البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الغصب]
الغصب محرم، والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] [النساء: 29] .
وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] [النساء: 10] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] الآية [المائدة: 38] . والسرقة من الغصب.
ومن السنة: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ـ في خطبته في حجة الوداع ـ: «ألا إن دماءكم

(7/7)


وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» . ومعنى ذلك: دماء بعضكم على بعض، وأموال بعضكم على بعض.
وروى عبد الله بن السائب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يأخذن أحدكم مال أخيه لاعبا، ولا جادا، فمن أخذ عصا أخيه.. فليردها» .
وروى سمرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «على اليد ما أخذت حتى ترده "، وروي: " حتى تؤديه» .
وروى يعلى بن مرة الثقفي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أخذ أرضا بغير حقها.. كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر» .

(7/8)


وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أخذ شبرا من الأرض بغير حقها.. طوقه من سبع أرضين يوم القيامة» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال بحلال، أو حرام» .
وأجمعت الأمة على تحريم الغصب، قال الصيمري: ومن غصب شيئا، واعتقد إباحته.. كفر بذلك، وإن اعتقد تحريمه.. فسق بفعله، ولم تقبل شهادته.
إذا ثبت هذا: فإن الغصب يصح في الأموال المنقولة، بأن يقبضها كما يقبضها في البيع، وفي العقار، بأن يزيل يد مالكه عنه، ويصير في يده، وبه قال مالك، ومحمد.

(7/9)


وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (لا يصح الغصب في العقار؛ لأنه لا يتأتى فيه النقل) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غصب شبرا من الأرض.. طوقه من سبع أرضين يوم القيامة» .
ولأن ما جاز أن يضمن بالقبض في البيع.. جاز أن يضمن بالغصب، كالمنقول.

[مسألة: يرد المغصوب]
ومن غصب مال غيره.. وجب عليه رده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فمن أخذ عصا أخيه.. فليردها» .
فإن كان الغاصب من أهل الضمان في حق المغصوب منه.. فإن المغصوب يكون في ضمان الغاصب إلى أن يرده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى ترد» .
وإن لم يكن من أهل الضمان في حق المغصوب منه، بأن يغصب الحربي مال المسلم، أو يغصب العبد مال سيده.. فإنه يكون غاصبا يأثم بذلك، ويجب عليه رده، ولا يكون مضمونا عليه، ولو تلف في يده.. لم يجب عليه ضمانه، كما لو أتلف عليه مالا. وكيفية الرد الذي يبرأ به الغاصب من الضمان: أن ينظر في المغصوب:
فإن كان مما ينقل.. فبأن ينقله المالك، أو وكيله.

(7/10)


وإن كان مما لا ينقل.. فبأن يرفع الغاصب يده عنه، ويعلم الملك أنه قد تخلى عنه، فإذا مضت مدة يمكن فيها القبض ... برئ الغاصب من الضمان.
وهكذا: لو لم يعلمه الغاصب، لكن وضع المالك يده على عقاره، ورفع الغاصب يده عنها، ولم يمنع المالك منه.. فإنه يبرأ بذلك.

[مسألة: ما غصب وله أجرة]
مسألة: [في ما غصب وله أجرة] :
ومن غصب عينا لغيره، وهو من أهل الضمان في حقه، وأقامت في يده مدة لمثلها أجرة، فإن كان لمثل تلك العين منفعة تملك بالإجارة، كسكنى الدار، وزراعة الأرض، وخدمة العبد، والجارية، وما أشبه ذلك.. وجب على الغاصب أجرة مثلها لتلك المدة، سواء انتفع بها أو لم ينتفع بها. وإن كانت المنفعة لا تستباح بالإجارة، كمنفعة وطء الجارية.. لم يجب عليه ضمانها؛ لأن الغصب لا يمنع المالك من المعاوضة على بضعها، وهو عقد النكاح، ويمنعه من إجارتها. هذا مذهبنا، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه ضمان أجرة المنافع بحال) .
دليلنا: أن ما صح أن يملك بالمسمى في العقد الصحيح، وبالمثل في العقد الفاسد، وهو مما يطلب بعقد المغابنة.. ضمن بالغصب، كالأعيان.
فقولنا: (وهو مما يطلب بعقد المغابنة) احتراز من منفعة الاستمتاع.

[مسألة: يرد المغصوب وإن نقصت قيمته]
وإذا غصب عينا لغيره.. فلا يخلو: إما أن تكون العين باقية بحالها، أو تالفة.
فإن كانت باقية.. فقد ذكرنا: أنه يجب عليه الرد للخبر، فإن نقصت قيمتها من حين الغصب إلى حين الرد لكسادها، لا لنقص حدث فيها.. فإنه لا يجب على

(7/11)


الغاصب ضمان ما نقص من قيمتها، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وكافة العلماء، إلا أبا ثور، فإنه قال: (يجب عليه ردها، ورد ما نقص من قيمتها لرخصها) .
دليلنا: أنه رد العين، ولم ينقص منها عين، ولا أثر.. فلم يجب عليه ضمان شيء من قيمتها، كما لو لم تنقص قيمتها في السوق.
وإن كانت العين تالفة.. فلا يخلو: إما أن تكون من غير ذوات الأمثال، أو من ذوات الأمثال.
فإن كانت من غير ذوات الأمثال، وهو مما لا تتساوى أجزاؤه، ولا صفاته، كالثياب، والحيوان، والأخشاب، وما أشبهها.. وجب على الغاصب قيمته، وهو قول كافة العلماء، إلا ما حكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري: أنه قال: يجب عليه مثله من طريق الضرورة؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية، صنعت طعاما، فبعثت به إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخذني الأفكل، فكسرت الإناء، فقلت: يا رسول الله، ما كفارة ما صنعت؟ فقال: (إناء مثل الإناء، وطعام مثل الطعام» . و (الأفكل) : الرعدة من الغيرة.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق شركا له في عبد.. قوم عليه نصيب شريكه» . فأمر بتقويم نصيب الشريك، وهو متلف بالعتق، ولم يأمره بمثله من عبد.
ولأن الأشياء التي لا تتساوى أجزاؤها، لا يمكن إيجاب المثل فيها لاختلافها،

(7/12)


فكانت القيمة أولى، وأما الخبر: فمحمول على أنه علم أنها ترضى بذلك.
وتجب قيمة المغصوب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى أن تلف؛ لأنه غاصب له في جميع تلك المدة، وتجب قيمته من نقد البلد التي تلف فيها المغصوب؛ لأنه موضع الضمان.
إذا ثبت هذا: فلا يخلو الذي لا مثل له: إما أن يكون حيوانا، أو غير حيوان. فإن كان غير الحيوان.. نظرت:
فإن كان ذهبا، أو فضة، فإن كانت فيه صنعة.. نظرت:
فإن كانت صنعته مباحة، كالخلاخل، والدمالج، وغير ذلك مما يجوز استعماله، فإن كان نقد البلد من غير جنسه، أو من جنسه ولا يزيد وزن القيمة عليه وجب عليه قيمته، وإن كان نقد البلد من جنسه ويزيد وزن قيمته على وزنه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقوم بجنس آخر؛ لأن ضمانه بنقد البلد يؤدي إلى الربا.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يقوم بنقد البلد؛ لأن الزيادة على وزنه لأجل الصنعة، وللصنعة قيمة، ولهذا لو أتلف متلف الصنعة.. لزمه قيمتها.
وإن كانت صنعة محرمة؛ كأواني الذهب والفضة، فإن قلنا: يجوز اتخاذها.. كانت كالصنعة المباحة، وإن قلنا: لا يجوز اتخاذها.. لم تضمن قيمة الصنعة.
وإن لم يكن فيه صنعة، كالنقرة، والسبيكة.. فاختلف أصحابنا فيها: فقال الشيخ أبو حامد: هي من ذوات الأمثال.

(7/13)


وقال عامة أصحابنا: ليست من ذوات الأمثال؛ لأن أجزاءها تختلف.
فعلى هذا: ينظر فيه:
فإن كان نقد البلد من غير جنسها، أو من جنسها، ولا يزيد وزن قيمتها على وزنها.. ضمنها بقيمتها.
وإن كان نقد البلد من جنسها، ويزيد وزن قيمتها على وزنها.. ضمنها بجنس آخر؛ لأن ضمانها بأكثر من وزنها من جنسها رباً.
وأما الدراهم والدنانير التي ليست بمغشوشة: فإنها من ذوات الأمثال؛ لأن أجزاءها متساوية.
وإن خرق له ثوباً، أو كسر له ظرفا.. وجب عليه أرش ما نقص بذلك.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الأرش قليلاً.. فكما قلنا، وإن كان كثيراً.. فمالكه بالخيار: بين أن يسلمه إلى الجاني عليه، ويطالبه بجميع قيمته، وبين أن يمسكه، ويطالبه بالأرش) .
دليلنا: أنها جناية على مال أرشها دون قيمتها، فلم يكن له المطالبة بجميع قيمتها، كما لو كان الأرش قليلاً.

[فرع: غصب الحر والعبد]
وأما الحيوان: فضربان: آدمي، وغير آدمي.
فأما الآدمي: فضربان: حر، وعبد.
فأما الحر: فإنه لا يضمن باليد، صغيراً كان أو كبيراً، وإنما يضمن بالجناية، على ما نذكره في (الجنايات) إن شاء الله تعالى.
وأما العبد: فيضمن بالغصب والجناية، فإذا غصب عبداً.. ضمنه، صغيراً كان أو كبيراً؛ لأنه مال، فضمن بالغصب، كسائر الأموال، فإن مات في يده.. وجبت عليه

(7/14)


قيمته بالغة ما بلغت؛ لأنه ليس من ذوات الأمثال، فضمنه بالقيمة، كما لو أعتق شقصا له من عبد وهو موسر بقيمة الباقي.
وإن تلف في يده جزء من أجزائه.. نظرت:
فإن لم يكن له أرش مقدر، كالبكارة، والسمن، وما أشبه ذلك.. رده وما نقص من قيمته.
وإن كان له أرش مقدر، كاليد، والرجل، وما أشبههما، فإن ذهب ذلك بغير جناية، بأن ذهبت يده بآفة سماوية.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يرده ونصف قيمته؛ لأن ما ضمن ببدل مقدر في الإتلاف.. ضمن به بالغصب، كالنفس.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يرده وما نقص من قيمته بذهاب اليد، أو العين؛ لأن ضمانه باليد ضمان المال، ولهذا لا يجب به القصاص ولا الكفارة إذا مات، فيضمنه بما نقص، كسائر الأموال.
وإن غصب عبداً، فقطع يده، أو قلع عينه.. فقد اجتمع هاهنا الغصب والجناية، فإن قلنا بالوجه الأول.. رد العبد ونصف قيمته، وإن قلنا بالثاني ... رد العبد وأكثر الأمرين من نصف القيمة، أو ما نقصت قيمته بذلك؛ لأنه اجتمع فيه الأمران.
وحكى المسعودي [في (الإبانة) ق\ 304] قولا آخر: أن جراحات العبد، وأطرافه كلها مضمونة بما نقص من قيمته. وليس بمشهور.
وقال مالك: (جميع أطراف العبد والجراحات في بدنه مضمونة بما نقص من قيمته، إلا المنقلة، والمأمومة) .
ودليلنا: أن ما ضمن ببدل مقدر من دية الحر.. ضمن بمثل ذلك من قيمة العبد، كالنفس.

(7/15)


وإن غصب عبداً، فقطع يديه.. فإنه يرده، والكلام فيما يجب عليه كما ذكرناه في اليد، إلا أن اليدين تضمنان بجميع القيمة.
وقال أبو حنيفة: (المالك بالخيار: بين أن يسلم العبد إلى الغاصب، ويطالبه بجميع قيمته، وبين أن يمسكه، ولا شيء له) .
دليلنا: أنه جنى على ملك غيره جناية مضمونة، فكان له المطالبة بالأرش مع إمساك ملكه، كما لو قطع يداً واحدة.
وإن غصب أم ولد.. ضمنها بالغصب، وكان حكمها حكم غيرها من الجواري.
وقال أبو حنيفة: (لا تضمن باليد) .
دليلنا: أنها تضمن بالجناية، فضمنت باليد، كالأمة القنة.

[فرع: زيادة قيمة العبد المغصوب]
] . وإن غصب عبداً يساوي مائة، فزادت قيمته، فصار يساوي ألفا، ثم قطع يده.. لزمه رده وخمسمائة؛ لأن زيادة السوق مع التلف مضمونة.
وأما غير الآدمي، كالبهيمة إذا غصبها، فإن تلفت في يده، أو أتلفها.. وجبت عليه قيمتها، وإن تلف عضو من أعضائها بيده، أو أتلفه.. وجب عليه رد البهيمة وما نقص من قيمتها. هذا مذهبنا، وبه قال مالك، إلا أنه قال: (إذا قطع ذنب حمار القاضي ... لزمه جميع قيمته) .
وقال أبو حنيفة: (إن كانت البهيمة مما لها ظهر بلا لحم، كالبغل، والحمار، أو مما لها لحم بلا ظهر، كالغنم ـ فمثل قولنا ـ وإن كان لها لحم وظهر، كالخيل، والإبل، والبقر.. فإنه إذا غصبها، وقلع عينيها.. ردها ونصف قيمتها، وإن قلع إحدى عينيها.. ردها وربع قيمتها) .

(7/16)


دليلنا على مالك: أنه جناية على عضو من بهيمة، فضمن ما نقص من قيمتها، كقطع ذنب حمار الشرطي.
وعلى أبي حنيفة: أنه جناية على عضو بهيمة، فلم يضمنها ببدل مقدر، كما لو قطع يدها أو رجلها.

[فرع: غصب ما له مثل فتلف]
وإن غصب شيئا له مثل، فتلف في يده، أو أتلفه.. ضمنه بمثله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] [البقرة: 194] .
ولأن المثلية تعلم من طريق المشاهدة، والقيمة تعلم بغلبة الظن والاجتهاد، فقدم إيجاب المثل على القيمة، كما نقدم النص على الاجتهاد.
قال القاضي أبو الطيب: وما له مثل، هو ما جمع ثلاثة أوصاف:
أحدها: أن يكون مكيلا، أو موزونا.
الثاني: أن يكون مما يضبط بالصفة.
الثالث: أن يجوز بيع بعضه ببعض، وذلك كالدراهم، والدنانير، والحبوب، والأدهان، والتمر، والزبيب، والملح.
قال الشيخ أبو حامد: والقطن من ذوات الأمثال؛ لأن أجزاءه تتساوى، ولا تختلف في العادة.
قال الصيمري: والغزل، والرصاص، والنحاس، والحديد من ذوات الأمثال، واللبن من ذوات الأمثال، وما طبخ وتعقدت أجزاؤه لا مثل له؛ لأنه لا يجوز بيع بعضه ببعض، وكذلك الجواهر واللؤلؤ لا مثل له؛ لأنه لا يضبط بالصفة، والحيوان والثياب ليست من ذوات الأمثال؛ لأنها ليست بمكيلة، ولا موزونة.

(7/17)


[فرع: أتلف مغصوبا نتج مما لا مثل له]
] : فإن غصب منه ما له مثل، واتخذ منه ما لا مثل له، وتلف، كالتمر إذا اتخذ منه الخل بالماء، والحنطة إذا جعلها دقيقا، وقلنا: لا يجوز بيع بعضه ببعض.. فقد قال الشيخ أبو إسحاق: لزمه مثل التمر، والحنطة؛ لأنه أقرب إلى المغصوب.
قلت: وينبغي أن يلزمه أكثر الأمرين من مثل الأصل، أو قيمة الخل أو الدقيق؛ لأن كل واحد منهما عين ماله.
وإن غصب منه ما لا مثل له، واتخذ منه ما له مثل، مثل أن يغصب منه رطبا، ويجعله تمراً، فيتلف.. قال الشيخ أبو إسحاق: لزمه مثل التمر؛ لأنه أقرب من قيمة المغصوب.
قلت: وينبغي أن ينظر إلى قيمة الرطب: فإن كانت قيمته أكثر من قيمة التمر.. لزمه أن يدفع مع التمر ما نقص من قيمة الرطب؛ لأنه نقص في يده.
وإن غصب منه ما له مثل، واتخذ منه ما له مثل وتلف، بأن يغصب منه سمسماً، ويتخذ منه شيرجا فتلف.. فهو بالخيار: بين أن يطالبه بأي المثلين شاء؛ لأن كل واحد منهما عين ماله، فإن كانت قيمتهما سواء.. فلا كلام، وإن كانت قيمة الشيرج أكثر، واختار المالك الشيرج.. فلا شيء للغاصب لزيادة قيمته بعمله؛ لأنه تعدى به، وإن كانت قيمة الشيرج أقل، فإن اختار المالك المطالبة بمثل السمسم.. فلا شيء له لنقصان قيمته؛ لأنه قد وصل إلى جميع حقه، وإن اختار المطالبة بمثل الشيرج.. فينبغي أن يكون له المطالبة بما نقصت قيمة الشيرج عن قيمة السمسم؛ لأنه نقص بفعله.

(7/18)


[فرع: أتلف مغصوبا له مثل]
وإن غصب منه ما له مثل، وأتلفه، ولم يوجد المثل، فإن قال المغصوب منه: أنا أصبر إلى أن يوجد المثل.. كان له ذلك؛ لأن الحق له، وإن قال: لا أصبر.. كان له أن يطالب بالقيمة؛ لأنه إذا لم يجود المثل.. صار كما لو لم يكن له مثل، ومتى تعتبر قيمته؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها ـ وهو قول أبي إسحاق المروزي ـ: أنها تجب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف؛ لأنه لما أتلفه، ولم يوجد له مثل.. صار كالذي لا مثل له.
والثاني ـ وهو قول القاضي أبي الطيب ـ: أن قيمته تعتبر حين حكم الحاكم بها؛ لأن الواجب في الذمة هو المثل، بدليل: أنه لو صبر إلى وجود المثل.. لم يجبر على أخذ القيمة، فإذا تعذر المثل.. اعتبرت قيمته وقت الحكم بها.
والثالث ـ وهو قول أبي علي الطبري ـ: أنها تجب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التقويم؛ لأن الواجب في الذمة هو المثل، فلما تعذر.. اعتبرت قيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التقويم، كما تعتبر قيمة ما لا مثل له أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف.
والرابع ـ وهو قول ابن القاص ـ: أن قيمته تعتبر يوم حكم الحاكم بها، إلا أن يكون المثل مما ينقطع، مثل عصير العنب، فتعتبر قيمته يوم الانقطاع؛ لأن بالانقطاع سقط المثل، ووجبت قيمته، والذي لا ينقطع ـ وإنما يتعذر في موضع دون موضع ـ لا يسقط فيه المثل، فاعتبرت قيمته يوم المحاكمة.
وإن وجد المثل بأكثر من قيمته.. فهل يلزمه شراؤه؟ فيه وجهان، خرجهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يلزمه شراؤه؛ لأن وجود الشيء بأكثر من قيمته بمنزلة المعدوم، كما قلنا في الرقبة في الكفارة.

(7/19)


والثاني: يلزمه، كما لو لم يقدر على رد العين المغصوبة إلا بأكثر من قيمتها.. فإنه يلزمه تخليصها.
وإذا دفع الغاصب قيمة المثل، ثم وجد المثل بعد ذلك.. فهل له أن يسترد القيمة، ويدفع المثل؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في (الإبانة) ق\ 306] :
أحدهما: ليس له؛ لأن ذمته قد برئت منه بدفع القيمة.
والثاني: له ذلك، كما لو ذهبت العين المغصوبة، فدفع قيمتها، ثم قدر على ردها.

[مسألة: خروج المغصوب من يد الغاصب]
] : وإن غصب من رجل عينا، فخرجت من يده، وتعذر عليه ردها، بأن كان عبداً، فأبق، أو بهيمة، فضلت.. فللمغصوب منه مطالبة الغاصب بقيمتها؛ لأنه حال بينه وبين ماله، فصار كما لو تلفت بيده.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا إجماع، فإذا قبض المغصوب منه القيمة.. ملكها؛ لأنها بدل عين ماله، ومن شرط البدل أن يقوم مقام المبدل، فلما كان المبدل ملكا له.. فكذلك البدل. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وحكى سهل: أن القفال قال: لا يملك المغصوب منه القيمة، بل ينتفع بها وهي على ملك الغاصب؛ لأن ملكه لا يزول عن العين المغصوبة، فلا يجمع له ملك البدل والمبدل، والأول هو المشهور. إذا ثبت هذا: فإن الغاصب لا يملك العين المغصوبة بدفعه لقيمتها، بل إذا رجعت العين المغصوبة.. وجب عليه ردها، واسترجع ما دفع من القيمة.
وقال أبو حنيفة: (إذا دفع الغاصب القيمة.. ملك العين المغصوبة، وزال ملك المغصوب عنها، ثم ينظر فيه:

(7/20)


فإن اتفقا على قدر قيمتها، أو قامت بينة بقدر قيمتها.. استقر ملك الغاصب عليها.
وإن اختلفا في قدر قيمتها.. فالقول قول الغاصب مع يمينه في قدرها، فإذا حلف، ودفع القيمة بيمينه، ثم ظهرت العين المغصوبة، فإن كانت قيمتها مثل ما غرم أو أقل.. استقر ملكه عليها، وإن كانت أكثر.. كان المغصوب منه بالخيار: بين أن يقر حكم المعاوضة ويمسك القيمة، وبين أن يفسخ ويسترجع العين المغصوبة، ويرد ما أخذ من القيمة) .
دليلنا: أنه غرم ما تعذر عليه رده بخروجه من يده، فوجب أن لا يملك به العين المغصوبة، كما لو غصب منه مدبرا، أو أم ولده، فأبقا.
فقولنا: (بخروجه من يده) احتراز ممن غصب زيتا، فخلطه بزيت له، فغرم له زيته.. فإنه يملك ما بقي في يديه من زيته؛ لأنه لا يمكن تمييزه منه بحال، وممن أعتق شقصا له من عبد وهو موسر؛ لأن نصيب الشريك كالمستهلك، ولأن العين المغصوبة في هذه الحالة لا يصح للمالك بيعها من الغاصب، ولا من غيره، فلم يملكها الغاصب بدفعه لقيمتها، كما لو أتلف لغيره عينا، فدفع قيمتها.. فإنه لا يملكها، ولأن المغصوب منه أخذ البدل لأجل تعذر رد العين، لا لأجل المعاوضة، إذ لو كانت معاوضة.. لثبت فيها خيار المجلس، والثلاث، والشفعة، ولكان إذا لم يرجع المغصوب إلى الغاصب.. أن يرجع الغاصب على المغصوب منه بما دفع إليه، كما لو باع المغصوب منه العين المغصوبة ممن يقدر على انتزاعها من الغاصب.
إذا ثبت هذا: فإن العين إذا رجعت.. أخذها المغصوب منه بزيادتها المتصلة والمنفصلة كما لو كانت باقية في يد الغاصب.
وإن كان لمثلها أجرة.. فله أن يطالبه بأجرتها من حين غصبها إلى أن يأخذ قيمتها، بلا خلاف على المذهب، وهل له مطالبته بأجرتها من حين قبض قيمتها إلى أن قبض العين؟ فيه وجهان:

(7/21)


أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه أخذ القيمة بدلا عن انتفاعه بالعين، فلم يستحق لأجل منفعتها أجرة.
والثاني: له ذلك، وهو الصحيح؛ لأن الأجرة إنما لزمته؛ لأنه حال بينه وبين ملكه بغير حق، وهذا المعنى موجود بعد أخذ القيمة.
ويسترجع الغاصب القيمة التي دفعها إن كانت باقية، وإن كان للقيمة زيادة منفصلة، بأن دفع عن القيمة حيوانا، فنتج في يد المغصوب منه، أو شجرة، فأثمرت.. رجع الغاصب إلى الأصل دون النتاج والثمرة؛ لأنها زيادة متميزة حدثت في ملك المغصوب منه، فملكها، كما نقول في الرد بالعيب، وإن كانت الزيادة متصلة، بأن سمن الحيوان، أو طالت الشجرة.. رجع فيها مع زيادتها، كما قلنا في الرد بالعيب، وإن ظهر على المغصوب منه دين يستغرق ماله.. كان الغاصب أحق بما دفع من القيمة دون الغرماء؛ لأنها عين ماله، وإن تلف ما دفع الغاصب من القيمة في يد المغصوب منه.. رجع الغاصب إلى مثله إن كان له مثل، وإلى قيمته إن لم يكن له مثل.

[مسألة: تغيير صفة المغصوب]
] . وإن غصب شيئاً، فغيره عن صفته، بأن كان حنطة، فطحنها، أو دقيقاً، فخبزه، أو شاة فذبحها.. فإن ملك المغصوب منه لا يزول عنه، ويلزم الغاصب أن يرده ناقصا وما نقص من قيمته.
ومن أصحابنا من قال: للمغصوب منه أن يترك الدقيق للغاصب، ويطالبه بمثل الحنطة؛ لأنها أقرب إلى حقه من الدقيق.
والأول أصح؛ لأن عين ماله باقية، فلا يملك المطالبة بغيرها، كالشاة إذا ذبحها. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إذا تغير اسم المغصوب، ومنفعته المقصودة بفعل الغاصب.. ملكه الغاصب، وضمن قيمته للمغصوب منه، وذلك كالحنطة إذا طحنها؛ لأن اسمها

(7/22)


قد زال؛ لأنها لا تصلح للزراعة، ولا للهريس، وهكذا: إذا كان دقيقاً، فخبزه، أو كان المغصوب شاة، فذبحها وشواها، أو نقرة، فطبعها دراهم.. فإنه يملك ذلك كله، إلا أنه يكره له التصرف فيه قبل دفع القيمة إلى مالكه) .
وحكى ابن جرير، عن أبي حنيفة: أنه قال: (إذا دخل لص دار رجل، ولصاحب الدار فيه حنطة ورحى، فأخذ اللص من الطعام، وطحنه في الرحى.. فإنه يملك الدقيق، فإن جاء صاحب الطعام، وأراد أخذه منه.. كان له منعه ودفعه، فإذا لم يمتنع صاحب الدار عن اللص إلا بالقتل، فقتله اللص.. فلا شيء عليه) . واحتج بما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زار قوما من الأنصار في دارهم، فقدموا إليه شاة مشوية، فتناول منها لقمة، فجعل يلوكها ولا يسوغها، فقال: (إن هذه الشاة لتخبرني: أنها أخذت بغير حق) . قالوا: نعم يا رسول الله، طلبنا في السوق، فلم نجد، فأخذنا شاة لبعض جيراننا، ونحن نرضيهم عن ثمنها، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (أطعموها الأسرى» . وهذا يدل على: أن حق أصحابها قد انقطع عنها، إذ لم يأمرهم بردها إليهم.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» .
ولأنه مغصوب، غيره الغاصب بفعل تعدى به، فلم يملكه به، كما لو غصب شاة، وذبحها، ولم يشوها. وأما الخبر: فتأويله: أن الأسرى كانوا مضطرين، فأمرهم بدفعها إليهم؛ لأن أصحابها كانوا غير موجودين، ويخاف فسادها قبل وصولها إليهم.

(7/23)


[فرع: تأثر المغصوب بالبلل]
] . وإن غصب حنطة، فبلها بالماء، أو تركها في موضع ندي، فعفنت.. نظرت:
فإن كان قد استقر نقصانها، بأن جففها، وعلم أنها لا تنقص بعد ذلك.. لزمه ردها وأرش ما نقصت عنده؛ لأنها نقصت بفعله.
وإن لم يستقر نقصانها، بأن يزداد كل يوم فالمنصوص في (الأم) : (أن للمغصوب منه مثل مكيلتها) . وقال الربيع: فيه قول آخر: (أنه يأخذها، وما نقص من قيمتها) .
واختلف أصحابنا فيها على طريقين:
فـ ـ[الأول] : قال أبو العباس ابن سريج: يلزم الغاصب مثل مكيلتها من مثلها، قولا واحداً؛ لأن النقص غير مستقر؛ لأنه يتزايد كل يوم.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يلزم الغاصب مثل مكيلتها من مثلها؛ لما ذكرناه.
والثاني: يرد الطعام المبلول وما نقص من قيمته في الحال، وفيما بعد؛ لأنه وجد عين ماله، فرجع إليه، كالشاة إذا ذبحت.
فأما إذا عفن الطعام في يد الغاصب لطول المكث.. فقال الشيخ أبو حامد: هو كالطعام الذي بله على ما مضى.
وقال القاضي أبو الطيب: يجب على الغاصب رد الطعام الذي غصبه وإن كان عفنا وأرش ما نقص، قولاً واحداً، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن العفن ليس من فعله، فلا يضمن ما تولد منه، بخلاف البلل، فإن قيل: فالعفن مضمون عليه لوجوده في

(7/24)


يده، كالبلل الذي حصل بفعله، فكان ما تولد منهما سواء في الضمان، ألا ترى أنه لو ابتل بماء المطر، أو بله غيره.. كان كما لو بله بنفسه؟
فالجواب على هذا: أن يقال: النقص الذي حصل بالبلل إذا زاد وكثر.. فإنما حصل متولدا منه، فأما العفن: فإنما يزيد ببقائه، أو بمكثه في يده، كما أن الأول حصل بذلك، لا أن بعضه يولد بعضا، فافترقا.

[فرع: خلط الدراهم المغصوبة]
وإن غصب من رجل ألف درهم، ومن آخر ألفا أخرى، وخلطهما، ولم يتميزا.. صارا شريكين في ذلك.
وقال أبو حنيفة: (يملكها الغاصب، ويجب عليه لكل واحد منهما مثل دراهمه) . وبناه على أصله في تغيير المغصوب.
دليلنا: أن هذا فعل تغير به المغصوب على وجه التعدي، فلا يملكه، كما لو ذبح الشاة.

[مسألة: نقص المغصوب شيئاً له بدل]
وإن غصب عبدا، فخصاه، وبرئ، فزادت قيمته بذلك، أو لم تنقص قيمته.. لزمه رد العبد ورد قيمته؛ لأن الأنثيين مضمونتان من الحر بالدية، ومن العبد بالقيمة.
وإن غصب جارية سمينة سمنا مفرطا، فخف سمنها في يده، ولم تنقص قيمتها بذلك، أو زادت قيمتها بذلك.. لزمه رد الجارية، ولا يلزمه معها شيء؛ لأن السمن مضمون بما نقص من قيمتها، ولم ينقص منها شيء، بخلاف التي قبلها؛ لأن للأنثيين بدلا مقدرا.

(7/25)


[فرع: تغيير صفة المغصوب]
إذا غصب من رجل صاعا من زيت أو دهن غيره، فأغلاه على النار، فإن لم ينقص شيء من مكيلته، ولا من قيمته بالإغلاء.. رده، ولا شيء عليه؛ لأنه لم يتلف شيئاً من ماله.
وإن نقص من مكيلته وقيمته، بأن كانت قيمة الصاع قبل الإغلاء أربعة دراهم، فعاد بعد الإغلاء إلى نصف صاع قيمته درهم.. لزمه نصف صاع من مثله؛ لأنه أتلف عليه عينه، ولزمه درهم أرش نقص الباقي؛ لأنه نقص بفعله.
وإن نقصت قيمته دون مكيلته، بأن تغير طعمه، أو ريحه بالإغلاء وهو صاع، إلا أنه صار يساوي درهمين.. لزمه رده ورد درهمين؛ لأن قيمته نقصت بفعله.
وإن نقصت مكيلته دون قيمته، بأن عاد بعد الإغلاء إلى نصف صاع، وقيمته أربعة دراهم كما كانت قبل الإغلاء.. لزمه أن يرد نصف الصاع الذي قد بقي، ونصف صاع من مثله قبل الإغلاء؛ لأنه تلف بفعله.
وحكى المسعودي [في (الإبانة) ق\ 305] وجها آخر: أن النقص ينجبر بزيادة قيمة الباقي. والأول أصح؛ لأنه زاد بعمل الغاصب، وذلك أثر لا عين له فيه.
وإن غصب صاعا من عصير يساوي أربعة دراهم، فأغلاه بالنار، فإن لم تنقص قيمته، ولا مكيلته.. رده ولا شيء عليه، كما قلنا في الزيت. وإن نقصت قيمته دون مكيلته، بأن صار يساوي درهمين.. لزمه رده ورد درهمين؛ لأنه نقص بفعله.
وإن عاد إلى نصف صاع، وقيمته أربعة دراهم كقيمته قبل الإغلاء، فإن قلنا: بالوجه الذي حكاه المسعودي في الزيت: أنه يرد ما بقي، ولا شيء عليه.. فهاهنا يرد مثله، وإن قلنا بالأصح بالزيت.. فهاهنا وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي علي الطبري ـ: أنه يلزمه رد ما بقي، ويلزمه نصف صاع عصير، كما قلنا في الزيت.

(7/26)


والثاني ـ وهو قول أبي العباس، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في (التعليق) غيره ـ: أنه يرد ما بقي من العصير، ولا شيء عليه. والفرق بينهما: أن الزيت لا يخالطه شيء، فإذا نقصت مكيلته.. فقد نقص جزء من عين ماله، وله قيمة، فلزمه رد مثله، وليس كذلك العصير، فإنه لا ينقص بالإغلاء شيء من أجزائه، وإنما يذهب الماء الذي فيه، وذلك لا قيمة له، وأما أجزاؤه: فهي باقية، وإنما انعقدت، ولهذا تزيد حلاوته، فلم يلزمه شيء.

[فرع: اغتصب أنواع طعام فطبخها]
] : وإن غصب من رجل عسلا، وسمناً، ودقيقاً، فعمله خبيصاً، فإن لم تزد قيمة الجميع، ولم تنقص.. أخذه المغصوب منه، ولا شيء للغاصب؛ لأنه لم يتلف شيئا من ماله، وإن زادت قيمة ذلك.. أخذه المغصوب منه، ولا شيء للغاصب؛ لأنه زاد بأثر لا عين له فيه، فيشارك بها، وإن نقصت قيمته.. أخذه المغصوب منه وما نقص من قيمته؛ لأنه نقص بفعل الغاصب.

[فرع: اغتصب فضة فسكها]
وإن غصب من رجل نقرة، وضربها دراهم، فإن لم تنقص قيمتها بذلك، ولا وزنها.. ردها، ولا شيء عليه؛ لأنه لم يتلف شيء من ماله.
وإن نقص وزنها، ولم تنقص قيمتها.. لزمه رد ما بقي، ورد قيمة ما نقص، ولا شيء للغاصب بزيادة الباقي؛ لأنه زاد بأثر لا عين له فيه.
وإن نقص من قيمتها ووزنها.. لزمه قيمة ما نقص وزنه، وأرش ما نقص من الباقي؛ لأنه نقص بفعله.

(7/27)


وإن نقص من قيمتها، ولم ينقص وزنها.. لزمه ردها وما نقص من قيمتها؛ لأنه نقص بفعله.
إذا ثبت هذا: فإن أراد الغاصب سبك هذه الدراهم، وإعادتها نقرة كما كانت، وامتنع المغصوب منه من ذلك.. قال ابن الصباغ: فإن كان للغاصب غرض في ذلك بأن كانت أنقص من عيار السلطان، أو سكتها مخالفة لسكة السلطان.. كان للغاصب إعادتها؛ لأن له غرضاً، وهو خوف غضب السلطان؛ لأن الضرب إليه، وإن لم يكن له غرض في ذلك.. لم يكن له المطالبة بذلك.

[مسألة: غصب ثوباً فشقه]
] : وإن غصب من رجل ثوبا، فشقه نصفين، فإن كان من الثياب التي لا تنقص قيمتها بالشق.. رد النصفين، ولا شيء عليه؛ لأن ما فعله لم يحصل به نقص، وإن كان من الثياب التي تنقص قيمتها بالشق.. رد النصفين وأرش ما نقص بالشق؛ لأنهما نقصا بفعله.
فإن تلف أحد النصفين بيده، ونقصت قيمة النصف الباقي، بأن كان الثوب يساوي قبل الشق منه درهم، فصار النصف الباقي يساوي أربعين درهما.. لزمه قيمة التالف، وهو خمسون درهما، وما نقص من قيمة الباقي، وهو عشرة؛ لأنه نقص بجنايته عليه، فإن صارت قيمة هذا النصف الباقي ستين بعد أن كانت أربعين، ثم تلف.. قال الشيخ أبو حامد: لزمه قيمة النصف الأول، وهو خمسون، وأرش ما نقص من قيمة النصف الثاني، وهو عشرة، وقيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى أن تلف، وهو ستون؛ لأن العشرة الأولى نقصت بجنايته عليه، ثم حدثت زيادة في قيمته، فكانت مضمونة عليه.

(7/28)


[فرع: تلف أحد الخفين بيد الغاصب]
وإن كان لرجل زوج خف يساوي عشرة دراهم، وكل واحد منهما يساوي منفردا درهمين، فغصب رجل أحدهما، فأتلفه، أو تلف في يده.. فكم يضمن؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يلزمه إلا درهمان؛ لأنه لم يحصل في يد الغاصب إلا ما قيمته درهمان، فلا يلزمه أكثر منه.
والثاني ـ حكاه القاضي أبو الطيب ـ: لا يلزمه إلا خمسة دراهم؛ لأن الغصب إنما وجد منه في الذي أخذه، وكانت قيمته حين الغصب خمسة دراهم، فنقصت قيمته ثلاثة بإفراده عن صاحبه، وتلف وقيمته درهمان، فلزمه ذلك، فأما الذي لم يغصبه: فلا صنع له فيه.
والثالث ـ وهو قول أبي العباس، وعامة أصحابنا، وهو الصحيح ـ: أنه يلزمه ثمانية دراهم؛ لأن النقص دخل عليهما بتفريقه بينهما، فلزمه ضمان الجميع، كما لو قطع كم قميص لرجل.. فإنه يلزمه ما نقص من قيمة القميص بذلك، وما قال الأولان من أن الغصب لم يوجد إلا بأحد الخفين.. يبطل بمن قطع أصبع رجل، فشلت إلى جنبها أخرى، فإنه يلزمه ضمانهما وإن لم يوجد منه الفعل إلا بإحداهما، وبرجلين بينهما عبد نصفين، فأعتق أحدهما نصيبه منه، وهو موسر، وقيمة نصيب الشريك الذي لم يعتق قبل إعتاق شريكه مائة، وبعد إعتاقه تسعون ... فإنه يلزم المعتق مائة.
فإن قيل: أليس العبد لو كان إذا بيع جملة يساوي ثلاثمائة درهم، وإذا بيع كل نصف منه منفردا يساوي مائة، فأعتق أحدهما نصيبه، وهو موسر.. لزمه مائة، ولا يلزمه مائة وخمسون، فيكون النقصان الحادث بإفراد أحد النصفين عن الآخر غير مضمون عليه، فهلا كان في الخف مثله؟

(7/29)


قال القاضي أبو الطيب: فالفرق بينهما: أن مالك نصف العبد لا يملكه إلا ناقص القيمة؛ لأنه لا يملك بيع نصيب شريكه، وليس كذلك الخفان، فإن صاحبهما يملك بيعهما، واستيفاء جميع العشرة من ثمنهما، وإنما النقصان حصل بفعل الغاصب، فإن كانا بحالهما، ودخل سارق إلى حرز مالك الخفين، فسرق أحدهما.. ففي قدر الضمان ما ذكرناه، ولا يختلف أصحابنا: أنه لا يجب عليه القطع؛ لأن ما ضمنه مما زاد على درهمين.. إنما ضمنه في ذمته؛ لأجل التفريق بينهما، وما ضمنه في ذمته.. لا يجب به القطع عليه، كما لو دخل حرز الرجل، وأتلف عليه مالا.

[مسألة: استعمال مغصوب له أجرة]
وإن غصب ثوباً، فلبسه مدة لمثلها أجرة، فنقصت أجزاؤه باللبس.. لزمه رد الثوب، وما الذي يرد معه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يلزمه أكثر الأمرين من أرش ما نقص من قيمته، أو قدر الأجرة؛ لأن الأجرة تجب لأجل المنفعة، والنقص حصل بالانتفاع، فلم يجب الأمران، كما لو استأجر ثوباً، ولبسه، ونقصت أجزاؤه باللبس.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: يجب عليه أرش ما نقص، والأجرة؛ لأن الأرش وجب لحصول النقصان، بدليل: أنه لو نقص بغير استعمال.. لوجب عليه الأرش، والأجرة وجبت لأجل الاستعمال، بدليل: أن الأجرة تجب إذا قام في يده مدة لمثلها أجرة وإن لم يستعمله، وقد وجد الأمران، فلزمه ضمانهما.

[فرع: رتفاع ثمن المتاع المغصوب ثم نقصه]
فرع: [ارتفاع ثمن المتاع المغصوب ثم نقصه] :
وإن غصب قميصاً قيمته عشرة دراهم، فلبسه وأبلاه حتى صارت قيمته خمسة دراهم، ثم زاد السعر، فصار باللبس يساوي عشرة.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحداد: يقوم، وليس بلبيس في هذا الوقت، ثم يقوم لبيساً، فيلزمه ما بين القيمتين.

(7/30)


فعلى هذا: يلزمه أن يدفع مع القميص عشرة؛ لأنه لو كان غير لبيس في هذه الحالة.. لكانت قيمته عشرين، وقيمته الآن عشرة، فلزمه عشرة.
والثاني ـ وهو قول أكثر أصحابنا، قال القاضي أبو الطيب: وهو الصحيح ـ: أنه يلزمه أن يرد مع القميص خمسة لا غير؛ لأن ذلك هو القدر الذي تلف باللبس، وزيادة السعر بعد تلف الأجزاء لا اعتبار بها، كما لو غصب قميصاً قيمته عشرة، فتلف، ثم زاد السعر، فصار القميص يساوي عشرين.. فإنه لا يلزمه إلا عشرة، فكذلك هذا مثله.
وإن غصب قميصا يساوي عشرة، فزاد السعر، فصار يساوي عشرين، فلبسه وأبلاه حتى صار يساوي عشرة.. لزمه رده، ويرد معه عشرة؛ لأن زيادة السعر مضمونة مع التلف.
وإن غصبه، وهو يساوي عشرة، فلبسه وأبلاه حتى صار يساوي خمسة، ثم نقص السعر، فصار جديده يساوي خمسة، ولبيسه يساوي درهمين ونصفا.. لزمه رد ما بقي من القميص، ولزمه أن يرد معه خمسة، وهي قيمة ما تلف في يده، ولا اعتبار بالنقصان الذي حدث بعد تلف الأجزاء.

[مسألة: غصب سمينة فهزلت]
] : إذا غصب جارية سمينة، ثم هزلت في يده.. ردها، وأرش ما نقص بالهزال في يده بلا خلاف، وقد مضى. فأما إذا غصب جارية مهزولة، فسمنت في يده، ثم هزلت، أو تعلمت في يده قرآنا، أو علما، أو شعرا، أو صنعة، فزادت قيمتها بذلك، فسمنت، فنقصت قيمتها بذلك.. ردها، ولزمه أرش ما نقصت، وبه قال أحمد.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يجب عليه أرش ما نقصت، إلا أن يطالبه بردها في حال زيادتها، فلا يردها) .

(7/31)


دليلنا: أنها زيادة في العين المغصوبة، فضمنها الغاصب، كما لو طالب بردها، فلم يردها، ولأن استدامة الغصب كابتدائه، والغاصب في كل حال مأمور برد العين المغصوبة، فإذا لم يردها.. كان بمنزلة المبتدئ للغصب.
فعلى هذا: إذا غصبها وهي تساوي مائة، فسمنت في يده، وبلغت قيمتها ألفا، ثم هزلت، وعادت قيمتها إلى مائة.. لزمه ردها، ويرد معها تسعمائة؛ لأجل نقص السمن، فإن كانت بحالها، فسمنت، فبلغت قيمتها ألفا، وتعلمت صنعة، فبلغت قيمتها ألفين، ثم هزلت، ونسيت الصنعة، فعادت قيمتها إلى مائة.. فإنه يردها، ويرد معها ألفا وتسعمائة، فإن بلغت بالسمن ألفاً، فهزلت، وعادت قيمتها إلى مائة، ثم تعلمت صنعة، فبلغت ألفا، ثم نسيتها، فعادت إلى مائة.. ردها، وألفا وثمانمائة؛ لأنها نقصت بالهزال تسعمائة، وبنسيان الصنعة تسعمائة.
وإن غصبها وهي تساوي مائة، فزاد السعر، فصارت تساوي ألفا، ثم نقص السعر، فصارت تساوي مائة، ثم سمنت، فصارت تساوي ألفا، ثم هزلت، فصارت تساوي مائة.. لزمه ردها وتسعمائة، وهو قيمة السمن، لا زيادة السوق، فلو ماتت الجارية في هذه الحالة.. لزمه ألف وتسعمائة؛ لأنه أكثر ما كانت قيمتها من حين الغصب إلى حين التلف مع غرم السمن.
وإن غصبها وقيمتها مائة، فزاد السعر، فصارت تساوي ألفا، ثم نقص السعر، فصارت تساوي مائة، ثم ماتت الجارية.. لزمه قيمتها ألف، وهو أكثر ما كانت قيمتها من حين الغصب إلى حين التلف، وإن زادت ونقصت مراراً، ولا تجاوز الزيادة ألفا، ثم ماتت.. لم يلزمه أكثر من ألف؛ لأن ذلك أكثر ما كانت قيمتها.

[فرع: غصب هزيلة فسمنت]
وإن غصبها وقيمتها مائة، فسمنت في يده حتى بلغت قيمتها ألفا، ثم هزلت، فعادت قيمتها إلى مائة، ثم سمنت، فعادت قيمتها إلى ألف.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أنه يردها، ولا شيء عليه؛ لأنه زال

(7/32)


ما أوجب الضمان، فهو كما لو جنى على عين، فابيضت، ثم زال البياض.
والثاني ـ وهو قول أبي سعيد الإصطخري، وهو الصحيح ـ: أنه يردها، ويرد معها تسعمائة؛ لأن السمن الثاني غير الأول، فلا يسقط به عنه ما وجب عليه بنقصانها بذهاب الأول، كما لو غصبها وهي مهزولة تساوي مائة، فسمنت حتى بلغت ألفا، ثم هزلت حتى عادت إلى مائة، ثم تعلمت صنعة، فعادت قيمتها ألفا.. فإنه لا يسقط عنه ما نقصت بالهزال.
وإن غصبها وقيمتها مائة، فسمنت في يده وبلغت قيمتها ألفا، ثم هزلت، وعادت قيمتها إلى مائة، ثم سمنت، فعادت إلى ألف، ثم هزلت، فعادت إلى مائة.. فعلى الوجه الأول: يردها، ويرد معها تسعمائة لا غير، وعلى الوجه الثاني: يردها، ويرد معها ألفا وثمانمائة.
قال القاضي أبو الطيب: وهذان الوجهان مأخوذان من القولين فيمن قلع سن من قد ثغر، ثم عادت، ففي أحد القولين لا يلزمه الأرش، وفي الثاني يلزمه.
وإن غصب جارية قيمتها مائة، فتعلمت في يده سورة من القرآن، أو شعراً، أو صنعة، فبلغت قيمتها ألفاً، ثم نسيت ذلك، فعادت قيمتها إلى مائة، ثم تعلمت ما كانت نسيته، فعادت قيمتها ألفا.. فقد قال الشيخ أبو حامد: هي كالسمن، فتكون على الوجهين.
وقال ابن القاص، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ: يسقط عنه الضمان، وجها واحداً؛ لأن القول في السمن الثاني: أنه غير الأول، له وجه، وأما القرآن المحفوظ ثانياً، أو الشعر، أو الصنعة.. فهو الأول؛ لأنها تعود إلى العلم الذي كانت تعلمه أولا.

(7/33)


[فرع: ضمان الحامل المغتصبة]
وإن غصب جارية حاملاً.. ضمنها، وضمن ولدها، وكذلك إن غصبها حائلا، فحملت في يده، ثم تلف الولد في يده.. ضمنه، وبه قال أحمد.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يضمن الولد) .
دليلنا: أن كل سبب يضمن به الولد إذا كان منفصلا.. جاز أن يضمن به إذا كان متصلا، كالإحرام، ولأن الولد نماء ليس له، حصل في يده من أصل مضمون متعد به، فلزمه ضمانه، كولد الصيد في يد المحرم.
إذا ثبت هذا: فإن ألقت الأم الولد حياً، ثم مات.. لزمه قيمته أكثر ما كانت من حين الوضع إلى أن مات، وإن ألقته ميتاً.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو ظاهر النص ـ: أنه يجب عليه قيمته يوم الوضع لو كان حياً؛ لأنه ضمنه باليد قبل ظهوره، فضمنه بتلفه، كأمه.
والثاني ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه لا يجب عليه ضمانه؛ لأنه إنما يقوم عليه عند الحيلولة بينه وبين مالكه، وهو حال الوضع، ولا قيمة له في تلك الحال، فلم يجب عليه الضمان.

[فرع: يضمن نقص المغتصب]
] : وإن غصب جارية ناهدة الثديين، فسقط ثدياها في يده، فنقصت قيمتها بذلك، أو غصب غلاما أمرد، فنبتت لحيته، أو كانت لحيته سوداء، فابيضت، فنقصت قيمته بذلك.. ضمن أرش النقص؛ لأنه نقص بسبب كان بيده، فلزمه ضمانه.

(7/34)


[مسألة: ضمان غاصب العبد]
] : وإن غصب من رجل عبداً، فجنى حر على هذا العبد.. نظرت:
فإن قتله.. وجبت قيمته للمغصوب منه، وله أن يرجع بها على الغاصب، أو على الجاني، غير أنه إن رجع على الجاني.. رجع عليه بقيمته يوم جنى عليه، وإن رجع بها على الغاصب.. رجع عليه بقيمته أكثر ما كانت من يوم غصبه إلى أن قتل، فإن رجع على الجاني.. لم يرجع الجاني على الغاصب، وإن رجع على الغاصب.. رجع الغاصب على الجاني بقيمته يوم الجناية؛ لأن التلف حصل بفعله، فاستقر الضمان عليه.
وإن قطع الجاني يده.. وجب على الغاصب أكثر الأمرين من نصف قيمته، أو ما نقص بالقطع؛ لأن الجناية عليه، وهو في ضمانه كجنايته عليه، فاجتمع عليه ضمان اليد، والجناية، وأما الجاني: فلا يجب إليه إلا نصف قيمته يوم الجناية؛ لأنه لم يوجد منه غير الجناية من غير غصب، وللمالك أن يرجع على أيهما شاء، فإن اختار الرجوع على الجاني، وكانت نصف قيمته أكثر مما نقص بالجناية.. رجع عليه بنصف قيمته، ولا يرجع الجاني ولا المالك على الغاصب بشيء، وإن كان نصف القيمة أقل مما نقص بالجناية.. رجع المالك على الغاصب بما زاد على نصف قيمته، وإن اختار المالك الرجوع على الغاصب.. رجع الغاصب على الجاني بقدر نصف قيمة العبد؛ لأنه أتلفه، فاستقر الضمان عليه.

[فرع: جناية عبد على عبد]
مغصوبمغصوب] : وإن جنى على العبد المغصوب عبد لآخر.. نظرت:
فإن قتله عمداً.. فالمالك بالخيار: بين أن يقتص من العبد القاتل، وبين أن يعفو.
فإن اقتص منه.. فقد استوفى حقه، ولا يرجع على الغاصب بشيء.
وإن عفا على مال، أو كانت الجناية خطأ.. فله أن يطالب الغاصب؛ لأنه ضمنه

(7/35)


باليد، وله أن يطالب بحقه من رقبة العبد القاتل، غير أنه إن طالب الغاصب.. فله أن يطالبه بقيمة عبده أكثر ما كانت من حين غصبه إلى أن قتل، وإن طالب بحقه من رقبة القاتل.. فبأن يطالب سيده بأقل الأمرين من قيمة المقتول، أو قيمة القاتل، على الصحيح من القولين؛ لأنه لا يستحق عليه أكثر من ذلك.
فإن طالب الغاصب بقيمة عبده، فإن كانت قيمة القاتل أكثر من قيمة المقتول، أو مثلها.. فللغاصب أن يطالب بذلك من قيمة القاتل، وإن كانت قيمة المقتول أكثر.. لم يطالب الغاصب سيد القاتل إلا بقدر قيمة القاتل، على الصحيح من القولين.
وإن اختار مالك العبد مطالبة سيد القاتل، فإن كانت قيمة المقتول أقل من قيمة القاتل، وأخذ المالك قيمة عبده.. فقد استوفى حقه، ولا يرجع المغصوب منه ولا سيد القاتل على الغاصب بشيء، وإن كانت قيمة المقتول أكثر من قيمة القاتل.. لم يرجع عليه المغصوب منه إلا بقدر قيمة القاتل، على الصحيح من القولين، ثم يستوفي المغصوب منه تمام قيمة عبده من الغاصب؛ لأنه ضمنه باليد.

[مسألة: ضمان جناية العبد المغصوب]
] : وإن غصب عبدا، فجنى العبد وهو في يد الغاصب على حر، أو عبد.. نظرت:
فإن قتله عمداً.. فولي المجني عليه بالخيار: بين أن يقتص، وبين أن يعفو على مال، فإن قتله.. كان للمغصوب منه أن يرجع على الغاصب بقيمة عبده أكثر ما كانت من حين الغصب إلى أن قتل؛ لأنه تلف بسبب كان في يده، فلزمه ضمانه، وإن عفا عنه على مال.. تعلق ذلك برقبته، وكان على الغاصب أن يفديه بأقل الأمرين من أرش الجناية، أو قيمة العبد القاتل؛ لأن تعلق الأرش برقبته نقصان حدث في العبد بيده، فضمنه؛ لأنه ضامن للعبد ولنقصانه.

(7/36)


وإن جنى على ما دون النفس، بأن قطع يد غيره، فإن كانت عمداً، واختار المجني عليه القصاص، فاقتص منه.. وجب على الغاصب ضمان اليد.
قال الشيخ أبو إسحاق: وفي قدر ما يضمنه وجهان:
أحدهما: أرش الجناية.
والثاني: ما نقص من قيمته بذلك.
وقال ابن الصباغ: يجب عليه ما نقص من قيمته بذلك، ولا يجب عليه الأرش، وجهاً واحداً؛ لأن اليد ذهبت بسبب غير مضمون، فأشبه إذا سقطت بأكلة.
وإن عفا عنه على مال، أو كانت الجناية خطأ.. كان على الغاصب أقل الأمرين من قيمة العبد المغصوب، أو أرش الجناية.

[فرع: جناية عبد مغصوب أو مودع بقدر قيمته]
فإن جنى العبد المغصوب في يد الغاصب على رجل جناية أرشها قدر قيمته، أو أكثر منها، ثم مات العبد في يد الغاصب.. فللمغصوب منه أن يرجع على الغاصب بقيمه عبده، فإذا أخذها.. فللمجني عليه أن يطالب السيد بأرش جنايته؛ لأنها كانت متعلقة برقبة العبد، والقيمة بدل عن الرقبة، فإذا أخذ ولي الجناية الأرش من السيد.. قال ابن الحداد: فللسيد أن يرجع بذلك على الغاصب؛ لأن الأرش الذي أخذه المجني عليه من السيد استحقه بسبب كان في يد الغاصب، فكان من ضمانه.
ولو كان العبد وديعة عند رجل، فجنى على آخر جناية تستغرق قيمته، ثم إن المودع قتل العبد.. فللسيد أن يرجع على المودع بقيمة عبده، فإذا أخذها.. فللمجني عليه أن يطالب السيد بأرش جنايته؛ لأن القيمة بدل الرقبة، فإذا أخذ المجني عليه الأرش من السيد.. لم يكن للسيد أن يرجع بذلك على المودع؛ لأن العبد جنى، وهو غير مضمون عليه، بخلاف الأولى.

(7/37)


وإن جنى العبد وهو يد سيده على رجل جناية تستغرق قيمته، ثم غصبه غاصب، فجنى على آخر جناية تستغرق قيمته، فاسترد العبد من الغاصب، وطلب المجني عليهما الفداء، فسلم العبد للبيع، وبيع.. فإن ثمنه يقسم بين المجني عليهما نصفين؛ لتساوي حقيهما، وللسيد أن يرجع على الغاصب بالنصف الذي أخذه المجني عليه في يد الغاصب؛ لأنه انتزع من السيد بسبب كان في يد الغاصب، فلزمه ضمانه، فإذا أخذه السيد من الغاصب.. قال ابن الحداد: فللمجني عليه الأول أن يأخذه من السيد دون المجني عليه الثاني.
قال القاضي أبو الطيب: ووجهه: أن حق المجني عليه الأول تعلق بجميع الرقبة، وحق المجني عليه ثانياً لم يتعلق إلا بالنصف.
قال ابن الصباغ: وما ذكره القاضي لا معنى له؛ لأن حق الثاني تعلق أيضاً بجميع الرقبة، ألا ترى أن الأول لو أبرأه.. لاستحق الثاني جميع القيمة؟ قال: وإنما وجه ذلك عندي: أن الذي يأخذه السيد من الغاصب إنما هو عوض عما أخذه منه المجني عليه الثاني، فلا يتعلق به حقه، ويتعلق به حق الأول؛ لأنه بدل عن قيمة الجاني لا يزاحم فيه.
وإذا أخذه الأول من السيد.. لم يكن للسيد أن يرجع به على الغاصب؛ لأن استحقاقه بجناية كانت في يده لا في يد الغاصب، وهكذا: لو مات العبد في يد الغاصب.. وجبت عليه قيمته، وتقسم القيمة بين المجني عليهما، ويرجع المغصوب منه على الغاصب بنصف القيمة التي أخذها منه المجني عليه الثاني، ويكون ذلك للمجني عليه الأول دون الثاني، ولا يرجع السيد بذلك على الغاصب؛ لما ذكرناه.
ولو جنى العبد المغصوب في يد الغاصب على رجل، ثم قتل هذا العبد عبداً آخر عمداً.. فلسيد العبد المغصوب أن يقتص من العبد الذي قتل عبده، وليس للمجني عليه أن يمنعه من ذلك، كما قلنا في العبد المرهون إذا قتل، فإن عفا على مال، أو كانت الجناية خطأ.. تعلق حق المجني عليه بقيمة العبد؛ لأنها قائمة مقامه، فإذا أخذ

(7/38)


المجني عليه أرشه من القيمة.. كان لسيد المغصوب أن يرجع بذلك على الغاصب؛ لما ذكرناه، وإن أراد السيد أن يعفو على غير مال، فإن قلنا: إن موجب قتل العمد القود لا غير.. كان له ذلك، وإن قلنا: إن موجبه أحد الأمرين من القود أو المال.. سقط القصاص، ولم يسقط المال؛ لأن حق المجني عليه تعلق به.

[فرع: قتل العبد المغصوب الغاصب]
] : وإن غصب رجل عبداً، فوثب العبد على الغاصب، فقتله، ثم هرب إلى سيده، فإن كانت الجناية عمداً.. قال الصيمري: فإن عفا ورثة الغاصب عن القصاص والدية.. سقط الضمان عن الغاصب في المال، وإن قتلوه.. فعليهم قيمة العبد وكأنهم لم يسلموه، وكذلك لو طالبوا بالدية من رقبته.
وإن قتل العبد المغصوب سيده وهو في يد الغاصب.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: للورثة أن يقتصوا منه، فإذا قتلوه.. استحقوا قيمته على الغاصب.. وبه قال أبو حنيفة؛ لأن جناية العبد المغصوب على الغاصب.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: تكون الجناية هدراً؛ لأن ملك السيد ثابت عليه حال الجناية، فكانت جنايته عليه هدراً، كما قبل الغصب.

[مسألة: غصب مالاً واتجر بذمته]
وإن غصب من رجل دراهم أو دنانير، فاتجر في ذمته، ونقد الدراهم والدنانير، وربح.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يكون الربح للمغصوب منه؛ لأنه نماء ماله، فهو كثمرة الشجرة، ولأنا لو جعلنا ذلك ملكا للغاصب.. لأدى ذلك إلى ارتفاق الغاصب

(7/39)


بمال المغصوب منه بغير إذنه، فجعل ذلك ملكا للمغصوب منه بغير إذنه؛ لينحسم الباب) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (هو ملك للغاصب؛ لأن ذلك ليس بمتولد من مال المغصوب منه، وإنما هو نماء ملك الغاصب، فهو كما لو غصب من رجل أرضا، وزرع فيها زرعاً) .

[مسألة: غصب عبداً فاصطاد]
وإن غصب من رجل عبدا، فاصطاد العبد صيدا في يد الغاصب.. كان الصيد ملكاً للمغصوب منه؛ لأن يد العبد كيد مولاه.
قال الصيمري: ولا يضمن الغاصب الصيد إلا أن يحول بين العبد وبين الصيد، وهل يجب على الغاصب أجرة العبد في المدة التي اصطاد فيها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه أجرته؛ لأنه حال بين سيده وبين منافعه.
والثاني: لا يجب عليه؛ لأن المنافع في هذه المدة صارت للمولى.
وإن أكره الغاصب العبد على الاصطياد، فاصطاد.. فهل يكون الصيد ملكا لمولى العبد؟ فيه وجهان حكاهما الصيمري.

[فرع: غصب آلة الصيد يوجب أجرتها]
] : وإن غصب من رجل شبكته، أو شركه، أو سفينة، أو قوساً، فاصطاد بها.. فالصيد للغاصب؛ لأنه لا صنع للآلة، ويجب على الغاصب أجرة الآلة؛ لأنه حال بين مالكها وبينها.

(7/40)


وإن غصب منه جارحة معلمة، فأرسلها على صيد، فأخذته.. ففيه وجهان: أحدهما: أن الصيد للغاصب؛ لأنه هو المرسل للجارحة، فكان الصيد له، كما قلنا في الشبكة.
فعلى هذا: يجب عليه أجرة الجارحة إن كان يجوز استئجارها، كالفهد.
والثاني: أن الصيد للمغصوب منه؛ لأن للجارحة فعلا في أخذ الصيد، فكان الصيد لمالكها، كالعبد، بخلاف الشبكة، فإنه لا فعل لها في أخذ الصيد.
فعلى هذا: هل يجب للمغصوب منه أجرة الجارحة مدة اصطيادها؟ على الوجهين في العبد.

[مسألة: غصب أرضا أو بذراً، فالنتاج للمغصوب منه]
] : إذا غصب من رجل بذراً، فبذره في أرضه، أو بأرض المغصوب منه.. فجميع ما خرج منه ملك للمغصوب منه.
وحكى المسعودي [في (الإبانة) ق\ 313] وجهاً آخر: أنه للغاصب، وعليه مثل البذر.
والأول أصح؛ لأن هذا عين مال المغصوب منه، فهو كالعبد الصغير إذا كبر، وهكذا الوجهان إذا غصب بيضاً، فصار فراخاً.. فالصحيح: أنه للمغصوب منه؛ لما ذكرناه، فإن نقص الزرع عن البذر، أو قيمة الفراخ عن قيمة البيض.. فعلى الغاصب ضمان النقص؛ لأنه نقص حدث في يده، فضمنه.

(7/41)


[فرع: غصب عصيراً فانقلب حمراً]
ً] : وإن غصب من رجل عصيراً، فصار في يده خمراً.. لزمه ضمان العصير بمثله؛ لأنه تلف بيده بانقلابه خمراً، فإن انقلب الخمر بيده خلا.. لزمه رد الخل على المغصوب منه.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه رده، بل قد ملكه بالانقلاب بيده) .
دليلنا: أن الخل عين مال المغصوب منه، وإنما تغيرت صفته، فهو كالودي إذا صار نخلا.
إذا ثبت هذا: فهل يلزمه مع رد الخل ضمان العصير؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يلزمه أن يرد مع الخل مثل العصير؛ لأنه قد لزمه ذلك بانقلابه خمراً، وإنما رجع الملك فيه إلى المغصوب منه بمعنى آخر، فلا يسقط عن الغاصب ما وجب عليه بانقلابه خمراً، كما قلنا في الجارية إذا سمنت في يد الغاصب، ثم هزلت، ثم سمنت.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يجب عليه مثل العصير، وهو الصحيح؛ لأنه عين ماله وإنما تغيرت أوصافه.
فعلى هذا: إن كانت قيمة الخل مثل قيمة العصير، أو أكثر.. فلا شيء عليه، وإن كانت قيمة الخل أقل من قيمة العصير.. لزم الغاصب ما بين القيمتين؛ لأن ذلك نقص بفعل حصل في يده.

[مسألة: يضمن الغاصب النقص ولا شيء له في الزيادة]
] . وإن غصب من رجل ثوبا، فقصره، أو قطنا، فغزله، أو غزلا، فنسجه، أو ذهبا، فصاغه حليا.. لزمه رد ذلك على حالته؛ لأنه عين مال المغصوب منه، فإن نقصت قيمته بذلك.. لزم الغاصب ضمان ما نقص؛ لأنها نقصت بفعله، وإن زادت

(7/42)


قيمتها بفعله.. فلا شيء للغاصب بفعله؛ لأنها زادت بأثر لا عين له فيها.
وأن غصب منه خشبة، فشقها ألواحاً.. لزمه رد الألواح؛ لأنها عين مال المغصوب منه، فإن نقصت عن قيمة الخشبة.. لزمه ضمان النقصان، وإن زادت.. فلا شيء له؛ لما ذكرناه، وإن سمر الألواح أبواباً، فإن لم يدخل الغاصب فيها شيئا من ماله، بأن سمرها ببعضها.. فإنه يردها مسمرة وأرش نقصها إن نقصت، ولا شيء له إن زادت، وإن سمرها الغاصب بمسامير من ماله.. فإن اختار قلع مساميره.. كان له ذلك؛ لأنها عين ماله، ولكن يضمن ما نقص من قيمتها بعد قلع المسامير؛ لأن المغصوب منه قد ملكها حال كونها أبوابا، فإذا أزالها عن ذلك.. لزمه الضمان، كما لو غصب غزلا، فنسجه تكة، ثم نقضها.
فعلى هذا: إن كانت قيمة الأبواب وهي مسمرة مائة.. قيل: فكم قيمة الأبواب منها؟ وكم قيمة المسامير؟ فإن قيل: قيمة الأبواب تسعون، وقيمة المسامير عشرة.. نظرت: فإن نقصت الأبواب بعد تفصيلها عن التسعين.. ضمن ما نقصت عنها.
فإن بذل الغاصب المسامير للمغصوب منه ... فهل يجبر على قبولها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجبر؛ لأنها عين مال الغاصب، فلا يجبر المغصوب على قبول هبته، كسائر أمواله.
والثاني: يجبر على قبولها، وهو المنصوص؛ لأنها متصلة بماله، فلزمه قبولها، كقصارة الثوب.

[فرع: يطالب الغاصب بإزالة التزاويق]
وإن غصب من رجل داراً، فزوقها الغاصب بزاووق من عنده، أو جصصها بجص من عنده، فإن طالب مالك الدار الغاصب بقلع ذلك.. لزم الغاصب قلعه؛ لأن الغاصب شغل ملك المغصوب بملكه، فلزمه إزالته، فإذا قلعه.. نظرت:

(7/43)


فإن كانت قيمة الدار قبل التزويق كقيمتها بعد قلع التزاويق.. لم يلزم الغاصب شيء؛ لأنها لم تنقص بالقلع..
وإن كانت قيمة الدار نقصت بالحك، فصارت قيمتها بعد الحك أقل من قيمتها قبل التزويق.. لزم الغاصب ما بين القيمتين؛ لأنه نقص بفعله.
وإن طلب الغاصب قلع تزاويقه.. فقد قال البغداديون من أصحابنا: له قلعه، سواء كان لتزاويقه قيمة بعد القلع أو لم يكن؛ لأنه عين ماله، فكان له أخذه.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ق\313] : إن كان له عين.. فله قلعه، وإن لم يكن له عين.. فليس له قلعة، فإذا قلعه.. نظرت: فإن نقصت قيمة الدار بعد القلع عن قيمتها قبل التزاويق.. لزم الغاصب ما بينهما؛ لأنه نقص بفعله.
وإن وهب الغاصب الزاووق والجص لمالك الدار.. فهل يجبر على قبوله؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجبر على قبوله؛ لأن ذلك غير متميز عن ماله، فهو كقصارة الثوب.
والثاني: لا يجبر؛ لأنها أعيان ماله، فلا يجبر على قبولها، كالقماش في الدار.

[فرع: يضمن الغاصب والمستعير]
قيمة المغصوب عند الكسرقيمة المغصوب عند الكسر] :
وإن غصب من رجل جوهرة زجاج تساوي درهماً، فاتخذ منها قدحاً يساوي عشرة دراهم، فانكسر القدح، فرده إلى مالكه مكسوراً، وقيمته درهم.. لزمه مع رده تسعة دراهم، وإن أعاره قدحاً يساوي عشرة، ثم انكسر مرة ثانية، فرجعت قيمته إلى درهم، ثم صنعه قدحاً يساوي عشرة.. فقال صاحب (التلخيص) : يرد القدح، ويرد معه ثمانية عشر درهماً.

(7/44)


قال الطبري: إن كانت الصنعة الثانية غير الصنعة الأولى.. فلا يختلف أصحابنا في أنه يرده وثمانية عشر درهماً؛ لأن الضمان استقر عليه بالكسر الأول، فإذا أعاره.. فهو مال آخر للمغصوب منه في يده، فلا ينجبر به ذلك النقص، وإن أعاد مثل ذلك القدح في القدر والصنعة، ورده صحيحاً.. فهل يغرم معه شيئاً؟ فيه وجهان، كما قلنا في السمن في الجارية.

[مسألة: اختلاط زيت بمثله أو بأجود منه]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن كان زيتاً، فخلطه بمثله، أو خير منه، فإن شاء.. أعطاه من هذا مكيلته، وإن شاء.. أعطاه مثل زيته) .
وجملة ذلك: أنه إذا غصب منه زيتاً، أو غيره من ذوات الأمثال، فخلطه بجنسه من ماله.. نظرت:
فإن خلطه بأجود منه، بأن غصب منه صاعاً من زيت يساوي درهمين، فخلطه بصاع له من زيت يساوي أربعة دراهم، فإن بذل الغاصب للمغصوب منه صاعاً منه.. أجبر المغصوب منه على قبوله؛ لأنه دفع إليه بعض ما غصبه منه وشيئاً من جنسه، وهو خير مما غصب منه، فأجبر على قبوله، وإن طلب المغصوب منه صاعاً منه، وامتنع الغاصب.. فقد نص الشافعي هاهنا: (أن الخيار إلى الغاصب) ، ونص في (التفليس) : (إذا اشترى منه صاعاً من زيت، وخلطه بأجود منه من جنسه.. على قولين:
أحدهما: أنهما يكونان شريكين، وهذا خلاف نصه في (الغصب) .
والثاني: أنه يضرب مع الغرماء بالثمن. فجعله على هذا كالمستهلك، كما قال في (الغصب) .
واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من نقل جواب القولين إلى الغصب، وقال: في الغصب أيضاً قولان: أحدهما: أنه يصير كالمستهلك؛ لأنه تعذر عليه الوصول إلى ماله.

(7/45)


فعلى هذا: يعطيه الغاصب مثل زيته من غير هذا المختلط.
والثاني: يصيران شريكين في هذا المختلط؛ لأن عين ماله اختلط بجنسه، فصارا شريكين، كما لو اشتريا صاعين بينهما.
فعلى هذا: يباع الزيتان، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، فيكون للغاصب ثلثا الثمن، وللمغصوب منه الثلث، فإن طلب المغصوب منه أن يأخذ من هذا الزيت المختلط ثلثي صاع، وهو ما قيمته منه قيمة صاعه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه يأخذ بعض صاع عن صاع، وذلك رباً.
والثاني: يجوز؛ لأنه يأخذ بعض حقه، ويترك البعض باختياره، وليس ذلك برباً؛ لأن الربا في المعاوضات، وليس ذلك بمعاوضة.
ومنهم من قال: يصير في الغصب كالمستهلك، قولاً واحداً، وفرقوا بينه وبين التفليس؛ لأن في التفليس لا يمكن الغريم الرجوع إلى كمال حقه إذا ضارب مع الغرماء، فجعل شريكاً، وهاهنا يمكنه أن يرجع في بدله، وهو كمال حقه.
وإن خلطه بمثله، بأن غصب منه صاعاً من زيت يساوي درهمين، فخلطه بصاع له من زيت يساوي درهمين، فإن بذل الغاصب صاعاً منه.. أجبر المغصوب منه على قبوله؛ لأن بعضه عين ماله، وبعضه مال الغاصب، وهو مثله، فأجبر على قبوله، وإن طلب المغصوب منه صاعاً منه، وامتنع الغاصب من ذلك، بل أراد أن يعطيه صاعاً من غيره.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو العباس، وأبو إسحاق: يجبر الغاصب على أن يدفع إليه صاعاً منه؛ لأن فيه بعض عين ماله، فلا يلزمه الانتقال إلى بدله، كما لو غصب منه صاعاً، وتلف بعضه.
ومنهم من قال: لا يجبر الغاصب على دفع صاع منه، وهو المنصوص هاهنا في (الأم) [3/226] ؛ لأن عين مال المغصوب منه غير متميز من مال الغاصب، فصار كالمستهلك.
وإن خلطه بأردأ منه، بأن غصب منه صاعاً يساوي أربعة دراهم، فخلطه بصاع

(7/46)


يساوي درهمين، فإن تراضيا على أن يأخذ المغصوب منه صاعاً منه.. جاز؛ لأنه يأخذ منه صاعاً دون حقه برضاه.
فإن بذل الغاصب صاعاً منه، وطلب المغصوب منه مثل زيته.. يجبر على دفع صاع من مثل زيته من غيره.
وإن طلب المغصوب منه صاعاً منه، وامتنع الغاصب.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: يجبر الغاصب على ذلك؛ لأنه رضي بأخذ حقه ناقصاً.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لا يجبر الغاصب؛ لأن حقه قد تعلق بذمته حين صار زيته كالمستهلك.
وإن بذل الغاصب صاعاً منه، وطلب المغصوب منه صاعاً من مثله زيته من غيره..
فالمنصوص: (أن الغاصب يجبر على دفع صاع من مثل زيته الذي غصب منه من غير هذا؛ لأن زيته صار كالمستهلك) .
ومن أصحابنا من قال: يباع الزيتان، ويقسم ثمنه بينهما على قدر قيمة زيتيهما، كما قال إذا خلطه بأجود منه. وليس بشيء.

[فرع: خلط زيت بشيرج]
وإن غصب منه زيتاً، وخلطه بغير جنسه مما لا يمكن تمييزه منه، بأن خلطه بالبان أو بالشيرج.. فإن تراضيا على أن يأخذ المغصوب منه مثل مكيلة زيته منه.. جاز؛ لأن الحق لهما، وإن امتنع أحدهما.. لم يجبر؛ لأن الغاصب لا يجبر على دفع غير ما وجب عليه، والمغصوب منه لا يجبر على أخذ غير ما وجب له.

(7/47)


فعلى هذا: يجبر الغاصب على دفع زيت مثل الذي غصبه؛ لأن هذا صار كالمستهلك.
ومن أصحابنا من قال: يباعان هاهنا، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، كما قال في المسألتين قبلها.
وإن خلط الزيت بالماء، فإن أمكن تخليصه منه من غير أن يفسده في الحال ولا في الثاني.. كلف الغاصب تخليصه، وعليه مؤنة التخليص؛ لأنه يمكنه الرجوع إلى عين ماله، وإن كان إذا خلصه ينقصه نقصاناً مستقراً.. لزمه تخليصه، ورده، ورد ما نقص من قيمته، وإن كان نقصانه غير مستقر.. فالمنصوص: (أن الغاصب يلزمه أن يدفع مثله من جنسه؛ لأن هذا صار كالمستهلك) .
وقال الربيع: فيه قول آخر: (أنه يلزمه تخليصه، ويرده وأرش ما نقص في الحال وفيما بعد، كما لو غصب عبداً، فقطع يده) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: في المسألة قولان:
أحدهما: يلزم المغصوب منه أن يأخذه وأرش ما نقص؛ لأن عين ماله موجودة متميزة، فلا يملك الرجوع ببدلها.
والثاني: لا يلزمه؛ لأن نقصانه غير مستقر، بل يتزايد، فصار كالمستهلك.
ومنهم من قال: هي على قول واحد، وأنه يأخذ مثله من غيره؛ لما ذكرناه، وما ذكره الربيع من تخريجه.

(7/48)


[فرع: خلط الدقيق بالدقيق]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن خلط دقيقاً بدقيق.. فكالزيت) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: للدقيق مثل. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو ظاهر النص؛ لأن تفاوته في النعومة والخشونة ليس بأكثر من تفاوت الحنطة بصغر الحب وكبره.
فعلى هذا: حكمه حكم الزيت إذا خلط بالزيت، على ما مضى.
وقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا: لا مثل له؛ لأنه يتفاوت تفاوتاً كبيراً، وقول الشافعي: (إنه كالزيت) أراد: في أنه يرجع إلى بدله، كما يرجع إلى بدل الزيت إذا تلف، لا أنه يرجع إلى مثله.
فعلى هذا: إذا أراد قسمته بينهما.. نظرت:
فإن اختلفت قيمتهما.. لم تجز قسمته؛ لأن قيمتهما مختلفة، فلو جوزناها.. كان فيه تفاضل وربا.
وإن استوت قيمتهما، فإن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين.. جازت قسمته، كما يجوز قسمة الرطب على هذا القول. وإن قلنا: إن القسمة بيع.. لم يجز قسمته، كما لا يجوز بيع بعضه ببعض. وحكى الكرابيسي عنه: (أنه يجوز) . ولا يعرف ذلك للشافعي في شيء من كتبه.
ومن أصحابنا من قال: يباع الدقيقان، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتيهما بكل حال، كما قال في المسائل قبلها.

[فرع: خلط حنطة بحنطة]
وإن غصب منه حنطة، فخلطها بحنطة له.. ففي ذلك مسائل كالتي ذكرناها في الزيت. فإذا خلطها بحنطة أجود منها، أو مثلها، أو دونها.. فالحكم فيها كالحكم في الزيت، وإن خلطها بما يمكن تمييزها منه، مثل: أن يخلط حنطة بيضاء بحنطة

(7/49)


سمراء، أو حمراء، أو شعير، أو ذرة.. فعلى الغاصب تمييزها وتخليصها وإن لحقه بذلك مؤنة ومشقة، كما لو غصب ساجاً، وبنى عليه.
قال ابن الصباغ: وإن لم يتميز جميعه.. وجب عليه تمييز ما أمكن، وكان الباقي بمنزلة اختلاط الزيت بما لا يتميز عنه.

[مسألة: يلزم الغاصب تفريغ ملك غيره]
وإن غصب أرضاً، فغرس فيها، أو بنى، فدعا مالك الأرض إلى قلع الغراس أو البناء.. لزم الغاصب قلعه؛ لما روي: «أن رجلاً غصب أرضاً، فغرس فيها نخيلاً، فرفع ذلك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقلع النخيل) .
قال الراوي: (فلقد رأيتها والفؤوس تعمل في أصولها، وإنها لنخيل عم» ، يعني: طوالاً، ولهذا يقال للمرأة الطويلة: عميمة.
وروى سعيد بن زيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس لعرق ظالم حق» ، بكسر العين، وسكون الراء.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وكل ما وضع في الأرض للتأبيد.. فإنه يسمى: عرقا. والعروق أربعة: عرقان ظاهران، وهما: الغراس والبناء، وعرقان باطنان، وهما: (البئر والنهر) .
ولأنه شغل ملك غيره بغير إذنه، فلزمه تفريغها، كما لو جعل فيها قماشاً.

(7/50)


إذا ثبت هذا: وقلع الغراس، أو البناء.. فقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وغيرهما: عليه تسوية الأرض، وأرش نقص إن دخل على الأرض بالقلع، وأجرة مثلها؛ لأن ذلك حصل بعدوانه.
وذكر في (المهذب) : أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في (الغصب) : (يلزمه ما تنقص الأرض) ، وقال في (البيع) : (إذا قلع الأحجار المستودعة في الأرض.. عليه تسوية الأرض) .
فمن أصحابنا من قال: هي على قولين:
أحدهما: يلزمه أرش النقص؛ لأنها نقصت بفعله.
والثاني: يلزمه تسوية الأرض؛ لأن جبران النقص بالمثل أولى من جبرانه بالقيمة.
ومنهم من قال: يلزمه في الغصب أرش ما نقصت، وفي البيع يلزمه التسوية؛ لأن الغاصب متعد، فغلظ عليه بالقيمة؛ لأنها أوفى، والبائع غير متعد، فلم يلزمه أكثر من التسوية.

[فرع: للمالك طلب قلع الغراس إن كان له غرض آخر]
] : وإن غصب من رجل أرضاً، وغراساً، فغرسه في الأرض، فطالب مالك الأرض الغاصب بقلع الغراس عن الأرض، فإن كان له غرض في القلع، بأن كان لا يريد غرس تلك الأرض.. أخذ الغاصب بقلع الغراس؛ لأنه لا يجوز تفويت غرض المالك، وإن لم يكن لمالك الأرض غرض في القلع، بأن كان يريد غرس تلك الأرض.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يؤخذ الغاصب بقلع الغراس، لأن ذلك عبث وسفه.
والثاني: يؤخذ بذلك؛ لأن الإنسان محكم في ملكه.

(7/51)


[فرع: يلزم الغاصب أجرة الأرض وقلع زرعها وبدل نقصها]
] : وإن غصب أرضاً، وزرع فيها.. لزمه قلع الزرع، وأجرة الأرض، وأرش ما نقص إن حصل بها.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ليس لصاحب الأرض قلع الزرع، بل هو بالخيار: بين أن يدفع البذر والنفقة، ويملك الزرع، وبين أن يقره في الأرض إلى أوان الحصاد، ويطالب بأجرة أرضه) .
دليلنا: أنه شغل ملك غيره بغير إذنه، فلزمه قلعه، كالغراس.

[مسألة: غصب أرضاً وحفر فيها بئراً]
ً] : وإن غصب من رجل أرضاً، وحفر فيها بئراً، أو نهراً، فإن طالبه المغصوب منه برد التراب إلى البئر وطمها.. لزم الغاصب ذلك؛ لأنه نقل التراب من ملكه، فكان له مطالبته بإعادته، وإن طلب الغاصب أن يعيد التراب، فامتنع المغصوب منه.. أجبر المغصوب منه على إعادته. وقال المزني [في (المختصر) 3/40-41] : لا يجبر، كما لو غصب منه غزلاً، ونسجه ثوباً. وهذا غلط؛ لأن الغاصب إن كان قد نقل التراب إلى ملك نفسه.. فله غرض برده، وهو تفريغ ملك نفسه، فإن كان قد نقله إلى ملك غيره، أو إلى طريق المسلمين.. فله غرض في رده، وهو تفريغ ملك الغير، وإزالة الضرر عن طريق المسلمين، وإن كان قد نقله إلى ملك المغصوب منه.. فله غرض في ذلك، وهو أن يسقط عنه ضمان من يقع في البئر، فإذا طم البئر.. نظرت:
فإن نقصت قيمة الأرض بعد الطم عن قيمتها قبل الحفر.. لزمه ما بين القيمتين؛ لأنها نقصت بفعله.
وإن لم تنقص قيمتها.. لم يلزمه أرش النقص.

(7/52)


فإن قال المغصوب منه للغاصب: قد أبرأتك من ضمان من يقع فيها.. فهل يبرأ من ضمان من يقع فيها؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يبرأ؛ لأن الضمان بالحفر حق للغير.. فلا يصح إبراء المغصوب منه، ولأن هذا أبرأه مما لا يجب، فلم يصح.
فعلى هذا: للغاصب طم البئر بكل حال.
والثاني: أنه يبرأ، وهو قول أبي حنيفة، قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأن الضمان يلزمه بوجود التعدي، فزال عنه برضا المالك، كما لو حفر بإذنه.
قال ابن الصباغ: وهكذا: ينبغي إذا لم يتلفظ بالإبراء، وإنما منعه من طمها؛ لأنه يتضمن رضاه بذلك.
فعلى هذا: ليس له أن يطم التراب إن كان قد وضعه في ملك المغصوب منه، وإن كان قد وضعه في ملك نفسه، أو في ملك غيره.. رده.
وإن غصب أرضاً، ثم كشط ترابها.. جاز للمغصوب منه أن يطالبه برده، وإعادة الأرض كما كانت، فإذا رده، فإن نقصت قيمة الأرض بعد ذلك عن قيمتها قبل الكشط.. لزمه ما بين القيمتين، وإن أراد الغاصب رده، وامتنع المغصوب منه، فإن كان الغاصب قد نقل التراب إلى ملك نفسه، أو إلى ملك غيره، أو إلى طريق المسلمين، أو إلى ملك المغصوب منه، ونقصت قيمة الأرض بنقل التراب إلى ملك المغصوب منه، ويرجو بإعادته زوال النقص.. فللغاصب رده؛ لأن له غرضاً في رده، وهو تفريغ ما نقل إليه التراب، أو زوال النقص، وإن كان نقل التراب إلى ملك المغصوب منه، ولم تنقص قيمة الأرض.. لم يكن له ذلك؛ لأنه لا فائدة له في ذلك.
وإن خرق ثوباً، وطلب الغاصب أن يرفأه.. قال المسعودي [في (الإبانة) ق\ 314] : لم يجبر المالك على تمكينه من ذلك؛ لأنه لا يعود إلى حالته الأولى.

(7/53)


[مسألة: غصبه ثوباً وصبغا]
] : وإن غصب من رجل ثوباً وصبغاً، فصبغه به.. لزم الغاصب أن يرد الثوب مصبوغاً؛ لأنهما عين ماله، فإن لم تنقص قيمة الثوب والصبغ، بأن كانت قيمة الثوب قبل الصبغ عشرة، وقيمة الصبغ خمسة، فصارت قيمتهما بعد الصبغ خمسة عشر.. فلا شيء على الغاصب؛ لأنه لم يتلف شيئاً من مال المغصوب منه، وإن زادت قيمتهما، فصارت عشرين.. فلا شيء للغاصب؛ لأن الزيادة حصلت بأثر من الغاصب لا بعين ماله، وإن نقصت قيمتهما، فصارت عشرة.. لزم الغاصب مع ردهما خمسة؛ لأنهما نقصا بفعله، إلا أن يعلم أن ذلك النقصان لنقصان سعر الثياب، أو الصبغ، فلا يلزمه شيء؛ لأن نقصان السعر لا يضمنه الغاصب مع رد العين.

[مسألة: غصب ثوباً ثم صبغه من ماله]
] : وإن غصب من رجل ثوباً، فصبغه بصبغ من عنده.. قال الشيخ أبو حامد: فإن الغاصب يكون شريكاً لصاحب الثوب؛ لأن الصبغ عين مال الغاصب، فإذا خلطه بمال المغصوب منه.. صار شريكاً له، كما لو غصب منه طعاماً، فخلطه بطعام له.
إذا ثبت هذا: فلا يخلو حالهما من ثلاثة أحوال: إما أن لا تزيد قيمتهما ولا تنقص، وإما أن تزيد قيمتهما، وإما أن تنقص قيمتهما.
فالحالة الأولى: إن لم تزد قيمتهما ولم تنقص، بأن كانت قيمة الثوب قبل الصبغ عشرة، وقيمة الصبغ عشرة، وقيمتهما بعد الصبغ عشرين.. فإن الغاصب هاهنا يكون شريكاً له في النصف، فيكون فيه سبع مسائل:
إحداهن: أن يتفقا على بيعهما، فإذا بيعا.. قسم الثمن بينهما نصفين.
الثانية: إذا تراضيا على ترك الثوب بحاله، ويكونان شريكين.. جاز.
الثالثة: أن يطلب الغاصب قلع صبغه.. فله ذلك، ويجبر المغصوب منه على تمكينه من ذلك؛ لأن الصبغ عين مال الغاصب، فكان له أخذه كما لو غصب

(7/54)


أرضاً، وغرس فيها، فله قلعه، إلا أن الثوب إن نقصت قيمته بقلع الصبغ.. لزم الغاصب ما نقصت قيمته؛ لأنه نقص بسبب من جهته.
الرابعة: إذا طلب المغصوب منه أن يقلع الغاصب صبغه من ثوبه، فإن رضي الغاصب بذلك.. فلا كلام، وإن امتنع الغاصب.. فهل يجبر؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول ابن خيران، وأبي إسحاق ـ: أنه يجبر، كما لو غصب أرضاً، وغرس فيها.
والثاني ـ وهو قول أبي العباس، وعامة أصحابنا ـ: أنه لا يجبر الغاصب، لأن الصبغ يهلك بالاستخراج، بخلاف النخل، مع أن الثوب لا يعود كما كان قبل الصباغ، بخلاف الأرض، ولأن الغراس لم يستقر ضرره؛ لأن عروقه وأغصانه تزيد، بخلاف الصبغ.
الخامسة: إذا بذل المغصوب منه قيمة الصبغ، ليتملكه مع الثوب، فإن رضي الغاصب بذلك.. جاز، وإن امتنع الغاصب، بل أراد القلع.. لم يجبر الغاصب على قبول القيمة.
وقال أبو حنيفة: (صاحب الثوب بالخيار: بين أن يعطيه قيمة الصبغ، ويأخذه مع الثوب، ويجبر الغاصب على قبوله، وبين أن يسلم الثوب إلى الغاصب، ويطالبه بقيمته) ، بناء على أصله: إذا جنى الغاصب على العين المغصوبة جناية أذهب بها منفعتها المقصودة، وقد مضى ذلك.
السادسة: إذا أراد الغاصب البيع، وامتنع صاحب الثوب.. فهل يجبر على البيع؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يجبر؛ ليصل الغاصب إلى ثمن صبغه، كما يجبر الغاصب على البيع ليصل رب الثوب إلى ثمن ثوبه.
والثاني: لا يجبر؛ لأنه متعد، فلم يستحق بتعديه إزالة ملك رب الثوب عن ثوبه.

(7/55)


السابعة: إذا وهب الغاصب الصبغ من مالك الثوب.. فهل يجبر على قبوله؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجبر؛ لأن الصبغ متصل بماله، فأجبر على قبوله، كالسمن في الجارية.
والثاني: لا يجبر؛ لأنه عين يمكن إفرادها، فلم يجبر على قبوله، كالأعيان المنفردة.
الحالة الثانية: أن تزيد القيمة، بأن صار الثوب يساوي بعد الصبغ ثلاثين:
قال ابن الصباغ: فإن كانت تلك الزيادة لزيادة سعر السوق في الثياب.. كانت الزيادة لصاحب الثوب، وإن كانت الزيادة بسعر السوق في الصبغ.. كانت للغاصب، وإن كانت بالعمل.. كانت بينهما؛ لأن مالهما زاد بعمل الغاصب، وكل زيادة حصلت في المغصوب بأثر من الغاصب.. فإنها تكون ملكاً للمغصوب منه.
وذكر الشيخ أبو حامد: أن الزيادة بينهما نصفين، من غير تفصيل.
فعلى هذا: يكون فيه المسائل السبعة التي ذكرناها، إلا أن هاهنا إن اختار الغاصب قلع صبغه.. فله قلعه بشرط أن يضمن لصاحب الثوب ما نقص عن قيمة الثوب في هذه الحالة، وهو خمسة عشر؛ لأن الثوب زاد في ملك صاحبه، فصار مالكاً له ولزيادته، فيلزم الغاصب ما نقص من قيمته في هذه الحالة.
الحالة الثالثة: أن تنقص القيمة، قال ابن الصباغ: فينظر:
فإن كان لنقصان سعر الثياب.. كان ذلك من قيمة الثوب، وإن كان لنقصان قيمة الصبغ، أو كان لأجل الصبغ.. كان على صاحب الصبغ أرش ما نقص من قيمة الثوب؛ لأنه تعدى بالصبغ؛ لأن الصبغ يتبدد في الثوب.

(7/56)


وإن كان الصبغ لم يتبدد في الثوب، وكان النقصان منه، فإن كان النقص ببعض قيمة الصبغ، بأن صار الثوب وهو مصبوغ يساوي خمسة عشر.. فإن الغاصب يصير شريكاً بالثلث، وفيه المسائل التي ذكرناها. وإن نقص جميع قيمة الصبغ حتى صار الثوب وهو مصبوغ يساوي عشرة.. فإن الشافعي قال: (يقال للغاصب هاهنا: عين مالك قد استهلك، فإن شئت تركته، ولا شيء عليك ولا لك، فلا شيء عليه؛ لأن قيمة الثوب لم تنقص، ولا شيء له؛ لأن عين ماله قد استهلك، وإن اخترت أن تقلعه على أن عليك ما نقص الثوب عن العشرة.. كان لك ذلك) .
قال الشيخ أبو حامد: ويجيء إذا طالب المغصوب منه الغاصب بقلع الصبغ.. لزمه على أحد الوجهين، ولا يجيء هاهنا دفع قيمة الصبغ، ولا هبة الصبغ؛ لأنه لا قيمة له، ولا يستحق الغاصب شيئاً من الثوب؛ لأن صبغه قد تلف، فإن صارت قيمة الثوب ثمانية دراهم.. قال الشيخ أبو حامد: قيل للغاصب: قد استهلك عين مالك، ونقص قيمة الثوب بفعلك، فأنت بالخيار: بين أن تترك الثوب مصبوغاً، وعليك ما نقص من قيمته، وهو درهمان، أو تقلع الصبغ، وعليك ضمان ما ينقص من قيمة الثوب؛ لأن الصبغ عين ماله.

[فرع: غصب ثوباً وصبغه بصبغ مغصوب]
] : وإن غصب من رجل ثوباً، ومن آخر صبغاً، وصبغ به الثوب.. نظرت:
فإن كانت القيمتان بحالهما.. كان شريكين في ذلك.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون إذا قلنا: إن الصبغ إذا كان للغاصب، أجبرناه على قلعه.. أن يكون هاهنا لصاحب الثوب قلعه، وما ينقص يكون على الغاصب.
وإن كانت القيمة قد زادت.. كانت الزيادة بينهما، وإن نقصت، فإن كان لنقصان سعر الثياب.. كانت على صاحب الثوب، وإن كان للعمل.. كانت من صاحب الصبغ، ويرجع على الغاصب بها؛ لأن الصبغ يتبدد، والثوب بحاله.

(7/57)


[مسألة: غصب خشبة وبنى عليها]
] : إذا غصب ساجة، أو خشبة، فبنى عليها، فإن عفنت الساجة، أو الخشبة.. لم يلزمه ردها؛ لأنها صارت كالمستهلكة، ويرد قيمتها؛ لأنه لما تعذر ردها.. وجبت عليه قيمتها، كما لو أتلفها، وإن كانت باقية.. لزم الغاصب قلعها وردها على مالكها، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه ردها إذا كانت مغيبة في البناء) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يأخذ أحدكم مال أخيه جاداً، ولا لاعباً، ومن أخذ عصا أخيه.. فليردها» . فنص على العصا؛ لينبه بها على ما سواها.
ولأنها عين مغصوبة يمكن ردها، فوجب ردها، كما لو لم يبن عليها.

[فرع: غصب خيطاً وخاط به]
] : وإن غصب منه خيطاً، فخاط به.. نظرت:
فإن بلي الخيط.. لم يلزمه رده؛ لأنه صار كالمستهلك، وتجب قيمته.
وإن كان باقياً.. نظرت:
فإن كان قد خاط به الثوب.. فتقت الخياطة، ورد عليه الخيط؛ لأنه عين مال المغصوب منه، فإن كان قد نقص.. لزمه أرش النقص.
وإن خاط به جرح حيوان، فإن كان لا حرمة له، كالكلب العقور والخنزير والمرتد.. نزع الخيط وإن خيف على الحيوان الهلاك؛ لأن أكثر ما في نزعه تلف الحيوان، وقد ورد الشرع بإتلافه، وإن كان الحيوان له حرمة.. نظرت:

(7/58)


فإن كان لا يؤكل لحمه، كالعبيد، والبغال، والحمير، فإن كان يخاف عليه التلف بقلع الخيط.. لم يقلع؛ لأن للحيوان حرمتين: حرمة لمالكه، وحرمة لله تعالى، ولهذا لو احتاج إلى أخذ هذا الخيط ليخيط به جرحه، أو جرح حيوان له من بغل أو حمار، ولم يكن في ملكه.. كان له أخذه بغير إذن مالكه، فإذا خاط به.. لم يلزمه نزعه، ويجب عليه قيمته. وإن كان يخاف من نزع الخيط الزيادة في العلة، وإبطاء البرء، وحدوث الشين.. فهل هو كخوف التلف؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الجريح إذا خاف ذلك من استعمال الماء.
وإن كان لا يخاف من نزع الخيط التلف، ولا إبطاء البرء.. وجب نزع الخيط؛ لأنه مقدور على رده من غير ضرر.
وإن كان قد خاط به جرح حيوان يؤكل لحمه، فإن لم يخف التلف من نزعه.. وجب نزعه، وإن كان يخاف التلف من نزعه.. ففيه قولان:
أحدهما: يجب نزعه؛ لأنه يجوز ذبحه.
والثاني: لا يجوز؛ لأن له حرمة بنفسه، وقد: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذبح الحيوان لغير مأكلة» .
فإن مات الحيوان الذي خيف من نزع الخيط منه التلف.. فهل يقلع؟

(7/59)


قال المسعودي [في (الإبانة) ق\313] : إن كان غير الآدمي.. قلع، وإن كان آدمياً.. ففيه وجهان.

[مسألة: غصب لوحاً وأدخله سفينة]
] : وإن غصب لوحاً، وأدخله في سفينة، فإن كانت السفينة في الجفاف، أو في موضع من البحر بقرب الشط.. قدمت إلى الشط، وقلع اللوح، ورد على صاحبه؛ لأنه يمكن رده على مالكه بغير ضرورة. وإن كانت السفينة في لجة البحر.. نظرت:
فإن كان اللوح في أعلى السفينة بحيث لا يخاف الغرق في قلعه.. وجب قلعه.
وإن كان في أسفلها بحيث إذا قلع خيف الغرق.. نظرت:
فإن كان في السفينة حيوان له حرمة: آدمي، أو غير آدمي.. لم يجز قلعه، سواء كان للغاصب أو لغيره؛ لأن الحيوان إن كان لغير الغاصب.. فله حرمتان: حرمة لمالكه، وحرمة لله تعالى، وإن كان الحيوان للغاصب.. فله حرمة لله تعالى، فلا يجوز هتكها.
وإن كان فيها مال غير الحيوان، فإن كان لغير الغاصب.. لم يجز قلعه لحرمة مالكه، وإن لم يكن فيها إلا مال الغاصب، أو لم يكن فيها مال، إلا أنه يخاف على السفينة أن تغرق إذا قلع اللوح.. فهل يقلع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يقلع، كما يقلع البناء لرد الساجة، والخشبة.
والثاني: لا يقلع، وهو الأصح؛ لأنه يمكن رده مع سلامة مال الغاصب، وهو إذا دخلت الشط، بخلاف الساجة والبناء.
وكل موضع قلنا: لا يجب قلعه.. فللمالك أن يطالب بقيمة اللوح إلى أن يأخذ لوحه، كما قلنا فيمن غصب عبداً، وأبق منه فإذا قلع اللوح، وسلم إلى مالكه.. رد ما أخذه من قيمته.

(7/60)


وإن اختلطت السفينة التي فيها اللوح بسفن للغاصب، ولم تتميز.. ففيه وجهان، حكاهما في (المهذب) :
أحدهما: يقلع جميع السفن، كما يقلع جميع السفينة.
والثاني: لا يقلع؛ لأنه إتلاف ما لم يتعين فيه التعدي.

[مسألة: غصب جوهرة فابتلعتها بهيمته]
] : إذا غصب جوهرة، فابتلعتها بهيمة له، فإن كانت بهيمة لا تؤكل.. لم يجز شق بطنها لإخراج الجوهرة؛ لأن قتلها لا يجوز، ويلزم الغاصب قيمة الجوهرة، فإن خرجت الجوهرة من البهيمة.. وجب ردها إلى مالكها، وأرش نقصها إن نقصت بالابتلاع، ووجب على المغصوب منه رد ما أخذ من القيمة، وإن كانت لمثلها أجرة.. فهل تجب أجرتها له من حين أخذ القيمة إلى أن رجعت إليه الجوهرة؟ فيه وجهان، كما قلنا فيمن غصب عبداً، فأبق منه.
وإن كانت البهيمة مأكولة.. فهل يجب ذبحها، ورد الجوهرة؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الخيط إذا خيط به جرح حيوان مأكول اللحم وخيف من نزعه تلف الحيوان.

[فرع: إتلاف بهيمته مال غيره]
] : وإن كانت له بهيمة، فأتلفت مالاً لغيره، فإن لم تكن يد صاحبها عليها.. لم يجب على مالكها الضمان؛ لأن مالك البهيمة لا يلزمه حفظها نهاراً، فلا يلزمه ضمان ما أتلفته، وإن أتلفت شيئاً وهي تحت يد إما سائقها، أو قائدها، أو راكبها.. لزمه ضمان ما أتلفت؛ لأنها إذا كانت تحت يده.. كانت جنايتها كجنايته، فإن أتلفته بيدها، أو رجلها، أو نابها.. ضمنه بمثله إن كان له مثل، أو بقيمته إن لم يكن له

(7/61)


مثل، وإن ابتلعته، فإن كان مما يتلف بالابتلاع، كالطعام.. كان كما لو أتلفته بيدها، أو رجلها، وإن كان مما لا يتلف بالابتلاع، كالجواهر، واللؤلؤ.. فهو كما لو غصب جوهرة، وابتلعتها بهيمة على ما مضى.

[فرع: ابتاع شاة فأكلت ثمنها]
] : فأما إذا ابتاع شاة بثمن، فأكلت الشاة ثمنها.. لم يخل: إما أن يكون الثمن معيناً، أو غير معين.
فإن كان معيناً.. نظرت:
فإن أكلته قبل أن يقبضه البائع.. بطل البيع؛ لأن الثمن المعين إذا تلف قبل القبض.. بطل البيع، فإن كانت يد المبتاع على الشاة حين أكلت ذلك، أو لا يد لأحد عليها.. لم يرجع المبتاع ببدل ثمنه على أحد، وإن كانت يد البائع على البهيمة.. لزمه ضمان ذلك للمبتاع، فإن كان مما يتلف بالابتلاع.. ضمنه بمثله إن كان له مثل، أو بقيمته إن لم يكن له مثل، وإن كان مما لا يتلف بالابتلاع، كالدراهم، والدنانير، فإن كانت البهيمة غير مأكولة اللحم.. لم يجز شق بطنها، بل يجب عليه ضمانه، وإن كانت مأكولة اللحم.. فهل يجب ذبحها لإخراجه؟ على القولين.
وإن كان ذلك بعد قبض الثمن.. لم يبطل البيع، بل يكون الثمن على ملك البائع، والبهيمة على ملك المشتري، فإن كانت يد البائع على البهيمة حين أكلت ذلك، أو لا يد لأحد عليها.. فلا شيء له، وإن كانت يد المشتري عليها حين الأكل.. وجب عليه ضمان الثمن، والكلام في الضمان على ما مضى.
وإن كان الثمن غير معين، بأن اشتراها بثمن في ذمته، ثم عزل المشتري مثل الثمن من ماله ليسلمه إلى البائع، فأكلته البهيمة.. فإن البيع لا يبطل بذلك، ويكون الثمن تالفاً على ملك المشتري، فإن كانت البهيمة في يد المشتري، حين الأكل، أو لا يد لأحد عليها.. فلا يرجع على أحد، وإن كانت يد البائع على البهيمة.. وجب عليه ضمانه؛ لأن من يده على بهيمة.. يجب عليه ضمان ما أتلفته وإن لم تكن ملكاً له، كمن استعار بهيمة، أو غصبها، أو استأجرها.

(7/62)


[فرع: إدخال البهيمة رأسها في قدر وتعسر إخراجه]
] : وإن أدخلت بهيمة رأسها في قدر باقلائي، ولم يمكن إخراج رأسها إلا بكسر القدر، أو بذبح البهيمة، فإن كانت يد صاحب البهيمة عليها حين أدخلت رأسها.. لزمه الضمان؛ لأنه كان يلزمه حفظها.
فعلى هذا: إن كانت البهيمة غير مأكولة اللحم.. كسر القدر، ولزمه ما نقص من قيمته؛ لأنه كسر لتخليص ملكه، وإن كانت مأكولة اللحم.. فهل يكسر القدر، أو تذبح البهيمة؟ فيه وجهان، بناء على القولين في البهيمة المأكولة إذا خيط جرحها بخيط مغصوب.
وإن لم تكن يد صاحبها عليها.. نظرت:
فإن فرط صاحب القدر، بأن ترك قدره على الطريق، فجاءت البهيمة، ولا يد لأحد عليها، فأدخلت رأسها فيه.. لم يكن على مالك البهيمة الضمان؛ لأن مالك القدر فرط.
فعلى هذا: يكسر القدر، ويخرج رأس البهيمة، ولا شيء على مالك البهيمة.
وإن لم يفرط صاحب القدر، بأن كان القدر محرزاً في دكانه، أو داره، فجاءت البهيمة، فأدخلت رأسها فيه.. كسر القدر لإخراج رأس البهيمة، ووجب على مالك البهيمة ما نقص من قيمته؛ لأن ذلك فعل لتخليص ملكه.

(7/63)


[فرع: أدخل فصيلاً غصبه إلى داره فكبر]
] : إذا غصب من رجل فصيلاً، وأدخله الغاصب إلى داره، فكبر، ولم يمكن إخراجه إلا بهدم الباب.. هدم الباب، وأخرج الفصيل، ولا شيء على مالك الفصيل؛ لأن التفريط حصل من الغاصب.
وإن أدخله صاحب الفصيل إلى دار غيره، أو انفلت الفصيل بنفسه، ودخل الدار.. نقض الباب، وأخرج الفصيل، ووجب على مالك الفصيل ما يلزم على إصلاحه من المؤنة؛ لأن ذلك حصل لتخليص ملكه، وكذلك لو اشترى من رجل داراً، وله فيها مال لا يمكن إخراجه إلا بنقض الباب، كالصندوق الكبير، والحب الكبير.. هدم الباب لإخراج ذلك، ووجب على البائع إصلاح الباب كما كان؛ لأن الهدم حصل لتخليص ملكه.

[فرع: طرح ديناراً غصبه في محبرته]
] : وإن غصب من رجل ديناراً، وطرحه الغاصب في محبرته، ولم يمكن إخراجه إلا بكسر المحبرة.. كسرت المحبرة، ورد الدينار، ولا يجب ضمان المحبرة؛ لأن التفريط جاء من مالكها.
إن طرح مالك الدينار ديناره في محبرة غيره، أو وقع الدينار فيها من طاق، أو غيره بغير تفريط من أحدهما.. كسرت المحبرة، وأخرج الدينار، ووجب على مالك الدينار ما نقصت بالكسر؛ لأنها كسرت لتخليص ملكه. وإن رضي مالك الدينار بترك ديناره فيها.. فلا كلام. قال ابن الصباغ: وينبغي إذا ضمن صاحب المحبرة بدل

(7/64)


الدينار إذا لم يغصب الدينار.. أن لا يجب كسر محبرته؛ لأنه قد زال الضرر عن مالك الدينار، وصاحب المحبرة غير مفرط في ذلك.

[فرع: أسند خشبه على جدار فسقط]
] : قال ابن القاص: لو أن رجلاً كان يحمل خشباً، فاستراح إلى جدار، فأسنده، فوقع على إنسان، أو شيء، فأتلفه، فإن كان الجدار لغيره، فأسنده إليه بغير إذنه.. ضمن الجدار وما يسقط عليه، وإن كان الجدار له، فإن سقط في حال وضعه.. ضمن ما يسقط عليه، وإن لم يسقط في الحال، وإنما سقط بعد ساعة.. فلا ضمان عليه.
قال أصحابنا: هذا صحيح، إذا كان الجدار لغيره فأسند إليه بغير إذنه.. فيجب عليه ضمان ما وقع عليه، سواء وقع في الحال أو بعد ساعة؛ لأنه متعد بذلك، وإن كان الجدار له، وسقط في الحال.. ضمن ما وقع عليه، كما لو رمى حجراً، فأتلف بها إنساناً، أو مالاً لغيره، وإن وقف، ثم سقط.. فلا يضمن ما سقط عليه؛ لأنه غير متعد، كما لو حفر في ملكه بئراً، فوقع فيها إنسان.
قال أبو علي السنجي: إلا إن مال الجدار إلى هواء الشارع بوضع الخشب، فوقف مائلاً، ثم سقط على إنسان، أو مال.. فيجب عليه ضمانه؛ لأنه إذا مال إلى هواء الشارع.. لزمه إزالته عن هواء الشارع، فإذا لم يفعل.. صار متعدياً، فضمن ما وقع عليه.

[فرع: احتكت راحلته بجدار فسقط]
، وحفر بئر في الحرم] : قال الطبري: فإن كان رجل يحمل حطباً على حمار، فاحتك الحمار بجدار رجل، فأسقطه.. كان على سائق الحمار الضمان؛ لأن عليه أن يحفظه من إتلاف مال الغير.
وهكذا: لو تعلقت خشبة منه بثوب رجل على الطريق، فخرقته، فإن كان صاحب

(7/65)


الثوب لما تعلقت به الخشبة وقف، ولم يجذب ثوبه.. وجب الضمان على سائق الحمار؛ لأن التلف حصل منه، وإن لم يقف صاحب الثوب، بل مشى، وجبذ ثوبه، فانخرق الثوب بمشيه، وبمشي الحمار.. وجب على سائق الحمار ضمان نصف الأرش، وسقط النصف؛ لأنه انخرق بفعلهما.
قال ابن القاص: إذا حفر في ملكه بئراً في الحرم، فهلك بها إنسان.. لم يضمنه، وإن هلك بها صيد.. فحكى الربيع عن الشافعي: (أنه يضمنه) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من سلم له ذلك؛ لأن حرمة الحرم باقية في ملكه، فجاز له التصرف فيه بشرط السلامة، كما لو نصب شبكة، أو رمى سهماً في ملكه في الحرم، فقتل به صيداً.. فإنه يجب عليه ضمانه.
ومنهم من قال: لا يضمن الصيد؛ لأن كل ما لا يضمن به الآدمي ومال الغير.. لم يضمن به الصيد، كما لو حفر بئراً في ملكه في غير الحرم. وأولوا نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على: أنه اضطر الصيد إلى الوقوع في البئر.
قال الشيخ أبو زيد: ولعله أجاب على قول من يقول: الحرم لا يملك، فكأنه حفر في أرض غيره.

[فرع: دخل داراً بغير إذن مالكها فإنه يضمن ما فيها]
] : قال ابن الصباغ: إذا دخل دار غيره بغير إذنه، فإن كان صاحبها فيها.. لم يضمنها؛ لأن يد صاحبها عليها، فلم تثبت يد الدخل عليها، وإن كان صاحبها ليس هو فيها.. ضمنها، وكذلك: إذا دخل داراً يظنها داره، وهي لغيره، ولم يكن صاحبها فيها.. ضمنها؛ لأن يده تثبت عليها.
وإن غصب داراً، وفيها أمتعة.. فهل يكون غاصباً للأمتعة قبل نقلها؟ فيه وجهان، حكاهما أبو المحاسن:
أحدهما: أنه لا يكون غاصباً لها؛ لأن ما ينقل لا يضمن إلا بالنقل.

(7/66)


والثاني: يكون غاصباً لها تبعاً للدار.
وإن رأى دابة واقفة، وليس معها صاحبها، فركبها، ولم تمش به.. قال القاضي أبو الطيب في (المجرد) : لا أعرف فيها شيئاً لأصحابنا، وعندي: أنه لا يضمنها؛ لأنا نعتبر الغصب بالقبض في العقود، ولا يصير قابضاً للدابة حتى ينقلها، فإذا نقلها من موضعها.. ضمنها.

[فرع: غصب فحلاً وأنزاه على بهائمه]
] : وإن غصب من رجل فحلاً، فأنزاه على بهائمه، فنتجت.. فإن الأولاد تكون ملكاً للغاصب؛ لأن الولد يتبع الأم في الملك، كما نقول فيمن زوج أمته، فأولدت، ويلزمه أن يرد الفحل، فإن نقص منه شيء بالإنزاء.. لزمه ضمانه؛ لأنه نقص بعدوانه، وأما الأجرة: فإن قلنا: يجوز استئجار الفحل للضراب.. لزمه أجرته، وإن قلنا: لا يجوز، وهو الصحيح.. لم يلزمه.
وإن غصب غنماً إناثاً، فأنزى عليها فحله، فنتجت.. فإن الولد يكون ملكاً للمغصوب منه؛ لأن الولد تابع للأم في الملك، فإن نقصت قيمتها بالولادة.. لزمه ضمان ذلك، فإن أخذ منها لبناً، أو صوفاً.. قال الشافعي: (ضمن اللبن بمثله، والصوف بمثله إن كان له مثل، وإن لم يكن له مثل.. رد قيمته) . فقال ابن الصباغ: الصوف له مثل. وقال الشيخ أبو حامد: إن كان للصوف نوع معلوم.. ضمنه بمثله إن كان له مثل، وإن لم يكن له نوع، ولا مثل له.. فيضمنه بقيمته. قال: والصحيح: أنه لا مثل له.

[مسألة: غصب جارية فوطئها]
] : وإن غصب من رجل جارية، فوطئها، فلا يخلو: إما أن يكون الغاصب والجارية جاهلين بالتحريم، أو عالمين بالتحريم، أو أحدهما عالم والآخر جاهل.

(7/67)


فإن كانا جاهلين بتحريم الوطء، بأن يكونا قريبي العهد بالإسلام، أو متربيين ببادية بعيدة من المسلمين.. لم يجب عليهما الحد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرءوا الحدود بالشبهات» .
ويجب على الغاصب مهر المثل؛ لأنه وطء سقط فيه الحد عن الموطوءة، فوجب به المهر، كوطء الشبهة، فإن كانت بكراً.. وجب عليه مع المهر أرش الافتضاض؛ لأنه بدل جزء منها، فلزمه ضمانه، وإن حبلت من هذا الوطء.. كان الولد حراً؛ لأنه ولد عن وطء شبهة، ويجب على الغاصب قيمته يوم الولادة؛ لأنه حالت الحيلولة بينه، وبين سيد الأمة، ولأنه لا يمكن تقويمه قبل ذلك، فإن خرج هذا الولد ميتاً.. لم يجب على الغاصب قيمته؛ لأنه لم يعلم حياته قبل ذلك، ولأن القيمة إنما وجبت؛ لأنه حال بين الولد وسيد الأمة، ولا حيلولة هاهنا، فإن ضرب أجنبي بطن هذه الجارية، فألقت ولداً ميتاً.. وجب عليه غرة عبد أو أمة؛ لأنه جنين حر؛ لأن الظاهر أنه مات من الضرب، وتكون هذه الغرة مقدرة بنصف عشر دية أبيه.
قال الشيخ أبو حامد: يجب لولي الأمة عشر قيمة الأمة؛ لأن هذا الجنين لو كان مملوكاً.. كان مضموناً بعشر قيمة أمه.
فعلى هذا: ينظر في الغرة التي أخذت من الجاني، فإن كانت مثل عشر قيمة الأمة.. أخذها مالك الأمة، وقد استوفى حقه، وإن كان عشر قيمة الأم أقل من الغرة.. أخذ السيد منها عشر قيمة الأمة، والباقي منها للأب، وهو الغاصب، وإن كان عشر قيمة الأمة أكثر من الغرة.. كان على الغاصب تمام عشر قيمة الأمة؛ لأنه هو الذي أتلفه على السيد باعتقاده.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ق\ 312] ، والطبري في (العدة) : يجب للسيد على

(7/68)


الغاصب أكثر الأمرين من الغرة أو عشر قيمة الأمة؛ لأنه بدل الجنين.
وإن ضربها الغاصب، فألقت الجنين من ضربه.. فعلى ما قال الشيخ أبو حامد: يجب عليه لمالك الجارية عشر قيمة الأمة، وعلى قياس ما قاله المسعودي: يجب عليه أكثر الأمرين من عشر قيمة الأمة أو نصف عشر ديته.
وأما إذا كانا عالمين بالتحريم، ولم يكرهها على الوطء. فهما زانيان، فيجب عليهما الحد، والمنصوص: (أنه لا مهر لها) ، ومن أصحابنا من قال: يجب المهر؛ لأنه حق للسيد، فلا يسقط ببذل الأمة. والأول أصح؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مهر البغي» ، وهي الزانية.
وإن كانت بكراً.. وجب عليه أرش البكارة ونقصان الولادة، لأنها نقصت بسبب منه، فإن حبلت.. كان الولد مملوكاً، ولا يلحقه نسبه، فإن خرج حياً.. أخذه السيد، وإن خرج ميتاً.. فنقل المزني: (أنه يجب عليه قيمته) .
وقال أبو إسحاق: لا يجب عليه شيء، كما لو كان حراً، وانفصل ميتاً. وتأول ما نقله المزني على: أنه خرج حياً، ثم مات.
ومن أصحابنا من قال: يجب عليه قيمته؛ لأنه مملوك، وقد ثبتت يد الغاصب عليه بثبوتها على الأم، ويفارق إذا كان حراً؛ لأن الحر لا تثبت عليه اليد.
وإن ضرب ضارب بطنها، فألقته ميتاً.. وجب عليه عشر قيمة أمه، وللسيد أن يرجع بها على من شاء من الضارب، أو الغاصب، فإن رجع بها على الغاصب ... رجع بها الغاصب على الضارب؛ لأن الضمان استقر عليه، وإن رجع بها على الضارب.. لم يرجع بها الضارب على الغاصب.
وإن كان الغاصب جاهلاً، والأمة عالمة بتحريم الوطء.. وجب الحد عليها دونه، وكان الولد حراً، ولحقه نسبه، وهل يجب المهر؟ إن أكرهها.. وجب، وإن لم يكرهها.. فعلى الوجهين، الصحيح: لا يجب.
وإن كان الغاصب عالماً بالتحريم، وهي جاهلة.. وجب عليه الحد دونها، ووجب عليه المهر، وكان الولد مملوكاً.

(7/69)


وإن ردها الغاصب وهي حامل، فماتت في يد سيدها من الحمل.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري:
أحدهما: يجب عليه قيمتها؛ لأنها ماتت بسبب منه.
والثاني: لا يجب؛ لأنها ماتت بمرض حادث، وهو الطلق، فهو كما لو غصبها حبلى، وردها حبلى.
وإن كانت في يد رجل جارية، فأولدها، فجاء آخر، وادعاها، وأقام عليها بينة. قضي له بها، وكان عليه ردها، وأجرة مثلها، وأرش نقصانها بالولادة، ولا يلزمه الحد.
قال الطبري: ولا يكون الولد رقيقاً، ولكن يلزم الواطئ المهر وقيمة الولد؛ لأن البينة توجب أن تكون اليد عليها للمدعي، ولا يمنع أن يكون الملك عليها للمدعى عليه في الباطن، فلم يحكم برق الولد بالشك.

[فرع: غصب جارية وباعها فوطئها المشتري]
] : وإن غصب رجل جارية، ثم باعها من آخر، وقبضها، ووطئها المشتري.. فالبيع باطل. قال ابن الصباغ: وحكى القاضي أبو حامد: أن الشافعي قال في موضع: (يكون البيع موقوفاً على إذن المغصوب منه) . ورجع عنه.
إذا ثبت هذا: فإن المشتري إذا وطئها، وحبلت عنده، وولدت من وطئه، ثم ماتت.. فالحكم في وطئه حكم وطء الغاصب، على ما مضى، إلا أن الغاصب إذا وطئ، وادعى أنه جاهل بالتحريم.. فإنه لا يقبل منه إلا بالشروط التي ذكرناها، وهاهنا المشتري إذا ادعى الجهل بالتحريم.. قبل منه؛ لأنه يعتقد أن الغاصب باع ملكه، وأنه يطأ ملك نفسه، إلا إن علم أنها مغصوبة، وأن وطأها حرام فلا شبهة له مع ذلك.
وكل ما وجب على الغاصب قبل تسليمه الجارية إلى المشتري من مهر، وأجرة، وأرش نقص.. يطالب به المالك الغاصب، ولا يطالب به المشتري؛ لأن ذلك وجب

(7/70)


على الغاصب دون المشتري، وكل ما وجب على المشتري من مهر، وأجرة، وأرش نقص، وقيمة ولد، وقيمة العين إن تلفت.. فالمغصوب منه بالخيار: بين أن يطالب المشتري بذلك؛ لأن يده ثبتت عليه، وبين أن يطالب به الغاصب؛ لأنه هو السبب لثبوت يد المشتري عليها، فإن كان المشتري عالماً بأن الجارية مغصوبة.. لم يرجع بما ضمنه للمغصوب منه على الغاصب، ويرجع الغاصب بما ضمنه للمغصوب منه من ذلك على المشتري؛ لأن المشتري غاصب في الحقيقة، إلا أنه يرجع بالثمن الذي دفعه بكل حال؛ لأن الشراء لم يصح، وإن لم يعلم المشتري بالغصب، واختار المالك تضمين المشتري.. فهل يرجع المشتري بما ضمنه على الغاصب؟ ينظر فيما ضمنه:
فإن التزم ضمانه بالثمن، كقيمة الجارية، وبدل أجزائها إن تلفت، وأرش بكارتها.. فإنه لا يرجع بها المشتري على الغاصب، قولاً واحداً؛ لأنه دخل مع الغاصب على أن تكون مضمونة عليه بالثمن، فإذا ضمنها.. لم يرجع بها على غيره.
وإن لم يلتزم ضمانه بالثمن، نظرت:
فإن لم يحصل له في مقابلته منفعة، بأن ولدت ولداً منه، فلزمه قيمته، أو ولدت ولداً مملوكاً، فمات في يده، أو سمنت في يده، ثم هزلت، أو تعلمت صنعة معه، ثم نسيتها، فغرمه المالك ذلك.. فللمشتري أن يرجع بذلك على الغاصب، قولاً واحداً؛ لأنه لم يلتزم ضمان ذلك في البيع، ولا حصل له في مقابلته منفعة.
وإن حصل له في مقابلته منفعة، كالمهر، والأجرة.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يرجع به عليه؛ لأنه غره، ودخل معه في العقد على أن يتلفه بغير عوض) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يرجع به عليه؛ لأنه حصل له في مقابلته منفعة) .
وإن اختار السيد أن يرجع على الغاصب بذلك.. فهل للغاصب أن يرجع به على المشتري؟ فكل ما لا يرجع به المشتري على الغاصب.. فللغاصب أن يرجع به على

(7/71)


المشتري إذا ضمنه، وكل ما يرجع به المشتري على الغاصب.. لا يرجع به الغاصب على المشتري.
فعلى هذا: للغاصب أن يرجع على المشتري بقيمة الجارية، وبدل أجزائها، وأرش بكارتها، قولاً واحداً، وليس له أن يرجع عليه بقيمة الولد ونقصان ما حدث في يد المشتري من السمن والصنعة، قولاً واحداً، وهل له أن يرجع عليه بالمهر وبأجرة المنفعة؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قوله في القديم: (لا يرجع عليه) .
و [الثاني] : قوله في الجديد: (يرجع عليه) .

[فرع: حدوث عيب بمغصوب عند مشتريه]
] : قال الشيخ أبو حامد: فإن غصب ثوباً، وباعه من آخر، وحدث به عيب عند المشتري.. فإن المالك يأخذ ثوبه، ويرجع بأرش العيب على من شاء منهما، فإن رجع على المشتري.. لم يرجع به المشتري على البائع؛ لأنه دخل على أنه مضمون عليه بأجزائه، وإذا ضمن أجزاءه.. لم يرجع به على أحد، وإن رجع به على الغاصب.. رجع به الغاصب على المشتري؛ لما ذكرناه.

[فرع: باع جارية مغصوبة فوطئها المشتري مراراً]
ً] : وإن غصب جارية، وباعها من رجل، ووطئها المشتري مراراً، وهي مكرهة، أو جاهلة.. قال المسعودي [في (الإبانة) ق\311] : فإن علم بعدما وطئها أنها مغصوبة، ثم عاد إلى وطئها.. لزمه بكل وطء مهر، وإن لم يعلم.. ففيه وجهان:
الأصح: أنه يجب مهر واحد؛ لأن الشبهة واحدة.
والثاني: يجب لكل وطء مهر.

(7/72)


[فرع: باع داراً مغصوبة فهدمها المشتري وبناها]
] : وإن غصب داراً، فباعها الغاصب من آخر فنقضها المشتري، وبناها بآلة أخرى.. فللمالك أن يطالب المشتري بنقض بنائه؛ لأن العرصة ملك له، ويجب على المشتري للمالك أرش ما نقصت قيمتها بالنقض، وهو أن تقوم الدار قبل النقض، ثم تقوم العرصة والآلة إن كانت باقية، ويرجع عليه بما بينهما من القيمة. وأما الأجرة: فإنه يطالبه بأجرة مثل داره من حين حصلت في يده إلى أن نقضت، ويطالبه بأجرة العرصة بعد النقض؛ لأن البناء الثاني للمشتري، ولا يطالبه بأجرته، وأما ما يرجع المشتري به على الغاصب إذا لم يعلم بالغصب.. فإنه لا يرجع عليه بأرش النقض؛ لأنه حصل بفعله، وهل يرجع عليه بالأجرة؟ على القولين.
قال الشافعي: (ويرجع بأرش ما نقض من بنيانه الجديد؛ لأنه لم يحصل له في مقابلته عوض، فيرجع به كقيمة الولد) .

[فرع: غصب عيناً وأجرها أو أودعها أو وكل ببيعها فتلفت]
] : وإن غصب عيناً، وأجرها من غيره، وتلفت عنده، ولم يعلم المستأجر أنها مغصوبة.. فللمالك أن يرجع بقيمتها، وأجرتها من حين حصلت في يد المستأجر على أيهما شاء، كما قلنا في التي قبلها، فإن رجع على المستأجر بالأجرة.. لم يرجع بها المستأجر على الغاصب؛ لأنه دخل في العقد على أن يضمن المنفعة بالعوض، وإن رجع عليه المالك بقيمتها.. كان للمستأجر أن يرجع بها على الغاصب، قولاً واحداً؛ لأنه دخل معه في العقد على أن لا يضمن العين، ولا حصل له في مقابلة ما غرم منفعة.
وإن أودع الغاصب العين المغصوبة، أو دفعها إلى آخر ليبيعها له، فأقامها في يده مدة، وتلفت عنده، ولم يعلم أنها مغصوبة.. فللمغصوب منه أن يرجع على المودع

(7/73)


والوكيل بأجرتها وقيمتها. هكذا ذكره ابن الصباغ. ويحتمل وجها آخر: أنه لا يرجع عليهما، ولا على المستأجر؛ لأنهم دخلوا على الأمانة، فإذا رجع على المودع، والوكيل.. فلهما أن يرجعا على الغاصب بذلك؛ لأنهما دخلا على أن [لا] يضمنا ذلك، ولا حصل لهما منفعة عما ضمنا.

[فرع: غصب شاة فذبحها]
وإن غصب شاة، فاستدعى قصابا، فذبحها بأجرة، أو بغير أجرة.. فإن المالك يأخذ شاته مذبوحة وما بين قيمتيها مذبوحة وحية، وله أن يطالب بذلك من شاء من الذابح، أو الغاصب، فإن ضمن الغاصب.. لم يرجع الغاصب على الذابح؛ لأن الذابح لم يذبح لنفسه، وإنما ذبحها للغاصب، وإن ضمن المالك الذابح.. رجع الذابح على الغاصب؛ لأن الذبح كان له. هكذا قال عامة أصحابنا. والذي يقتضي المذهب: أنها مفروضة في الذابح إذا لم يعلم أنها مغصوبة، فأما إذا علم أنها مغصوبة ثم ذبحها.. فإنه لا يرجع بما غرم على الغاصب، وللغاصب أن يرجع عليه بما غرم؛ لأنه غاصب في الحقيقة.

[مسألة: الاستكراه على الوطء]
] : قال الشافعي: (وإن استكره رجل حرة أو أمة، فوطئها.. وجب عليه الحد والمهر) .
وقال أبو حنيفة: (يجب عليه الحد دون المهر) .
دليلنا: أن كل ما كان مضمونا بالبدل في العقد.. جاز أن يكون مضمونا بالبدل في الاستكراه والغصب، كالعين.
قال الطبري: فإن زنا بصبية لا يشتهى مثلها، أو أزال بكارتها بالإصبع. وجب عليه أرش البكارة دون المهر. وقال أبو حنيفة: (يجب المهر فيهما) .
ومن أصحابنا من قال - فيمن زنا بصغيرة لا تشتهى -: يجب المهر.

(7/74)


دليلنا: أنه لم يوجد الإيلاج في الفرج، ولا العقد، فأشبه إذا ضرب على ظاهر فرجها، فأزال البكارة.

[فرع: ادعاء غصب العبد المباع]
] : وإن اشترى رجل من رجل عبداً، ثم ادعى آخر أن البائع غصب منه العبد:
فإن صدقه البائع والمشتري.. حكم ببطلان البيع، وسلم العبد إليه.
وإن صدقه البائع، وكذبه المشتري.. لم يقبل إقرار البائع في حق المشتري؛ لأن العبد قد صار ملكا له في الظاهر، وللمدعي إحلاف المشتري، فإن كان البائع قد قبض الثمن.. فليس للمشتري المطالبة به؛ لأنه لا يدعيه، وإن كان لم يقبضه.. لم يكن له قبضه؛ لأنه يقر أنه لا يستحقه، وهل يلزم البائع أن يغرم للمدعي قيمة العبد؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على القولين فيمن أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو.
ومنهم من قال: يلزمه أن يغرم، قولا واحداً؛ لأنه قد حصل للبائع عوضه، وهو الثمن.
فإن صدقه المشتري، وكذبه البائع.. لزم المشتري تسليم العبد إلى المقر له؛ لأنه أقر بما في يده، فقبل إقراره، ولا يلزم البائع رد الثمن على المشتري إن كان قد قبضه، وإن لم يقبضه.. فله أن يطالبه به؛ لأن الظاهر أنه باع ملكه.
وإن كذباه.. فالقول قول المشتري مع يمينه، قولاً واحد؛ لأنه لو أقر به قبل

(7/75)


إقراره، وأما البائع: فإن قلنا: لو أقر به لزمه أن يغرم قيمته.. لزمه أن يحلف؛ لجواز أن ينكل عن اليمين، فيقر. وإن قلنا: لا يلزمه الغرم.. لم تلزمه اليمين.
وإن كان المشتري قد أعتقه، فإن صدقه البائع والمدعي.. لم يقبل إقرارهما في رق العبد؛ لأنه قد صار حرا في الظاهر، وهكذا: لو صدقه.. العبد أيضاً.. لم يحكم برقه؛ لأن حق الحرية فيه يتعلق بها حق الله تعالى، ولهذا لو شهد شاهدان للعبد بالعتق.. سمعت شهادتهما وإن اتفق السيد والعبد على الرق.
إذا ثبت هذا: فإن للسيد أن يرجع بقيمة عبده على من شاء من البائع أو المشتري، غير أنه إن رجع على البائع.. رجع عليه بأكثر ما كانت قيمة عبده من حين غصبه إلى حين العتق، وإن رجع على المشتري.. رجع عليه بأكثر ما كانت قيمته من حين قبضه إلى أن أعتقه، ولا يرجع المشتري على البائع بما غرم؛ لأنه أتلفه، ويرجع البائع على المشتري بما غرم من قيمته من حين قبضه المشتري إلى أن أعتقه.
وإن مات العبد وفي يده مال، ولا وارث له.. كان المال للذي أقر له برقه؛ لأن قولهما لم يثبت في العتق؛ لثبوت حق الله تعالى، وأما المال: فلا حق لسواهما فيه، فقبل إقرارهما فيه، فإن أقام المدعي بينة.. حكم له برق العبد، وحكم ببطلان العتق.

[فرع: الإقرار بغصب المبيع في مدة الخيار]
] : قال ابن الصباغ: إذا باع عبدا بشرط الخيار، ثم أقر البائع في حال الخيار أنه غصبه من رجل، وصدقه المقر له، وكذبه المشتري.. حكم بصحة إقرار البائع؛ لأنه يملك الفسخ، فقبل إقراره بما يفسخ البيع.

(7/76)


[فرع: ادعى بيع ما لا يملك وأنه ملكه بعد]
] : إذا باع رجل من رجل عينا، ثم ادعى البائع أنه باع ما لا يملكه، وأنه الآن ملكه، فأقام بينة بما ادعاه.. نظرت:
فإن قال البائع حين البيع: بعتك هذه العين وهي ملكي، أو أقر أنه يملك الثمن.. لم تسمع دعواه، ولا بينته؛ لأنه كذبه بإقراره السابق.
وإن قال: بعتك، وأطلق.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (سمعت دعواه وبينته؛ لأنه قد يبيع ملكه وغير ملكه) .

[مسألة: غصب طعاما وأطعمه آخر]
] : وإن غصب من رجل طعاماً، وأطعمه آخر.. فللمالك أن يضمن الآكل؛ لأنه أتلفه، وله أن يضمن الغاصب؛ لأنه غصبه، ولأنه هو السبب لإتلاف الآكل له. فإن ضمن المالك الآكل.. فإنه يضمنه بقيمته أكثر ما كانت من حين قبضه إلى حين أتلفه، وهل للآكل أن يرجع على الغاصب بما ضمنه؟
إن علم الآكل أنه مغصوب بقول الغاصب أو غيره.. لم يرجع عليه بما غرم؛ لأن إتلافه له رضا بوجوب الضمان عليه، وإن لم يعلم الآكل أنه مغصوب.. فهل يرجع الآكل بما غرمه عليه؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يرجع عليه؛ لأنه غره، وأطعمه إياه على أن لا يضمن) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يرجع عليه) . وهو الأصح؛ لأن التلف حصل بيده، فلم يرجع بما ضمنه على غيره.
فإن اختار المالك تضمين الغاصب.. فإنه يضمنه قيمة الطعام أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف، وهل للغاصب أن يرجع على الآكل بقيمة الطعام من حين قبضه إلى أن أتلفه؟

(7/77)


إن علم الآكل أنه مغصوب.. رجع عليه الغاصب، قولا واحداً؛ لأنه رضي بوجوب الضمان عليه، وإن لم يعلم الآكل أنه مغصوب، فإن قال الغاصب: كله، فهو لي، أو ملكي.. لم يرجع على الآكل، قولاً واحداً؛ لأنه أقر بأن المدعي ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه، وإن قدمه إليه وهو ساكت.. فهل يرجع عليه؟ على القولين:
قال في القديم: (لا يرجع عليه) . وفي الجديد: (يرجع عليه) .
وإن قال ـ لما قدمه إليه ـ: وهبت لك هذا الطعام.. قال الشيخ أبو حامد: لم يرجع عليه، قولاً واحدا؛ لأن تحت قوله: وهبت لك هذا الطعام، أنه ملكه، وأنه يملكه إياه بلا عوض، وأن المدعي له ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه.
وقال ابن الصباغ: هي على قولين، كما لو قدمه إليه، ولم يقل شيئاً.

[فرع: غصب طعاماً وأطعمه مالكه]
] : وإن غصب طعاماً، وأطعمه الغاصب المغصوب منه، فإن علم المغصوب منه أنه طعامه، ثم أكله.. برئ الغاصب من ضمانه؛ لأنه أتلف ماله، وإن لم يعلم أنه طعامه.. ففيه قولان، وحكاهما الشيخ أبو حامد وجهين:
أحدهما: يبرأ الغاصب من ضمانه، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه أتلف مال نفسه، فهو كما لو علم أنه طعامه.
والثاني: لا يبرأ؛ لأنه لم يرده إليه ردا تاماً؛ لأنه يأكله على أنه لغيره.

[مسألة: غصب عينا ورهنها المالك فتلفت]
] : وإن غصب من رجل عيناً، ثم رهنها الغاصب عند المالك، أو أودعه إياها، أو أجرها منه، وتلفت عنده، فإن علم المالك أنها له قبل التلف.. برئ الغاصب من الضمان؛ لأن المالك قد رجع إليه ماله، وإن لم يعلم المالك.. ففيه قولان:

(7/78)


أحدهما: يبرأ الغاصب؛ لأن العين قد رجعت إلى يد مالكها.
والثاني: لا يبرأ؛ لأنها لم ترجع إليه على أنها ملكه.
وإن باعها الغاصب من المالك.. برئ الغاصب من ضمانها، سواء علم المالك أنها له أو لم يعلم؛ لأنه قد رضي بوجوب ضمانها عليه.
وإن وهبها الغاصب من المالك، وسلمها إليه، وأتلفها، ولم يعلم أنها له، فإن قلنا: إن الغاصب يبرأ إذا قدم إليه الطعام، فأكله، ولم يعلم أنه له.. فهاهنا أولى أن يبرأ، وإن قلنا في الطعام: لا يبرأ.. فهاهنا وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يبرأ الغاصب؛ لأنه لا يعلم أنها له، فهو كما لو أباحها له.
والثاني: يبرأ الغاصب؛ لأنه قد سلمها إليه تسليما تاماً، بخلاف الإباحة.

[فرع: غصب عينا فرهنها المالك عنده]
] : وإن غصب عيناً، فرهنها المالك عند الغاصب، وأذن له بقبضها، فقبضها.. صارت رهناً، ولا يبرأ الغاصب من ضمانها إلا بتسليمها إلى المالك أو وكيله، وبه قال الثوري.
وقال مالك، وأحمد، وأبو حنيفة، والمزني: (يزول عنه الغصب؛ لأنه أذن له في إمساكها، فزال عنه الضمان، كما لو أودعها إياه) .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى ترده» . وهذا ليس بردٍّ.
ولأن الرهن لا ينافي الضمان، كما لو رهنه عينا، وتعدى بها المرتهن.
وأما الوديعة، ففيها وجهان، وإن سلمنا.. فلأنها تنافي ضمان الغصب؛ لأنه متى تعدى فيها.. خرجت عن أن تكون وديعة، بخلاف الرهن.

(7/79)


[فرع: غصب عبدا فقتله سيده أو وقفه]
] : ولو قتل السيد عبده في يد الغاصب.. برئ الغاصب من ضمانه. ولو قال الغاصب للمغصوب منه: اقتله، فقتله، ولم يعلم أنه عبده.. فهل يبرأ الغاصب من ضمانه؟ فيه وجهان، وهذان الوجهان كما لو قال: اعتقه، فعتقه، ولم يعلم أنه له. ولو أبرأ الغاصب من الضمان.. فهل يبرأ؟ فيه وجهان.
وإن وقفه السيد على أمر عام، كالقناطر، والمساجد.. قال الصيمري: سقط الضمان على الغاصب للسيد، وصار الضمان للقيم.

[مسألة: حبس حرا فمات]
وإن حبس رجل حراً، ومات عنده من غير أن يمنعه الطعام والشراب.. فلا يجب عليه ضمانه، كبيراً كان أو صغيراً؛ لأن الحر لا تثبت عليه اليد. وإن أقام في يده مدة لمثلها أجرة، فإن استوفى الغاصب منافعه.. وجب عليه أجرته؛ لأنه أتلف عليه منافعه، فهو كما لو أتلف عليه ماله، وإن لم يستوفها الغاصب.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه أجرته؛ لأن ما ضمن بالبدل في العقد الصحيح.. ضمن بالبدل في الغصب، كالمال.
والثاني: لا يجب عليه شيء؛ لأن منافعه تلفت تحت يده.

[فرع: غصب كلباً منتفعاً به]
] : وإن غصب كلباً فيه منفعة.. وجب عليه رده إلى مالكه؛ لأنه يجوز الانتفاع به، فإن مات.. لم يجب عليه قيمته؛ لأنه لا قيمة له. وإن أقام في يده مدة لمثلها أجرة.. فذكر الشيخ أبو إسحاق في (الغصب) : هل تجب أجرته على الغاصب؟ فيه

(7/80)


وجهان، بناء على جواز استئجاره. وذكر في (الإجارة) : أن منفعته لا تضمن بالغصب. ولم يذكر الشيخ أبو حامد إلا وجهاً واحداً: أنه لا تضمن منفعته بالغصب.

[مسألة: غصب خمراً أو خنزيرا]
] : إذا غصب من ذمي خمراً.. قال الشيخ أبو إسحاق: لزمه ردها عليه.
وعلى قياس قوله: إذا غصب منه خنزيراً.. لزمه رده عليه؛ لأنه مقر على شرب الخمر، وأكل الخنزير.
وإن غصب الخمر من مسلم.. فهل يلزمه ردها عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه ردها إليه؛ لأنه ربما أطفأ بها ناراً أو بل بها تراباً.
والثاني: لا يجب ردها إليه، بل يجب إراقتها؛ لما روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا طلحة بإراقة خمر اليتامى» .
وإن تلفت الخمر عنده، أو الخنزير، أو أتلفهما.. لم يجب عليه ضمانهما، سواء كانا لمسلم أو ذمي.
وقال أبو حنيفة: (إن كانا لذمي.. وجب عليه ضمانهما، فإن أتلفهما مسلم.. وجبت عليه قيمتهما، وإن أتلفهما ذمي.. وجب عليه مثل الخمر، وقيمة الخنزير) .
دليلنا: أن كل ما لم يكن مضمونا بحق المسلم.. لم يكن مضمونا بحق الذمي، كالميتة، والدم. وعكسه: أن كل ما كان مضموناً في حق الذمي.. كان مضموناً في حق المسلم، كالثياب.

(7/81)


فإن صارت الخمر عند الغاصب خلا.. لزمه رده إلى من غصبه منه؛ لأنه عاد مالاً.

[فرع: ألقى شاة ميتة فأخذ رجل جلدها]
] : وذكر الشيخ أبو حامد: إذا ماتت لرجل شاة، فطرحها على المزبلة، فأخذ رجل جلدها، ودبغه.. ملكه، وإن غصبه منه غاصب.. لزمه رده عليه، فإن دبغه.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الملك للمغصوب منه، فلا يزول بالتعدي، كما لو غصب منه جرو كلب يريد تعليمه، فعلمه الغاصب.. فإن الملك فيه للمغصوب منه، وهو كما لو غصب منه خمراً، فاستحالت خلا في يد الغاصب.
والثاني: يكون ملكا للغاصب؛ لأن الملك فيه عاد بفعل الغاصب، بخلاف الخمر.

[مسألة: فصل مزماراً أو صليباً من غير كسر]
] : وإن فصل رجل مزماراً، أو صليب نصراني من غير كسر.. لم يجب عليه ضمان؛ لأن تالفه لا قيمة له، فإن كسره، فإن كان يصلح لمنفعة مباحة بعد التفصيل.. وجب عليه ما نقص من قيمته بالكسر؛ لأنه أتلف ما له قيمة، وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة بعد التفصيل.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه أتلف ما لا منفعة فيه.

(7/82)


[مسألة: فتح قفص طائر فهرب]
] : إذا فتح قفصا عن طائر، أو حل رباط دابة، فخرجا.. نظرت:
فإن هيجهما عقيب الفتح والحل حتى خرجا.. ضمنهما؛ لأنه ألجأهما إلى الخروج، وإن لم يهيجهما إلى الخروج، بل وقفا ساعة لم يخرجا، ثم خرجا.. لم يجب عليه الضمان، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (يجب عليه الضمان) .
دليلنا: أن الطائر والدابة لهما اختيار، بدليل: أنهما يتوقيان المكاره، وقد وجد منهما مباشرة، ومن الفاتح سبب، فتعلق الضمان بالمباشرة، كما لو حفر رجل بئراً، فطرح رجل نفسه فيها.
وإن لم يهيجهما إلى الخروج، ولا وقفا، بل خرجا عقيب الفتح.. فقد حكى القاضي أبو الطيب عن بعض أصحابنا: إن كان أهاجهما الدنو منهما، أو فتح القفص، أو حل الشكال. وجب عليه الضمان، إذ لا فرق بين أن يهيجهما بنفسه، أو يحصل ذلك بفعله، وإن لم يوجد شيء من ذلك.. فلا ضمان عليه. وأكثر أصحابنا قالوا: هي على قولين:
أحدهما: لا يجب عليه الضمان، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه وجد منه سبب لا يلجئ، فهو كما لو وقفا، ثم خرجا.
والثاني: يجب عليه الضمان، وبه قال مالك؛ لأن خروجه عقيب حله، فالظاهر أن الحل هو الذي ألجأه إلى الخروج، كما لو هيجه.
وإن فتح رجل باب آخر، أو هدم حائطه، فدخل آخر، فأخذ المال.. وجب الضمان على الآخذ دون الفاتح؛ لأن الفاتح صاحب سبب، والآخذ مباشر، فتعلق الضمان بالمباشر، كما لو حفر رجل بئراً وطرح فيها آخر رجلاً.

(7/83)


وإن فتح رجل باب رجل، فخرجت بهائمه، وأكلت زرع رجل.. لم يجب الضمان على الفاتح؛ لما ذكرناه، وإن كان الفاتح هو المالك للبهائم.. وجب عليه الضمان؛ لأنه يجب عليه حفظ بهائمه عن زرع غيره.

[مسألة: هيج طائراً لغيره وقع على جداره]
] : وإن وقع طائر لغيره على جداره، فهيجه، فطار.. لم يضمنه؛ لأنه كان ممتنعاً قبل ذلك. وإن مر في هواء داره، فرماه، فأتلفه.. وجب عليه الضمان؛ لأنه لا يملك منعه من المرور فيه.

[مسألة: حل زقا فيه مائع فخرج]
] : فإن حل زقاً لغيره فيه مائع، أو راوية فيها ماء، فخرج المائع.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يخرج عقيب الحل، فيجب عليه الضمان؛ لأن خروجه كان بفعله.
الثانية: أن لا يخرج عقيب الحل، بل وقف، إلا أنه خرج منه شيء، فابتل الموضع الذي كان مشدوداً فخرج، أو ثقل أحد جانبيه ومال، فسقط وخرج ما فيه، ضمنه؛ لأنه خرج بسراية فعله، فهو كما لو جرح حيواناً، فسرت الجراحة إلى نفسه ومات.
الثالثة: أن يكون الزق منصوباً، ولا يميل بالحل، ووقف ساعة، ثم سقط بريح، أو بتحرك إنسان أو دابة، أو بزلزلة الأرض، قال ابن الصباغ: أو لم يعلم كيف سقط وذهب ما فيه، فلا يجب على الفاتح الضمان؛ لأنه لم يوجد الخروج بفعله، ولا بسبب فعله، فهو كما لو حفر بئراً، ووقع فيها إنسان.

(7/84)


وإن كان الذي في الزق جامداً، فذاب بالشمس وخرج، فإن كان الزق على صفة لو كان فيه مائع لم يخرج، بأن كان منصوباً.. فلا ضمان عليه؛ لأن الخروج لم يكن بفعله؛ وإنما كان بإذابة الشمس له، وإن كان الزق على صفة لو كان ما فيه مائعاً لخرج عقيب الحل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمن؛ لأن خروجه كان بإذابة الشمس لا بحله.
والثاني: يضمن، وهو الصحيح؛ لأن خروجه إنما كان بفعله؛ لأن الشمس إنما أذابته، وذلك لا يوجب الخروج لولا الفتح، فهو كما لو جرح رجلاً، فأصابه الحر أو البرد، وسرت الجراحة إلى نفسه، فمات.. فإن الضمان عليه.

[فرع: حل زقا فيه جامد فذوبه آخر]
] : وإن حل زقا فيه جامد، وقرب إليه آخر ناراً، فذاب وخرج.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب على واحد منهما ضمان؛ لأن الخروج لم يحصل بالحل، ولا باشر صاحب النار الإتلاف، فهو كما لو نقب رجل حرزاً، وسرق منه آخر.. فإنه لا قطع على واحد منهما.
والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي إسحاق ـ: أن الضمان يجب على من أدنى النار؛ لأن التلف حصل به.

[فرع: فتح زقا فنكسه آخر فخرج ما فيه]
] : وإن فتح رجل زقا مستعلي الرأس فيه مائع، فخرج منه شيء، ثم جاء آخر، فنكسه حتى خرج جميع ما فيه.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: أن ما خرج قبل التنكيس.. يجب ضمانه على الذي حل، وما خرج بعد التنكيس.. يجب ضمانه عليهما نصفين؛ لأنه خرج بفعلهما.
والثاني: أن ما خرج قبل التنكيس.. على الذي حل، وما خرج بعد التنكيس.. يجب على الذي نكسه، كما لو جرح رجل رجلاً، وذبحه آخر.

(7/85)


[مسألة: حل رباط سفينة فغرقت]
] : وإن حل رباط سفينة، فغرقت، فإن غرقت في الحال.. ضمنها؛ لأن غرقها حصل بفعله. فإن وقفت، ثم غرقت، فإن كان غرقها بسبب حادث، كهبوب ريح، أو ما أشبهه.. لم يضمن؛ لأنها غرقت بغير فعله، وإن غرقت من غير سبب.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمن، كالزق إذا ثبت بعد حله، ثم سقط.
والثاني: يضمن؛ لأن الماء أحد المتلفات.

[مسألة: أوقد ناراً في ملكه فأحرقت دار جاره]
] : إذا أوقد في ملكه ناراً، فطارت منها شرارة إلى دار جاره، فأحرقته.. نظرت:
فإن كان بتفريط من الموقد، بأن أوقد ناراً عظيمة لا تحتملها داره في العادة، أو أوقد في يوم ريح شديد.. وجب عليه الضمان؛ لأن الظاهر من اليوم ذي الريح أن النار تطير إلى دار جاره، والظاهر ممن أوقد في ملكه شيئاً لا يحتمله ملكه أن النار تطير إلى ملك غيره.
وإن أوقد ناراً يحتملها ملكه مع سكون الريح.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه غير مفرط فيما صنع، فهو كما لو حفر بئراً في ملكه، فوقع فيها إنسان.
قال الطبري: وإن أوقد ناراً في ملكه في وقت سكون الريح، فهبت ريح، فأطارت شرارة منها إلى دار جاره، فأحرقتها.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه غير مفرط.
قال ابن الصباغ: وإن كان لجاره شجرة، فأوقد في ملك نفسه ناراً، فجفت تلك الشجرة.. ضمنها؛ لأنه مفرط في ذلك؛ لأن ذلك لا يحصل بما جرت العادة فيه من النار المستعملة.

(7/86)


قال الطبري: وإن كانت أرضه متصلة بأرض جاره، وحرق أرضه، فأحرقت أرض جاره، ضمنها.

[فرع: سقى أرضه فطغى الماء على أرض جاره]
] : وإن سقى أرضه، فتعدى الماء إلى أرض جاره، فغرقها، أو أفسد زرعها.. نظرت:
فإن كان مفرطاً، بأن ساق إلى أرضه ماء كثيراً لا تحتمله أرضه، أو أرسل إليها ماء قليلاً، إلا أنه لا حاجز بين أرضه وأرض جاره.. وجب عليه الضمان؛ لأن الظاهر أن أرض جاره تغرق بذلك.
وإن كان ما ساقه من الماء تحتمله أرضه.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه غير متعد.
قال أصحابنا: وهكذا: لو كان في أرضه جحر فأر، فإن لم يعلم به، وقد ساق إلى أرضه من الماء ما تحتمله أرضه، فانصب الماء في الجحر إلى أرض جاره وأفسدها.. فلا ضمان عليه؛ لأنه غير متعد بذلك.

[مسألة: ألقت الريح ثوباً في داره]
] : وإن ألقت الريح في داره ثوباً.. لزمه حفظه؛ لأنه صار أمانة في يده، فصار كاللقطة، فإن عرف صاحبه.. لزمه إعلامه، فإن لم يفعل.. لزمه الضمان؛ لأنه صار ممسكاً له بغير إذن صاحبه، فصار كالغاصب.
قال الصيمري: ولو أطارته الريح من داره قبل أن يعلم به.. فلا ضمان عليه، ولو علم به ولم يقبضه حتى أطارته الريح.. فأصح الوجهين: أنه لا ضمان عليه.
وإن وقع في داره طائر لغيره.. لم يلزمه إمساكه وتعريف صاحبه به؛ لأنه يتحفظ بنفسه.

(7/87)


وإن دخل إلى برجه، فأغلق عليه الباب، فإن نوى إمساكه لنفسه.. ضمنه، وإن لم ينو إمساكه لنفسه.. لم يضمنه؛ لأنه يملك التصرف في برجه.

[مسألة: نقل المغصوب إلى غير بلد صاحبه]
] : إذا غصب منه شيئاً ببلد، ونقله الغاصب إلى بلد أخرى.. كان للمغصوب منه أن يطالب الغاصب بنقله إلى البلد الذي غصبه منه فيه.
وإن غصب منه شيئاً ببلد، فلقيه المغصوب منه ببلد أخرى، فطالبه به في تلك البلد، فإن لم يكن للعين المغصوبة مؤنة في النقل، كالدراهم، والدنانير.. لزم الغاصب دفعها إليه في البلد الأخرى، وإن كان لنقله مؤنة، كالطعام، وما أشبهه، فإن كانت قيمة الطعام في البلدين سواء، أو كانت قيمته في البلد الثاني أقل.. فللمغصوب منه أن يطالبه به في البلد الثاني؛ لأنه لا ضرر على الغاصب بذلك، وإن كانت قيمته في البلد الثاني أكثر.. كان المغصوب منه بالخيار: بين أن يصبر إلى أن يرجع إلى البلد الأول؛ وبين أن يطالبه بقيمته بما يساوي في البلد الذي غصبه منه فيه؛ لأنه لا يجوز أن يلزم الغاصب أكثر مما غصبه.
قال البغداديون من أصحابنا: ولا يملك الغاصب العين المغصوبة، فإذا رجعا إلى البلد الأولى.. لزم الغاصب تسليم العين إلى المغصوب منه، واسترجع ما دفع من القيمة.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ق\ 307] : هل له أن يسترد القيمة، ويدفع إليه العين؟ فيه وجهان.

[مسألة: إشهاد اثنين على الغصب]
] : إذا ادعى على رجل أنه غصب منه عيناً، وأنكر المدعى عليه، وأقام المدعي شاهدين يشهد أحدهما: أنه غصبها من يوم الخميس، وشهد الآخر: أنه غصبها منه

(7/88)


يوم الجمعة.. لم يتم الغصب بشهادتهما؛ لأنهما شهدا على فعلين، وللمدعي أن يحلف مع أيهما شاء، ويستحق.
وإن شهد أحدهما: أنه أقر عنده: أنه غصب من فلان، وكان غصبه يوم الخميس، وشهد الآخر: أنه أقر عنده: أنه غصبه منه، وكان غصبه يوم الجمعة.. لم يثبت الغصب بشهادتهما، وللمدعي أن يحلف مع أيهما شاء.
وإن شهد أحدهما: أنه أقر عنده يوم الخميس: أنه غصب هذا الشيء من فلان، وشهد الآخر: أنه أقر عنده يوم الجمعة: أنه غصب هذا الشيء من فلان.. قال الشيخ أبو حامد: فظاهر ما قال الشافعي في (الأم) [3/223] : أنه لا يحكم بشهادتهما. قال: إلا أن أصحابنا كلهم قالوا: يحكم بشهادتهما؛ لأنهما اتفقا على الإقرار بغصب واحد، وإنما اختلف تاريخ وقت الإقرار، وكلام الشافعي يرجع إلى المسألة قبلها.

[فرع: حلف بالطلاق أنه لم يغصب]
] : فإن ادعى على رجل أنه غصب منه عينا، فحلف المدعى عليه بطلاق امرأته: أنه ما غصبها منه، فأقام المدعي شاهداً وحلف معه، أو شاهداً وامرأتين بما ادعاه.. ثبت الغصب، ولم يحكم بطلاق امرأته؛ لأن الغصب يثبت بالشاهد واليمين، وبالشاهد والمرأتين، والطلاق لا يثبت بذلك.

[مسألة: اتفقا على الغصب واختلفا في التلف]
] : وإن اتفقا على غصب عين، واختلفا في بقائها، فقال الغاصب: قد تلفت، وقال المغصوب منه: لم تتلف.. فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على التلف، وهل يستحق المغصوب [منه] بدلها؟ فيه وجهان:

(7/89)


أحدهما: لا يستحق بدلها؛ لأنه لا يدعي ذلك.
والثاني: يستحق؛ لأنه لما تعذر رجوعه إلى العين بيمين الغاصب.. رجع إلى بدلها، كالعبد المغصوب إذا هرب.

[مسألة: اتفقا على التلف واختلفا في القيمة]
] : وإن اتفقا على تلف العين المغصوبة، واختلفا في قيمتها، فقال المغصوب منه: قيمتها مائة، وقال الغاصب: قيمتها خمسون، فإن أقام المغصوب منه شاهدين قد شاهدا العين المغصوبة، وقالا: قيمتها مائة.. حكم للمغصوب منه بذلك.
وإن لم يشهدا أن قيمتها مائة، ولكنهما وصفاها بصفة، فعلم أن ما كان بتلك الصفة من جنس تلك العين كانت قيمتها مائة.. لم يحكم بأن قيمتها مائة؛ لأن ذلك يختلف؛ ولأنه قد يكون بها عيب ينقص قيمتها.
وإن لم يكن مع المغصوب بينة.. فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» . والغاصب هاهنا منكر. ولأنه غارم، والأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به. قال الطبري: وإنما يقبل قول الغاصب مع يمينه إذا كان ما ذكره محتملاً، فأما إذا كان ما ذكره محالاً، مثل أن يقول: قيمة الجارية التي تلفت عندي درهم، فلا يقبل قوله؛ لأنه يقطع بكذبه.
فإن أقام الغاصب بينة: أن قيمة العين كانت خمسين، فقال المغصوب منه: بل كانت قيمتها مائة.. قال المسعودي [في (الإبانة) ق\309] : فالقول قول الغاصب في الزيادة؛ لأن الأصل عدمها.

[مسألة: الاختلاف في نقص كان في العين]
] : وإن اختلفا في نقص كان في العين المغصوبة، بأن غصب منه عبداً ومات في يده، فقال الغاصب: كان سارقاً، فقيمته عشرة، وقال المغصوب منه: لم يكن سارقاً، فقيمته عشرون.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخان، أبو حامد، وأبو إسحاق:

(7/90)


أحدهما: أن القول قول الغاصب؛ لأن الأصل براءة ذمته.
والثاني ـ وهو اختيار الشيخ أبي حامد ـ: أن القول قول المغصوب منه؛ لأن الأصل سلامته.
وذكر ابن الصباغ: إذا قال المغصوب منه: كانت العين سليمة، وقال الغاصب: كان بها داء.. ففيه طريقان:
[الطريق الأولى] : من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: القول قول الغاصب.
والثاني: القول قول المغصوب منه؛ لما ذكرناه.
و [الطريق الثانية] : منهم من قال: القول قول المغصوب منه، قولاً واحداً؛ لأن الأصل سلامته.
قال ابن الصباغ: وإذا غصب منه عبداً، فكان في يد الغاصب أعور، فقال الغاصب: هكذا غصبته، وقال المغصوب منه: إنما اعورَّ عندك.. فالقول قول الغاصب؛ لأنه غارم، ولأن الظاهر أن هذه صفة العبد لم تتغير، وإن كان بعد تلف العبد.. فالقول قول المغصوب منه؛ لأن الأصل سلامته، ويخالف الحي؛ لأنه قد شوهد بهذه الصفة، بخلاف الميت.
وأما المسعودي: فقال [في (الإبانة) ق\ 309] : إذا كان العبد أقطع اليد، فقال الغاصب: لم تخلق له يد، وقال المغصوب منه: بل خلقت، ولكن قطعت في يدك.. فالظاهر من المذهب: أن القول قول الغاصب؛ لأن الأصل أنها لم تخلق له يد. وفيها قول آخر: أن القول قول المالك؛ لأن الظاهر أنها خلقت له. وإن اتفقا على: أنها خلقت له يد، ولكن قال المغصوب منه: قطعت في يدك، وقال الغاصب: غصبته وقد قطعت.. فالظاهر: أن القول قول المالك؛ لأن الأصل عدم القطع. وفيه قول آخر: أن القول قول الغاصب؛ لأن الأصل براءة ذمته.

(7/91)


[فرع: الاختلاف في صفة تزيد قيمة العبد]
] : وإن قال المغصوب منه: كان العبد كاتباً، وقال الغاصب: لم يكن كاتباً.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: القول قول المغصوب منه؛ لأنه أعرف بصفة ملكه.
والثاني: القول قول الغاصب، وهو الصحيح؛ لأن الأصل عدم الكتابة.
وإن غصب منه عبداً، فقال الغاصب: رددته حياً، ومات في يدك، وقال المغصوب منه: بل مات في يدك. وأقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه.. تعارضت البينتان، وسقطتا، وضمن الغاصب قيمة العبد؛ لأن الأصل بقاء العبد عنده حتى يثبت رده.
وقال أبو يوسف: بينة المالك أولى؛ لأن الأصل الغصب. وقال محمد: بينة الغاصب أولى؛ لأن الأصل براءة ذمته.
دليلنا: أن كل واحدة من البينتين تعارض الأخرى، فإحداهما تثبت موته في يد غير اليد التي تثبت الأخرى الموت فيها، فتعارضتا، وسقطتا.

[فرع: الاختلاف في عين المغصوب]
] : وإن اختلفا في العين المغصوبة، فقال: غصبت مني عبداً، وقال: بل غصبت منه جارية.. قال أبو إسحاق المروزي: فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه لما كان القول قوله في القيمة.. فكذلك في الجنس مثله.
وإن قال: غصبت مني طعاماً حديثاً، وقال: بل غصبت منك طعاماً عتيقاً.. فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الحديث، ويلزمه أن يدفع إليه العتيق؛ لأنه أنقص من حقه.

(7/92)


[مسألة: الاختلاف في انقلاب الخمر المغصوب خلا]
] : وإن غصب منه خمراً، وادعى المغصوب منه أنه انقلب خلا، وأنكر الغاصب الانقلاب.. فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الانقلاب.

[مسألة: الاختلاف في ثوب العبد المغصوب]
] : وإن اختلف الغاصب والمغصوب منه في الثياب التي على العبد المغصوب.. فالقول قول الغاصب؛ لأن يده ثابتة عليها، وعلى العبد.

[مسألة: غصب المغصوب من الغاصب]
] : ولو غصب المغصوب من الغاصب غاصب ثانٍ.. قال أبو المحاسن: لم يبرأ الثاني بتسليمه إلى الغاصب الأول.
وقال أبو حنيفة: (يبرأ) .
دليلنا: أنه سلمه إلى غير المالك، فلا يبرأ، كما لو اجتمعا على غصبه.
إذا ثبت هذا: فلا يكون للغاصب الأول خصومة في انتزاعه من الثاني.
وقال أبو حنيفة: (له ذلك) . وبه قال بعض أصحابنا.
دليلنا: أن الغاصب الأول ليس بمالك، فلا يملك انتزاعه، كالأجنبي.
ولو أقر: أنه غصب من رجل خاتماً، ثم ادعى المقر أن فصه له.. فهل يقبل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يقبل؛ لأن اسم الخاتم يقع عليه من غير فص.

(7/93)


والثاني: لا يقبل، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن الفص من جملة الخاتم، فلا يقبل قوله فيه من بعد الإقرار، كما لو ادعى شيئاً من الخاتم.
وإن أقر: أنه غصب منه أرضاً، ثم قال: أما الشجر الذي فيها: فهو لي.. فهل يقبل؟ فيه وجهان.
ولو قال رجل: غصبنا من فلان ألف درهم، ثم قال: كنا عشرة.. فقد قال محمد بن الحسن: لا يصدق، ويلزمه الكل. وقال زفر: يقبل قوله مع يمينه، وبه قال بعض أصحابنا؛ لأن ما قاله محتمل، والأصل براءة ذمته.
وبالله التوفيق.

(7/94)