البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب العارية]

(6/503)


كتاب العارية العارية: إباحة الانتفاع بعين من الأعيان. قال ابن الصباغ: وهي مشتقة من عار الشيء: إذا ذهب، ومنه قيل للغلام البطال: عيار.
والأصل في ثبوتها: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.

(6/505)


أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة: 2] . وفي العارية إعانة.
وقَوْله تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6]] (6) {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] [الماعون: 4 - 7] . قال ابن مسعود: (الماعون: إعارة الدلو، والقدر، والميزان) . وروى عن علي، وابن عمر: (أن الماعون الزكاة) .
وأما السنة: فروى أبو أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث، والعارية مؤداة، والمنحة مردودة والزعيم غارم» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من صاحب إبل ولا بقر لم يؤد حقها، إلا بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر ـ وروى: قرق ـ تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، كلما فني أولاها.. عادت إليه أخراها". فقيل: يا رسول الله. وما حقها؟ قال: "إعارة دلوها، ومنحة لبنها يوم وردها، وإطراق فحلها» . والقرق: المستوي. قال الشاعر:

(6/506)


كأن أيديهن بالقاع القرق ... أيدي جوار يتعاطين الورق
و (القرقر) : مثله.
وروى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار من صفوان بن أمية يوم حنين أدراعا، فقال: أغصبا يا محمد؟ فقال: "بل عارية مضمونة مؤداة» .
وأجمع المسلمون على جواز العارية.
وأما القياس: فلأنه لما جاز هبة الأعيان.. جاز هبة منافعها.

[مسألة: شرط أهلية الإعارة]
] : ولا تصح الإعارة إلا من جائز التصرف في المال، كما لا تصح هبة الأعيان إلا من جائز التصرف في المال، ولا تصح العارية إلا في كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها، كالدور، والأرض، والفحل للضراب، والسلاح، وما أشبه ذلك؛ لأن الخبر ورد

(6/507)


بإعارة الدلو، والفحل، والدروع، وهذه الأشياء يمكن الانتفاع بها مع بقاء أعيانها، وقسنا عليها أمثالها.
وهل تصح إعارة الدراهم والدنانير ليجمل بها الدكان؟ فيه وجهان، بناء على جواز إجارتها لذلك.
وفي جواز إعارة ذوات الأمثال، كالطعام، والدهن، وما أشبهه لغير إتلافها وجهان.
فأما ما لا ينتفع به إلا بإتلاف لعينه، كاستعارة الهربس، والعصيد للأكل.. فلا يجوز ذلك؛ لأن ذلك لا يمكن الانتفاع به إلا بإتلاف عينه في الحال، وذلك خارج عن مقتضى حكم العارية.

[فرع: ما يعار من الحيوان]
] : ويجوز إعارة الحيوان للخدمة، وللركوب، وما أشبهه، كما يجوز إجارته لذلك، ويجوز إعارة الكلب للصيد، كما يجوز إعارة الفحل للضراب، ولا يجوز إعارة الجارية للوطء؛ لأن الوطء لا يكون إلا في ملك أو نكاح. قال الشيخ أبو إسحاق: ولا يجوز إعارة جارية ذات جمال لغير محرم لها للخدمة؛ لأنه لا يؤمن أن يخلو بها، فيواقعها.
وذكر في " الفروع "، والصيدلاني: أنه يكره إعارتها، فإن كانت كبيرة، أو صغيرة، أو قبيحة.. جاز إعارتها؛ لأنه يؤمن مواقعتها.
ولا يجوز إعارة العبد المسلم من الكافر؛ لأنه لا يجوز له استخدامه.
ويكره أن يستعير أحد أبويه للخدمة؛ لأنه يكره له استخدامه.

[فرع: ليست المنحة إعارة]
قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز استعارة الشاة ليحلبها، ولا إعارة الأشجار لأخذ ثمرتها، كما لا يجوز إجارتها لذلك.

(6/508)


وقال القاضي أبو الطيب: يجوز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم» ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من منح منحة ورق أو هدى زقاقا، أو سقى لبنا.. كان له كعدل رقبة، أو نسمة» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من منح منحة وكوفا.. فله كذا وكذا» . و (الوكوف) : غزيرة اللبن.
قال أبو عبيد: وللعرب أربعة أسماء تضعها موضع اسم العارية، وهي: المنحة. والعرية، والإفقار، والإخبال.
فـ (المنحة) : أن يمنح الرجل الرجل ناقة أو شاة: فيحتلبها زمانا، ثم يردها.
و (العرية) : أن يعري الرجل الرجل ثمرة نخلة من نخيله، فيكون له الثمر عامه ذلك.
و (الإفقار) : أن يعطيه دابته، فيركبها ما أحب في سفر، أو حضر، ثم يردها عليه.
و (الإخبال) : أن يعطيه ناقته، فيركبها، ويجتز وبرها، ثم يردها.
قال ابن الصباغ: ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف، بل يكون إباحة للبن وثمر الشجر؛ لأن الإباحة تصح في الأعيان.
ولا يجوز للمحرم أن يستعير صيدا، كما لا يجوز له تملكه، فإن خالف واستعاره، وتلف في يده.. لزمه الجزاء لحق الله تعالى، والقيمة لمالكه. وإن استعار

(6/509)


محل من محرم صيدا، فإن قلنا: إن ملك المحرم لا يزول عن الصيد.. جاز، ويضمنه بالقيمة، وإن قلنا: يزول ملكه عنه بالإحرام.. فقد وجب عليه إرساله، فإذا دفعه إلى المحل.. لم يسقط عنه بذلك ما وجب عليه من الإرسال، ولا يضمنه المستعير بالقيمة للمعير؛ لأنه ليس بملك له، ولا بالجزاء؛ لأنه مأذون له في إتلافه، فإن تلف الصيد في يد المستعير.. وجب على المحرم الجزاء.
قال الشيخ أبو حامد: وإن أودع محل صيدا عند محرم، فتلف في يده لم.. يلزمه الجزاء؛ لأنه لم يمسكه لنفسه، وإنما أمسكه للمالك.

[مسألة: صيغة العارية]
] : ولا تنعقد العارية إلا بالإيجاب والقبول كما نقول في هبة الأعيان، وتصح بالقول من أحدهما والفعل من الآخر، بأن يقول: أعرني، فيسلمها إليه المالك، أو يقول المالك: أعرتك، فيقبضها الآخر، كما نقول في إباحة الطعام.

[مسألة: يد المستعير يد ضمان]
] : قال الشافعي: (وكل عارية مضمونة على المستعير وإن تلف من غير تفريط) .
وهذا كما قال: إذا قبض المستعير العين المستعارة، فتلف في يده.. فهل يجب عليه ضمانها؟ اختلف الناس فيها على خمسة مذاهب:
فـ[الأول [: ذهب الشافعي إلى: أنها مضمونة على المستعير، سواء تلفت بتفريط أو بغير تفريط، وسواء شرط ضمانها أو أطلق.
وروي ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة، وبه قال عطاء وأحمد، وإسحاق.

(6/510)


و [المذهب الثاني] : قال ربيعة: العارية مضمونة على المستعير، إلا أن تكون حيوانا، فيموت، فلا ضمان عليه.
و [المذهب الثالث] : قال مالك، وعثمان البتي: (العارية مضمونة على المستعير، إلا أن يكون حيوانا، فلا يضمنه بحال سواء مات حتف أنفه، أو تلف تحت يد المستعير من غير تفريط بنهب، أو غيره) .
و [المذهب الرابع] : قال قتادة، وعبيد الله بن الحسن العنبري: إن شرط ضمانها ... كانت مضمونة على المستعير، وإن لم يشرط.. كانت أمانة في يده.
و [المذهب الخامس] : قال شريح، والنخعي، والحسن البصري، والثورى، والأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه: (العارية أمانة في يد المستعير لا يضمنها إلا إذا فرط في تلفها) .
دليلنا: ما روى سمرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «على اليد ما أخذت» وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار من صفوان بن أمية في شركه ثلاثين درعا ـ وقيل: مائة درع ـ يوم حنين، فقال: (أغصبا) أي: أهذا الذي استعرته مني لو منعتك إياه لم تغصبني عليه فقال: لا»
فمعنى قول صفوان: (أغصبا) أي: أهذا الذي استعرته مني لو منعنك إياه لم تغصبني عليه؟ فقال: "لا".
وروى أنس: «أن امرأة من نساء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعارت قصعة، فذهبت، فأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغرمها» .

(6/511)


ولأنه مال لغيره أخذه لمنفعة نفسه لا على وجه الوثيقة، فضمنه، كالمغصوب.
فقولنا: (مال لغيره) احتراز ممن أخذ مال نفسه من غيره، فإنه غير مضمون عليه.
وقولنا: (لمنفعة نفسه) احتراز من الوديعة، فإن المنفعة فيها للمالك.
وقولنا: (لا على وجه الوثيقة) احتراز من المرتهن إذا قبض الرهن.
ولأنها عين مضمونة بالرد، فكانت مضمونة بالتلف، كالمغصوب.
فقولنا (مضمونة بالرد) أي: أنه يجب عليه مؤنة الرد، وفيه احتراز من الوديعة والرهن، فإنه لا يجب عليه مؤنة الرد، بل عليه أن يخلي بينه وبين العين لا غير، وكذلك العين المستأجرة في أحد الوجهين.
إذا تقرر هذا: فإن استعار عينا. فاستعملها استعمالا مأذونا فيه، فردها وقد نقص شيء من أجزائها، بأن كان ثوبا، فرده، وقد رق ونقصت قيمته بذلك.. لم يجب عليه ضمان ما نقص؛ لأن الإذن في استعماله تضمن الإذن في إتلاف ذلك منه.
وإن هلكت العين المستعارة، أو أتلفها قبل الاستعمال.. وجب عليه ضمانها، فأما إذا استعملها، فنقصت قيمتها بالاستعمال ثم تلفت، فإن كانت من غير ذوات الأمثال..وجب عليه قيمتها، ومتى تقوم عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه قيمتها أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف، كالمغصوب.
فعلى هذا: تكون الأجزاء التالفة بالاستعمال تابعة للعين، إن سقط عنه ضمان العين بردها.. سقط عنه ضمان الأجزاء، وإن وجب عليه ضمان العين بتلفها.. وجب عليه ضمان الأجزاء التالفة بالاستعمال.

(6/512)


والثاني: وهو المذهب ـ: أنه يجب عليه قيمتها يوم تلفها؛ لأنا لو قومناها عليه أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف.. أدى إلى أن تجب عليه قيمة الأجزاء التالفة بالاستعمال، وهذا لا يجوز.
وإن استعار منه ثوبا ليلبسه، فلبسه حتى خلق، ولم يبق منه خيط.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: يلزمه ضمان الأجزاء؛ لأن كل عين ضمن أصلها، ضمن أجزاءها، كالمغصوب.
و [الثاني [: قال الشيخ أبو حامد، وسائر أصحابنا: لا يجب عليه الضمان؛ لأنه أتلفه إتلافا مأذونا فيه، فهو كما لو أذن له في أكل طعامه، فأكله.
وإن استعار منه شيئا له مثل، وتلف في يده بغير الاستعمال.. قال الشيخ أبو إسحاق: فإن قلنا: إن فيما لا مثل له تجب قيمته أكثر ما كانت.. ضمنه هاهنا بمثله، وإن قلنا فيما لا مثل له: تجب قيمته يوم التلف.. ضمن هذا بقيمته يوم التلف.

[فرع: نتاج العارية]
] : وإن ولدت العارية عنده.. فهل يكون ولدها مضمونا عليه؟ فيه وجهان، كولد الوديعة، وقد مضى.

[فرع: إعارة العين غير مملوكة]
] : وإن استأجر عينا، فأعارها غيره، فتلفت عنده من غير تفريط.. فذكر بعض أصحابنا: أنه لا يجب على واحد منهما ضمانها؛ لأن العين المستأجرة لا تضمن بالتلف من غير تفريط.
وإن غصب رجل من رجل عينا، وأعارها غيره، فاستعملها المستعير، وتلفت عنه.. فللمالك الخيار: بين أن يرجع على الغاصب بقيمتها أكثر ما كانت من حين غصبها إلى أن تلفت، وبأجرة منافعها؛ لأنه تعدى بغصبها، وبين أن يرجع على

(6/513)


المستعير بقيمتها أكثر من حين قبضها إلى أن تلفت في يده، وبأجرة منافعها.
فإن علم المستعير بالغصب.. لم يرجع لما غرمه على الغاصب، قولا واحدا؛ لأن التلف حصل في يده. وأما إذا لم يعلم المستعير بالغصب.. نظرت:
فإن استعمل العين المغصوبة مدة، فنقصت أجزاؤها، وأقام المالك بينة عليها.. فإنه ينتزعها، وهو بالخيار: بين أن يرجع على الغاصب بأجرة منافعها من حين غصبها منه، إلى أن أخذها من المستعير، وبأرش ما نقصت، وبين أن يرجع على المستعير بأجرتها من حين قبضها، وبأرش ما نقصت في يده؛ لأنه قد وجد التعدي من كل واحد منهما فيها.
فإن رجع على المستعير في ذلك.. فهل للمستعير أن يرجع بما غرمه على الغاصب؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (له أن يرجع عليه) . وبه قال أحمد؛ لأنه غره، وأدخله في العارية على أن لا يضمن الأجزاء والأجرة.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يرجع عليه) . وهو الصحيح؛ لأن التلف كان في يده.
وإن اختار المالك الرجوع على الغاصب بذلك فهل للغاصب أن يرجع على المستعير بأرش ما نقصت في يده وبالأجرة مدة إقامتها في يده.
إن قلنا بقوله في القديم في الأولى: لو رجع المالك على المستعير رجع المستعير على الغاصب.. لم يرجع الغاصب هاهنا على المستعير.
وإن قلنا بقوله الجديد: إن المستعير لا يرجع على الغاصب.. رجع الغاصب هاهنا على المستعير.
وأما إذا تلف في يد المستعير.. فللمالك أن يرجع بها على أيهما شاء بقيمتها أكثر

(6/514)


ما كانت من حين قبضها، وبأجرة منافعها، فإن كانت قيمتها يوم التلف أكثر، واختار المالك الرجوع على المستعير بالقيمة، وبالأجرة.. فإن المستعير لا يرجع على الغاصب بقيمتها، قولا واحدا؛ لأنه دخل في العارية على أن تكون مضمونة عليه، وهل يرجع المستعير على الغاصب بما غرم من الأجرة؟ على القولين، الصحيح: لا يرجع.
وإن رجع المالك على الغاصب بهما.. رجع الغاصب على المستعير بالقيمة، قولا واحدا، وهل يرجع عليه بالأجرة مدة إقامتها في يده؟ فيه قولان، الصحيح: يرجع عليه.
وإن كانت قيمة العين يوم قبضها المستعير أكثر، فنقصت بالاستعمال، ثم تلفت في يده، فإن قلنا: إن المستعير يجب عليه قيمة العين أكثر ما كانت من حين قبضها إلى أن تلفت.. فهو كما لو كانت قيمتها يوم التلف أكثر، وإن قلنا بالمذهب، وإنه لا يجب على المستعير إلا قيمتها يوم التلف.. فإن المالك إذا اختار الرجوع على المستعير.. فإنه يرجع عليه بقيمتها أكثر ما كانت من حين قبضها إلى أن تلفت، وأما قدر قيمتها يوم التلف.. فلا يرجع بها المستعير على الغاصب، قولا واحدا، وأما ما زاد على ذلك من القيمة التي غرمها، وأجرة منافعها.. فهل له أن يرجع بما غرمه من ذلك الغاصب؟ فيه قولان، الصحيح: لا يرجع.
وإن رجع المالك بذلك على الغاصب.. فإن الغاصب يرجع على المستعير بقدر قيمتها يوم التلف، قولا واحدا، وهل يرجع عليه بالأجرة، وبأرش الأجزاء التالفة في يده بالاستعمال؟ فيه قولان، الصحيح: يرجع عليه.

[مسألة: لا يشترط تعيين مدة الإعارة]
] : وتجوز الإعارة مدة معلومة، ومدة مجهولة؛ لأن العارية عطية لا عوض فيها، فصحت في المعلوم والمجهول، كإباحة الطعام، والوصية، وفيه احتراز من الإجارة.

(6/515)


إذا ثبت هذا: فللمعير أن يرجع في العارية متى شاء، سواء كانت العارية مطلقة، أو مؤقتة وإن لم تنقض المدة، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال مالك: (إذا أعاره مدة مؤقتة.. لم يجز له أن يرجع فيها قبل انقضاء المدة، وإن أعاره مدة مجهولة.. لزمه تركه مدة ينتفع بها في مثلها) . وبنى مالك ذلك على أصله: أن الهبة تلزم بالعقد من غير قبض.
دليلنا: أن المنافع المستقبلة لم تحصل في يده، فكان للمعير الرجوع فيها، كما لو لم يقبض العين، ويجوز للمستعير أن يرد العارية متى شاء؛ لأنه ملك الانتفاع بالإباحة، فكان له ردها متى شاء، كما لو أباح له أكل طعامه.
وإن مات المعير، أو جن، أو أغمي عليه، أو حجر عليه للسفه.. انفسخت العارية؛ لأنها عقد جائز، فبطلت بما ذكرناه، كسائر العقود الجائزة.
وإن مات المستعير.. انفسخت العارية؛ لأن الإذن بالانتفاع إنما كان للمستعير دون وراثه، وإذا انفسخت العارية.. وجب على المستعير ردها، ومؤنة الرد عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث صفوان: «عارية مضمونة مؤداة» . فوصف العارية بذلك، فدل على: أن ذلك مقتضى حكمها، فإن ردها المستعير إلى المالك، أو إلى وكيله.. برئ من الضمان. وإن ردها إلى ملك المعير، بأن استعار دابة فردها إلى إصطبل المالك..لم يبرأ بذلك.
وقال أبو حنيفة: (يبرأ بذلك) .
دليلنا: أنه لم يردها إلى المالك، ولا إلى وكيله، فلم يبرأ بذلك، كما لو غصب مائة عينا، أو سرقها، فردها إلى ملكه.. فإنه لا يبرأ بلا خلاف.

[مسألة: استعمال عين العارية]
] : ومن استعار عينا.. فله أن يستوفي منفعتها بنفسه، وبوكيله؛ لأنه نائب عنه، وإن استعار دابة لتركبها امرأته زينب.. فهل له أن يركبها عمرة؟ ينظر فيه:
فإن كانت عمرة أثقل منها.. لم يكن له ذلك؛ لأن ذلك انتفاع غير مأذون فيه.

(6/516)


وإن كانت عمرة مثلها، أو أخف منها.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري:
أحدهما: يجوز، وبه قال أبو حنيفة، كما قلنا في الإجارة.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه انتفاع غير مأذون فيه، فلم يجز، كما لو كانت أثقل منها.
وإن استعار دابة ليركبها إلى بلد، فركبها إلى تلك البلد، وجاوز بها إلى بلد أخرى، فقبل أن يجاوز بها البلد المأذون له بالركوب إليه هي مضمونة عليه ضمان العارية، ولا أجرة عليه لذلك، فإذا جاوز بها.. صارت من حين المجاورة مضمونة عليه ضمان الغاصب، ويجب عليه أرش ما نقصت بعد ذلك، وأجرة منافعها، فإن ماتت.. وجب عليه قيمتها أكثر ما كانت حين المجازوة؛ لأنه صار متعديا بالمجاوزة، فإن رجع بها إلى البلد المأذون بالركوب إليه.. لم يزل عنه الضمان.
وقال أبو حنيفة: (يزول عنه الضمان) .
دليلنا: أنها صارت مضمونة عليه، فلم يبرأ بالرد إلى غير يد المالك، أو وكيله، كالمغصوب.

[فرع: تأجير وإعارة العارية]
] : وإن استعار عينا مدة، فأجرها المستعير تلك المدة.. لم تصح الإجارة؛ لأن الإجارة معاوضة، فلا تصح إلا فيما يملكه، والمستعير لا يملك المنافع، وإنما هي ملك لمالك العين، وقد أباح له إتلافها، فلا يملك أن يملك ذلك غيره.
وإن أعارها المستعير غيره.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه لما جاز أن يؤاجر ما استأجره.. جاز أن يعير ما استعاره.

(6/517)


والثاني: لا يجوز، وبه قال أحمد، وهو الصحيح؛ لأن المالك أباح للمستعير الانتفاع، فلا يملك المستعير أن يبيح ذلك لغيره، كما لو أباح له طعاما.. فليس للمباح له أن يبيحه لغيره، ويخالف المستأجر، فإنه يملك المنافع، فلذلك جاز أن يملكها غيره، كمن اشترى شيئا.. فله أن يتصرف فيه بما شاء.

[فرع: إنفاق المستعير على الحيوان]
] : قال الصيمري: وإذا استعار حيوانا.. فإن نفقته مدة العارية على المعير؛ لأنه ملكه والنفقة تجب على مالك الرقبة دون مالك المنفعة، كما نقول في الإجارة.
فعلى هذا: إذا استعار حيوانا، فإن أذن المعير للمستعير بالإنفاق عليه، فأنفق عليه.. رجع عليه بما أنفقه؛ لأنه أخرجه بإذنه، وإن لم يأذن له في الإنفاق عليه.. فللمستعير أن يرفع ذلك إلى الحاكم، لينفق عليه من مال المعير إن كان له مال، أو يبيع جزءا من الحيوان المعار، أو يقترض عليه من غير المستعير، أو من المستعير، كما قلنا في الوديعة.

[مسألة: إعارة الأرض]
] : ويجوز إعارة الأرض للزراعة، وللبناء، وللغراس؛ لأنه يجوز أن يملك منفعة الأرض لذلك بالإجارة، فاستباحها بالإعارة، كمنفعة العبد والدار، فإن قال: أعرتك هذه الأرض لتنتفع بها.. جاز له أن يزرع فيها ويغرس ويبني؛ لأن الإذن فيها مطلق، فاستباح الجميع.
وإن أعاره الأرض ليزرع فيها، وأطلق.. كان له أن يزرع أي زرع شاء؛ لأن الإذن مطلق، وإن قال: لتزرع الحنطة.. فله أن يزرع الحنطة والشعير؛ لأن ضرر الشعير أقل من ضرر الحنطة في الأرض، وإن قال: لتزرع فيها الشعير.. قال الشيخ أبو حامد: فليس له أن يزرع الحنطة؛ لأنها أكثر ضررا في الأرض من الشعير.. ولا يجوز أن يغرس في الأرض، ولا يبني فيها؛ لأنهما أعظم ضررا في الأرض من الزراعة.

(6/518)


وإن استعار أرضا ليبني فيها، أو يغرس.. كان له أن يزرع فيها. وحكى في " المهذب " وجها آخر: أنه إذا استعارها للبناء.. لم يكن له أن يزرع فيها؛ لأن الزراعة فيها ترخي الأرض. وليس بشيء؛ لأن ضرر البناء والغراس في الأرض أكثر من ضرر الزرع، فإذا زرعها.. فقد استوفي بعض ما أذن له فيه، فجاز، وإن استعارها للبناء.. فهل له أن يغرس فيها؟ أو استعارها للغراس.. فهل له أن يبني فيها؟ وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن ضررهما فيا لأرض سواء؛ لأن الأرض تحفر لهما، ويراد كل واحد منهما للتأبيد.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأن ضررهما يختلف في الأرض؛ لأن ضرر الغراس لانتشار عروقه في باطن الأرض، ولا يمنع من الزراعة في ظاهرها، وضرر البناء في ظاهر الأرض دون باطنها؛ لأنه يكون في موضع واحد، ويمنع الزراعة في الأرض.

[فرع: الرجوع عن الأرض المعارة للبناء]
] : وإن أعاره أرضا ليبني فيها، أو تغرس، فبنى فيها، أو غرس، ثم رجع المعير عن العارية، أو كانت العارية مقدرة بمدة.. فليس للمستعير أن يبني ويغرس فيها بعد الرجوع، ولا بعد انقضاء المدة؛ لأنه إنما ملك ذلك بالإذن، وقد زال الإذن، فإن غرس بعد ذلك.. كان كما لو غصبها، فغرس فيها، أو بنى، على ما سيأتي في (الغصب) وأما ما غرس وبنى قبل الرجوع، وقبل انقضاء المدة.. فهل يلزمه قلعه؟ ينظر فيه:
فإن شرط المعير على المستعير قلع البناء والغراس عند الرجوع، أو عند انقضاء المدة.. لزمه قلعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم» . وإذا قلع.. لم يكن له أن يطالب المعير بما نقص البناء والغراس بالقلع، ولا المعير أن يطالبه بتسوية الأرض من آثار القلع؛ لأن كل واحد منهما قد رضي على نفسه بما يدخل عليه من الضرر بذلك لما شرط القلع.

(6/519)


وإن لم يشرط عليه القلع.. نظرت:
فإن كانت قيمة الغراس والبناء لا تنقص بالقلع.. لزم المستعير أن يقلع؛ لأنه يمكن رد الأرض المعارة فارغة من غير إضرار بالمستعير وهل يلزمه تسوية الأرض؟ يحتمل أن يكون على وجهين يأتي ذكرهما.
وإن نقصت قيمة الغراس والبناء بالقلع، فإن اختار المستعير أن يقلعه.. كان له ذلك، ولا يمنعه المعير منه؛ لأنه عين ماله، وهل يلزم المستعير تسوية الأرض؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه ذلك؛ لأنه لما أذن له بالغراس والبناء.. تضمن ذلك الرضا بحفر الأرض عند القلع؛ لأنه يعلم أن له أن يقلع.
والثاني: يلزمه ذلك؛ لأن ذلك حصل برضا المستعير، بدليل: أنه لو امتنع من القلع.. لم يجبر عليه.
وإن لم يختر المستعير القلع.. كان المعير بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين أن يبذل قيمة الغراس والبناء قائما ويتملكه، أو يقلعه ويدفع أرش ما نقص بالقلع، أو يطالبه بأجرة الأرض؛ لأن الضرر يزول عن المستعير بذلك.
فإن بذل المستعير قيمة الأرض ليتملكها مع الغراس والبناء.. لم يجبر المعير على ذلك لأن الأرض لا تتبع الغراس والبناء، بدليل: أنه لو باعه غراسا، أو بناء في الأرض.. لم تدخل الأرض في البيع، والبناء والغراس يتبعان الأرض، بدليل: أنه لو باعه أرضا فيها بناء، أو غراس.. دخلا في البيع.
فإن طلب المعير أجرة الأرض من المستعير، فامتنع المستعير من بذل الأجرة.. فهل يلزمه قلع البناء والغراس؟ فيه وجهان، حكاهما في " المهذب ":
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن الإعارة تقتضي الانتفاع من غير ضمان.
والثاني: يلزمه؛ لأن بعد الرجوع لا يجوز له الانتفاع من غير أجرة.

(6/520)


وإن لم يبذل المعير قيمة الغراس والبناء، ولا أرش النقص، ولا رضي بالأجرة، وطالب بقلع الغراس والبناء.. لم يجبر المستعير على القلع، سواء كانت الإعارة مطلقة أو مقيدة بمدة.
وقال أبو حنيفة: (إن كانت الإعارة مطلقة.. فله مطالبته بقلعه أي وقت شاء، ولا ضمان على المعير، وإن كانت مقيدة.. فليس له مطالبته بالقلع قبل انقضاء المدة من غير ضمان) دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» . وهذا غير ظالم، فوجب أن يكون له حق.
ولأنه غرس مأذون فيه، ولم يشرط عليه القلع، فلم يلزمه القلع من غير عوض، كما لو كانت العارية مؤقتة.
إذا ثبت هذا: ولم يبذل المعير العوض، ولا رضي المستعير بالقلع.. فإن الغراس يقر في الأرض، فإن اتفقا على البيع.. بيعا، ويقسم الثمن بينهما على قيمة الغراس والأرض، فيقوم الغراس قائما وهو في غير ملك الغارس، ثم تقوم الأرض وفيها الغراس، ولا يكون الغراس داخلا، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، وإن امتنعا من البيع.. أقر الغراس، ويقال لهما: انصرفا، فلا حكم لكما عندنا حتى تصطلحا على شيء، وللمعير أن يدخل إلى أرضه، ويغرس، ويزرع في بياضها، ويستظل تحت غرس المستعير؛ لأنه ملكه، ولكن لا يستند إلى جذوع غرس المستعير، وإن أراد بيع أرضه من المستعير وغيره.. كان له ذلك؛ لأنهما ملكه.
وأما المستعير: فإن أراد دخول الأرض للتفرج والاستراحة.. لم يكن له ذلك؛ لأن الأرض للمعير، وقد رجع في عاريتها، وإن أراد دخولها لسقي الشجر، وأخذ الثمرة، وإصلاحها.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن المعير قد رجع في عارية الأرض، ولم يبق للمستعير إلا إقرار الغراس في مواضعه، فلم يكن له التخطي في ملك غيره.

(6/521)


والثاني: له ذلك، وهو الصحيح؛ لأن الإعارة للغراس تقتضي التأبيد، ولا يحصل التأبيد فيها إلا بالسقي، والإصلاح.
وإن باع المستعير غراسه من مالك الأرض.. صح بيعه، وجها واحدا، وإن باعه من غيره.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن ملكه عليه غير مستقر؛ لأن للمعير أن يبذل قيمته ويتملكه، فلم يصح بيعه من غيره.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأنه باع ملكه، وجواز انتزاعه لا يمنع صحة البيع، كما لو اشترى شقصا فيه شفعة، فباعه.

[فرع: قلع المستعير الغراس]
] : إذا أذن في غراس شجرة، فغرسها، فانقلعت.. فهل له أن يعيد غرسها في موضعها من غير إذن؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن الإذن اختص بالأولى.
والثاني: له ذلك؛ لأن الإذن قائم ما لم يرجع عنه.

[فرع: حمل السيل الحب إلى أرض الجار]
إذا كان لرجل حب حنطة أو شعير، أو جوز، أو لوز، أو نوى، أو شجر، فحمله السيل أو الريح إلى أرض غيره، فنبت.. فإنه يكون ملكا لصاحب الحب؛ لأنه عين ماله، وإنما زاد، فصار كما لو كان له بيض فحضنته دجاجة لغيره، وفرخ.
فإن أراد صاحب الشجر قلعه من أرض غيره.. كان له ذلك، ولزمه تسوية ما حصل في الأرض من الحفر؛ لأنه حصل لتخليص ملكه، فهو كما لو كان له فصيل،

(6/522)


فدخل إلى دار غيره، وكبر، ولم يقدر على إخراجه إلا بنقض الباب.. فإنه ينقض الباب لإخراج فصيله، وعليه إصلاح الباب.
وإن طالب صاحب الأرض صاحب الشجر بقلعه من غير ضمان.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن مالك الشجر غير مفرط في إنباته بأرض غيره، فصار كما لو استعار منه أرضا، فغرس فيها.
فعلى هذا يكون: حكمه حكم العارية في ضمان العوض، وهو أن مالك الأرض بالخيار: بين أن يبذل لمالك الشجر قيمته فيتملكه، أو يقلعه ويضمن أرش ما نقص بالقلع، أو يقره في الأرض ويطالبه بأجرة أرضه.
والثاني: أن مالك الشجر يجبر على قلعه، ولا يلزم مالك الأرض له عوض، وهو الصحيح؛ لأنه حصل في الأرض بغير اختيار مالك الأرض، فصار كما لو انتشرت أغصان شجرته إلى هواء أرض غيره، فإذا قلع الشجر.. لزمه تسوية الأرض؛ لأن ذلك حصل لتخليص ملكه.

[فرع: طلب المعير الأرض قبل الحصاد]
] : وإن أعاره أرضا ليزرع فيها، فزرع فيها، فرجع المعير في الأرض قبل أن يبلغ الزرع وقت الحصاد.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم الغراس فيما ذكرناه، من التبقية، والقلع، والأرش.
والثاني: أنه يجبر المعير على تبقيته إلى الحصاد بأجرة المثل؛ لأن له وقتا ينتهي إليه.. بخلاف الغراس.

[مسألة: استعار الجدار ليثبت فيه خشبه]
] : إذا استعار منه حائطا ليضع عليه الخشب في التسقيف.. جاز؛ لأنه ليس فيه أكثر من أنه يراد للبقاء، فجازت العارية له، كاستعارة الأرض للغراس والبناء، فإن رجع المعير في العارية قبل وضع الجذوع.. صح الرجوع؛ لأنه لا ضرر على المستعير في الرجوع.

(6/523)


قال ابن الصباغ: وهكذا: إذا رجع بعد وضع الجذوع وقبل البناء عليها.. صح الرجوع، ووجب، على المستعير رفعها؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك.
وإن وضع الجذوع، وبنى عليه، ثم رجع المعير.. فهل له أن يطالبه بقلعها، ويضمن له أرش ما يدخل عليه من النقص؟ فيه وجهان، حكاهما المحاملي:
أحدهما ـ قال في " الفروع ": وبه الفتوى ـ: أن ذلك كما قلنا فيمن أعار غيره أرضا للبناء أو الغراس، فبنى فيها، أو غرس.
والثاني ـ وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره ـ: ليس له ذلك؛ لأنه إذا قلعها.. انقلع ما في ملك المستعير، وليس له أن يقلع شيئا من ملك المستعير بضمان القيمة، بخلاف الغراس، فإن قال المعير: أنا أدفع قيمة الأجذاع وأتملكها.. لم يكن له ذلك، والفرق بينهما وبين الغراس: أنه إذا دفع قيمة الغراس.. انتفع به؛ لأنه في ملكه، وهاهنا لا ينتفع بما يدفع عنه القيمة، وهو أطراف الأجذاع؛ لأن أطرافها الأخرى في ملك المستعير. قال الصيدلاني: وإن استعار من جاره حائطين، فوضع عليهما خشب ساباط.. فللمعير أن يرجع بشرط أن يضمن النقص؛ لأن الحائطين له، فلا ضرر على المستعير بذلك، بخلاف ما إذا كان أحد الحائطين للمستعير.
فإن انهدم الحائط المعار.. قال ابن الصباغ: فإن بناه المعير بغير آلته الأولى.. لم يكن للمستعير رد الأخشاب عليه بغير إذنه، وإن بناه بآلته الأولى.. ففيه وجهان:
أحدهما: له أن يعيد خشبه بغير إذنه، لأن العارية تقتضي التأبيد.
والثاني: ليس له أن يعيدها بغير إذنه، وهو الصحيح؛ لأنه إنما لم يكن له الرجوع قبل الانهدام؛ لأن على المستعير الضرر بذلك، وهاهنا لا ضرر عليه.

(6/524)


وذكر الشيخ أبو حامد، والمحاملي الوجهين: إذا انهدم الحائط فأعيد، من غير تفصيل.
قال المحاملي: وكذلك إذا هدمه صاحبه.
وهكذا الوجهان: إذا سقطت الجذوع ولم تنكسر.. فهل له إعادتها بغير إذنه؟ على الوجهين، وإن انكسرت تلك الأجذاع.. فذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": ليس له إعادة مثلها، وذكر ابن الصباغ: أنها على الوجهين الأولين.

[فرع: جهل كيفية وضع الجذور على الحائط]
] : وإن وجدت أجذاع لرجل على حائط غيره، أو شجرة في أرض غيره، ولم يعرف سبب ذلك.. لم يكن له المطالبة بقلع ذلك؛ لأن الظاهر أنها وضعت بملك، وإن انقلعت، أو قلعها.. كان له إعادة مثل ذلك، وجها واحدا، وقد ذكرناه.

[فرع: استعارة أرض لدفن أو حفر بئر]
] : وإن أعار أرضه لدفن ميت، فدفن فيها.. لم يكن له المطالبة بإخراجه؛ لأن الميت لا يحول، ولأن في ذلك هتكا لحرمته. وإن استعار منه أرضا ليحفر فيها بئرا، أو مدفنا.. صحت العارية؛ لأنها منفعة تملك بالإجارة، فاستباحها بالإعارة، كسائر المنافع. فإذا نبع الماء.. جاز له أخذه؛ لأن الماء يستباح بالإباحة؛ فإن رجع المعير في العارية بعد الحفر.. فهل يصح رجوعه؟
لا أعرف فيها نصا، والذي يقتضي المذهب: أنه يبن على القولين في العمل من المفلس، هل هو كالعين، أو ليس كالعين؟
فإنه قلنا: إنه كالعين.. لم يملك الرجوع إلا بشرط أن يضمن له قيمة عمله.
وإن قلنا: إنه ليس كالعين.. كان له الرجوع من غير ضمان قيمة العمل.

(6/525)


[مسألة: استعار شيئا ليرهنه]
] : إذا استعار من رجل عبدا ليرهنه بدين عليه، فرهنه.. ففيه قولان:
أحدهما: أن حكمه حكم العارية، وليس بضمان؛ لأنه قبض ملك غيره بإذنه لينفرد بمنفعته، فكان عارية، كما لو استعاره للخدمة، ولأن الضمان: ما تعلق به الحق بذمة الضامن، وهاهنا لم يتعلق بذمة مالك العبد حق، فلم يكن ضمانا.
والقول الثاني: أن حكمه حكم الضمان، وهو اختيار الشاشي، وهو الأصح؛ لأن العارية ما أفادت المنفعة للمستعير، وهاهنا منفعة العبد للسيد، فثبت أنه ضمان، ولأن أعيان الأموال تحل محل الذمم بدلالة جواز التصرف فيها، كجوازه في الذمة، فلما جاز أن يضمن الإنسان حقا في ذمته.. جاز أن يضمنه في عين ماله.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: إن حكمه حكم العارية.. فهل يصح عقد الرهن عليه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: لا يصح الرهن؛ لأن العارية عقد جائز، والرهن عقد لازم، فلا يجوز أن يستباح بالعقد الجائز العقد اللازم.
و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: يصح الرهن، وهو الصحيح؛ لأنه عارية غير لازمة؛ لأن للمعير أن يطالبه بفكه أي وقت شاء، ولأن العارية قد تكون لازمة، وهو إذا أعاره حائطا ليضع عليه جذعا، فوضعه، وبنى عليه.
فإذا قلنا بهذا: فرجع مالك العبد عن العارية، فإن كان قبل الرهن، أو بعد الرهن وقبل أن يقبضه المرتهن.. صح رجوعه، ولا يصح رهنه ولا قبضه بعد ذلك؛ لأن العارية قد بطلت بالرجوع، وإن رجع بعد الرهن والإقباض..لم ينفسخ الرهن؛ لأنه قد لزم بالقبض، ولا يفتقر على هذا القول إلى تعيين قدر الدين وجنسه ومحله عند العارية؛ لأن العارية تصح لمنفعة مطلقة ومقيدة، إلا أنه إن ذكر جنس الدين، وحلوله، أو أجله.. لم يجز أن يرهنه بغير ذلك الجنس، ولا أن يرهنه، بخلاف

(6/526)


ما عينه عند العارية، من الحلول، أو التأجيل؛ لأنه أذن له في انتفاع مخصوص، فلم يجز له أن ينتفع به في غير ذلك، ولأنه قد يكون على المالك ضرر في المخالفة، وهو أنه إذا أذن له ليرهنه في الدراهم، فرهنه بالدنانير.. فربما كانت الدراهم أسهل في القضاء، وإن أذن له ليرهنه بدين حال، فرهنه بمؤجل.. فلأن المالك لم يرض بأن يحال بينه وبين عبده إلى الأجل، وإن أذن له ليرهنه بدين مؤجل، فرهنه بدين حال.. فربما لا يجد الراهن الدين حالا، فيباع العبد بالدين، فيؤدي ذلك إلى إضرار بمالك العبد لم يرض به.
وإن أذن له ليرهنه بمائة درهم، فرهنه بخمسين درهما.. صح؛ لأن الخمسين تناولها الإذن، وإن رهنه بمائتين.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: هل يصح رهنه بالمائة المأذون فيها؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يصح رهنه بها، قولا واحدا، وهو المنصوص؛ لأنه خالفه في إذنه، فلم يصح تصرفه، كما لو قال لوكيله: بع هذا العبد، فباعه مع عبد آخر للموكل.. فلا يصح بيع واحد منهما.
وإن قلنا: إن حكمه حكم الضمان.. لم يصح حتى يبين جنس الدين وقدره ومحله عند العارية؛ لأن الضمان لا يصح في غير معلوم، فإن أذن له ليرهنه بدين مقدر من جنس إلى أجل مقدر، أو حال.. لم يجز رهنه بغير ذلك، إلا أن يرهنه بأقل من القدر المأذون فيه، بأن يأذن له في أن يرهنه بمائة درهم، فيرهنه بخمسين درهما، فيصح؛ لما ذكرناه.

[فرع: أعاره عبدا ليرهنه بدين حال]
] : وإن أذن له ليرهنه بدين حال، فرهنه به.. فللسيد مطالبته بفكاكه على القولين؛ لأنا إن قلنا: إنه عارية.. فللمعير أن يرجع متى شاء، وإن قلنا: إنه ضمان.. فله مطالبته بتخليص عبده؛ لئلا يباع، وإن أذن له ليرهنه بدين مؤجل، فرهنه به.. فهل له مطالبته بفكاكه قبل الحلول؟

(6/527)


إن قلنا: إنه عارية ... فله مطالبته؛ لأن للمعير أن يرجع في العارية المؤقتة قبل انقضائها.
وإن قلنا: إنه ضمان.. لم يكن له المطالبة بفكاكه قبل الأجل، كما لو ضمن عنه دينا إلى أجل.. فليس له مطالبة المضمون عنه بتخليصه قبل الأجل.
إذا ثبت هذا: فإن قضى الراهن الدين من ماله انفك الرهن، ووجب عليه رده إلى مالكه، وإن لم يقض الدين وحل الأجل ولم يكن معه ما يقضي به الدين.. بيع العبد في الدين، وبماذا يرجع السيد على المستعير؟ ينظر فيه:
فإن بيع العبد بقيمته.. رجع عليه السيد بقدر قيمته، أو بالدين؛ لأنا إن قلنا: إنه عارية.. فالعارية تضمن بقيمتها، وإن قلنا: إنه ضمان.. فالضامن يرجع بالدين الذي غرمه.
وإن بيع بأقل من قيمته مما يتغابن الناس بمثله، فإن قلنا: إنه عارية.. رجع عليه بكمال قيمته؛ لأن العارية مضمونة بقيمتها، وإن قلنا: إنه ضمان.. رجع السيد بالثمن الذي بيع به العبد؛ لأنه هو القدر الذي غرمه.
فإن بيع بأكثر من قيمته، فإن قلنا: إنه ضمان.. رجع السيد بالثمن الذي بيع به، وإن قلنا: إنه عارية.. ففيه وجهان:
[أحدهما [: قال عامة أصحابنا: يرجع عليه بقيمته لا غير؛ لأن العارية مضمونة بقيمتها.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يرجع عليه بجميع ما بيع به وحكى ذلك ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن ثمن العبد ملك لصاحبه، ولهذا لو أسقط المرتهن حقه من الرهن.. كان جميع الثمن للسيد. وإن أراد المالك بيع العبد.. قال الطبري: فإن قلنا: إنه عارية.. فله ذلك، وإن قلنا: إنه ضمان.. فليس له ذلك.

(6/528)


[فرع: تلف العارية في يد المرتهن]
] : وإن تلف العبد في يد المرتهن بغير تفريط منه، أو جنى، فبيع في الجناية، فإن قلنا: إنه ضمان.. لم يرجع السيد على المستعير بشيء؛ لأنه لم يقض عنه شيئا، وإن قلنا: إنه عارية.. رجع السيد على المستعير بقيمة العبد.

[فرع: قضاء سيد العبد الدين]
] : فإن قضى سيد العبد الدين عن المستعير.. صح قضاؤه؛ لأنه يجوز أن يقضي عن غير دينه، وينفك الرهن، كما لو قضاه الراهن، فإن قضاه بغير إذن الراهن. لم يرجع عليه بشيء؛ لأنه متطوع بالتفضل عنه، وإن قضاه بإذنه.. كان له أن يرجع عليه؛ لأنه ضمن بإذنه، وقضى بإذنه، فإن كان الحق مؤجلا، فاستأذنه السيد في قضائه وتعجيله، فقضاه عنه معجلا.. كان له أن يرجع في الحال، فإن اختلفا في الإذن.. فالقول قول الرهن؛ لأن الأصل عدم الإذن، فإن شهد المرتهن للسيد في إذن الراهن.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (قبلت شهادته؛ لأنه لا يجر بهذه الشهادة إلى نفسه نفعا، ولا يدفع بها ضررا)

[مسألة: رهن العبد بما أذن فيه عند رجلين العبد المستعار]
مسألة: [رهن العبد بما أذن فيه عند رجلين] : إذا استعار من رجل عبدا ليرهنه بمائة دينار، فرهنه عند رجلين، عند كل واحد منهما نصفه بخمسين، بعقد واحد.. صح، فإن قضى أحدهما خمسين..انفك نصف العبد؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين.
وهكذا: إذا استعار رجلان من رجل عبدا ليرهناه بمائة، فرهناه عند رجل بمائة بعقد واحد، فقضاه أحدهما خمسين.. انفك نصف العبد؛ لم ذكرناه.

(6/529)


وإن استعار رجل من رجلين عبدا بينهما نصفين، ليرهنه بمائة دينار، فرهنه عند رجل بمائة دينار، فدفع إليه خمسين لينفك نصيب أحدهما.. ففيه قولان:
أحدهما: لا ينفك منه شيء لأن الراهن واحد، والمرتهن واحد، والحق واحد.. فلم ينفك بعضه بقضاء بعض الدين، كما لو استعاره من واحد.
والثاني: ينفك نصف؛ لأن كل واحد منهما لم يأذن في رهن نصيبه إلا بخمسين. فإذا قلنا بهذا: نظر في المرتهن:
فإن علم أن العبد لسيدين.. فلا خيار له في البيع إن كان الرهن مشروطا في بيع؛ لأنه دخل على بصيرة.
وإن لم يعلم فهل له الخيار في البيع؟ قال أبو العباس: فيه وجهان:
أحدهما: لا خيار له؛ لأنه حصل له رهن جميع العبد، وإنما انفك بعضه بالقضاء بعد ذلك.
والثاني: له الخيار؛ لأنه دخل في البيع على أن لا ينفك شيء من الرهن إلا بقضاء جميع الدين، ولم يحصل له ذلك.

[مسألة: اختلاف راكب الدابة وصاحبها]
] : إذا دفع إلى رجل دابة، فركبها، ثم اختلفا: فقال مالك الدابة: أكريتكها إلى موضع كذا، بكذا وكذا، وقال الراكب: بل أعرتنيها.. فلا يخلو: إما أن تكون الدابة باقية، أو تالفة.
فإن كانت باقية.. نظرت:
فإن كان اختلافهما عقيب الدفع قبل أن تمضي مدة لمثلها أجرة.. فالقول قول الراكب مع يمنيه: إنه ما استأجرها، بلا خلاف؛ لأن مالك الدابة يدعي على الراكب عقد الإجارة، والأصل عدمها، فيحلف الراكب، وترد الدابة.
وإن كان اختلافهما بعد أن مضى زمان لمثلها أجرة.. فقد قال الشافعي في " المختصر، "3/33] ، و" الأم " [3/218] : (القول قول الراكب مع يمينه) ، وقال

(6/530)


في (المزارعة) [من " الأم " 3/247] : (إذا دفع رجل إلى آخر أرضا، فزرعها، ثم اختلفا: فقال المالك: أكريتكها بكذا، وقال من بيده الأرض: بل أعرتنيها.. فالقول قول مالك الأرض) . واختلف أصحابنا في المسألتين على طريقين:
فـ[الأول] : منهم من حملهما على ظاهرهما، وقال: إذا اختلفا في الدابة فالقول قول الراكب، وإذا اختلفا في الأرض.. فالقول قول مالك الأرض، وفرق بينهما: بأن العادة قد جرت بأن الناس يعيرون دوابهم للركوب، فكان القول قول الراكب؛ لأن الظاهر معه، ولم تجر العادة أن الناس يعيرون أراضيهم للزراعة، وإنما يكرونها، فكان القول قول المالك؛ لأن؛ الظاهر معه.
و [الطريق الثاني] : منهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين، وبه قال عامة أصحابنا، وهو الصحيح:
أحدهما: أن القول قول المالك، وهو قول مالك، واختيار المزني؛ لأن المنافع تجري مجرى الأعيان: بدليل: أنه يصح العقد عليها، وتضمن بالغصب، وتصح الوصية بها، كالأعيان، ثم لو اختلفا في عين الدابة والأرض: فقال من هي بيده: وهبتنيها، وقال المالك: بل بعتكها.. فالقول قول المالك، فكذلك هذا مثله.
والثاني: أن القول قول الراكب، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنهما قد اتفقا على: أن المنافع تلفت في يد الراكب وملكه، وصار المالك يدعي عليه عوض المنافع، وهو منكر، فكان القول قول المنكر كما لو كان في يده دار، وأقر غيره له بها، وادعى عليه أنه باعها منه، وأنكر من بيده الدار البيع.. فالقول قوله مع يمينه، ويخالف إذا اختلفا في هبة الدار وبيعها؛ لأن هناك اتفقا على: أن الملك لمن انتقلت منه، واختلفا في كيفية خروجه منه، فكان القول قول المالك في كيفية خروجه منه، وهاهنا المنفعة قد حكم أنها قد حدثت في ملك الراكب ويده، وادعى عليه المالك عوضا الأصل عدمه.
فإن قلنا: القول قول مالك.. نظرت:
فإن حلف.. استحق الأجرة، وأي أجرة يستحق؟ فيه وجهان:

(6/531)


أحدهما: الأجرة المسماة التي ادعاها؛ لأنه قد حلف عليها.
والثاني: يستحق أجرة المثل، وهو المنصوص في " الأم " [3 218] ؛ لأنهما لو اتفقا على عقد الإجارة، واختلفا في قدر الأجرة.. لم يستحق المسمى، فبأن لا يستحق المسمى، ولم يتفقا على قدر الإجارة أولى.
ويحتمل أن يكون فيها وجه ثالث: وهو أنه يستحق أقل الأمرين، من المسمى، أو أجرة المثل؛ لأنه إن كان المسمى أكثر.. لم يستحق الزيادة عليه؛ لأنه لا يجوز أن يستحق ذلك بدعواه أو يمينه، وإن كانت أجرة المثل أكثر.. لم يستحق الزيادة على المسمى؛ لأنه لا يدعيها.
فإن نكل المالك عن اليمين.. لم يحلف الراكب يمين الرد، وأنه أعاره إياه؛ لأنه لا يدعي شيئا، فيحلف عليه.
قال الطبري في " العدة ": فإن أراد المالك استحلاف الراكب: أنه ما أستأجرها منه.. كان له ذلك، كما لو ادعى على رجل دينا، وأقام شاهدا واحدا.. فإن له أن يحلف مع شاهده، وله أن لا يحلف مع شاهده، ويستحلف خصمه: أنه لا يستحق عليه الدين، كذلك هذا مثله.
وإن قلنا: القول قول الراكب.. نظرت:
فإن حلف: إنه ما استأجرها.. سقطت عنه المطالبة.
وإن نكل عن اليمين.. ردت على المالك، فإن حلف.. فقد قال عامة أصحابنا: استحق الأجرة المسماة التي ادعاها، وجها واحدا؛ لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه تحل محل إقرار المدعى عليه، أو محل البينة عليه، وأيهما كان.. فإن المسمى يثبت به. وقال المحاملي: فيما يستحقه من الأجرة الوجهان الأولان.
وإن اختلفا بعد تلف الدابة.. نظرت:
فإن تلفت عقيب الدفع قبل أن تمضي مدة لمثلها أجرة، فإن المالك ادعى عقد

(6/532)


الإجارة ـ ولو صح عقدها.. لانفسخت بموت الدابة عقيب الدفع ـ فلا تصح دعواه للأجرة؛ لأن الراكب يقر له بقيمة الدابة، وهو لا يدعيها. قال الشيخ أبو حامد: فيقال لمالك الدابة: قد أقر لك بقيمة الدابة، فإن شئت.. فصدقه أنك أعرته الدابة، وخذ قيمتها منه، وإن لم تصدقه.. فلا شيء لك.
وإن تلفت الدابة بعد أن مضت مدة لمثلها أجرة.. فإن المالك يدعي أجرة ما مضى، ولا يدعي القيمة، والراكب ينكر الأجرة، ويقر له بالقيمة، واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: ينظر فيه:
فإن كانت الأجرة والقيمة سواء.. فإن الحاكم يأخذ ذلك من الراكب، ويدفعه إلى المالك من غير يمين؛ لأنهما قد اتفقا على استحقاق مالك الدابة لذلك، وإن اختلفا في سببه، فإن كانت القيمة أكثر من الأجرة.. ألزمه الحاكم دفع قدر الأجرة، وقيل للمالك: أنت لا تدعي الزيادة على قدر الأجرة، فإن أردت أن تستحقه.. فأقر أنك أعرته، ولم تؤاجره، وإن كانت الأجرة أكثر من القيمة.. ألزمه الحاكم أن يدفع إليه قدر القيمة، وكان الحكم في الزيادة على الطريقين إذا كانت الدابة باقية.
ومنهم من قال: يسقط إقراره بالقيمة؛ لأنه أقر بها لمن لا يدعيها، والمالك يدعي الأجرة، والراكب ينكر، ومن القول قوله؟ على الطريقين إذا كانت الدابة باقية.

[فرع: اختلفا على إعارة أو إجارة]
] : وإن كان اختلافهما بعكس الأولى، بأن يقول الراكب: أجرتنيها إلى موضع كذا بكذا، وقال المالك: بل أعرتكها، فإن كانت الدابة باقية.. نظرت:
فإن اختلفا عقيب الدفع قبل أن تمضي مدة لمثلها أجرة.. فالقول قول المالك مع يمينه: أنه ما أجره؛ لأن الأصل عدم الإجارة، فيحلف، ويأخذ دابته.

(6/533)


وإن اختلفا بعد مضي مدة الإجارة.. فلا معنى لهذا الاختلاف؛ لأنهما اتفقا على وجوب ردها، فيأخذ المالك دابته من غير يمين، غير أن الراكب يقر للمالك بالأجرة، وهو لا يدعيها، فلا يستحقها إلا بالتصديق.
وإن اختلفا بعد مضي بعض مدة الإجارة.. فالقول قول المالك مع يمينه: أنه ما أجره، فإذا حلف.. أخذ دابته، ولا يستحق، المالك أجرة ما مضى؛ لأنه لا يدعيها.
وإن كانت الدابة تالفة، فإن تلفت عقيب الدفع قبل أن تمضي مدة لمثلها أجرة.. فإن المالك يدعي أنها عارية؛ ليستحق قيمتها، والراكب ينكر العارية.. فالقول قول المالك، قولا واحدا؛ لأن الاختلاف هاهنا في العين لا في المنفعة، والعين قد قبضها الراكب، والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمان؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» .
وإن كان الاختلاف بعد مضي المدة.. فإن الراكب يقر له بالأجرة، والمالك يدعي القيمة فإن كانت القيمة بقدر الأجرة.. فمن أصحابنا من قال: يدفع إليه من غير يمين؛ لأنهما اتفقا: أن المالك يستحق ذلك، ومنهم من قال: لا تثبت الأجرة؛ لأنه لا يدعيها، ولكن يحلف المالك على القيمة، وهكذا الوجهان لو كانت القيمة أقل، هل يستحقها المالك من غير يمين؟
وإن كانت القيمة أكثر.. لم يستحق المالك ما زاد على الأجرة حتى يحلف، وهل يستحق قدر الأجرة من غير أن يحلف؟ على الوجهين.

[فرع: اختلفا في أنه اغتصب أو استعار]
] : وإن قال الراكب: أعرتنيها، وقال المالك: بل غصبتنيها فلا يخلو إما أن تكون الدابة باقية، أو تالفة.

(6/534)


فإن كانت باقية.. نظرت:
فإن كان الاختلاف عقيب الدفع قبل أن تمضي مدة لمثلها أجرة.. ردت على صاحبها، ولا كلام، سواء كانت غصبا أو عارية.
وإن كان بعد مضي مدة لمثلها أجرة.. فنقل المزني هاهنا: (أن القول قول المستعير) . واختلف أصحابنا فيها على أربعة طرق:
فمنهم من قال: هي على الطريقين في الدابة والأرض:
أحدهما: الفرق بين الدابة والأرض.
والثانية: أنهما على قولين؛ لأن الاختلاف فيهما واحد وهو أن المالك يدعي الأجرة، والمتصرف ينكرها، فهي كالأولى.
و [الطريقة الثالثة] : منهم من قال: القول قول المالك، قولا واحدا، وما رواه المزني غلط، والفرق بينهما: أن في تلك المسألة اتفقا على: أن المنافع تلفت على ملك المتصرف، وادعى عليه المالك عوضها، فلذلك كان القول قول المتصرف في أحد القولين؛ لأن الأصل براءة ذمته، وهاهنا لم يقر المالك للمتصرف بالمنفعة، وإنما المتصرف ادعى ملكها، والأصل بقاء المنافع على ملك المالك.
و [الطريقة الرابعة] : قال الشيخ أبو حامد: الصحيح ما رواه المزني، وقد نص عليه الشافعي في " الأم " [3 218] : لأن المنافع قد تلفت، وليست ملكا قائما، والمالك يدعي عليه عوضها، والأصل براءة ذمته، ولأن الظاهر من اليد أنها بحق، ومدعي الغصب يدعي خلاف الظاهر، فكان القول قول صاحب اليد.
وإن كانت الدابة تالفة، فإن كان اختلافهما قبل مضي شيء من المدة.. فإن القيمة تجب على الراكب بلا يمين؛ لأنهما متفقان على: أن المالك يستحقها، وإن كان بعد مضي مدة لمثلها أجرة.. فالكلام على الأجرة على ما مضى، وأما القيمة: فإن كانت قيمتها من حين قبضها إلى أن تلفت سواء، أو كانت قيمتها يوم التلف أكثر.. وجبت عليه القيمة من غير يمين، وإن كانت قيمتها يوم التلف أقل من يوم القبض، فإن قلنا: إن العارية إذا تلفت وجبت قيمتها أكثر ما كانت من حين القبض.. وجبت قيمتها هاهنا

(6/535)


أكثر ما كانت من غير يمين، وإن قلنا: يجب قيمتها يوم التلف.. وجب عليه قدر قيمتها يوم التلف من غير يمين، وما زاد على ذلك على الطرق.

[فرع: اختلفا على أنه استأجر أو اغتصب]
] : وإن قال المالك: غصبتنيها، وقال الراكب: بل أجرتنيها إلى موضع كذا بكذا.. فلا يخلو: إما أن تكون الدابة باقية، أو تالفة.
فإن كانت باقية، فإن كان الاختلاف قبل مضي شيء من المدة.. فالقول قول المالك مع يمينه؛ لأنه يدعي عليه عقد الإجارة، والأصل عدمه، فيحلف؛ ويأخذ دابته، وإن كان بعد مضي مدة الإجارة، فإن كان ما يقر به الراكب من الأجرة المسماة مثل أجرة مثلها، أو أكثر من أجرة المثل.. استحق المالك قدر المسماة من غير يمين؛ لأنهما متفقان على استحقاق المالك له، وإن كانت أجرة المثل التي يدعيها الملك أكثر من المسماة، أو كانت البهيمة قد نقصت بالركوب، فمن القول قوله؟ يحتمل أن يكون على الطرق في المسألة قبلها؛ لأنهما سواء، وذلك: أن الراكب يدعي أنه استوفى منفعتها بملك صحيح، وهو الإجارة، كما أنه في الأولى يدعي أنه استوفاها بملك صحيح وهو الإعارة والمالك يدعي أنه استوفى ذلك فيها بغير ملك.
وإن كانت العين تالفة، فإن تلفت قبل أن يمضي شيء من المدة.. فإن المالك يدعي القيمة، والراكب ينكرها ولا يقر له بأجرة، فمن القول قوله؟ على الطرق المخرجة فيها إذا كانت العين باقية بعد مضي المدة، وإن مضت مدة لمثلها أجرة، ثم تلفت، فإن كان ما يقر به الراكب من المسمى مثل أجرة المثل، أو أقل.. فإن المالك يستحق ذلك من غير يمين؛ لأنهما متفقان على استحقاق المالك له، ثم المالك يدعي القيمة، والراكب ينكرها، فمن القول قوله؟ على الطرق المخرجة فيها.
وهكذا: إن كانت أجرة المثل أكثر من المسمى.. في الزيادة الطرق المخرجة، وإن كانت المسماة أكثر من أجرة المثل.. استحق قدر أجرة المثل من غير يمين؛

(6/536)


لاتفاقهما على استحقاق المالك له، وهل يستحق الزيادة عليه من جهة القيمة التي يعيها من غير يمين؟ فيه وجهان:
أحدهما: يستحق ذلك من غير يمين؛ لاتفاقهما على استحقاق المالك له.
والثاني: يبطل إقرار الراكب بما زاد من المسمى على أجرة المثل؛ لأنه أقر بذلك لم لا يدعيه.
وبالله التوفيق

(6/537)