البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الشركة]

(6/357)


كتاب الشركة الأصل في جواز الشركة: الكتاب، والسنة، والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] الآية [الأنفال: 41] . فجعل الخمس مشتركا بين أهل الخمس، وجعل أربعة أخماس الغنيمة مشتركة بين الغانمين.
وقَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] [النساء: 11] ، فجعل الميراث مشتركا بين الأولاد.
وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الآية [التوبة: 60] . فجعل الصدقة مشتركة بين أهل الأصناف.
وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24] [ص: 24] . (والخلطاء) : هم الشركاء.
وأما السنة: فما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان له شريك في ربع، أو

(6/359)


حائط.. فلا يبعه حتى يؤذن شريكه، فإن رضي أخذ، وإن كره ترك» .
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يد الله مع الشريكين ما لم يتخاونا» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يقول الله عز وجل: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه.. خرجت من بينهما» .
قال الشيخ أبو حامد: يعني: خرجت البركة.

(6/360)


وروي: «أن السائب قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شريكي، فلما كان بعد المبعث.. أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله، كنت شريكي، فكنت خير شريك، كنت لا تداري ولا تماري» يعنى: لا تخالف ولا تنازع، من قَوْله تَعَالَى: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: 72] [البقرة: 72] ، يعنى: اختلفتم وتنازعتم.
وأما الإجماع: فإن أحدا من العلماء لم يخالف في جوازها.

إذا ثبت هذا: فإن الشركة تنقسم على ستة أقسام:
شركة في الأعيان والمنافع، وشركة في الأعيان دون المنافع، وشركة في المنافع دون الأعيان، وشركة في المنافع المباحة، وشركة في حقوق الأبدان، وشركة في حقوق الأموال.

(6/361)


فأما [الأولى]- شركة المنافع والأعيان -: فهو: أن يكون بين الرجلين، أو بين الجماعة أرض أو عبيد أو بهائم ملكوها بالإرث، أو بالبيع، أو بالهبة مشاعا.
وأما [الثانية]- شركة الأعيان دون المنافع -: فمثل: أن يوصي رجل لرجل بمنفعة عبده، أو داره، فيموت، ويخلف جماعة ورثة.. فإن رقبة العبد والدار تكون موروثة للورثة دون المنفعة.
وأما [الثالثة]- الشركة في المنافع دون الأعيان -: فمثل: أن يوصي بمنفعة عبده لجماعة، أو يستأجر جماعة عبدا.
وأما الوقف على جماعة: فإن قلنا: إن ملك الرقبة إلى الله.. كانت الشركة بينهم في المنافع دون الأعيان، وإن قلنا: إن الملك ينتقل إليهم.. كانت الشركة بينهم في المنافع والأعيان.
وأما [الرابعة]- الشركة في المنافع المباحة - فمثل: أن يموت رجل وله ورثة جماعة، ويخلف كلب صيد، أو كلب، ماشية أو زرع.. فإن المنفعة مشتركة بينهم.
وأما [الخامسة]- الشركة في حقوق الأبدان -: فهو: أن يرث جماعة قصاصا، أو حد قذف.
وأما [السادسة]- الشركة في حقوق الأموال -: فهو: أن يرث جماعة الشفعة، أو الرد بالعيب، أو خيار الشرط، أو حقوق الرهن، ومرافق الطرق.

[مسألة: مشاركة غير المسلم]
] : تجوز الشركة في التجارة؛ لما روي: «أن البراء بن عازب، وزيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، كانا شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمرهما، وقال: " ما كان بنقد.. فأجيزوه، وما كان بنسيئة فردوه» .

(6/362)


ويكره للمسلم أن يشارك الكافر، سواء كان المسلم هو المتصرف، أو الكافر، أو هما.
وقال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن كان المسلم هو المتصرف.. لم يكره، وإن كان الكافر هو المتصرف، أو هما.. كره.
دليلنا: ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (أكره أن يشارك المسلم اليهودي والنصراني) . ولا مخالف له.
ولأنهم لا يمتنعون من الربا، ومن بيع الخمور، ولا يؤمن أن يكون ماله الذي عقد عليه الشركة من ذلك، فكره. فإن عقد الشركة معه.. صح؛ لأن الظاهر مما هو بأيديهم أنه ملكهم، و (قد «اقترض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يهودي شعيرا، ورهنه درعه» .

[مسألة: الشركة في العروض]
قال المزني: والذي يشبه قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا تجوز الشركة في العروض، ولا فيما يرجع في حال المفاصلة إلى القيم؛ لتغير القيم.
وجملة ذلك: أن عقد الشركة يصح على الدراهم والدنانير؛ لأنهما قيم المتلفات، وثمن الأشياء غالبا، وبهما تعرف قيم الأموال، وما يزيد فيها من الأرباح، وأما غير النقود: فضربان:
ضرب لا مثل له، وضرب له مثل.
فأما ما لا مثل له، كالثياب، والحيوان، وما أشبههما: فلا يصح عقد الشركة عليهما، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (يصح عقد الشركة عليها، ويكون رأس المال فيها قيمتها) .

(6/363)


دليلنا: أن موضوع الشركة على أن لا ينفرد أحد الشريكين بربح مال أحدهما، وهذه الشركة تفضي إلى ذلك؛ لأنه قد تزيد قيمة عرض أحدهما، ولا تزيد من قيمة عرض الآخر، فيشاركه من لم تزد قيمة عرضه عند المفاصلة، وهذا لا سبيل إليه، فإن كان لكل واحد منهما عبد يساوي مائة، وأرادا الشركة.. باع أحدهما نصف عبده بنصف عبد صاحبه، ثم يتقاصان، ويأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف، وإن كانت قيمة أحدهما مائتين، وقيمة الآخر مائة.. باع من قيمة عبده مائتان ثلث عبده بثلثي عبد الآخر، وإن شاءا.. باع كل واحد منهما من صاحبه بعض عرضه بثمن في ذمته، ثم تقاصا، وإن شاءا.. اشتريا عرضا من رجل بثمن في ذمتهما، ثم دفعا عرضيهما عما في ذمتهما.
وأما ما له مثل، كالحبوب، والأدهان: فهل يصح عقد الشركة فيها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، وهو ظاهر ما نقله المزني؛ لأنه قال: ولا فيما يرجع حال المفاصلة إلى القيم. وما له مثل.. لا يرجع إلى قيمته، ولأنهما مالان إذا خلطا.. لم يتميز أحدهما عن الآخر، فصح عقد الشركة عليهما، كالدراهم، والدنانير.
والثاني: لا يجوز؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " البويطي ": (ولا تجوز الشركة في العروض) . وما له مثل من العروض، ولأنها شركة على عروض، فلم تصح، كالثياب، والحيوان.
قال أبو إسحاق في " الشرح ": فإذا قلنا: تصح الشركة فيها، فإن كانت قيمتهما سواء.. أخذ كل واحد منهما مثل سلعته يوم المفاصلة، واقتسما ما بقي من الربح، وإن كانت قيمتهما مختلفة، مثل: أن كانت حنطة أحدهما جيدة، وحنطة الآخر مسوسة.. كان لكل واحد منهما قيمة حنطته يوم عقد الشركة، واقتسما ما بقي من الربح.

(6/364)


[فرع: اشتركا في سبيكتي فضة]
] : قال الشيخ أبو حامد: فإن أخرج كل واحد منهما نقرة فضة، واشتركا فيها، فإن كانتا على صفة لا تتميزان بعد الخلط.. لم يصح عقد الشركة؛ لمعنى واحد، وهو أن كل واحد منهما يرجع عند المفاصلة إلى القيمة، فأشبه العروض، وإن كانتا متميزتين بعد الخلط.. لم يصح؛ لما ذكرناه، ولأنهما مالان لا يختلطان، فشابه العبيد والثياب.

[مسألة: أنواع الشركة]
] : والشركة أربعة:
شركة العنان، وشركة الأبدان، وشركة المفاوضة، وشركة الوجوه، ولا يصح من هذه الشركة عندنا، إلا شركة العنان، وهو: أن يخرج كل واحد منهما مالا من جنس مال الآخر، وعلى صفته، ويخلطا المالين، ولا خلاف في صحة هذه الشركة، واختلف الناس لم سميت شركة العنان:
فقيل: سميت شركة العنان؛ لظهورها، وهو أنهما ظاهرا بإخراج المالين، يقال عن الشيء إذا ظهر، ومنه قول امرئ القيس:
فعن لنا سرب كأن نعاجه ... عذارى دوار في ملاء مذيل
وقيل: سميت: عنانا؛ لاشتراكهما فيما يعن من الربح، أي: فيما يفضل من الربح، يقال عن الشيء إذا عرض.

(6/365)


وقيل: سميت: عنانا، من المعاننة، وهي المعارضة، فكل واحد من الشريكين عارض شريكه بمثل ماله.
وقيل: سميت بذلك، مأخوذا من عنان دابتي الرهان؛ لأن الفارسين إذا استبقا.. تساوى عنانا فرسيهما، كذلك هذه الشركة من شأنها أن يتساوى الشريكان فيها في المال والربح.
وقيل: سميت: شركة العنان، مأخوذا من عنان فرسي الرهان، لجهة أخرى؛ لأن الإنسان يحبس نفسه في الشركة من التصرف بالمال في سائر الجهات، إلا عن الجهة التي يتفق عليها الشريكان، كما أن الإنسان يحبس الدابة إذا ركبها بالعنان عن السير إلى سائر الجهات، إلا عن الجهة التي يريدها.
وقال أبو بكر الرازي: سميت بذلك، مأخوذا من العنان؛ لأن الإنسان يأخذ عنان الدابة بإحدى يديه، ويحبسه عليها، ويده الأخرى مرسلة، يتصرف بها كيف شاء، كذلك هذه الشركة كل واحد من الشريكين بعض ماله مقصور عن التصرف فيه من جهة الشركة، وبعض ماله يتصرف فيه كيف شاء.

[مسألة: في صحة الشركة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والشركة الصحيحة: أن يخرج كل واحد من الشريكين دنانير، مثل دنانير صاحبه، ويخلطاها، فيكونا شريكين) .
وجملة ذلك: أن من شرط صحة شركة العنان، أن يكون مالهما المشترك بينهما من جنس واحد، وسكة واحدة، فإن كان مال أحدهما دراهم، ومال الآخر دنانير، أو كان مال أحدهما ملكية، ومال الآخر مشرقية أو مغربية، أو كان مال أحدهما

(6/366)


صحاحا، ومال الآخر مكسرا.. لم تصح شركة العنان. وقال أبو حنيفة: (تصح) .
دليلنا: أنهما مالان مختلفان، فوجب أن لا ينعقد عليهما عقد الشركة، كما لو كان مال أحدهما حنطة، ومال الآخر شعيرا.
فإن خالفا، وأخرج أحدهما عشرة دنانير، والآخر عشرة دراهم، وخلطا ذلك، وابتاعا به متاعا.. فإن ذلك يكون ملكا لهما على قدر مالهما، فإن كان نقد البلد دنانير.. قومت الدراهم، فإن كانت قيمتها خمسة دنانير.. كان لصاحب الدنانير ثلثا المتاع، ولصاحب الدراهم ثلثه، وكذلك يقسم الربح والخسران بينهما، وإن كان نقد البلد من غير جنس ما أخرجاه.. قوم ما أخرج كل واحد منهما بنقد البلد، فإن تساويا.. كان ذلك بينهما نصفين، وإن تفاضلا.. كان الحكم في ملك المتاع لهما كذلك.
ولا تصح الشركة حتى يخلطا المالين، ثم يقولا: تشاركنا، أو اشتركنا، فإن عقدا الشركة قبل خلط المالين.. لم تصح.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تصح الشركة وإن لم يخلطا المالين، بل مال كل واحد منهما بيده يتصرف فيه كيف شاء، ويشتركان في الربح) .
وقال مالك رحمة الله عليه: (من شرط صحة عقد الشركة أن تكون أيديهما على المالين أو يد وكيلهما وإن لم يكونا مخلوطين) .
دليلنا: أنهما مالان يتميز أحدهما عن الآخر، فلم تصح الشركة عليهما، كما لو كانا حنطة وشعيرا، أو كما لو لم تكن أيديهما على المالين، ولأنا لو صححنا عقد الشركة قبل الخلط ... لأدى إلى أن يأخذ أحدهما ربح مال الآخر؛ لأنه قد يربح بمال أحدهما دون الآخر.
وهل من شرط صحة هذه الشركة أن يتساويا في قدر ماليهما؟ فيه وجهان:

(6/367)


[أحدهما] : قال أبو القاسم الأنماطي: لا تصح حتى يتساويا في قدر ماليهما، فإن كان مال أحدهما عشرة دنانير، ومال الآخر خمسة.. لم تصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - شرط أن يخرج أحدهما مثل ما يخرج الآخر، ولأنهما إذا تفاضلا في المال.. فلا بد أن يتفاضلا في الربح؛ لأن الربح على قدر المالين، فلم يجز أن يتفاضلا في الربح مع تساويهما في العمل، كما لا يجوز أن يتساويا في المال، ويتفاضلا في الربح مع تساويهما في العمل، فكذلك هاهنا.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: تصح الشركة وإن كانا متفاضلين في المالين؛ لأن المقصود في الشركة أن يشتركا في ربح ماليهما، وذلك يمكن مع تفاضل المالين، كما يمكن تساويهما، وما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.. فأراد به المثل من جهة الجنس والسكة، لا من جهة القدر، وأما اعتبار الربح بالعمل: فغير صحيح؛ لأن عمل الشريكين في مال الشركة لا تأثير له؛ لأنه تابع، وقد يعمل أحدهما في مال الشركة أكثر من عمل الآخر مع استوائهما في المال، وقد يعمل أحدهما في مال الشركة، وحده من غير شرط في العقد، ويصح ذلك كله، ولا يؤثر في الربح.

[فرع: التصرف بمال الشركة]
] : وإذا عقدا الشركة على مال لهما نصفين.. فإن كل واحد منهما يملك التصرف في نصف المال مشاعا من غير إذن شريكه؛ لأنه ملكه، وهل له أن يتصرف في النصف الآخر من غير إذن شريكه؟ فيه وجهان؛ حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 288] :
أحدهما: يملك ذلك، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن هذا مقتضى عقد الشركة، فلم يحتج إلى إذن الآخر، كما لو عقد القراض على مال له.
والثاني - وهو طريقة البغداديين من أصحابنا -: أنه لا يملك ذلك من غير إذن شريكه؛ لأن المقصود من الشركة هو أن يشتركا في ربح ماليهما، وذلك يقتضي التوكيل من كل واحد منهما لصاحبه.

(6/368)


إذا ثبت هذا: فإن أذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف بنصيبه.. تصرف كل واحد منهما بجميع مال الشركة، وإن أذن أحدهما لصاحبه دون الآخر.. صح تصرف المأذون له في جميع المال، ولا يتصرف من لم يؤذن له إلا في نصفه مشاعا، ولا يتجر المأذون له في نصيب شريكه إلا في النوع المأذون له فيه من الأمتعة، سواء كان يعم وجوده أو لا يعم وجوده؛ لأن ذلك توكيل، وللإنسان أن يوكل غيره يشتري له نوعا من الأمتعة وإن لم يكن عام الوجود، بخلاف القراض، فإن المقصود منه الربح، وذلك لا يحصل إلا في الإذن بالتجارة فيما يعم وجوده.
قال ابن الصباغ: وإن أذن له أن يتجر في جميع التجارات.. جاز ذلك أيضا، ولا يبيع المأذون له نصيب شريكه إلا بنقد البلد حالا بثمن المثل، كما نقول في الوكيل.

[فرع: قسمة الربح والخسران على قدر المالين]
] : وإذا اشترك الرجلان، وتصرفا، فإن ربحا.. قسم الربح بينهما أو الخسران على قدر المالين، سواء شرطا ذلك في العقد أو أطلقا؛ لأن هذا مقتضى الشركة، وإن شرطا التفاضل في الربح أو الخسران مع تساوي المالين، أو شرطا التساوي في الربح أو الخسران مع تفاضل المالين.. لم يصح هذا الشرط. وقال أبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: أنه شرط ينافي مقتضى الشركة، فلم يصح كما لو شرطا الربح لأحدهما فإن تصرفا مع هذا الشرط.. صح تصرفهما؛ لأن الشرط لا يسقط الإذن، فإن ربحا أو خسرا.. قسم الربح والخسران على قدر ماليهما؛ لأنه مستفاد بمالهما، فكان على قدرهما، كما لو كان بينهما نخيل، فأثمرت، ويرجع كل واحد منهما على صاحبه بأجرة عمله في ماله؛ لأنه إنما عمل بشرط، ولم يسلم له الشرط.

[فرع: طلب العامل في الشركة أجرة عمله]
] : إذا كان بين رجلين ثلاثة آلاف درهم، لأحدهما ألف، وللآخر ألفان، وعقدا الشركة على أن يكون الربح بينهما نصفين، فإن شرط صاحب الألفين على نفسه شيئا من العمل.. كانت الشركة فاسدة، فإذا عملا.. قسم الربح والخسران بينهما على قدر

(6/369)


ماليهما، ويرجع كل واحد على صاحبه بأجرة عمله في ماله.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الشركة فاسدة، ولا يرجع أحدهما على الآخر بأجرة عمله في ماله) .
دليلنا: أنه عقد يُبتغى به الربح في ثاني الحال، فإذا كان فاسدا.. استحق أجرة عمله فيه، كالقراض.
فإن عمل صاحب الألفين على مال الشركة عملا أجرته ثلاثمائة، وعمل صاحب الألف على مال الشركة عملا أجرته مائة وخمسون.. فإن كل واحد منهما يستحق على شريكه مائة، فيتقاصان.
وإن عمل صاحب الألف على مال الشركة عملا أجرته ثلاثمائة، وعمل صاحب الألفين على مال الشركة عملا أجرته مائة وخمسون.. فإن صاحب الألف يستحق على صاحب الألفين مائتين، ويستحق عليه صاحب الألفين خمسين، فيقاصه بها، ويبقى لصاحب الألف على صاحب الألفين مائة وخمسون.
وإن عمل كل واحد منهما على مال الشركة عملا أجرته مائة وخمسون.. فإن صاحب الألف يستحق على صاحب الألفين مائة، ويستحق صاحب الألفين عليه خمسين، فيقاصه بها، ويبقى لصاحب الألف على صاحب الألفين خمسون.
وإن شرط صاحب الألفين جميع العلم على صاحب الألف، وشرط له نصف

(6/370)


الربح.. فإن هذه الشركة صحيحة، وقراض صحيح؛ لأن صاحب الألف يستحق ثلث الربح بالشركة؛ لأن له ثلاث المال، ولصاحب الألفين ثلثا الربح، فلما شرط جميع العمل على صاحب الألف، وشرط له نصف الربح.. فقد شرط لعمله سدس الربح، فجاز، كما لو قارضه على سدس الربح.
فإن قيل: كيف صح عقد القراض على مال مشاع؟ قلنا: إنما صح؛ لأن الإشاعة مع العامل، فلا يتعذر تصرفه، وإنما لا يصح إذا كانت الإشاعة في رأس المال مع غيره؛ لأنه لا يتمكن من التصرف.

[فرع: عمل الشريك من غير اشتراط عوض تبرع]
] : وإن كان بين رجلين ألفا درهم، لكل منهما ألف، فأذن أحدهما لصاحبه أن يعمل في ذلك، ويكون الربح بينهما نصفين.. فإن هذا ليس بشركة ولا قراض؛ لأن مقتضى الشركة: أن يشتركا في العمل والربح، ومقتضى القراض: أن للعامل نصيبا من الربح، ولم يشترط له هاهنا شيئا.
إذا ثبت هذا: فعمل، وربح.. كان الربح بينهما نصفين؛ لأنه نماء مالهما.
قال ابن الصباغ: ولا يستحق العامل بعمله في مال شريكه أجرة؛ لأنه لم يشترط لنفسه عوضا، فكان عمله تبرعا.

[مسألة: شركة الأبدان]
] : وأما شركة الأبدان: فهي أن يعقد خياطان أو صباغان على أن ما كسب كل واحد منهما يكون بينهما.. في شركة باطلة، سواء اتفقت صنعتاهما، أو اختلفتا.
قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من قال: للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول آخر: (أن هذه الشركة جائزة) ؛ لأنه قال: (لو أقر أحد الشريكين على صاحبه بمال.. لم يقبل، سواء كانا شريكين في المال أو العمل) .

(6/371)


وقال أكثرهم: ليس بقول له؛ لأن ذلك لا يتضمن صحة الشركة.
وقال أبو حنيفة: (تصح الشركة فيما يضمن بالعقد، كالصنائع كلها، مثل: الخياطة، والصباغة، سواء اتفقتا أو اختلفتا، فأما ما لا يضمن بالعقد، كالاصطياد، والاحتطاب، والاحتشاش، والاغتنام؛ فلا يصح عقد الشركة عليه) .
وقال مالك: (تصح الشركة إذا اتفقت صنعتاهما، ولا تصح إذا اختلفتا) .
وقال أحمد: (تصح شركة الأبدان في الصنع كلها، وفي جميع الأشياء المباحة، كالاصطياد والاحتشاش، والاغتنام) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الغرر» . وفي الشركة غرر؛ لأنه لا يدرى كم يكسب كل واحد منهما، ولأنهما عقدا الشركة على أن يدخل كل واحد منهما في كسب صاحبه، فلم يصح، كما لو اشتركا فيما يكتسبان بالاصطياد، والاحتشاش، ولأنهما عقدا الشركة على منافع أعيان متميزة، فلم يصح، كما لو اشتركا في الغنم على أن يكون الدر والنسل بينهما، فإن عملا، وكسبا.. اختص كل واحد منهما بأجرة عمله؛ لأنه بدل عمله، فاختص به.

[مسألة: شركة المفاوضة]
] : وأما شركة المفاوضة: فهي باطلة عندنا، وصفتها: أن يشترطا أن يكون ما يملكان من المال بينهما، وأن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الآخر بغصب، أو بيع، أو ضمان.
قال الشافعي في " اختلاف العراقيين ": (لا أعلم في الدنيا شيئا باطلا إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة، ولا أعلم القمار إلا هذا، أو قُل منه) .

(6/372)


وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي: (شركة المفاوضة صحيحة) ، إلا أن أبا حنيفة يقول: (من شرط صحتها: أن يخرج كل واحد منهما جميع ما يملكه من الذهب والفضة، حتى لو أن أحدهما استثنى مما يملكه درهما.. لم تصح الشركة، ويكون مال أحدهما مثل مال صاحبه، ويكونا حرين بالغين مسلمين، ولا تصح بين مسلم وذمي، ولا بين ذميين، ولا بين حر وعبد، فإذا وجدت هذه الشركة.. تضمنت الوكالة والكفالة.
فأما الوكالة: فهو أن يشارك كل واحد منهما صاحبه في الكسب، وفيما يوهب له، وفي الكنز الذي يجده، وفي جميع ما يكسبه، إلا الاصطياد والاحتشاش، فإنهما ينفردان به، وأما الميراث: فإنهما لا يشتركان فيه، فإذا ورث أحدهما.. نظر فيه:
فإن كان عرضا.. لم يصر للشركة.
وإن كان ذهبا أو فضة، فما لم يقبضه.. فالشركة بحالها، وإن قبضه.. بطلت الشركة؛ لأنه قد صار ماله أكثر من مال الآخر.
وأما الكفالة: فإن كل ما يلزم أحدهما بإقرار، أو غصب، أو ضمان، أو عهدة.. فإن صاحبه يشاركه فيه، إلا أرش الجناية) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الغرر» . وهذا غرر، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
ولأنها شركة لا تصح مع المفاضلة، فلم تصح مع المساواة، كالشركة في العروض، وعكسه شركة العنان.
ولأنهما عقدا الشركة على أن يشارك كل واحد منهما الآخر فيما يختص بسببه. فلم يصح، كما لو عقدا الشركة على ما يملكان بالإرث، أو نقول: شركة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الآخر بعدوانه، فلم يصح، كما لو عقدا الشركة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على كل واحد منهما بالجناية.

(6/373)


إذا ثبت هذا: فإن كسبا.. اختص كل واحد منهما بملك ما كسبه، ووجب عليه ضمان ما أتلفه أو غصبه؛ لأن وجود هذا العقد بمنزلة عدمه.

[مسألة: شركة الوجوه]
] : وأما شركة الوجوه: فهي باطلة عندنا، وهي: أن يتفقا على أن يشتري كل واحد منهما بوجهه، ويكون ذلك شركة بينهما وإن لم يذكر شريكه عند الشراء، ولا نواه.
وقال أبو حنيفة: (تصح) .
دليلنا: أن ما يشتريه كل واحد منهما ملك له، فلا يشاركه غيره فيه، فإن أذن أحدهما لصاحبه أن يشتري له عينا معينة، أو موصوفة، وبين له الثمن، فاشترى له، ونواه عند الشراء.. كان ذلك للآمر.

[فرع: شركة الأزواد في السفر]
] : حكى الصيمري: أن الشافعي قال: (شركة الأزواد في السفر سنة، فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وليس من باب الربا بسبيل، فيخلط هذا طعامه

(6/374)


بطعام غيره جنسا، وجنسين، وأقل، وأكثر، ويأكلان، ولا ربا في ذلك، ونحو هذا اشتراك الجيش في الطعام في دار الحرب) .

[مسألة: صورة شركة غير صحيحة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " البويطي ": (إذا اشترك أربعة أنفس في الزراعة، فأخرج أحدهم البذر، ومن الثاني الأرض، ومن الثالث الفدان، يعني: البقر الذي يعمل عليه، والرابع يعمل، على أن يكون الزرع بينهم.. فإن هذا عقد فاسد؛ لأنه ليس بشركة، ولا قراض، ولا إجارة لأن الشركة لا تصح حتى يخلط الشركاء أموالهم، وهاهنا أموالهم متميزة، وفي القراض يرجع رب المال إلى رأس ماله عند المفاصلة، وهاهنا لا يمكن، والإجارة تفتقر إلى أجرة معلومة، وعمل معلوم) .
فإذا ثبت هذا كانت الغلة كلها لمالك البذر؛ لأنها عين ماله زادت، وعليه لصاحب الأرض ولصاحب الفدان أجرة مثل ما لهم، وللعامل أجرة مثل ما عمل عليه؛ لأن كل واحد منهم دخل في العقد ليكون له شيء من الغلة، ولم يسلم لهم ذلك، وقد تلفت منافعهم، فكان لهم بدلها.

[فرع: اشترك في عمل وأعيان غير متكافئة]
] : قال في " البويطي ": (فإن اشترك أربعة، فأخرج أحدهم بغلا، والآخر حجر الرحى، ومن الآخر البيت، ومن الرابع العمل على أن يكون ما حصل من الأجرة بينهم، على ما شرطوه.. فإن هذه معاملة فاسدة؛ لأنها ليست بشركة، ولا قراض، ولا إجارة؛ لما بيناه في المسألة قبلها) .
قال الشافعي: (فإذا أصابوا شيئا.. جعل لكل واحد منهم أجرة مثله، وجعل كرأس ماله، وقسم ما حصل بينهم على قدره) .

(6/375)


فقال أبو العباس: في هذا مسألتان:
إحداهما: إذا جاء رجل، فاستأجر من كل واحد منهم ما له ليطحنوا له؛ طعاما معلوما، بأجرة معلومة بينهم، بأن يقول لصاحب البيت: استأجرت منك هذا البيت، ومن هذا الحجر، ومن هذا البغل، ومن هذا نفسه؛ لتطحنوا لي كذا وكذا من الحنطة، بكذا وكذا درهما، فقالوا: قبلنا الإجارة.. فهل يصح هذا العقد؟ فيه قولان، كالقولين في أربعة أنفس لهم أربعة أعبد باعوهم بثمن واحد، وكالقولين فيمن تزوج أربعة نسوة بمهر واحد، أو خالعته بعوض واحد.
فإذا قلنا: لا يصح.. استحق كل واحد منهم إذا طحنوا أجرة مثل ما له على صاحب الطعام.
وإن قلنا: يصح.. نظر كم أجرة مثل كل واحد منهم، وقسم المسمى بينهم على قدر أجور مثلهم.
ولو استأجر من كل واحد ملكه بأجرة معلومة على عمل معلوم، أو مدة معلومة بعقد منفرد.. صح ذلك، قولا واحدا، واستحق كل واحد منهم ما يسمى له.
المسألة الثانية: إذا استأجرهم في الذمة، مثل أن يقول: أستأجركم لتحصلوا لي طحن هذا الطعام بمائة.. صحت الإجارة، قولا واحدا، ووجب على كل واحد منهم ربع العمل، واستحق ربع المسمى من غير تقسيط، فإذا طحنوا.. استحقوا المسمى أرباعا، وكان لكل واحد منهم أن يرجع على شركائه بثلاثة أرباع عمله، فيرجع صاحب البغل على شركائه بثلاثة أرباع أجرة بغله، وكذلك صاحب البيت، والرحى، والعامل؛ لأن كل واحد منهم يستحق عليه ربع العمل، وقد عمل الجميع، فسقط الربع لأجل ما استحق عليه، ويرجع على شركائه بما لم يستحق عليه.
فإن قال: استأجرتكم لتطحنوا لي هذا الطعام بمائة، فقالوا: قبلنا.. فذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أنها على قولين، كالمسألة الأولى. وذكر المحاملي،

(6/376)


وابن الصباغ: أنها تصح، قولا واحدا، كالمسألة الثانية.
فإن قال لرجل منهم: استأجرتك لتحصل لي طحن هذا الطعام بمائة، فقال: قبلت: الإجارة لي ولأصحابي، أو نوى ذلك، وكانوا قد أذنوا له في ذلك.. فالإجارة صحيحة، والمسمى بينهم أرباع، فإذا طحنوا.. رجع كل واحد منهم بثلاثة أرباع أجرة ما له على شركائه، وإن لم ينو أنه يقبل له ولأصحابه.. لزمه العمل بنفسه، فإذا طحن الطعام بالآلة التي بينه وبين شركائه.. استحق المسمى، وكان عليه أجرة مثل آلاتهم.

[فرع: في المعاملات الفاسدة]
] : قال في " البويطي " (وإذا اشترك ثلاثة: من أحدهم البغل، ومن الآخر الراوية، ومن الثالث العمل على أن يستقي الماء ويكون ما رزق الله بينهم.. فإن هذه معاملة فاسدة؛ لأنها ليست بشركة، ولا قراض، ولا إجارة؛ لما بيناه) .
فإذا استقى الماء، وباعه، وحصل منه ثمن.. فقد قال الشافعي في موضع: (يكون ثمن الماء كله للعامل، وعليه أجرة مثل البغل والراوية) .
وقال في موضع: (يكون ثمن الماء بينهم مقسطا عليهم على قدر أجور أمثالهم) . واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال: (يكون ثمن الماء كله للسقاء، وعليه أجرة مثل البغل والراوية) إذ كان الماء ملكا له، مثل: أن يأخذ الماء من بركة له، أو من ماء ينبع في ملكه؛ لأن الماء ملكه، فكان ثمنه ملكا له، وعليه أجرة البغل والراوية؛ لأنه استوفى منفعتهما على عوض، ولم يسلم لهما العوض.
والموضع الذي قال: (يكون ثمن الماء بينهم) إذا كان الماء مباحا؛ لأن الثمن حصل بالعمل، والبغل، والراوية.
ومنهم من قال: إن كان الماء ملكا للسقاء.. فالثمن كله له، وعليه أجرة البغل والراوية؛ لما ذكرناه، وإن كان الماء مباحا.. ففيه قولان:

(6/377)


أحدهما: أن الثمن كله للسقاء؛ لأن الماء يملك بالحيازة، ولم توجد الحيازة إلا منه، وعليه أجرة مثل البغل والراوية؛ لأنهم دخلوا على أن يكون لهم قسط من ثمن الماء، فإذا لم يحصل ذلك لهم.. استحقوا أجرة المثل.
والقول الثاني: أن ثمن الماء بينهم؛ لأنه لم يتناول الماء لنفسه، وإنما تناوله ليكون بينهم، فكان بينهم، فصار كالوكيل لهم.
قال ابن الصباغ: وهكذا: لو اصطاد له، ولغيره، فهل لغيره منه شيء؟ فيه وجهان، بناء على هذه المسألة.
فإذا قلنا: يكون الماء بينهم: ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد في " التعليق " -: أنه يقسم بينهم بالتقسيط على قدر أجور أمثالهم، وحكي: أن الشافعي نص على ذلك.
والثاني - حكاه ابن الصباغ عن الشافعي -: (أنه يكون بينهم أثلاثا، ويرجع صاحب البغل بثلثي أجرته على صاحبيه، ويرجع صاحب الراوية بثلثي أجرته على صاحبيه، ويرجع السقاء على صاحبيه بثلثي أجرته) .
وأما صاحب " المهذب ": فذكر أنه يكون بينهم أثلاثا، وأطلق.
فإن استأجرهم غيرهم ليستقوا له ماء.. قال أبو العباس: ففيه مسألتان، كما ذكر في الطحن إن استأجرهم إجارة معينة بأجرة واحدة.. ففيه قولان، وإن استأجرهم في ذممهم.. صح، قولا واحدا.

[مسألة: اشتركا في عبد فوجداه معيبا]
] : وإن اشترى الشريكان عبدا، فوجدا به عيبا، فإن اتفقا على رده أو إمساكه.. فلا كلام، وإن أراد أحدهما الرد، وأراد الآخر الإمساك، فإن كانا قد عقدا جميعا عقد البيع.. فلأحدهما أن يرد نصيبه دون نصيب شريكه.

(6/378)


وقال أبو حنيفة: (ليس لأحدهما أن يرد دون شريكه) . وقد مضى ذكرها في البيوع.
وإن تولى أحدهما عقد البيع له ولشريكه، فإن كان لم يذكر: أنه يشتري له ولشريكه، ثم قال بعد ذلك: كنت اشتريت لي ولشريكي.. لم يقبل قوله على البائع؛ لأن الظاهر أنه اشترى لنفسه، وإن كان قد ذكر في الشراء: أنه لنفسه ولشريكه.. فهل له أن يرد حصته دون شريكه؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: له ذلك؛ لأن البائع قد علم أن الصفقة لنفسين، فصار كما لو اشتريا شيئا بأنفسهما.
والثاني: ليس له الرد؛ لأنه وإن ذكر أنه يشتري له ولشريكه.. فحكم العقد له، ألا ترى أنه لو اشترى عبدا، فقال: اشتريته لزيد، فقال زيد: ما أذنت له.. كان الشراء لازما للمشتري؟
فأما إذا باع الرجل عبدا، ثم قال: كان بيني وبين فلان، فإن باعه مطلقا، ثم قال بعد ذلك: إنه بينه وبين غيره.. لم يقبل قوله على المشتري؛ لأن الظاهر أنه باع ملكه.
قال الشيخ أبو حامد: فيحلف المشتري: أنه لا يعلم ذلك. فإن أقام الشريك بينة: أنه بينه وبينه.. حكم له بذلك، فإن كان قد أذن له بالبيع.. صح، وإن لم يأذن له.. كان القول قوله: أنه ما أذن له؛ لأن الأصل عدم الإذن.
فإن ذكر البائع حين البيع: أنه بينه وبين شريكه.. قبل قوله؛ لأنه مقر على نفسه في ملكه، فإن أقر الشريك: أنه أذن له في البيع.. نفذ البيع، وإن لم يقر بالإذن، ولا بينة عليه.. حلف أنه ما أذن له، وبطل البيع؛ لأن الأصل عدم الإذن.

[مسألة: الشريك أمين]
] : والشريك أمين فيما في يده من مال الشركة، فإن تلف في يده شيء منه من غير تفريط.. لم يجب عليه ضمانه؛ لأنه نائب عن شريكه في الحفظ، فكان الهالك في

(6/379)


يده كالهالك في يد المالك. وإن ادعى الهلاك بسبب ظاهر.. لم يقبل قوله حتى يقيم البينة على السبب الظاهر؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليه، فإن شهدت البينة بالسبب، وبهلاك المال فيه.. فلا كلام، وإن شهدت البينة بالسبب، ولم تذكر هلاك المال.. فالقول قول الشريك مع يمينه: أنه هلك بذلك.
وإن ادعى الهلاك بسبب غير ظاهر.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على الهلاك.

[فرع: لا تسمع دعوى خيانة الشريك]
] : وإن ادعى أحد الشريكين على الآخر خيانة.. لم تسمع دعواه حتى يبين قدر الخيانة، فإذا بينها، فأنكرها الآخر ولا بينة على منكر الخيانة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الخيانة.
وإن اشترى أحد الشريكين شيئا فيه ربح، فقال شريكه: اشتريته شركة بيننا، وقال المشتري: بل اشتريته لنفسي، أو اشترى شيئا فيه خسارة، فقال المشتري: اشتريته شركة بيننا، وقال الآخر: بل اشتريته لنفسك.. فالقول قول المشتري مع يمينه في المسألتين؛ لأنه أعرف بفعله.

[فرع: شراء الشريك بما لا يتغابن بمثله]
] : وإن أذن كل واحد من الشريكين لصاحبه بالتصرف، فاشترى أحدهما شيئا للشركة بأكثر من ثمن المثل بما لا يتغابن الناس بمثله، فإن اشترى ذلك بثمن في ذمته.. لزم المشتري جميع ما اشتراه، ولا يلزم شريكه ذلك؛ لأن الإذن يقتضي الشراء بثمن المثل، فإن نقد الثمن من مال الشركة.. ضمن نصيب شريكه بذلك؛ لأنه تعدى بذلك.
وإن اشتراه بعين مال الشركة.. لم يصح الشراء في نصيب الشريك؛ لأن العقد تعلق بعين المال، وهل يبطل في نصيب المشتري؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.

(6/380)


فإذا قلنا.. يبطل فهما على شركتهما كما كانا.
وإن قلنا: يصح الشراء في نصيبه.. انفسخت الشركة بينهما في قدر الثمن؛ لأن حقه من الثمن قد صار للبائع؛ فيكون البائع شريك شريكه بقدر الثمن، ويكون هو شريك البائع في السلعة.
وإن باع أحد الشريكين شيئا من مال الشركة بأقل من ثمن المثل بما لا يتغابن الناس بمثله.. بطل البيع في نصيب شريكه؛ لأن مطلق الإذن يقتضي البيع بثمن المثل، وهل يبطل البيع في نصيب البائع؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
فإذا قلنا: يبطل البيع في نصيب البائع.. فهما على الشركة كما كانا.
وإن قلنا: لا يبطل.. بطلت الشركة بينهما في المبيع؛ لأن حصته منه صارت للمشتري بالابتياع، فيكون المشتري شريك شريكه.
قال أبو إسحاق: ولا يضمن البائع نصيب شريكه ما لم يسلمه؛ لأن ذلك موضع اجتهاد لوجود الاختلاف فيه.
ولو أودع رجل عند رجل عينا، فباعها المودع.. فإنه يضمن ذلك بنفس البيع وإن لم يسلم؛ لأن المودع لا يجوز له البيع بالإجماع، واستضعف الشيخ أبو حامد هذا، وقال: هو متعد بالبيع، فلا فرق بين أن يكون مختلفا فيه، أو مجمعا عليه، ألا ترى أنه إذا سلم.. ضمن وإن كان مختلفا فيه؟

[فرع: رفع يد أحد الشريكين غصب]
] : وإن كان عبد بين اثنين، فجاء رجل أجنبي، وأزال يد أحد الشريكين عن العبد.. صار غاصبا لحصته من العبد وإن كان مشاعا؛ لأن الغصب هو إزالة اليد، وذلك يوجد في المشاع، كما يوجد في المقسوم، ألا ترى أن رجلين لو كان بينهما دار، فجاء

(6/381)


رجل، وأخرج أحدهما من الدار، وقعد فيه مكانه.. كان غاصبا لحصته من الدار؟ هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.
فإن باع الغاصب والشريك الذي لم يغصب منه العبد من رجل صفقة واحدة.. فإن الشافعي قال: (يصح البيع في نصيب المالك، ويبطل فيما باعه الغاصب) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هي على قولين، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
ومنهم من قال: يصح البيع في نصيب المالك، قولا واحدا؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين، فلا يفسد أحدهما بفساد الآخر.
وإن وكل الشريك الذي لم يغصب منه الغاصب في بيع نصيبه، فباع جميع العبد صفقة واحدة، فإن باع وأطلق، ولم يذكر الشريك الموكل: لم يصح البيع في نصيب المغصوب منه، وهل يصح البيع في نصيب الموكل؟ فيه قولان. وإن ذكر الغاصب في البيع: أنه وكيل في بيع نصفه.. لم يصح بيع نصيب المغصوب منه، وهل يصح البيع في نصيب الموكل؟ على الطريقين في المسألة قبلها؛ لأنه بمنزلة العقدين.
وإن غصب الشريك نصيب شريكه، فباع العبد صفقة واحدة.. بطل البيع في نصيب المغصوب منه، وهل يبطل في نصيبه؟ فيه قولان.

[مسألة: يمين المدعي مع نكول المدعى عليه بمنزلة إقرار المدعى عليه]
] : وإن كان عبد بين اثنين نصفين، فأذن أحدهما لصاحبه ببيع نصيبه منه، وقبض ثمنه، أو قلنا: إنه يملك القبض بمقتضى الوكالة في البيع، فباع العبد من رجل بألف، ثم أقر الشريك الذي لم يبع.. أن البائع قبض الألف من المشتري، وادعى ذلك المشتري، وأنكر البائع.. فإن المشتري يبرأ من نصب الشريك الذي لم يبع؛ لأنه اعترف أنه سلم ما يستحقه عليه من الثمن إلى شريكه بإذنه، ثم تبقى الخصومة بين الشريكين، وبين البائع والمشتري.
فإن تحاكم البائع والمشتري، فإن أقام المشتري بينة شاهدين، أو شاهدا

(6/382)


وامرأتين: بأنه قد سلم إليه الألف.. حكم على البائع أنه قد قبض الألف، وبرئ المشتري منها، ولزم البائع بذلك تسليم خمسمائة إلى الذي لم يبع، وإن لم يكن مع المشتري من يشهد له غير الشريك الذي لم يبع.. فإن شهادته في نصيبه لا تقبل على البائع، وهل تقبل شهادته في نصيب البائع؟ فيه قولان.
فإن قلنا: إنها تقبل حلف معه المشتري، وبرئ من حصة البائع.
وإن قلنا: لا تقبل، أو كان فاسقا.. فالقول قول البائع مع يمينه: أنه ما قبض الألف ولا شيئا منها؛ لأن الأصل عدم القبض، فإذا حلف.. أخذ منه خمسمائة، ولا يشاركه الذي لم يبع فيها؛ لأنه لما أقر أن البائع قد قبض الألف.. اعترف ببراءة ذمة المشتري من الثمن، وأن ما يأخذه الآن ظلم، فلا يشاركه فيه، وإن نكل البائع عن اليمين.. حلف المشتري أنه قد سلم إليه الألف، وبرئ من الألف، ولا يستحق الشريك الذي لم يبع على البائع بيمين المشتري شيئا، سواء قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه بمنزلة إقرار المدعى عليه، أو بمنزلة إقامة البينة عليه؛ لأنا إنما نجعل ذلك في حق المتحالفين، لا في حق غيرهما.
وهكذا: لو أقام المشتري شاهدا واحدا، وحلف معه.. فإنه يبرأ من الألف، ولا يرجع الذي لم يبع على البائع بشيء إلا إن حلف مع الشاهد، بخلاف ما لو أقام المشتري بينة.. فإنه يحكم بها للمشتري، وللذي لم يبع.
وإن بدأ الشريكان، فتحاكما، فإن كان للشريك الذي لم يبع بينة: أن البائع قبض الألف، فأقامها.. حكم بها على البائع للمشتري، وللذي لم يبع، وإن لم تكن له بينة غير المشتري.. لم تقبل شهادة المشتري، قولا واحدا؛ لأنه يشهد على فعل نفسه، فيحلف البائع: أنه لم يقبض الألف ولا شيئا منها، ويسقط حق الذي لم يبع من كل جهة.
وإن نكل البائع عن اليمين، فرد اليمين على الذي لم يبع، فحلف.. استحق الرجوع على البائع بخمسمائة، ولا يثبت به حق المشتري على البائع، سواء قلنا: إن يمين الذي لم يبع بمنزلة إقرار البائع، أو بمنزلة إقامة البينة عليه؛ لأن ذلك إنما يحكم به في حق المتحالفين، لا في حق غيرهما، ولأن اليمين حجة في حق الحالف

(6/383)


لا تدخلها النيابة، فلم يثبت بيمينه حق غيره، بخلاف البينة. هكذا ذكر عامة أصحابنا.
وذكر أبو علي السنجي وجها واحدا لبعض أصحابنا: أنه يثبت باليمين والنكول جميع الثمن على البائع في هذه، وفي التي قبلها، وهو إذا حلف المشتري مع نكول البائع، كما قلنا في البينة. وليس بشيء.
وإن ادعى البائع: أن الذي لم يبع قبض الألف من المشتري، وادعى المشتري ذلك، وأنكر ذلك الذي لم يبع.. فلا يخلو من أربعة أقسام:
إما أن يكون كل واحد منهما مأذونا له في القبض، أو كان الذي لم يبع مأذونا له في القبض وحده، أو كان كل واحد منهما غير مأذون له في القبض، أو كان البائع مأذونا له في القبض وحده.
فإن كان كل واحد منهما قد أذن لصاحبه بالقبض، أو كان البائع قد أذن للذي لم يبع بقبض نصيبه وحده.. فإن المشتري يبرأ من نصيب البائع من الثمن؛ لأنه أقر أنه دفع حقه إلى وكيله، فيكون الفقه في هذه المسألة كالفقه في التي قبله، إلا أن البائع هاهنا يكون كالذي لم يبع في التي قبلها، والذي لم يبع هاهنا كالبائع في التي قبلها على ما ذكرنا حرفا بحرف.
وإن كان كل واحد منهما غير مأذون له في القبض.. فإن بإقرار البائع: أن الذي لم يبع قبض الألف، لا تبرأ ذمة المشتري من شيء من الثمن؛ لأن البائع أقر بتسليم حصته من الألف إلى غير وكليه، والذي لم يبع أنكر القبض، فيأخذ البائع حقه من الثمن من غير يمين، وتبقى الخصومة بين الذي لم يبع، وبين المشتري، فإن طالب الذي لم يبع المشتري بحقه من الثمن، فإن كان مع المشتري بينة.. حكم له بها على الذي لم يبع، وإن لم تكن معه بينة غير البائع، وهو عدل.. حلف معه، وحكم ببراءة ذمة المشتري من نصيب الذي لم يبع، قولا واحدا، والفرق بين هذه وبين المسائل المتقدمة: أن هناك ردت شهادته في البعض للتهمة، وهاهنا لم ترد شهادته في شيء أصلا، وإن لم يكن البائع عدلا، أو كان ممن لا تقبل شهادته للمشتري بأن يكون والده، أو ولده، أو كان ممن لا تقبل شهادته على الذي لم يبع، بأن كان عدوا له..

(6/384)


فالقول قول الذي لم يبع مع يمينه: أنه لم يقبض الألف ولا شيئا منه، فإن حلف.. أخذ حقه من الثمن، وإن نكل.. حلف المشتري، وبرئ من حق الذي لم يبع.
وأما إذا كان البائع قد أذن له الذي لم يبع بقبض حقه، أو قلنا: إن الإذن في البيع يقتضي قبض الثمن، ولم يأذن البائع للذي لم يقبض حقه من الثمن.. فإن بإقرار البائع لا تبرأ ذمة المشتري من نصيب البائع من الثمن؛ لأنه يقر: أنه دفع ذلك إلى غير وكيله، وأما نصيب الذي لم يبع.. فإن المزني نقل: (أن المشتري يبرأ من نصف الثمن بإقرار البائع: أن شريكه قد قبض؛ لأنه في ذلك أمين) .
فمن أصحابنا من خطأه في النقل، وقالوا: هذا مذهب أهل العراق، وإن إقرار الوكيل يقبل على الموكل، فيحتمل أن يكون الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر ذلك. قال: (وبه قال محمد) . فظن المزني أنه أراد بذلك نفسه، ولم يرد الشافعي به إلا محمد بن الحسن.
ومن أصحابنا من اعتذر للمزني، وقال: معنى قوله: (يبرأ المشتري من نصف الثمن) يريد به في حق البائع، فإن البائع كان له المطالبة بجميع الألف، فلما أقر أن شريكه قبض الألف.. سقطت مطالبته بالنصف.
إذا ثبت هذا: وأن المشتري لا يبرأ من شيء من الثمن..فإن البائع يأخذ منه خمسمائة من غير يمين، فإذا قبض ذلك.. فهل للذي لم يبع أن يشارك البائع بما قبضه؟ نقل المزني: (أن له أن يشاركه فيما قبضه) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لأن الذي لم يبع يقول: قد أخذ البائع خمسمائة من المشتري بحق مشاع بيني وبينه. وقول البائع: إنه أخذه لنفسه، لا يقبل على الذي لم يبع؛ لأن المال إذا كان مشاعا بين اثنين، فقبض أحدهما منه شيئا، ثم قال: قبضته لنفسي.. لم يقبل.
وقال أبو العباس، وأبو إسحاق، وعامة أصحابنا: لا يشاركه فيما قبض؛ لأن البائع لما أقر: أن الذي لم يبع قد قبض الثمن.. تضمن ذلك عزل نفسه من الوكالة؛ لأنه لم يبق ما يتوكل فيه.
فإن قلنا يقول المزني.. كان الذي لم يبع بالخيار: بين أن يطالب المشتري بخمس

(6/385)


مائة، وبين أن يأخذ من البائع مائتين وخمسين، ومن المشتري مائتين وخمسين، فإذا أخذ من البائع مائتين وخمسين.. لم يكن للبائع أن يرجع بها على المشتري؛ لأنه يقول: إن الذي لم يبع ظلمه بها، فلا يرجع بها على غير من ظلمه.
وإن قلنا بقول أبي العباس، ومن تابعه.. لم يكن للذي لم يبع أن يشارك البائع بشيء مما أخذ، بل له أن يطالب المشتري بحقه من الثمن، وهو خمسمائة، فإذا طالب الذي لم يبع المشتري، فإن كان مع المشتري بينة على الذي لم يبع: أنه قبض منه الألف.. برئ من نصيبه من الثمن، وكان له أن يرجع عليه بخمسمائة؛ لأنه قبض منه ألفا، ولا يستحق عليه إلا خمسمائة وإن لم يكن مع المشتري من يشهد له بقبض الذي لم يبع الألف غير البائع، وكان عدلا.. فهل تقبل شهادته؟
إن قلنا بقول أبي العباس: إن الذي لم يبع لا يشارك البائع فيما قبض.. قبلت شهادته عليه، فيحلف معه المشتري، وتبرأ ذمته من حقه من الثمن، ويرجع عليه بخمسمائة؛ لأنه لا يدفع بشهادته عن نفسه ضررا، ولا يجر بها إلى نفسه نفعا.
وإن قلنا بقول المزني، ومن تابعه: إن الذي لم يبع لم يشارك البائع فيما قبض.. لم تقبل شهادته؛ لأنه يدفع بها عن نفسه ضررا، وهو حق الرجوع عليه بنصف ما قبض؛ لأنه إذا ثبت: أنه قد استوفى الخمسمائة من المشتري.. لم يشارك البائع في شيء مما قبض.
فإن قلنا: لا تقبل شهادته عليه، أو كان ممن لا تقبل شهادته لمعنى غير هذا..فالقول قول الذي لم يبع مع يمينه: أنه لم يقبض الألف ولا شيئا منه، فإذا حلف.. استحق الرجوع بحصته من الثمن على ما مضى، وإن نكل عن اليمين، فحلف المشتري: أنه قد قبض منه الألف.. برئ من حصته من الثمن ورجع عليه بما زاد على حقه.

(6/386)


[فرع: قبول أحد الشريكين بالبيع والتلف]
] : وإن أقر أحد الشريكين: أنه باع، وقبض الثمن، وتلف في يده وهو مأذون له، فأنكر شريكه البيع، أو القبض.. فهل يقبل قول المأذون له؟ فيه قولان، نذكرهما في (الوكالة) إن شاء الله تعالى.

[مسألة: عزل الشريك نفسه عن التصرف لا يمنعه من التصرف بنصيبه مشاعا]
] : إذا اشتركا، وأذن كل واحد منهما لصاحبه بالتصرف، ثم عزل أحدهما صاحبه عن التصرف في نصيبه، أو عزل أحدهما نفسه عن التصرف في نصيب شريكه.. كانت الشركة باقية، إلا أن المعزول لا يتصرف إلا في نصيب نفسه مشاعا، ولا ينعزل الآخر عن التصرف في نصيب صاحبه ما لم يعزله صاحبه، أو يعزل نفسه؛ لأن تصرف كل واحد منهما في نصيب شريكه بالإذن، فإذا عزله المالك، أو عزل نفسه.. انعزل.
وإن عزل كل واحد منهما صاحبه، أو قال أحدهما: عزلت نفسي عن التصرف في نصيب شريكي، وعزلته عن التصرف في نصيبي.. انعزل كل واحد منهما عن التصرف في نصيب شريكه، ولا تبطل الشركة بذلك.
فإن قال أحدهما: فسخت الشركة.. انعزل كل واحد منهما عن التصرف في نصيب شريكه؛ لأن ذلك يقتضي العزل من الجانبين، ولا يبطل الاشتراك، فإن اتفقا على القسمة.. قسما، وإن اتفقا على البيع، أو التبقية.. كان لهما ذلك، وإن دعا أحدهما إلى البيع، والآخر إلى القسمة.. أجيب من دعا إلى القسمة، كالمال الموروث بين الورثة.
وإن جن أحدهما، أو أغمي عليه.. انفسخت الشركة، وانعزل كل واحد منهما عن التصرف في نصيب شريكه؛ لأن الإذن عقد جائز، فبطل بالجنون، والإغماء، كالوكالة.

(6/387)


[فرع: موت أحد الشريكين]
] : وإن مات أحدهما.. انفسخت الشركة، وانعزل الباقي منهما عن التصرف في نصيب الآخر؛ لأن الإذن عقد جائز، فبطل بالموت، كالوكالة.
إذا ثبت هذا: فإن لم يكن على الميت دين، ولا أوصى بشيء، فإن كان الوارث بالغا رشيدا.. فله أن يقيم على الشركة بأن يأذن للآخر في التصرف، ويأذن الشريك له، وله أن يقاسم؛ لأن الحق لهما، فكان لهما أن يفعلا ما شاءا.
قال أبو إسحاق: غير أن الأولى أن يقاسم؛ لأنه ربما كان هناك دين، أو وصية لم يعلم بها الوارث.
وللوارث إذا كان بالغا رشيدا أن يقاسم وإن كان الحظ في الشركة، وله أن يقيم على الشركة وإن كان الحظ في القسمة؛ لأن الحق له، وهو رشيد.
وإن كان الوارث مولى عليه.. كان النظر في مال المولى عليه إلى وليه فإن كان الحظ في الشركة.. لم يجز له أن يقاسم، وإن كان الحظ في القسمة.. لم يجز له أن يقيم على الشركة؛ لأن الناظر في مال المولى عليه لا ينفذ تصرفه فيه، إلا فيما له فيه حظ، وسواء كان المال نقدا أو عرضا.. فإن الشركة تجوز؛ لأن الشركة إنما لا تجوز ابتداء على العروض، وهذا استدامة للشركة، وليس بابتداء عقد.
وإن مات وعليه دين.. لم يجز للوارث أن يأذن في التصرف بمال الشركة؛ لأن الدين يتعلق بجميع المال، فهو كالمرهون، فإن قضى الدين من غير مال الشركة.. كان كما لو مات ولا دين عليه، وهكذا إن قضى الدين ببعض مال الشركة.. كان كما لو مات ولا دين، وللوارث أن يأذن له في التصرف فيما بقي.
وإن وصى بثلث ماله، أو بشيء من مال الشركة، فإن كانت الوصية لمعين.. كان الموصى له شريكا كالوارث، وله أن يفعل ما يفعل الوارث، وإن كانت الوصية لغير معين.. لم يجز للوصي الإذن للشريك في التصرف؛ لأنه قد وجب دفعه إليهم، بل

(6/388)


يعزل نصيبهم، ويفرقه عليهم، فإن كان قد أوصى بثلث ماله، فأعطى الوارث ثلث الموصى لهم من غير ذلك المال مثله.. لم يجز ذلك؛ لأن الموصى لهم قد استحقوا ثلث ذلك المال بعينه، فلا يجوز أن يعطوه من غيره.
والله أعلم، وبالله التوفيق

(6/389)