لو لم يشهد، هل له أن يرجع على المضمون عنه؟ على الوجهين إذا صدقه على الدفع، ولم يشهد على ما مضى في الأولى من التفريع.
وإن أشهد شاهدين ظاهرهما العدالة، ثم بان أنهما كانا فاسقين.. ففيه وجهان:
أحدهما: يرجع الضامن على المضمون عنه؛ لأنه لم يفرط في الإشهاد، وليس عليه المعرفة في الباطن.
فعلى هذا: حكمه حكم ما لو أشهد عدلين، ثم ماتا.
والثاني: حكمه حكم ما لو لم يُشهد؛ لأنه أشهد من لا تثبت الحقوق بشهادته، فأشبه العبدين.
وإن أشهد شاهدا واحدا عدلا، فإن كان موجودا.. حلف معه، وكان كما لو أشهد عدلين، وحكم بشهادتهما، وإن كان ميتا، أو غائبا، أو طرأ عليه الفسق.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم ما لو أشهد عدلين ثم فسقا؛ لأنه دفع بحجة، وإنما عدمت، كالشاهدين.
والثاني: حكمه حكم ما لو لم يُشهد؛ لأنه فرط حيث اقتصر على بينة مختلف في قبولها، فهو كما لو لم يُشهد.
وأما إذا دفع الضامن الألف الأولى بمحضر من المضمون عنه، فإن أشهد على

(6/332)


الدفع، فإن كانت البينة قائمة.. أقامها وحكم بها، وإن كانت غير قائمة.. فعلى ما مضى، وإن لم يشهد، فحلف المضمون له.. رجع على من شاء منهما، وهل للضامن أن يرجع على المضمون عنه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: حكمه حكم ما لو لم يشهد، وكان الدفع بغيبة المضمون عنه على ما مضى؛ لأنه فرط في ترك الإشهاد، فصار كما لو دفع في غيبة المضمون عنه.
والثاني - وهو المنصوص - (أنه يرجع عليه) ؛ لأن المفرط في ترك الإشهاد هو المضمون عنه.
وإن ادعى الضامن أنه دفع الحق إلى المضمون له، فأنكر ذلك المضمون له والمضمون عنه، ولم تكن هناك بينة.. فالقول قول المضمون له، فإن لم يحلف.. ردت اليمين على الضامن، فإن حلف.. بنينا على القولين في يمين المدعي مع نكول المدعى عليه:
فإن قلنا: إنه كالبينة.. برئ الضامن والمضمون عنه من دين المضمون له، وكان للضامن أن يرجع على المضمون عنه.
وإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كإقرار المدعى عليه.. فهو كما لو صدق المضمون له الضامن على الدفع، وأنكر المضمون عنه الدفع فإنه لا مطالبة للمضمون له على أحدهما؛ لأنه قد أقر باستيفاء حقه، وهل للضامن أن يرجع على المضمون عنه؟ فيه وجهان لأبي العباس:
أحدهما: القول قول المضمون عنه مع يمينه، ولا يرجع الضامن عليه بشيء؛ لأن الضامن يدعي القضاء ليرجع، فلم يقبل لأن الأصل عدمه، والمضمون له يشهد على فعل نفسه، فلم يقبل.
والثاني: يرجع الضامن على المضمون عنه؛ لأن قبض المضمون له يثبت مرة بالبينة، ومرة بالإقرار، ولو ثبت القبض بالبينة.. لرجع عليه، فكذلك إذا ثبت بالإقرار.

(6/333)


[مسألة: الضمان في مرض الموت]
] : إذا ضمن الرجل في مرض موته عن غيره دينا.. فإن ذلك معتبر من ثلث ماله؛ لأنه تبرع، فهو كما لو وهب لغيره مالا.
إذا ثبت هذا: فإذا ضمن رجل في مرض موته عن غيره تسعين درهما بإذنه، ومات الضامن، وخلف تسعين درهما لا غير، ومات المضمون عنه، ولا يملك غير خمسة وأربعين درهما، فإن طالب المضمون له بحقه في تركة الضامن، وقع في هذه المسألة دور، والعمل فيه أن نقول: يذهب بالضمان من التسعين شيء، ولكنه يرجع إليهم نصف شيء؛ لأن ما خلفه المضمون عنه مثل نصف تركة الضامن فيعلم أنه ما ذهب عنهم بالضمان إلا نصف شيء، ويجب أن تكون هذه التسعون إلا نصف شيء الباقية معهم تعدل شيئا كاملا، مثلي ما ذهب عنهم بالضمان، فاجبر التسعين بنصف الشيء الناقص عنها، ثم رده على الشيء الكامل، فيكون تسعون تعدل شيئا ونصف شيء، الشيء ثلثاها، وهو ستون، فيأخذ المضمون له ستين من تركة الضامن، ويستحق ورثة الضامن الرجوع في تركة المضمون عنه بها؛ لأن الضمان بإذنه، ويبقى للمضمون له من دينه ثلاثون، فيرجع بها في تركة المضمون عنه، وتركته أقل من ذلك، فيقتسم المضمون له وورثة الضامن الخمسة والأربعين على قدر حقيهما، فيكون لورثة الضامن ثلثاها، وهو ثلاثون، وللمضمون له ثلثها، وهو خمسة عشر، فيجتمع لورثة الضامن ستون، وخرج منهم بالضمان ثلاثون، وقد بقي معهم مثلا ما خرج منهم.
فإذا تقرر هذا: وعرف ما يستحقه المضمون له من تركة الضامن بالعمل.. فهو بالخيار: إن شاء.. فعل ما ذكرناه، وإن شاء.. رجع على ورثة المضمون عنه بجميع تركته، وهو خمسة وأربعون، ورجع من تركة الضامن بثلثها، وهو ثلاثون، وإن

(6/334)


شاء.. أخذ من ورثة الضامن خمسة وسبعين، ورجع ورثة الضامن بجميع تركة المضمون عنه.
فإن كانت بحالها، إلا أن المضمون عنه خلف ثلاثين درهما لا غير.. فالعمل فيه: أن يخرج من التسعين شيء بالضمان، ويرجع إليهم ثلث شيء؛ لأن تركة المضمون عنه ثلث تركة الضامن، فيبقى مع ورثة الضامن تسعون إلا ثلثي شيء، تعدل شيئا وثلث شيء، فإذا جبرت التسعين.. عدلت شيئين، الشيء: نصفها، وهو خمسة وأربعون، فيأخذها من تركة الضامن، ويرجع المضمون له، وورثة الضامن في تركة المضمون عنه بنصفين؛ لاستواء حقيهما، فيرجع إلى ورثة الضامن خمسة عشر، فيجتمع لهم ستون، وخرج منهم ثلاثون، ويجتمع للمضمون له ستون، ويسقط من دينه ثلاثون، فإن شاء.. فعل ما ذكرناه، وإن شاء.. أخذ الستين كلها من تركة الضامن، ورجع ورثة الضامن بجميع تركة المضمون عنه، وإن شاء المضمون له.. أخذ جميع تركة المضمون عنه وهو ثلاثون، وأخذ من تركة الضامن ثلثها، وهو ثلاثون، ويبقى لهم ستون مثلا ما خرج منهم.
فإذا خلف المضمون عنه ستين. فإن المضمون له لا ينقص من دينه شيء هاهنا، والعمل فيه على قياس ما مضى.

[مسألة: ادعى بيع عبد لحاضر وغائب وكلاهما ضامن]
إذا ادعى رجل على رجل حاضر أنه ابتاع منه هو ورجل غائب عبدا بألف درهم، على كل واحد منهما خمسمائة درهم، وقبضاه، وكل واحد منهما ضامن ما على صاحبه، فإن أقر الحاضر بذلك.. لزمه أن يدفع إلى المدعي ألفا، فإذا قدم الغائب، فإن صدق الحاضر.. رجع عليه الحاضر بما قضى عنه، وهو خمسمائة، وإن كذبه.. فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف.. سقط حق الحاضر. وإن أنكر الحاضر المدعي، فإن لم يكن للمدعي بينة.. فالقول قول الحاضر مع يمينه، فإذا حلف.. سقطت عنه المطالبة.
فإذا قدم الغائب، فادعى عليه البائع، فإن أنكره.. حلف له أيضا، ولا كلام،

(6/335)


وإن أقر له بما ادعاه عليه.. لزم القادم الخمسمائة التي أقر أنه اشترى هو بها، وهل تلزمه الخمسمائة التي أقر أن شريكه اشترى بها، وضمن هو عليه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: لا تلزمه؛ لأنا قد حكمنا بسقوطها عن الحاضر بيمينه.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: تلزم القادم؛ لأن اليمين لم تبرئه من الثمن، وإنما تسقط عنه المطالبة في الظاهر، فإذا أقر أنه الضامن.. لزمه، ولهذا لو أقام بينة عليه بعد يمينه.. لزمه الثمن، ولزم الضامن، فثبت أن الحق لم يسقط عن الحاضر وعن الغائب.
وإن أقام المدعي بينة على الحاضر بأنهما اشتريا منه العبد بألف، وقبضاه، وضمن كل واحد منهما عن صاحبه الخمسمائة.. فللمدعي أن يطالب الحاضر بجميع الألف؛ لأن البينة قد شهدت عليه بذلك، وهل للحاضر أن يرجع بنصفها على الغائب إذا قدم؟
نقل المزني: (أنه يرجع بالنصف على الغائب) .
واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: لا يرجع عليه بشيء. ولم يذكر ابن الصباغ غيره؛ لأنه منكر لما شهدت عليه البينة، مقر أن المدعي ظالم له، فلا يرجع على غير من ظلمه. ومن قال بهذا.. تأول ما نقله المزني تأويلات:
أحدها: يحتمل أن يكون الحاضر صدق المدعي فيما ادعاه، غير أن المدعي قال: وأنا أقيم البينة أيضا، فأقامها، فيرجع هاهنا؛ لأنه ليس فيه تكذيب البينة.
الثاني: أن يكون الحاضر لم يقر، ولم ينكر، بل سكت، فأقام عليه المدعي البيئة، فليس فيه تكذيب.
الثالث: أن يكون الحاضر أنكر شراء نفسه، ولم يتعرض لشراء شريكه، فقامت عليه البينة.

(6/336)


الرابع: أن يكون الحاضر أنكر شراءه، وشراء شريكه، وضمانهما، إلا أن الحاضر لما قامت عليه البينة، وأخذ منه المدعي الألف ظلما.. ثبت له على الغائب خمسمائة بالبينة، وقد أخذ المدعي من الحاضر خمسمائة ظلما، فيكون للحاضر أن يأخذ ما ثبت للمدعي على الغائب.
ومن أصحابنا من وافق المزني، وقال: يرجع الحاضر على الغائب بخمسمائة وإن أنكر الشراء والضمان؛ لأنه يقول: كان عندي إشكال في ذلك، وقد كشفت هذه البينة هذا الإشكال وأزالته، فهو كمن اشترى شيئا، وادعى عليه آخر بأنه له، وأنكر المشتري ذلك، وأقام المدعي بينة، وانتزعه من يده.. فإن له أن يرجع على البائع بالثمن، ولا يقال: إن بإقراره أن المدعي ظالم يسقط حقه من الرجوع.
وقال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": ينظر في الحاضر:
فإن تقدم منه تكذيب البينة، مثل: أن قال لمن ادعى عليه. لم نبتع منك شيئا، ولا تستحق علينا شيئا، ثم قامت البينة بذلك.. فإنه لا يرجع على صاحبه بشيء؛ لأنه قد كذب البينة بما شهدت، وأن هذا المدعي ظالم.
قيل له: فإن قدم الغائب، واعترف بصدق المدعي.. فقال: لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه يقر له بما لا يدعيه.
وإن لم يتقدم منه تكذيب البينة، مثل: أن قال: ما لك عندي شيء.. فإنه يرجع على صاحبه بخمسمائة؛ لأنه ضمن عنه بإذنه، ودفع عنه.
قلت: ولعل صاحب الوجه الأول لا يخالف تفصيل الشيخ أبي حامد في جواب الحاضر، وأن الحكم يختلف باختلاف جوابه، كما ذكره.

(6/337)


[مسألة: ضمان العهدة]
] : ويصح ضمان العهدة على المنصوص، وهو أن يشتري رجل عينا بثمن في ذمته، فيضمن رجل عن البائع الثمن إن خرج مستحقا.
وخرج أبو العباس ابن سريج قولا آخر: أنه لا يصح، وبه قال ابن القاص؛ لأنه ضمان ما لم يجب، ولأنه ضمان مجهول؛ لأنه لا يعلم هل يستحق المبيع، أو بعضه؟ والصحيح أنه يصح؛ لأن الحاجة تدعو إلى الوثيقة على البائع، والوثائق ثلاث: الرهن، والشهادة، والضمان:
فالرهن لا يمكن؛ لأن البائع لا يعطيه مع المبيع رهنا، والشهادة لا تفيد؛ لأن البائع قد يفلس، فلا تفيد الشهادة، فلم يبق ما يستوثق المشتري به غير الضمان.
وأما قوله: (إنه ضمان ما لم يجب ضمان، وضمان مجهول) فغير صحيح؛ لأنه إن لم يكن المبيع مستحقا.. فلا ضمان أصلا، وإن كان مستحقا.. فقد ضمن الحق بعد وجوبه، وإنما صح الضمان هاهنا مع جهالة ما يستحقه المشتري؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك.
وقال أبو يوسف: إذا ضمن له العهدة.. كان ضامنا لكتاب الابتياع.. وهذا ليس بصحيح؛ لأن العرف قد صار في ضمان العهدة عبارة عن الدرك وضمان الثمن، فانصرف الإطلاق إليه.
فإذا قلنا: يصح ضمان العهدة.. صح بعد قبض الثمن، وجها واحدا؛ لأنه ضمان الحق بعد وجوبه، وهل يصح ضمانه قبل أن يقبض البائع الثمن؟ فيه وجهان:

(6/338)


أحدهما: يصح؛ لأن الحاجة تدعو إلى هذا الضمان قبل قبض الثمن، كما تدعو إليه بعد قبضه.
والثاني - ولم يذكر ابن الصباغ غيره -: أنه لا يصح؛ لأنه ضمان الحق قبل وجوبه، فلم يصح.
قال ابن الصباغ: وألفاظه أن يقول: ضمنت عهدته، أو ثمنه، أو دركه، أو يقول للمشتري: ضمنت خلاصك منه، أو يقول: متى خرج المبيع مستحقا.. فقد ضمنت لك الثمن، فإن قال: ضمنت لك خلاص المبيع.. لم يصح؛ لأنه لا يقدر على ذلك متى خرج مستحقا.
قال ابن سريج: لا يضمن درك المبيع إلا أحمق.
إذا ثبت هذا: فإن المزني نقل في (الإقرار) : (ولو ضمن له عهدة دار اشتراها، أو خلاصها، فاستحقت.. رجع بالثمن على الضامن إن شاء، والخلاص: المال يسلم إليه) . فتأول أصحابنا ذلك تأولين:
أحدهما: أنه أراد: خلاصك منها؛ لأن خلاصه إذا كان متعلقا بها.. جاز إضافته إليها، كما يضاف المصدر إلى الفاعل، والمفعول به.
والثاني: أنه أراد: وخلاصها، وقد جاءت (أو) بمعنى: الواو. قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] [الصافات: 147] ، وقال: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] [الإنسان: 24] .
فأما ما يكتب في الوثائق: ضمن فلان بن فلان البائع لفلان بن فلان المشتري قيمة ما أحدث في المبيع من بناء أو غراس، وغير ذلك إذا خرج مستحقا.. قال أصحابنا: فإن هذا ضمان باطل بلا خلاف على المذهب؛ لأنه ضمان ما لم يجب، وضمان مجهول.
فإن قيد ذلك، بأن قال: من درهم إلى ألف.. لم يصح؛ لأنه ضمان ما لم يجب.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح ضمان هذا مع العهدة) . بناء على أصله في ضمان ما لم يجب، وقد مضى ذكره.

(6/339)


فإن ضمن خلاص المبيع، أو ضمن قيمة ما يحدث في المبيع من بناء أو غراس، فإن كان في غير عقد البيع.. نظرت:
فإن أفرد ذلك عن ضمان العهدة.. لم يبطل البيع، ولا ضمان العهدة، بل يبطل ضمان خلاص المبيع، وضمان ما يحدث فيه من بناء أو غراس.
وإن قرنه مع ضمان العهدة.. بطل ضمان خلاص المبيع، وما يحدث فيه، وهل يبطل ضمان العهدة؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
وإن شرط ذلك في البيع، بأن قال: يعني هذه الأرض بمائة دينار، بشرط أن يضمن لي فلان وخلاصها، وقيمة ما أحدثته فيها من بناء أو غراس إن استحقت، فقال: بعتك، أو كان هذا الشرط في زمان الخيار.. فسد البيع؛ لأنه بيع بشرط فاسد.
قال الشيخ أبو حامد: ويجيء فيه قول آخر: أنه لا يبطل البيع إذا شرط ضمان قيمة ما يحدث في الأرض كما قلنا فيمن شرط رهنا فاسدا في البيع. والأول أصح.

[فرع: استحقاق البيع يوجب ضمان العهدة]
] : إذا ضمن رجل لرجل العهدة، فاستحق جميع المبيع على المضمون له، وقد دفع الثمن إلى البائع.. فالمشتري بالخيار: إن شاء طالب البائع بالثمن، وإن شاء طالب به الضامن.
وإن خرج بعضه مستحقا.. بطل البيع فيما خرج منه مستحقا وكان للمشتري أن يطالب الضامن بثمن القدر الذي خرج منه مستحقا، وهل يبطل البيع في الباقي؟ فيه وجهان:
فإذا قلنا يبطل البيع فيه، أو قلنا: لا يبطل، إلا أن المشتري اختار فسخ البيع فيه.. فهل للمشتري أن يرجع بثمن ذلك القدر على الضامن؟ فيه وجهان:

(6/340)


أحدهما: يرجع به عليه؛ لأنه ثبت له بسبب الاستحقاق.
والثاني: لا يرجع به عليه؛ لأن لم يضمن إلا ثمن ما استحق، وهذا ثمن ما لم يستحق، وإنما بطل البيع فيه؛ لئلا تفرق الصفقة، أو لفسخ المشتري.
وإن وجد المشتري بالمبيع عيبا، فرده.. فهل له أن يطالب الضامن بالثمن؟
قال أصحابنا: إن قال الضامن: ضمنت لك درك ما يلحقك في المبيع، أو ضمنت لك درك المبيع، وكل عيب تجده فيه.. فله أن يرجع بالثمن على الضامن، وجها واحدا، وكذلك: إن حدث عند المشتري عيب، وقد وجد به عيبا.. فله أن يرجع بالأرش على الضامن؛ لأن ضمانه يقتضي ذلك.
وإن ضمن درك البيع، أو عهدته لا غير.. فهل له أن يرجع بالثمن على الضامن إذا وجد به عيبا، أو بالأرش إن حدث عنده عيب آخر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع عليه بالثمن؛ لأن الثمن؛ رجع إليه لمعنى قارن عقد البيع بتفريط من البائع، فرجع به على الضامن، كما لو استحق المبيع.
والثاني: لا يرجع به عليه، بل يرجع به على البائع، وهو قول المزني، وأبي العباس؛ لأنه زال ملكه عن المبيع بغير الاستحقاق، فلم يرجع بالثمن على الضامن، كما لو كان المبيع شقصا، فأخذه الشفيع.

[فرع: ضمان العهدة في المبيع الباطل]
] : وإن ضمن العهدة، فبان أن البيع كان باطلا بغير الاستحقاق.. فهل للمشتري أن يرجع بالثمن على الضامن؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 283] :
أحدهما: يرجع به عليه؛ لأنه رجع إليه الثمن لمعنى قارن عقد البيع، فصار كما لو استحق.
والثاني: لا يرجع عليه به؛ لأنه يمكنه إن يمسك العين المبيعة إلى أن يسترجع ما دفع من الثمن، فلم يرجع به على الضامن، بخلاف ما لو استحق المبيع.
وإن تلف المبيع في يد البائع قبل القبض، أو فسخ البيع، أو كان شقصا، فأخذه

(6/341)


الشفيع بالشفعة.. فإن المشتري لا يرجع بالثمن على الضامن؛ لأن الثمن رجع إليه لمعنى حادث بعد العقد، ولم يضمن الضامن إلا الثمن عند استحقاق المبيع.

[فرع: ضمان نقصان الثمن]
] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 283 و284] : لو اشترى رجل شيئا بثمن، وسلمه، وضمن رجل للبائع نقصان الوزن، أو رداءة الثمن، فخرج الثمن نقصا، أو رديئا، أو معيبا.. فله أن يطالب الضامن بما نقص من الثمن، وله أن يرد الرديء والمعيب على المشتري، ويطالب الضامن بالثمن، هكذا ذكر.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أنه لا يطالبه ببدل الثمن إلا إذا كان الثمن في الذمة، ثم عينه، فضمن ضامن له رداءة المعين، فأما إذا كان الثمن معينا، فوجده رديئا أو معيبا، فرده.. لم يطالب ببدله، بل يطالب بالمبيع.

[مسألة: كفالة الأبدان]
] : وهل تصح الكفالة بالبدن؟
المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أكثر كتبه: (أنها صحيحة) . وقال في (الدعوى والبينات) : (كفالة الوجه عندي ضعيفة) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: تصح الكفالة بالبدن، قولا واحدا، وقوله في (الدعوى

(6/342)


والبينات) : (ضعيفة) يريد في القياس، وهو قوي في الأثر.
وذهب المزني، وأبو إسحاق إلى: أن المسألة على قولين:
أحدهما: لا تصح؛ لأنه كفالة بعين، فلم تصح، كالكفالة بالزوجة، وبدن الشاهد، ولأنه ضمان عين في الذمة بعقد، فلم تصح، كما لو أسلم في ثمرة نخلة بعينها.
فقولنا: (ضمان عين) احتراز من ضمان الدين، فإنه يصح.
وقولنا: (في الذمة) احتراز من البائع، فإنه يضمن العين المبيعة في يده، لا في ذمته، ولو تلفت قبل القبض.. لم يضمنها في ذمته.
وقولنا: (بعقد) احتراز من الغاصب، فإنه يضمن العين المغصوبة في يده، وفي ذمته.
والقول الثاني: أن الكفالة بالبدن صحيحة، وهو قول شريح، والشعبي، ومالك، وأبي حنيفة، والليث بن سعد، وعبيد الله بن الحسن، وأحمد رحمة الله عليهم، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 78] [يوسف: 78] .
ولما روي: أن رجلا جاء إلى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: إني مررت بباب عبد الله بن النواحة، فسمعته يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن مسيلمة رسول الله، فكذبت سمعي، وكففت فرسي حتى سمعت أصحابه في المسجد يضجون بذلك، فأرسل إليه عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فحضر، واعترف بذلك، فقال له عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أليس كنت تقرأ القرآن؟ فقال: كنت أتقيكم به. فأمر به، فقتل، ثم شاور أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بقية أصحابه، فأشار بعضهم بقتلهم، وأشار بعضهم بأن يستتابوا، ويتكفل بعضهم عشائرهم، فاستتابهم، فتابوا، وكفلهم عشائرهم. فدل على: أن الكفالة بالبدن كانت شائعة عند الصحابة

(6/343)


- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، إذ لم ينكر عليه أحد من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ذلك وإن لم يكن هذا الموضع موضعا تصح فيه الكفالة بالبدن؛ لأنه لم يتوجه عليهم حق، إلا أنه فعله استظهارا عليهم.
فإذا قلنا: لا تصح الكفالة بالبدن.. فلا تفريع عليه.
وإذ قلنا: تصح.. فإنما تصح الكفالة ببدن كل من يلزمه الحضور إلى مجلس الحكم بدين؛ لأنه دين لازم، فصحت الكفالة ببدن من عليه الحق. كالدين.

[فرع: كفالة من عليه حد]
] : وأما الكفالة ببدن من عليه حد: فإن كان لله تعالى، كحد الزنا، وحد شرب الخمر، وما أشبههما.. لم تصح لمعنيين:
أحدهما: أنه لما لم تصح الكفالة بما عليه من الحق.. لم تصح الكفالة ببدن من عليه.
والثاني: لا؛ لأن الكفالة وثيقة، وحدود الله لا يستوثق لها؛ لأنها تسقط بالشبهات.
وإن كان الحد للآدمي، كحد القذف، والقصاص.. فهل تصح الكفالة ببدن من عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تصح؛ لأنه لا تصح الكفالة بما عليه من الحق، فلم تصح الكفالة ببدنه، كمن عليه حد الزنا.
والثاني: تصح الكفالة ببدنه؛ لأن عليه حقا لآدمي، فصحت الكفالة ببدنه، كما لو كان له عليه دين.

(6/344)


[فرع: كفالة المكاتب]
] : وإن تكفل ببدن مكاتب لسيده لأجل مال الكتابة.. لم تصح؛ لأن الحق الذي عليه غير لازم له، فلم تصح الكفالة ببدنه.
قال ابن الصباغ: وإن تكفل ببدن صبي أو مجنون.. صحت الكفالة؛ لأن الحق يجب عليهما، وقد يحتاج عليهما، وقد يحتاج إلى إحضارهما للشهادة عليهما للإتلاف.
وإن رهن رجل شيئا، ولم يسلمه، فتكفل رجل عيه بتسليمه.. لم يصح؛ لأن تسليمه غير لازم له، فلم تصح الكفالة به.
وإن ادعى على رجل حقا، فأنكره.. جازت الكفالة ببدنه؛ لأن عليه حق الحضور، والكفالة واقعة على إحضاره.

[فرع: طلب الكفالة لآخر]
] : إذ قال رجل لرجل: تكفل بفلان لفلان، ففعل.. كانت الكفالة لازمة على الذي باشر الكفالة، دون الآمر؛ لأن المتكفل فعل ذلك باختباره، والآمر بذلك حث على المعروف، وهكذا في الضمان مثله.

[مسألة: كفالة من عليه دين]
] : إذا تكفل ببدن رجل لرجل له عليه دين، فمات المكفول به.. بطلت الكفالة.. ولم يلزم الكفيل ما كان على المكفول به من الدين، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وأبو العباس ابن سريج: (يلزم الكفيل ما كان على المكفول به من الدين للمكفول له؛ لأن الكفالة وثيقة بالحق، فإذا تعذر الحق من جهة من عليه الدين.. استوفى من الوثيقة، كالرهن) .
دليلنا: أنه تكفل ببدنه لا بدينه، فلم يلزمه ما عليه من الدين، كما لو غاب، ويفارق الرهن؛ لأنه علق به الدين، فاستوفى منه، وهاهنا لم يتكفل إلا بإحضاره، وقد تعذر إحضاره بموته.

(6/345)


فإذا قلنا بالمذهب: صحت الكفالة ببدن من عليه دين مجهول عند الكفيل.
وإذا قلنا بقول أبي العباس.. لم تصح الكفالة ببدن من عليه دين مجهول عند الكفيل.

[فرع: تكفل بدن رجل وإلا دفع الحق]
] : فإن تكفل ببدن رجل، وشرط أنه متى لم يحضره، فعليه الحق الذي عليه، أو قال: علي كذا وكذا.. لم تصح الكفالة، ولم يجب عليه المال المضمون به، وبه قال محمد.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (إن لم يحضره.. وجب عليه المال) .
دليلنا: أن هذا حضر، فلم يجز تعليق الضمان عليه، كما لو قال: إن جاء المطر.. فأنا ضامن ببدنه.
وإن قال: تكفلت لك ببدن زيد، على أني إن جئت به، وإلا فأنا كفيل لك ببدن عمرو.. لم يصح؛ لأنه لم يلتزم إحضار أحدهما، فصار كما لو تكفل بأحدهما لا بعينه.
وإن تكفل ببدن رجل بشرط الخيار.. لم تصح الكفالة.
وقال أبو حنيفة: (يفسد الشرط، وتصح الكفالة) .
دليلنا: أنه عقد لا يجوز فيه شرط الخيار، فإذا شرط فيه الخيار.. أبطله، كالصرف.
ولو أقر رجل، فقال: إنما تكفلت لك ببدن فلان على أن لي الخيار.. ففيه قولان:
أحدهما: يقبل إقراره في الجميع، فيحكم ببطلان الكفالة، كما لو قال: له علي ألف درهم إلا خمسمائة.
والثاني: يقبل إقراره في الكفالة، ولا يقبل في أنه كان بشرط الخيار؛ لأنه وصل إقراره بما يسقطه، فلم يصح، كما لو قال: له علي ألف درهم إلا ألف درهم.

(6/346)


[مسألة: كفالة البدن حالا ومؤجلا]
] : وإن تكفل ببدن رجل.. نظرت:
فإن شرط إحضاره حالا.. لزمه إحضاره في الحال، كما لو تكفل بدين حال، وإن تكفل ببدنه، وأطلق.. اقتضى ذلك إحضاره في الحال، كما قلنا فيمن باع بثمن، وأطلق.. فإن ذلك يقتضي الحلول، وإن تكفل ببدنه إلى أجل معلوم.. صحت الكفالة، ولا يلزمه إحضاره قبل ذلك، كما إذا ضمن الدين إلى أجل معلوم.
وإن تكفل ببدنه إلى أجل مجهول.. فهل تصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: تصح، كما تصح العارية إلى أجل مجهول.
والثاني: لا تصح، وهو الصحيح؛ لأنه إثبات حق في الذمة لآدمي، فلم تصح إلى أجل مجهول، كضمان المال، وتخالف العارية، فإنها لا تلزم، ولهذا لو أعاره إلى مدة.. كان له الرجوع فيها قبل انقضائها، ولو تكفل له بدينه إلى أجل معلوم.. لم يكن له المطالبة به قبل حلول الأجل، ولأن العارية تجوز من غير تعيين، ولهذا لو قال: أعرتك أحد هذين الثوبين.. جاز، ولو قال: تكفلت لك ببدن أحد هذين الرجلين.. لم يجز.

(6/347)


[مسألة: الكفالة بشرط التسليم بموضع]
] : تجوز الكفالة ببدن رجل ليسلمه في موضع معين، كما يصح السلم بشرط أن يسلم المسلم فيه في موضع معين، وتجوز الكفالة ببدن رجل وإن لم يذكر موضع التسليم.
فعلى هذا: يسلمه في موضع العقد، كما تصح الكفالة بالبدن حالا ومؤجلا، وإذا أطلق.. اقتضى الحلول.
فإذا تكفل له ببدن رجل ليسلمه إليه في بلد معين، فسلمه إليه في غير ذلك البلد.. لم يلزم المكفول له قبوله؛ لأن عليه مشقة في تسليمه في غير ذلك البلد، وقد يكون له غرض في تسلمه في عين ذلك البلد، وإن تكفل له ببدنه ليسلمه في موضع معين من البلد، بأن يقول: في مجلس القاضي أو في مسجده، فسلمه إليه في ذلك البلد، في غير ذلك الموضع المعين.. فهل يلزمه قبوله؟ فيه وجهان لأبي العباس:
أحدهما: لا يلزمه قبوله، كما لو تسلمه في غير ذلك البلد.
والثاني: يلزمه قبوله؛ لأن العادة أنه لا مؤنة عليه في نقله من موضع في البلد إلى موضع فيه.

[مسألة: الكفالة بإذن المكفول به]
] : إذا تكفل رجل ببدن رجل بإذن المكفول به.. صحت الكفالة، فإذا سأل المكفول له الكفيل إحضار المكفول به.. وجب على الكفيل أن يحضره، ووجب على المكفول به أن يحضر؛ لأنه تكفل به بإذنه، وإن لم يطالبه المكفول له، فقال الكفيل للمكفول به: أحضر معي لأردك إلى المكفول له لتبرئ ذمتي من الكفالة.. كان عليه أن يحضر معه؛ لأنه قد تعلق عليه إحضاره بأمره، فلزمه تخليصه منه، كما لو أعاره عبده ليرهنه، فرهنه.. فلصاحبه أن يطالبه بفكه.
وإن تكفل رجل لرجل ببدن رجل بغير إذن المكفول به.. فهل تصح؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال عامة أصحابنا: لا تصح؛ لأن المقصود بالكفالة بالبدن إحضار

(6/348)


المكفول به عند المطالبة، فإذا كان ذلك بغير إذنه.. لم يلزمه الحضور معه، فلا تفيد الكفالة شيئا.
فعلى هذا: إذا تكفل ببدن صبي، أو مجنون.. لم يصح ذلك إلا بإذن وليه؛ لأن الصبي والمجنون لا إذن لهما.
و [الثاني] قال أبو العباس: تصح الكفالة بالبدن من غير إذن المكفول به. كما يصح الضمان عليه بالدين من غير إذنه.
قال أبو العباس: فعلى هذا: إذا قال المكفول له للكفيل: أحضر المكفول به.. وجب على الكفيل أن يطالب المكفول به بالحضور. فإذا طالبه.. وجب على المكفول به الحضور من غير جهة الكفالة، ولكن لأن صاحب الحق قد وكل الكفيل بإحضاره.
وإن قال المكفول له للكفيل: اخرج إلي من كفالتك، أو رد علي كفالتي.. فهل يلزم المكفول به الحضور؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه؛ لأن ذلك يتضمن الإذن في إحضاره، فهو كما لو وكله بإحضاره.
والثاني: لا يلزمه الحضور؛ لأنه إنما طالبه بما عليه من الإحضار.
قال أبو العباس: فعلى هذا: للمكفول له حبس الكفيل.
قال ابن الصباغ: وهذا يدل عندي على فساد ما قاله؛ لأنه يحبس على ما لا يقدر عليه.

[مسألة: كفالة بعض البدن ككله]
] : إذا تكفل بعضو رجل، كيده، أو رجله، أو رأسه، أو بجزء مشاع منه، كنصفه، أو ثلثه، أو ربعه.. ففيه ثلاثة أوجه:

(6/349)


أحدها: تصح؛ لأنه لا يمكن تسليم نصفه، أو ثلثه إلا بتسليم جميع البدن، ولا تسلم إليه اليد والرجل، إلا على هيئتها عند الكفالة، وذلك لا يمكن إلا بتسليم جميعه.
والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب، وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد -: أنه لا تصح؛ لأن ما لا يسري إذا خص به عضو، أو جزء مشاع.. لم يصح، كالبيع منه، والإجارة، والوصية، وفيه احتراز من العتق، والطلاق.
والثالث: إن تكفل بما لا يبقى البدن إلا به، كالرأس، والقلب، والكبد، والنصف، والثلث.. صح؛ لأنه لا يمكن تسليم ذلك إلا بتسليم جميع البدن، وإن تكفل بما يبقى البدن دونه، كاليد، والرجل.. لم يصح؛ لأنه قد تقطع منه، ويبقى البدن، ولا فائدة في تسليمه وحده.

[مسألة: الإحضار قبل الأجل]
] : إذا تكفل ببدن رجل ليحضره إلى أجل، فأحضره الكفيل قبل الأجل، فإن قبل المكفول له.. برئ الكفيل، وإن امتنع المكفول له من القبول.. نظرت:
فإن كان عليه في قبوله ضرر بأن يكونه حقه مؤجلا، أو كان حقه حالا إلا أن له به بينة غائبة.. فإنه لا يلزمه قبوله؛ لأن عليه ضررا في قبوله.
وإن لم يكن عليه في قبوله ضرر، مثل: أن يكون حقه حالا، وبينته حاضرة.. لزمه قبوله.
لأنه لا ضرر عليه في قبوله، فإن امتنع من تسلمه.. قال الشيخ أبو حامد: رفعه الكفيل إلى الحاكم، وسلمه إليه ليبرأ، وإن لم يجد حاكما.. أحضر شاهدين يشهدان بتسليمه، أو امتناع المكفول له.
وذكر القاضي أبو الطيب: أنه يشهد على امتناعه رجلين.
قال ابن الصباغ: وهذا أقيس؛ لأن مع وجود صاحب الحق لا يلزمه دفعه إلى من ينوب عنه، من حاكم، أو غيره.
وإن أحضره الكفيل، وهناك يد سلطان لا يقدر عليه، يمنع منه.. لم يبرأ الكفيل

(6/350)


بذلك؛ لأن المستحق تسليمه من غير حائل، وإن سلمه، وهو في حبس الحاكم.. لزمه أن يتسلمه؛ لأن حبس الحاكم لا يمنعه من استيفاء حقه، فإن كان حقه قد ثبت عليه بالبينة، أو بالإقرار.. حبسه الحاكم به، وبالحق الذي كان محبوسا به، وإن لم يكن حقه قد ثبت عليه، فطلب إحضاره.. فإن الحاكم يحضره ليحكم بينهما، فإن ثبت له عليه حق، وطلب حبسه.. فإن الحاكم يحبسه به وبالحق الأول، فإذا سقط حق أحدهم.. لم يجز تخليته إلا بعد سقوط حق الآخر.
وإن جاء المكفول به إلى المكفول له، وسلم نفسه إليه.. برئ الكفيل، كما يبرأ الضامن إذا دفع المضمون عنه مال الضمانة.

[فرع: يلزم إحضار المكفول من دار الحرب أو الحبس]
] : إذا تكفل ببدن رجل، ثم ارتد المكفول به، ولحق بدار الحرب، أو حبس بحق.. لزم الكفيل إحضاره، فيخرج إلى دار الحرب لإحضاره، والمحبوس يمكنه أن يقضي عنه الحق، ويطلق من الحبس.

[فرع: يحبس الكفيل إذا غاب المكفول به]
] : وإن غاب المكفول به.. نظرت:
فإن كان غيبته إلى موضع معلوم.. فعلى الكفيل أن يحضره، فإذا مضت مدة يمكنه فيها الذهاب إليه، والمجيء به، ولم يأت به.. حبسه الحاكم. هذا قولنا.
وقال ابن شبرمة: يحبس في الحال؛ لأن حقه قد توجه عليه. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الحق، وإن كان قد حل، فإنه يعتبر فيه إمكان التسليم، وإنما يجب عليه إحضار الغائب عند إمكان ذلك.
وإن كان غائبا غيبة منقطعة لا يعلم مكانه.. لم يطالب الكفيل بإحضاره، ولم يحبس؛ لأنه لا يمكن المطالبة برده. فلم يطالب به، كمن عليه دين هو معسر به.. فإنه لا يطالب به.

(6/351)


وإن أبرأ المكفول له المكفول به من الحق.. برئ المكفول به، وبرئ الكفيل؛ لأنه فرع له، فإذا برئ الأصل.. برئ الفرع. وإن أبرأ الكفيل.. برئ الكفيل، ولم يبرأ المكفول به، كما قلنا في المضمون له إذا أبرأ الضامن.

[فرع: كفالة المكفول له وتبرئة الكفيل]
] : إذا تكفل ببدن رجل، ثم جاء رجل إلى المكفول له، وقال: تكفلت لك ببدن فلان المكفول به على أن تبرئ فلانا الكفيل.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: تصح كفالة الثاني، ويبرأ الأول؛ لأن الثاني قد حول الكفالة إلى نفسه، فبرئ الأول، كما لو كان له حق فاحتال به على آخر.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب: لا تصح الكفالة الثانية، ولا يبرأ الأول؛ لأن الكفالة والضمان لا تحول الحق، فكفالة الثاني لا تبرئ الأول من كفالته، وإذا لم يبرأ الأول.. فلم يتكفل له الثاني إلا بهذا الشرط، وإذا لم يصح الشرط.. لم تصح الكفالة.

[فرع: تكفل لرجلين فرده على أحدهما لم يبرأ الآخر]
] : وإن تكفل رجل ببدن رجل لرجلين بعقد، فرده على أحدهما.. برئ من حقه، ولم يبرأ من حق الآخر حتى يرده عليه؛ لأن العقد مع اثنين بمنزلة العقدين، فهو كما لو تكفل لكل واحد منهما بعقد منفرد.
وإن تكفل رجلان لرجل ببدن رجل، فأحضره أحدهما إلى المكفول له.. برئ الذي أحضره، وهل يبرأ الكفيل الآخر؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول المزني، والشيخ أبي إسحاق -: أنه يبرأ كما لو ضمن رجلان لرجل دينا على رجل، فأداه أحدهما.. فإن الآخر يبرأ.
والثاني - وهو قول أبي العباس، والشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب، وابن الصباغ -: أنه لا يبرأ الآخر؛ لأن الحق باق لم يسقط، والكفيلان وثيقتان، فلا تنفك

(6/352)


إحدى الوثيقتين بانفكاك الأخرى، كما لو كان الحق مرهونا، فانفك أحدهما مع بقاء الحق.. فإنه لا ينفك الباقي منهما، ويفارق إذا قضى أحد الضامنين المال المضمون به.. فإن الحق هناك قد سقط، فانفكت الوثيقة، وهاهنا الحق لم يسقط.

[فرع: إبراء المكفول له الكفيل]
] : إذا تكفل رجل لرجل ببدن رجل، فقال المكفول له: ما لي قبل المكفول به حق.. قال أبو العباس: ففيه وجهان:
أحدهما: يبرأ المكفول به مما عليه، وتبطل الكفالة؛ لأن قوله: (لا حق لي قبله) نفي في نكرة، فاقتضى العموم.
والثاني: يرجع إليه، فإن قال: أردت به: لا شيء لي عليه.. بطلت الكفالة، وبرئ المكفول به، وإن قال: أردت به: لا حق لي عليه من عارية أو وديعة، وصدقه الكفيل والمكفول به.. قبل قوله، وإن كذباه أو أحدهما.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بنيته. وإن قال: لا حق لي في ذمته، ولا في يده.. برئا جميعا.
قيل للشيخ أبي حامد: فإذا كان لرجل على رجل دين، فقال: لا حق لي قبله.. فقال: هو على هذين الوجهين.

[فرع: تعاد الكفالة بعد الإبراء]
وإن تكفل رجل ببدن رجل لرجل، فأبرأ المكفول له الكفيل، ثم رآه ملازما له، فقال له: خل عنه وأنا على ما كنت عليه من الكفالة. أو على مثل ما كنت عليه.. قال أبو العباس: صحت كفالته؛ لأنه إما أن يكون هذا إخبارا عن كفالته، أو إقرارا به، أو ابتداء كفالة في الحال، وأيها كانت.. وجب أن تصح.

(6/353)


[فرع: كفالة بدن الكفيل]
] : وإن تكفل رجل ببدن رجل، ثم تكفل آخر ببدن الكفيل.. صح؛ لأنه تكفل بمن عليه حق لازم، فكذلك لو تكفل ثالث بالثاني، ورابع بالثالث.. فيصح الجميع، فإن حضر المكفول به الأول بعينه، أو أحضره الكفيل.. برئ جميع الكفلاء، وإن مات المكفول به الذي عليه الدين.. برئ الكفلاء على المذهب، فإن مات الكفيل الأول.. برئ جميع الكفلاء، وإن مات الكفيل الثاني.. برئ الثالث والرابع، وإن مات الثالث.. برئ الرابع، ولم يبرأ الأولان، وإن مات الرابع.. بطلت كفالته وحده، وحكم البراءة حكم الموت.

[مسألة: الاختلاف في تكليف الضامن]
] : وإذا ضمن عن رجل دينا، ثم اختلفا، فقال الضامن: ضمنت وأنا صبي، وقال المضمون له: بل ضمنت وأنت بالغ، فإن أقام المضمون له بينة أنه ضمن وهو بالغ.. حكم بصحة الضمان، وإن لم تكن بينة.. فالقول قول الضامن؛ لأن الأصل عدم البلوغ.
وإن قال الضامن: ضمنت وأنا مجنون، وقال المضمون له: بل ضمنت وأنت عاقل، فإن أقام المضمون له بينة أنه ضمن له وهو عاقل.. حكم له بصحة الضمان، وإن لم تكن له بينة، فإن لم يعرف للضامن حال جنون.. فالقول قول المضمون له مع يمينه؛ لأن الأصل صحة الضامن، وإن عرف له حال جنون.. فالقول قول الضامن مع يمينه؛ لأنه يحتمل أنه ضمن في حال الجنون، ويحتمل أنه ضمن في حال الإفاقة، والأصل براءة ذمته.

(6/354)


[فرع: اختلفا في إبراء الضمان]
] : وإن ادعى الضامن أن المضمون له أبرأه عن ضمانه، وأنكر المضمون له البراءة، فأحضر الضامن شاهدين أحدهما المضمون عنه.. قال الصيمري: فإن لم يأمره بالضمان عنه.. قبلت شهادته، وإن أمره بالضمان عنه.. لم تقبل شهادته.

[فرع: إنكار الضامن وبينة المضمون]
] : وإن ادعى على رجل أنه ضمن له دينا على رجل غائب معين، وأنكر الضامن، وأحضر المضمون له بينة تشهد بالضمان، فإن بين قدر المال المضمون به، وشهدت معه البينة بذلك.. حكم بها. وإن ادعى الضمان بمال معلوم، والمضمون عنه مجهول، وشهدت له بذلك بينة.. فهل تسمع بينته؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تسمع هذه البينة، ولا يحكم له على الضامن بشيء؛ لأن الذي عليه الحق إذا كان مجهولا.. لم يثبت حقه، وإذا لم يثبت على الأصل.. لم يثبت على الضامن.
والثاني: يحكم له على الضامن؛ لأن البينة قد قامت عليه بذلك، ألا ترى أنها لو شهدت بأن له عليه ألفا من جهة الضمان.. سمعت، فكذلك هذا مثله.

[فرع: إيفاء الضامن بغير إذن]
] : إذا ضمن الرجل لغيره دينا، وقضاه، وادعى الضامن على المضمون عنه: أنه ضمن بإذنه وقضى بإذنه ليرجع عليه، وأنكر المضمون عنه الإذن، فإن أقام الضامن بذلك بينة.. حكم له بالرجوع على المضمون عنه، وإن لم يقم بينة.. فالقول قول المضمون عنه مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن.

[فرع: تعارض القولين ولا بينة بين الكفيل وبين المكفول له]
فرع: [تعارض القولين ولا بينة] : فإن قال: تكفلت لك ببدن فلان مؤجلا، فقال المكفول له: بل تكفلت به

(6/355)


معجلا، وأقام كل واحد منهما شاهدا واحدا بما قال.. ففيه وجهان، حكاهما الصيدلاني:
أحدهما: لا يلزمه إلا مؤجلا؛ لأنه لم يقر بغيره.
والثاني: يحلف كل واحد منهما مع شاهده، ويتعارضان، ويسقطان، ويبقى الضمان معجلا.

[فرع: لا يبرأ الكفيل إلا ببينة أو يمين]
] : إذا ادعى الكفيل: أن المكفول له برئ من الحق، وأن الكفالة قد سقطت، وأنكر ذلك المكفول له، ولم تكن بينة.. فالقول قول المكفول له مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء الحق له، فإذا حلف.. ثبتت الكفالة له، وإن نكل، فحلف الكفيل.. برئ الكفيل، ولا يبرأ المكفول به من الحق؛ لأنه لا يبرأ بيمين غيره.
وإن قال الكفيل: تكفلت به، ولا حق لك عليه.. فالقول قول المكفول له؛ لأن الظاهر صحة الكفالة، وهل يحلف؟ قال أبو العباس: فيه وجهان:
أحدهما: لا يحلف؛ لأن دعوى الكفيل تخالف ظاهر قوله.
والثاني: يحلف؛ لأن ما يدعيه الكفيل ممكن، فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل.. ردت اليمين على الكفيل؛ لأنه يجوز أن يعلم أنه لا حق للمكفول له بإقراره.
وبالله التوفيق

(6/356)