البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الشفعة]

(7/95)


كتاب الشفعة الشفعة مشتقة من الشفع، وهو الاثنان؛ لأن الشفيع يضم إلى ملكه ملك المشتري. وقيل: إنها مشتقة من الشفاعة؛ لأن الشفيع يأخذها بلين ورفق، فكأنه مستشفع، إذ المشتري ليس بظالم. والشفعة من أمر الإسلام، ولم تكن في الجاهلية.
والأصل في ثبوتها: ما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود.. فلا شفعة» .
وروى البخاري بإسناده عن جابر بن عبد الله: أنه قال: «إنما جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(7/97)


الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق.. فلا شفعة» .
وفي رواية مسلم بن الحجاج عن جابر: أنه قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة في كل مشترك لم يقسم، ربع، أو حائط، لا يحل له أن يبيعه حتى يؤذن شريكه، فإن شاء.. أخذ، وإن شاء.. ترك، فإن باعه، ولم يؤذنه.. فهو أحق به» .
و (الربع) : اسم للدار مع بنائها، و (الحائط) : اسم للبستان مع غراسه.
إذا ثبت هذا: فالأشياء في الشفعة على ثلاثة أضرب: ضرب ثبتت فيه الشفعة، سواء بيع منفرداً، أو مع غيره، وضرب لا تثبت فيه الشفعة بحال، وضرب تثبت فيه الشفعة تبعاً لغيره، ولا تثبت فيه الشفعة إذا بيع منفرداً.
فأما الضرب الأول ـ وهو ما تثبت فيه الشفعة إذا بيع منفرداً، أو مع غيره ـ: فهو

(7/98)


العراص، مثل: عرصة الأرض، والدار، فإذا باع أحد الشريكين نصيبه فيها.. ثبتت لشريكه الشفعة فيه، وهو قول عامة العلماء، إلا الأصم، فإنه قال: لا تثبت الشفعة بحال؛ لأن في ذلك إضراراً بأرباب الأملاك؛ لأن المشتري متى علم بأنه يؤخذ منه.. لم يرغب بالشراء، فيؤدي ذلك إلى الضرر بالبائع، وربما تقاعد شريكه عن الشراء منه.
ودليلنا عليه: ما ذكرناه من الأخبار، وما ذكره.. فغير صحيح؛ لأنا نشاهد الأشقاص تشترى مع علم المشتري باستحقاق الشفعة عليه.
وأما الضرب الثاني ـ وهو ما لا تثبت فيه الشفعة بحال ـ: فهو كل ما ينقل ويحول، مثل: الطعام، والثياب، والعبيد، فإذا باع أحد الشريكين نصيبه في ذلك.. لم تثبت لشريكه فيه الشفعة، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال مالك: (تثبت الشفعة في جميع ذلك) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق.. فلا شفعة» . وهذا لا يتناول ما ينتقل.
وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا شفعة إلا في ربع، أو حائط» . فنفى الشفعة عن غيرهما.
وأما الضرب الثالث ـ وهو ما تثبت فيه الشفعة تبعا لغيره ـ: فهو الغراس، والبناء في الأرض، فإن باع أحد الشريكين نصيبه فيه منفردا عن الأرض.. لم تثبت فيه الشفعة؛ لأنه منقول، فلم تثبت فيه الشفعة، كالثياب، والعبيد.
وإن باع أحد الشريكين نصيبه في البناء والغراس مع نصيب من الأرض.. ثبتت فيه الشفعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة في كل ربع، أو حائط» . و (الربع) : هو الدار ببنائها، و (الحائط) : هو البستان بأشجاره، ولأن البناء والغراس يرادان للبقاء والتأبيد، فتثبت فيهما الشفعة، كالأرض.

(7/99)


وإن باع أحد الشريكين نصيبه من الشجر مع نصيبه من قراره بالأرض دون ما يتخلل الشجر من بياض الأرض.. ففيه وجهان:
أحدهما: تثبت فيه الشفعة؛ لأنه باع نصيبه من الشجر مع قراره من الأرض، فهو كما لو باع ذلك مع نصيبه من بياض الأرض.
والثاني: لا تثبت فيه الشفعة؛ لأن قرارها تابع لها، فلا يصير الشجر تابعاً له.
وإن كان هناك دار سفلها لواحد، وعلوها مشترك بين جماعة، فباع أحد الشركاء في العلو نصيبه فيه، فإن كان السقف لصاحب السفل.. لم تثبت الشفعة في النصيب المبيع في العلو؛ لأنه بناء منفرد، وإن كان السقف لأهل العلو.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تثبت فيه الشفعة؛ لأنه بناء لا يتبع أرضا.
والثاني: تثبت فيه الشفعة؛ لأن السقف يؤوى إليه، فهو كالعرصة.

[مسألة: باع شقص أرض وفيها زرع أو ثمر]
] : وإن باع شقصاً له من أرض وفيه زرع، فباع نصيبه من الزرع مع الأرض، أو كان فيها شجر وعليه ثمرة ظاهرة، فباع نصيبه من الشجر والثمرة مع الأرض.. لم تثبت الشفعة في الزرع والثمرة.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (تثبت فيه الشفعة تبعاً للأرض) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة في كل ربع، أو حائط» . فأثبت الشفعة فيهما، فدل على: أنها لا تثبت لغيرهما.
ولأنه لا يتبع الأصل في البيع بالإطلاق، فلم تثبت فيه الشفعة، كما لو باع أرضا وفيها طعام مستودع.
وإن كان في الشقص نخيل بيع مع الشقص وعليه ثمرة غير مؤبرة.. فهل تؤخذ الثمرة بالشفعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تؤخذ؛ لأنه منقول، فلم يستحق أخذه بالشفعة، كالزرع، والثمرة الظاهرة.

(7/100)


والثاني: يؤخذ بالشفعة؛ لأنه يدخل في بيع أصل الأرض بالإطلاق، فاستحق بالشفعة، كالنخل.
فإذا قلنا بهذا: فتأخر الأخذ بغيبة الشفيع، فجاء وقد أبرت النخل.. فهل يأخذها الشفيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يأخذها؛ لأنه قد استحق أخذها حال البيع، فلم يسقط ذلك من غير رضاه بالتأبير.
والثاني: لا يأخذها؛ لأنه إنما يأخذها ما دامت الثمرة تابعة للشجرة والأرض، فإذا ظهرت.. خرجت عن ذلك.
فإذا قلنا بهذا: فهل يحط من الثمن شيء لأجل الثمرة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحط؛ لأن الثمن قابل الجميع.
والثاني: لا يحط؛ لأن هذا كنقص حدث بالمبيع.
قال أبو علي السنجي: وهذا بناء على أن الطلع هل له قسط من الثمن؟ على قولين، كالحمل.

[مسألة: لا شفعة إلا للشريك]
ولا تثبت الشفعة عندنا إلا للشريك، ولا تثبت للجار، وبه قال عمر، وعثمان، وعلي من الصحابة، ومن التابعين: ابن المسيب، وسليمان بن يسار، وعمر بن

(7/101)


عبد العزيز، ومن الفقهاء: ربيعة، ومالك، والأوزاعي، وعبيد الله بن الحسن، وأحمد، وإسحاق.
وذهبت طائفة إلى: أن الشفعة تستحق بالشركة، وتستحق بالجوار، وذهب إليه ابن سيرين، وابن أبي ليلى، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، ويفصل مذهب أبي حنيفة فيها: (أن الرجل إذا باع داراً، فإن كان له فيها شريك.. كان أحق بالشفعة من الجار، وإن لم يكن له فيها شريك، فإن كانت في درب غير نافذ.. فالجار المشارك له في الطريق أحق من الجار الذي لا يشاركه في الطريق، وإن كان له جاران يشاركانه في الطريق.. فهما أحق، وإن عفا الجار الذي إلى جنبه عن الشفعة.. استحق جاره الذي يليه الشفعة إلى آخر الدرب ولو كان بينهما ألف ذراع، وأما إذا كان الزقاق نافذاً.. استحق الجار الملاصق له الشفعة، فإن عفا.. لم يستحق الذي يلي العافي الشفعة؛ لأنه ليس بجار للبائع، وإنما هو جار جاره) .
وحكي عن أبي العباس ابن سريج: أنه قال: تثبت الشفعة في الدار لمن يشاركه في الطريق بالدرب المشترك.
وهذا كله غير صحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق.. فلا شفعة» . فأثبت جنس الشفعة فيما لم يقسم، ونفاها عن المقسوم.
إذ ثبت هذا: فإن حكم حاكم بالشفعة للجار.. فهل ينقض حكمه؟ فيه وجهان، حكاهما الصيدلاني:
أحدها: ينقض؛ لأنه مخالف للنص.

(7/102)


والثاني: لا ينقض، وهو الأصح؛ لأنه حكم بما يسوغ فيه الاجتهاد.

[مسألة: فيما يقسم بين الشريكين]
] : ولا تجب الشفعة إلا فيما تجب قسمته بين الشريكين عند الطلب، وهو بحيث إذا قسم لم تنقص قيمة حصة كل واحد منهما بعد القسمة عن قيمته قبل القسمة، فأما ما لا تجب قسمته عند الطلب، وهو ما ينقص قيمة نصيب كل واحد منهما.. فلا يثبت فيه الشفعة، وبه قال عثمان بن عفان، ومن الفقهاء ربيعة، وإحدى الروايتين عن مالك.
وقال أبو حنيفة، والثوري، وأبو العباس ابن سريج: (تثبت فيه الشفعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة في كل شرك، ربع، أو حائط» . ولم يفرق) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق.. فلا شفعة» . فأثبت جنس الشفعة فيما لم يقسم، يعني: ما لم يفعل فيه القسمة. وهذا إنما يكون فيما تجب قسمته عند الطلب، ولأن الشفعة إنما ثبتت لما يلحق الشريك من الضرر بالمقاسمة، وذلك لا يوجد فيما لا تجب قسمته.
إذا ثبت هذا: فذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (البئر، والحمام، والرحى) .
قال أصحابنا: وإذا كان بينهما بئر، فباع أحدهما نصيبه فيها.. فهل تثبت فيها الشفعة؟ ينظر فيها:
فإن كان معها بياض من الأرض بينهما، وكانا إذا قسما، كانت البئر لواحد، والبياض لواحد، وكانت قيمة نصيب كل واحد منهما بعد القسمة كقيمته قبل القسمة.. ثبتت فيها الشفعة.

(7/103)


وإن كانت البئر لا بياض معها، فإن كانت كبيرة، بحيث إذا قسمت بينهما حصل لكل واحد منهما بئر منها، ينتفع بها.. ثبتت فيها الشفعة، وإن كانت بئراً صغيرة، بحيث إذا قسمت بينهما لم يحصل لكل واحد منهما بئر مفردة.. لم تثبت فيها الشفعة.
وأما الحمام: فإن كان حماما كثير البيوت، بحيث إذا قسم بينهما حصل لكل واحد منهما ما يصلح حماماً، ولم تنقص قيمة نصيب كل واحد منهما بعد القسمة عن قيمته قبل القسمة.. ثبتت فيه الشفعة، وإن كان لا يحصل له ذلك.. لم تثبت فيه الشفعة.
وأما الرحى: فإن كان فيه حجران، ولكل واحد منهما ماء، بحيث إذا قسم حصل لكل واحد منهما رحى.. ثبتت فيه الشفعة، وإن كان رحى واحدة.. لم تثبت فيه الشفعة؛ لأنه إذا قسم نقصت قيمة نصيب كل واحد منهما بذلك.

[فرع: الشفعة في طريق غير نافذة]
] : وإن باع رجل داره، وكان طريقها في زقاق نافذ.. فإن الشفعة لا تثبت في الطريق؛ لأن الزقاق النافذ غير مملوك، والشفعة إنما تثبت في المملوك، وإن كان طريقها في زقاق غير نافذ، وقال: بعتك داري مع نصيبي في الطريق، أو قال: بحقوقها.. فإن نصيبه في الطريق يدخل في البيع، ولا تثبت الشفعة في الدار، وقال ابن سريج: تثبت فيها. وقد مضى ذكره.
وأما الطريق: فهل تثبت فيه الشفعة؟ ينظر فيه:
فإن كان طريقاً ضيقاً، بحيث إذا قسم لم يصب كل واحد منهما طريقا.. لم تثبت فيه الشفعة؛ لأنه نصيب لا يحتمل القسمة.

(7/104)


وإن كان الطريق واسعاً، بحيث إذا قسم أصاب كل واحد طريقاً.. نظرت:
فإن كان للدار المبيعة طريق آخر من درب نافذ، أو غير نافذ، أو يمكن أن يفتح لها بابا إلى زقاق نافذ.. ثبتت الشفعة في الطريق؛ لأنها أرض تحتمل القسمة.
وإن كان لا طريق للدار المبيعة سوى هذا الطريق.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تثبت فيه الشفعة؛ لأنها أرض مشاعة تحتمل القسمة، فتثبت فيها الشفعة، كالدار.
والثاني: تثبت فيها الشفعة، ولكن يكون لمشتري الدار المرور فيها إلى الدار؛ لأن الضرر يزول عنهما بذلك.
والثالث ـ وهو الصحيح ـ أنه لا تثبت فيه الشفعة؛ لأن الشفعة لإزالة الضرر، فلو أثبتنا الشفعة هاهنا.. لأضررنا بالمشتري؛ لأن داره تبقى من غير طريق.
وما قاله الأول فاسد؛ لما ذكرناه، وما قاله الثاني أيضا فاسد؛ لأن الملك إذا انتقل إلى الشفيع.. لم يستحق عليه الاستطراق في ملكه، وهذا الحكم إذا كان الطريق بحيث إذا قسم.. أصاب كل واحد مقدار طريقه لا زيادة عليه، فأما إذا كان نصيبه زيادة على ذلك.. فإن الزيادة على قدر الطريق فيها الشفعة، وجها واحداً، وفي قدر الطريق الأوجه الثلاثة.

[مسألة: ثبوت الشفعة بالشقص المملوك]
] : تثبت الشفعة بالشقص المملوك بالبيع؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وإن باعه.. فهو أحق به» . وبه قال عامة العلماء، إلا الأصم، وقد مضى الدليل عليه.

(7/105)


وتثبت الشفعة بكل ما ملك الشقص فيه بعقد معاوضة، بأن يكون عوضاً في الصلح، أو أجرة في الإجارة، أو مهراً في النكاح، أو عوضاً في الخلع.
وقال أبو حنيفة: (لا تثبت الشفعة إلا فيما ملك بالبيع وحده) .
دليلنا: أنه ملك بعقد معاوضة، فثبتت فيه الشفعة، كالبيع.

[فرع: إرث الشفعة]
] : فإن مات رجل، وخلف شقصاً.. لم يستحق على وارثه فيه الشفعة، وهذا إجماع لا خلاف فيه.
وإن أوصى رجل لرجل بشقص، أو وهبه له هبة لا تقتضي الثواب ... لم تثبت فيه الشفعة.
وقال ابن أبي ليلى: تثبت فيه الشفعة بقيمة الشقص. وهي إحدى الروايتين عن مالك.
دليلنا: أنه ملكه بغير عقد معاوضة، فلم تثبت فيه الشفعة، كما لو ملكه بالإرث.
وإن وهب له شقصاً بعوض معلوم.. كان بيعا، وتثبت فيه الشفعة، سواء تقابضا أو لم يتقابضا، وبه قال زفر.
وقال أبو حنيفة وسائر أصحابه: (لا تثبت فيه الشفعة حتى يتقابضا؛ لأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض) .

(7/106)


دليلنا: أنه ملكه بعقد معاوضة، فلم يعتبر في ثبوت الشفعة فيه القبض، كالبيع، وأما الهبة: فقد صرفناها عن مقتضاها بشرط العوض فيها.
وإن وهب لمن هو أعلى منه شقصاً، فإن قلنا: إنها تقتضي الثواب.. ثبتت فيه الشفعة، وإن قلنا: لا تقتضي الثواب.. لم تثبت فيه الشفعة.

[فرع: الإقالة ترفع الشفعة]
وإن اشترى رجل شقصاً، فعفا الشفيع عن الشفعة فيه، ثم استقال البائع المشتري في الشقص، فأقاله.. فقال البغداديون من أصحابنا: لا تثبت فيه الشفعة؛ لأنه لم يرجع إليه بعوض.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه قولان، بناء على أن الإقالة ابتداء عقد، أو فسخ عقد.
فإن عفا الشفيع عن الشفعة، ثم إن المشتري ولاه رجلاً.. ثبتت للشفيع فيه الشفعة؛ لأن التولية بيع برأس المال.

[فرع: تعليق حق الشفعة]
] : قال في (الأم) : (وإن قال لأم ولده: إن خدمت ورثتي شهراً.. فلك بهذا الشهر الشقص، فخدمتهم.. استحقت الشقص) . وهل تثبت فيه الشفعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تثبت؛ لأنها ملكته ببدل، وهو الخدمة، فهو كما لو استأجر به غيرها على الخدمة.
والثاني: لا تثبت؛ لأنها ملكته بالوصية، بدليل: أنه يعتبر من الثلث.
وإن دفع المكاتب إلى سيده شقصاً عن كتابته.. كان للشفيع أن يأخذه بالشفعة؛

(7/107)


لأنه مملوك بعوض، وإن غاب الشفيع، أو لم يعلم حتى عجز المكاتب ورجع إلى الرق.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تثبت فيه الشفعة؛ لأنه صار بالعجز مملوكاً للسيد بحق الملك.
والثاني: تثبت فيه الشفعة؛ لأن الشفعة قد ثبتت فيه حال ما قبضه السيد، فلا تسقط بالعجز.

[فرع: الدين على الميت الشفيع يمنع انتقال الشقص لوارثه]
) : قال ابن الحداد: إذا ملك الرجل شقصاً في دار أو أرض، فمات وعليه دين يحيط بتركته، فباع شريكه الشقص.. كان للوارث أن يأخذه بالشفعة؛ لأن الدين لا يمنع انتقال الملك إلى الوارث، والشقص ملك للوارث عند بيع شريكه.
وقال أبو حنيفة، وأبو سعيد الإصطخري: (الدين يمنع انتقال الملك إلى الوارث) .
فعلى هذا: لا يستحق الوارث الأخذ بالشفعة. وليس بشيء.
ولو مات رجل، وله دار، وعليه دين يحيط ببعضها، فبيع بعض الدار بالدين، أو أوصى بأن يباع بعض الدار، ويصرف ثمنه في بعض وصاياه، فبيع بعضها.. قال ابن الحداد: لم يكن للورثة أن يأخذوا ما بيع منها بالشفعة؛ لأن البيع يقع عليهم، فلا يستحقون فيه الشفعة.
قال القاضي أبو الطيب: ولم يختلف أصحابنا في هذه، فأما إذا كان لرجل ربع دار، ولابنه ثلاثة أرباعها، فمات الأب وعليه دين يحيط بربع الدار، فبيع بالدين.. قال ابن الحداد: فللابن أن يأخذ الربع بالشفعة هاهنا؛ لأن الشقص بيع بسبب مستحق على الميت في حال حياته، فكأن الأب باشر بيعه في حال حياته، والابن شريك له في حال حياته، فاستحق الشفعة به عليه، كما لو باع الأب ذلك بنفسه.
وخالفه أكثر أصحابنا، وقالوا: لا شفعة للابن؛ لأن الابن يملك ربع الدار الذي خلفه أبوه، والدين لا يمنع انتقال الملك إلى الوارث عندنا، ومن بيع عليه بعض

(7/108)


ملكه.. لم يستحق أخذه بالشفعة، كما لو غاب رجل، وله دار، وعليه دين، فباع الحاكم بعض داره بدينه، ثم قدم.. فليس له أخذ ما بيع من داره بالشفعة، فكذلك هاهنا مثله.

[فرع: سقوط الشفعة بإبراء الشفيع أو إذنه]
] : إذا أذن الشفيع في البيع، أو أبرأ من الشفعة قبل تمام البيع.. لم تسقط شفعته، به قال أكثر أصحابنا.
وقال عثمان البتي: تسقط شفعته، واحتج بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء.. أخذ، وإن شاء.. ترك، وإن باع ولم يؤذنه.. فهو أحق» .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، ربع، أو حائط» . ولم يفرق. ولأنه إسقاط حق قبل ثبوته، فلم يسقط، كما لو أبرأه من دين قبل ثبوته.
وأما الخبر: فأراد به العرض عليه ليبتاع ذلك إن أراد، فتخف بذلك المؤنة على الشريك.

[مسألة: بيع شقص في دار نصفها وقف]
] : إذا كان نصف الدار وقفا على رجل، ونصفها طلقا، فباع صاحب الطلق نصيبه.. فهل تثبت فيه الشفعة لصاحب الوقف؟
إن قلنا: إن الملك ينتقل في الوقف إلى الله.. لم يستحق الموقوف عليه الشفعة في الطلق؛ لأن الشفعة لا تستحق إلا بالملك.

(7/109)


وإن قلنا: إن الملك في الوقف ينتقل إلى الموقوف عليه.. فهل يستحق أخذ الطلق بالشفعة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: أنه يستحق؛ لأنه يلحقه الضرر في ماله من جهة الشريك، فاستحق أخذه بالشفعة، كمالك الطلق.
والثاني ـ ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه لا يستحق؛ لأن الوقف لما لم يستحق أخذه بالشفعة.. لم يستحق الأخذ به بالشفعة.

[مسألة: باع أحد الشريكين نصيبه بشرط الخيار]
] . وإن كانت دار بين اثنين، فباع أحدهما نصيبه بشرط الخيار، فإن كان الخيار لهما، أو للبائع.. لم يكن للشفيع أن يأخذه بالشفعة قبل انقضاء الخيار؛ لأن ذلك يؤدي إلى قطع الخيار للبائع.
وإن كان الخيار للمشتري وحده، وقلنا: إن الملك موقوف، أو لا ينتقل إلى المشتري إلا بانقضاء الخيار.. لم يكن للشفيع الأخذ بالشفعة قبل انقضاء الخيار؛ لأن الملك لم يحصل للمشتري، وإن قلنا: إن الملك ينتقل إلى المشتري بنفس العقد.. فهل يستحق الشفيع الأخذ بالشفعة قبل انقضاء الخيار؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يستحق، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي؛ لأنه بيع فيه خيار، فلم يستحق الشفيع الأخذ قبل انقضاء الخيار، كما لو كان الخيار للبائع، ولأن المشتري شرط الخيار لغرض قصده، وفي أخذ الشفيع قبل انقضاء الخيار تفويت لغرض المشتري، فلم يجز.
والثاني ـ وهو اختيار الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق ـ: أنه يستحق؛ لأنه إذا ملك الأخذ بعد استقرار حق المشتري بانقضاء الخيار.. فلأن يملك قبل ذلك أولى، ولأن المشتري لو وجد بالشقص عيباً، فأراد رده.. كان للشفيع أن يأخذه، ويبطل ما ثبت للمشتري من الرد، فكذلك هذا مثله.

(7/110)


[فرع: باع الشريك نصيبه قبل انقضاء مدة الخيار]
] : وإن كان بين رجلين دار، فباع أحدهما نصيبه فيه بشرط الخيار له وللمشتري، أو له وحده، ثم باع الشريك الثاني نصيبه منها بغير خيار قبل انقضاء الخيار في البيع الأول.. لم يكن للبائع الثاني شفعة؛ لأن ملكه قد زال، ولا تثبت للمشتري فيه شفعة أيضاً؛ لأنه ملكه بعد البيع الأول، ولمن تثبت الشفعة في الشقص الثاني؟ يبنى على الأقوال: إلى من ينتقل المبيع في حال الخيار؟
فإن قلنا: إن الملك فيه للبائع.. كانت الشفعة فيه للبائع؛ لأن ملك الشقص له في هذه الحالة.
فعلى هذا: إذا انقضى الخيار، ولم يفسخ العقد.. فإن الشقص المبيع أولاً لمشتريه، والشقص المبيع ثانياً لبائع الشقص الأول؛ لأنه ملك أخذه بالبيع الثاني، فلا يسقط بعد ذلك.
وإن قلنا: إن الملك في الشقص الأول انتقل إلى المشتري بالعقد.. فإن الشفعة في الشقص الثاني لمشتري الأول، فإن فسخ البيع بعد ذلك في الذي اشتراه.. لم يسقط حقه من الشفعة في الثاني؛ لما ذكرناه.
وإن قلنا: إن الملك في الشقص الأول موقوف على انقضاء الخيار.. كانت الشفعة في الشقص الثاني أيضاً موقوفة، فإن فسخا البيع.. كانت الشفعة لبائع الأول، وإن لم يفسخا.. كانت للمشتري.

[مسألة: ثبوت الشفعة للمسلم وغيره]
] : وتثبت الشفعة للمسلم على الذمي، وللذمي على الذمي؛ لعموم الأخبار، ولا خلاف في ذلك، وتثبت الشفعة للذمي على المسلم، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.

(7/111)


وقال الشعبي، وأحمد، والحسن بن صالح: (لا تثبت له) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، ربع، أو حائط» . ولم يفرق، ولأنه خيار يثبت لإزالة الضرر عن المال، فثبت للذمي على المسلم، كخيار الرد بالعيب، وفيه احتراز من خيار القصاص.
إذا ثبت هذا: فإن اشترى ذمي من ذمي شقصاً بخمر، أو خنزير، والشفيع ذمي، فإن رفع ذلك إلى الحاكم قبل التقابض في الثمن بالبيع.. حكم الحاكم بإبطال البيع، وإبطال الشفعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] [المائدة: 49] .
وإن رفع إلى الحاكم بعد التقابض في البيع، والأخذ في الشفعة.. لم يحكم بإبطال البيع، ولا بإبطال الشفعة؛ لأنه لا يحكم ببطلان ما استقر من عقودهم، كالنكاح بعد الدخول.
وإن رفع إليه بعد التقابض بالبيع، وقبل الأخذ بالشفعة.. لم يحكم بإبطال البيع، ولكن يحكم بإبطال الشفعة.
وقال أبو حنيفة: (تثبت الشفعة، فإن كانت لمسلم.. أخذ بقيمة الخمر، وإن كانت لذمي.. أخذ بمثلها) . وبناه على أصله: أن الخمر لأهل الذمة مال.
ودليلنا: أن البيع وقع بثمن حرام، فلم تثبت فيه الشفعة، كالميتة، والدم.

[فرع: اشترى شقصاً فيه شفعة فارتد]
] : إذا اشترى رجل شقصاً فيه شفعة، فارتد المشتري قبل أن يأخذ الشفيع.. فللشفيع أن يأخذ الشقص بالشفعة، سواء كان المشتري باقياً على ردته، أو مات، أو قتل بالردة؛ لأنه ليس فيه أكثر من زوال ملكه بموته إلى المسلمين، وهذا لا يسقط حق الشفيع، كما لو مات المشتري، وانتقل ماله إلى المسلمين بالإرث.
وهكذا: لو ارتد الشفيع قبل الأخذ، فمات أو قتل بالردة قبل الأخذ.. فإن شفعته لا تبطل بذلك، بل ينتقل النظر فيها إلى الإمام، فإن رأى المصلحة للمسلمين في أخذه بالشفعة.. أخذه، ودفع الثمن من بيت المال، وإن رأى الحظ في الترك.. لم

(7/112)


يأخذه؛ لأن المال انتقل إليهم، وهكذا: لو مات الشفيع، ولا وارث له غير المسلمين.. كان الحكم فيه ما ذكرناه.

[فرع: بيع شقص في شركة المفلس]
] : إذا بيع شقص في شركة المفلس.. كان له الأخذ بالشفعة، والعفو عنه، وليس للغرماء الاعتراض عليه؛ لأنه إن أراد الترك.. لم يجبر على الأخذ؛ لأنه إجبار على التملك، فلم يجز، وإن أراد الأخذ.. لم يجبر على الترك؛ لأنه يأخذه بثمن في ذمته.
ويجوز للمكاتب الأخذ بالشفعة، والترك، وليس للسيد الاعتراض عليه؛ لأن التصرف يقع له دون السيد، وأما العبد المأذون له في التجارة: فإن أخذ بالشفعة.. جاز؛ لأنه مأذون له في الشراء، وإن عفا.. كان للسيد إبطال عفوه؛ لأن الحق للسيد، فلا يملك العبد إسقاطه.

[فرع: ثبوت الشفعة في بيع شقص يتيم لآخر]
] : وإن كان في حجره أيتام لهم عقار مشترك بينهم، فباع على أحدهم نصيبه منه لحاجته.. كان له أن يأخذ ذلك بالشفعة للآخرين إذا رأى لهم الحظ في ذلك؛ لأن له ولاية عليهم.
وإن كان وصياً على يتيم، وبينهما عقار، فباع الوصي على اليتيم نصيبه فيه.. فهل للوصي أخذ ما باع على اليتيم بالشفعة لنفسه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحداد: لا يجوز؛ لأن الوصي متهم في أنه لم يستقص في ثمن الشقص ليتملكه، فلم يجز له الأخذ.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يجوز له أخذه بالشفعة. وبه قال ابن القفال؛

(7/113)


لأنه يمكن نفي التهمة عنه، بأن يرجع فيه إلى تثمين ثقتين من أهل الخبرة بالشقص، فإن قيل: إنه بيع بثمن مثله.. استحق الأخذ؛ لأن البيع قد صح، وإن قيل: إنه بيع بأقل من ثمن مثله.. لم يصح البيع، ولم يستحق الأخذ.
والأول أصح؛ لأن التهمة تلحقه مع ذلك في أنه ترك الزيادة على ثمن المثل مع إمكانها، فإن رفع الوصي الأمر إلى الحاكم، فأمر الحاكم من قرر ثمن الشقص، فباع به.. استحق الوصي الأخذ بالشفعة لنفسه، وجهاً واحداً؛ لأن التهمة منتفية عنه هاهنا، وإن كان الناظر في أمر الصغير أباً أو جداً، فباع عليه شقصا له فيه شفعة.. استحق الشفعة عليه، وجهاً واحداً؛ لأن التهمة منتفية عنهما في حقه، بدليل: أنه يصح أن يشتري ماله لنفسه، ويبيع منه، بخلاف الوصي.
وإن اشترى الوصي لليتيم شقصاً للوصي فيه الشفعة.. فهل له أن يأخذه بالشفعة منه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه يلزم الصبي العهدة في الشقص، ولا حظ له في ذلك.
والثاني ـ وهو قول ابن الحداد، والقاضي أبي الطيب ـ: له ذلك؛ لأنه لا تهمة عليه في ذلك.

[فرع: خلف حملاً ومالاً وشقصاً لوصي فيستحق الشفعة]
] : وإن مات رجل، وخلف مالاً وحملاً، وأوصى إلى رجل بالنظر في ماله، والقيام في الحمل، وله شقص، فباع شريكه.. قال أبو العباس ابن سريج: لم يكن للوصي أن يأخذ بالشفعة للحمل؛ لأن الحمل قد لا يكون، فلا يستحق الأخذ له،

(7/114)


وقد يكون موجوداً إلا أنه يجوز أن يكون رجلاً، فيستحق أخذ الجميع، وقد يكون أنثى، فلا تستحق له أخذ الجميع، فلم يجز الأخذ لمن يشك في استحقاقه.

[مسألة: ضمان الشفيع عهدة الشقص]
] : إذا باع شقصاً، فضمن الشفيع للمشتري عهدة الشقص، أو ضمن للبائع الثمن على المشتري، أو شرط البائع أو المشتري الخيار للشفيع، وقلنا: يصح، فاختار إمضاء البيع.. فإن له الأخذ بالشفعة.
وقال محمد بن الحسن، وأهل العراق: لا شفعة له؛ لأن البيع تم به.
ودليلنا: أن أكثر ما فيه أن الشفيع رضي بالبيع، وذلك لا يسقط حقه من الشفعة، كما لو قال الشفيع للمشتري: رضيت أن تشتري ولا آخذ منك بالشفعة.

[فرع: توكيل رجل الشفيع في البيع]
] : وإن كانت الدار بين رجلين، فوكل رجل أحد الشريكين أن يبتاع له نصيب شريكه، فابتاعه له.. فله أن يأخذ ما ابتاع لموكله بالشفعة.
وقال محمد بن الحسن، وأهل العراق: ليس له أخذه بالشفعة.
دليلنا: أنه لم يوجد منه أكثر من الرضا بالشراء، وذلك لا يسقط الشفعة.
وإن وكل أحد الشريكين صاحبه ليبيع له نصيبه، فباعه.. فهل للبائع أن يأخذ بالشفعة؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: له أخذه، ولا تبطل شفعته؛ لأنه تولى أحد طرفي العقد، فلم تبطل شفعته، كما لو توكل بالشراء.
و [الثاني] : قال ابن الحداد: تبطل شفعته؛ لأن التهمة تلحقه في إرخاص الشقص، أو ترك أخذ الزيادة على ثمن المثل ليتملكه.
وإن كانت الدار بينهما نصفين، فقال أحدهما لصاحبه: وكلتك أن تبيع نصف نصيبي من الدار، وقال: إن أردت أن تبيع نصف نصيبك معه.. فافعل، فباع الوكيل

(7/115)


نصف الدار، ربعها عن نفسه، وربعها عن موكله بثمن معلوم.. صح البيع؛ لأن ما يقابل نصيب كل واحد منهما من الثمن معلوم، وللموكل أن يأخذ نصيب الوكيل بالشفعة؛ لأنه لم يوجد منه أكثر من الرضا ببيعه، وذلك لا يسقط حقه من الشفعة، وليس له أن يأخذ ما بيع عليه؛ لأن الإنسان لا يأخذ بالشفعة ما بيع عليه، وهل للوكيل أن يأخذ بالشفعة الربع الذي باعه عن موكله؟ على وجهين كالأولى:
أحدهما: له ذلك؛ لأنه يأخذ ذلك من المشتري لا من نفسه.
والثاني: ليس له ذلك، وهو الصحيح؛ لأنه متهم في إرخاصه ليأخذه، ولأنه لما لم يملك أن يبتاعه من نفسه.. لم يملك أخذه بالشفعة.

[فرع: ثبوت الشفعة للعامل في القراض]
] : وإذا اشترى العامل في القراض بعض دار بمال القراض، ثم بيع الباقي.. كان للعامل أخذه بالشفعة للقراض، فإن لم يأخذه.. كان لرب المال أن يأخذه بالشفعة؛ لأن ما اشتراه بمال القراض.. ملكه.
وإن اشترى العامل بمال القراض شقصا من دار، ولرب المال فيه شفعة.. فهل له أن يأخذه بالشفعة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: له ذلك؛ لأن مال المضاربة كالمنفرد عن ملكه؛ لتعلق حق الغير به، وهو العامل، ويجوز أن يثبت له على ملكه حق لأجل حق الغير، كما ثبت له على عبده المرهون حق الجناية.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يتملك ملكه، ويخالف الجناية؛ لأنها ليست تمليكاً.
وذكر أبو العباس وجهاً ثالثاً: أن له أخذه بحكم فسخ المضاربة.
قال ابن الصباغ: وهذا ليس من الشفعة.

(7/116)


فإذا ما اشترى العامل في القراض شقصاً من دار، وللعامل فيه شفعة.. فهل له أخذه بالشفعة؟
قال ابن الصباغ: إن كان في المال ربح، وقلنا: يملكه بالظهور.. فهل له أخذه بالشفعة؟ على الوجهين في رب المال، وإن لم يكن في المال ربح، أو كان فيه ربح، وقلنا: لا يملكه بالظهور، فلا شفعة له، وجهاً واحداً.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أنه إذا لم يكن فيه ربح، أو كان فيه، وقلنا: لا يملكه بالظهور.. أن له أخذه بالشفعة، وجهاً واحداً، كما لو كانت دار بين شريكين، فأذن رجل لأحدهما أن يبتاع له نصيب شريكه، فإن للوكيل أن يأخذ ما اشتراه بالشفعة لنفسه.
إذا ثبت هذا: فإن ملك أربعة رجال داراً أرباعاً بينهم، ثم قارض واحد منهم أحد شركائه على مال، فاشترى العامل بمال القراض نصيب أحد شريكيهما، وعفا المتقارضان والشريك الرابع عن أخذ ذلك بالشفعة، ثم اشترى العامل بمال القراض نصيب الشريك الرابع.. قال أبو العباس: فإن الشفعة في هذا الربع الرابع تكون بين رب المال والعامل ومال القراض، أثلاثاً بينهم؛ لأن كل واحد منهم ينفرد بملك ربع الدار، ويملكان ربعها بمال القراض، فقسم الربع المبيع بينهم أثلاثا. على ذلك حكاها الشيخ أبو حامد.

[مسألة: يأخذ الشفيع الشقص بالثمن المستقر في العقد]
] : إذا اشترى رجل شقصاً فيه شفعة، واختار الشفيع الأخذ.. فإنه يأخذه بالثمن الذي استقر عليه العقد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث جابر: «فإن باعه.. فشريكه أحق به بالثمن» .
فإن كان الشفيع قد شاهد الشقص، وعلم قدر الثمن، وقال: اخترت أخذه بالثمن

(7/117)


الذي تم به العقد.. قال ابن الصباغ: صح الأخذ وإن لم يختر المشتري، ولا حضر؛ لأنه يستحق أخذه بغير اختياره، فلم يفتقر إلى حضوره، ولا يفتقر إلى حكم الحاكم بذلك؛ لأن استحقاق الشفيع ثابت بالنص والإجماع.
وإن كان الشفيع لم يشاهد الشقص.. فهل يصح أخذه بالشفعة؟
إن قلنا: إن بيع خيار الرؤية لا يصح.. لم يصح أخذه، كما لا يصح ابتياعه له.
وإن قلنا: يصح بيع خيار الرؤية.. فهل يصح أخذه له قبل رؤيته؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال القاضي أبو الطيب: فيه وجهان، بناء على أن الشفيع هل يثبت له خيار المجلس في الشفعة؟ وفيه وجهان يأتي ذكرهما.
فإن قلنا: يثبت له فيها خيار المجلس.. ثبت له فيها خيار الرؤية.
وإن قلنا: لا يثبت له خيار المجلس.. لم يثبت له فيها خيار الرؤية.
وقال أبو العباس ابن سريج: لا يثبت له فيها خيار الرؤية، قولاً واحد؛ لأن خيار الرؤية إنما يثبت للمشتري على أحد القولين؛ لأن البيع يثبت برضا البائع، وهاهنا يؤخذ الشقص من المشتري بغير رضاه، فلا يثبت فيها خيار الرؤية.
وإن كان الشفيع لم يعلم قدر الثمن.. فذكر ابن الصباغ، والطبري: أن أخذه لا يصح، ولا يسقط حقه من الشفعة إذا أخر طلبها إلى أن يعلم قدر الثمن؛ لأن ذلك يملك بعوض، فلا يصح مع الجهالة بالعوض، كالبيع.
وذكر الشيخ أبو حامد في (التعليق) : إذا قال الشفيع: بكم ابتعت؟ أو بكم الثمن؟ بطلت شفعته؛ لأنه قد كان يمكنه أن يقول مكان ذلك: قد أخذت بالثمن الذي ابتعت به، فلما لم يفعل.. كان تاركاً للمطالبة بالشفعة مع تمكنه منها، وهذا يدل من قوله: إن الأخذ يصح مع جهالة الشفيع بقدر الثمن.
إذا ثبت هذا: فقال ابن الصباغ: وإذا اختار الشفيع على ما ذكرناه.. ملك الشقص بذلك، ولا يلزم المشتري تسليم الشقص إليه حتى يسلم إليه الثمن، فإن كان الثمن موجوداً.. سلمه الشفيع إليه، وإن تعذر الثمن عليه في الحال.. أجلنا الشفيع ثلاثاً،

(7/118)


فإن أحضر الثمن، وإلا فسخ عليه الحاكم الأخذ، ورده إلى المشتري، وإنما أجل ثلاثاً؛ لأن تحصيل الثمن في الحال يتعذر عليه في غالب العادة، وعدم اعتبار ذلك يؤدي إلى إسقاط الشفعة، والإضرار بالشفيع، فأجل الثلاث؛ لأنها مدة قريبة، ولا ضرر على المشتري بذلك.
قال الشيخ أبو حامد: وهكذا: لو هرب الشفيع بعد الأخذ.. جاز للحاكم فسخ الأخذ، ورده إلى المشتري، فإن قيل: أليس في البيع لو هرب المشتري أو أخر الدفع.. لم يفسخ الحاكم البيع؟ فهلا قلتم هاهنا مثله؟ قال: فالجواب: أن البيع حصل باختيارهما، فلذلك لم يكن للحاكم فسخه عليهما، وهاهنا أخذه الشفيع بغير اختيار المشتري لإزالة الضرر عن نفسه، فإذا كان ذلك إضراراً بالمشتري رفعه الحاكم قال: وقد قال أصحابنا: إذا أفلس الشفيع بعد أخذه الشقص.. فإن المشتري بالخيار: بين أن يضرب بالثمن مع الغرماء، وبين أن يرجع في الشقص إذا أفلس المشتري.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (لا يأخذ الشفيع بالشفعة حتى يحضر الثمن، ولا يملكه حتى يحكم له الحاكم، ولا يحكم له الحاكم حتى يحضر الثمن) .
وقال محمد بن الحسن: يؤجله الحاكم يومين، أو ثلاثاً، ولا يأخذه إلا بحكم الحاكم، أو رضا المشتري.
ودليلنا: أن الأخذ بالشفعة يملك بالعوض، فلا يوقف على إحضار العوض، كالبيع.

[فرع: اشترى شقصاً فيه شفعة وسيفاً]
ً] : وإن اشترى شقصاً فيه شفعة، وسيفاً بثمن واحد.. ثبتت الشفعة بالشقص دون السيف، وقسم الثمن بينهما على قدر قيمتيها، ولا يثبت للمشتري الخيار في البيع، لتفرق الصفقة عليه بذلك؛ لأنه رضي بذلك على نفسه. هذا هو المشهور من المذهب، وبه قال أبو حنيفة.

(7/119)


قال المسعودي [في (الإبانة) ق\ 316] : وقد قيل: لا تثبت الشفعة في الشقص لتفرق الصفقة على المشتري.
وقال مالك: (تثبت الشفعة في الشقص، والسيف، ويأخذهما الشفيع بالثمن) .
ودليلنا: أن السيف لا شفعة فيه، ولا هو تابع لما تثبت فيه الشفعة، فلم يجز أخذه بالشفعة، كما لو أفرده بالبيع.

[فرع: مضي خيار شراء الشقص مع زيادة الثمن]
] : إذا اشترى شقصاً بثمن، وانقضى الخيار، ثم ألحقا بالثمن زيادة.. لم تلحق بالعقد، ولا يملكها البائع، إلا أن تكون بعقد الهبة بشروطها، ولا يستحقها المشتري على الشفيع؛ لأنه تطوع بذلك، وهكذا: إن نقص عنه البائع بعض الثمن.. كان ذلك إبراء، ولا يسقط عن الشفيع؛ لأن العقد قد انبرم.
وقال أبو حنيفة: (يلحقان بالعقد، إلا أن الشفيع لا يثبت في حقه إلا النقصان دون الزيادة) .
ودليلنا: أن ذلك تغيير بعد استقرار العقد، فلم يثبت في حق الشفيع، كالزيادة وإن ألحقا بالثمن زيادة، أو نقصا منه شيئاً في حال الخيار.. فقد قال عامة أصحابنا: إن ذلك يلحق بالعقد، ويأخذ الشفيع به.
وقال أبو علي الطبري: هذا إذا قلنا: إن الملك لا ينتقل إلى المشتري، إلا بشرطين، أو قلنا: إنه موقوف، فأما إذا قلنا: إنه يملك بالعقد.. فلا يلحق ذلك بالعقد. وهذا ليس بشيء.
قال المسعودي [في (الإبانة) ق\317] : فإن حط جميع الثمن في حال الخيار.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل البيع؛ لأنه يكون بيعاً بلا ثمن.

(7/120)


فعلى هذا: لا تثبت الشفعة.
والثاني: لا يبطل البيع، كالإبراء، ففرق بين الحط، والإبراء.
فعلى هذا: هل يكون بيعاً، أو هبة؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يكون بيعاً، فتثبت فيه الشفعة.
والثاني: يكون هبة، فلا تثبت فيه الشفعة.

[مسألة: نقصان الشقص في يد المشتري]
] : وإن اشترى شقصاً فيه شفعة، فنقص الشقص في يد المشتري قبل أن يأخذه الشفيع، بأن كان داراً، فانهدم، أو حرق، واختار الشفيع الأخذ.. فنقل المزني: (أنه بالخيار: بين أن يأخذ بجميع الثمن، وبين أن يترك) . ونص الشافعي في القديم، وفي مواضع من كتبه الجديدة: (أنه يأخذه بحصته من الثمن) .
واختلف أصحابنا فيها على خمس طرق:
فـ[الأول] : منهم من قال: فيها قولان ـ وهو الصحيح: أحدهما: يأخذه بجميع الثمن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن باعه.. فشريكه أحق به بالثمن» . ولم يفرق.
والثاني: يأخذه بالحصة، وهو الصحيح؛ لأنه أخذ بعض ما يتناوله العقد، وأخذه بحصته من الثمن، كما لو اشترى سيفاً وشقصاً.. فإن الشفيع يأخذ الشقص بحصته، وهذه علة الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
واختلف أصحاب هذا الطريق، إذا كان هناك أخشاب، أو أحجار منفصلة عن الدار باقية.. هل يستحقها الشفيع؟
فمنهم من قال: لا يستحقها؛ لأن ذلك منفصل عنها حال أخذه بالشفعة، فلم يستحقها، كما لو اشترى داراً، وقد كان انفصل عنها أحجار وأخشاب.

(7/121)


ومنهم من قال: يستحقها الشفيع، وهو الصحيح؛ لأن استحقاقه للشفعة حال البيع، وقد كان متصلا بها، فلم يسقط حقه بانفصاله عنها، كما لو اشترى داراً، فانهدمت قبل أن يقبضها.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: ليست على قولين، وإنما يأخذها بالحصة، قولا واحداً؛ للعلة التي ذكرها الشافعي.
وتأول هذا القائل ما نقله المزني على: أنه أراد به: إذا استهدم الدار، ولم تنهدم، بأن انشق الحائط، وما أشبهه، وهذا القائل يقول: إذا كان هناك أحجار وأخشاب منفصلة.. فإن الشفيع لا يستحق أخذها.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال: يأخذه بجميع الثمن، إذا انهدمت الدار، ولم يذهب من أجزائها شيء.. فإنه يأخذ ما بقي من البناء، وما انفصل من الأحجار والأخشاب، بجميع الثمن.
والموضوع الذي قال: يأخذه بالحصة، إذا انهدمت الدار، وذهب شيء من أجزاء الأحجار والأخشاب؛ لأن الثمن يقابل الأعيان، ولا يقابل التالف.
و [الطريق الرابع] : منهم من قال: هي على حالين آخرين:
فالموضع الذي قال: يأخذه بجميع الثمن، إذا كانت العرصة باقية، ولا يضره ذهاب التالف من أجزاء الأحجار والأخشاب.
والموضع الذي قال: يأخذه بالحصة، أراد: إذا ذهب شيء من أجزاء العرصة؛ لأن العرصة هي الأصل، والأحجار والأخشاب تابعة لها، ولهذا لم تثبت الشفعة فيهما، إلا تبعا للعرصة، فكان الحكم للمتبوع دون التابع.
و [الطريق الخامس] : منهم من قال: هي على حالين آخرين:

(7/122)


فالموضع الذي قال: يأخذه بجميع الثمن، إذا ذهب بآفة سماوية.
والموضوع الذي قال: يأخذ بالحصة، إذا ذهب بفعل آدمي، إما البائع، أو المشتري، أو الأجنبي؛ لأنه إذا ذهب بآفة سماوية.. لم يحصل للمشتري بدل ذلك، وإذا ذهب بفعل آدمي.. حصل له عوضه. وهذا الطريق مذهب أبي حنيفة.
قال أصحابنا: وهذا الطريق وإن كان صحيحاً في الفقه، إلا أنه خلاف نص الشافعي في القديم؛ لأنه قال فيه: (يأخذه بالحصة، سواء كان نقصه بفعل المشتري، أو بفعل أجنبي، أو بآفة سماوية) .

[مسألة: اشترى شقصاً بمؤجل]
] : وإن اشترى شقصا بمائة درهم مؤجلة إلى سنة.. فقيه ثلاثة أقوال:
أحدها ـ قاله في القديم، وبه قال مالك ـ: (إن الشفيع يأخذه بمائة مؤجلة) ، إلا أن مالكا قال: (إن كان الشفيع ثقة، وإلا أقام للمشتري ثقة يكون الثمن في ذمته؛ لأن الشفيع تابع للمشتري في قدر الثمن وصفته، فكان تابعاً له في التأجيل) .
فعلى هذا: إن مات المشتري قبل حلول الأجل.. حل الدين عليه؛ لأن الأجل جعل رفقا بمن عليه الدين، والرفق هاهنا للميت في تخليص ذمته، ولا يحل ذلك على الشفيع؛ لعدم المعنى الذي ذكرناه في المشتري، وإن مات الشفيع.. حل عليه الدين للمشتري، ولا يلزم المشتري تعجيل الثمن للبائع؛ لما ذكرناه.
والقول الثاني ـ ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (كتاب الشروط) ـ: (أن الشفيع يأخذ الشقص بسلعة تساوي مائة درهم إلى سنة) ؛ لأنه لا يجوز أن يأخذه بمائة مؤجلة؛ لأن الذمم لا تتساوى، ولا يجوز أن يطالب بمائة حالة؛ لأن ذلك أكثر مما لزم المشتري، فإذا تعذر هذان القسمان.. لم يبق إلا أن يأخذه بسلعة تساوي مائة إلى الأجل.

(7/123)


والقول الثالث ـ ذكره الشافعي في الجديد، وهو الصحيح ـ: (أن الشفيع بالخيار: بين أن يعجل المائة، ويأخذ الشقص، وبين أن يصبر، ويترك الشقص في يد المشتري إلى أن يحل الأجل، فيأخذ بالمائة) ؛ لأنه لا يجوز أن يأخذ بمائة مؤجلة؛ لأن الذمم لا تتماثل، ولا يجوز أن يأخذ بسلعة تساوي مائة إلى الأجل؛ لأن الشفيع لا يأخذ بغير جنس الثمن، فإذا بطل هذان القسمان.. لم يبق إلا أن يجبر على ما ذكرناه. فإن مات المشتري قبل حلول الأجل.. حل الثمن في تركته، ولم يحل على الشفيع، بل هو بالخيار على ما ذكرناه، وإن لم يمت المشتري، ولكن باع الشقص قبل حلول الأجل.. صح البيع؛ لأنه ملكه، والشفيع بالخيار: بين أن يأخذ بالبيع الثاني، وبين أن يفسخ الثاني، ويأخذ بالأول.

[مسألة: باع شقصاً في مرض موته]
] : إذا باع رجل في مرض موته شقصا له من دار بثمن مثله من وارثه.. صح البيع، سواء كان الشفيع وارثاً أو غير وارث، ولا يعترض عليه في ذلك، وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح بيعه؛ لأنه محجور عليه في حقه، فصار كبيع الصبي) .
وهذا ليس بصحيح؛ لأنه محجور عليه في حقه بالشرع، كما يحجر عليه في حق الأجنبي فيما زاد على الثلث، فأما البيع منه بثمن المثل: فغير محجور عليه في حقه.
وإن حاباه، بأن باع منه شقصاً يساوي ألفين بألف.. فالورثة بالخيار مع المحاباة هاهنا، سواء احتملها الثلث أو لم يحتملها الثلث، فإن أجازوها.. أخذها الشفيع، وإن لم يجيزوها.. فإن البيع يصح في نصف الشقص بألف، ويرجع إلى الورثة نصف الشقص، فإن اختار الشفيع أخذ نصف الشقص بالألف.. أخذه، ولم يكن للمشتري فسخ البيع؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك، وإن لم يختر الشفيع أخذه.. كان للمشتري الخيار؛ لأن الصفقة تفرقت عليه.

(7/124)


وإن كان المشتري أجنبياً، وكان هناك محاباة تخرج من الثلث، فإن كان الشفيع أجنبياً.. كان له أخذ جميع الشقص بالألف؛ لأن الشفيع يأخذ جميع ما حصل للمشتري بالذي ملك به، وإن كان الشفيع وارثا.. ففيه خمسة أوجه؛ أربعة لأبي العباس، والخامس خرجه أصحابنا:
أحدها: أن البيع صحيح، ولا يستحق الشفيع إلا نصف الشقص بالألف، ويبقى النصف للمشتري بغير ثمن؛ لأن المحاباة تصح للأجنبي، ولا تصح للوارث، فلو دفعنا جميع الشقص إلى الشفيع.. لحصلت المحاباة للوارث، وهذا لا يجوز، فصار كأنه باع منه النصف بألف، ووهب منه النصف.
والوجه الثاني: أن البيع يصح في نصف الشقص بألف، ويأخذه الشفيع، ويبطل البيع في نصفه، فيرجع إلى ورثة الميت؛ لأنا لا يمكننا أن ندفع جميع الشقص إلى الشفيع؛ لأن في ذلك إثبات المحاباة للوارث، وهذا لا يصح، ولا يمكننا أن نقول: يأخذ نصف الشقص بالألف؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يلزم الشفيع أكثر مما لزم المشتري، وهذا لا يجوز، فلم يبق إلا ما قلناه.
والوجه الثالث: أن البيع يبطل في الجميع؛ لأنه لا يمكن تصحيح البيع في الشقص، ودفع المحاباة إلى الوارث؛ لأن ذلك لا يجوز، ولا يمكن أن يدفع إلى الوارث نصف الشقص بجميع الثمن؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يلزم الشفيع أكثر مما لزم المشتري، وهذا لا يجوز، ولا يمكن إبطال البيع في النصف الذي تعلقت به المحاباة فقط؛ لأن تعلق البيع في النصف الذي حصلت به المحاباة كتعلقه بالآخر، فلم يبق إلا الحكم بإبطال البيع في الجميع.
والوجه الرابع ـ وهو اختيار الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق ـ: أن البيع يصح في جميع الشقص بالألف، ويستحق الشفيع أخذ جميعه بالألف؛ لأن الاعتبار بالمحاباة لمن حصلت له، لا بمن تؤول إليه المحاباة، والذي حصلت له المحاباة هو

(7/125)


المشتري، فهو كما لو أوصى لأجنبي بشيء، ولوارث الموصي على الموصى له دين، والموصى له محجور عليه.. فإن يعلم أن الوصية تؤول إلى وارث الموصي، ولا يحكم بإبطال الوصية لهذا المعنى، فكذلك هذا مثله.
والوجه الخامس ـ الذي خرجه أصحابنا ـ: أن البيع يصح في جميع الشقص بالألف، وتسقط الشفعة، وهو قول أبي حنيفة، واختيار ابن الصباغ؛ لأنا إذا أثبتنا الشفعة.. أدى إلى إبطال البيع، وإذا بطل البيع.. بطلت الشفعة، وما أدى ثبوته إلى سقوطه، وسقوط غيره.. وجب إسقاطه، ويفارق الوصية لمن عليه دين لوارث الموصي؛ لأن استحقاقه للأخذ إنما هو بدينه لا من جهة الوصية، وهذا استحقاقه من جهة الوصية.

[مسألة: شراء الشقص بما له مثل]
] : وإن اشترى الشقص بعرض.. نظرت:
فإن كان له مثل، كالحبوب، والأدهان.. أخذ الشفيع بمثله؛ لأنه من ذوات الأمثال، فأشبه الأثمان.
وإن اشتراه بما لا مثل له، بأن اشتراه بعبد، أو ثوب، وما أشبهه.. فإن الشفيع يأخذ الشقص بقيمة العرض الذي اشترى به، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال الحسن البصري، وسوار القاضي: لا تثبت الشفعة هاهنا.
دليلنا: أنه أحد نوعي الثمن، فجاز أن تثبت فيه الشفعة، كذوات الأمثال.
إذا ثبت هذا: فأي وقت تعتبر فيه قيمة العرض؟ فيه وجهان:

(7/126)


أحدهما ـ وهو قول أكثر أصحابنا ـ: أنها تعتبر وقت البيع؛ لأنه وقت الاستحقاق، ولا اعتبار بما حدث بعد ذلك من زيادة، أو نقصان.
والثاني ـ وهو قول أبي العباس، ولم يذكر في (الفروع) غيره ـ: أنها تعتبر حين استقرار العقد، وهو عند انقضاء الخيار، كما يعتبر قدر الثمن في تلك الحال.
وقال مالك: (يأخذه الشفيع بقيمة العرض يوم المحاكمة) .
وهذا ليس بصحيح؛ لأن ذلك ليس بوقت لاستحقاقه للشفعة، وإنما الاعتبار بوقت الاستحقاق، كما لو أتلف عليه عرضاً.. فإن قيمته تعتبر وقت الإتلاف ـ لأنه وقت الاستحقاق ـ لا وقت المحاكمة.

[فرع: اشترى شقصاً بعين فتلفت]
] : وإن اشترى شقصا بعين، فتلفت قبل القبض.. بطل البيع، وبطلت الشفعة؛ لأن الشفعة فرع للبيع، فإذا بطل الأصل.. بطل الفرع، وهكذا: لو اشترى شقصاً بعرض، فاستحق العرض.. بطلت الشفعة؛ لما ذكرناه.

[فرع: اشترى شقصاً بعبد فوجد به عيباً]
ً] : وإن اشترى شقصاً بعبد، فوجد بائع الشقص بالعبد عيباً، فلا يخلو: إما أن يكون ذلك بعد أخذ الشفيع الشقص من المشتري، أو قبل أن يأخذه.
فإن كان ذلك بعد أن أخذ الشفيع الشقص.. فلبائع الشقص أن يرد العبد على المشتري؛ لأنه ملكه منه بعقد معاوضة، فكان له رده بالعيب، فإذا رده عليه.. لم يكن للمشتري أن يسترجع الشقص من الشفيع؛ لأن الشفيع قد ملكه بالأخذ، فلم يجز إبطال ملكه، كما لو باعه للمشتري، ثم وجد بائعه بالثمن عيباً.
فعلى هذا: يرجع بائع الشقص على المشتري بقيمة الشقص؛ لأنه تعذر عليه الرجوع إلى عين الشقص، فرجع عليه بقيمته، كما لو غصب شيئاً، فتلف في يده.
إذا ثبت هذا: وقد أخذ المشتري من الشفيع قيمة العبد.. فهل يثبت التراجع بين

(7/127)


الشفيع والمشتري بما بين قيمة الشقص وقيمة العبد إن كان بينهما اختلاف؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تراجع بينهما؛ لأن الشفيع قد أخذ الشقص بالثمن الذي استقر عليه العقد، وهو قيمة العبد، ولا يتغير ذلك لما حدث من الرد.
والثاني: يتراجعان؛ لأن الشفيع يأخذ الشقص بما استقر على المشتري والذي استقر عليه الآن، وهو قيمة الشقص.
فعلى هذا: يقابل بين القيمتين، فإن كانت قيمة الشقص أكثر من قيمة العبد.. رجع المشتري على الشفيع بما زاد على قيمة العبد، وإن كانت قيمة العبد أكثر من قيمة الشقص.. استرجع الشفيع من المشتري ما زاد من قيمة العبد على قيمة الشقص، فإن عاد الشقص إلى المشتري ببيع، أو هبة، أو إرث.. لم يكن للبائع أن يرد القيمة ويطالب بالشقص؛ لأن ملك البائع والمشتري قد زال عن الشقص، بخلاف المغصوب إذا ضل عن الغاصب؛ لأن ملك المغصوب منه لم يزل.
وإن وجد بائع الشقص بالعبد عيباً قبل أن يأخذ الشفيع الشقص.. فأيهما أحق بالشقص؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن البائع أحق به؛ لأن الشفعة تثبت لإزالة الضرر عن الشفيع، وفي إثباتها هاهنا إضرار بالبائع، والضرر لا يزال بالضرر.
والثاني: أن الشفيع أحق بالشقص؛ لأن حقه سابق؛ لأنه ثبت بالبيع.
فعلى هذا: يرجع بائع الشقص على المشتري بقيمة الشقص، وهل يأخذ الشفيع الشقص بقيمته، أو بقيمة العبد؟ على الوجهين المذكورين في التراجع.
وإن وجد بائع الشقص بالعبد عيباً، وقد حدث عنده فيه عيب آخر.. فلا يجبر المشتري على قبول العبد لأجل العيب الحادث عند بائع الشقص، ولكن يرجع بائع

(7/128)


الشقص على المشتري بأرش العيب، وهل يرجع المشتري على الشفيع بشيء؟ قال أصحابنا: ينظر فيه:
فإن كان الشفيع قد دفع إلى المشتري قيمة العبد سليما. فلا يرجع عليه بشيء؛ لأنه قد أخذ منه قيمته سليما، فدخل في جملة ذلك أرش العيب.
وإن كان قومه عليه معيبا.. فهل يرجع عليه بشيء فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع عليه؛ لأنه استحقه بما سمي في العقد.
والثاني: يرجع عليه؛ لأن الثمن استقر على المشتري بالعبد والأرش.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يرجع هاهنا، وجها واحدا بخلاف ما تقدم من قيمة الشقص؛ لأن العقد اقتضى أن يكون العبد سليما، فما دفع إلا ما اقتضاه العقد، بخلاف قيمة الشقص، ولهذا لو كان دفع قيمة عبد سليم.. لم يكن للشفيع أن يرجع عليه بقدر قيمة العبد، فثبت أن ذلك مستحق على الشفيع.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أن قيمة الشقص إذا كانت أكثر من قيمة العبد، وأخذ الشفيع بقيمته سليما.. أن حكمه حكم ما لو أخذ الشقص بقيمته معيبا؛ لأن البائع إنما يرجع على المشتري بالأرش بجزء من قيمة الشقص، فحينئذ يستقر عليه الشقص بأكثر من قيمة العبد، وهل يكون له الرجوع بالفضل؟ على ما مضى من الوجهين.

[فرع: الشقص يكون مهرا وعوض خلع وأجره]
قد ذكرنا: أن الشقص إذا جعل مهرا في نكاح، أو عوضا في خلع، أو أجرة في إجارة.. فإن الشفعة تثبت فيه، ومضى خلاف أبي حنيفة فيها.
إذا ثبت هذا: فإن الشفيع يأخذه، ويلزمه أن يدفع إلى المرأة مهر مثلها إذا كان صداقا، ويدفع إلى الزوج مهر مثل المرأة التي خالعته عليه، ويدفع إلى المؤاجر أجرة مثل المنفعة التي جعل الشقص أجرة عنها.

(7/129)


وقال مالك: (يلزمه قيمة الشقص) .
ودليلنا: أن المنفعة لا مثل لها، فأخذ الشفيع بقيمتها، كالثوب، والعبد.
وإن جعل الشقص متعة في طلاق امرأة.. فيأخذ الشفيع بمتعة مثلها، لا بمهر مثلها؛ لأن الواجب المتعة لا المهر.

[فرع: أمهر شقصا فيه شفعة]
إذا أصدق الرجل امرأته شقصا فيه شفعة، ثم طلقها قبل الدخول، فإن طلقها بعد ما أخذ الشفيع الشقص.. فإن الزوج لا يستحق الرجوع في نصف الشقص؛ لأن ملك المرأة قد زال عنه، ولكن يرجع الزوج على زوجته بنصف قيمة الشقص، كما لو كان الشقص تالفا.
إذا ثبت هذا: فإنه يرجع عليها بقيمة نصف الشقص أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض؛ لأن القيمة إن كانت أقل وقت العقد، ثم زادت.. فالزيادة حدثت في ملكها، فلا يرجع الزوج عليها بها، وإن كانت قيمته وقت العقد أكثر، ثم نقصت.. فالنقصان مضمون عليه، فلا يرجع عليها بما هو مضمون عليه. ولم يذكر أصحابنا التراجع بين الزوجة والشفيع.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أن الزوجة قد أخذت من الشفيع مهر مثلها، وقد دفعت إلى الزوج نصف قيمة الشقص، فإن كان بين نصف مهر المثل وبين نصف قيمة الشقص فضل.. فهل يثبت بينهما التراجع فيه؟ يحتمل أن تكون على الوجهين، كما قلنا في العبد المعيب.
وإن عفا الشفيع عن الشفعة، ثم طلقها الزوج قبل الدخول.. رجع الزوج بنصف الشقص؛ لأن حق الشفيع قد سقط عنه.
وإن طلقها الزوج قبل الدخول، وقبل علم الشفيع بالنكاح.. ففيه وجهان:

(7/130)


أحدهما: أن الزوج أولى بالرجوع، فيرجع بنصف الشقص، ويأخذ الشفيع النصف بنصف مهر المثل؛ لأن حق الزوج ثبت بنص القرآن، وهو قَوْله تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، وحق الشفيع ثبت بأخبار الآحاد، والاجتهاد.
والثاني - وهو المنصوص -: (أن الشفيع أحق) ؛ لأن حقه أسبق؛ لأنه ثبت بعقد النكاح، وحق الزوج ثبت بالطلاق، ولأن حق الشفيع ثبت أيضا بالإجماع، وما ثبت بالإجماع.. كالثابت بنص الكتاب، ومع هذا ترجيح، وهو أنا إذا دفعنا الشقص إلى الشفيع.. لم يسقط حق الزوج؛ لأنه يرجع إلى قيمة الشقص، فإذا دفعناه إلى الزوج.. أسقطنا حق الشفيع، فكان هذا أولى.

[مسألة: اشترى شقصا فيه الشفعة]
إذا اشترى رجل شقصا فيه شفعة.. فلا يخلو: إما أن يعلم الشفيع بالبيع، أو لم يعلم.
فإن لم يعلم، مثل: أن كان غائبا، أو كتم عنه.. لم تسقط شفعته وإن طال الزمان؛ لأن هذا خيار لإزالة الضرر، فلا يسقط بالجهل به، كما لو اشترى شيئا معيبا، ولم يعلم بالعيب إلا بعد زمان طويل.
وهكذا: لو علم بالبيع، ولم يعلم من المشتري، أو لم يعلم جنس الثمن، أو قدره.. لم تسقط شفعته؛ لأنه لا يعلم القدر من الثمن الذي يدفعه، ولأن له غرضا في العلم بعين المشتري؛ لأنه قد لا يرضى بشركة رجل، ويرضى بشركة غيره.
وإن علم بالبيع، وقدر الثمن، والمشتري.. فلا يخلو: إما أن يكون له عذر، أو لا يكون له عذر.
فإن لم يكن له عذر، وطالب بالشفعة على الفور.. صح ذلك، وإن أخر الطلب عن الفور.. فهل تسقط شفعته؟ فيه أربعة أقوال:
أحدها - قاله في القديم - (أن له الخيار على التأبيد لا يسقط إلا بالعفو، أو بما

(7/131)


يدل على الترك، بأن يقول للمشتري: قاسمني، أو بعني، وليس للمشتري أن يرفعه إلى الحاكم ليجبره على الأخذ، أو الترك) .
ووجهه: قول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن باعه، ولم يؤذنه.. فشريكه أحق» . ولم يفرق.
ولأنه استيفاء حق له، فجاز له تأخيره إلى أي وقت شاء، كالقصاص.
والقول الثاني - قاله في القديم أيضا -: (أنه على التراخي لا يسقط إلا بصريح العفو، أو بما يدل عليه) ، إلا أن للمشتري أن يرفعه إلى الحاكم ليجبره على الأخذ، أو الترك؛ لأنا لو قلنا: إنه على الفور.. أضررنا بالشفيع؛ لأن الحظ له أن يؤخر لينظر: هل الحظ في الأخذ، أو الترك؟ ولو قلنا: إنه على التأبيد.. أضررنا بالمشتري؛ لأنه لا يغرس في أرضه، ولا يبني مخافة أن ينتزع ذلك منه، فجعل له الخيار إلى أن يرفعه المشتري إلى الحاكم.
والقول الثالث - قاله الشافعي في (سير) " حرملة " -: (أن للشفيع الخيار إلى ثلاثة أيام) ، لأنه لا يمكن أن يجعل له الخيار على التأبيد، ولا على الفور؛ لما بيناه، ولا بد من فصل بينهما، وقدر ذلك بثلاثة أيام؛ لأنها مدة قريبة؛ لأنها آخر حد القلة، وأول حد الكثرة، والضرر يزول عنهما بذلك.
والرابع - قاله في الجديد -: (أن خياره على الفور) . فإذا أخر الطلب من غير عذر.. سقطت شفعته، وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة لمن واثبها» ، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الشفعة كنشطة العقال، إن قيدت.. ثبتت، وإن تركت فاللوم على من تركها» . ولأنه خيار لإزالة الضرر عن المال

(7/132)


فكان على الفور، كخيار الرد بالعيب، وفيه احتراز من خيار القصاص.
فإذا قلنا بهذا، وعليه التفريع: فمعنى قولنا: (على الفور) هو أن يطالبه على حسب ما جرت العادة به، لا على أسرع ما يمكن، حتى لو أمكنه أن يطرد مركوبه، أو يسرع في السير، فلم يفعل.. أن تبطل شفعته؛ لأن هذا لا يقوله أحد، ولكن على حسب العادة، فإن علم ذلك بالليل.. فليس عليه أن يطالبه، حتى يصبح؛ لأن العادة في الليل الإيواء والسكن دون المطالبة بالحقوق، وكذلك: إن علم وهو جائع أو عطشان.. لم يكن عليه أن يطالب حتى يفرغ من الأكل والشرب، وكذلك: إن علم به وهو في الحمام.. لم يكن عليه أن يطالب حتى يخرج منه، وكذلك: إن كان يريد الصلاة.. فله أن يتطهر، ويلبس الثوب، ويؤذن، ويأتي بسنن الصلاة وهيآتها، ولا تبطل شفعته بذلك؛ لأن العادة جرت بتقديم هذه الحوائج على غيرها، وكذلك: إذا أخره لإغلاق الباب، وحفظ المال، وتحصيل المركوب إن كانت عادته الركوب، أو كانت المسافة بعيدة؛ لأن العادة جرت بتقديم ذلك، وإذا لقي المشتري، وقال: السلام عليكم، أخذت الشقص أو الشفعة بالثمن الذي اشتريت به.. صح ذلك، ولا تبطل شفعته بالسلام؛ لأن السلام قبل الكلام سنة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من بدأ بالكلام قبل السلام.. فلا تجيبوه» .

(7/133)


وإن قال: بارك الله لك في صفقة يمينك.. لم تبطل شفعته بذلك؛ لأن ذلك يتصل بالسلام، ولأنه إذا بورك في الصفقة.. انتفع الشفيع بها؛ لأنه يأخذ من الصفقة المباركة، فلم تبطل شفعته بذلك.
وإن سأله بعد السلام عن حاله، وما أشبه ذلك.. بطلت شفعته؛ لأنه ترك الأخذ بالشفعة مع القدرة عليها، فبطلت.
وإن قال الشفيع للمشتري: هبني، أو بعني الشقص، وما أشبه ذلك.. بطلت شفعته؛ لأنه عدل عن المطالبة بالشفعة، إلى أن يتملكه بجهة أخرى.
وإن قال المشتري للشفيع: صالحني عما وجب لك من الشفعة بدينار، فقال الشفيع: صالحتك.. لم يصح الصلح، ولا يملك الشفيع العوض، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (يصح) .

(7/134)


دليلنا: أنه خيار تملك، فلا يصح بدل العوض فيه، كخيار الثلاث، وهل تسقط الشفعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تسقط؛ لأنه لما عدل عن الشفعة إلى العوض.. كان ذلك رضا بإسقاطها.
والثاني: لا تسقط وهو الصحيح؛ لأنه عدل عن الشفعة إلى عوض، فإذا لم يصح له العوض.. رجع إلى شفعته، كما لو باع له عينا بثمن لا يصح.

[فرع: لا تتوقف المطالبة بالشقص على التسليم]
قال الشافعي: (وإن كان بينهما دار بمكة، فحصلا بمصر، فباع أحدهما نصيبه منها، وعلم شريكه، فلقي الشفيع المشتري، فلم يشفع عليه حتى رجعا إلى مكة، فشفع عليه.. لم يكن له ذلك؛ لأنه أخر الأخذ من غير عذر، فإن قال: إنما أخرت المطالبة لأستيقن بقاء الدار، ولأقبض الشقص.. لم يقبل منه ذلك؛ لأن الأصل بقاؤها، ولأن المطالبة بالشفعة لا توقف على تسليم الشقص) .
فرع: [نقد دنانير لأجل الشقص فكانت مستحقة] :
وإن خرجت الدنانير التي دفعها الشفيع مستحقة. نظرت:
فإن شفع بدنانير في ذمته، مثل: أن قال: أخذت الشفعة بالثمن الذي اشتريت به، أو أخذت الشقص على الثمن الذي اشتريت به، ثم نقد الدنانير إلى المشتري، فبان أنها مستحقة.. فقد ملك الشفيع الشقص بالثمن الذي في ذمته، فإذا استحق ما نقده.. لم تبطل شفعته، بل يلزمه أن ينقد دنانير يملكها، كما لو اشترى عينا بثمن في ذمته، ثم نقد عما في ذمته بدنانير، فاستحقت.. فإن الشراء لا يبطل.
وإن شفع بعين الدنانير، مثل: أن قال: أخذت الشفعة أو الشقص بهذه الدنانير ثم استحقت.. فهل تبطل شفعته؟ فيه وجهان:
أحدهما: تبطل؛ لأنه لما أخذ الشفعة بدنانير لا يملكها صار كأنه ترك أخذ الشقص مع القدرة عليها.

(7/135)


والثاني: لا تبطل، وهو ظاهر ما نقله المزني؛ لأنه استحق أخذ الشفعة بمثل الثمن الذي وقع به العقد في ذمته، فإذا عين عن ذلك ما لا يملكه. بطل حكم التعيين، ولم تبطل الشفعة، كما لو اشترى شيئا بدنانير في ذمته، ثم نقد عنها ما لا يملكه.
فإن كان للشفيع عذر.. فالعذر ثلاثة أشياء: مرض، أو حبس، أو غيبة. فإن كان مرضا.. نظرت:
فإن كان مرضا يسيرا كالصداع اليسير، وما أشبهه.. فحكمه حكم الصحيح.
وإن كان مرضا كبيرا لا يتمكن معه من السير، فإن لم يمكنه التوكيل.. لم تسقط شفعته؛ لأنه غير قادر على المطالبة، وإن أمكنه التوكيل، فلم يوكل.. فهل تسقط شفعته؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو المذهب -: أن شفعته تسقط؛ لأنه أخر المطالبة مع القدرة عليها، فهو كالصحيح.
والثاني: لا تسقط شفعته؛ لأنه قد يكون له غرض بترك التوكيل، بأن يطالب بنفسه؛ لأنه أقوم بذلك، أو يخاف الضرر من التوكيل بأن لا يوجد من يتوكل له إلا بعوض فإن وجد بغير عوض احتاج إلى التزام منه أو يخاف أن يقر عليه الوكيل بما يسقط حقه، ثم يرفع ذلك إلى حاكم يحكم بصحة إقرار الوكيل على الموكل.
والوجه الثالث: إن وجد من يتطوع بالوكالة بغير عوض، فلم يوكل.. سقطت شفعته؛ لأنه لا ضرر عليه بذلك، وإن لم يجد من يتوكل عنه إلا بعوض.. لم تسقط شفعته بترك توكيله؛ لأن عليه ضررا بذلك.
وإن علم بالبيع وهو محبوس، فإن كان محبوسا بغير حق، بأن حبسه السلطان مصادرة ليأخذ منه شيئا بغير حق، أو حبس بدين عليه، وهو معسر.. فحكمه حكم

(7/136)


المريض: إن لم يقدر على التوكيل.. لم تسقط شفعته، وإن قدر على التوكيل، فلم يوكل.. فعلى الأوجه الثلاثة في المريض، وإن كان محبوسا بحق، بأن حبس بدين عليه يقدر على أدائه، فإن وكل من يطلب بالشفعة.. جاز، وإن لم يوكل.. بطلت شفعته، وجها واحدا؛ لأنه ترك المطالبة مع القدرة عليها.
وإن عجز المريض أو المحبوس بغير حق عن المطالبة بنفسه، وعن التوكيل - إذا قلنا: يجب عليه - إلا أنه قدر على الإشهاد، فلم يشهد.. فهل تسقط شفعته؟ فيه قولان، حكاهما في " المهذب ":
أحدهما: تسقط شفعته؛ لأن الترك قد يكون للزهد في الشفعة، وقد يكون للعجز، وقد قدر على أن يبين ذلك بالإشهاد، فإذا لم يفعل.. بطلت شفعته.
والثاني: لا تسقط؛ لأن عذره في الترك ظاهر، فلم يحتج معه إلى الإشهاد.
وإن بلغه البيع وهو غائب في بلد أو سفر، فإن سار عقيب ذلك، أو وكل من يطالب بالشفعة، وأشهد: أنه يسير هو أو وكيله لطلب الشفعة.. لم تسقط شفعته؛ لأنه لم يترك الطلب، وإن لم يمكنه أن يسير بنفسه، ولا أن يسير وكيله؛ لخوف الطريق، أو لعدم الرفيق، وأشهد: أنه على شفعته.. فهو على شفعته؛ لأنه غير مفرط، فإن لم يمكنه المسير، وأمكنه التوكيل، فلم يوكل.. فهل تسقط شفعته؟ على الأوجه الثلاثة في المريض، وإن لم يمكنه السير، ولا التوكيل - إذا قلنا: يجب - وقدر على الإشهاد، فلم يشهد: أنه على حقه من الشفعة.. فهل تسقط شفعته؟ على القولين اللذين حكاهما في " المهذب ".
وإن أمكنه السير، فسار.. فهل يلزمه الإشهاد: أنه يسير لطلب الشفعة؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يلزمه ذلك، فإن لم يفعل بطلت شفعته؛ لأنه يحتمل أن يكون سيره لطلب الشفعة، ويحتمل أن يكون لتجارة، أو غيرها، وقد قدر على أن يبين ذلك بالإشهاد، فإذا لم يفعل.. كان مفرطا.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه لا يلزمه ذلك، ولا تبطل به شفعته؛ لأن الظاهر من

(7/137)


حاله لما سار عقيب السماع أنه سار لطلب الشفعة، ولأن له أن يسير بنفسه، وله أن يوكل، ثم ثبت أنه لو سير الوكيل لم يلزم الوكيل الإشهاد، فكذلك الموكل.
قال المحاملي: إذا قلنا: يجب الإشهاد، فاختلفا، فقال الشفيع: أشهدت وسرت، وقال المشتري: لم تشهد، أو قلنا: لا يجب الإشهاد، فقال الشفيع: سرت عقيب السماع، وقال المشتري: لم تسر عقيب السماع.. فالقول قول الشفيع مع يمينه؛ لأن هذا اختلاف في فعله، وهو أعلم به.

[فرع: عدم رفع الأمر للحاكم لا يثبت الشفعة]
ذكر الطبري في " العدة ": أن أبا العباس قال: إذا وجبت له الشفعة، فجاء إلى الحاكم، وقال: أنا مطالب بحقي.. كان على شفعته وإن كان متمكنا من المجيء إلى المشتري، فإن ترك المجيء إلى الحاكم وإلى المشتري مع تمكنه منهما، وأشهد على نفسه: أنه يطالب بالشفعة.. بطلت شفعته بذلك؛ لأنه تركها مع القدرة عليها.

[مسألة: اعتبار تصديق المخبر]
إذا أخر الشفيع المطالبة على الفور، ثم قال: أخرت؛ لأني لم أصدق الذي أخبرني بالبيع.. نظرت:
فإن كان قد أخبره بذلك رجلان عدلان، أو رجل وامرأتان عدول، أو ما فوق ذلك.. سقطت شفعته؛ لأنه قد أخبره من قوله حجة في الشرع.
وإن أخبره صبي، أو فاسق، أو كافر.. لم تسقط شفعته؛ لأن قول هؤلاء ليس بحجة في الشرع. وإن أخبره رجل عدل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تسقط شفعته؛ لأن قول الواحد لا تقوم به البينة، فهو كما لو أخبره صبي أو فاسق.
والثاني: تسقط شفعته؛ لأن قول الواحد حجة في الشرع مع اليمين.
وإن أخبره عبد أو امرأة.. فاختلف أصحابنا فيها:

(7/138)


فذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أنها على وجهين، كالحر العدل.
وذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنه لا تسقط شفعته، وجها واحدا، كالصبي، والفاسق.

[مسألة: إظهار غلاء الشقص ليترك الشفعة]
إذا أظهر المشتري أنه اشترى الشقص بألف درهم، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشترى بدون ألف درهم.. فهو على شفعته؛ لأنه يحتمل أن يكون ترك الشفعة؛ لأجل غلاء الشقص، أو لأنه لا يقدر على الألف، فإذا بان أن الثمن دونه.. لم تسقط شفعته.
وهكذا: لو قال: اشتريت ربع الدار بمائة فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشترى نصفها بمائة.. فهو على شفعته؛ لأنه قد لا يرضى بربع الدار بمائة، ويرضى نصفها بمائة، وإن قال: اشتريت الشقص بمائة، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه بألف أو قال اشتريت الشقص بمائة فعفا الشفيع فبان أنه اشترى نصفه بمائة.. سقطت شفعته؛ لأن ما بان أغلظ على الشفيع مما أظهر له المشتري.
وإن قال: اشتريت الشقص بالدراهم، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه بالدنانير، أو قال: اشتريت بالدنانير، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه بالدراهم.. فهو على شفعته، سواء كانت قيمة ما اشترى به أكثر من قيمة ما أظهر الشراء به أو أقل، وبه قال زفر.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: (إن كانت قيمتها سواء، أو قيمة ما بان أنه اشترى به أكثر.. سقطت شفعته، وإن كان قيمة ما أظهر أكثر مما بان أنه اشترى به.. لم تسقط شفعته) .
دليلنا: أنه قد يكون له غرض في ذلك، وهو أنه لا يملك ما أظهر الشراء به.
وإن أظهر المشتري أنه اشترى نصف الدار بمائة، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشترى ربعها بخمسين، أو أظهر أنه اشترى الربع بخمسين، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشترى نصف الدار بمائة.. لم تسقط شفعته؛ لأنه قد يكون له غرض في أخذ القليل دون الكثير، أو في أخذ الكثير دون القليل.

(7/139)


[فرع: إظهار الشراء لنفسه أو لغيره]
وإن قال المشتري: اشتريت الشقص لنفسي، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه لغيره أو قال: اشتريته لغيري فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه لنفسه.. لم تبطل شفعته؛ لأنه قد يرضى مشاركة أحد الرجلين، ولا يرضى مشاركة الآخر.
وإن اشترى الشقص اثنان، فبلغ الشفيع أنه اشتراه أحدهما، فعفا، ثم بان أنهما اشترياه.. قال أبو العباس: فله أن يأخذ منهما، أو من واحد منهما، ويترك الآخر؛ لأنه إنما ترك الشفعة لأحدهما على أنه اشترى الجميع، فإذا بان أنه اشترى البعض.. ثبتت له الشفعة عليه، وأما الآخر: فلم يترك له الشفعة.

[فرع: العفو عن الشفعة]
قال الطبري في " العدة ": وإذا عفا الشفيع عن الشفعة، بأن قال: عفوت عن الشقص، أو سلمته، أو نزلت عنه.. فقد قال الشافعي في " اختلاف العراقيين ": (له الخيار ما لم يفارق مجلسه؛ لأن هذا يجري مجرى البيع، فثبت فيه خيار المجلس، كالبيع) . وخرج أبو العباس قولا آخر: أنه لا خيار له، كما لا يثبت له في الإبراء والإسقاط خيار.
قال ابن الصباغ: وإذا وجبت له الشفعة، وقضى بها القاضي، والشقص في يد البائع، فدفع الثمن إلى المشتري، فقال البائع للشفيع: أقلني، فأقاله.. لم تصح الإقالة؛ لأن الإقالة تصح بين المتبايعين، وليس الشفيع مالكا من جهته، فإن باعه منه قبل القبض.. لم يصح، كما لا يصح أن يبيع ما ابتاع قبل القبض.

(7/140)


[مسألة: باع أحد الشريكين الدار ولم يعلم الآخر وباع نصيبه]
وإن كانت الدار بين رجلين، فباع أحدهما نصيبه فيها.. ثبت لشريكه فيه الشفعة، فإن باع الشفيع نصيبه فيها قبل أن يعلم بالشراء.. فهل تسقط شفعته؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تسقط شفعته منها؛ لأنه استحق الشفعة ببيع شريكه، وملكه حينئذ باق على الشقص، فلم تسقط شفعته بزوال ملكه.
والثاني - وهو قول أبي العباس -: أن شفعته تسقط؛ لأن سبب استحقاقه للشفعة وجود ملكه، وقد زال ملكه، فوجب أن يسقط استحقاقه للشفعة.
فإذا قلنا بهذا: فباع الشفيع بعض حقه.. ففيه وجهان، خرجهما أبو العباس:
أحدهما: لا تسقط شفعته؛ لأن الشفعة تستحق بقليل الملك وكثيره، وقد بقي له ملك فاستحق به الشفعة، كما لو بيع شيء من ملكه.
والثاني: تسقط شفعته؛ لأن الشفعة يستحقها بجميع ملكه، فإذا باع بعضه.. سقط ما يقابله، فإذا سقط البعض.. سقط الجميع، كما لو عفا عن بعض شفعته.

[مسألة: أخذ بعض الشفعة]
وإن وجبت له الشفعة في الشقص، فأراد أن يأخذ بعضه.. لم يكن له ذلك؛ لأن في ذلك تفريقا للصفقة على المشتري، فإن قال: عفوت عن أخذ نصف الشقص.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها المسعودي [في " الإبانة " ق\ 319] :
أحدهما - وهو قول البغداديين من أصحابنا -: أن شفعته تسقط في الجميع، كما لو عفا عن بعض حقه من القصاص.
والثاني: لا يسقط شيء من شفعته.
والثالث: يسقط حقه من نصف الشقص، وله أخذ الباقي إذا رضي المشتري بذلك.

(7/141)


[فرع: شراء شقصين من أرضين]
وإن اشترى رجل شقصين من أرضين بعقد من رجل، فإن كان لكل شقص شفيع.. فكل واحد من الشفيعين بالخيار: بين أن يأخذ شقصه بالشفعة، وبين أن لا يأخذ؛ لأن كل واحد منهما لا يملك أن يأخذ ما في غير شركته، فإن كان الشفيع فيهما واحدا.. فهو بالخيار: بين أن يأخذهما جميعا، أو يتركهما جميعا، فإن أراد أن يأخذ أحدهما دون الآخر.. فهل له ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه يبعض ما وجب له، فلم يكن له ذلك، كما لو ثبتت له الشفعة في شقص، فأراد أن يأخذ بعضه، ويترك بعضه.
والثاني: له ذلك، وهو الأصح؛ لأنه لا ضرر على المشتري بذلك؛ لأن الشقص الآخر يبقى له، ولا تبعيض عليه بالشقص.
فإن كانت الدار بين رجلين، فباع أحدهما نصيبه من رجلين بعقد واحد.. فالشفيع بالخيار: بين أن يأخذ ما حصل للمشتريين، وبين أن يأخذ ما حصل لأحدهما دون الآخر؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين.
وإن كانت الدار بين ثلاثة شركاء، فباع اثنان نصيبهما من رجل.. فللشريك الثالث أن يأخذ من المشتري جميع ما اشتراه من شريكيه، وله أن يأخذ منه ما اشتراه من أحدهما دون الآخر؛ لما ذكرناه من: أن حكم عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين.
وإن كانت الدار بين ثلاثة شركاء فباع اثنان نصيبهما من اثنين، كل واحد باع نصيبه منهما بعقد أو عقدين.. فهذا في حكم أربعة عقود، والشفيع في ذلك بين ست اختيارات، إن شاء.. أخذ ما حصل للمشتريين. وإن شاء.. تركهما. وإن شاء.. أخذ ما حصل لأحدهما، وترك الآخر. وإن شاء.. أخذ نصف ما حصل لكل واحد منهما. وإن شاء.. أخذ ما حصل لأحدهما ونصف ما حصل للآخر. وإن شاء.. أخذ نصف ما حصل لأحدهما، ولم يأخذ من الآخر شيئا.

(7/142)


[فرع: بيع أحد الشريكين نصيبه من رجل بعقدين قبل علم الشفيع]
وإن كانت الدار بين رجلين، فباع أحدهما بعض نصيبه من رجل بعقد، ثم باع منه الباقي بعقد آخر، ثم علم شريكه.. فللشفيع أن يأخذ المبيع أولا وثانيا. وله أن يأخذ أحدهما دون الآخر؛ لأن لكل واحد من العقدين حكم نفسه، فإن أخذ الأول.. لم يكن للمشتري أن يشاركه فيه؛ لأن الشفيع استحق الشفعة في الأول قبل وجود ملكه للثاني. وإن عفا عن الأول، وأخذ الثاني.. كان للمشتري أن يشارك الشفيع في الثاني؛ لأنهما شفيعان عند شراء الثاني.
وقال أبو حنيفة: (ليس للشفيع أن يأخذ جميع النصيبين المبيعين، وإنما له أن يأخذ الأول، ونصف الثاني) .
قال ابن الصباغ: وحكي هذا عن بعض أصحابنا، ووجهه: أن ملكه ثبت على الأول، فإذا اشترى الثاني.. كان شريكا بالنصيب الثاني.
ودليلنا: أن ملكه على الأول لم يستقر؛ لأن للشفيع أخذه، فلا يستحق به الشفعة، كما لو ارتهن بعضه، واشترى الباقي.
وإن كانت الدار بين رجلين، فباع أحدهما نصيبه من ثلاثة رجال صفقة واحدة.. كان في حكم ثلاثة عقود، فلشريكه أن يأخذ من الثلاثة، وله أن يأخذ من اثنين أو من واحد، وليس لأحد الثلاثة إذا عفا الشفيع عن الأخذ منه أن يشاركه في الشفعة فيما يأخذ من الآخرين؛ لأن ملكه لم يسبق ملك المشفوع عليهما، وإن باع أحد الرجلين نصيبه من ثلاثة رجال في ثلاثة عقود عقدا بعد عقد، فللشفيع أن يأخذ نصيب جميع المشترين، وله أن يأخذ من بعضهم، فإن أخذ من الأول، وعفا عن الآخرين.. لم يشاركاه؛ لأن ملكهما حادث بعد ثبوت الشفعة، وإن عفا عن الأول، وأخذ من الآخرين.. شاركه الأول، وكذلك: إن عفا عن الأول والثاني، وأخذ من الثالث.. شاركه الأول والثاني في الثالث، وكذلك: لو عفا عن الثلاثة.. كان للأول أن يأخذ

(7/143)


من الثاني والثالث، وإن عفا الأول عن الثاني.. كان للأول والثاني أن يأخذا من الثالث.

[مسألة: وجود أكثر من شفيع للشقص]
وإن كان للشقص شفعاء.. كانت الشفعة لجميعهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن باع، ولم يؤذن شريكه.. فشريكه أحق به بالثمن» . وكل واحد منهم شريك.
وإن كانت أنصباء الشفعاء متساوية.. قسم الشقص المبيع بينهم بالسوية، وإن تفاضلت أنصباؤهم.. ففيه قولان:
أحدهما: أنه يقسم بينهم على عدد الرؤوس، وبه قال الشعبي، والنخعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو حنيفة وأصحابه، واختاره المزني؛ لأن كل واحد منهم لو انفرد بالشركة.. لأخذ الجميع وإن قل نصيبه، وإن اشتركوا.. تساووا في الأخذ، كالاثنين في الميراث، ولأن الشفعة لو كانت تستحق على قدر الملك.. لوجب أن يأخذ بقدر الملك حتى لو كان لرجل خمسة أسداس دار، ولرجل سدسها، ثم باع صاحب الخمسة الأسداس نصيبه.. لم يستحق صاحب السدس غير سدس ما بيع بقدر ملكه، وهذا لا يقوله أحد، فثبت أنها تستحق على العدد لا على قدر الملك، ولأنه لو كان عبد بين ثلاثة، لواحد النصف، وللآخر الثلث، وللآخر السدس، فأعتق صاحب النصف والسدس نصيبهما في حالة واحدة.. لقوم الثلث عليهما بالسوية، فكذلك هاهنا مثله.
والقول الثاني: أن الشفعة تقسم على قدر الملك، وبه قال الحسن البصري، وابن المسيب، وعطاء، ومالك، وأحمد، وإسحاق.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأنه حق مستفاد بالملك، فقسط على قدر الملك، كغلة العبد، وثمرة النخلة، وما قاله الأول.. منتقض بالفرسان والرجالة

(7/144)


في الغنيمة، فإن كل واحد منهم لو انفرد بالغنيمة.. لاستحق جميعها، فإذا اشتركوا.. تفاضلوا.
إذا ثبت هذا: فإن حضر جميع الشفعاء، واختاروا الأخذ.. فلا كلام، وإن عفا بعضهم عن حقه من الشفعة.. كان جميع الشقص لمن لم يعف، فإن أراد من لم يعف أن يأخذ بقدر نصيبه.. لم يكن له ذلك؛ لأن في ذلك تبعيض الصفقة على المشتري، وإضرارا به، فلم يجز. وإن قال بعضهم: جعلت حقي من الشفعة لفلان.. سقط حقه من الشفعة، وكان لباقي الشفعاء؛ لأن ذلك عفو، وليس بهبة.

[فرع: بيع أحد الشركاء نصيبه من أجنبي ثم حضر الشفعاء تباعا]
فإن كانت الدار بين أربعة أنفس، فباع أحدهم نصيبه من أجنبي، وحضر أحد الشفعاء الثلاثة.. فله أخذ جميع الشقص؛ لأن في أخذه البعض إضرارا بالمشتري، ولأن الظاهر أنه لا شفيع للشقص غيره؛ لأن الآخرين لا يعلم هل يطالبان بالشفعة، أم لا؟ فإذا قدم الشفيع الثاني.. أخذ من الأول نصف الشقص؛ لأنه ليس هاهنا شفيع مطالب سواهما، فإذا قدم الثالث.. أخذ من كل واحد من الأولين ثلث ما بيده من الشقص المبيع؛ لأن ذلك قدر ما يستحقه كل واحد منهم عند الاجتماع، فإن عفا الشفيعان الآخران.. استقر ملك الأول على ملك جميع الشقص، فإن قال الشفيع الأول: لا آخذ جميع الشقص، وإنما آخذ منه الثلث.. لم يكن له ذلك؛ لأن في ذلك تبعيض الصفقة على المشتري، وهل تبطل شفعته بذلك؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: تبطل شفعته؛ لأنه أمكنه أخذ الجميع، فإذا لم يفعل.. بطلت شفعته، كما لو وجبت له الشفعة وحده في شقص، فقال: لا آخذ إلا بعضه.
فعلى هذا: إذا قدم الشفيعان الآخران، فإن اختارا أخذ جميع الشقص.. كان لهما ذلك، وإن اختارا الترك.. سقطت شفعة الجميع، فإن اختار أحدهما أخذ جميع الشقص، واختار الآخر الترك.. كان لهما ذلك.
والوجه الثاني - وهو قول أبي العباس، وأبي إسحاق -: أن شفعة الأول لا تبطل

(7/145)


وهو الصحيح؛ لأن له عذرا في ترك أخذ الجميع، وهو أن لا يأخذ ما يؤخذ منه، فلم تسقط بذلك شفعته، كما لو أظهر له المشتري أن الثمن كثير، فترك الأخذ، ثم بان له أن الثمن دونه.. فإن شفعته لا تبطل؛ لأنه أخر الأخذ لعذر.
فعلى هذا: إذا قدم الشفيعان الآخران، وطالبا بالشفعة.. قسم الشقص بينهما أثلاثا، فإن عفوا عن الشفعة.. فهل للأول أن يأخذ نصيبيهما؟
قال أبو إسحاق: ينظر في الأول، فإن قال: أنا مطالب بالشفعة في الكل، ولكن إنما آخذ حصتي، وأتوقف في حصة شريكي؛ لأنظر ما يكون منهما.. فله أخذ نصيبيهما؛ لأنه لم يعف عن الشفعة. وإن قال: لا أطالب إلا بحصتي، وقد عفوت عما زاد عن ذلك.. بطلت شفعته في نصيب شريكيه، وهو ثلثا الشقص، وله أخذ ثلث الشقص لا غير.
فإن أخذ الشفيع الأول جميع الشقص من المشتري، ثم قدم الشفيع الثاني.. فقد قلنا: إنه إذا اختار الشفعة.. أخذ نصف الشقص من الأول، وإن لم يختر ذلك، ولكن قال: لا آخذ إلا ثلث الشقص.. فذكر الشيخ أبو حامد: أن أبا العباس قال: له ذلك إذا رضي الشفيع الأول؛ لأنه يترك بعض حقه، ولا يشبه هذا الشفيع الأول؛ لأن في أخذه لبعض الشقص تبعيضا للصفقة على المشتري. وأما ابن الصباغ: فلم يحك عنه رضا الشفيع الأول. قال: وفي ذلك نظر؛ لأنه يريد أن يأخذ بعض ما يخصه، وليس له ذلك.
إذا ثبت هذا: فإن أخذ الثاني ثلث الشقص من الأول، وهو سهمان من ستة أسهم، ثم قدم الشفيع الثالث.. فإنه يأخذ من الشفيع الثاني ثلث ما أخذ من الأول، وهو ثلثا سهم من ستة من الشقص؛ لأنه يستحق ثلث ما أخذه من الشقص، فلا يسقط حقه منه بما تركه في يد الأول، ثم يضم ما أخذه الثالث من الثاني

(7/146)


إلى ما بقي في يد الأول من الشقص، وذلك كله أربعة أسهم وثلثا سهم، فيقسم ذلك بينهما نصفين، لكل واحد منهما سهمان وثلث.
قال الشيخ أبو حامد: ووجه ذلك عندي: أن الشفيع الثالث يستحق أن يأخذ من كل واحد من الأولين ثلث ما بيده من الشقص، وقد أخذ من الثاني ثلث ما بيده منه، وهو ثلثا سهم، وقد بقي في يد الأول من الشقص أربعة أسهم، فثلاثة منها هي التي يستقر ملكه عليها بعد قدوم الثاني، إذ لو أخذ الثاني جميع ما يستحقه على الأول.. لأخذ ثلاثة أسهم، وبقي مع الأول ثلاثة، فللثالث ثلث الثلاثة، وهو سهم، وأما السهم الرابع الذي سامح به الأول.. فإن الثالث كان يستحق أخذ ثلثه من الثاني لو أخذه، فإذا لم يأخذه الثاني.. كان للثالث أن يأخذ ثلثه حيث وجده، ويبقى في يد الأول ثلثا السهم الرابع [الذي] سامحه به الثاني، ويأخذ الثالث نصف ذلك.
قال ابن الصباغ: ووجه ذلك عندي: أن الثالث يقول للأول: نحن سواء في الاستحقاق، ولم يترك واحد منا شيئا من حقه، فنجمع ما معنا، ونقسمه.
إذا تقرر هذا: فالشقص المأخوذ بالشفعة، وهو ستة أسهم تضرب في ثلاثة، فذلك ثمانية عشر سهما للقادم الأول سهم وثلث، في ثلاثة: فذلك أربعة، وللقادم الثاني سهمان وثلث، في ثلاثة: فذلك سبعة، وللشفيع الأول سبعة.

(7/147)


قال أبو العباس: فإن كان هناك شفيع رابع، والمسألة بحالها، فقدم الرابع.. فإنه يأخذ من الشفيع الثاني ربع ما بيده من الشقص، وهو سهم من أربعة أسهم، ثم يضمه إلى ما حصل للأول والثالث، وهو أربعة عشر، فيصير خمسة عشر سهما، ويقسم ذلك بينهم أثلاثا، لكل واحد خمسة أسهم.
فإن قدم الرابع، ولم يجد غير الشفيع الذي حصل له أربعة أسهم.. قال أبو العباس: فيحتمل وجهين:
أحدهما: أنه يأخذ نصف ما حصل له؛ لأنه يقول: لست أجد شفيعا سواك، فأنا وأنت شفيعان بما حصل بيننا، فاقتسمناه نصفين.
والثاني: يأخذ ربع ما حصل له؛ لأنهم أربعة شفعاء، فاستحق أن يأخذ من كل واحد ربع ما حصل له.
قال ابن الصباغ: فإن قدم الشفيع الثالث، ووجد أحد الشفيعين الأولين حاضرا، والآخر غائبا، فإن قضى القاضي للثالث أن يأخذ من الغائب الثلث.. كان له أن يأخذ منه الثلث، ومن الحاضر الثلث، وإن لم يقض له القاضي على الغائب.. فكم يأخذ من الحاضر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يأخذ منه الثلث؛ لأنه قدر ما يستحقه مما في يده.
والثاني: يأخذ منه نصف ما بيده؛ لأن أحدهما إذا كان غائبا.. صار كأنهما الشفيعان لا غير، فيقتسمان بينهما بالسوية.

(7/148)


فإن حضر الغائب، وغاب هذا الحاضر، فإن كان أخذ من الحاضر ثلث ما بيده.. أخذ من الذي كان غائبا ثلث ما بيده أيضا، وإن كان أخذ من الحاضر نصف ما بيده.. أخذ من هذا سدس ما بيده، فيتم بذلك نصيبه، وتصح قسمة ذلك من ثمانية وأربعين، فالمبيع اثنا عشر سهما، أخذ كل واحد منهما ستة، فإن أخذ من أحدهما سهمين.. أخذ من الثاني سهمين، وإن أخذ من الأول ثلاثة.. أخذ من الثاني سهما ليتم له ثلث السهم المبيع.

[فرع: زيادة الشقص في يد الشفيع ورجوع الشفعاء]
فإن أخذ الشفيع الأول الشقص من المشتري، وجاء الشفيعان الآخران، وقد زاد الشقص في يد الأول، فإن كانت زيادة لا تتميز؛ كالشجر إذا طال وامتلأ.. فإن الشفيعين إذا اختارا الأخذ أخذا الشجر بزيادته؛ لأنها زيادة لا تتميز فتبعت الأصل كالرد بالعيب، وإن كانت زيادة تتميز، كالشجر إذا أثمر.. فإن الثمرة تكون للأول؛ لأنها زيادة متميزة حدثت في يد الأول، فكانت له، كما قلنا في الرد بالعيب.
وإن أخذ الشفيعان الآخران الشقص من الشفيع الأول، فاستحق الشقص.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يرجع الشفعاء الثلاثة كلهم بالعهدة على المشتري؛ لأنهم استحقوا الشفعة عليه، والأول نائب عن الآخرين في الأخذ منه.
والوجه الثاني - حكاه القاضي أبو الطيب في " المجرد " -: أن الشفيع الثاني يرجع بالعهدة على الشفيع الأول، ويرجع الثالث بالعهدة على الأول والثاني، ويرجع الأول على المشتري اعتبارا بما أخذ منه كل واحد منهم. والأول هو المشهور.

(7/149)


[فرع: للشفيع الغائب أخذ جميع الشقص إذا قدم وكان الحاضر رده بالعيب]
وإن أخذ الشفيع الحاضر جميع الشقص من المشتري، فوجد به عيبا، فرده، ثم قدم الشفيعان الآخران، أو أحدهما.. كان للقادم فسخ الرد بالعيب، وأخذ جميع الشقص.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (ليس للقادم بعد الأول أن يأخذ إلا قدر حصته من الشقص) .
دليلنا: أن الشفيع الأول أسقط حقه من الشقص بالرد بالعيب، فكان للقادم بعده أخذ جميع الشقص، كما لو عفا الأول عن الشفعة.. فإن للثاني أن يأخذ جميع الشقص.

[مسألة: للشريك الثالث الشفعة إذا باع أحد شريكيه نصيبه من الآخر]
وإن كانت دار بين ثلاثة رجال، فباع أحدهم نصيبه من أحد شريكيه.. ثبت للشريك الثالث الشفعة، وهل له أن يأخذ جميع الشقص، أو يقسم بينه وبين الشريك المشتري؟
روى المزني: (أنه يقسم بينه وبين الشريك المشتري) . وبه قال عامة أصحابنا، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.
وحكي عن أبي العباس بن سريج: أن له أخذ جميع الشقص. وهو قول عثمان البتي، والحسن البصري. وقيل: لا يصح هذا عن أبي العباس.
ووجه هذا: أنا لو قلنا: يقتسمان الشقص.. لكان للإنسان أن يأخذ الشفعة من نفسه، وهذا لا يجوز.
والأول أصح؛ لأن المشتري شريك في الشقص، فلم يأخذ الآخر جميع الشقص، كما لو باع الشريك من أجنبي، وما قاله أبو العباس: إنه لا يأخذ الشفعة من نفسه.. غير صحيح؛ لأنه لا يأخذ بالشفعة من نفسه، وإنما لا يقدم الآخر عليه؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.

(7/150)


فإذا قلنا بقول أبي العباس.. كان الشفيع بالخيار: بين أن يأخذ جميع الشقص، أو يترك، فإن قال: آخذ بعض الشقص دون بعض.. لم يكن له ذلك؛ لأنه ليس هاهنا شفيع غيره.
وإن قلنا بقول عامة أصحابنا.. فإن اتفق الشفيع والمشتري على أن يقتسما الشقص بينهما.. جاز، وإن لم يختر الشفيع أن يأخذ.. لم يجبر على الأخذ، ولزم ذلك المشتري، فإن رضي المشتري أن يأخذ الشفيع جميع الشقص.. لم يلزم الشفيع ذلك؛ لأن الشفعة إنما وجبت له في نصف الشقص، فلا يلزمه أكثر من ذلك.
فإن قيل: المشتري والشريك شفيعان في الشقص، فإذا رضي المشتري بترك حقه.. لم يجز للآخر أن يأخذ البعض، كما لو كان المشتري أجنبيا.
فالجواب: أن الشفيعين إذا كان المشتري أجنبيا.. لم يملكا شيئا، وإنما ملكا أن يملكا بالاختيار، فإن أسقط أحدهما حقه.. صار كأنه لا شفيع إلا الثاني، وهاهنا قد حصل الملك للمشتري، فإذا ترك ذلك بعد حصول الملك له.. لم يلزم الآخر الأخذ، كما لو اختار الشفيعان الأخذ، ثم ترك أحدهما حقه.. فلا يلزم الآخر أخذه.

[مسألة: تثبت الشفعة لابن الابن مع أخيه بعد موت الأب ووجود العم]
وإن مات رجل، وخلف دارا وابنين، فمات أحد الابنين، وخلف ابنين، فباع أحد ولدي الابن نصيبه في الدار.. ثبت لأخيه الشفعة، قولا واحدا، وهل تثبت للعم مع ابن أخيه؟ فيه قولان:
أحدهما: الشفعة للأخ دون العم، وبه قال مالك؛ لأن الأخ أخص بشركة البائع لاشتراكهما في سبب الملك، بدليل: أن البينة لو قامت: أن أباهما غصب نصف الدار.. لأخذ نصيبيهما.
ولو قسمت الدار نصفين.. لكان نصيب الأخوين جزءا، ونصيب العم جزءا.
والثاني: أن الأخ والعم يشتركان بالشفعة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، والمزني، وهو الصحيح؛ لأنهما شريكان في الدار حال ثبوت الشفعة

(7/151)


فكانت الشفعة بينهما، كما لو ملك الثلاثة بسبب واحد، وما ذكره الأول من أن ملك الأخ أخص.. فلا اعتبار به، وإنما الاعتبار بوجود الملك حال الشفعة، وما ذكره من القسمة.. فغير صحيح؛ لأن ذلك إنما يقسم - كما ذكر - إذا رضي الأخوان، ولو طلب أحد الأخوين أن يفرد نصيبه مع عمه. لكان له ذلك، وإن طلب كل واحد منهما أن يفرد نصيبه.. قسمت الدار أربعة أجزاء: للعم جزءان، ولكل أخ جزء.
فإن قلنا: إن الشفعة للأخ، فإن اختار أخذ الشقص.. فلا كلام، وإن عفا عن الشفعة.. فهل يستحقها العم؟ فيه وجهان، خرجهما أبو العباس:
أحدهما: لا يستحقها؛ لأن من لم يستحق الشفعة حال البيع.. لم يستحقها عند عفو الشفيع، كالجار المقاسم.
والثاني: يستحقها؛ لأنه شريك حال البيع، وإنما قدم عليه الأخ بقرب نسبه، فإذا أسقط الأخ حقه استحقها العم كما لو قتل رجل رجلين عمدا أحدهما بعد الآخر فإن القصاص عليه للأول، فإذا عفا ولي الأول عن القصاص.. ثبت القصاص للثاني.
وإن قلنا: إن الشفعة بين الأخ والعم.. فهل يقتسمان الشقص المبيع نصفين، أو على قدر الملكين؟ على قولين، مضى ذكرهما.
وفرع أبو العباس على هذا ثلاث مسائل:
الأولى: إذا كانت الدار بين ثلاثة رجال، فباع أحدهم نصيبه من رجلين، فعفا شريكاه عن الشفعة، ثم باع أحد المشتريين نصيبه من الدار.. فهل تكون الشفعة لشريكه الذي اشترى معه وحده، أو يشاركه فيها الشريكان الأولان؟ على القولين.
المسألة الثانية: إذا مات رجل، وخلف ابنتين، وأختين لأب، وخلف دارا، فورثت الابنتان ثلثيه، وورثت الأختان ثلثه، فباعت إحدى الابنتين نصيبها في الدار.. قال أبو العباس: فيه طريقان:
أحدهما: أنها على قولين، كالتي قلبها؛ لاختلاف سبب الملك.

(7/152)


والثاني: أن الشفعة بين الابنة والأختين، قولا واحدا؛ لأن السبب واحد، وهو الإرث.
المسألة الثالثة: إذا مات رجل، وخلف ثلاثة أولاد وخلف دارا، فمات أحد الأولاد، وخلف ابنين، فباع أحد العمين نصيبه في الدار.. فهل يكون أخو البائع أحق بالشفعة، أو يشاركه فيها ابنا أخيه؟ فيه طريقان:
أحدهما: أنها على قولين.
والثاني: أنهم يشتركون فيها، قولا واحدا؛ لأن ابني الميت الثاني يقومان مقام أبيهما، ولو كان أبوهما باقيا.. لشارك أخاه بالشفعة، بخلاف ما لو باع أحد ولدي الابن؛ لأن العمين لا يقومان مقام أخيهما، وإنما يقومان مقام أبيهما.

[مسألة: تصرف المشتري بالشقص قبل علم الشفيع]
إذا اشترى رجل شقصا فيه شفعة، فلم يعلم الشفيع بالشراء حتى تصرف المشتري بالشقص. نظرت:
فإن تصرف فيه تصرفا لا تستحق فيه الشفعة، بأن وهبه من غيره، أو أجره.. فللشفيع أن يفسخ تصرفه، ويأخذه بالشفعة؛ لأن استحقاقه للشفعة سابق لتصرف المشتري، وهكذا: لو وجد به المشتري عيبا، فرده بالعيب، ثم علم الشفيع.. فله أن يفسخ ذلك، ويأخذه بالشفعة؛ لأن حقه سابق للفسخ.
وإن وقفه المشتري.. ففيه وجهان:
(أحدهما) : قال الماسرجسي: يصح الوقف، وتبطل الشفعة؛ لأن الشفعة إنما ثبتت في المملوك، والوقف غير مملوك، فبطلت فيه الشفعة.
والثاني - وهو قول عامة أصحابنا، وهو الصحيح -: أن للشفيع أن يبطل الوقف، ويأخذ الشفعة، كما تبطل الهبة؛ لأن استحقاقه للشفعة سابق لوقف المشتري.
وإن تصرف المشتري فيه تصرفا تثبت فيه الشفعة، بأن باعه، أو جعله مهرا في نكاح أو عوضا في خلع، أو أجرة في إجارة.. فالشفيع بالخيار: بين أن يفسخ

(7/153)


التصرف الثاني، ويأخذ بالشفعة بالتصرف الأول، وبين أن يقر العقد الأول، ويأخذ بالشفعة بالتصرف الثاني؛ لأنه يستحق الشفعة بكل واحد منهما، فخير بينهما، فإن اختلف المشتري والبائع في الثمن، فتحالفا، وفسخ البيع ورجع الشقص إلى البائع فللشفيع أن يأخذ الشقص بالثمن الذي حلف عليه البائع؛ لأن البائع أقر للمشتري بالملك بالثمن الذي حلف هو عليه، وللشفيع بالشفعة به فإذا رد المشتري إقراره بذلك.. بقي حق الشفيع، فكان له الأخذ به.

[فرع: موت المشتري بعد أن أوصى بالشقص]
فقدم الشفيع فيقدم] : وإن اشترى شقصا فيه شفعة، ثم أوصى به المشتري ومات، فحضر الشفيع والموصى له يطالبان بالشقص ... قدم الشفيع؛ لأن حقه سابق؛ لأنه يثبت بالشراء، فإذا أخذ الشفيع الشقص بالثمن.. كان الثمن للورثة دون الموصى له؛ لأنه إنما وصى له بالشقص دون الثمن.

[فرع: دار لثلاثة: لواحد نصف وللباقيين لكل ربع فباع أحدهما حصته]
وإن كان دار بين ثلاثة شركاء: لواحد نصفها، ولكل واحد من الآخرين ربعها، فاشترى صاحب النصف من أحد الشريكين ربع الدار، والشريك الثالث غائب، ثم باع الشريك المشتري ربع الدار - وهو ثلث ما بيده من الدار - من رجل، فقدم الشريك الغائب.. فله أن يطالب بالشفعة في البيع الأول، ويعفو عن الثاني، وله أن يطالب بالشفعة في البيع الثاني، ويعفو عن الأول، وله أن يطالب بالشفعة في البيع الأول والثاني.
فإن اختار أن يطالب بالشفعة في البيع الأول، ويعفو عن الثاني، وإن قلنا بالمذهب: إن المشتري إذا كان أحد الشريكين لا يستحق الشفيع الآخر جميع الشقص، فإن قلنا: إن الشقص يقسم بين الشفعاء على الرؤوس فإن الشفيع القادم يستحق نصف الربع المبيع وهو الثمن إلا أن هذا الثمن قد حصل ثلثه في يد المشتري الثاني؛ لأنه اشترى ثلث ما بيد الأول، وثلثا الثمن باق في يد الشريك

(7/154)


المشتري، فيكون للشفيع أن يأخذ ذلك حيث وجده، وأقل عدد يخرج منه ثلث الثمن: أربعة وعشرون، فمع صاحب النصف اثنا عشر، ومع المشتري منه ستة، ومع الشفيع ستة، فيأخذ الشفيع من صاحب النصف سهمين، ويبقى معه عشرة، ويأخذ من المشتري سهما يفسخ فيه البيع، ويبقى معه خمسة، فيجتمع مع الشفيع تسعة.
وإن قلنا: إن الشفعة تقسم على قدر الأملاك.. فإن لصاحب النصف ثلثي الربع الذي اشتراه، ولشريكه ثلثه، وأقل عدد يخرج منه ثلثا الربع: اثنا عشر، للمشتري ثلثا الربع وهو سهمان، وللشفيع ثلث الربع وهو سهم، وفي يد الشريك المشتري من هذا السهم ثلثاه، وفي يد المشتري منه ثلثه، فاضرب اثني عشر في ثلاثة.. تصبح ستة وثلاثين: لصاحب النصف ستة في ثلاثة.. فذلك ثمانية عشر، وللمشتري منه ثلاثة في ثلاثة.. فذلك تسعة، وللشفيع بحق الملك ثلاثة في ثلاثة.. فذلك تسعة، ويأخذ بحق الشفعة ثلث الربع وهو ثلاثة أسهم ثلثاها من صاحب النصف وهو سهمان، فيبقى معه ستة عشر، وثلثها وهو سهم من المشتري الثاني، فيبقى معه ثمانية، ويصير مع الشفيع اثنا عشر سهما

(7/155)


وإن طلب الشفيع بحقه من الشفعة في البيع الثاني، وعفا عن الأول.. أخذ جميع الربع من المشتري الثاني، فصار له نصف الدار، ولشريكه نصفها.
وإن طلب بحقه من الشفعة في البيعين الأول والثاني.. أخذ جميع الربع الذي بيد المشتري الثاني، وكم يأخذ من صاحب النصف؟
إن قلنا: إن الشفعة تقسم على عدد الرؤوس.. أخذ منه ثلثي ثمن الدار، وهو سهمان من أربعة وعشرين سهما من الدار.
وإن قلنا: إن الشفعة تقسم على قدر الأملاك.. أخذ منه سهمين من ستة وثلاثين سهما من الدار.

[مسألة: البناء أو الغرس في الشفعة بعد المقاسمة]
قال الشافعي: (ولو قاسم وبنى.. قيل للشفيع: إن شئت.. فخذ بالثمن وقيمة البناء اليوم، أو دع) .
وجملة ذلك: أن الشافعي ذكر: أن المشتري إذا قاسم وميز نصيبه، فبنى فيه أو غرس، ثم طالبه الشفيع بالشفعة. فاعترض المزني وغيره على الشافعي، وقالوا: كيف تصح المقاسمة مع بقاء الشفعة؟
فقال أصحابنا: يتصور ذلك في أربع مسائل:
إحداهن: أن يظهر له المشتري أنه اشترى الشقص بثمن كثير، فترك الشفيع الشفعة

(7/156)


وقاسم المشتري، فبنى المشتري أو غرس، ثم بان للشفيع أن الثمن دون ذلك، فإن شفعته لا تبطل.
الثانية: أن يظهر له أنه اتهب الشقص، فقاسمه الشريك، فبنى أو غرس، ثم بان له أنه اشترى.
الثالثة: إذا وكل وهو في السفر من يطالب بالشفعة، فرأى الوكيل أن الحظ في ترك الشفعة، فترك وقاسم الوكيل - وقد وكله على ذلك - فقدم الشفيع، وبان أن الحظ له في الأخذ بالشفعة. أو كان هذا في الشفعة على المولى عليه، ورأى الولي ترك الشفعة، فقاسم، وبنى المشتري أو غرس، ثم زال الحجر عن المولى عليه، وأقام البينة: أن الحظ كان له أن يأخذ الولي.
الرابعة: إذا كان الشفيع غائبا، فجاء المشتري إلى الحاكم، وسأله: أن يقسم بينه وبين الغائب، فأمر الحاكم من قاسم عن الغائب، فبنى المشتري أو غرس، وقدم الشفيع.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن الشفيع إذا اختار الأخذ بالشفعة، فإن البناء أو الغراس للمشتري؛ لأنه عين ملكه، لم يدخل في الشراء.
فإن اختار المشتري قلع البناء والغراس.. كان له ذلك، لأنه ملكه، ولا يلزمه تسوية الأرض؛ لأنه غير متعد بذلك، فإن اختار الشفيع أخذ الشقص ناقصا بجميع الثمن.. فلا كلام، وإلا.. فلا شفعة له.
وإن لم يختر المشتري قلع البناء أو الغراس.. كان الشفيع بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين أن يترك أخذ الشفعة. وبين أن يأخذ الشقص بالشفعة، ويتملك معه البناء أو

(7/157)


الغراس بقيمته في هذه الحالة. وبين أن يأخذ الشقص بالثمن، ويجبر المشتري على قلع البناء أو الغراس، ويضمن له ما نقص بالقلع؛ لأن الضرر يزول عنهما بذلك.
فإن أراد الشفيع إجبار المشتري على قلع البناء أو الغراس، ولا يضمن له شيئا.. لم يجبر المشتري على ذلك، وبه قال النخعي، ومالك، وأحمد، وإسحاق.
وقال الثوري، وأبو حنيفة، والمزني: (يجبر المشتري على قلعه من غير ضمان عوض) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» . وهذا ليس بظالم.
ولأنه بنى أو غرس في ملكه الذي يملك بيعه، فلم يجبر على قلعه من غير ضمان، كما لو غرس في أرض له، لا شفعة فيها لغيره.

[فرع: ادعاء عمل البناء في الشفعة]
إذا ادعى المشتري: أن هذا البناء أحدثه بعد الشراء، وقال الشفيع: بل كان موجودا عند البيع.. قال أبو العباس: فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن ذلك ملكه، والشفيع يريد تملكه عليه، فكان القول فيه قول المالك.

[مسألة: شراء شقص فيه شجر]
إذا اشترى رجل شقصا من أرض فيها نخل أو شجر.. فقد ذكرنا: أنه يدخل في البيع بالشرط، أو بالإطلاق على المذهب، وتثبت فيه الشفعة تبعا للأرض، فإن جاء الشفيع، وقد زاد ذلك في يد المشتري، فإن كانت زيادة غير متميزة، بأن طال الشجر وامتلأ.. فإن الشفيع يأخذ الشجر بزيادته؛ لأنها زيادة لا تتميز، فتبعت الأصل، كالرد بالعيب. وإن كانت الزيادة ثمرة.. نظرت:
فإن كانت الثمرة ظاهرة، بأن كانت ثمرة نخل قد أبرت.. فإن الثمرة للمشتري؛ لأنها ثمرة ظاهرة حدثت في ملكه.
وإن كانت غير ظاهرة، بأن كانت الثمرة غير مؤبرة.. ففيه قولان:

(7/158)


[أحدهما] : قال في القديم: (للشفيع أن يأخذها؛ لأنها ثمرة غير ظاهرة، فهي كالشجر إذا طال) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (ليس للشفيع أن يأخذها؛ لأنه نماء تميز عن أصله وظهر، فهو كالطلع المؤبر) .

[مسألة: تؤخذ الشفعة قهرا]
إذا وجبت له الشفعة في شقص.. فله أخذه من غير حاكم ولا رضا المشتري، وقد مضى الخلاف فيها لأبي حنيفة، والدليل عليه. فإن كان المشتري قد قبض الشقص من البائع.. فللشفيع أن يأخذ الشقص منه، ولا خلاف أنه لا خيار للمشتري في ذلك؛ لأنه يؤخذ منه بغير رضاه، وأما الشفيع: فلا يثبت له خيار الثلاث؛ لأن ذلك يثبت بالشرط برضا المتعاقدين، والشقص يؤخذ من المشتري بغير رضاه، ولكن هل يثبت للشفيع خيار المجلس بعد عقد الشفعة؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في (البيع) .
وإن كان المشتري لم يقبض الشقص من البائع.. وجب على المشتري تسلمه من البائع، وتسليمه إلى الشفيع، فإن غاب المشتري أو امتنع من القبض.. قال ابن الصباغ: أقام الحاكم من يستلمه للمشتري، ويسلمه إلى الشفيع، فإن حكم الحاكم بتسليمه على البائع إلى الشفيع، فتسلمه منه الشفيع.. كان كما لو تسلمه المشتري، وسلمه إلى الشفيع.
وإن قال الشفيع: لا أقبضه إلا من المشتري.. ففيه وجهان لأبي العباس:
أحدهما: له ذلك؛ لأن الشفيع بمنزلة المشتري من المشتري، فيلزمه أن يسلم بعد قبضه.
وعلى هذا: فالحاكم يكلف المشتري تسلمه، وتسليمه إلى الشفيع.
والثاني: يأخذه الشفيع من يد البائع، فلا يكلف المشتري قبضه؛ لأن الشقص حق للشفيع، فحيث وجده.. أخذه. ولأن يد الشفيع كيد المشتري؛ لأنه استحق قبض

(7/159)


ذلك من جهته، فهو كما لو وكل وكيلا في القبض، ألا ترى أنه إذا قال: أعتق عبدك عن ظهاري، فأعتقه.. صح، وكان المأمور كالقابض له؟
وأما الشيخ أبو إسحاق فقال: هل يجوز للشفيع أن يأخذ الشقص من يد البائع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه قد استحقه.
والثاني: لا يجوز، بل يجبر المشتري على قبضه ليأخذه الشفيع منه؛ لأنه إذا أخذه الشفيع من البائع.. فات التسليم المستحق بالبيع، فلا يثبت الشفعة.

[فرع: وجود عيب بالشقص بعد أخذه بالشفعة]
] : وإذا قبض الشفيع الشقص، ثم وجد به عيبا، فإن لم يعلم به المشتري، ولا الشفيع.. فللشفيع أن يرده على المشتري، وللمشتري أن يرده على البائع؛ لأن مقتضى العقدين سلامته من العيب. وإن علم به المشتري، ولم يعلم به الشفيع، ثم علم به.. فللشفيع أن يرده على المشتري، وليس للمشتري أن يرده على البائع؛ لأن المشتري.. قد رضي به والشفيع لم يرض به وإن علم به الشفيع ورضي به ولم يعلم به المشتري.. فليس لواحد منهما أن يرده؛ أما الشفيع: فلأنه رضي به، وأما المشتري: فلأنه لا يرد ما ليس بيده.

[فرع: استحقاق الشقص بعد أخذه بالشفعة]
فإن أخذ الشفيع الشقص، ودفع الثمن، فخرج الشقص مستحقا.. فإن الشفيع يرجع بالعهدة على المشتري سواء أخذ الشقص من يد المشتري أو من يد البائع، ثم يرجع المشتري بالعهدة على البائع، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، وأحمد.
وقال ابن أبي ليلى: تجب عهدة الشفيع على البائع بكل حال.

(7/160)


وقال محمد: إن أخذ الشفيع الشقص من يد المشتري.. رجع بالعهدة عليه، وإن أخذه من البائع.. رجع بالعهدة عليه.
دليلنا: أن الشفعة مستحقة على المشتري، فكان له الرجوع بالعهدة عليه كما لو قبضه منه، أو كما لو اشتراه منه.

[مسألة: وجدت الشفعة فمات قبل العلم]
] : إذا ثبت له الشفعة في شقص، فمات قبل أن يعلم بالشراء، أو قبل أن يتمكن من الأخذ.. انتقل ذلك إلى وارثه، وبه قال مالك، وعبيد الله بن الحسن العنبري.
وذهب الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد إلى: أن الشفعة تبطل بالموت.
دليلنا: أنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال، فانتقل إلى الوارث، كخيار الرد بالعيب.
فقولنا: (ثابت) احتراز من خيار القبول، وخيار الإقالة؛ وهو أن البائع لو قال لرجل: بعتك، فقبل أن يقول المشتري: قبلت، مات. أو قال أحد المتبايعين للآخر: أقلتك، فقبل أن يقول: قبلت، مات.. لم ينتقل ذلك إلى وارثه.
وقولنا: (لدفع الضرر عن المال) احتراز من خيار اللعان؛ لأنه لدفع الضرر عن النسب، فلو نفى نسب ولد، وقبل أن يلاعن مات.. لم يقم وارثه مقامه في اللعان.
إذا ثبت هذا: فروى المزني: أن الشافعي قال: (ولورثة الميت أن يأخذوا ما كان يأخذه أبوهم بينهم على العدد، وامرأته وابنه في ذلك سواء) .
واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: في كيفية قسمة الشقص - الذي ثبتت له فيه الشفعة، ثم مات بين ورثته - قولان:
أحدهما: على قدر فروضهم.

(7/161)


والثاني: على عدد الرؤوس، فيكون ما نقله المزني هاهنا هو أحد القولين: (أنها تقسم على عدد الرؤوس) .
وقال أكثر أصحابنا: يقسم الشقص بين الورثة على قدر فروضهم، قولا واحدا؛ لأنهم لم يستحقوا الشفعة بالملك، وإنما استحقوها بالإرث عن الميت، وهم متفاضلون في الميراث عنه، وما نقله المزني لا يعرف.
ومنهم من تأول ما نقله المزني، فقال: قوله: (على العدد) بمعنى: أن الجماعة يستحقون ذلك، وقوله: (سواء) أراد: في أصل الاستحقاق.

[فرع: عفو أحد الورثة عن حقه بالشفعة]
فإن ثبتت له الشفعة في شقص، ثم مات وخلف ابنين، فعفا أحدهما عن حقه من الشفعة.. ففيه وجهان:
أحدهما: تسقط الشفعة في الشقص؛ لأنهما يقومان مقام أبيهما، فلو عفا أبوهما عن بعض الشقص.. أسقطت الشفعة في جميع الشقص، فكذلك إذا عفا من يقوم مقامه.
والثاني: تسقط شفعة العافي، ويكون لأخيه أن يأخذ جميع الشقص؛ لأنها شفعة ثبتت لاثنين، فإذا عفا أحدهما عن حقه.. ثبتت الشفعة للآخر في جميع الشقص، كالشريكين، ويفارق الموروث، فإنها تثبت لواحد، فإذا عفا عن بعضها.. سقط الجميع.

[فرع: عفو أحد الشفيعين عن حقه]
إذا كان للشقص شفيعان، فعفا أحدهما عن حقه منها، ثم مات الآخر قبل أن يتمكن من الأخذ، والعافي وارثه.. قال ابن الحداد: فللعافي أن يأخذ جميع الشقص؛ لأنه وإن عفا أول مرة، فإنما يأخذ الآن الشقص من وجه غير الوجه الذي عفا عنه، وهو بإرثه عن شريكه.

(7/162)


فهو كما لو قتل رجل أباه عمدا، فعفي عنه، وقد كان قتل هذا القاتل ابن أخ العافي، فمات أب المقتول، والعافي وارثه.
وكما لو كان لمورثهما على رجل دين، فأقاما شاهدا واحدا، فنكل أحدهما عن اليمين، ومات الآخر، وهذا وارثه.. كان للوارث أن يحلف مع الشاهد، ويستحق نصيب أخيه دون نصيب نفسه؛ لأنه أبطل حقه بنكوله، بخلاف الشفعة؛ لأنها لا تتبعض، والدين يتبعض.

[مسألة: باع ثلاثة حصتهم من دار وبقي الرابع]
إذا كانت الدار بين أربعة أنفس، لكل واحد منهم ربعها، فباع ثلاثة منهم أملاكهم من ثلاثة أنفس، كل واحد باع ملكه إلى واحد بعقد في وقت واحد.. فللشفيع - وهو الشريك الرابع الذي لم يبع - أن يأخذ أيضا من شركائه كلهم بالشفعة، وله أن يأخذ بعضها دون بعض؛ لأنه لا شفيع هاهنا غيره، فإن عفا عن البعض، وأخذ البعض.. فليس لمن عفا عنه أن يشاركه فيما يأخذ؛ لأن المشترين ملكوا في وقت واحد.
وإن باع أحدهم نصيبه من رجل، ثم باع آخر نصيبه من ذلك الرجل، ثم باع ثالث نصيبه من ذلك الرجل.. قال الشيخ أبو حامد: فللشريك الرابع الذي لم يبع أن يأخذ من المشتري جميع الأنصباء؛ لأنه لا شفيع سواه، وله أن يأخذ البعض دون البعض، فإن اختار أخذ الكل دفعة واحدة.. فلا كلام، وإن أخذ الأول، ولم يعلم بالثاني، ثم علم به، وأخذه.. جاز، ولم يشاركه المشتري بالأول؛ لأن ملكه الذي يستحق به الشفعة قد زال بأخذ الشريك له، وليس له مشاركته بالثالث؛ لأن ملكه تجدد عليه بعد ثبوت الشفعة في الثاني.

(7/163)


وهكذا: إن أخذ الأول والثاني دفعة، ولم يعلم بالثالث، ثم علم بالثالث، وأخذه.. لم يشاركه المشتري بالثالث لأجل ملكه الأول والثاني؛ لأن ملكه قد زال عنهما.
وإن عفا عن الأول، وأخذ الثاني.. قال أبو العباس: فللمشتري أن يقاسم الشفيع بالربع الثاني، فيكون بينهما نصفين؛ لأجل بالربع الأول.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على: أن ما حكاه أصحابنا عن أبي العباس - أنه قال: إذا كان المشتري شريكا.. لا يقاسمه الشفيع -: أنه لا أصل له.
وهكذا: إن عفا عن الأول والثالث، وأخذ الثاني؛ لأن ملكه على الثالث تجدد بعد ثبوت الشفعة في الثاني.
وإن عفا عن الأول والثاني، وأخذ الثالث.. فإن المشتري يقاسمه في الثالث؛ لأجل ملكه للأول والثاني. فإن قلنا: إن الشفعة تقسم على عدد الرؤوس.. اقتسم الثالث نصفين وإن قلنا إنها تقسم على قدر الأملاك.. كان للمشتري ثلث الربع الثالث، وللشفيع ثلثاه.

[مسألة: ادعاء أحد الشريكين الشفعة]
إذا كانت دار بين شريكين، فادعى أحدهما على شريكه: أنه ابتاع نصيبه بثمن معلوم بعد أن ملك هو نصيبه، وأنه يستحق أخذه بالشفعة، وأنكر المدعى عليه، بأن قال: ما ابتعته، وإنما اتهبته، أو ورثته، أو اشتريته، ولا يستحق على الشفعة.. فإن أقام المدعي بينة بما ادعاه.. ثبتت له الشفعة، وإن لم يكن معه بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» . وكيف يحلف؟ ينظر فيه:
فإن أجاب بأنه لا يستحق عليه الشفعة.. فإنه يحلف إنه لا يستحق عليه الشفعة

(7/164)


ولا يكلف أن يحلف: أنه ما ابتاع؛ لأنه قد يبتاع ويستحق شريكه الشفعة، ثم يعفو ويسقط حقه، فإذا حلفناه: أنه ما ابتاع.. ظلمناه، وقد تقدم البينة على عفو الشريك.
وإن أجاب بأنه ما ابتاع.. فهل يجب عليه أن يحلف: أنه ما ابتاع، أو يجوز له أن يحلف: أنه لا يستحق عليه الشفعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز له أن يحلفه: أنه لا يستحق عليه الشفعة؛ لأنه لو أجاب بذلك لكفاه، فكذلك في اليمين.
والثاني: يجب عليه أن يحلف: أنه ما ابتاع؛ لأنه لما أجاب بذلك.. علمنا أنه يمكنه الحلف عليه.
فإن حلف المدعى عليه.. لم تثبت الشفعة للمدعي، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين.. حلف المدعي، واستحق الأخذ بالشفعة، وفي الثمن ثلاثة أوجه:
أحدها: يقال للمدعى عليه: قد أقر لك بالثمن، فإما أن تأخذه منه، أو تبرئه منه، كما قال الشافعي في (المكاتب) : (إذا حمل إلى سيده نجما، فقال السيد: هو مغصوب.. فإن الحاكم يقول له: إما أن تأخذه، وإما أن تبرئه منه) .
والوجه الثاني: أن الثمن يقر في يد المدعي؛ لأنه أقر به لمن لا يدعيه، كمن أقر لرجل بدار لا يدعيها.
والثالث: أن الحاكم يأخذ الثمن ويحفظه إلى أن يدعيه واحد منهما؛ لأن من هو بيده.. نفى أن يكون ملكا له، ومن أقر له به.. لا يدعيه، فيحفظه الحاكم إلى أن يدعيه أحدهما.
فإن قال المدعى عليه: اشتريته لفلان.. نظرت:
فإن كان المقر له حاضرا.. سئل، فإن صدقه.. كان الشراء له، والشفعة عليه، وإن كذبه.. قال ابن الصباغ: كان الشراء للذي اشتراه، وأخذ منه بالشفعة.

(7/165)


وإن كان المقر له غائبا.. أخذه الحاكم من المقر، ودفعه إلى الشفيع، وكان القادم على حجته إذا قدم؛ لأنا إذا وقفنا الأمر بالشفعة إلى حضور المقر له.. كان في ذلك إسقاط الشفعة؛ لأن كل مشتر يمكنه أن يدعي: أنه اشتراه لغائب.
وإن قال: اشتريته لابني الصغير، أو لطفل له عليه ولاية.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا تثب الشفعة؛ لأن الملك يثبت للطفل، ولا تثبت الشفعة بإقرار الولي؛ لأن في ذلك إيجاب حق في مال الصغير بإقرار الولي.
والثاني: تثبت الشفعة؛ لأنه يملك الشراء له، فصح إقراره فيه، كما يصح في حق نفسه.
وإن قال المدعى عليه: هذا الشقص لفلان الغائب، أو لفلان الصغير.. قال ابن الصباغ: لم يكن للشفيع الشفعة إلى أن يقدم الغائب، ويبلغ الصغير، فيطالبهما بذلك، ولا يسأل عن سبب ملك الغائب والصغير؛ لأن إقراره بعد ذلك إقرار في ملك الغير، فلم يقبل، ويخالف إذا أقر بالشراء لهما ابتداء؛ لأن الملك يثبت لهما بذلك الإقرار، فيثبت جميعه.
فإن قال المدعى عليه للمدعي: ليس لك ملك في الدار.. فعلى مدعي الشفعة أن يقيم البينة: أنه يملك شقصا في الدار، وبه قال أبو حنيفة، ومحمد.
وقال أبو يوسف: إذا كان في يده شيء من الدار.. استحق به الشفعة؛ لأن الظاهر مما في يده أنه ملكه.
دليلنا: أن الملك لا يثبت بمجرد اليد، وإذا لم يثبت الملك المستحق به الشفعة.. لم تثبت الشفعة، فإن أراد المدعي: أن يحلف المدعى عليه: أنه لا يعلم له شركة في الدار.. كان على المدعى عليه أن يحلف: أنه لا يعلم أن له ملكا في الدار؛ لجواز أن يخاف من اليمين، فيقر، وإن نكل عن اليمين.. حلف المدعي: أن له ملكا في الدار، وثبتت شفعته.

(7/166)


[فرع: ادعاء أحد الشريكين ابتياع نصيب الغائب المودع]
وإن كانت دار في يد رجلين، نصفها ملك لأحدهما، ونصفها الآخر لغائب، وهو في يد الآخر وديعة، فادعى المالك على المودع: أنه ابتاع النصف من الذي أودعه إياه، وأنه يستحق أخذه بالشفعة، وقال المدعى عليه: ما ابتعته، وإنما هو وديعة، فإن لم يكن للمدعي بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، وإن كان مع المدعي بينة، فأقامها.. ثبتت الشفعة.
وإن أقام كل واحد منهما بينة بما ذكره.. قال المزني: قضيت له بالشفعة؛ لأن الإيداع لا ينافي البيع؛ لأنه يمكن أن يكون أودعه أولا، ثم ابتاعه منه.
فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه إنما يمكن إذا كانت البينتان مطلقتين، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة، أو كانتا مؤرختين وبينة الوديعة متقدمة، فأما إذا كانتا مؤرختين وتاريخ البيع سابق.. كان متنافيا.
قال أصحابنا: لا تتنافيان أيضا؛ لجواز أن يكون البائع غصبها بعد البيع، ثم ردها بلفظ الإيداع، أو ردها مطلقا، فظن الشاهدان أنها وديعة.
قال الشيخ أبو حامد: ويحتمل أن يكون البائع أمسك الشقص على استيفاء الثمن، ثم أودعه المشتري، فصح إيداعه، ولا يكون ذلك إقباضا عن البيع، ألا ترى أنه لو تلف كان من ضمان البائع؟
قال المزني في (الجامع الكبير) : ولو أقام الشفيع البينة بالشراء، وأقام من بيده الشقص البينة: أنه ورثها.. تعارضت البينتان؛ لأن الشراء ينافي الميراث، فتكون على قولين:
أحدهما: تسقطان.
والثاني: تستعملان، على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال أبو العباس: فإن شهدت بينة الإيداع: أنه أودعه ما هو يملكه، وبينة الشراء مطلقة.. كانت بينة الإيداع أولى؛ لأنها صرحت بالملك، ويراسل الغائب، فإن

(7/167)


قال: هي وديعة.. بطلت بينة الشراء بالملك، وإن قال: لا ملك لي فيها.. قضي ببينة الشراء.
قال ابن الصباغ: وهذا ينبغي إذا كانت بينة الإيداع متأخرة، فإن صرحت بينة الشراء بالملك، وأطلقت بينة الإيداع.. فبينة الشراء أولى.

[فرع: ادعاء الوكيل شراء شقص موكله]
إذا كانت الدار بين اثنين، وأحدهما غائب، ونصيبه في يد وكيله، فقال الوكيل: قد اشتريته منه.. فهل للحاضر أخذه منه بالشفعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن إقرار الوكيل لا يقبل في حق موكله، فيكتب الحاكم إلى البلد الذي فيه الموكل، فيسأله عن ذلك.
والثاني: له أخذه بالشفعة، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه أقر بحق له مما في يده، ويذكر الحاكم ذلك في السجل، وينتظر الغائب، فإن قدم وصدقه.. فلا كلام، وإن أنكر، فإن قامت عليه بينة.. بطل إنكاره، وإن لم تقم عليه بينة.. حلف: أنه ما باعه، ويرد عليه النصيب، وأجرة مثله، وأرش نقص إن حدث به، وله أن يرجع به على الوكيل، أو على الشفيع.
فإن رجع على الشفيع.. لم يرجع به الشفيع على الوكيل؛ لأن التلف حصل بيده، وفيه وجه آخر: أنه يرجع عليه؛ لأنه غره. وإن رجع على الوكيل.. رجع به الوكيل على الشفيع.

[مسألة: ادعاء كل من الشريكين ابتياع نصيب شريكه]
إذا كانت دار بين رجلين، فادعى كل واحد منهما على شريكه: أنه ابتاع حصته، وأنه يستحق عليه أخذه بالشفعة.. رجع إلى أيهما سبق ملكه إليهما، متى ملكا

(7/168)


فإن قالا: ملكناها في وقت واحد.. قلنا: لا شفعة لأحدكما على الآخر؛ لأن الشفعة تثبت بملك سابق، وإن قالا: ملكناها في وقتين، وادعى كل واحد منهما: أن ملكه هو السابق.. فلا يخلو: إما أن يكون مع أحدهما بينة دون الآخر، أو مع كل واحد منهما بينة، أو لا بينة مع أحدهما.
فإن كان مع أحدهما بينة تشهد له بأن ملكه سابق، وأن الآخر ملكه متأخر، ولم يكن مع الآخر بينة.. قضي بالشفعة للذي شهدت له البينة: أن ملكه سابق.
وإن كان مع كل واحد منهما بينة.. فإن كانتا مؤرختين تأريخا واحدا، مثل: أن تشهد بينة كل واحد منهما: أنه اشترى نصيبه في وقت معين من يوم معلوم.. لم يستحق أحدهما على الآخر شفعة؛ لأن الشفعة تستحق بالملك السابق، ولم يثبت أن ملك أحدهما سابق. وإن شهدت بينه أحدهما: أنه اشترى نصيبه في رمضان، وشهدت بينة الآخر: أنه اشترى نصيبه في شوال ثبتت الشفعة للمشتري في رمضان في الشقص المشترى في شوال. وإن كانت بينة أحدهما مطلقة، والأخرى مؤرخة.. فهو كما لو لم تكن بينة. وإن كانتا متعارضتين، مثل: أن شهدت بينة كل واحد منهما، بأن ملكه سابق لملك الآخر.. ففيهما قولان:
أحدهما: تتعارضان وتسقطان، ويصير كما لو لم يكن لأحدهما بينة.
والثاني: تستعملان، وفي الاستعمال ثلاثة أقوال:
أحدها: يقرع بينهما. فعلى هذا: من خرجت له القرعة.. ثبتت له الشفعة.
والثاني: يوقفان، فتوقف الشفعة هاهنا على ما يبين.
والثالث: يقسم بينهما، فإن كان نصيباهما متساويين.. فلا فائدة في القسمة، وإن كانا مختلفين، مثل: أن كان لأحدهما الثلث، وللآخر الثلثان.. قسمت الدار بينهما نصفين.

(7/169)


وإن لم تكن لأحدهما بينة، فإن ترافعا إلى الحاكم، وسبق أحدهما بالدعوى.. لزم المدعى عليه الإجابة، فإذا أنكره.. فالقول قول المنكر مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على المنكر» .
وإن قال المدعى عليه قبل إجابته عن دعوى المدعي: أنا استحق عليك الشفعة.. قيل له: قد سبقك بالدعوى، فأجب أولا عن دعواه، ثم ادع عليه إن شئت، فإن حلف المدعى عليه، ثم ادعى على المدعي: أنه يستحق أخذ نصيبه بالشفعة.. فتجاب دعواه، ثم القول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لما ذكرناه. وإن أقر المدعى عليه أولا بالشفعة للمدعي، أو نكل المدعى عليه عن اليمين، وحلف المدعي الأول.. ثبتت له الشفعة في نصيب المدعى عليه، فإن أخذه بالشفعة، ثم أراد المدعى عليه أولا أن يدعي على المدعي: أنه يستحق أخذ نصيبه بالشفعة.. لم تصح دعواه؛ لأنه لم يبق له ملك يستحق به الشفعة.

[مسألة: اختلاف الشفيع والمشتري في الثمن]
] : وإن اختلف الشفيع والمشتري في الثمن، فقال المشتري: اشتريته بألف، وقال الشفيع: بل اشتريته بخمسمائة، فإن كان مع أحدهما بينة.. قضي له بها، ولم يسمع قول الآخر، ويقبل في ذلك شهادة رجلين، وشهادة رجل وامرأتين، وشهادة رجل ويمين المدعي؛ لأنها بينة على المال، ولا تقبل في ذلك شهادة البائع؛ لأنه إن شهد للمشتري.. لم يقبل؛ لأنه يشهد في حق نفسه، ولأنه يريد إثبات الثمن لنفسه، وإن شهد للشفيع.. لم يقبل؛ لأنه يثبت لنفسه منفعة؛ لأنه ينقض بذلك الدرك عن نفسه إن خرج الشقص مستحقا. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ] : إذا شهد البائع للشفيع، فإن كان قبل قبض الثمن.. قبلت شهادته، وإن كان بعد قبض الثمن.. لم تقبل.

(7/170)


وإن أقام كل واحد منهما بينة بما ذكره.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني -: أن بينة المشتري تقدم، كما تقدم بينة الداخل على بينة الخارج.
والثاني - وهو قول القاضي أبي حامد، واختيار ابن الصباغ -: أنهما يتعارضان؛ لأن بينة الداخل إنما تقدم إذا تنازعا اليد، وهاهنا تنازعا فيما وقع عليه العقد، ولا مزية لإحداهما على الأخرى، فتعارضتا.
قال: فعلى هذا: تسقطان ويصيران كما لو لم يكن مع واحد منهما بينة.
قال: ومن أصحابنا من قال: يقرع بينهما، وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه قولان، يأتي ذكرهما في موضعهما.
وإن لم يكن مع أحدهما بينة.. فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن هذا اختلاف في قوله، وهو أعلم به، ولأن الملك قد ثبت له، والشفيع يريد انتزاعه منه، فلم ينتزع منه إلا بما يقر به.

[فرع: اختلفا في قيمة الشقص فيحلف]
فإن قال المشتري: اشتريت الشقص بألف، فقال الشفيع: لا أعلم هل اشتريته بألف، أو أقل.. فهل للشفيع أن يحلف المشتري؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له أن يحلفه حتى يصرح: أنه أقل من ألف؛ لأن اليمين لا تجب بالشك.
والثاني: له أن يحلفه؛ لأن المشتري لا يملك ما ادعاه بمجرد الدعوى.
فإن قال المشتري: اشتريته بألف، فقال الشفيع: لم تشتره بألف، وإنما اشتريته بدون الألف.. فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه أعلم بالعقد، فإن نكل عن اليمين، وردت اليمين على الشفيع.. لم يحلف حتى يتبين قدر الثمن.

(7/171)


[فرع: قبول قول مشتري الشقص مع يمينه]
] : وإن طالب الشفيع بالشفعة، فقال المشتري: لا أعلم قدر الثمن الذي اشتريت به، وادعى الشفيع: أنه يعرفه.. قال الشافعي: (فالقول قول المشتري مع يمينه، فإذا حلف.. سقطت الشفعة) . وبه قال عامة أصحابنا.
وقال أبو العباس: يقال للمشتري: إما أن تذكر قدر الثمن، وإلا.. جعلناك ناكلا، ورددنا اليمين على الشفيع؛ ليحلف على مبلغ الثمن، ويستحق أخذ الشقص بما حلف عليه، كما لو ادعى رجل على رجل ألف درهم، فقال المدعى عليه: لا أدري قدر ما لك علي.. فإنه يقال له: إما أن تبين قدر ما له عليك، وإلا جعلناك ناكلا، ورددنا اليمين على المدعي، فحلف واستحق. وهذا ليس بصحيح؛ لأن المشتري قد يكون صادقا بأن يشتري بثمن معلوم، وينسى قدره، وقد يشتري بثمن جزاف، فيكون البيع صحيحا، فإذا حلف المشتري.. كان الثمن مجهولا في حق الشفيع، ولم يصح أخذه للشفعة به. ويخالف ما ذكره أبو العباس؛ لأن هناك لم يجب عن الدعوى؛ فلذلك أمرناه بالإجابة عنها، وإلا.. جعلناه ناكلا. وهاهنا قد أجاب المشتري عن الدعوى؛ لأن الشفيع ادعى الشراء، وأنه يستحق أخذه بالشفعة، وقد أقر له المشتري بذلك، إلا أنه ادعى الجهالة بقدر الثمن، وقد يمكن صدقه.
وإذا لم يعلم قدر الثمن لم تثبت له الشفعة. فوازنه من هذه المسألة: أن يقول المشتري: لا أعرف أني اشتريت الشقص، أو لا أعرف أن لك الشفعة.. فيقال له هاهنا: أجب عن الدعوى، وإلا.. جعلناك ناكلا.

(7/172)


[فرع: اختلفا في قيمة العرض بدل الشقص]
وإن اشترى الشقص بعرض، وتلف العرض، واختلفا في قيمته.. فالقول قول المشتري مع يمينه في قدر قيمته؛ لأن الشقص ملك له.. فلا ينتزع إلا بما يقر به.

[مسألة: قبول قول المشتري]
وإن أقر المشتري: أنه اشترى الشقص بألف، فأخذ منه الشفيع بالألف، ثم قال البائع: إنما بعته إياه بألفين.. وصادقه المشتري على ذلك، أو أنكره وأقام عليه البائع البينة بذلك.. لزم الألفان على المشتري، ولا يلزم ذلك على الشفيع.
وقال أبو حنيفة: (إذا قامت البينة بذلك.. لزم ذلك على الشفيع) .
دليلنا: أن المشتري إذا أقر: أنه اشتراه بألف.. تعلق بذلك حق الشفيع، فإذا رجع المشتري.. لم يقبل في حق الشفيع، كما لو أقر له بحق، ثم رجع عنه. وأما البينة: فلأنه تقدم إقراره بتكذيبها، ولأنه يعترف أن البينة ظلمته، فلا يرجع على غير من ظلمه.

[فرع: قبول قول البينة والشهادة على عفو الشفعة]
وإن ادعى المشتري على الشفيع: أنه عفا عن الشفعة، وأنكر الشفيع، فإن كان هناك بينة.. حكم بها، ويقبل في ذلك شهادة رجلين، ورجل وامرأتين، ورجل ويمين؛ لأن المقصود به المال، وإن لم تكن بينة.. فالقول قول الشفيع مع يمينه؛ لأن الأصل عدم العفو.
فإن شهد عليه البائع بالعفو.. فحكى ابن الصباغ عن ابن القفال: أنه قال: إن شهد بذلك قبل قبض الثمن من المشتري.. لم تقبل شهادته؛ لأنه يجر بهذه الشهادة

(7/173)


إلى نفسه نفعا، وهو أن يفلس المشتري، فيرجع الشقص إليه، وإن كان بعد أن قبض الثمن من المشتري.. قبلت شهادته؛ لأنه لا يجر بها إلى نفسه نفعا، ولا يدفع بها ضررا.
وإن شهد السيد على مكاتبه بالعفو عن الشفعة.. قبلت شهادته؛ لأن ذلك شهادة عليه. وإن شهد بالشراء فيما لمكاتبه فيه الشفعة.. قال القاضي أبو الطيب في (المجرد) : قبلت شهادته.

[فرع: قبول شهادة بعض الشركاء لأجنبي بعفو شريكهم عن الشفعة]
وإن كانت دار بين أربعة، فباع أحدهم نصيبه من أجنبي، فادعى المشتري على أحدهم: أنه عفا عن الشفعة، وشهد عليه شريكاه بالعفو، فإن كانا قد عفوا عن الشفعة.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما لا يجران بها إلى أنفسهما نفعا، ولا يدفعان عن أنفسهما بها ضررا، وإن كانا لم يعفوا.. لم تقبل شهادتهما؛ لأنهما يجران إلى أنفسهما استحقاق جميع الشقص.

[فرع: القول قول ورثة المشتري مع أيمانهما]
ذكر ابن الحداد: إذا ثبتت له الشفعة في شقص، فمات قبل أن يتمكن من الأخذ، وله وارثان، فادعى المشتري: أنهما قد عفوا عن الشفعة، ولا بينة له.. فالقول قولهما مع أيمانهما، فإن حلفا.. سقطت دعوى المشتري، وأخذا الشقص بالشفعة. وإن نكلا عن اليمين.. حلف المشتري، وسقطت شفعتهما. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر.. لم يحلف المشتري مع نكول الناكل منهما؛ لأنه لا يستفيد بيمينه شيئا؛ لأنه إذا ثبت بيمينه عفو الناكل.. أخذ الحالف جميع الشقص، فلا معنى ليمين المشتري.
فعلى هذا: يرجع إلى الشريك الحالف، فإن صدق شريكه أنه لم يعف.. كانت الشفعة بينهما. وإن ادعى أن شريكه قد عفا.. حلف يمينا بالله: أن شريكه قد عفا، وأخذ جميع الشقص، وإن لم يحلف الشريك الحالف على عفو شريكه.. كان الناكل

(7/174)


على حقه من الشفعة؛ لأن الشفعة قد ثبتت له، ولا يثبت عفوه إلا ببينة، أو إقرار منه، أو بيمين المدعي مع نكول الشفيع، فإذا لم يوجد شيء من ذلك.. كان على حقه من الشفعة، كما لو ادعى على رجل مالا، فاعترف به المدعى عليه، وادعى على المقر له: أنه أبرأه منه.. فالقول قول المقر له مع يمينه: أنه لم يبرئه، فإن حلف.. ثبت الحق، ولم تثبت البراءة، وإن نكل المقر له عن اليمين ردت اليمين على المقر المدعي للبراءة فإن حلف ثبتت البراءة وإن لم يحلف.. وجب عليه ما أقر به فكذلك هاهنا مثله.

[مسألة: ثبوت حق الشفعة بالبينة واليمين]
إذا كانت دار بين رجلين، فادعى أحدهما: أنه باع نصيبه من زيد ولم يقبض منه الثمن، وصدقه شريكه، وأنكر زيد الشراء، فإن كان مع البائع بينة بالبيع.. وجب على زيد تسليم الثمن، وأخذ الشفيع الشقص منه بالشفعة. وإن لم يكن مع البائع بينة.. فالقول قول زيد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الشراء، وهل تثبت للشريك الشفعة؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال المزني، وأكثر أصحابنا: تثبت له الشفعة. وهو قول أبي حنيفة، وأحمد.
ومن أصحابنا من قال: لا تثبت له الشفعة. وحكي ذلك عن أبي العباس، وهو قول مالك.
ووجهه: أن الشفعة فرع على البيع، فإذا لم يثبت البيع.. لم تثبت الشفعة.
والأول أصح؛ لأن البائع أقر للمشتري بالشراء، وللشفيع بالشفعة، فإذا بطل حق المشتري برده.. لم يبطل حق الشفيع، كما لو أقر لاثنين بحق، فكذبه أحدهم، وصدقه الآخر.
فإن قلنا: لا تثبت الشفعة.. فللبائع مخاصمة المشتري، وعرض اليمين عليه، فإن حلف.. سقطت الدعوى، وإن نكل.. حلف البائع. قال ابن الصباغ: ويثبت البيع والشفعة.

(7/175)


وإن قلنا: تثبت الشفعة.. نظر في البائع: فإن رضي بتسليم الشقص إلى الشفيع، وأخذ الثمن منه.. جاز، وكانت العهدة للشفيع في الشقص على البائع؛ لأنه منه أخذه، وإليه دفع الثمن.
وإن اختار البائع أن يطالب المشتري بقبض المبيع، وتسليم الثمن.. فهل له ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه يحصل له الثمن من الشفيع، فلا معنى لمخاصمته للمشتري.
فعلى هذا: يسلم الشقص إلى الشفيع، ويؤخذ منه الثمن، وتكون العهدة للشفيع على البائع.
فإن قيل: أليس لو ادعى على رجل دينا، فقال له رجل: أنا أدفع إليك الدين الذي تدعيه عليه، ولا تخاصمه، لم يلزمه قبوله؟ فلما الفرق على هذا؟
قال ابن الصباغ: فالفرق بينهما: أن عليه منة في قبول الدين من غير من هو عليه، بخلاف هذا.
والوجه الثاني: أن للبائع مخاصمة المشتري؛ لأنه قد يكون المشتري أسهل في المعاملة عند الرجوع بالعهدة.
فعلى هذا: لو حلف المشتري.. سقطت دعوى البائع عنه، ودفع الشقص إلى الشفيع، وأخذ منه الثمن، وكانت العهدة عليه للشفيع. وإن نكل المشتري عن اليمين.. حلف البائع: لقد باعه إياه، وثبت الشراء والشفعة، ولزم المشتري تسليم الثمن إلى البائع، وكانت العهدة للمشتري على البائع، والعهدة للشفيع على المشتري.
فإن كانت بحالها، فادعى البائع: أنه باع منه نصيبه، وقبض منه الثمن، وأنكر المشتري ذلك، وصدق الشفيع البائع.. فهل تثبت الشفعة هاهنا؟

(7/176)


من قال من أصحابنا في المسألة قبلها: لا تثبت الشفعة.. فهاهنا أولى أن لا تثبت.
ومن قال منهم في التي قبلها: تثبت الشفعة.. اختلفوا في هذه:
فذهب أكثرهم إلى: أن الشفعة لا تثبت هاهنا؛ لأنا لو قلنا: إنها تثبت.. لأدى إلى أن يأخذها الشفيع بغير عوض؛ لأنه لا يمكن دفع الثمن إلى المشتري؛ لأنه ينكر الشراء، ولا إلى البائع؛ لأنه قد أقر بالاستيفاء، فلم يبق إلا القول بأن الشفعة لا تثبت.
ومنهم من قال: تثبت الشفعة هاهنا؛ للمعنى الذي ذكرناه في المسألة قبلها.
فإذا قلنا بهذا: فما الذي يصنع بالثمن؟ فيه ثلاثة أوجه، مضى ذكرها:
أحدها: يقال للمشتري: إما أن تأخذه، وإما أن تبرئ منه.
والثاني: يقبضه الحاكم، ويحفظه إلى أن يدعيه أحدهما.
والثالث: يترك في ذمة الشفيع.

[مسألة: في بيان ما يمنع الشفيع من أخذ الشقص بالشفعة]
وذلك في مواضع:
أحدها: أن يشتري رجل من رجل شقصا يساوي مائة بألف، ثم يأخذ البائع من المشتري عوضا يساوي مائة، فربما لا يرضى الشفيع أن يأخذ شقصا يساوي مائة بألف، إلا أن الغرر هاهنا على المشتري.
الموضع الثاني: أن يشتري بائع الشقص ممن يريد أن يبيع منه الشقص جارية تساوي مائة بألف، ثم يعطيه عن الألف الشقص، وهو يساوي مائة، فإن أراد الشفيع أن يشفع.. لزمه الألف، إلا أن الغرر هاهنا على بائع الشقص.

(7/177)


الموضع الثالث: أن يشتري منه شقصا يساوي مائة بألف، فيقبض منه مائة ويتفرقا، ويبرئه عن تسعمائة، وفي هذا غرر على المشتري.
الموضوع الرابع: إذا كان الشقص يساوي مائة، بأن يهب منه مالك الشقص نصفه، ويقبضه إياه، ثم يبيعه نصفه بمائة، فإن اختار الشفيع الشفعة.. أخذ نصف الشقص بمائة، وشاركه الموهوب أيضا بما وقعت فيه الهبة.
الموضع الخامس: أن يهب منه الشقص، ويهب منه الثمن.
الموضع السادس أن يشتريه بثمن جزاف شاهده، بأن يشتريه بملء كفيه دارهم، ولا يعلم عددها، فالبيع صحيح. فإذا طالبه الشفيع بالشفعة.. حلف المشتري: أنه لا يعلم قدر الثمن، ولم تثبت الشفعة على قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وبالله التوفيق

(7/178)