البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الوكالة]

(6/391)


كتاب الوكالة الأصل في جواز الوكالة: الكتاب، والسنة، والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} [الكهف: 19] الآية [الكهف: 19] .
وقَوْله تَعَالَى: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي} [يوسف: 93] [يوسف: 93] . وهذا وكالة.
وأما السنة: «فروى جابر، قال: أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسلمت عليه، وقلت له: إني أريد الخروج إلى خيبر، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا لقيت وكيلي بخيبر.. فخذ منه خمسة عشر وسقا من تمر، فإن ابتغى منك آية.. فضع يدك على ترقوته» يعني: إن طلب منك أمارة: فأخبر أن له وكيلا.

(6/393)


وروى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل عمرو بن أمية الضمري في قبول نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب» ، و: «وكل أبا رافع في قبول نكاح ميمونة» ، و: «وكل

(6/394)


عروة البارقي في شراء شاة» ، و: «وكل حكيم بن حزام في شراء شاة» .
وأجمعت الأمة على جواز التوكيل، ولأن بالناس حاجة إلى التوكيل؛ لأن من الناس من لا يتمكن من فعل ما يحتاج، إما لقلة معرفته بذلك، أو لكثرته، أو تنزهه عن ذلك، فجاز التوكيل فيه.

إذا ثبت هذا: فإن العبادات التي لا مدخل للمال فيها لا يجوز التوكيل فيها، فمنها: الطهارة لا تجوز الوكالة فيها بأن يتطهر أحد عن أحد؛ لأنها عبادة محضة

(6/395)


لا تتعلق بالمال، ولكن له أن يوكل من يقرب إليه الماء، ويصبه عليه، ويوكل من يطهر ثوبه وبدنه من النجاسة.
وأما الصلاة: فلا تصح النيابة فيها إلا في ركعتي الطواف على سبيل التبع للحج.
وأما الزكاة والكفارات كلها: فتجوز الوكالة في أدائها من مال الآمر والمأمور، وقد مضى ذلك في الزكاة.
وأما الصوم: فلا تدخله النيابة في حال الحياة، وفيما بعد الموت قولان، مضى ذكرهما في الصوم.
وأما الاعتكاف: فلا تدخله النيابة بحال.
وأما الحج: فتدخله النيابة، وقد مضى ذكره.
قال ابن الصباغ: ولا يصح التوكيل في النذور.
ويجوز التوكيل في البيع والشراء؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إلى حكيم بن حزام دينارا ليبتاع له شاة للأضحية، فابتاع به شاة، وأعطي بها ربحا، فباعها بدينارين، ثم اشترى شاة بدينار، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه شاة ودينار، فأمره أن يتصدق بالدينار، ويضحي بالشاة» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى عروة البارقي دينارا ليشتري به أضحية، فابتاع شاتين بدينار، ثم باع إحداهما بدينار، وأتاه بشاة ودينار، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بارك الله لك في صفقة يمينك» ، يعني: في الربح. فكان لو اشترى ترابا لربح فيه.
وتجوز الوكالة في عقد الرهن، وقبضه، وإقباضه، ولا تتصور الوكالة في التفليس، ويجوز للحاكم أن يوكل من يتولى الحجر، ويصح التوكيل في الصلح، والحوالة، والضمان، والشركة، والوكالة، والعارية، ولا يصح التوكيل في الغصب، فإن فعل.. كان الغاصب هو الوكيل؛ لأنه فعل محرم، فلا تدخله النيابة، وتصح الوكالة في طلب الشفعة، وأخذها، وفي القراض، والمساقاة، والإجارة، والهبة، والوقف.
قال ابن الصباغ: وأما الالتقاط، والاغتنام.. فلا يصح التوكيل فيه، فإذا أمره،

(6/396)


فالتقطه.. كان أحق به من الآمر.. وينبغي أن يكون كالاصطياد على قولين.
وأما الميراث: فلا نيابة فيه إلا في قسمته وقبضه.
وتصح الوكالة في الوصايا، والودائع، وقسم الفيء والغنيمة، ويصح التوكيل في النكاح من الزوج؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل عمرو بن أمية ليقبل له نكاح أم حبيبة» ، و «وكل أبا رافع ليقبل له نكاح ميمونة» .
ويصح التوكيل في الطلاق والخلع، ولا يصح في القسم؛ لأنه متعلق بيد الزوج، ولا يصح في الظهار، والإيلاء، والأيمان، وفي الرجعة وجهان:
أحدهما: لا يجوز، كما لا يجوز في الإيلاء، والظهار.
والثاني: يصح، وهو الصحيح، كما قلنا في عقد النكاح.
وهل يصح التوكيل في تملك المباحات، كالاصطياد، والاحتشاش، وإحياء الموات، واستقاء الماء؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز، كما يجوز في البيع والهبة.
والثاني: لا يجوز، كما لا يجوز في الاغتنام.
ويصح التوكيل في العتق، والتدبير، والكتابة، كما قلنا في البيع والهبة، ولا يصح التوكيل في العدد، والرضاع، والاستيلاد، لأن ذلك متعلق بالبدن.

[مسألة: التوكيل في الخصومة]
] : وتجوز الوكالة في إثبات الأموال، والخصومة فيها؛ لما روي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكل عقيل بن أبي طالب، وقال: ما قضي له.. فلي، وما قضي عليه.. فعلي) .

(6/397)


قال الشافعي: (ولا أحسبه كان يوكله إلا عند عمر بن الخطاب، ولعله عند أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ووكل علي عبد الله بن جعفر عند عثمان، فقبل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذلك) .
ولأن الإنسان قد يدعي حقا، أو يدعى عليه بحق، ولا يحسن الخصومة في ذلك، أو يكره أن يتولى ذلك بنفسه، فجاز أن يوكل فيه.
وتجوز الوكالة من غير رضا الخصم، سواء كان الموكل حاضرا، أو غائبا، صحيحا كان أو مريضا، رجلا كان أو امرأة.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح التوكيل في الخصومة من غير رضا الخصم إلا في ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يكون الموكل غائبا.
الثانية: أن يكون مريضا.
الثالثة: أن يكون امرأة مخدرة.
ولا يلزم الخصم إجابة الوكيل إلا في هذه الثلاثة المواضع) .
ودليلنا: ما روي: (أن طلحة بن عبيد الله نازع علي بن أبي طالب في قفيز أخذه في أرضه في زمان عثمان، فوكل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عبد الله بن جعفر، وقال علي: إن الخصومات يتقحمها الشيطان، وإني أكره أن أحضرها) ، وروي: أنه قال: (إن للخصومات قحما) ، يعني: مهالك، ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك. ولأنه

(6/398)


توكيل في حقه، فلم يكن من شرط لزومه رضا الموكل عليه، كما لو وكله في استيفاء حق له على غيره، ولأنه توكيل، فصح من غير رضا الخصم، كما لو كان الموكل غائبا، أو مريضا، أو امرأة غير برزة.

[فرع: الوكالة في إثبات الحدود]
ويجوز التوكيل في تثبيت القصاص، وحد القذف، وبه قال عامة العلماء.
وقال أبو يوسف: لا يصح.
دليلنا: أنه حق لأدمي، فجاز التوكيل في تثبيته، كالدين.
ولا يصح التوكيل في تثبيت حدود الله، كحد الزنا، والشرب، والسرقة؛ لأن الحق فيها لله، وقد أمر بسترها، ودرئها.
ويجوز التوكيل في استيفاء الأموال؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث العمال لقبض الصدقات والجزية» .
ويصح التوكيل لاستيفاء حدود الله؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أنيسا لاستيفاء حد

(6/399)


الزنا» ، و: (وكل عثمان عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بإقامة حد الشرب على الوليد بن عقبة) .
ويجوز للوكيل أن يستوفي القصاص لموكله، وحد القذف بحضور الموكل؛ لأن الإنسان قد يكون له قصاص، أو حد قذف، ولا يحسن استيفاءه، فجاز له التوكيل في استيفائه، وهل يجوز استيفاؤه من غير حضور الموكل؟
قال الشافعي في (الوكالة) : (لا يستوفي) . وقال في (الجنايات) : (لو وكله في استيفاء القصاص، فتنحى به الوكيل، ثم عفا عنه الموكل، وضرب الوكيل عنقه.. فهل يجب عليه الضمان؟ فيه قولان) . وهذا يدل على جواز التوكيل في الاستيفاء مع غيبة الموكل.
واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرق:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب الطبري ـ أنه يجوز، قولا واحدا؛ لأن كل ما جاز استيفاؤه بحضرة الموكل.. جاز بغيبته، كسائر الحقوق، وما قال في (الوكالة) .. محمول على الاستحباب.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يجوز، قولا واحدا. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه إذا غاب الموكل احتمل أن يكون عنده شبهة في سقوط القصاص، بأن يكون قد عفا، وما قال في (الجنايات) .. فمحمول على أنه يتنحى به عن مجلسه؛ لئلا يترشش عليه الدم، ولم يغب عن عينه.
و [الثالث] : منهم من قال: فيه قولان:

(6/400)


أحدهما: يجوز.
والثاني: لا يجوز. ووجههما ما ذكرناه.

[مسألة: التوكيل في الإبرام والحل للعقود]
مسألة: [التوكيل في الإبرام والحل] : ويصح التوكيل في فسخ العقود، كما يصح في عقدها، ويصح التوكيل في الإبراء من الحقوق والديون، كما يصح في إثباتها.
إذا ثبت هذا: فإنه لا يبرأ إلا من القدر الذي يأذن له فيه الموكل؛ لأنه إنما يستفاد ذلك من قبله، فلا يجوز إلا ما أذن له فيه.

[فرع: الوكالة في الإقرار]
] : وإن وكله بالإقرار.. فهل يصح التوكيل؟ فيه وجهان مشهوران:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه إخبار عن حق، فلم يصح التوكيل فيه، كالشهادة.
والثاني: يصح، كما لو قال: أخبره عني: أن له علي ألفا.
والوجه الثالث ـ حكاه أبو علي السنجي ـ: إن وكله بالإقرار بحق معين.. صح التوكيل، وإن وكله بالإقرار بحق مجهول.. لم يصح.
فإذا قلنا: لا يصح التوكيل فيه.. فهل يكون التوكيل إقرارا من الموكل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكون إقرارا منه؛ لأنه لم يوكله بذلك إلا وهو واجب عليه.
والثاني: لا يكون إقرارا منه، كما لا يكون التوكيل في الإبراء إبراء، ولا في البيع بيعا.
فإذا قلنا: يصح التوكيل فيه.. لم يلزم على الموكل شيء حتى يقر عنه الوكيل.
فإذا قلنا بهذا، أو قلنا: يكون التوكيل إقرارا من الموكل.. نظرت:
فإن وكله بأن يقر عنه بحق معلوم.. أقر عنه بذلك.

(6/401)


وإن وكله أن يقر عنه بمال، أو بشيء.. أقر عنه بذلك، ورجع إلى الموكل في بيان ذلك.
فأما إذا قال الموكل: أقر له عني، وسكت، فقال الوكيل: أقررت لك عن موكلي.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يكون كما لو قال: أقر له عني بشيء.. فيرجع إلى بيان الموكل فيه؛ لأن قوله: أقر له عني، لا يحتمل إلا ذلك.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه لا يلزم الموكل بذلك حق؛ لأنه لم يأمره أن يقر له بشيء معلوم، ولا مجهول، فلم يلزمه شيء، كما لو قال الرجل لغيره: أنا أقر لك، أو أنا مقر لك.. فإنه لا يلزمه بذلك مال، بل يحتمل: أقر له عني بالعلم، أو بالفضل، أو بالشجاعة، والأصل براءة ذمته من المال، فلم يلزمه بالشك. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا. وذكر الشيخ أبو إسحاق: إذا قلنا: يصح التوكيل بالإقرار.. لم يجز حتى يتبين جنس ما يقر به، وقدر ما يقر به. وهذا موافق للوجه الذي حكاه السنجي.

[مسألة: صحة التصرف تصحح الوكالة نيابة]
] : قال الشافعي: (والتوكيل من كل موكل، من رجل، أو امرأة) الفصل إلى آخره. وجملة ذلك: أن من صح تصرفه في شيء تدخله النيابة.. جاز أن يوكل فيه غيره، كالحُرّ الرشيد، والحرة الرشيدة، والحر الفاسق، والحرة الفاسقة، والمسلم، والكافر فيما يملكون من التصرف، وكذلك المكاتب يجوز له أن يوكل غيره في البيع والشراء.
وأما من لا يملك التصرف في شيء بنفسه: فلا يجوز له أن يوكل غيره فيه، فلا يصح للصبي، والمجنون، والمحجور عليه لسفه أن يوكل غيره في بيع ماله؛ لأنه إذا لم يملك ذلك بنفسه.. فلأن لا يملك غيره ذلك من جهته أولى، إلا أن المحجور عليه يملك أن يوكل غيره في طلاق امرأته، وفي خلعها.

(6/402)


وأما المحجور عليه للفلس: فلا يصح أن يوكل غيره في بيع أعيان ماله، ويجوز أن يوكل من يشتري له بثمن في ذمته؛ لأنه يملك ذلك بنفسه، فملك التوكيل فيه.
وأما الرجل الفاسق: فلا يصح أن يوكل من يزوج ابنته، أو أخته إذا قلنا: ليس بولي لها؛ لأنه لا يملك ذلك بنفسه، وكذلك إذا وكلت المرأة غيرها أن يزوجها.. لم يصح ذلك؛ لأنها لا تملك أن تعقد النكاح على نفسها، فلا يصح توكيلها فيه.
وأما العبد المأذون له في التجارة والوكيل لغيره: فلا يجوز لهما التوكيل فيما أذن لهما فيه إلا بالإذن؛ لأنهما لا يملكان تصرفهما إلا بإذن، فكذلك توكيلهما لغيرهما.
وأما الأب والجد: فيجوز لهما أن يوكلا من يزوج ابنتهما البكر بغير إذنها؛ لأنهما يملكان ذلك بأنفسهما، وهل لغيرهما من الأولياء، كالأخ، والعم، إذا أذن لهما في النكاح أن يوكلا فيه غيرهما من غير إذن المرأة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه ولي في النكاح، فجاز له التوكيل فيه، كالأب، والجد.
والثاني: لا يجوز؛ لأنهما لا يملكان العقد إلا بإذنها، فكذلك الوكالة.

[فرع: من فقد التصرف لا يصح أن يتوكل]
] : ومن لا يملك التصرف في شيء في حق نفسه لنقص فيه.. لا يصح أن يتوكل فيه لغيره، كالمرأة لا تتوكل لغيرها في إيجاب النكاح، ولا في قبوله، وكالصبي، والمجنون في جميع العقود؛ لأنه إذا لم يملك ذلك في حق نفسه.. فلأن لا يملك ذلك في حق غيره أولى.
وأما المحجور عليه لسفه: فلا يصح أن يوكل في البيع والشراء، ويصح أن يوكل في الطلاق، والخلع، والقصاص اعتبارا بتصرفه في ذلك في حق نفسه.
وأما المحجور عليه للفلس: فالذي يقتضي المذهب: أنه يصح لغيره أن يوكله في التصرف في أعيان المال، وفي الذمة؛ لأن المنع من تصرفه في أعيان ماله لأجل حقوق غرمائه، وهذا لا يوجد في تصرفه في أعيان مال غيره.
وأما من يملك التصرف في شيء تدخله النيابة في حق نفسه: فيجوز أن يتوكل فيه

(6/403)


لغيره، إلا في أربع مسائل، اختلف أصحابنا فيها:
منها: الفاسق يجوز أن يقبل النكاح لنفسه، وهل يصح أن يتوكل لغيره في قبول النكاح؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - ولم يذكر في " المهذب " غيره -: أنه يصح، كما يصح ذلك في حق نفسه.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي غيره - أنه لا يصح، ولم يذكرا له وجها.
الثانية: هل يصح للفاسق أن يتوكل في إيجاب النكاح إذا قلنا: إنه ليس بولي؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه موجب للنكاح، فلم يصح أن يكون فاسقا، كالولي.
والثاني: يصح؛ لأنه ليس بولي، وإنما الولي الموكل، وهو عدل.
الثالثة: يجوز للعبد أن يقبل النكاح لنفسه بغير إذن سيده، ولا يجوز أن يقبل النكاح لغيره بغير إذن سيده، وجها واحدا.
وهل يصح أن يتوكل لغيره في قبول النكاح بإذن سيده؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح، كما يصح ذلك في حق نفسه.
والثاني: لا يصح؛ لأنه إنما جاز قبوله لنفسه لحاجته إلى ذلك، ولا حاجة به إلى قبول النكاح لغيره.
والذي يقتضي المذهب: أنه لا يصح أن يتوكل في إيجاب النكاح وإن كان بإذن السيد، وجها واحدا، لأنه ليس من أهل إيجاب النكاح بحال من الأحوال، ولو قيل: إنه كتوكيل الفاسق في الإيجاب.. كان محتملا.
الرابعة: يجوز للرجل أن يوكل زوجته في طلاقها، وهل يصح توكيلها في طلاق غيرها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح، كما يصح في طلاق نفسها.

(6/404)


والثاني: لا يصح؛ لأنه إنما صح توكيلها في طلاق نفسها للحاجة، ولا حاجة بنا إلى توكيلها في طلاق غيرها.

[فرع: وكالة ذمي في شراء خمر لمسلم]
] : وإن وكل المسلم ذميا في شراء خمر.. لم يصح، وإذا اشترى له الذمي.. لم يصح الشراء للمسلم.
وقال أبو حنيفة: (يصح ذلك للمسلم) .
دليلنا: أن كل ما لا يجوز أن يعقد عليه المسلم لنفسه.. لا يجوز أن يوكل فيه الذمي، كالعقد على المجوسية.
وإن وكل المسلم ذميا ليقبل له النكاح على ذمية.. صح؛ لأن الذمي يملك قبول نكاحها لنفسه، فصح توكيله فيها.
وإن وكله المسلم ليقبل له نكاح مسلمة.. لم يصح؛ لأنه لا يملك قبول نكاحها لنفسه، فلم يصح أن يتوكل فيه لغيره.

[مسألة: شرط الوكالة إيجاب وقبول]
ولا تصح الوكالة إلا بالإيجاب والقبول؛ لأنه عقد يتعلق به حق كل واحد منهما. فافتقر إلى الإيجاب والقبول، كالبيع، والهبة، والإجارة، وفيه احتراز من الطلاق، والعتاق، ويصح القبول على الفور بلا خلاف، وهل يصح القبول على التراخي؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو حامد: لا يصح؛ لأنه عقد في حال الحياة يفتقر إلى القبول، فاشترط أن يكون القبول فيه على الفور، كالبيع، وفيه احتراز من الوصية، والعتق.
والثاني ـ وهو المشهورـ: أنه يصح.
قال الشيخ أبو حامد: ووجهه: أن الوكالة تصح بالمعلوم، والمجهول،

(6/405)


والمعدوم، والموجود، وذلك: أنه وكله في إثبات حق بعينه، أو خصومة شخص بعينه.. جاز، ولو وكله باستيفاء جميع حقوقه، وإثباتها، وخصوماته، وما وجب له، وما يستجد فيما بعد.. جاز، وكل ما يصح في المعلوم، والمجهول..
كان القبول فيه على التراخي، كالوصية.
قال الصيمري: فإذا كتب إلى رجل: أنه وكله في شيء، فوصل إليه الكتاب فقرأه، وقبله.. صح، وإن فارق المجلس ولم يقبل.. لم يجز أن يقبل فيما بعد.

[فرع: صفة القبول في الوكالة]
فرع: [صفة القبول] : ويصح القبول، وهو أن يقول: قبلت الوكالة. ويصح القبول بالفعل، وهو أن يتصرف فيما وكل فيه؛ لأنه إذن في التصرف، فصح القبول فيه بالقول، والفعل، كما لو أذن في أكل طعامه.

[مسألة: الوكالة في التصرف المعلوم]
] : ولا تصح الوكالة إلا في تصرف معلوم، فإن قال: وكلتك في كل قليل وكثير.. لم يصح، وبه قال عامة العلماء.
وقال ابن أبي ليلى: يصح، ويملك بذلك كل شيء؛ لعموم لفظ الموكل.. وهذا ليس بصحيح؛ لأن في ذلك غررا عظيما وضررا كثيرا؛ لأنه يطلق نساءه، ويتزوج له أربع نسوة بالمهور الكثيرة، ويعتق عبيده، ويتصدق بأمواله، أو يهبها لغيره، ويقر عليه بما ليس عنده، وفي ذلك غرر، وربما أقر عليه بجناية العمد، وفي ذلك غرر، وقد: «نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الغرر» .
وإن قال: بع جميع أملاكي، أو أعتق جميع عبيدي، أو اقبض جميع ديوني، أو جميع ودائعي.. صح؛ لأن ذلك غير مجهول. هذا هو المشهور.
وذكر أبو المحاسن: إذا وكله في قبض ديونه.. لم يصح حتى يبين به؛ لأنه مبهم، فلم يصح التوكيل فيه، كما لو قال: وكلتك في كل قليل وكثير.

(6/406)


قال الشيخ أبو حامد: ولو قال: وكلتك ببياعاتي.. كانت الوكالة فاسدة؛ لأن هذا مجهول؛ لأنه قد يبتاع له القليل والكثير.
قال الشيخ أبو إسحاق: وإن قال: بع ما شئت من أموالي، أو اقبض ما شئت من ديوني.. جاز؛ لأنه إذا عرف ماله ودينه.. عرف أقصى ما يبيع ويقبض، فيقل الغرر.
وذكر ابن الصباغ: إذا قال: بع ما تراه من مالي.. لم يجز، ولو قال: بع ما تراه من عبيدي.. جاز. ولم يذكر له وجها.
قال أبو المحاسن: ولو قال: أنت وكيلي لتقبض ديني، ولا دين له، ثم ثبت له دين.. فهل له قبضه؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه وكله فيما ليس له، فلم يصح أن يكون وكيلا فيما يكون بعده، كما لو وكله بالصلح، ولا شيء له ولا عليه، ثم وجب.
والثاني ـ وهو قول أبي حنيفة ـ: يصح؛ لأن الوكالة تجوز في المعدوم.

[فرع: لا تصح الوكالة بمجهول]
] : وإن قال: وكلتك على أن تشتري لي حيوانا بمائة.. لم يصح؛ لأن ذلك وكالة بمجهول؛ لأن الحيوان يقع على أشياء كثيرة.
وهكذا: إن قال: وكلتك أن تشتري لي ثوبا.. لم يصح، وإن قال: وكلتك أن تشتري لي عبدا بمائة.. لم يصح؛ لأن العبيد أجناس، ولم يبين واحد منها.
وإن قال: وكلتك أن تشتري لي عبدا تركيا بمائة.. جاز؛ لأنه قد ذكر النوع، والثمن، وإن قال: وكلتك أن تشتري لي عبدا تركيا، أو حبشيا، أو ثوبا هرويا، أو مرويا، ولم يقدر الثمن.. ففيه وجهان:

(6/407)


أحدهما: لا يصح حتى يصف العبد بصفاته المقصودة، ويذكر طول الثوب وعرضه، وصفاته، أو رقته ليصير معلوما.
والثاني ـ وهو قول أبي العباس ـ: يصح؛ لأن مع ذكر النوع يقل الغرر، ويحمل ذلك على أغلاها ثمنا.

[فرع: توكيل شخص غير معين]
وإن قال لرجلين: أيكما باع عبدي، فجائز.. لم يجز لأحدهما أن يبعيه.
وقال أبو حنيفة: (إذا باعه أحدهما.. صح) .
دليلنا: أن التوكيل يبطل بإبهام الوكيل، فلم يصح، كما لو قال: وكلت أحد أولاد فلان.
وإن قال لرجل: بع هذا الرجل، أو هذا العبد.. لم يجز له أن يبيع أحدهما، خلافا لأبي حنيفة.
دليلنا: أنه شك في المبيع، فلم يصح، كما لو قال: بعتك هذا، أو هذا.
وإن قال: وكلتك أن تشترى لي أمة تركية بمائة أطؤها، فاشترى له من يحرم عليه وطؤها، كذوات محارمه، أو أخت امرأته.. لم يلزم الموكل؛ لأنه اشترى له غير مأذون له فيه، وإن اشترى له أخت أمة، ليس له وطؤها.. قال أبو المحاسن: فلا يلزم الموكل. وقال أبو حنيفة: (يلزمه) .
دليلنا: أنه لا يحل له وطؤها، فلم تلزمه، كأخت امرأته.

(6/408)


[فرع: وكله أن يتزوج له]
] : وإن وكله أن يتزوج له امرأة عينها.. صح، وإن وكله أن يتزوج له من شاء.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو حامد: يجوز لعموم إذنه.
و [الثاني] : قال أبو العباس: لا يجوز؛ لأن الأغراض تختلف، فلا يجوز حتى توصف.
قال الصيمري فلو وكله أن يتزوج له امرأة من العرب، فتزوج له امرأة من قريش.. صح، وإن وكله أن يتزوج له من قريش، فتزوج له من العرب.. لم يصح، وإن وكله أن يتزوج له من الأنصار، فتزوج له من الأوس، أو الخزرج،.. جاز، وإن قال: امرأة من الأوس، فتزوجها من الخزرج.. لم يصح.
وإن وكله في خصومة كل من يخاصمه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح، وهو قول الشيخ أبي حامد، وقد مضى ذكره؛ لأن الخصومة معلومة.
والثاني: لا يصح؛ لأنها تقل وتكثر، فيكثر الغرر.

[مسألة: تعليق الوكالة]
] : لا يجوز تعليق الوكالة على شرط مستقبل، مثل: أن يقول: إذا جاء رأس الشهر.. فقد وكلتك ببيع عبدي.
وقال أبو حنيفة: (يصح) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهز جيش مؤتة، وقال: "الأمير عليكم زيد، فإن قتل.. فجعفر، فإن قتل.. فعبد الله بن رواحة، فإن مات.. ففلان» . فعلق تصرفهم على شرط، فدل على

(6/409)


جوازه، ولأنه إذن في التصرف، فجاز تعليقه على شرط مستقبل، كما لو قال: إذا جاء رأس الشهر.. فقد أبحت لك طعامي، أو أمرتك أن تأكل من طعامي.
ودليلنا: أنه عقد يملك به التصرف في حال الحياة لم يبن على التغليب، والسراية، فلم يجز تعليقه على شرط، كالبيع ويخالف التأمير، والإباحة، فإنهما لا تؤثر فيهما الجهالة، بخلاف الوكالة، ولأن الملك من الله تعالى ومن الرسول يجوز أن يتعلق على شرط، ولا يدل على أن الأمر فيما بينا كذلك، ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة: 231] [البقرة: 231] ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضا ميتة.. فهي له» ، ولو

(6/410)


قال رجل منا: إذا جاء رأس الشهر، فقد وهبتك هذا.. لم يصح؟
إذا ثبت هذا: فإن قولنا: يجوز تعليق الوكالة بشرط، فإن وكله بتصرف يجعل على شرط، فوجد الشرط، وتصرف الوكيل.. صح تصرفه، واستحق المسمى.
وإن قلنا بالمذهب، وإن الوكالة لا يجوز تعليقها بشرط، فوجد الشرط، وتصرف الوكيل.. قال الشيخ أبو حامد: ليس له أن يتصرف، فإن تصرف.. صح تصرفه ولا يستحق المسمى، وإنما يستحق أجرة المثل؛ لأن التصرف مأذون فيه، وإنما الفساد وقع في الوكالة.
قال ابن الصباغ: وهذا يبعد؛ لأنه لو لم يستبح التصرف.. لم يصح منه. فلما صح منه التصرف، ثبت أنه استباحه بالإذن.
قال الشيخ أبو إسحاق: فإن عقد الوكالة في الحال، وعلق التصرف على شرط، بأن قال: وكلتك أن تبيع عبدي بعد شهر.. صح؛ لأنه لم يعلق الوكالة على شرط. وإنما علق التصرف على شرط.، فلم يمنع صحة التوكيل.

[مسألة: الوكيل لا يوكل إلا بإذن]
] : قال الشافعي: (وليس للوكيل أن يوكل إلا أن يجعل ذلك إليه الموكل) .
وجملة ذلك: أنه إذا وكله في تصرف، فإن أذن له أن يوكل.. جاز له أن يوكل؛ لأنه قد أذن له في ذلك، ثم ينظر فيه:

(6/411)


فإن قال الموكل: توكل عني.. فهما وكيلان للموكل لا تبطل وكالة أحدهما ببطلان وكالة الآخر.
وإن قال: توكل عني فلانا.. وكله، أمينا كان أو غير أمين؛ لأنه قد قطع اجتهاده بالتعيين، وإن لم يعين له من يوكله.. لم يوكل عنه إلا أمينا؛ لأنه لا نظر للموكل في توكيل غير الأمين.
وإن قال: توكل عن نفسك.. فإن الثاني وكيل الوكيل، فإن عزل الوكيل الأول، أو مات الأول.. انعزل الثاني؛ لأنه فرع له، فإذا بطلت وكالة الأصل.. بطلت وكالة الفرع، فإن عين له من يوكله.. وكله، خائنا كان أو أمينا، وإن أطلق.. لم يوكل إلا أمينا، فإن صار الثاني بعد ذلك خائنا.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: للوكيل أن يعزله؛ لأنه لا نظر للموكل في استعمال من ليس بأمين.
والثاني: ليس له أن يعزله؛ لأنه إنما جعل إليه التوكيل، ولم يجعل إليه العزل.
وإن وكله، ولم يأذن له في التوكيل.. نظرت:
فإن كان ما وكل فيه مما يتولاه الوكيل بنفسه في العادة، ويقدر عليه.. لم يصح توكيله فيه؛ لأن الموكل إنما رضي باجتهاده ونظره، دون اجتهاد غيره ونظره.
فإن قيل: أليس الوصي يجوز له أن يوكل وإن لم يأذن له الموصي في التوكيل؟
قلنا: إنما جاز ذلك للوصي؛ لأنه يتصرف بولاية، بدليل: أنه يتصرف فيما لم ينص له على التصرف فيه، والوكيل لا يتصرف إلا فيما نص له عليه.
وإن وكله في تصرف يتولاه بنفسه، ويقدر عليه، وقال له الموكل: اصنع فيه ما شئت.. فهل له أن يوكل غيره؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي حنيفة ـ: أنه يصح توكيله فيه؛ لعموم قوله: أصنع فيه ما شئت.

(6/412)


والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يصح توكيله فيه) ؛ لأن قوله: اصنع فيه ما شئت، يحتمل على ما شئت من التوكيل، ويحتمل ما شئت من التصرف في المال الذي يقتضيه إذن الموكل، فلا يجوز له التوكيل بأمر محتمل، بدليل: أنه لا يملك أن يهبه لغيره.
وإن كان ما وكل فيه مما لا يتولاه بنفسه، كعمل لا يحسنه، أو عمل يترفع عنه..فله أن يوكل فيه غيره؛ لأن توكيله فيما لا يحسنه أو فيما يترفع عنه إذن له في التوكيل فيه من طريق العرف. هذه طريقة أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: إذا وكله فيما لا يتولاه بنفسه.. فهل له أن يوكل غيره؟ فيه وجهان.
وإن وكله في تصرف لا يقدر على جميعه بنفسه.. فله أن يوكل فيما لا يقدر عليه منه؛ لأن ذلك مأذون له في التوكيل فيه من طريق العرف، وهل له أن يوكل في جميعه، أو في شيء مما يقدر عليه بنفسه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن الوكالة اقتضت جواز التوكيل فيه، فجازت في جميعه. كما لو أذن له في التوكيل بلفظه.
والثاني: لا يجوز؛ لأن التوكيل إنما جاز له فيما تدعوه الحاجة إليه، ولا حاجة إلى التوكيل فيما يقدر عليه.

[فرع: توكيل اثنين والإذن لهما]
] : وإن وكل وكيلين في تصرف، كالبيع، والإجارة، وما أشبههما.. نظرت:
فإن صرح بأن لكل واحد منهما التصرف على الانفراد.. كان لهما التصرف بالاجتماع والانفراد؛ لأنه قد أذن لهما بذلك.
وإن قال: وكلتكما على الاجتماع، أو وكلتكما في كذا، أو أطلق.. لم يكن لأحدهما أن ينفرد بالتصرف؛ لأنه لم يرض بنظر واحد منهما، فإن غاب، أحدهما أو مات.. لم يكن للحاكم أن يقيم آخر مقام الآخر؛ لأن الموكل لم يرض بنظر غيره،

(6/413)


وإن حضر أحد الوكيلين عند الحاكم، والآخر غائب، وادعى الحاضر الوكالة له وللغائب، وأقام على ذلك بينة.. قال ابن الصباغ: سمعها الحاكم، وحكم بثبوت الوكالة لهما، ولم يكن للحاضر أن يتصرف حتى يحضر الغائب، فإذا حضر الغائب.. لم يحتج إلى إعادة البينة؛ لأن الحاكم قد سمعها، فإن قيل: هذا حكم للغائب؟ قلنا: إنما جاز ذلك تبعا لحق الحاضر، كما يجوز أن يحكم في الوقف لأهل البطن الثاني تبعا لأهل البطن الأول.
وإن وكلهما في حفظ ماله، فإن كان مما لا ينقسم.. جعلاه في حرز لهما، وإن كان مما ينقسم.. فهل لهما أن يقسماه؟ فيه وجهان، وقد مضى ذلك في الرهن.
وإن وكل اثنين في طلاق امرأته على الاجتماع.. لم يكن لأحدهما أن ينفرد به.
وقال أبو حنيفة: (لأحدهما أن ينفرد به) .
دليلنا: أنه تصرف فوضه إلى اثنين، فلم يكن لأحدهما أن ينفرد به، كالبيع.

[مسألة: وكله بأن يخاصم ويثبت حقه]
] : إذا قال: وكلتك أن تخاصم عني وتثبت حقوقي، ولا تقر عني، ولا تصالح ولا تبرئ.. فله أن يخاصم، ويثبت الحقوق، ولا يملك الإقرار عنه، ولا الصلح، ولا الإبراء بلا خلاف؛ لأنه قد نهاه عن ذلك.
وإن قال: وكلتك في الخصومة، وتثبيت الحقوق..فلا يملك الإبراء، ولا الصلح، ولا الإقرار عن موكله عندنا، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، وزفر.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (إذا أقر الوكيل أن الموكل قد قبض الحق الذي وكله فيه في مجلس الحكم.. قبل إقراره عليه، وإن أقر عليه في غير مجلس الحكم.. لم يقبل إقراره عليه) . وقال أبو يوسف: يقبل إقراره عليه في مجلس الحكم وفي غيره.
دليلنا: أن التوكيل في الخصومة يقتضي إثبات الحق، والإقرار بقبضه يقتضي إسقاطه، وهو ضد الإثبات، ومن وكل في شيء.. لم يصر وكيلا في ضده، ألا ترى

(6/414)


أنه لو وكله في النكاح.. لم يملك الطلاق؟ ولأنه إقرار على موكله، فلم يقبل، كما لو أقر عليه في غير مجلس الحكم، أو نقول: معنى يقطع الخصومة، فلم يملكه الوكيل بمطلق الوكالة بالخصومة، كالإقرار، والصلح.

[فرع: الموكل بإثبات الحق لا ينقبض]
وإن وكل رجلا في تثبيت حقه على غيره، فثبته.. لم يكن له قبض الحق؛ لأن الوكالة بالتثبيت لا تقتضي القبض، وإن وكله في قبض حق له من غيره، فجحده من عليه الحق.. فهل للوكيل أن يثبته، ويقيم عليه البينة، ويستحلف المدعى عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن تثبيت الحق طريق إلى القبض ومن أسبابه، فاستفاده بالإذن بالقبض.
والثاني: ليس له ذلك، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وروي أيضا عن أبي حنيفة؛ لأن الإذن بالقبض ليس بإذن الخصومة؛ لأنه قد يكون أمينا في القبض، ولا يحسن الخصومة.
وإن وكله في قبض عين له من رجل، فجحدها من هي في يده.. قال ابن الصباغ: فالذي يقتضي المذهب: أن الوكيل هل يملك الخصومة فيها؟ على الوجهين.
وقال أبو حنيفة: (لا يملك؛ لأنه وكيل في النقل لا في الإثبات، كنقل الزوجة) .
ووجه ما قلناه: أن القبض في العين كالقبض في الدين، فإذا جاز له الخصومة في الدين بالوكالة بالقبض، فكذلك بالعين، ويخالف نقل الزوجة، فإن ذلك ليس بقبض، وإن وكله ببيع داره، أو بقسمة نصيب منه، أو طلب الشفعة، فجحد من هو في يده.. فقد قال بعض أصحابنا: إنه لا يملك تثبيتها. قال ابن الصباغ: وعندي أنها على الوجهين في الدين.

(6/415)


[فرع: الموكل في البيع يسلم المباع]
] : وإن وكل رجلا في بيع سلعة.. كان للوكيل تسليمها؛ لأن التوكيل في البيع يقتضي التسليم، ولا يملك الوكيل الإبراء من الثمن؛ لأن ذلك لا تقتضيه الوكالة، فإن أبرأ الوكيل المشتري من الثمن.. لم يصح إبراؤه.
وقال أبو حنيفة: (يصح إبراؤه، ويضمنه للموكل) .
دليلنا: أن الوكالة بالبيع توكيل في إثبات الثمن، والبراءة إسقاط له، فلم تصح، كما لو وكله في قبض دينه.. فإنه لا يصح إبراؤه منه، وهل يملك الوكيل في البيع قبض الثمن؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له قبض الثمن؛ لأنه قد يرضاه للبيع، ولا يرضاه للقبض.
والثاني: له ذلك؛ لأن موجب البيع قبض الثمن وتسليم المبيع.
فإذا قلنا بهذا: لم يكن له أن يسلم المبيع إلا بعد أن يقبض الثمن فإن سلمه، ولم يقبض الثمن.. ضمنه إذا كان الثمن حالا، فإن قلنا: ليس له قبض الثمن.. كان له تسليم المبيع من غير أن يقبض الثمن، ولا يضمن الثمن بإعسار المشتري.
قال ابن الصباغ: وكذلك إذا وكله بالشراء.. فإنه يسلم الثمن، وهل يتسلم المبيع؟ على الوجهين.
قال: إلا أن أصح الوجهين: أنه إذا اقتضت الوكالة التسليم.. اقتضت التسلم.
وإن وكله بالبيع وقبض الثمن، أو قلنا: له أن يقبض الثمن بمقتضى الوكالة في البيع.. فللوكيل والموكل أن يطالبا المشتري بالثمن، وأيهما قبض الثمن.. صح قبضه وبرئ منه المشتري.
وقال أبو حنيفة: (ليس للموكل المطالبة بالثمن) .
دليلنا: أن الموكل يصح قبضه للثمن، فجازت مطالبته به كسائر ديونه التي لم يوكل غيره بها.

(6/416)


[فرع: وكله في شراء فيمتلك الخصومة]
] : وإن وكله في شراء عبد بثمن، فاشتراه، وسلم الثمن، ثم استحق العبد.. فهل يملك الوكيل الخصومة في درك الثمن؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يملك ذلك؛ لأنه قد يرضاه للشراء، ولا يرضاه للخصومة.
والثاني: له ذلك لأنه؛ من أحكام العقد.

[مسألة: وكله في شيء معين]
] : وإن وكله في بيع عبده يوم الجمعة.. لم يملك الوكيل بيعه يوم الخميس، ولا يوم السبت؛ لأن إذنه في البيع يوم الجمعة لا يتناول ما قبله ولا ما بعده، وهكذا إذا وكله في إعتاق عبده بيوم مخصوص.. لم يجز له إعتاقه قبل ذلك اليوم ولا بعده.
وقال أبو حنيفة: (يصح إعتاقه بعده) .
ودليلنا: أن التوكيل مؤقت في إعتاقه، فلم يجز تغييره، كما لو أعتقه قبل الوقت المعين له، وحكى ابن الصباغ: أن الداركي قال: إذا وكله في طلاق امرأته يوم الجمعة، فطلقها يوم الخميس.. لم يقع طلاقه، ولو طلقها يوم السبت.. وقع طلاقه؛ لأنه إذا طلقها يوم الجمعة تكون مطلقة يوم السبت، بخلاف الخميس، وإن وكله في بيع سلعة بسوق معين، فباعها الوكيل في غيره، فإن كان الثمن في السوق المعين أكثر، أو النقد فيه أجود.. لم يصح البيع؛ لأن ذلك غير مأذون فيهن وإن كان الثمن فيهما واحدا، والنقد واحدا.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه لما نص له عليه دل على غرض قصده من يمين وغيرها، فلم يجز مخالفته.
والثاني ـ وهو المشهور ـ: أنه يصح؛ لأن المقصود فيهما واحد.

(6/417)


وإن وكله في البيع من زيد، فباع من عمرو.. لم يصح؛ لأنه قصد تخصيصه بالملك بخلاف السوق، فإن المقصود منه الثمن، وذلك يحصل من المعين وغيره.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق 290] : ولو وكله أن يزوج ابنته من زيد فزوجها من وكيل زيد.. صح النكاح، ولو وكله أن يبيع عبده من زيد فباعه من وكيل زيد.. لم يصح البيع، والفرق بينهما: أن النكاح لا يقبل نقل الملك، والشراء يقبل نقل الملك، ولهذا يقول وكيل النكاح: زوج موكلي، ولا يقول زوجني لموكلي، وفي البيع يصح أن يقول: بعني لموكلي.

[فرع: وكل من يقبض الدين]
] : وإن وكل رجلا ليقبض له دينه، فمات من عليه الدين.. فهل للوكيل أن يقبض من وارثه؟ نظرت:
فإن قال الموكل: وكلتك تقبض حقي من فلان، أو خذ مالي من فلان.. لم يكن له أن يقبض من وارثه؛ لأنه قد لا يرضى أن يكون ماله عنده، ويرضى أن يكون عند وارثه، فلا يكون التوكيل في القبض منه إذنا في التوكيل بالقبض من وارثه.
وإن قال: وكلتك في قبض حقي على فلان.. كان له القبض من وارثه؛ لأنه قصد أخذ ماله، وذلك يتناول الأخذ منه ومن وارثه.
وإن وكل رجلا في قبض دينه من فلان، فوكل من عليه الدين رجلا بتسليم ما عليه.. كان للوكيل القبض منه؛ لأن دفعه بإذنه بمنزلة دفعه.

[مسألة: الوكالة بالبيع إلى أجل معين]
] : إذا قال: وكلتك ببيع عبدي بثمن إلى العطاء، أو إلى الحصاد.. فهذه وكالة فاسدة فإن باعه الوكيل كما أمر.. لم يصح؛ لأن الشرع لم يأذن فيه، وإن باعه بيعا صحيحا.. لم يصح البيع، وبه قال أبو يوسف. وقال أبو حنيفة (يصح) .

(6/418)


دليلنا: أنه توكيل في عقد فاسد، فلم يملك به العقد الصحيح، كما لو وكله بالبيع بخمر أو خنزير، فباعه بدراهم.. فإنه لا يصح، وقد وافق أبو حنيفة على هذا.

[مسألة: شراء المتصرف في أموال الغير لنفسه]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يجوز للوكيل والوصي أن يشتري من نفسه) وجملة ذلك: أن المتصرفين في أموال غيرهم ستة: الأب، والجد، ووصيهما، والحاكم، وأمينه، والوكيل وقد اختلف الناس هل يجوز لهم أن يشتروا من أنفسهم، ويبيعوا؟ على أربعة مذاهب:
ف [الأول] : ذهب الشافعي إلى: (أنه يجوز للأب والجد أن يبيعا من نفسه مال ابنه الصغير ويشتري له من نفسه، وقد مضى ذكر ذلك، ولا يجوز لغيرهما) .
و [الثاني] : قال مالك، وأبو حنيفة: (يجوز للأب والجد، ووصيهما) .
و [الثالث] : قال الأوزاعي: (يجوز ذلك للجميع) . وحكى أصحاب مالك ذلك عنه.
و [الرابع] قال زفر: لا يجوز ذلك لواحد منهم.
دليلنا: أن غير الأب والجد تلحقهم التهمة، ويتنافى الغرضان في بيعهم من أنفسهم، فلم يصح.
إذا ثبت هذا: فإنه لا يجوز للوكيل أن يشتري مال موكله لابنه الصغير، ولا لمن يلي عليه بوصية، أو وكالة؛ لأنه بيع من نفسه، وهل يصح بيعه من ابنه الكبير، أو أبيه، أو أمه، أو مكاتبه؟ فيه وجهان:
أحدهما يصح؛ لأن القابل غيره.
والثاني: لا يصح: لأنه تلحقه التهمة في ذلك، ولهذا لا تقبل شهادته لواحد منهم.
وإن باع من عبده المأذون له.. لم يصح؛ لأن ذلك بيع من نفسه، وإن من

(6/419)


زوجته، أو أحد قرابته غير الوالدين والمولودين.. صح البيع، وجها واحدا؛ لأنه لا تلحقه في ذلك تهمة.
وإن وكله أن يبيع من نفسه.. ففيه وجهان:
أحدهما: وهو قول أبي العباس: يصح البيع، كما يصح أن يوكل المرأة في طلاقها.
و [الثاني] : قال سائر أصحابنا لا يصح؛ لأنه يجتمع فيه غرضان متضادان، الاستقصاء للموكل في الثمن والاسترخاص لنفسه، ويخالف الطلاق، فإنه يصح بالزوج وحده.
وقال الطبري: وكذلك إذا وكله أن يهب لنفسه أو يبرئ نفسه.. فعلى الوجهين.
قال المحاملي: وكذلك إذا زوج نفسه من ابنة عمه بإذنها، أو كاتب العبد نفسه على نجمين بإذن سيده.. فعلى الوجهين.
وإن وكله في إبراء غرمائه من دينه، وكان الوكيل من غرمائه.. لم يكن له أن يبرئ نفسه، وجها واحدا.
وإن وكله في تفرقة ثلثه على الفقراء والمساكين.. لم يكن له أن يصرف على نفسه من ذلك شيئا وإن كان فقيرا؛ لأنه مخاطب في أن يخاطب غيره، فلا يدخل في خطاب غيره، كما قلنا فيه إذا وكله في البيع وأطلق.. فليس له أن يبيع من نفسه.
وإن وكله بالبيع من ابنه الكبير أو أحد والديه أو مكاتبه.. صح ذلك، وجها واحدا، لأن التهمة انتفت عنه، وإن وكله أن يبيع من عبده المأذون له.. احتمل أن يكون على الوجهين إذا وكله أن يبيع من نفسه؛ لأن البيع له.
وإن وكله عمرو أن يشتري له عبدا من زيد، ووكله زيد في بيعه من عمرو.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال ابن الصباغ: فيه وجهان، كما لو وكله أن يبيع من نفسه.

(6/420)


وقال الشيخان، أبو حامد وأبو إسحاق: لا يصح ذلك، وجها واحدا لتضاد الغرضين؛ لأن عليه الاستقصاء للبائع بالثمن، والاسترخاص للمشتري.
وإن وكل رجلا في خصومة رجل، ووكله الآخر في خصومته.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأن الحكمان لا يتضادان؛ لأن الخصومة هو أن يذكر حجة كل واحد منهما، ويعرضها على الحاكم، وذلك ممكن من الواحد.
والثاني: لا يصح؛ لأن على الوكيل أن يحتال في إبطال حجة من وكل في إبطال خصومته والقدح فيها، وتصحيح حجة موكله، وهذا مما يجتمع فيه غرضان متضادان، فلم يصح.

[فرع: توكيل عبد غيره في شراء]
] : وإن وكل رجل عبدا لغيره، ليشتري له نفسه، أو عبدا غيره من سيده.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح، كما لو وكله أن يشتري له من غير سيده.
والثاني: لا يصح؛ لأن يده كيد سيده، فلم يصح، كما لو وكل السيد نفسه.
قال ابن الصباغ: فإذا قلنا لا يصح.. فلا كلام، وإن قلنا يصح، فإن ذكر العبد في الشراء: أنه يشتري لغيره في العقد.. كان للذي سماه، وإن أطلق وادعى أنه اشترى لغيره، فإن صدقه السيد.. كان له مطالبة الموكل بالثمن، وإن كذبه، وقال: بل اشتريت لنفسك.. حلف السيد: أنه لا يعلم أنه اشتراه لغيره؛ لأن الظاهر أنه اشتراه لنفسه، ويعتق، ويطالبه بالثمن. والذي يقتضي المذهب: أنه لا يعتق إذا صدق الموكل العبد أنه وكله في الشراء، أو أنه اشترى له.

(6/421)


[مسألة: توكيل العبد في شراء سلعة موصوفة]
وإن وكله أن يشتري له سلعة موصوفة، مثل: أن يقول: ابتع لي عبدا حبشيا أو زنجيا أو ثوبا هرويا أو مرويا.. لم يجز له أن يبتاع معيبا من ذلك.
وقال أبو حنيفة: (يجوز؛ لعموم أمره، كما يجوز ذلك للعامل في القراض) .
دليلنا: أن إطلاق البيع يقتضي السلامة من العيب، كما إذا باع سلعة، فوجدها المشتري معيبة.. فله ردها، ويخالف العامل في القراض؛ لأن المقصود هناك شراء ما يربح فيه، وقد يكون الربح في شراء المعيب، بخلاف ما يشتريه لغير القراض، فإن المقصود به القنية، والمعيب لا يقتنى.
إذا ثبت هذا فإن اشترى الوكيل معيبا مع علمه أنه معيب.. لم يصح الشراء للموكل؛ لأنه خالف مقصود إذنه.
وإن اشتراه ولم يعلم أنه معيب، ثم علم أنه معيب.. صح الشراء للموكل، فإن علم الموكل به ورضي به معيبا.. لم يجز للوكيل رده؛ لأن الملك للموكل، وقد رضيه معيبا، وإن لم يعلم به الموكل.. فللوكيل أن يرده بالعيب؛ لأن حكم العقد يتعلق به، بدليل: أن حق القبول له، فكان له رد المعيب كما لو اشتراه لنفسه، ولأن كون المبيع معيبا أدخل على موكله ظلامة، فكان له رفعها، فإذا أراد الوكيل الرد، فقال له البائع: لا ترد حتى تستأذن الموكل فلعله يرضى بالعيب، فإن لم يرضه قبلته منك.. لم يلزم الوكيل تأخير الرد؛ لأنه حق تعجل له فلم يلزمه تأخيره، فإن أخر الوكيل الرد بهذا الشرط فهل يسقط حقه في الرد؟ ففيه وجهان:
أحدهما: يسقط لأنه ترك الرد مع إمكانه.
والثاني: لا يسقط؛ لأنه إنما أخر الرد بشرط.
فإن قال البائع للوكيل: لا ترد فلعل موكلك قد بلغه الشراء والعيب ورضي به.. فالقول قول الوكيل من غير يمين لأن البائع لم يضع عليه شيئا، وإن قال البائع: قد علم الموكل ورضي به فإن أقام البينة بذلك.. لم يكن للوكيل الرد؛ لأن الملك

(6/422)


للموكل، وقد رضي به، وإن لم يكن مع البائع بينة وادعى أن الوكيل يعلم ذلك.. فالقول قول الوكيل مع يمينه؛ لأن الأصل عدم رضى البائع، ويحلف الوكيل: أنه لا يعلم أن الموكل قد علم ذلك ورضيه، ولا يحلف على القطع؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره.
فإذا رد الوكيل، ثم حضر الموكل، وقال: قد كنت علمت بالشراء والعيب، ورضيت به، فإن صدقه البائع على ذلك أو كذبه، وأقام الموكل على ذلك بينة.. لم يقع رد الوكيل موقعه، وكان للموكل استرجاع المبيع؛ لأن رد الوكيل إنما يصح إذا لم يرض به الموكل، وقد ثبت رضاه.
وإن رضي به الوكيل معيبا، أو ترك الرد مع إمكانه.. سقط حقه من الرد؛ لأن رد المبيع إذا كان معيبا.. إنما يكون على الفور، فإن حضر الموكل ورضي به معيبا، أو أقر: أنه كان قد علم به ورضيه، أو قامت به بينة عليه.. استقر البيع وإن لم يرض به الموكل.. نظرت في الوكيل:
فإن ذكر في الشراء: أنه يشتري لموكله، أو نوى: أنه يشتري له، وصدقه البائع على ذلك.. ثبت للموكل الرد؛ لأن الملك له.
وإن لم يذكره الوكيل في الشراء، ولا صدقه البائع أنه نواه.. فالقول قول البائع مع يمينه أنه لا يعلم أن الوكيل ذكر الموكل في الشراء ولا نوى الشراء له؛ لأن الظاهر أن الوكيل اشتراه لنفسه، فإذا حلف البائع.. انقطعت الخصومة بينه، وبين الوكيل، وتبقى الخصومة بين الوكيل والموكل، وهل تلزم السلعة الوكيل، أو الموكل؟ ذكر الشيخ أبو حامد أن السلعة تلزم الموكل. وذكر في المهذب: أنها على وجهين:
أحدهما: وهو المنصوص: (أنها تلزم الوكيل) .
والثاني: تلزم الموكل.
والذي تبين لي: أن الشيخ أبا حامد أراد بذلك: إذا تصادق الوكيل والموكل: أن الشراء وقع بعين مال الموكل، وأن الشيخ أبا إسحاق أراد: إذا تصادقا أن الشراء

(6/423)


وقع بثمن في ذمة الوكيل؛ لأنه قال: المنصوص: (أن السلعة تلزم الوكيل) لأنه ابتاع في الذمة ما لم يأذن له فيه، ومن أصحابنا من قال: تلزم الموكل؛ لأن العقد وقع له، وقد تعذر الرد بتفريط الوكيل.
فإذا قلنا: إن السلعة تلزم الوكيل.. لزمه أن يغرم للموكل ما سلم إليه من الثمن بالغا ما بلغ.
وإن قلنا: إن السلعة تلزم الموكل.. لزم الوكيل أن يغرم له: الأرش؛ لأنه دخل النقص على الموكل بتفريط الوكيل، وفي قدره وجهان:
أحدهما: تقوم السلعة صحيحة، ثم تقوم معيبة، فإن نقصها العيب العشر من قيمتها.. رجع عليه بعشر الثمن، كما قلنا في الرد بالعيب.
و [الثاني] : قال أبو يحيى البلخي: ينظر كم قيمة السلعة وكم الثمن الذي دفعه الموكل؟ فإن كانا سواء، أو قيمة السلعة أكثر.. لم يرجع عليه بشيء، وإن كانت قيمة السلعة تسعين، والثمن مائة.. رجع عليه بعشرة؛ كما قلنا في شاهدين شهدا على رجل: أنه اشترى عبدا بمائة، فحكم عليه الحاكم، وألزمه الثمن، ثم رجعا عن الشهادة، فإن المشتري يرجع عليهما بما نقص من قيمة العبد عن الثمن وهو المائة.
والأول أصح؛ لأنه عيب فات الرد به من غير رضاه، فرجع عليه بما ذكرناه، كما لو اشترى عينا فوجد بها عيبا بعد أن حدث بها عيب بيده، ويخالف الشاهدين؛ لأنهما لم يفوتا على المشتري الرد بالعيب، وإنما غرماه الثمن.
وإن وكل رجل رجلا ليشتري له سلعة بعينها من رجل، فاشتراها، ووجد بها الوكيل عيبا لم يعلم به الموكل.. فهل للوكيل أن يردها؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن حكم العقد به يتعلق، فكان له الرد، كما لو وكله في ابتياع سلعة موصوفة.
فعلى هذا: حكمها حكم السلعة الموصوفة، وقد مضى.
والثاني: ليس له الرد؛ لأنه قطع اجتهاده بتعيينها. والأول هو المنصوص.

(6/424)


[مسألة: وكل ببيع عبد فباع بعضه]
] : وإن وكله ببيع عبد، فباع الوكيل بعضه.. نظرت:
فإن لم يقدر الموكل الثمن، أو قدر له الثمن، فباع بعضه بأقل من الثمن المقدر.. لم يصح البيع.
وقال أبو حنيفة: (يصح البيع) .
دليلنا: أنه بيع غير مأذون فيه؛ لأن على الموكل ضررا في الشركة في العبد.
وإن قال له: بع جميع العبد بمائة، فباع بعضه بالمائة.. صح البيع؛ لأنه بيع مأذون فيه من طريق العرف؛ لأن من يرضى ببيع العبد بمائة يرضى ببيع بعضه بمائة، إلا أن يكون قال: بعه من فلان بمائة، فباع بعضه منه بمائة.. لم يصح؛ لأن الموكل قصد تخصيص المشتري المعين بجميع العبد بالثمن المقدر، فلا تجوز مخالفته.

[فرع: وكل بشراء عبد فباع بعضه]
] : وإن قال: اشتر لي عبدا موصوفا، أو معينا، فاشترى له بعضه.. لم يصح الشراء في حق الموكل؛ لأن عليه ضررا في الشركة في العبد.
وإن وكله أن يشتري له عبدا بثوب، فاشترى له العبد بنصف الثوب، صح البيع؛ لأنه زاده خيرا؛ لأن من يرضى العبد بثوب يرضاه بنصف الثوب.
وإن وكله في بيع أعبد، أو شراء أعبد.. نظرت:
فإن أطلق الإذن.. جاز أن يبيع الأعبد ويشتريهم صفقة واحدة، وجاز في صفقات؛ لأن الإذن مطلق، ولا ضرر عليه في ذلك.
وإن وكله: أن يشتري له عبدين صفقة واحدة، فإن اشتراهما من رجل واحد.. صح الشراء للموكل؛ لأنه لم يخالف إذنه، وإن اشتراهما من رجل أو رجلين في صفقتين.. لم يصح الشراء للموكل؛ لأنه خالف إذنه؛ لأنه قد يكون له غرض في أن يبتاعا له صفقة، وإن اشترى عبدين مشتركين بين رجلين في صفقة واحدة.. فقد

(6/425)


قال أبو العباس: يصح الشراء للموكل؛ لأنه ابتاعهما صفقة واحدة، فهو كما لو كانا لرجل واحد. وقال الشيخ أبو حامد: لا يصح الشراء للموكل؛ لأن عقد الواحد مع اثنين في حكم العقدين، فلم يصح، كما لو اشتراهما من رجلين في صفقتين.
وإن ابتاع الوكيل العبدين من رجلين، لكل واحد عبد في صفقة واحدة منهما.. فقد قال أبو العباس: لا يصح الابتياع للموكل في قول من يجيز هذا البيع وفي قول من لا يجيزه؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي في " المجموع "، وقال ابن الصباغ: إن قلنا: إن الرجل إذا ابتاع ذلك لنفسه، لا يصح الشراء له.. لم يصح الشراء هاهنا للموكل، ولا للوكيل، وإن قلنا هناك: يصح.. فهل يصح الشراء هاهنا للموكل؟ على الوجهين في الوكيل إذا اشترى عبدين من رجلين شركة بينهما صفقة واحدة.

[مسألة: يلزم الوكيل البيع بنقد البلد]
] : وإذا وكله في بيع سلعة، أو شرائها، وأطلق.. لم يجز له أن يبيع ويشتري بغير نقد البلد، وبه قال مالك، ومحمد، وأبو يوسف.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يبيع بغير نقد البلد) . فخالفنا أبو حنيفة في البيع ووافقنا في الشراء.
دليلنا: أنه عاوض بما ليس من غالب نقد البلد، فلم يصح مع الإطلاق، كما لو باع المنافع، ولأن إطلاق البيع والشراء يرجع إلى نقد البلد، كما نقول فيمن باع بثمن مطلق.
إذا ثبت هذا: فإن لم يكن في البلد إلا نقد واحد.. باع الوكيل به واشترى، وإن كان في البلد نقدان، فإن كان أحدهما أغلب في المعاملة.. باع الوكيل به واشترى، وإن كانا غالبين.. عقد بالأنفع للموكل؛ لأنه مأمور بالنصح له، فإن استويا في النفع.. عقد بما شاء منهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.

(6/426)


وإن وكله أن يبيع ويشتري بنقد معين.. لم يجز له أن يعقد بغيره، كما لو وكله في شراء عبد.. لا يجوز له أن يشتري جارية.

[مسألة: وكله بالشراء من مال بعينه]
] : إذا دفع إلى رجل مالا، وأمره أن يشتري له بعينه عبدا، فاشترى له عبدا بثمن في الذمة.. لم يصح الشراء للموكل؛ لأنه إنما وكله في التصرف في ذلك المال المعين لا في غيره، ولأن للموكل غرضا في أن لا يشتري له إلا بعين ذلك المال؛ لأنه إن سلم ذلك المال.. سلم له المبيع، وإن تلف قبل القبض.. بطل البيع، ولم يلزمه شيء في ذمته، وإذا اشترى له الوكيل بثمن في الذمة.. لزمه الثمن، تلف المال أو لم يتلف، وفي ذلك ضرر عليه لم يرض به.
وإن وكله أن يشتري له عبدا بثمن في الذمة، وبنقد من المال الذي دفعه إليه. فإن فعل الوكيل ما أمره فيه من ذلك.. صح الشراء للموكل، وإن خالف فاشترى له العبد بعين المال.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح الشراء للموكل؛ لأنه أقل غررا من أن يبتاع له بثمن في الذمة لأنه يلزمه الثمن مع بقاء المال المعين، ولا يلزمه إذا تلف قبل القبض.
والثاني: لا يصح الشراء، وهو الصحيح؛ لأنه خالف إذنه؛ لأنه أمره بعقد يلزم مع بقاء المال المدفوع، ومع تلفه، فعقد عقدا يلزم مع بقائه، ولا يلزم مع تلفه، فلم يصح.
وإن دفع إليه مالا، وأمره أن يشتري له به عبدا، ولم يقل: بعينه، ولا في الذمة.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:

(6/427)


أحدهما: أن مقتضى ذلك الشراء بعين المال؛ لأنه لما دفع إليه المال، وأمره بالشراء.. كان الظاهر أنه أمره بالشراء بعينه.
فعلى هذا: إذا اشترى له بثمن في الذمة.. لم يلزم الموكل.
والثاني: أنه لا يقتضي الشراء بعين المال، ولا في الذمة، فيجوز له أن يشتري بعين المال، ويجوز له أن يشتري بثمن في الذمة، وينقد الثمن من المال؛ لأن الأمر مطلق.

[مسألة: شراء الوكيل بثمن في الذمة]
] : إذا وكله أن يشتري له سلعة، ولم يدفع إليه الثمن، فاشترى له بثمن في الذمة.. ففي أي ذمة يتعلق الثمن؟ فيه ثلاثة أوجه لأبي العباس:
أحدهما ـ وهو الصحيح ـ: أن الثمن يجب للبائع في ذمة الموكل، ويكون الوكيل ضامنا على الموكل بالثمن؛ لأن الموكل ينتقل إليه ملك المثمن، فكان عليه الثمن، كما لو قبل العقد لنفسه، والوكيل لما تولى العقد.. فقد دخل على أن المطالبة عليه، فصار ضامنا للثمن.
فعلى هذا: للبائع أن يطالب أيهما شاء بالثمن، فإذا قبضه من أحدهما.. برئا من حقه، وإن أبرأ الموكل.. برئ الوكيل، وإن أبرأ الوكيل.. برئ وحده، ولم يبرأ الموكل، وإن أخذ الحق من الوكيل.. رجع الوكيل على الموكل؛ لأنه لزمه بإذنه، وإن أخذ الحق من الموكل.. لم يرجع الموكل به على الوكيل.
والوجه الثاني: أن الثمن يجب للبائع في ذمة الوكيل؛ لأنه هو الذي قبل العقد، ولا يكون للبائع مطالبة الموكل بشيء؛ لأنه ما قبل منه العقد، إلا أن الوكيل ثبت له في ذمة الموكل مثل ما ثبت في ذمته للبائع؛ لأنه التزم ذلك بإذنه.
فعلى هذا: للوكيل أن يطالب الموكل وإن لم يطالبه البائع، وإن أبرأ البائع الوكيل.. لم يبرأ الموكل، وإن أبرأ الوكيل الموكل.. برئ.
والوجه الثالث: أن الثمن يجب للبائع في ذمة الوكيل، ولا يثبت في ذمة الموكل

(6/428)


للبائع ولا للوكيل شيء؛ لأن الذي باشر العقد هو الوكيل، فكان الثمن عليه، كما لو عقد لنفسه.
فعلى هذا: للبائع مطالبة الوكيل بالثمن دون الموكل، فإذا دفع الوكيل الثمن إلى البائع.. رجع به على الموكل؛ لأنه وجب عليه بإذنه، وإن أبرأ البائع الوكيل.. لم يرجع على الموكل بشيء، كما قلنا فيمن أحال غيره بحق على من لا حق له عليه.
وفرع أبو العباس على هذا الوجه: إذا قال الرجل لغيره: بع عبدك هذا من زيد بألف في ذمتي، فباعه.. صح البيع، ولزم الثمن الآمر دون المشتري.
والأول أصح؛ لأنه لا يجوز أن يملك المثمن ولا يملك عليه الثمن، ولا أن يثبت الثمن لغير من ملك من جهته المثمن.

[فرع: للموكل الخيار ما لم ينقد الوكيل الثمن]
] : فإن دفع إليه ألف درهم، وأمره أن يشتري له عبدا بألف درهم في الذمة. وينقد الألف فيه، فابتاع الوكيل العبد بألف في الذمة، فجاء لينقد الألف، فوجده البائع معيبا.. فالبائع بالخيار: بين أن يقبضه معيبا، وبين أن لا يقبضه، فإن قبضه.. فلا كلام، وإن لم يقبضه.. كان له المطالبة بألف سليمة.
وإن تلفت هذه الألف في يد الوكيل قبل أن يقبضها البائع.. تلفت من مال الموكل، ولا شيء على الوكيل؛ لأنه أمانة في يده قبل أن يدفعها، وإن قبضها البائع، ثم وجدها معيبة.. كان له ردها، والمطالبة بألف سليمة، فإذا رده البائع على الوكيل.. قال المحاملي: فإن اختار الوكيل إمساكه معيبا، ويعطي البائع من عنده ألفا سليمة.. فعل، وإن اختار رده للموكل، ليرده له سليما، ليدفعه إلى البائع..

(6/429)


فعل، فإن قبضه الوكيل من البائع، ليرده على الموكل، فتلف في يده من غير تفريط.. فهل يجب على الوكيل ضمانه؟
إن قلنا: إن الثمن وجب للبائع في ذمة الموكل دون ذمة الوكيل، وإنما الوكيل واسطة.. كان تلف هذا الألف من ضمان الموكل؛ لأنه أمانة في يد الوكيل.
وإن قلنا: إن الثمن وجب للبائع في ذمة الوكيل دون ذمة الموكل، وللوكيل مثل ذلك الثمن في ذمة الموكل.. كان تلف الألف من ضمان الوكيل؛ لأن الموكل لما دفع إليه الألف ليدفعه إلى البائع.. فقد دفع إليه مالا ليسقط به الثمن الذي في ذمة نفسه عما لزمه من جهته، فلما لم يدفعه.. فهو أمانة في يده، فإذا دفعه.. ضمنه حينئذ؛ لأنه صرفه بدين في ذمته، فهو كما لو أودعه وديعة، وقال له: إن احتجت إليها، فأنفقها، فما لم ينفقها.. فهي أمانة في يده، فإذا أنفقها.. ضمنها، كذلك هذا إذا دفعها.. ضمنها، فإذا ردها البائع عليه.. عادت إلى ضمانه الأول.
فعلى هذا: إذا دفع الوكيل إلى البائع ألفا سليما.. كان للوكيل على الموكل ألف سليم؛ لأنه وجب عليه بإذنه، وللموكل عليه ألف معيب، فإن وجد الوكيل مثل المعيبة.. ردها على الموكل، وأخذ منه ألفا سليما، وإن لم يجد مثلها.. دفع إليه قيمتها، ولا يرجع عليه بالأرش؛ لأنه ربا.
فإن دفع إليه درهم ليشتري له بعينها عبدا، فاشترى له عبدا بعينها، ثم وجد بها البائع عيبا، فإن كان العيب من غير جنسها، بأن خرجت رصاصا أو نحاسا.. فالبيع باطل، لأن العقد وقع على الدراهم، وليست هذه بدراهم، وإن كان العيب من جنسها، بأن خرجت الدراهم مضطربة السكة، أو ناقصة الوزن.. فالبيع صحيح، ولكن يثبت للبائع الخيار: بين أن يمسكها، وبين أن يردها، فإن أمسكها.. فلا كلام، وإن ردها.. بطل البيع؛ لأن الثمن المعين إذا رد.. بطل البيع؛ لأنه لا يملك المطالبة ببدله، فإن تلفت الدراهم في يد الوكيل قبل أن يردها إلى الموكل من غير تفريط.. لم يجب عليه ضمانها؛ لأنها أمانة في يده بكل حال.

(6/430)


[مسألة: وكله بالبيع عاجلا فباعه مؤجلا]
] : وإن وكله أن يبيع له سلعة بثمن حال.. لم يجز أن يبيعها بثمن مؤجل؛ لأنه خلاف إذنه.
وإن وكله ببيعها، وأطلق.. لم يجز أن يبيعها بثمن مؤجل، فإن باعها بذلك.. بطل البيع، وبه قال مالك، وأبو ثور.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: (يجوز أن يبيعها مؤجلا ولو إلى ثلاثمائة سنة) .
دليلنا: أن الإطلاق يقتضي الحلول، كما لو قال: بعتك هذه السلعة بدينار. فإن الثمن يكون حالا.
وإن وكله أن يبيع بثمن إلى أجل مقدر.. لم يجز له أن يبيع إلى أجل أكثر منه؛ لأنه خلاف إذنه، وإن أذن له في البيع إلى أجل، ولم يقدر الأجل.. ففيه أربعة أوجه:
أحدها ـ وهو الأصح ـ: أنه لا يصح التوكيل؛ لأن الآجال تختلف، وذلك غرر من غير حاجة، فلم يصح كما لو قال: بعتك بألف إلى أجل.
والثاني: يصح التوكيل، ويبيع إلى ما جرت به العادة في التأجيل بالثمن في مثل تلك السلعة، فإن لم يكن فيه عرف.. باع بأنفع ما يقدر عليه؛ لأنه مأمور بالنصح لموكله.
والثالث: يصح البيع إلى أي أجل شاء الوكيل؛ لعموم إذن الموكل.
والرابع: يبيع إلى سنة، ولا يبيع إلى أكثر منها؛ لأن الآجال المقدرة بالشرع إلى سنة، وهو مثل الجزية والدية.

(6/431)


[فرع: باع الوكيل السلعة المؤجلة القيمة بثمن حال]
] : وإن وكله في بيع سلعة إلى أجل معلوم، فباعها بثمن حال، فإن باعها بأقل من الثمن الذي يباع به إلى الأجل.. لم يصح البيع؛ أنه باع بدون الثمن المأذون فيه، وإن باعها حالا بالثمن الذي يباع به الأجل، فإن كانت في وقت لا يؤمن أن يسرق الثمن، أو ينهب إلى الأجل.. لم يصح البيع؛ لأن في ذلك ضررا عليه لم يرض به، وإن كان الوقت مأمونا..ففيه وجهان:
أحدهما: يصح البيع؛ لأنه باعه بالثمن المأذون فيه، وزاده بالحلول خيرا، فصح.
والثاني: لا يصح؛ لأنه قد يكون له غرض في كون الثمن في ذمة مليء إلى وقت الأجل؛ لأنه قد يحتاج إليه في ذلك الوقت، وإذا حصل في يده ربما أنفقه.

[فرع: وكله بالشراء بثمن حال]
] : وإن وكله أن يشتري له شيئا بثمن حال، فاشتراه له بثمن إلى أجل، فإن لم يقدر له الموكل الثمن.. لم يصح الشراء في حق الموكل؛ لأنه ما من ثمن يمكنه أن يشتري تلك السلعة به نقدا إلا ويشتريها إلى أجل بأكثر منه، وإذا كان كذلك.. فقد اشتراها بأكثر من الثمن المأذون فيه، فلم يصح. وإن قدر له الثمن، فإن ابتاعها بأكثر من المقدر.. لم يصح في حق الموكل؛ لأنه اشتراها له بأكثر مما أذن له فيه، وإن ابتاعها بالثمن المقدر، أو بأقل منه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه قد اشتراها له بالثمن المأذون له فيه، وزاده التأجيل خيرا.
والثاني: لا يصح في حق الموكل؛ لأنه قد فوت عليه غرضه؛ لأنه قد لا يقدر على الثمن عند الأجل، ويقدر عليه في الحال.
قال ابن الصباغ: وهذا إنما يتصور في الأشياء التي لا يجبر صاحبها إذا كانت

(6/432)


مؤجلة أن يأخذها في الحال، وأما إذا كانت مما يجبر على قبضها، بأن لا يحتاج في حفظها إلى مؤنة، ولا تكون مخوفا.. فإنه يجوز؛ لأنه يمكنه أن يعجل الثمن وإن كان مؤجلا، فيحصل الغرض.

[مسألة: لا يعطي الوكيل الخيار]
] : وإذا وكله في البيع.. لم يجز له أن يشترط الخيار للمشتري، وإن وكله في الشراء.. لم يجز له أن يشرط الخيار للبائع؛ لأن الإطلاق يقتضي العقد من غير شرط الخيار، وإن شرط الوكيل فيهما الخيار للموكل، أو لنفسه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن الإطلاق يقتضي العقد من غير شرط الخيار.
والثاني: يصح؛ لأن فيه احتياطا.

[مسألة: لا يبيع الوكيل بأقل من ثمن المثل]
] : ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بدون ثمن المثل مما لا يتغابن الناس في مثله من غير إذن، ولا للوكيل في الشراء أن يشتري بأكثر من ثمن المثل مما لا يتغابن الناس بمثله من غير إذن، وبه قال مالك، وأبو ثور، وأبو يوسف، ومحمد، ووافقنا أبو حنيفة في الشراء وخالفنا في البيع، فقال: (للوكيل في البيع أن يبيع بدون ثمن المثل) . دليلنا: أنه توكيل في معاوضة مطلقة، فوجب أن يقتضي ثمن المثل، كالشراء. قال صاحب " الفروع ": وإن قال: بع هذه السلعة بثمن مثلها وأقل منه وأكثر، عاجلا وآجلا، بنقد البلد وغير نقد البلد.. جاز للوكيل أن يبيع كيف شاء؛ لعموم الإذن، فإن باع الوكيل بثمن المثل، أو بنقصان يتغابن الناس بمثله، فجاء إنسان،

(6/433)


فزاده في الثمن، فإن كان بعد انقضاء الخيار.. لم يكن لهذه الزيادة حكم، فإن فسخ.. فلا يصح فسخه؛ لأن البيع قد لزم، وإن كان قبل انقضاء الخيار.. قال الشافعي: (فعليه أن يفسخ البيع مع الأول، ويقبل الزيادة، فإن لم يفعل.. كان البيع مردودا) .
ومن أصحابنا من قال: لا يفسخ البيع الأول؛ لأنه قد صح، ويجوز أن لا يثبت الزائد على الزيادة وهذا خلاف النص؛ لأن حال الخيار كحال العقد، بدليل: أنه يجوز للمتبايعين الزيادة في الثمن والنقصان منه في حال الخيار، كما يجوز في حال العقد، ولو حضر من يطلب الزيادة حال العقد.. لم يجز البيع بأقل منها فكذلك في حال الخيار، وقول من قال: إنه قد لا يثبت الزائد على الزيادة، غير صحيح؛ لأن الظاهر أنه يثبت عليها.
وإن باع الوكيل بأقل من ثمن المثل مما يتغابن الناس بمثله، أو اشترى بأكثر من ثمن المثل مما يتغابن الناس بمثله.. صح؛ لأن ذلك لا يمكن الاحتراز منه لأهل البصر في التجارة.
قال الشافعي: (والغبن قد يقل ويكثر على حسب المبيع، فما كان من الجواهر، والمواشي، والرقيق.. فقد يغبن فيه أكثر ما يغبن في الطعام وما أشبهه؛ لأن الجواهر والمواشي، والرقيق ليس له ثمن معلوم، بل يتفاوت ثمنه، فيقع فيه الغبن أكثر من الطعام) .
فعلى هذا: إذا اشترى الوكيل شيئا، أو باعه، عرض على أهل البصر بذلك الشيء، فإن قالوا: هذا مما يغبن الناس فيه بمثله في العادة.. كان عقده صحيحا، وإن قالوا: غبن بما لا يغبن الناس بمثله في العادة.. كان العقد باطلا، فإن كان ذلك في الشراء.. نظرت:
فإن كان العقد بعين مال الموكل، فإن ذكر حين الشراء: أنه يشتري لموكله، أو

(6/434)


نواه، وصدقه البائع.. فالعقد باطل؛ لأنه عقد على مال الموكل ما لم يأذن فيه، وإن لم يذكر حين الشراء: أنه يشتري للموكل، ولا صدقه البائع أنه نواه.. قال الشيخ أبو حامد: كان الشراء للوكيل، وكان عليه غرم الثمن الذي دفعه للموكل.
وإن كان بثمن في الذمة.. لم يصح الشراء في حق الموكل؛ لأنه يشتري له بثمن غير مأذون له فيه نطقا، ولا عرفا.
وإن كان في البيع، بأن وكل في بيع عين، ثمن مثلها عشرة، ويتغابن الناس في مثلها بدرهم، فباعها بثمانية.. لم يصح البيع، فإن كانت العين قائمة.. أخذها الموكل، وإن كانت في يد المشتري.. فللمالك أن يطالب بردها من شاء منهما.
وإن قبضها المشتري، وتلفت في يده.. فللموكل أن يضمن المشتري؛ لأنه قبض ما لم يكن له قبضه، وله أن يضمن الوكيل؛ لأنه أقبض ما لم يكن له إقباضه، فإن اختار تضمين المشتري.. ضمنه عشرة؛ لأن التلف حصل بيده، فاستقر الضمان عليه، وإن اختار تضمين الوكيل.. فكم يضمنه؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يضمنه العشرة؛ لأنه تعدى بإقباضها، فضمنها بكمال قيمتها، كالغاصب.
والثاني: يضمنه تسعة؛ لأنه لو باعها بذلك.. لصح بيعه، ويضمن المشتري تمام القيمة، وهو درهم.
والثالث ـ حكاه في " المهذب " ـ: أنه يضمنه درهما لا غير؛ لأنه لم يفرط إلا فيه، ويضمن المشتري تسعة.
ولم يحك الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غير القولين الأولين، والقول الأول أصح؛ لأن المشتري لو اشتراه بتسعة.. لصح شراؤه، ومع هذا يضمن جميع القيمة، وما يضمنه الوكيل.. يرجع به على المشتري؛ لأن التلف حصل بيده، وما يضمنه المشتري.. لا يرجع به على الوكيل.

(6/435)


[فرع: لا يخالف الوكيل القيمة المحددة]
] : وإن قال له: بع هذا العبد بألف درهم.. لم يجز أن يبيع بأقل منه وإن كان ثمن المثل؛ لأن بيع الوكيل مستفاد من قبل الموكل، فلا يجوز له مخالفته.
وإن باعه بألفي درهم، فإن كان الموكل قد عين له من يبيع منه.. لم يصح؛ لأنه قصد تمليكه إياه بألف درهم، فلا يجوز له مخالفته، وإن لم يعين له من يبيع منه.. صح البيع؛ لأن الإذن ضربان: إذن مستفاد نطقا، وإذن مستفاد عرفا، وفي العرف: أن من يرضى ببيع عبده بألف يرضى بيعه بألفين.
وإن قال: بع بألف، ولا تبع بما زاد.. لم يصح أن يبيعه بأكثر من الألف؛ لأن النطق أبطل حكم العرف.
وإن قال: بعه بمائة درهم، فباعه بمائة درهم ودينار.. قال ابن الصباغ: صح البيع، وجها واحدا؛ لأنه باع بالمأذون فيه وزيادة من جنس الثمن.
وإن باعه بمائة درهم وثوب.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه باعه بمائة وزيادة، فصح كما لو باعه بمائة درهم ودينار.
والثاني: لا يصح؛ لأنه باعه بغير جنس الأثمان.
فإن قلنا: يصح بيعه.. فلا كلام، وإن قلنا: يبطل.. بطل البيع فيما يقابل الثوب من العبد، وهل يبطل البيع فيما يقابل الدراهم؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة:
فإذا قلنا: لا تفرق.. بطل البيع في الكل، ولا كلام.
وإن قلنا: تفرق.. قوم الثوب والدراهم، فإن كانا سواء.. بطل البيع في نصف العبد، ولا خيار للموكل؛ لأنه رضي ببيع جميعه بمائة، فإذا تناول ذلك نصفه.. فقد زاده خيرا، وهل يكون للمشترى الخيار؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: له الخيار: لأن الصفقة تبعضت عليه.
والثاني: لا خيار له؛ لأنه رضي بذلك.

(6/436)


والأول أصح؛ لأن الاعتبار بمقتضى العقد، والعقد اقتضى أن يكون العبد صفقة واحدة.

[فرع: باع الوكيل نصف عبد بالثمن المعين]
] : وإن وكله في بيع عبد بألف، ولم يعين من يبيع منه، فباع الوكيل نصفه بألف.. صح البيع؛ لأن ذلك معلوم من جهة العرف، وإن باعه نصفه بدون الألف.. لم يصح؛ لأنه ربما لم يمكنه أن يبيع باقيه بتمام الألف.
وإن وكله في بيع ثلاثة أعبد له بألف، ولم يعين له من يبيع منه، فباع منهم واحدا بتسعمائة.. لم يصح؛ لأنه قد لا يشتري الآخران بمائة، وإن باع واحدا منهم بألف.. صح؛ لأن ذلك مأذون فيه من جهة العرف، وهل يصح بيعه للآخرين بعد ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يصح؛ لأن المقصود هو الألف، وقد حصل.
والثاني: يصح؛ لأنه قد أذن له ببيع الجميع، فلا يسقط إذنه ببيع بعضهم.

[فرع: صحة الشراء بالمعين]
] : وإن وكله أن يشتري له عبدا بعينه بمائة دينار، فاشتراه له بمائة دينار.. صح الشراء للموكل؛ لأنه امتثل أمره نطقا وعرفا، وإن اشتراه بتسعين دينارا، أو أقل منها.. قال أصحابنا: صح الشراء للموكل؛ لأنه مأذون فيه من جهة العرف؛ لأن من يرضى بمائة.. يرضى بما دونها.
والذي يقتضي المذهب: أن هذا إنما يصح إذا لم يعرف الموكل سيد العبد، فأما إذا عرفه، أو قال: اشتر لي من فلان عبده بمائة دينار، فاشتراه له بأقل منها.. لم يصح في حق الموكل؛ لأنه قصد محاباته بالثمن، فلا يجوز مخالفته، كما لو قال: بع

(6/437)


عبدي من فلان بمائة، فباعه بمائة وعشرة.. فإنه لا يصح.
وإن قال: اشتر لي هذا العبد بمائة دينار فاشتراه له بمائة درهم.. لم يصح في حق الموكل؛ لأنه خالف النطق والعرف؛ لأن العرف يقتضي اختصاص الجنس المأذون فيه وإن كان غيره أحط منه وأخف.
وإن قال: اشتره بمائة دينار، ولا تشتره بأقل منها، فاشتراه بأقل منها.. لم يصح في حق الموكل؛ لأن النطق أبطل حكم العرف.
وإن قال: اشتره بمائة درهم، ولا تشتره بخمسين درهما.. فله أن يشتريه بمائة؛ لأنه مأذون فيه نطقا، وله أن يشتريه بما دون المائة وفوق الخمسين؛ لأنه مأذون فيه عرفا، وليس له أن يشتريه بالخمسين؛ لأنه غير مأذون فيه نطقا، وهل له أن يشتريه بما دون الخمسين؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح ذلك للموكل؛ لأنه مأذون فيه عرفا، وإنما خرج الخمسون بالنهي، فبقي غيرها على العرف.
والثاني: لا يصح في حق الموكل؛ لأنه غير مأذون فيه عرفا؛ لأنه إنما نهى عن الخمسين ليكون غاية في التقليل، وما دونها أقل منها، فلا يجوز مخالفة نهيه.

[فرع: الشراء بأزيد مما عين الموكل]
] : وإن قال: اشتر لي هذا العبد بمائة درهم، فاشتراه له بمائة درهم وعشرة.. لم يلزم الموكل.
وقال أبو العباس: يلزم العبد الموكل بمائة، والعشرة على الوكيل؛ لأنه متبرع بها.
والأول أصح؛ لأنه زاد على الثمن المأذون فيه، فلم يلزم الموكل، كما لو وكله أن يشتري له عبدا، وأطلق، فاشترى له بأكثر من ثمن المثل، ولأنه لو قال: بع هذا

(6/438)


العبد بمائة درهم، فباعه بتسعين درهما ... لم يجز أن يقال: يصح البيع بالتسعين ويلزم الوكيل عشرة، فإذ لم يصح ذلك في البيع.. لم يصح في الشراء.

[فرع: لزوم شراء الوكيل إذا كانت الشروط مستوفاة وزيادة]
قال أبو العباس: إن قال: اشتر لي عبدا حبشيا أو روميا، خماسيا أو سداسيا بمائة، فاشترى له عبدا بتلك الصفة بمائة.. لزم الموكل؛ لأنه مأذون فيه نطقا، وإن ابتاعه على تلك الصفة بدون المائة.. لزم الموكل؛ لأنه مأذون فيه عرفا، وإن كان العبد لا يساوي مائة.. لم يلزم الموكل؛ لأنه إنما أذن له في ابتياع عبد بتلك الصفة يساوي مائة، فإذا ابتاع بأقل من مائة ولا يساوي مائة.. لم يتضمنه إذنه نطقا، ولا عرفا، وإن اشترى له عبدا بمائتين، وهو يساوي ذلك.. لم يلزم الموكل؛ لأنه غير مأذون فيه نطقا، ولا عرفا.

[فرع: من وكل في السلم بنوع لا يبدله]
] : قال أبو العباس: إذا دفع إلى وكيله دراهم، وقال: أسلفها لي في طعام، أو في الطعام.. أسلفها في الحنطة، فإن أسلفها في الشعير.. لم يصح؛ لأن إطلاق اسم الطعام.. في العرف ينصرف إلى الحنطة دون غيرها وإن كان الطعام اسما للكل في اللغة، إلا أن الاعتبار في العرف دون العموم، ألا ترى أنه لو قال: اشتر لي خبزا.. انصرف ذلك إلى الخبز المعتاد في موضعه، حتى إن كان في العراق.. لم يجز أن يشتري له خبز الأرز؟ هكذا ذكر عامة أصحابنا.
وقال أبو المحاسن: إذا قال: اشتر لي بها الطعام.. لم يصح التوكيل خلافا لأبي حنيفة.

(6/439)


دليلنا: أن التوكيل بشراء الطعام على الإجمال والإبهام لا يصح، كما لو لم يذكر الثمن، ولم يدفعه، فإن كان قد وكله أن يسلفها في طعام إلى أجل، فأسلفها في طعام حال، فإن لم يقدر له قدر الطعام المسلم فيه.. لم يصح السلم؛ لأنه ما من شيء يسلم فيه المسلم إلى أجل بدرهم إلا إذا أسلف فيه حالا يسلف فيه أكثر من الدرهم، وإن قدر له الطعام المسلم فيه إلى الأجل، فأسلف في ذلك القدر حالا.. فهل يصح؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
فإذا حل السلم، وكان قد أذن له في القبض، أو قلنا: له أن يقبض بمقتضى الوكالة بالسلم، فقبضه الوكيل.. صح قبضه.
فإن أبرأ الوكيل المسلم إليه من الطعام، فإن كان قد ذكر له الوكيل المسلم له في السلم، أو نواه وصدقه المسلم إليه.. لم يصح إبراؤه؛ لأنه لا يصح إبراء الوكيل من مال الموكل، وإن لم يذكره في السلم، ولا صدقه المسلم إليه أنه نواه.. فالظاهر أن السلم للوكيل، ويصح إبراؤه، ويضمن الوكيل للموكل مثل الطعام؛ لأنه حال بينه وبين طعامه بالبراءة، فصار كما لو قبضه وأتلفه.

[فرع: جواز أن يسلم له بما في ذمته]
] : قال أبو العباس: إذا قال رجل لغيره: أسلف لي مائة درهم في طعام، وانقد المائة من مال عليك في ذمتك، ففعل الوكيل.. ذلك جاز، وكان الطعام للموكل، وبرئت ذمة الوكيل من القدر الذي دفع من الدراهم في السلم؛ لأنه دفع تلك المائة بإذن الموكل، فهو كما لو أمره بدفعه إلى وكيله، فدفعه.
قال أبو العباس: ولو قال: أسلف لي مائة درهم في طعام، وانقد المائة من عندك لتكون لك علي قرضا، ففعل ذلك.. جاز؛ لأنه يجوز للإنسان أن يبتاع شيئا لغيره بمال نفسه بعوض يستحقه عليه، كما إذا قال لغيره: أعتق عبدك عن كفارتي وعلي قيمته، فأعتقه عنه..صح، ولزمته القيمة.
قال الشيخ أبو حامد: وهاتان المسألتان سهو من أبي العباس، ومذهب الشافعي:

(6/440)


(أنه لا يجوز أن يشتري لغيره شيئا بماله) ، وإنما فرعه على مذهب أبي حنيفة، وتأويل المسألة الأولى: أن يقول: أسلف لي مائة درهم في كر من طعام ـ ولا يعينه بالدين ـ ثم يأذن له أن يسلم الدين الذي عليه عنها، فيبرأ.
وتأويل الثانية: أن يقول: أسلف لي مائة درهم في ذمتي في كر من طعام، فإذا فعل.. قال: اقض عني المائة لأدفع إليك عوضها.
قال ابن الصباغ: وعندي: أن الذي أراد أبو العباس: أن يسلم هكذا، ولا يحتاج إلى ما شرط من تأخير الإذن، ويجوز له أن يدفع الثمن من عنده، أو يدفع الدين الذي عليه؛ لأن التصرف من الوكيل يجوز تعليقه بالشرط، قال: وكذلك إذا قال: اشتر به عبدا، سواء عينه، أو لم يعينه، وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (إن عين العبد.. جاز، وإن لم يعينه.. لم يجز) .
دليلنا: أنه دفع بإذنه، فأشبه إذا عين.

[فرع: اشترى بدينار شاتين قيمة إحداهما دينار]
] : وإن دفع إلى رجل دينارا، ووكله أن يشتري له شاة بدينار، فاشترى له شاتين بدينار، فإن كانت كل واحدة لا تساوي دينارا.. لم يصح الشراء في حق الموكل؛ لأنه خالف الإذن النطقي والعرفي؛ لأن من رضي شاة بدينار لا يرضى بما دونها. وإن كانت واحدة منهما تساوي دينارا، فإن اشتراهما في الذمة.. ففيه قولان:
أحدهما: أن الملك فيهما للموكل، وهو الصحيح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إلى عروة البارقي دينارا، وأمره أن يشتري له شاة أضحية، فاشترى له شاتين، فلقيه رجل، فاشترى منه شاة بدينار، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشاة ودينار، فقال: "بارك الله لك في صفقة يمينك» فكان لو اشترى ترابا لربح فيه. فأقره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك فدل على

(6/441)


جوازه، ولأنه مأذون فيه من طريق العرف؛ لأن من يرضى بشاة تساوي دينارا بدينار.. يرضى بشاتين تساوي كل واحدة منهما دينارا بدينار.
فإذا قلنا بهذا: فباع الوكيل إحداهما.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لحديث عروة البارقي، ولأنه قد بلغه مقصودة، فصح كما لو اشترى له شاة تساوي دينارا بنصف دينار، فأتاه بشاة ونصف دينار.
والثاني: لا يصح؛ لأنه باع مال غيره بغير إذنه، فلم يصح، كما لو اشترى له شاة بدينار، فباعها بدينارين، وحديث عروة يتأول على: أنه كان وكيلا مطلقا.
والقول الثاني: إن الملك انتقل إلى الموكل في إحداهما، وإلى الوكيل في الأخرى، ووجهه من حديث عروة البارقي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز بيعه في إحداهما) .
فلولا أن عروة قد ملك إحداهما.. لما صح بيعه فيها، إذ لو ملكهما النبي صلى الله عيه وسلم.. لما صح بيع عروة لإحداهما بغير إذنه، ولأن الموكل أذن له في ابتياع شاة، فملكها، ولم يأذن له في ابتياع الأخرى، فلم يملكها.
فإذا قلنا بهذا: كان الموكل بالخيار: بين أن يأخذ إحداهما بنصف دينار، ويرجع على الوكيل بنصف دينار، وبين أن يأخذهما جميعا بالدينار؛ لأنه إذا جاز للشفيع أن ينتزع ملك المشتري بالثمن بغير اختياره لاشتراكهما في الملك.. فلأن يجوز للموكل أن ينتزع ملك الوكيل الذي أضاف ابتياعه والعقد فيه إليه أولى وأحرى.
وأما إذا كانت إحدى الشاتين تساوي دينارا، والأخرى لا تساوي دينارا.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يصح الشراء في حق الموكل في واحدة منهما؛ لأنه أذن له في شراء شاة تساوي دينارا، فلا يقع له غيرها.
والثاني: يصح، وهو الأقيس، ولم يذكر في " المجموع " و" الفروع " غير هذا؛ لأنه قد وجد المأذون فيه، وزيادة.
فإن قلنا: إنهما للموكل، فباع الوكيل التي تساوي دينارا.. لم يصح بيعه لها،

(6/442)


وجها واحدا؛ لأنه لا يحصل للموكل غرضه، وإن باع التي لا تساوي دينارا.. فهل يصح بيعه؟ على الوجهين الأولين.
وإن قلنا: إن للوكيل إحداهما.. كان له التي لا تساوي دينارا بحصتها من الدينار، وللموكل الخيار في أخذها، كما مضى.
وإن ابتاع الشاتين التي تساوي كل واحدة دينارا بعين دينار الموكل، فإن قلنا: إن الجميع للموكل.. صح البيع فيهما له، والحكم فيهما ما مضى، وإن قلنا: إن الملك في إحداهما للوكيل.. صح البيع في إحداهما، ويبطل في الأخرى؛ لأنه لا يجوز أن يصح له الابتياع بعين مال غيره.

[مسألة: شراء الوكيل يجعل السلعة للموكل]
] : إذا وكل رجلا في شراء سلعة، فاشتراها الوكيل للموكل.. دخلت في ملك الموكل.
وقال أبو حنيفة: (تدخل في ملك الوكيل أولا، ثم تنتقل منه إلى الموكل) .
دليلنا: أنه قبل العقد لغيره، فإذا صح قبوله له.. لم يملكه الوكيل، كما لو قبل له النكاح، وقد وافقنا على النكاح، ولأنه لو وكله في بيع السلعة، فباعها.. لم يملكها الوكيل، وكذلك إذا وكله في شرائها.. لا يملكها الوكيل أيضا.

[فرع: وكله في شراء جارية معينة فخالفه]
] : وإن وكله أن يشتري له جارية معينة، فاشترى له غيرها، أو أذن له أن يشتريها بثمن مقدر، فاشتراها بأكثر منه، أو بغير جنسه.. فإن الشراء لا يصح في حق الموكل؛ لأنه يخالف الإذن النطقي والعرفي، وهل يصح الشراء للوكيل؟ ينظر فيه:
فإن اشترى بعين مال الموكل، فإن ذكر: أنه يشتري لموكله في العقد، أو لم يذكر الموكل، ولكن صدقه البائع أن المال للموكل، أو قامت البينة على ذلك.. لم يصح

(6/443)


الشراء في حق الوكيل؛ لأنه لا يجوز أن يبتاع لنفسه بعين مال غيره، وإن لم يذكر الوكيل الموكل في العقد، فادعى البائع أن الوكيل اشترى لنفسه بمال نفسه.. فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن الظاهر مما في يد الإنسان أنه يملكه، ويحكم بصحة الشراء للوكيل، ويغرم الوكيل للموكل ما دفع من عين ماله؛ لأنه ضمنه بذلك.
وإن كان قد اشترى بثمن في الذمة، فإن لم يذكر الموكل في الشراء.. انعقد الشراء للوكيل؛ لأنه اشترى لغيره ما لم يؤذن له فيه، فانعقد له كما لو لم يوكله، وإن ذكر في العقد: أنه يشتريه للموكل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح في حق الوكيل؛ لأن البائع أوجبه للموكل، فإذا لم يلزمه.. لم يصح، كما لو وكله أن يتزوج له امرأة، فتزوج له غيرها.
والثاني ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أن الشراء يصح للوكيل، وهو الصحيح؛ لأنه اشترى في الذمة لغيره ما لم يأذن له فيه، فانعقد في حق الوكيل، كما لو لم يذكر الموكل، ويخالف النكاح؛ لأن القصد أعيان الزوجين، ولهذا يشترط أن يقبل النكاح باسم الزوج، والقصد بالبيع الثمن، ولهذا يصح أن يقبل الوكيل البيع لموكله وإن لم يسمه.

[مسألة: إشهاد الوكيل على الإقباض]
وإن وكله في قضاء دين عليه.. لزم الوكيل أن يشهد على القضاء؛ لأنه مأمور بالنصح له فيما وكل فيه، ومن النصح له أن يشهد، فإذا ادعى الوكيل أنه قد قضى الغريم، فإن صدقه الغريم.. فلا كلام، وإن كذبه، ولم تكن هناك بينة حاضرة.. فالقول قول الغريم مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القضاء، ولا يقبل قول الوكيل على الغريم؛ لأن الوكيل ليس بأمين للغريم، فلا يقبل قوله عليه، كالوصي إذا ادعى دفع المال إلى اليتيم، ولأن يد الوكيل كيد الموكل، ولو ادعى الموكل على الغريم أنه قضاه.. لم يقبل قوله عليه، فكذلك الوكيل.

(6/444)


فإذا حلف الغريم.. أخذ حقه من الموكل؛ لأن حقه عليه، وتبقى الخصومة بين الوكيل والموكل، فإن كان الوكيل قد دفع إلى الغريم بغيبة الموكل.. نظرت:
فإن دفع من غير إشهاد.. ضمن ما دفع؛ لأنه فرط في ذلك.
وإن كان قد أشهد على الدفع شاهدين عدلين، ثم ماتا، أو فسقا، وصدقه الموكل على ذلك.. لم يلزمه الضمان؛ لأنه غير مفرط.
وإن أشهد على الدفع شاهدين لا تقبل شهادتهما، فإن كان ما ترد به شهادتهما أمرا ظاهرا، بأن كانا كافرين، أو عبدين، أو فاسقين ظاهري الفسق.. كان كما لو لم يكن أشهد، ويلزمه الضمان، وإن كان فسقهما خفيا لا يعرفه إلا الحاكم مع البحث ... ففيه وجهان، مضى ذكرهما في (الضمان) .
وإن أشهد شاهدا واحدا، فإن كان حاضرا.. حلف معه الوكيل. وثبت الدفع. وإن كان غائبا، أو ميتا، أو كان عدلا لكنه فسق.. ففيه وجهان.. ذكرناهما في (الضمان) أيضا.
وإن كان الوكيل قد دفع إلى الغريم بحضرة الموكل، ولم يشهد.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه الضمان؛ لأنه دفع؛ دفع دفعا لا يبرئ، فلزمه الضمان، كما لو دفع بغيبة الموكل، ولأن سبب الضمان هو ترك الإشهاد، فلا يسقط حكمه بحضور الموكل، كما لو أتلف مال رجل بحضرته.
والثاني: لا يلزم الوكيل الضمان؛ لأن الوكيل إنما يلزمه الإشهاد بغيبة الموكل، فأما إذا حضر: فالاحتياط في الإشهاد إليه، فإذا لم يفعل.. كان هو المفرط، فلا يضمن غيره ماله بتفريط نفسه.

[فرع: الإشهاد عند الإيداع]
] : وإن وكله: أن يودع ماله عند غيره.. فهل يجب على الوكيل الإشهاد على الدفع للمودع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه، كما قلنا في قضاء الدين.

(6/445)


والثاني: لا يلزمه؛ لأنه لا فائدة في الإشهاد؛ لأن القول قول المودع في التلف والرد.
فإن ادعى الوكيل أنه قد دفع الوديعة إلى المودع، فأنكر المودع.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإيداع، ولا يقبل قول الوكيل عليه؛ لأنه لم يأتمنه، فإذا حلف المودع.. انقطعت الخصومة عنه، وتبقى الخصومة بين الموكل والوكيل.
فإن كان الوكيل قد أشهد على الإيداع، أو اعترف له الموكل بذلك.. فلا ضمان عليه؛ لأنه غير مفرط، وإن لم يشهد على الإيداع، فإن كان قد دفع الوديعة بغيبة الموكل، فإن قلنا: يلزمه الإشهاد على الدفع.. لزمه الضمان؛ لأنه فرط في ترك الإشهاد، وإن قلنا: لا يلزمه الإشهاد.. فلا ضمان عليه، وإن كان قد دفع الوديعة بحضرة الموكل من غير إشهاد، فإن قلنا: لا يلزمه الإشهاد.. فلا ضمان عليه وإن قلنا: يلزمه الإشهاد فهل يلزمه الضمان هاهنا؟ فيه وجهان، كما قلنا في قضاء الدين.

[مسألة: إدعاء الوكالة تثبت مع الشاهدين]
] : إذا كان عند رجل لآخر حق، إما عين في يده، أو دين في ذمته، فجاء رجل إلى من عليه الحق، فقال: قد وكلني فلان بقبض حقه منك، وأقام الوكيل على ذلك شاهدين.. ثبتت وكالته، واستحق المطالبة، فإن قال من عليه الحق: كذب الشاهدان، والوكيل يعلم أنهما شهدا علي بالزور، فإن حلفه: أنه لا يعلم ذلك.. لم يلزمه أن يحلف؛ لأن هذا طعن على البينة العادلة.
فإن قال: قد قبض الموكل حقه، أو أبرأني منه.. لم يقبل قوله؛ لأن الأصل عدم ذلك، فإن ادعى أن الوكيل يعلم ذلك وطلب يمينه.. حلف الوكيل: أنه لا يعلم ذلك؛ لأنه يحلف على نفي فعل الغير، فإن قال للوكيل: أخر القبض حتى يحضر الموكل.. لم يلزمه التأخير؛ لأنه قد ثبت له تعجيل القبض، فلا يلزمه تأخيره فإذا قبض الوكيل الحق، ثم حضر الموكل، وطالبه.. كان لمن عليه الحق أن يستحلف الموكل أنه ما قبض الحق، ولا أبرأه منه، فإن حلف.. فلا كلام، وإن أقر بالقبض،

(6/446)


أو نكل وحلف من عليه الحق.. استرجع ما قبضه الوكيل، فإن قال من عليه الحق للموكل: احلف: أن شهودك شهدوا بحق علي.. لم يلزمه أن يحلف؛ لأن في ذلك طعنا على البينة.
وإن لم يقم البينة على وكالته.. نظرت فيمن عليه الحق:
فإن صدق الوكيل فيما ادعى.. جاز له الدفع إليه، ولا يجب عليه.
وقال المزني: يجب عليه الدفع إليه.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الحق دينا.. وجب عليه دفعه إليه، وإن كان عينا ـ فعنه روايتان، أشهرهما ـ: أنه لا يجب عليه الدفع إليه) .
دليلنا: أن إقراره بالوكالة لا يتضمن براءته بدفعه إليه، فلم يلزمه الدفع، كما لو كان الحق عينا، ولأنه دفع لا يبرأ به من عليه الحق إذا أنكر الموكل الوكالة، فلم يلزمه الدفع، كما لو كان عليه دين بشهادة، فطولب به من غير إشهاد.
إذا ثبت هذا: فإن دفع من عليه الحق إلى الوكيل، ثم حضر الموكل، فإن صدقه على الوكالة.. فقد برئ الدافع، وصح القبض، وإن أنكر الوكالة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الوكالة، فإذا حلف.. نظرت:
فإن كان الحق عينا، فإن كانت قائمة.. كان له أن يطالب بها من شاء من الدافع والقابض؛ لأن الدافع دفع ما لم يكن له دفعه، والقابض قبض ما ليس له قبضه. فإذا طالب الدافع.. كان للدافع أن يطالب القابض بردها إليه. وإن كانت العين تالفة.. كان له أن يطالب بقيمتها من شاء منهما، كما لو كانت قائمة، فإذا رجع على أحدهما بقيمتهما.. لم يكن للمرجوع عليه أن يرجع على الآخر؛ لأن كل واحد منهما يقول ظلمني الموكل برجوعه علي، فلا يكون له الرجوع على غير من ظلمه.
قال ابن الصباغ: وإن أتلفها القابض، أو تلفت عنده بتفريط، فرجع الموكل على الدافع.. فينبغي أن يرجع الدافع على القابض؛ لأنه وإن كان يقر أنه قبضه قبضا

(6/447)


صحيحا، وأن الضمان على القابض للموكل دونه.. فإنه يقول: ظلمني بالرجوع علي، ولكن له قيمة العين على القابض، فكان له أخذ حقه الذي ظلمه به من الذي يملكه على الوكيل.
فإن كان الحق دينا.. فلمن له الحق أن يرجع بدينه على الدافع، وجها واحدا؛ لأن الحق له ثابت في ذمته، وهل له أن يرجع على القابض؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: له أن يرجع عليه؛ لأنه مقر بأنه قد قبض الحق له.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: ليس له الرجوع عليه، وهو الصحيح؛ لأن حق صاحب الدين في ذمة من عليه الدين لم يتعين في المقبوض.
فإن قلنا بقول أبي إسحاق، وقبض من له الدين الحق من الوكيل.. برئ الدافع والوكيل.
وإن قلنا: لا يجوز له الرجوع عليه، أو قلنا: يجوز، واختار الرجوع على من عليه الحق، فإن كان المال باقيا في يد الوكيل.. فلمن عليه الدين أن يرجع به على الوكيل؛ لأن من عليه الدين يقول: قد ظلمني برجوعه علي، ولكن هذا المال له، فلي أخذه بما ظلمني. وإن كان المال قد تلف في يد الوكيل بغير تفريط.. لم يرجع الدافع على الوكيل لأنه مقر بأنه أمين تلف المال في يده بغير تفريط وإن أتلفه الوكيل، أو فرط في تلفه.. قال ابن الصباغ: فللدافع أن يرجع عليه؛ لأنه ظلمه بالخروج. وهو يستحق في ذمة الوكيل قدر ما أتلفه، فكان له أخذه بدلا عما ظلمه به.
وإن لم يصدق من عليه الدين الوكيل في الوكالة.. فالقول قوله من غير يمين.
وقال أبو حنيفة، والمزني: (يجب عليه أن يحلف) . وقد مضى الدليل عليهما.
قال ابن الصباغ: الذي يجيء على أصلنا: أنه لا تسمع دعوى الوكيل على من عليه الدين؛ لأن الوكيل في الخصومة لا يصح أن يدعي قبل ثبوت وكالته.

(6/448)


[فرع: ثبوت دعوى الوكالة بشاهدين]
] : إذا ادعى الوكالة، وأقام شاهدين ذكرين.. ثبتت وكالته، وإن أقام شاهدا وامرأتين، أو شاهدا وأراد أن يحلف معه، أو أربع نسوة.. لم تثبت وكالته بذلك؛ لأن ذلك ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ومما يطلع عليه الرجال، فإن شهد له رجل: أنه وكله، وشهد الآخر: أنه وكله، ثم عزله.. لم تثبت وكالته؛ لأنه لم يبق معه إلا شاهدا؛ لأن الآخر لم يثبت وكالته في الحال.
وإن شهدا له بالوكالة، فحكم الحاكم بوكالته، ثم قال أحدهما: قد عزله، أو كان قد عزله.. لم يحكم ببطلان الوكالة؛ لأنه إن كان ذلك رجوعا عن الشهادة.. لم يقبل؛ لأن الرجوع عن الشهادة بعد الحكم لا يقبل، وإن كان ذلك ابتداء شهادة بالعزل بعد الوكالة.. لم يقبل؛ لأن العزل لا يثبت بشهادة واحد، وإن قالا: عزله بعد الحكم، فإن كان ذلك رجوعا.. لم يقبلا، وإن كان ابتداء شهادة بالعزل.. قبلت شهادتهما؛ لأن العزل يثبت بشاهدين.
وإن شهدا له بالوكالة، ثم قال أحدهما ـ قبل الحكم بثبوت الوكالة ـ: قد عزله، أو كان قد عزله.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحكم بثبوت الوكالة؛ لأن هذا ليس برجوع، وإنما هو إثبات للعزل، والعزل لا يثبت بواحد.
والثاني: لا يحكم بها، وهو الصحيح؛ لأنه لم يقم على شهادته إلى أن يقضي الحاكم بصحة الوكالة، فهو كما لو ذكر العزل مضافا إلى الشهادة.
وإن شهد أحدهما: أنه وكله يوم الخميس، وشهد الآخر: أنه يوم الجمعة، أو شهد أحدهما: أنه وكله بالعربية، وشهد الآخر أنه وكله بالفارسية.. لم تثبت الوكالة؛ لأنها شهادة على فعلين.. وإن شهد أحدهما: أنه أقر يوم الخميس أنه وكله، وشهد الآخر: أنه أقر يوم الجمعة أنه وكله، أو شهد أحدهما: أنه أقر بالعربية أنه وكله، وشهد الآخر على إقراره بالفارسية أنه وكله ثبتت الوكالة؛ لأن الإقرارين إخباران عن عقد واحد.

(6/449)


وإن شهد أحدهما: أنه قال: وكلتك، وشهد الآخر: أنه قال: أذنت لك في التصرف، أو شهد أحدهما: أنه قال له جعلتك وكيلا، وشهد الآخر: أنه قال: جعلتك جريا، أو شهد أحدهما: أنه جعله وكيله، وشهد الآخر: أنه جعله وصيه، أو شهد أحدهما: أنه قال: وكلتك، وشهد الآخر: أنه قال: أوصيت إليك في حال الحياة.. لم تثبت الوكالة في هذه المسائل كلها؛ لأنهما شهادتان على فعلين.
وإن شهد أحدهما.. أنه وكله، وشهد الآخر: أنه أذن له في التصرف، أو شهد أحدهما: أنه جعله وكيلا، وشهد الآخر: أنه جعله متصرفا.. ثبتت الوكالة؛ لأنهما لم يحكيا لفظ الموكل، وإنما عبرا عن التوكيل بلفظهما، واختلاف لفظهما لا يؤثر إذا اتفق معناه، وهكذا لو شهد أحدهما: أنه أقر عنده أنه وكله، وشهد الآخر: أنه أقر عنده أنه وكله، أو شهد أحدهما: أنه أقر عنده أنه وكله، وشهد الآخر: أنه أقر عنده أنه أوصى إليه في حال الحياة.. ثبتت الوكالة؛ لأنهما إخباران عن عقد.

[فرع: ادعى الوكالة وشهد له بها]
] : وإن ادعى الوكالة وشهد له بها شاهدان، أحدهما ابن الآخر.. قبلت شهادتهما؛ لأن القرابة تمنع إذا كانت بين الشاهد والمشهود له، فأما إذا كانت بين الشاهدين.. فلا تؤثر.
وإن شهد بالوكالة ابنا الوكيل، أو أبواه، أو أبوه وابنه.. لم يحكم بشهادتهما؛ لأنهما يثبتان له التصرف، فلم يقبلا، كما لو شهدا له بمال، وإن شهد له بالوكالة أبو الموكل، أو ابناه.. فذكر الشيخ أبو حامد: أنهما لا يقبلان؛ لأنهما يثبتان بذلك التصرف عن الموكل، فهي شهادة له.

(6/450)


قال ابن الصباغ: وفيه نظر؛ لأن هذه الوكالة ثبتت بقول الموكل، ويستحق الوكيل بذلك المطالبة بالحق، وما يثبت بقوله.. يثبت بشهادة قرابته عليه، كالإقرار، فأما إذا ادعى الوكالة، فأنكر الموكل، فشهد عليه ابناه، أو أبواه.. ثبتت الوكالة، وأمضى تصرفه؛ لأن ذلك شهادة عليه، وهكذا: إذا أنكر من عليه الحق وكالة الوكيل، فشهد بها ابنا من عليه الحق، أو أبواه.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما يشهدان عليه.

[فرع: شهادة الابنين بعزل وكيل الأب]
وإذا ثبتت وكالة رجل بالبينة بقبض حق عليه غيره، ثم جاء ابنا الموكل، فشهدا: أن أباهما قد عزل الوكيل، فإن صدقهما الوكيل.. انعزل، ولم ينفذ تصرفه؛ لأنه اعترف بعزل نفسه، وإن كذبهما.. قيل لمن عليه الحق: أتدعي العزل؟ فإن قال: نعم.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على أبيهما، وإن لم يدع العزل..لم تبطل الوكالة. وكان له قبض الحق، فإن حضر الموكل، وادعى العزل، وشهد له ابناه.. لم يحكم بشهادتهما؛ لأنهما يشهدان لأبيهما.

[فرع: رفع دعوى على وكيل حاضر والأصيل غائب]
وإن ادعى على رجل غائب مالا في يد وكيل له حاضر، وأقام عليه البينة، وحلفه الحاكم، ثم حضر الغائب، وأنكر الوكالة، وادعى العزل قبل الدعوى، وأقام على ذلك بينة.. لم يؤثر ذلك في الحكم؛ لأن الحكم على الغائب لا يفتقر عندنا إلى حضور الوكيل.
وإن حضر رجل عند الحاكم، فوكل عنده رجلا في خصوماته، فإن كان الموكل حاضرا.. لم يفتقر إلى معرفة اسمه ونسبه، وإن غاب الموكل، فإن كان الحاكم يعرف الموكل باسمه ونسبه.. صح للوكيل أن يخاصم، وإن كان لا يعرف اسمه ونسبه.. لم

(6/451)


تصح خصومة الوكيل، إلا أن يقر الخصم أن الذي وكله هو فلان بن فلان؛ لأن الحق عليه.

[فرع: شهادة رجلين أن فلانا وكيل لغائب]
] : إذا شهد رجلان: بأن فلانا الغائب وكل عمرا في كذا، فإن قال عمرو: صدقا.. ثبتت وكالته، وإن قال عمرو: أنا لا أعلم أنه وكلني، ولكن أنا أطالب بالحق.. صحت وكالته؛ لأن وكالته ثبتت بالبينة، وقوله: (لا أعلم) أي: أني ما سمعت، وقوله: (أنا أطالب) قبول للوكالة، وإن قال: لا أدري أنه وكلني، أو لا أعلم وسكت.. قال أبو العباس: قيل له: قد شهد لك بالوكالة اثنان، أتصدقهما، أم تكذبهما؟ فإن صدقهما.. ثبتت وكالته، وإن كذبهما.. لم تثبت وكالته.
وإن شهد رجل: أن زيدا وكل عمرا ببيع هذا العبد، وشهد آخر: أنه وكله وخالدا ببيعه.. لم تثبت وكالة واحد منهما؛ لأن أحدهما شهد لعمرو بالتصرف منفردا، وشهد له الآخر بالتصرف مع غيره، فلا يتصرف بنفسه؛ لما ذكرناه، ولا يتصرف مع خالد؛ لأنه لم يشهد لهما غير واحد. وإن شهد له شاهد: أنه وكله في بيع هذا العبد، وشهد الآخر: أنه وكله في بيع هذا العبد وهذه الجارية.. ثبتت وكالته في العبد؛ لأنهما اتفقا عليها، ولا تثبت في الجارية؛ لأنه لم يشهد بها غير واحد.
وإن شهد أحدهما: أنه وكله في بيع عبده، وأطلق، وشهد الآخر: أنه وكله في بيعه، وقال: لا تبعه حتى تستأمرني.. لم تثبت وكالته في بيعه؛ لأنها شهادة مختلفة.

[فرع: ادعاء رجل على مدين موت صاحب الحق وأنه وارثه]
] : إذا كان على رجل دين لآخر، أو عين في يده، فجاء آخر، وقال: قد مات صاحب الحق، وأنا وارثه، لا وارث له غيري، فإن صدقه من عليه الحق.. لزمه الدفع إليه؛ لأنه اعترف له بملك الحق، وإن كذبه، وأقام المدعي بينة.. حكم له بذلك، وإن لم يقم بينة.. فالقول قول من عليه الحق مع يمينه؛ لأن الأصل

(6/452)


بقاء من له الحق، فيحلف: أنه لا يعلم أن صاحب الحق قد مات، أو لا يعلم أنه لا وارث له سواه؛ لأنه يمين على نفي فعل غيره.
وإن جاء إلى من عليه الحق والدين لغيره، وقال قد أحالني صاحب الحق عليك، فإن صدقه من عليه الدين.. فهل يلزمه الدفع إليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه؛ لأنه قد اعترف له بملك الدين، فصار كما لو اعترف أن صاحب الحق مات، وأن هذا وارثه.
والثاني: لا يلزمه؛ لأنه وإن صدقه.. فإن هذا الدفع لا يبرأ به؛ لأنه ربما أنكر من له الحق الحوالة وحلف، فصار كما لو صدقه أنه وكيله في القبض.
وإن كذبه من عليه الحق، فإن أقام المحتال بينة.. حكم له بالحق، ولزم المحال عليه الدفع إذا قلنا: إن رضا المحال عليه ليس بشرط، وإن لم تكن بينة.. فهل تلزمه اليمين؟
إن قلنا: لو صدقه لزمه الدفع إليه.. لزمه أن يحلف؛ لجواز أن يخاف اليمين، فيصدقه.
وإن قلنا: لا يلزمه الدفع، وإن صدقه.. لا تلزمه اليمين؛ لأنه لو صدقه.. لم يلزمه الدفع، فلا فائدة في اليمين.

[مسألة: فسخ الوكالة]
وإذا وكل غيره في تصرف.. كان لكل واحد منهما أن يفسخ الوكالة؛ لأنه إذن في التصرف، فجاز لكل واحد منهما إبطاله، كالإذن في أكل طعامه.
إذا ثبت هذا: فالعقود على أربعة أضرب:
[أحدها] : ضرب لازم من الطرفين: كالبيع، والصرف: والسلم، والإجارة، والخلع، وفي النكاح وجهان:

(6/453)


أشهرهما: أنه لازم من الطرفين.
والثاني: أنه لازم من جهة الزوجة، جائز من جهة الزوج؛ لأنه يملك رفعه.
والأول أصح؛ لأنه لا يملك فسحة، وإنما يملك قطعه وإزالة ملكه عنه، كما يملك الرجل عتق عبده.
والضرب الثاني: جائز من الطرفين، وهو الوكالة، والشركة، والقراض، والرهن قبل القبض، والجعالة، فلكل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ.
والضرب الثالث: لازم من أحد الطرفين جائز من الآخر، وهو الكتابة، والرهن بعد القبض.
والضرب الرابع: اختلف قول الشافعي فيه، وهو السبق، والرمي، على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
إذا ثبت هذا: فالفسخ أن يقول أحدهما: فسخت الوكالة، أو أبطلتها، أو نفضتها: أو يقول الموكل: عزلتك، أو صرفتك عنها، أو أزلتك عنها، أو يقول الوكيل: عزلت نفسي أو صرفتها عني، أو أزلتها.
وإذا عزل الوكيل نفسه عن الوكالة.. انعزل، سواء كان بحضور الموكل وعلمه، أو بغير حضوره وعلمه.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز للوكيل أن يعزل نفسه إلا بحضور الموكل وعلمه، فأما بغير حضوره وعلمه.. فلا يجوز) .
دليلنا: أنه قطع عقد لا يفتقر إلى رضا الغير، فلم يفتقر إلى حضور ذلك الغير، كالطلاق، ولأن الوكالة عقد جائز، فجاز لأحدهما فسخها بغير حضور الآخر، كالشركة، والقراض.
وأما الموكل إذا عزل الوكيل عن الوكالة، فإن عزله بحضرته أو بغيبته إلا أنه علم بالعزل قبل التصرف.. انعزل، ولم يصح تصرفه، وإن عزله ولم يعلم بعزله، فتصرف.. فهل ينعزل؟ فيه قولان، ومن أصحابنا من يقول: هما وجهان:

(6/454)


أحدهما: لا ينعزل، ويصح تصرفه، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن تصرف الوكيل عن إذن، فلم ينقطع لمجرد المنع من غير علم بالمنع، كما إذا أمر الله تعالى بفعل شيء، ثم نهى عنه.
والثاني: ينعزل، فلا يصح تصرفه، وهو الصحيح؛ لأنه قطع عقد لا يفتقر إلى رضا الغائب، فلم يفتقر إلى علمه، كالطلاق، ولأن العزل معنى يفسخ الوكالة إذا علمه الوكيل، فوجب أن يفسخه وإن لم يعلمه الوكيل، كجنون الموكل.

[فرع: انفساخ الوكالة بموت أحد طرفيها]
] وإن وكله في تصرف، ثم ماتا أو أحدهما قبل التصرف، أو جنا أو أحدهما، أو أغمي عليهما أو على أحدهما. بطلت الوكالة؛ لأنه قد خرج عن أن يكون من أهل التصرف، فبطلت الوكالة بذلك.
وإن حجر عليهما، أو على أحدهما للسفه. بطلت الوكالة فيما لا يصح تصرفه فيه مع السفه، كالبيع، والهبة، وغيرهما، ولا تبطل الوكالة فيما يملكه مع السفه، كالطلاق، والخلع، وطلب القصاص.
وإن كان الحجر للفلس. بطل توكيله في بيع أعيان ماله؛ لبطلان تصرفه فيه، وفي هبتها، ولم يبطل في التصرف في ذمته، ولا في الطلاق، والخلع، وطلب القصاص.
وإن فسقا أو أحدهما، فإن كان تصرفا يشترط فيه العدالة.. بطل، وإن كان لا يشترط فيه العدالة.. لم يبطل.

[فرع: تعذر التصرف يبطل الوكالة]
] وإن وكله في بيع عبد، ثم باعه الموكل، أو أعتقه، أو وكله في نقل زوجته فطلقها.. بطلت الوكالة لتعذر التصرف.

(6/455)


[فرع: الردة لا تؤثر في الوكالة]
] وإن وكل مسلم مسلما، ثم ارتد الوكيل.. لم تبطل وكالته، وكذلك إذا وكل المسلم مرتدا.. صحت وكالته، قولا واحدا؛ لأن ردته لا تؤثر في تصرفه، وإنما تؤثر في ماله.
فأما إذا ارتد الموكل: فهل يبطل توكليه؟ فيه ثلاثة أقوال، بناء على زوال ملكه بالردة.
أحدها: يزول ملكه، فتبطل وكالته.
والثاني: لا يزول ملكه، فلا تبطل وكالته.
والثالث: أن ملكه موقوف؛ فإن رجع إلى الإسلام.. لم يزل ملكه، فلا تبطل وكالته، وإن مات على الردة، أو قتل عليها.. زال ملكه بالردة، فبطلت وكالته، وهكذا إذا وكل المرتد مسلما.. فهل تصح وكالته؟ على هذه الأقوال الثلاثة.

[فرع: الطلاق لا يبطل وكالة الزوجين لأحدهما]
] وإذا وكل أحد الزوجين الآخر في البيع والشراء وما أشبههما ... صح؛ لأنها نيابة، فصحت بين الزوجين، كالأجنبيين، فإن طلق الزوج زوجته.. لم تبطل الوكالة؛ لأن زوال النكاح لا يمنع ابتداء الوكالة، فلم يمنع استدامتها. فإن وكل السيد عبده بتصرف، ثم أعتقه، أو باعه..ففيه وجهان لأبي العباس:
أحدهما: لا ينعزل؛ كما لو وكل زوجته، ثم طلقها.
الثاني: ينعزل، لأن ذلك ليس بتوكيل في الحقيقة، وإنما هو استخدام بحق الملك، فإذا زال الملك.. بطل الاستخدام، وإن أمر السيد عبده أن يتوكل لغيره، فتوكل له ثم أعتقه السيد، أو باعه.. فهل تبطل وكالته؟
من أصحابنا من قال: فيه وجهان، كالأولى.

(6/456)


ومنهم من قال: لا تبطل وجها واحدا؛ لأنه وإن كان من جهة السيد أمر، فهي وكالة في الحقيقة من جهة الموكل.
وإن قال السيد لعبده: إن شئت فتوكل له، وإن شئت فلا تتوكل له، فتوكل له، ثم أعتقه السيد، أو باعه.. لم تبطل الوكالة، وجها واحدا؛ لأن السيد لم يأمره، وإنما خيره، فصار ذلك وكالة في الحقيقة.

[مسألة: ضمان الوكلاء ونحوهم]
] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا ضمان على الوكلاء، ولا على الأوصياء، ولا على المودعين، ولا المقارضين، إلا أن يتعدوا، فيضمنوا) .
وجملة ذلك: أن الأيدي ثلاث: يد أمانة، ويد ضامنة، ويد اختلف قول الشافعي فيها.
فأما (يد الأمانة) : فهي يد الحاكم، وأمين الحاكم، والوصي، والمرتهن، والوكيل، والمودع، والمقارض، والشريك، والمساقي، والمستأجر؛ لأنهم يمسكون العين لمنفعة مالكها، وبالناس إلى ذلك حاجة، فلو قلنا: إن عليهم الضمان.. لامتنع الناس من قبول ذلك.
وأما (اليد الضامنة) : فيد المستعير، والغاصب، والمساوم، ومن أخذ الشيء ببيع فاسد.
وأما (اليد التي اختلف قول الشافعي فيها) : فيد الأجير المشترك، ويأتي بيان ذلك في (الإجارة) .
إذا ثبت هذا: فإن دفع إليه سلعة، ووكله في بيعها، وقبض ثمنها، فتلفت العين في يده، أو قبض ثمنها، فتلف في يده من غير تفريط.. لم يجب عليه الضمان؛ لأن يد الوكيل كيد الموكل، فكان الهالك في يده كالهالك في يد موكله.

(6/457)


[فرع: تأخر الوكيل برد ما وكل به]
] إذا طالب الموكل برد ما بيده.. وجب عليه رده عليه على حسب إمكانه، فإن أخر الرد.. نظرت:
فإن كان لعذر.. لم يصر بذلك ضامنا.. قال أبو إسحاق: والعذر: مثل أن يكون قد خرج ليصلي صلاة الجماعة، فأخر ليفرغ من الصلاة، أو كان يبيع ويشتري في السوق، فقال حتى أرجع إلى البيت، أو كان مريضا، فقال: لا أحب أن يتولى إخراجها غيري، لأني قد أحرزتها، أو كان محبوسا، فقال: حتى أخلى أو كان في الحمام، أو يأكل الخبز، فقال حتى أفرغ، أو كان في وقت نومه، أو كان يحفظ مالا لا يخشى ضياعه، أو ملازما لغريم له، لأنه غير مفرط بذلك. قال: وكذلك إذا طالبه به، فقال: هو في الصندوق، وقد ضاع المفتاح.. فإنه لا يجبر على كسر القفل، بل يؤخر حتى يجد المفتاح، أو يصلح غيره؛ لأنه غير مفرط.
وإن أخر الرد لغير عذر، أو أخره لعذر ولكن زال العذر ولم يشتغل بالرد.. ضمن؛ لأنه مفرط بذلك، وإذا طالبه بالرد، فمنعه من غير عذر.. ضمنها، سواء تلف قبل أن يمضي زمان إمكان الرد، أو لم يمض؛ لأنه صار ضامنا بالمنع من غير عذر فإن ادعى الوكيل أنه قد كان تلف قبل المطالبة برده، أو قال: كنت رددته.. لم يقبل قوله؛ لأنه صار مكذبا لنفسه ضامنا في الظاهر، فإن أقام على ذلك بينه.. فهل تسمع؟ فيه وجهان:
أحدهما: تسمع، كما لو صدقه الموكل على ذلك.
والثاني: لا تسمع، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه قوله يكذب بينته، ويخالف إذا صدقه الموكل؛ لأنه يقر ببراءته، فلم يستحق مطالبته.
وأما إذا طالبه برده، فأمتنع الوكيل من رده، وعنده أن الشيء باق، ثم بان أنه كان تالفا.. فهل يلزمه الضمان؟ فيه وجهان:

(6/458)


أحدهما: يلزمه الضمان؛ لأنه لما منعه.. تبينا أنه كان ممسكا له على نفسه.
والثاني: لا ضمان عليه؛ وهو الأصح؛ لأن التعدي وجد بعد التلف.

[فرع: استخدام الوكيل ما وكل به]
] : وإذا دفع إليه ثوبا ليبيعه، فلبسه الوكيل، أو دفع إليه دابة ليبيعها، فركبها. صار ضامنا بذلك، وهل تبطل وكالته؟ فيه وجهان:
أحدهما: تبطل وكالته، فلا يصح بيعه؛ لأنه عقد أمانة، فبطل بالخيانة كالوديعة.
والثاني: لا تبطل وكالته، فيصح بيعه؛ لأن الوكالة تضمنت الأمانة والتصرف، فإذا بطلت الأمانة بالخيانة.. بقي التصرف، كالرهن يقتضي الوثيقة والأمانة، فإذا تعدى في الرهن. بطلت الأمانة، وبقيت الوثيقة، وتخالف الوديعة، فإنها مجرد أمانة لا غير.
فإذا قلنا بهذا، وباع الوكيل.. فمتى يبرأ من الضمان؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - ويقول عامة أصحابنا -: أنه لا يبرأ إلا بتسليم المبيع إلى المشتري.. لأنه لو تلف في يده قبل التسليم إلى المشتري، لانفسخ البيع وعاد إلى ملك الموكل، فكان مضمونا عليه.
والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب -: أن بنفس البيع يزول عنه الضمان؛ لأنه صار ملكا للمشتري، فإذا قبض الثمن.. صار أمانة في يده؛ لأنه قبضه بإذن الموكل. ولم يوجد منه التعدي فيه.
فإن وجد المشتري بالبيع عيبا، فرده على الوكيل.. قال ابن الصباغ: فعندي أنه يعود مضمونا عليه؛ لأن المشتري ما قبضه للموكل، وإنما قبضه لنفسه، فزال الضمان بذلك، فإذا فسخ العقد.. انفسخ القبض، وعاد الضمان كما كان.

(6/459)


[فرع: ضمان الوكيل بالتعدي]
] فإن دفع إليه دراهم، ووكله ليشتري له بعينها سلعة، فتعدى الوكيل فيها.. صار ضامنا لها، فإن اشتراها بها بعد ذلك للموكل.. فهل يصح؟ على الوجهين في المسألة قبلها، فإذا قلنا: يصح.. فمتى يزول عنه ضمانها؟ على الوجهين.
وإن أمره يشتري بثمن في الذمة وينقد الثمن منها، فتعدي الوكيل فيها بأن ترك حفظها، ثم اشترى بعد ذلك في الذمة للموكل.. صح الشراء له، وجها واحدا؛ لأنه لم يتعد فيما تناوله العقد، فإذا نقد الدراهم.. برئ من ضمانها.
وإن استقرض الوكيل الدراهم، وأتلفها.. بطلت وكالته، وجها واحدا؛ لأنه إن كان قد أمره أن يشتري بعينه.. فقد تعذر ذلك بتلفها، فجرى مجرى من وكل في بيع عبد فمات، وإن كان أمره أن يشتري في الذمة وينقد الثمن منها.. فإنه إنما أمره بالتصرف في تلك الدراهم، فإذا تلتفت.. لم يملك الشراء.

[فرع: تلف الثمن في يد الوكيل من غير تفريط]
] : وإن وكله في بيع سلعة وقبض ثمنها، فباعها، وقبض ثمنها، وتلف في يده من غير تفريط، واستحق المبيع.. رجع المشتري بالعهدة على الموكل دون الوكيل.
وقال أبو حنيفة: (يرجع بالعهدة على الوكيل) .
دليلنا: أن البيع للموكل، فكانت العهدة عليه، كما لو باع بنفسه، ولأن الوكيل نائب في العقد، فلا يرجع بالعهدة عليه، كالولي، والحاكم، وأمين الحاكم.

[مسألة: القول قول الموكل]
] : إذا أدعى رجل على آخر أنه وكله في تصرف، وأنكر الموكل.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الوكالة.

(6/460)


وإن قال: وكلتني أن أبيع لك الجارية، فقال: بل وكلتك أن تبيع لي العبد.. فالقول قول الموكل مع يمينه؛ لأنه لما كان القول قوله في أصل الوكالة.. كان القول قوله في صفتها.
وإن وكل رجلا في بيع عين، فباعها الوكيل بثمن إلى أجل، فقال الموكل: إنما أذنت لك في بيعها بثمن حال، أو ببيع مطلق، فإن صدقه الوكيل والمشتري على ذلك.. حكم ببطلان البيع، فإن كانت العين قائمة.. أخذها الموكل، فإن كانت العين في يد المشتري.. كان له أن يطالب بردها من شاء منهما؛ وإن كانت العين قد تلفت في يد المشتري.. رجع الموكل ببدلها على من شاء منهما؛ لأن الوكيل دفع ما لم يكن له دفعه، والمشتري قبض ما لم يكن له قبضه، فإن رجع على الوكيل.. كان للوكيل أن يرجع على المشتري، وإن رجع على المشتري.. لم يرجع المشتري على الوكيل؛ لأن التلف حصل في يد المشتري، فاستقر الضمان عليه.
وإن كذباه، وقالا: إنما أذنت ببيعها إلى أجل.. فالقول قول الموكل مع يمينه؛ لأنه لما كان القول قوله في أصل الوكالة.. كان القول قوله في صفتها، فإذا حلف، وكانت السلعة قائمة.. أخذها، وإن تلفت في يد المشتري.. رجع بقيمتها على من شاء منهما، فإن رجع على المشتري.. لم يرجع المشتري على الوكيل؛ لأن التلف حصل بيده.
قال ابن الصباغ: إلا أن يكون الوكيل قد قبض منه الثمن، فيرجع به عليه؛ لأنه لم يسلم له المبيع.
وإن رجع على الوكيل. قال ابن الصباغ: لم يرجع الوكيل على المشتري في الحال بشيء؛ لأنه يقر: أنه ظلمه بالرجوع عليه، فإذا حصل الأجل.. كان للوكيل أن يرجع عليه بأقل الأمرين من القيمة، أو الثمن المسمى؛ لأن القيمة إن كانت أقل.. فإن الوكيل يقر له بجميع الثمن، ولا يدعي عليه إلا القيمة، وإن كان الثمن أقل.. لم يرجع على المشتري بأكثر منه؛ لأنه يدعي أن الموكل ظلمه بأخذ الزيادة.

(6/461)


وإن صدقه أحدهما، وكذبه الآخر، فإن أراد الرجوع على المصدق.. رجع عليه بغير يمين، وإن أراد أن يرجع على المكذب.. لم يرجع عليه حتى يحلف، فيرجع عليه، كما هو الحال في تكذيبهما.

[فرع: لا يقبل قول الوكيل على الموكل]
] : وإن اتفقا على الوكالة، واختلفا في التصرف، فادعى الوكيل أنه قد باع العين التي وكل في بيعها، وادعاه المشتري، وقال الموكل: لم تبعها. أو قال الوكيل: قد بعت، وقبضت الثمن، وتلف الثمن في يدي، وادعاه المشتري، وقال الموكل: لم يقبضه.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يقبل قول الوكيل على موكله، بل القول قول الموكل؛ لأن الوكيل يقر بحق موكله، فلم يقبل، كما لو أقر بدين عليه، أو أبرأه من حق.
والثاني: يقبل إقرار الوكيل، وبه قال أبو حنيفة، واختاره القاضي أبو الطيب؛ لأنه يملك البيع والقبض، فقبل إقراره فيه، كما يقبل إقرار أبي البكر بنكاحها، إلا أن أبا حنيفة ناقض في مسألة، وقال: (إذا وكله أن يتزوج له امرأة، فأقر الوكيل: أنه تزوجها له، وادعت المرأة ذلك، وأنكر الموكل. لم يقبل قول الوكيل؛ لأنه يمكنه إقامة البينة على النكاح؛ لأنه لا يعقد حتى يحضر شاهدين) .
فإذا قلنا: يقبل قول الوكيل، فأقر بقبض الثمن من المشتري، وأنه تلف في يده، وحلف الوكيل، ثم خرج المبيع مستحقا، فرجع المشتري على الوكيل بالثمن.. قال أبو العباس: لم يكن للوكيل أن يرجع على موكله؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يستحق الرجوع عليه بقوله ويمينه، فهو كما لو باع شيئا، ثم اختلفا في عيبه، فحلف البائع، فلو وجد به عيبا قديما، فرده به.. فليس للبائع أن يطالبه بأرش العيب الذي حلف على حدوثه في يد المشتري، بل يكون القول قول المشتري.

(6/462)


قال ابن الصباغ: وفي رجوع الوكيل على موكله في هذه نظر؛ لأنه يثبت بيمينه قبضه للثمن وتلفه، فأما الرجوع: فإنما يثبت له بسبب آخر، وهو أنه نائب عنه في البيع وهذا كما نقول في النسب: إنه لا يثبت بشهادة النساء، وإذا أثبتن الولادة في الفراش.. ثبت النسب.

[فرع: اختلاف قول الموكل والوكيل]
] : وإن وكله أن يشتري له عبدا بثمن معين، أو بثمن في الذمة، فاشتراه، ثم قال الوكيل: اشتريته بألف، وصدقه البائع، وقال الموكل: بل اشتريته بخمسمائة. ولا بينة. قال ابن الصباغ: فهي على القولين. ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي إلا: أن القول قول الموكل.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الشراء في الذمة.. فالقول قول الموكل، وإن كان الشراء بعين مال الموكل.. فالقول قول الوكيل؛ لأن الثمن إذا كان في الذمة.. كان الموكل غارما، والقول قول الغارم، وإذا كان الثمن معينا.. فإن الغارم هو الوكيل؛ لأنه يريد المطالبة برد ما زاد على خمسمائة) .
دليلنا: أنه يملك الشراء، فملك الإقرار بكيفيته، كالأب في تزويج ابنته البكر، وما ذكروه من الفرق.. فغير صحيح؛ لأن في الموضعين الغرم على الموكل.

[فرع: ثبوت قول الوكيل مع البينة]
] : إذا وكله أن يشتري له جارية، فاشتراها الوكيل بعشرين، ثم اختلفا، فقال الوكيل: أمرتني أن اشتريها لك بعشرين، وقد اشتريتها لك بذلك. وقال الموكل: بل أمرتك أن تشتريها لي بعشرة، فاشتريتها بعشرين فلا يلزمني الشراء، فإن كان مع الوكيل بينة أنه أذن له بذلك، فأقامها.. حكم له بذلك، ولزم الموكل الثمن، وإن لم يكن مع الوكيل بينة. فالقول قول الموكل مع يمينه: أنه ما أمره أن يشتري له إلا بعشرة؛ لأنهما لو اختلفا في أصل إذنه.. لكان القول قوله، فكذلك إذا اختلفا في صفة إذنه.

(6/463)


فإذا حلف الموكل.. برئ من الابتياع، وتبقى الخصومة بين الوكيل والبائع، فإن كان الوكيل قد اشترى الجارية بعين مال الموكل، وذكر في العقد: أنه يبتاع لموكله بعين ماله.. حكم بفساد البيع؛ لأن الموكل لم يثبت إذنه بذلك، وإن لم يذكر في العقد أنه ابتاع لموكله بعين ماله، إلا أن البائع صدقه على ذلك.. حكم بفساد البيع؛ لما ذكرناه.
وإن كذبه البائع، فقال ما اشتريتها لغيرك بعين ماله، وإنما اشتريتها لنفسك بمالك.. حكم للبائع؛ لأن الظاهر أنه اشترى لنفسه، ويحلف البائع: أنه لا يعلم أنه اشتراها لغيره بمال موكله؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره، فإذا حلف.. مضى البيع، وغرم الوكيل لموكله ما دفع من ماله.
وإن كان الوكيل قد اشترى الجارية بثمن في الذمة، فإن لم يذكر في العقد: أنه يشتريها للموكل.. لزم الشراء على الوكيل؛ لأنه اشترى لغيره في الذمة ما لم يأذن له فيه، وإن ذكر الوكيل في الشراء: أنه يشتريها لموكله، فإن اعترف البائع أنها للموكل.. كان الشراء باطلا، وإن قال البائع: ذكرت أنك تبتاع للموكل في العقد، ولكن ما ابتعتها إلا لنفسك.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح الشراء للوكيل.
والثاني لا يصح وقد مضى ذكرهما. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " وقال المحاملي: إذا اشترى في الذمة، وذكر أنه يشتريها للموكل: فعلى الوجهين، سواء صدقه البائع على ذلك أو كذبه.
فكل موضع قلنا: البيع باطل.. فلا تفريع عليه، وكل موضع قلنا: البيع فيه صحيح.. فإن الجارية تكون ملكا للوكيل، وهل يملكها ظاهرا وباطنا، أو في الظاهر دون الباطن؟ ينظر فيه:
فإن كان الوكيل كاذبا في إذن الموكل له في ابتياعها بعشرين.. فإنه يملكها ظاهرا وباطنا؛ لأن البيع وقع له.

(6/464)


وإن كان الوكيل صادقا في أن الموكل أذن له في ابتياعها بعشرين.. فإن الوكيل يملكها في الظاهر، وفي الباطن هي ملك للموكل، فلا يحل له وطؤها؛ لأنها ملك غيره.
قال المزني، والشافعي: (يستحب في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالموكل، ويقول له: إن كنت أمرته أن يشتريها بعشرين.. فبعه إياها بعشرين، فإذا قبل الوكيل.. حل له وطؤها) . فإن قال الموكل للوكيل: بعتك هذه الجارية بعشرين، أو وليتكها بعشرين، فقال الوكيل: قبلت.. ملكها ظاهرا وباطنا، وإن قال الموكل: إن كنت أمرتك أن تشتريها بعشرين.. فقد بعتكها بعشرين وأو وليتكها بعشرين، فقال الوكيل: قبلت.. فهل يملكها في الباطن؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يملكها بذلك في الباطن؛ لأنه بيع معلق على شرط، فلم يصح، كما قال: إذا جاء رأس الشهر.. فقد بعتكها بعشرين.
قال: والمزني إنما حكى كلام الحاكم لا كلام الموكل.
و [الثاني] : منهم من قال: يصح ويملكها في الباطن بذلك؛ لأنه شرط يقتضيه الإيجاب؛ لأنه لا يصح أن يبيعه إلا إن كان قد أذن له، وكل أمر يعلمان وقوعه.. فلا يضر شرطه، كما لو اتفقا أن هذا الشيء ملكه، فقال: إن كان هذا ملكي.. فقد بعتكه، فيصح.
قال ابن الصباغ: وعندي أن الموكل لا يقال له: قل: قد بعتكها مطلقا؛ لأنه يؤدي إلى تكذيب قوله، والإقرار منه بالملك، فإن لم يفعل الموكل ذلك.. لم يجبر على ذلك؛ لأنه قد ثبتت بيمينه براءته.
فعلى هذا: ما يصح أن يصنع الوكيل بالجارية؟ فيه وجهان.
أحدهما: يملكها ظاهرا وباطنا؛ لأنا قد حكمنا بفسخ العقد في حكم الموكل،

(6/465)


فكانت ملكا للوكيل، كما لو باع رجل جارية من غيره، فأفلس المشتري بالثمن، وحجر عليه، فرجع البائع إلى جاريته.
فعلى هذا: يحل له وطؤها، واستخدامها، وبيعها، وهبتها من غيره.
والثاني: لا يملكها في الباطن، ويكون كمن له على غيره حق، فامتنع من أدائه، ووجد شيئا من ماله من غير جنس حقه؛ لأن الوكيل يقر: أنه لم يملكها.
فعلى هذا: لا يحل له وطؤها، ولا استخدامها، ولا هبتها من غيره، ولكن يباع منها بقدر ما دفع من الثمن، ومن الذي يتولى بيعها؟ فيه وجهان، يأتي ذكرهما إن شاء الله.
فإن كان ثمنها قدر حقه.. أخذه، وإن كان أقل.. كان له أن يستوفي الباقي من مال الموكل، وإن كان أكثر من حقه. أخذ قدر حقه، وأمسك الباقي للموكل في يده إلى أن يدعيه.

[مسألة: تلف العين بيد الوكيل يثبته البينة أو اليمين]
وإن ادعى الوكيل أن العين التي في يده لموكله تلفت من غير تفريط، وأنكر الموكل تلفها، فإن ادعى تلفها بسبب ظاهر.. لم يقبل قوله حتى يقيم البينة على السبب الظاهر؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليه، فإذا أقام البينة على السبب الظاهر، أو ادعى تلفها بسبب خفي.. فالقول قوله مع يمينه: أنها تلفت؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على تلفها. فقبل قوله في ذلك.

[فرع: إنكار الموكل رد العين]
] : وإن ادعى الوكيل أنه رد العين إلى موكله، وأنكر ذلك الموكل، فإن كانت الوكالة بغير جعل.. فالقول قول الوكيل مع يمينه؛ لأنه قبض العين لمنفعة مالكها، فقبل قوله في ردها، كالمودع، وإن كانت الوكالة بجعل، بأن يقول: وكلتك ببيع هذه السلعة، ولك الجعل درهم، فإذا باعها.. استحق الدرهم، فإن اختلفا في رد العين، أو رد

(6/466)


ثمنها إلى الموكل، فادعاه الوكيل، وأنكره الموكل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل قول الوكيل؛ لأنه قبض العين لمنفعة نفسه، فلم يقبل قوله في ردها، كالمرتهن، والمستعير.
الثاني: يقبل قول الوكيل مع يمينه؛ لأنه لا منفعة له في العين، وإنما منفعته بالجعل.

[مسألة: يطلب الإشهاد]
] إذا كان لرجل عند رجل حق، فطالبه به، فقال من عليه الحق: لا أسلمه إليك حتى تشهد على نفسك بالقبض.. فهل له ذلك؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: ينظر في ذلك:
فإن كان من عنده الحق يقبل قوله في الرد، كالوكيل بغير جعل، والمودع أو الوكيل بجعل، والمقارض، والأجير المشترك، إذا قلنا: يقبل قولهم في الرد.. لم يكن له أن يمتنع لأجل الإشهاد؛ لأنه لا ضرر عليهم أن لا يشهد صاحب الحق؛ لأن قولهم مقبول في الرد، فإذا امتنعوا من الرد.. ضمنوا.
وإن كان من عنده الحق لا يقبل قوله في الرد، كالمرتهن، والمستعير، والغاصب أو الوكيل بجعل، والمقارض، والأجير المشترك، إذا قلنا: لا يقبل قولهم في الرد، فإن كان لا بينة لصاحب الحق عليهم.. لم يكن لهم الامتناع لأجل الإشهاد؛ لأنه يمكنه أن يحلف: أنه لا يستحقه عليه، وإن كان لصاحب الحق به بينة.. كان لهم الامتناع من التسليم إلى أن يشهد صاحب الحق بقبضه؛ لأنه لا يؤمن أن يطالبه بحقه بعد أخذه له، يقيم البينة، ولا يقبل قوله في الرد، فيلزمه غرمه.
وقال أبو على بن أبي هريرة: له أن يمتنع من الرد إلى أن يشهد صاحب الحق بقبضه

(6/467)


في جميع هذه المسائل كلها؛ لأن له غرضا في ذلك، وهو سقوط اليمين عنه، وعادة الأمناء التحرز من الأيمان.
قال ابن الصباغ: وهذا لا بأس به عندي إذا كان الإشهاد ممكنا لا يؤدي إلى تأخير الحق فأما إذا أدى إلى تأخير الحق لتعذر الإشهاد.. فعلى التفصيل الذي مضى.
وبالله التوفيق للصواب

(6/468)