البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الوديعة]

(6/469)


كتاب الوديعة الوديعة، مشتقة من السكون، فكأنها ساكنة عند المودع، مستقرة، وقيل: إنها مشتقة من الدعة، فكأنها في دعة عند المودع.
والأصل في الوديعة: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] [النساء:58] .
وقَوْله تَعَالَى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] [آل عمران:75] فدل على: أن للأمانة أصلا في الشرع.
وأما السنة: فما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» ، أي: لا تقابله بخيانة.

(6/471)


وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا.. كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت عنده ودائع بمكة، فلما أراد أن يهاجر.. تركها عند أم أيمن، وخلف عليا ليردها على أهلها» .
وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على جواز الإيداع.

(6/472)


إذا ثبت هذا: فالناس في قبول الودائع على ثلاثة أضرب:
ضرب يعلم من نفسه القدرة على حفظها، ويأمن من نفسه الخيانة فيها، ولا يخاف التلف عليها إن لم يقبلها، فهذا يستحب له قبولها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة:2] . ولا يجب عليه قبولها؛ لأنه لا ضرورة به تدعو إلى ذلك.
وضرب يجب عليه قبولها، وهو أن يأتي رجل بمال ليودعه في مكان عند رجل، وليس هناك من يصلح لحفظها إلا هو، وهو يعلم أنه إن لم يقبل ذلك منه.. هلك المال، فيجب عليه القبول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمة مال المؤمن كحرمة دمه» . فلو خاف على دمه، وقدر على الدفع عنه.. لوجب عليه ذلك، وكذلك ماله، فإن لم يقبلها.. أثم؛ لما ذكرناه، ولا يضمن المال إن تلف؛ لأنه لم يوجد منه تعد، فهو كما لو قدر على الدفع عن نفس غيره، ولم يدفع عنه حتى قتل.
وضرب يكره له القبول، وهو من يعلم من حال نفسه العجز عن حفظ الوديعة، أو لا يأمن من نفسه الخيانة فيها؛ لأنه يغرر بمال غيره، ويعرض نفسه للضمان، فإن قبلها.. لم يجب عليه الضمان إلا بالتعدي.

[مسألة: أهلية المودع]
] : ولا يصح الإيداع إلا من جائز التصرف في المال، فإن أودعه صبي أو سفيه مالا.. لم يجز له قبول ذلك منه؛ لأنه لا يملك حفظ المال بنفسه، فلا يملك أن يملك ذلك غيره، فإن أخذه منه.. ضمنه، ولا يبرأ إلا بتسليمه إلى الناظر في ماله؛ لأن قبضه

(6/473)


كان غير جائز، فكان مضمونا عليه، فإن خاف المودع إن لم يقبل ذلك منه تلف، أو أتلفه الصبي، أو السفيه، فأخذه بِنِيَّةِ أن يسلمه إلى الناظر في أملاكه، فتلف في يد القابض قبل رده إلى الولي من غير تفريط.. فهل يجب عليه الضمان؟ فيه وجهان مأخوذان من القولين في المحرم إذا خلص صيدا من سبع، فهلك في يده.

[مسألة: كفاءة المودع]
ولا يصح الإيداع إلا عند جائز التصرف في المال، فإن أودع صبيا، أو مجنونا.. لم يصح؛ لأنهما ليسا من أهل حفظ الأموال، فإن تلفت الوديعة عندهما من غير تفريط.. لم يجب عليهما الضمان؛ لأنه إذا لم يجب الضمان في هذه الحالة على من صح الإيداع عنده.. فلأن لا يجب على من لم يصح الإيداع عنده أولى.
وإن تلفت الوديعة عندهما بتفريط منهما في حفظها، ولم يباشرا إتلافها.. لم يجب عليهما الضمان؛ لأنهما لم يلزمهما حفظها، فيلزمهما الضمان عند التفريط، وإن أتلفاها بأنفسهما.. فهل يجب عليهما الضمان؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليهما الضمان؛ لأن مالكها مكنهما من إتلافها، فهو كما لو باعهما مالا، أو أقرضهما وأقبضهما إياه، فأتلفاه.
والثاني: يجب عليهما الضمان؛ لأنه لم يسلطهما على الإتلاف، وإنما أمرهما بالحفظ.

[فرع: أودع عند عبد غيره]
] : وإن أودع ماله عند عبد غيره.. قال الشيخ أبو حامد: صح الإيداع؛ لأنه مكلف، فإن فرط في حفظه حتى تلف، أو أتلفه العبد.. وجب عليه الضمان.

(6/474)


فإن قلنا: إن الصبي إذا أتلف ما أودع عنده ضمنه.. كان الضمان هاهنا في رقبة العبد.
وإن قلنا هناك: لا ضمان على الصبي.. كان الضمان هاهنا في ذمة العبد إلى أن يعتق.
قال الطبري: وإن أودعه العبد شيئا، فقبضه.. فعلى من يرده المودع؟ فيه وجهان، حكاهما سهل:
أحدهما: أنه بالخيار: إن شاء.. رده على العبد، وإن شاء.. رده على سيده.
والثاني - وهو مذهب أبي حنيفة -: أنه يرده على العبد دون السيد.

[مسألة: صيغة عقد الوديعة]
] : ولا تنعقد الوديعة إلا بالإيجاب بالقول، والقبول بالقول أو الفعل، كما قلنا في الوكالة.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 441] : ولا يلزم المودع حفظ الوديعة حتى يقبضها، والوديعة من العقود الجائزة، لكل واحد منهما أن يفسخها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أد الأمانة إلى من ائتمنك» ، ولأن (أد) : ملكها لصاحبها، والمودع متطوع بالحفظ، فكان لكل واحد منهما فسخها متى شاء، فإن مات أحدهما، أو أغمي عليه، أو جن، أو حجر عليه لسفه.. انفسخت الوديعة؛ لأنها عقد جائز، فانفسخت بما ذكرناه، كالوكالة. فإن حدث ذلك بالمالك.. فعلى المودع رد الوديعة إلى الوارث، أو إلى الولي، فإن أمسكها بعد تمكنه من الرد.. ضمنها؛ لأنا قد حكمنا بانفساخ الوديعة، وإن حدث ذلك للمودع.. فعلى وارثه أو وليه رد الوديعة؛ لأن مالكها لم يرض بأمانة غير المودع.

(6/475)


[مسألة: يد المودع يد أمانة]
] : والوديعة أمانة في يد المودع، فإن تلفت في يده بغير تفريط منه.. لم يجب عليه الضمان؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على المستودع - غير المغل - ضمان» وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، ولا مخالف لهم من الصحابة، ولأنه لو وجب على المودع الضمان من غير تفريط.. لامتنع الناس من قبولها، فيؤدي ذلك إلى الضرر بالمودعين.
فإن شرط المودع الضمان على المودع.. لم يجب عليه الضمان بذلك، وهو قول كافة العلماء، إلا عبيد الله بن الحسن العنبري، فإنه قال: عليه الضمان. وهذا

(6/476)


غير صحيح؛ لما ذكرناه من الخبر، فلم يفرق بين أن يشترط الضمان، أو لا يشترط، ولأن ما كان أصله الأمانة.. لم يصر مضمونا بالشرط، كالمضمون لا يصير أمانة بالشرط.
وإن أودعه جارية، أو بهيمة، فولدت عنده.. كان الولد أمانة؛ لأنه لم يوجد منه ما يقتضي الضمان، وهل يلزم المودع إعلام المالك بالولد؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه ذلك، كما لو ألقت الريح إلى بيته ثوبا.
والثاني: لا يلزمه ذلك، بل له إمساكه؛ لأنه لما أودعه الأم.. كان إيداعا لها ولما يحدث منها.

[مسألة: في الحرز]
] : وإذا أودعه وديعة.. فلا يخلو: أما أن يطلق المودع الحرز، أو يعين له الحرز. فإن أطلق المودع الحرز.. فعلى المودع أن يحفظها في حرز مثلها، كداره ودكانه؛ لأن الإطلاق يقتضي حرز المثل، فإن تركها المودع في بيت، ثم نقلها منه إلى ما هو أحرز منه، أو إلى ما هو دونه، إلا أن الجميع حرز مثلها.. فلا ضمان عليه؛ لأنه تركها في حرز مثلها.
قال الشيخ أبو حامد: وهكذا: لو تركها المودع في جيبه أو كمه، أو أمسكها معه وهو يتطرق في طرقات البلد.. لم يضمن؛ لأن ذلك حرز لها بكون يده عليها.
فإن تركها في حرز دون حرز مثلها.. ضمنها؛ لأن إطلاق الإيداع حرز مثلها، فإذا تركها فيما هو دونه.. صار متعديا، فضمن.
وإن عين له المودع الحرز، بأن قال: أودعتك لتحفظها في هذا البيت فإن حفظها المودع في ذلك البيت، ولم ينقلها منه.. فلا كلام، وإن نقلها المودع منه إلى غيره، أو أحرزها في غيره.. نظرت:

(6/477)


فإن لم ينهه المودع عن النقل، فإذا كان البيت الذي أحرزها فيه ابتداء دون البيت المعين في الحرز.. ضمنها المودع وإن كان حرزا لمثلها؛ لأن المودع لم يرض بما دونه، وإن كان مثله، أو أحرز منه.. لم يضمن؛ لأن من رضي حرزا.. رضي بمثله وبأعلى منه.
وإن قال: احفظها في هذا البيت ولا تنقلها منه، فنقلها عنه.. نظرت: فإن نقلها إلى ما هو دونه.. ضمنها؛ لأنه لم يرض بدون ذلك البيت.
وإن نقلها إلى مثله، أو إلى ما هو أحرز منه، فإن نقلها لغير خوف عليها.. فهل يضمن؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يضمن؛ لأنه نقلها إلى مثل الحرز المعين،، أو إلى ما هو أحرز منه، فهو كما لو لم ينهه عن النقل.
و [الثاني] قال أبو إسحاق: يضمن، وهو ظاهر المذهب؛ لأنه قطع اجتهاده بالتعيين، فخالفه بالنقل.
وإن خاف عليها التلف في الحرز المعين من نهب، أو غزو، أو حريق.. فقد قال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: جاز له نقلها؛ لأنه موضع عذر، فلا يضمن بالنقل، حتى تلفت.. فهل يجب عليه الضمان؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يضمن؛ لأنه ممتثل لأمره فيما فعل.
والثاني: يضمن؛ لأنه غرر بها، حيث ترك نقلها مع الخوف عليها.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": إذا كان النهي عن النقل مطلقا، وخاف عليها.. لزمه نقلها، وجها واحدا، فإن لم ينقلها حتى تلفت.. لزمه الضمان، وإنما الوجهان إذا قال: لا تنقلها وإن خفت عليها الهلاك.

(6/478)


[فرع: مخالفة المودع لمصلحة الوديعة]
وإن أودعه وديعة في صندوق، وقال: لا تقفل عليها، فأقفل عليها، أو لا تقفل عليها قفلين، فاقفل عليها قفلين، أو قال: لا تطرح ثيابك فوق الصندوق، فخالفه في ذلك، أو قال: لا ترقد عليها، فرقد عليها.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المذهب - أنه لا ضمان عليه؛ لأنه زاده خيرا.
والثاني - وهو قول مالك - (أنه يضمن) ؛ لأن ذلك يغري السارق بها.
وإن قال: احفظها في هذا البيت، ولا تدخل غيرك إليها، فأدخل جماعة إليها، فإن سرقها واحد من الذين أدخلهم عليها، أو دلوا عليها من سرقها.. وجب على المودع الضمان؛ لأن تلفها حصل بالوجه المنهي عنه، وإن تلفت بسبب من غير الداخلين عليها، بأن انهدم عليها البيت، أو سرقها غيرهم، ولم يدل عليها أحد منهم.. لم يجب على المودع الضمان؛ لأن تلفها لم يحصل من الوجه المنهي عنه.

[فرع: مخالفة الحرز المعين إلى غيره]
] : إذا دفع إليه وديعة، وهو في البيت، وقال: أحرزها في هذا البيت، ولا تجمع بها، فربطها في ثوبه، وخرج بها ... ضمن؛ لأنه نقلها عن الحرز المعين إلى ما هو دونه؛ لأن البيت أحرز من حملها في الطرقات بالثوب، وإن شدها على عضده وخرج بها، فإن جعلها مما يلي أضلاعه.. لم يضمنها؛ لأن ذلك أحرز من البيت، وإن جعلها خارج عضده.. ضمنها؛ لأن البيت أحرز من ذلك.
وإن دفع إليه وديعة في السوق، وقال: أحرزها في البيت، ولا تربطها في ثيابك.. قال الشافعي: (فإنه لا بد له من ربطها في ثيابه إلى أن يوصلها إلى البيت، فإن حملها في الحال إلى البيت.. لم يضمن، فإن تلفت في الطريق، أو على باب

(6/479)


الدار، أو تعوق لتعسر الغلق.. لم يضمن؛ لأنه غير مفرط، وإن توانى في حملها إلى بيته.. ضمن؛ لأنه تعدى بذلك) .
قال الشيخ أبو حامد: فإن تركها في دكانه - وهو حرز مثلها - إلى أن يرجع إلى داره بالعشي، أو أكثر.. لم يضمن؛ لأنه مثل البيت في الحرز.

[مسألة: وضع الوديعة في غير حرز]
] : وإن أودعه شيئا، فتركه المودع في يده، أو ربطه في كمه، أو تركه في جيبه وكان مزرّرا، أو كان الفتح ضيقا.. لم يضمن؛ لأن ذلك كله حرز لما ترك فيه، وإن وضعه في كمه من غير ربط، فإن كان هذا الشيء خفيفا لا يحس به إذا سقط، كالدرهم، والدينار.. ضمن؛ لأن ذلك ليس بحرز له، وإن كان ثقيلا يحس به إذا سقط، كالثوب، وما أشبهه.. لم يضمن؛ لأن ذلك حرز له. وإن تركه في جيبه والفتح واسع غير مزرر.. ضمنه؛ لأن اليد تناله.

[فرع: شرط عليه وضع الوديعة في كمه]
] : وإن دفع إليه وديعة، وقال: اربطها في كمك، فتركها في يده.. فقد روى المزني: (أنه لا يضمن) .
وقال في " الأم ": (إذا قال: أحرزها في كمك، فأحرزها في يده.. ضمنها، فإن غولب عليها، فأخذت من يده.. لم يضمن) .
قال الشيخ أبو حامد: والربط هاهنا: عبارة عن الجعل.
واختلف أصحابنا فيها على ثلاثة طرق:
فـ[الأول] : منهم من قال: فيه قولان:

(6/480)


أحدهما: لا يضمن؛ لأن اليد أحرز من الكم؛ لأن الطرار يمكنه أن يبط الكم، ولا يمكنه ذلك في الكف.
والثاني: يضمن، لأن الكم أحرز من اليد؛ لأنه قد يسهو فيرسل يده، فيسقط ما كان بها، وإذا ترك شيئا في الكم.. فإذا سقط.. أحس به.
و [الطريق الثاني] : قال أبو إسحاق: ليست على قولين، بل هي على حالين:
فحيث قال: (لا يضمن) أراد: إذا ربطها في الكم، وقبض عليها بيده لأنه زاده خيرا.
وحيث قال: (يضمن) أراد: إذا تركها في يده من غير أن يربطها في الكم؛ لأن الكم أحرز.
وقال الشيخ أبو حامد: هي على حالين آخرين:
فحيث قال: (لا يضمن) أراد: إذا خاف عليها في كمه الاستلاب، فتركها في يده.
وحيث قال: (يضمن) أراد: إذا تركها في يده من غير خوف.
و [الطريق الثالث] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 443) ] : إن كان تلفها بانتزاع الغاصب من يده.. لم يضمن؛ لأن الكف أحرز في هذه الحالة، وإن كان التلف بأن نام، أو غفل، فأرسل كفه فسقطت ضمن؛ لأن الربط في الكم أحرز في هذه الحالة.
وإن أودعه وديعة، وقال: أمسكها في يدك، فربطها في كمه.. فعلى الطريقة الأولى: يكون هاهنا على قولين، وعلى الطريقين الآخرين: الكم أحرز هاهنا.

(6/481)


وإن أمره أن يتركها في كمه، فتركها في جيبه.. لم يضمن؛ لأنه أحرز من الكم، وإن أمره أن يتركها في جيبه، فتركها في كمه.. ضمن؛ لأن الكم دون الجيب في الحرز.

[فرع: أودعه خاتما ليضعه في خنصره]
] : وإن أودعه خاتما، وقال: البسها في خنصرك، فلبسها في البنصر، واتسع الخاتم للبنصر.. لم يضمن؛ لأن الخاتم فيها أحفظ، وإن لم يتسع الخاتم للبنصر، فانكسر.. ضمنها؛ لأنه تعدى بذلك، وإن قال: البسها في البنصر، فلبسها في الخنصر.. ضمنها؛ لأن الخنصر أدق.

[مسألة: أودعه وديعة في السفر]
] : وإن أودعه وديعة في السفر.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 441] فللمودع أن يسافر بها؛ لأن الإيداع في السفر يقتضي السفر بها.
وإن أودع حاضرا، وأراد المودع السفر، فإن وجد المالك، أو وكيله المطلق أو المقيد بقبض ودائعه.. ردها إليه؛ لأن الوديعة عقد جائز، فكان له فسخها متى شاء، وإن لم يكن المودع ولا وكيله في البلد، أو كان في البلد، إلا أنه لا يقدر على الوصول إليه، بأن كان محبوسا، وهناك حاكم.. دفعها المودع إليه، كما لو أرادت المرأة أن تتزوج ووليها غائب، فإذا لم يكن حاكم في البلد.. دفعها إلى أمين؛ لما روي) «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت عنده ودائع بمكة، فلما أراد الهجرة.. أودعها أم أيمن، وخلف عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليردها» . فإن دفعها إلى الحاكم، أو الأمين مع قدرته على المالك، أو وكيله.. ضمنها، كما لو زوج الحاكم المرأة مع وجود وليها، وفيه وجه آخر: أنه لا يضمن إذا دفعها إلى الحاكم؛ لأن الحاكم يقوم مقام المالك، ويده كيده. وليس بشيء.
فإن دفعها إلى أمين مع وجود الحاكم.. فقد قال الشافعي: (فإذا سافر بها، فأودعها أمينا يودعه ماله.. لم يضمن) . واختلف أصحابنا فيه:

(6/482)


فقال أبو إسحاق: لا يضمن؛ لأن الشافعي لم يفرق. وبه قال مالك؛ وأبو حنيفة، واختاره الشيخ أبو حامد؛ لأنه أودعها أمينا لعذر السفر، فهو كما لو كان الحاكم معدوما في البلد.
وقال أبو سعيد الإصطخري، وأبو علي بن خيران: يجب عليه الضمان؛ لأن الشافعي قال في (الرهن) : (وإذا وضع الرهن على يدي عدل، ثم غاب المتراهنان، أو أحدهما، وأراد العدل السفر.. دفعه إلى الحاكم) . فدل على: أن الدفع إلى غيره لا يجوز، ولأن أمانة الحاكم مقطوع بها، وأمانة الأمين مجتهد فيها، فلم يجز ترك المقطوع به إلى المجتهد فيه، كما لا يجوز ترك النص إلى القياس.
ومن قال بالأول.. حمل نص الشافعي في (الرهن) إذا تشاح المتراهنان في العدل.. فإنهما يرفعانه إلى الحاكم ليضعه عند عدل.
وإن خالف، وسافر بها، فإن لم يكن به ضرورة إلى السفر.. ضمنها، سواء كان السفر طويلا أو قصيرا، وسواء كان الطريق آمنا أو مخوفا.
وقال أبو حنيفة: (إذا كان الطريق آمنا: لم يضمن، إلا أن يكون قد نهاه عن السفر) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لأنه يكون كنقل الوديعة من محلة في البلد إلى محلة فيها. وهذا غلط؛ لأن أمن السفر غير موثوق به، فقد يحدث الخوف في الطريق، بخلاف محال البلد.
وإن دعته إلى السفر ضرورة بأن هجم على البلد فتنة، أو حريق، أو غرق، ولم يجد من يأمن عليها من ذلك عنده.. قال الشيخ أبو حامد: فله أن يسافر بها، ولا يضمن وإن كان الطريق مخوفا؛ لأن هذا موضع ضرورة؛ لأنه لا يتمكن من شيء غير ذلك.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " [1/363] : إذا أراد السفر ولم يجد

(6/483)


المالك، ولا وكيله، ولا الحاكم، ولا الأمين.. لزمه أن يسافر بها؛ لأن السفر في هذه الحال أحوط.. ولعله أراد: إذا خاف في البلد، كما قال الشيخ أبو حامد.

[فرع: نقل الوديعة]
] : وإن أودع وديعة وهو في قرية، فانتقل منها إلى قرية أخرى، ونقل الوديعة معه، فإن اتصل بناء إحدى القريتين بالأخرى.. نظرت:
فإن كانت القرية الثانية مثل الأولى في الأمن، أو أعلى منها.. لم يضمن، كما لو نقل الوديعة من بيت في دار إلى بيت فيه مثله.
وإن كانت الثانية دون الأولى في الأمن.. ضمنها؛ لأن الظاهر ممن أودع غيره وهو في قرية أو محلة، أنه رضي بها حرزا دون غيرها.
وإن كانت القريتان منفصلتين، فإن كان الطريق بينهما مخوفا، أو الثانية دون الأولى في الأمن.. ضمنها المودع؛ لأنه غرر بالوديعة، وإن كان الطريق آمنا، والثانية كالأولى في الأمن. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمن، كما لو نقل الوديعة من دار في البلد إلى دار أخرى فيه.
والثاني: يضمن، وهو المذهب؛ لأن أمن السفر غير موثوق به.

[فرع: دفن الوديعة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن دفن الوديعة في منزله، ولم يعلم بها أحدا يأتمنه على ماله، ثم سافر، فهلكت.. ضمن) . وهذا كما قال: إذا أراد السفر، فدفن الوديعة، فإن دفنها في برية.. ضمنها؛ لأنه عرضها للهلاك؛ لأن ما في البرية غير محفوظ، وإن دفنها في منزله، فإن لم يعلم بالوديعة أحدا.. ضمنها؛ لأنه غرر بها؛ لأنه لا يؤمن أن يموت، فتضيع الوديعة، وربما حدث في الموضع حريق، أو غرق، فتلهك الوديعة بذلك، وإن أعلم بها غيره.. نظرت:
فإن أعلم بها فاسقا.. ضمنها؛ لأنه زاد في التغرير بها.

(6/484)


وإن أعلم بها أمينا، فإن كان غير ساكن في تلك الدار.. ضمنها؛ لأنه لم يودعه، إذا لم يقبضه إياها، وإن كان ساكنا في تلك الدار، ولم يقدر على المالك، أو وكيله، أو الحاكم.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمن؛ لأن الشافعي قال: (إن لم يعلم بها أحدا.. ضمن) . فدل على: أنه إذا أعلم أمينا.. لم يضمن، ولأنه يجوز له إيداعها عند أمين في هذه الحالة، وهذا إيداع.
والثاني: يضمن؛ لأن هذا إعلام، وليس بإيداع؛ لأن الإيداع هو: أن يسلمها إليه، فتصير مقبوضة، وهذا لم يقبضه إياها.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا ضعيف؛ لأنه إن كان ساكنا في الموضع، وأعلمه بالوديعة.. فقد أودعه إياها.

[فرع: ترك الوديعة في بيت المال]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (إذا سافر المودع، فترك الوديعة في بيت المال.. ضمن) . واختلف أصحابنا في تأويلها:
فمنهم من قال: أراد: إذا كان قادرا على المالك، أو وكيله؛ لأنه لا يجوز له إيداعها مع وجود أحدهما.
ومنهم من قال: أراد: إذا لم يقدر على المالك، ولا وكيله، ولم يودعها عند الإمام، ولكن وضعها في بيت المال، فيضمن؛ لأنه ما أودعها عند أحد.
وأيهما أراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.. فهو صحيح في الفقه.

[مسألة: مرض المودع كالسفر]
] : وإن كانت عنده وديعة، فمرض مرضا خاف على نفسه منه.. فهو كما لو أراد السفر؛ لأنه لا يمكنه حفظ الوديعة بنفسه مع الموت، فيجب عليه ردها إلى المالك، أو وكيله إن وجدهما، فإن كانا غائبين.. فعليه أن يظهر الوديعة، وهو أن يشهد

(6/485)


عليها، أو يسلمها إلى الحاكم، أو إلى الأمين، فإن سلمها إلى الحاكم مع وجود المالك، أو وكيله.. ضمنها؛ لأنه لا ولاية له عليه.
ومن أصحابنا من قال: لا يضمن؛ لأن الحاكم يقوم مقامه، ويده كيده.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا ضعيف، فإن لم يشهد على الوديعة، ولم يوص بها ومات.. ضمنها؛ لأنه غرر بها؛ لأن الظاهر مما في يده أنه ملكه.
وإن مات، فوجد بخطه أن الكيس الفلاني لفلان، أو وجد على الكيس اسم رجل.. لم يحكم له به؛ لأنه قد يودعه غيره شيئا، ثم يتملكه، أو يشتري كيسا عليه اسم رجل.
وإن ادعى رجل أن هذه العين وديعة لي أودعتها الميت، وأقام على ذلك شاهدين.. قال الشيخ أبو حامد: حلف معهما، وحكم له بالوديعة.
وإن قال: عندي لفلان وديعة، ووصفها بصفة، أو قامت بينة بذلك، أو أقر الورثة بذلك، فمات ولم توجد تلك الوديعة.. فقد قال الشافعي: (ضمنت في مال الميت، ويحاص بها الغرماء) . واختلف أصحابنا فيها على ثلاثة أوجه:
فـ[الأول] : قال أبو إسحاق: أراد: إذا قال ذلك عند الوفاة، وقرب الموت؛ لأن الظاهر أنه أتلفها، فيكون قوله: عندي، عبارة عن قوله: علي، فأما إذا قال في صحته: أودعني فلان وديعة، ووصفها، ومات ولم توجد.. لم يجب عليه الضمان؛ لجواز أن تكون تلفت بعد ذلك بغير تفريط، ففرق بين طول المدة، وقصرها.
و [الوجه الثاني] : منهم من قال: إن مات، ووجد في ماله من جنس تلك الوديعة، واشتبه ماله بالوديعة.. فعليه الضمان؛ لأنه فرط، إذ لم يبينها بيانا يزول به الإشكال، وإن لم يكن في ماله من جنس الوديعة.. لم يجب عليه الضمان؛ لجواز أن تكون قد تلفت من غير تفريط.

(6/486)


و [الوجه الثالث] : منهم من قال: لا يجب عليه الضمان، وهو المذهب؛ لأن الأصل براءة ذمته من الضمان، وحمل النص عليه إن عرف أن عنده وديعة ببينة، أو إقرار الورثة، ومات ولم يوص بها.

[مسألة: إيداع الوديعة عند آخر]
] : إذا أودع الوديعة عند غيره من غير ضرورة.. ضمنها، سواء أودعها الحاكم، أو زوجته، أو غلامه.
وحكى ابن الصباغ وجها آخر: أنه إذا أودعها الحاكم مع غيبة المالك، أو وكيله من غير ضرورة.. لم يضمن.
وقال أبو العباس: إنما يضمنها إذا سلمها إلى الذي أودعها إياه لينفرد بتدبيرها، فأما إذا استعان به في سلتها، أو في إغلاق الباب، أو في فتحه، أو في الإتيان بها إليه، بحيث لا تغيب عن نظر المودع.. فلا ضمان عليه، وهذا كما نقول فيمن أودع بهيمة.. فليس عليه أن يعلفها ويسقيها بنفسه، بل إذا تقدم بذلك إلى خادمه، أو سائسه.. جاز، ولا يضمن. هذا مذهبنا.
وقال مالك: (إن أودعها زوجته.. لم يضمن، وإن أودعها غيرها، من عبده، أو غيره.. ضمنها) .
وقال أبو حنيفة: (إن أودعها من يعوله، وينفق عليه، مثل زوجته، أو خادمه أو امرأة في داره يعولها.. فلا ضمان عليه) .
ودليلنا: أنه أودع الوديعة من لم يأتمنه المودع، فضمنها، كما لو أودعها أجنبيا.
فإن هلكت الوديعة عند المودع الثاني من غير تفريط منه.. فللمالك أن يضمن إن شاء منهما؛ لأنهما متعديان؛ فإن ضمنها للمودع الثاني.. نظرت في الثاني:

(6/487)


فإن علم الحال.. لم يرجع بما ضمنه على الأول؛ لأنه رضي بوجوب الضمان على نفسه.
وإن لم يعلم.. فهل له أن يرجع على الأول؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع؛ لأنها هلكت عنده، فاستقر الضمان عليه.
والثاني: يرجع عليه؛ لأنه غره، ولم يدخل معه ليضمن، وإنما دخل معه على أنها أمانة.
وإن رجع المالك على المودع الأول، فإن كان الثاني قد علم أنها وديعة أودعت عنده من غير ضرورة. رجع الأول عليه؛ لأن الثاني رضي بوجوب الضمان عليه، وقد وجد الهلاك في يده، فاستقر الضمان عليه، وإن لم يعلم بالحال.. فهل للأول أن يرجع عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع عليه؛ لأن الهلاك كان في يده.
والثاني: لا يرجع عليه؛ لأنه لم يدخل معه على أن يكون ضامنا.

[مسألة: خلط مال الوديعة بماله]
] : إذا أودعه دراهم، فخلطها مع دنانير.. قال الشافعي: (لا يضمن؛ لأنهما لا يختلطان، إلا أن ينصح الدراهم، فيلزمه أرش النقص، كما لو أخذ جزءا من الدراهم، فيلزمه ضمان ما أخذ دون الباقي) .
وإن خلطها بدراهم له، أو أودعه شيئا من ذوات الأمثال، فخلطه بمثله من ماله.. لزمه الضمان، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا يلزمه الضمان؛ لأنه خلطه بمثله) . وهذا غلط؛ لأنه خلطه بما لا يتميز عنه من ماله بغير إذن المالك، فلزمه الضمان، كما لو خلطها بأردأ منها.

(6/488)


وإن خلطها بمثلها من مال المودع.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمن؛ لأن الجميع له.
والثاني: يضمن؛ لأنه لم يرض باختلاطهما.

[فرع: أعطاه دراهم ليحفظها في محفظته]
] : وإن قال: أودعتك هذه الدراهم لتحفظها في خريطتك هذه، فنقلها المودع إلى خريطة غيرها، فإن كانت الثانية دون الأولى في الحرز.. ضمنها، وإن كانت مثلها، أو أحرز منها.. لم يضمن، كما قلنا في البيت، وإن أودعه دراهم في خريطة للمودع، فنقلها المودع إلى خريطة أخرى، فإن كانت الخريطة مختومة، أو مشدودة، فحل ختمها، أو حل شدها.. ضمنها؛ لأنه تعدى بحل الختم والشد، وإن كانت غير مختومة، ولا مشدودة. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\442 - 443] :
أحدهما: يضمن، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنه ليس له تفتيش الوديعة من غير حاجة، فصار كما لو نقض الختم.
والثاني: لا يضمن؛ لأنه أودعه خريطة دراهم، فكان له أن يحفظ كل واحد منهما في بيت، كما لو أودعه خريطتين.

[فرع: أودعه دراهم في كيس]
] : وإن أودعه عشرة دراهم في كيس مشدود، أو مختوم، فحل الختم أو الشد، أو خرق موضعا من الكيس تحت الشد.. ضمن الكيس وما فيه وإن لم يأخذ منه شيئا؛ لأنه قد تعدى بهتك الحرز، وإن خرق ما فوق الشد من الكيس.. لم يلزمه الضمان في الدراهم؛ لأن حرزها ما تحت الشد، ولكن يلزمه ضمان أرش الكيس بالخرق.

(6/489)


وإن أودعه الدراهم في شيء مكشوف، فأخذ المودع منها درهما من غير أن يحصل منه تعد في الباقي.. فإنه يضمن الدراهم؛ لأنه تعدى بأخذه، فإن لم ينفقه، بل رده بعينه على الدراهم، فإن كان ذلك الدرهم متميزا عن باقي الدراهم.. لزمه ضمانه، ولا يلزمه ضمان الباقي؛ لأنه إنما تعدى به دون غيره، وإن كان غير متميز عن باقي الدراهم.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يضمن إلا ذلك الدرهم) ؛ لأنه لم يوجد منه فعل فيما عداه.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\443] : فعلى هذا: يضمن عشر الدراهم.
والثاني ـ وهو قول الربيع ـ: أنه يضمن الجميع؛ لأنه خلط المضمون بغيره، ولم يتميز، فضمن الجميع.
وإن أنفق الدرهم، ورد بدله إلى الدراهم، فإن كان المردود متميزا عن الباقي.. لم يضمن باقي الدراهم؛ لأنه لم يتعد بها، وإن لم يتميز المخلوط عن باقي الدراهم.. ضمن جميع الدراهم، خلافا لمالك، وقد مضى.
ودليلنا: أنه خلط ماله بمال المودع، ولم يتميزا، فضمنه.

[مسألة: النفقة على البهيمة المودعة]
] : إذا أودعه بهيمة، أو غيرها من الحيوان.. ففيها ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يأمره بعلفها وسقيها، فيجب على المودع أن يعلفها ويسقيها؛ لأن للبهيمة حرمتين: حرمة بنفسها، بدليل: أن من ملك بهيمة.. يجب عليه علفها وسقيها، وحرمة لمالكها، وقد اجتمعتا. فإذا علفها وسقاها.. رجع على المالك بما أنفق عليها؛ لأنه أخرجها بإذنه، فإن اختلفا في قدر النفقة، فإن ادعى المودع أنه أنفق أكثر من قدر النفقة بالمعروف.. لم يرجع بالزيادة؛ لأنه متطوع به. وإن ادعى المودع النفقة بالمعروف، وادعى المالك أنه أنفق دون ذلك.. فالقول قول المودع مع يمينه؛ لأنه أمين، فقبل قوله في ذلك مع يمينه. وإن اختلفا في قدر المدة التي أنفق فيها..

(6/490)


فالقول قول المالك مع يمينه في قدرها؛ لأن المودع يمكنه إقامة البينة عليها.
المسألة الثانية: أن يودعه إياها، ولم يأمره بالعلف والسقي، ولا نهاه عن ذلك، فيلزم المودع أن يعلفها ويسقيها.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه ذلك) .
دليلنا: أن للبهيمة المودعة حرمة لمالكها، وحرمة بنفسها، بدليل ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اطلعت على النار ليلة عرج بي إلى السماء، فرأيت امرأة تعذب، فقلت: ما بالها؟ فقيل: إنها ربطت هرة لها، فلم تطعمها، ولم تسقها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، فهي تعذب لأجل ذلك» . فإذا سكت المودع.. لم يسقط بذلك حق البهيمة.
إذا ثبت هذا: فإن المودع يرفع الأمر إلى الحاكم، ثم ينظر الحاكم الحظ لصاحبها، فإن أراد أن يبيعها كلها، ويحفظ ثمنها لصاحبها.. فعل، وإن أراد أن يبيع جزءا منها للإنفاق على باقيها، أو يؤجرها وينفق الأجرة عليها.. فعل، وإن رأى أن يقترض على المالك من المودع، أو من غيره.. فعل، فإن اقترض من غير المودع، وأمر المودع بإنفاق ذلك.. جاز، وإن اقترض من المودع، فقبضه منه، ثم رده إليه، وأمره بإنفاق ذلك.. جاز، وإن أمره بالإنفاق عليها قرضا على المالك.. فهل يجوز ذلك؟ فيه وجهان، بناء على القولين في نفقة الحمال في الإجارة، فإذا قلنا: يجوز.. فهل يقدر له الحاكم قدر النفقة، أو يكله إلى اجتهاده؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ.
وإن أنفق عليها المودع من غير إذن الحاكم، فإن كان قادرا على الحاكم.. لم يرجع بما أنفق؛ لأنه متطوع، وإن لم يقدر على الحاكم، فإن لم ينو الرجوع، ولم يشهد.. لم يرجع؛ لأن الظاهر أنه متطوع، وإن أشهد على الإنفاق ليرجع ـ قال ابن

(6/491)


الصباغ: أو نوى الرجوع ـ فهل له أن يرجع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع؛ لأنه موضع ضرورة.
والثاني: لا يرجع؛ لأنه لا ولاية له عليه.
ولعل ابن الصباغ أقام نية الرجوع مقام الإشهاد عند تعذر الإشهاد.
قال أبو إسحاق المروزي: فإذا قلنا: له أن يرجع بما أنفق بنفسه.. فله أن يبيع البهيمة ويحفظ ثمنها لمالكها، أو يبيع جزءا منها، أو يؤجرها مما يرى المصلحة في ذلك؛ لأنا قد أقمناه مقام الحاكم في ذلك.
فإن اختلفا في قدر النفقة، أو في قدر المدة.. فالحكم فيها كالحكم في المسألة قبلها، فإن ترك المودع النفقة على البهيمة في هاتين المسألتين حتى تلفت.. نظرت:
فإن ترك علفها وسقيها مدة الغالب أن البهيمة تموت فيها من عدم العلف والسقي.. وجب عليه ضمانها؛ لأن الظاهر أنها ماتت من الجوع والعطش.
وإن تركها مدة قريبة الغالب أنها لا تموت فيها من ترك العلف والسقي.. لم يجب عليه ضمانها؛ لأن الظاهر أنها لم تمت من منع العلف والسقي فيها.
وإن أودعه بهيمة جائعة، ولم يعلم بها المودع، فأخر علفها وسقيها مدة لا يموت مثلها من منع العلف والسقي، فماتت، ولولا الجوع السابق لم تمت.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق 442] :
أحدهما: يجب عليه الضمان؛ لأنها ماتت بإجاعته لها، فصار كما لو لم تكن جائعة.
والثاني: لا يجب عليه الضمان؛ لأنها ماتت بالجوع السابق، وتأخيره لا حكم له بانفراده.
المسألة الثالثة: إذا أودعه بهيمة، وقال له: لا تعلفها ولا تسقها.. فلا خلاف على المذهب: أنه يجب عليه علفها وسقيها؛ لأن للبهيمة حرمتين: حرمة مالكها، وحرمة لها بنفسها على ما مضى، فإذا أسقط المالك حقه.. بقي حق البهيمة.
فعلى هذا: الحكم في الإنفاق عليها والرجوع حكم المودع إذا لم يأمره ولم ينهه،

(6/492)


فإن ترك المودع علفها وسقيها مدة تموت فيها في الغالب من عدم العلف والسقي.. أثم المودع والمودع؛ لما ذكرناه، وهل يجب على المودع ضمانها؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يلزمه الضمان؛ لأنه منهي عن ترك العلف والسقي لحق الله تعالى، فإذا تركهما، فتلفت بذلك.. لزمه الضمان.
و [الثاني] : قال أبو العباس: لا يلزمه الضمان. وهو الأصح؛ لأن ضمان القيمة يجب للمالك، وقد أذن بما يوجب التلف، فلم تجب له القيمة، كما لو قال: اقتل عبدي، فقتله، أو احبسه عن الطعام والشراب إلى أن يموت، ففعل إلى أن مات.. فلا يجب عليه القيمة.
إذا ثبت ما ذكرناه ـ من وجوب العلف في هذه المسائل ـ: فإن علفها المودع، وسقاها بنفسه في منزله.. فهو النهاية في الاحتفاظ، وإن أمر بذلك خادمه أو غيره.. جاز، ولا ضمان عليه. واختلف أصحابنا في تعليله:
فقال أكثرهم: لأن العادة جرت في علف البهائم وسقيها هكذا.
وقال أبو العباس: لأنه لم يخرجها من يده ونظره، وإنما استعان بغيره، كما قال: إذا استعان بزوجته، أو خادمه على حفظ الوديعة.. فلا ضمان عليه.
وإن علفها، أو سقاها خارج المنزل، فإن كان المنزل ضيقا لا يتمكن من العلف فيه والسقي.. جاز، ولا ضمان عليه؛ لأنه موضع ضرورة، وإن كان يمكنه أن يفعل ذلك في منزله.. قال الشافعي: (فعليه الضمان) . واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: إن كان خارج المنزل آمنا.. فلا ضمان عليه؛ لأن ذلك يجري مجرى منزله، وقد جرت العادة بعلف البهائم والسقي خارج المنزل إذا كان آمنا، وحمل النص عليه إذا كان خارج المنزل مخوفا.
وقال أبو سعيد الإصطخري: يجب عليه الضمان بكل حال؛ لأنه أخرج الوديعة من حرزها لغير عذر، فلزمه الضمان.

(6/493)


قال الشيخ أبو حامد: والمذهب الأول؛ لأن خارج المنزل حرز، كالمنزل، فهو كما لو نقل الوديعة من بيت إلى بيت.

[مسألة: إخراج الوديعة من الحرز بغير إذن المالك]
] : إذا أخرج المودع الوديعة من حرزها بغير إذن مالكها.. نظرت:
فإن أخرجها لمصلحتها، بأن دعت الحاجة إلى تجفيف الثياب في الشمس أو الرياح، أو تقليب الكتب.. لم يضمنها بذلك؛ لأن ذلك واجب عليه.
وإن أخرج الوديعة لينتفع بها.. ضمنها بنفس الإخراج وإن لم ينتفع بها.
وقال أبو حنيفة: (لا يضمنها ما لم ينتفع بها) .
دليلنا: أنه تناول الوديعة لمنفعة نفسه بغير إذن مالكها، فضمنها، كما لو انتفع بها.
وإن نوى أن يخرج الوديعة لينتفع بها، أو نوى أن لا يردها على مالكها.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها ـ هو المذهب ـ: أنه لا يضمنها بذلك؛ لأنه لم يوجد منه فعل فيها على وجه التعدي، فلم يضمنها، كما لو نوى أن يغصب مال غيره.
والثاني ـ ويحكى عن أبي العباس ـ: أنه يضمنها بمجرد النية، كما يضمن اللقطة إذا نوى تملكها.
والثالث ـ حكاه في " المهذب " عن القاضي أبي حامد ـ: إن نوى أن لا يردها.. ضمنها بمجرد النية؛ لأنه صار ممسكا لها على نفسه، وإن نوى أن ينتفع بها.. لم يضمنها بمجرد النية؛ لأنه لا يصير ممسكا لها بذلك على نفسه.
ولا يجوز للمودع أن يقترض الوديعة.
وقال مالك: (يجوز له أن يقترضها؛ لأن كونها في ذمته أحفظ للمالك) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» .

(6/494)


فإن كان عنده وديعة، وخاف عليها التغير، ولم يجد صاحبها ولا وكيله.. فهل يجوز له أن يبيعها ويحفظ ثمنها، أو يقرضها غيره؟ فيه وجهان خراسانيان.

[فرع: زوال الضمان عن المودع]
إذا تعدى المودع في الوديعة.. لزمه ضمانها، ولا يبرأ من الضمان إلا بتسليمها إلى المودع، أو إلى وكيله.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (إذا ردها إلى حرزها.. زال عنه الضمان) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى يؤديه» . ولأنها وديعة مضمونة، فلم يزل عنه الضمان بفعله، كما لو جحد الوديعة، ثم اعترف بها، أو منعها، ثم بذلها.
فإن قال المالك: أودعتكها، من غير أن يقبضها، أو قال: أبرأتك من الضمان.. ففيه وجهان:
أحدهما: يزول عنه الضمان؛ لأن الضمان لحق المالك، وقد أسقط حقه.
والثاني: لا يزول عنه الضمان، وهو المذهب؛ لأن الإبراء إنما يكون من حق في الذمة، ولا حق له في ذمته.

[مسألة: الإكراه على أخذ الوديعة]
] : قال الشافعي: (وإن أكرهه رجل على أخذها.. لم يضمن) . واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة:
فمنهم من قال: صورتها: هو أن يكره رجل المالك على أخذها، فأخذها، فلا يضمنها إذا تلفت؛ لأنه لو تسلمها باختياره لا يضمن، فبأن لا يضمنها إذا أخذها مكرها أولى.

(6/495)


ومنهم من قال: صورتها: أن يكره أجنبي المودع على أخذها منه، وهذا هو الصحيح.
فعلى هذا: ينظر في الذي أكرهه:
فإن كان يقدر على دفعه.. لزمه دفعه عنها، فإذا لم يفعل.. لزمه الضمان؛ لأن معنى قوله: (أودعتكها) أي: استحفظتكها، وعليه أن يحفظها ما أمكنه، فإذا لم يفعل.. لزمه الضمان.
وإن كان الذي أكرهه لا يقدر على دفعه، ويخاف على نفسه منه.. لم يلزمه دفعه، ثم ينظر:
فإن أخذها المكره بنفسه من غير مباشرة من المودع في دفعها.. لم يلزمه الضمان. وإن أكرهه حتى سلمها بيده إليه.. فهل يجب على المودع الضمان؟ فيه قولان، بناء على القولين فيمن أكره، فأكل وهو صائم، أو حلف لا يدخل دارا، فأكره حتى دخلها بنفسه.

[مسألة: رد الوديعة بطلب المالك]
] : وإذا طالب المودع برد الوديعة.. وجب على المودع الرد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] [النساء: 58] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» . فإن أخر ردها من غير عذر ضمنها، وإن أخر ردها لعذر.. لم يضمنها.
قال في " الفروع ": وليس على المودع إيصالها إلى المالك، بل عليه التخلية بينه وبينها لا غير، والأخذ على المالك. وإن طالب المودع المالك بأخذ وديعته.. وجب على المالك أخذها؛ لأن قبول الوديعة ليس بواجب عليه، فكذلك استدامة حفظها.

(6/496)


[مسألة: إنكار الوديعة]
] : وإن ادعى على رجل أنه أودعه وديعة معلومة، فقال المدعى عليه: ما أودعتني، ولا بينة للمدعي.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» . ولأن الأصل عدم الإيداع.

[فرع: الاختلاف في تلف الوديعة وسببه]
] : وإن أمره بحفظ الوديعة في مكان، فنقلها عنه، فتلفت، فقال المودع: نقلتها خشية سيل، أو حريق، أو نهب عسكر، وأنكره المالك.. لم يقبل قول المودع حتى يقيم البينة على وجود ذلك السبب؛ لأنه لا يتعذر عليه إقامة البينة عليه، فإن كان قد صدقه المالك على تلفها.. فلا كلام، وإن ادعى المالك أنها لم تتلف.. فالقول قول المودع مع يمينه: أنها تلفت؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على التلف، فقبل قوله فيه مع اليمين. وإن ادعى المودع أن الوديعة قد تلفت، فأنكر المودع، فإن ادعى تلفها بسبب ظاهر، كالسيل، والعسكر، والنهب، والحريق.. لم يقبل قوله حتى يقيم البينة على وجود ذلك السبب؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليه، فإن شهدت بالسبب وبالتلف.. فلا كلام، وإن شهدت البينة بالسبب الظاهر، ولم تشهد بالتلف.. فالقول قول المودع مع يمينه: أنها تلفت بذلك؛ لأنه يتعذر إقامة البينة على تلفها. وإن ادعى تلفها بسبب غير ظاهر، بأن قال: سرقت، أو ضاعت.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أمين، فقبل قوله مع اليمين. وهذا كما نقول فيمن قال لامرأته: إن ولدت.. فأنت طالق، فادعت أنها ولدت.. لم يقبل قولها من غير بينة، ولو قال: إذا حضت.. فأنت طالق، فادعت أنها حاضت.. قبل قولها مع يمينها؛ لما ذكرناه من الفرق.

(6/497)


[مسألة: إنكار رد الوديعة]
] : وإن ادعى المودع أنه رد الوديعة على المالك، وأنكر المالك، ولا بينة على الرد.. فالقول قول المودع مع يمينه؛ لأنه مؤتمن على حفظ الوديعة لمالكها، ولاحظ للمودع فيها، فقبل قوله في ردها، بخلاف ما لو ادعى المرتهن رد الرهن.. فإنه لا يقبل قوله؛ لأنه قبض الرهن لحظ نفسه وهو الاستيثاق لحقه. وإن قال المودع للمالك: أمرتني بدفع الوديعة إلى فلان، فدفعتها إليه، فقال المالك: أمرتك بدفعها إليه، إلا أنك لم تدفعها إليه.. فلا يقبل قول المودع في الدفع إليه.
وقال أبو حنيفة: (يقبل قوله في الدفع إليه، كما لو ادعى دفعها إلى مالكها) .
دليلنا: أنه ادعى دفع الوديعة إلى من لم يأتمنه عليها، فلم يقبل قوله في الدفع إليه، كالوصي إذا ادعى دفع المال إلى اليتيم.
فإن قال المودع: أحلفوا لي المالك: أنه لا يعلم أني دفعتها إلى الذي أمرني بالدفع إليه.. نظر فيه:
فإن كان قد أمره أن يقضي بالوديعة دينا على المالك، ولم يشهد المودع على الدفع.. لم يلزم المالك أن يحلف، ولزم المودع الضمان، سواء صدقه المالك على الدفع أو لم يصدقه؛ لأنه إنما أمره بدفع يبرئه، وهو لا يبرئه إلا مع الإشهاد، فإذا دفع من غير إشهاد.. لزمه الضمان، وإن كان قد أمره أن يدفع الوديعة إلى الثاني وديعة.. فهل يلزم المالك أن يحلف؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين في أنه هل يلزم الوكيل الإشهاد على الإيداع؟
فإن قلنا: لا يلزمه.. لزم المالك أن يحلف هاهنا.
وإن قلنا: يلزمه الإشهاد.. لم يلزم المالك أن يحلف هاهنا.
وإن أنكر المالك الإذن.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن، ثم ينظر في المدفوع إليه، فإن أنكر القبض.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القبض، ويستقر الضمان على المودع.

(6/498)


وإن أقر المدفوع إليه بالقبض، وكان حاضرا.. نظرت:
فإن كان دفعها وديعة، وكانت باقية في يد الثاني.. أخذها المالك.
وإن كان دفعها عن دين للثاني على المالك.. انتزعت من يد الثاني؛ لأن قول المودع غير مقبول على المالك، وله أن يقضي ما عليه من الدين من أي جهة شاء، وإن كانت تالفة.. فللمالك أن يضمن أيهما شاء؛ لأن كل واحد منهما قد وجد منه التعدي بها، وأيهما رجع عليه.. لم يكن للمرجوع عليه أن يرجع على الآخر بما ضمنه؛ لأنه رجوع على غير من ظلمه. وإن كان الثاني غائبا.. رجع المالك على الأول؛ لأنه لا يجد من يرجع عليه غيره، فإذا رجع الغائب، فإن كانت الوديعة باقية.. أخذها الأول، وردها على المالك، واسترجع ما دفع، وإن كانت تالفة.. فقد استقر عليه الضمان، فلا يرجع على الثاني بشيء؛ لأنه رجوع على غير من ظلمه.

[فرع: تصديق المودع البينة على الوديعة]
] : وإن ادعى عليه أنه أودعه، فقال: ما أودعتني، فأقام المدعي البينة بالإيداع، فقال المودع: صدقت البينة، أودعني، ولكنها تلفت من غير تفريط، أو رددتها.. لم يقبل قوله؛ لأنه صار خائنا، ضامنا، فإن أقام البينة على التلف، أو الرد.. ففيه وجهان:
أحدهما: يزول عنه الضمان، كما لو صدقه المدعي على ذلك.
الثاني: لا يزول عنه الضمان؛ لأنه كذب بينته بإنكاره الإيداع.
وإن قال عند الإنكار: ما لك عندي، أو لا تستحق علي شيئا.. صح الجواب، فإن أقام المدعي بينة على الإيداع، فقال المودع: صدقت البينة، لكنها تلفت، أو رددتها.. قبل قوله مع يمينه، وإن أقام البينة على ذلك.. سمعت، وجها واحدا. والفرق بينهما: أن قوله: ما لك عندي شيء، لا يكذب إنكاره ولا بينته؛ لأنها إذا تلفت بغير تفريط، أو ردها عليه.. فلا شيء له عليه.

(6/499)


[فرع: ادعاء اثنين على آخر وديعة]
] : وإن كانت في يد رجل عين فادعاها عليه رجلان أنها وديعة لهما، وكل واحد منهما ادعى جميعها، ولا بينة لهما.. نظرت:
فإن أنكرهما.. حلف لكل واحد منهما يمينا، وإن أقر بها لأحدهما بعينه.. سلمت إلى المقر له، وهل يجب على المقر أن يحلف للمدعي الثاني؟ فيه وجهان، بناء على من كان بيده دار، فقال: هي لزيد، لا بل هي لعمرو.. فإنها تسلم لزيد، وهل يغرم لعمرو شيئا؟ فيه قولان.
فإن قلنا: لا يغرم لعمرو.. لم يحلف للثاني؛ لأنه لو أقر له.. لم يغرم له شيئا.
وإن قلنا: يلزمه الغرم لعمرو.. لزمه أن يحلف هاهنا للثاني؛ لجواز أن ينكل عن اليمين، فيقر له، فيغرم.
فإذا قلنا بهذا.. نظرت:
فإن حلف للثاني.. انصرف عنه، وله أن يدعي بعينه على المقر له بكل حال، وإن أقر بها المقر للثاني.. لزمه أن يغرم له قيمتها.
وإن نكل المقر عن اليمين للثاني.. ردت اليمين على الثاني، فإن نكل عن اليمين.. انقطع حقه عن المقر، وإن حلف.. قال المحاملي: فإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعي عليه تحل محل البينة.. سلمت العين إلى الثاني. قال: ولكنه ضعيف، فلا تفريع عليه، وإن قلنا: تحل محل الإقرار.. قال أبو العباس: ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: توقف العين لهما، إلى أن يصطلحا عليها؛ لأن حكم الثاني قد قوي بيمينه.
والثاني: تقسم بينهما، كما لو أقر لهما بها دفعة واحدة.

(6/500)


والثالث: تقر العين في يد الأول؛ لأن ملكه قد استقر، ويغرم المقر للثاني القيمة؛ لأنه حال بينه وبين حقه بإقراره الأول.
وإن قال المدعى عليه: هي لكما.. قسمت بينهما نصفين، وكان الحكم في النصف الآخر حكم ما لو أقر بها لأحدهما.
وإن قال: هي لأحدكما، ولا أدري من هو منكما.. قال الشافعي: (قيل لهما: أتدعيان عينا غير هذه العين؟ فإن قالا: لا.. قيل لهما: أتدعيان علمه من المالك منكما؟ فإن قالا: لا.. فلا يمين على المودع؛ لأنهما اعترفا بجهله للمالك) . وماذا يصنع بالعين؟ فيه قولان:
أحدهما: تنقل من المقر إلى عدل ينصبه الحاكم؛ لأنه قد أقر: أنه ليس بمالك لها، وأنها لأحدهما، ولا يمكن دفعها إليهما، ولا إلى أحدهما، ولا تقر في يده؛ لأن مالكها لم يرض بأن تبقى عنده.
والثاني: تبقى في يده أمانة؛ لأنه لا معنى لانتزاعها من هذا العدل، ووضعها عند عدل آخر.
قال الشيخ أبو حامد: قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (قيل لهما: أتدعيان غير هذه العين) لا معنى له؛ لأنه قد عرف ذلك بأصل الدعوى، فإن ادعيا أنه يعلم المالك منهما.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بنفسه. فإن عرضت عليه اليمين، واختار أن يحلف.. حلف لهما يمينا واحدة.
وقال أبو حنيفة: (يحلف لهما يمينين) .
دليلنا: أنه يحلف على جهالته للمالك، فإذا ثبت جهله في أحدهما.. ثبت في حق الآخر، إذ ليس يحلف على نفي ملك بعينه، فإذا حلف لهما.. كان الحكم في العين على قولين، كما لو اعترفا بجهله للمالك، وإن نكل عن اليمين.. ردت اليمين عليهما، فإن حلفا.. ففيه قولان:

(6/501)


أحدهما: توقف العين لهما إلى أن يصطلحا، والثاني: تقسم بينهما.
وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر.. قضي له بها، كما لو أقر له بها. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 442] : إذا حلف: أنه لا يعلم المالك منهما.. برئ، فإن حلفا.. قسمت الوديعة بينهما، وأخذ كل واحد منهما مع نصف الوديعة نصف قيمة الوديعة من المودع؛ لأن كل واحد منهما قد أثبت بيمينه جميع العين له، ولم يصل إليه إلا نصفها، فوجب تمليكها بالقيمة.
وأما إذا قال: غصبت هذه العين من أحدكما، ولا أدري من غصبتها منه.. فلا بد أن يحلف لكل واحد منهما يمينا على القطع: أنه لم يغصبها منه، فإذا حلف لأحدهما.. تعين المغصوب للثاني، ولا يحلف له، حكاه المسعودي [في " الإبانة " ق 443] .
وبالله التوفيق

(6/502)