البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب القراض]

(7/179)


كتاب القراض القراض والمضاربة: اسمان لمعنى واحد، وهو أن يدفع ماله إلى رجل ليتجر به، ويكون الربح بينهما على ما يشترطانه، ورأس المال لرب المال، وأهل الحجاز يسمون هذا العقد: قراضا. واختلف في اشتقاقه:
فقيل: إنه مشتق من القرض، وهو القطع، يقال: قرضت الطريق، أي: قطعتها، وقرض الفأر الثوب، أي: قطعه، فكأن رب المال اقتطع للعامل قطعة من ماله، أو قطع له قطعة من الربح.

(7/181)


وقيل: إنه مشتق من المساواة، ويقال: تقارض الشاعران: إذا ساوى كل واحد منهما الآخر بشعره في المدح أو الذم.
وحكي عن أبي الدرداء: أنه قال: (قارض الناس ما قارضوك، فإن تركتهم لم يتركوك) . يريد: ساوهم.
فالمتقارضان متساويان؛ لأن أحدهما يبذل المال، والآخر يتصرف فيه، ويحتمل أن يكون ذلك لاشتراكهما في الربح. فالمقارض - بكسر الراء -: هو رب المال، و - بفتحها -: هو العامل.
وأما المضاربة: فاشتقاقها من الضرب بالمال، أو التقليب، وقيل: هو من ضرب كل واحد منهما في الربح بسهم، فالمضارب - بكسر الراء -: هو العامل؛ لأنه هو الذي يضرب في المال، ولم يشتق لرب المال منه اسم.
إذا ثبت هذا: فالقراض جائز، والأصل فيه: إجماع الصحابة، روي ذلك عن

(7/182)


عثمان، وعلي، وابن مسعود، وحكيم بن حزام.
وروى الشافعي: (أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب خرجا في جيش إلى العراق، فتسلفا من أبي موسى الأشعري - وهو عامل لعمر - مالا، فابتاعا به متاعا، وقدما به المدينة، فباعاه وربحا، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أكل الجيش أسلف كما أسلفكما؟ قالا: لا. فقال عمر: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه. فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله، وقال: يا أمير المؤمنين، لو هلك المال.. ضمناه، فلم لا يكون ربحه لنا؟ فقال رجل: يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراضا؟ فقال: قد جعلته قراضا، فأخذ منهما رأس المال، ونصف الربح) . فدل على أن القراض كان مستفيضا في الصحابة.
فإن قيل: إذا تسلفا المال من أبي موسى.. فكيف تحتجون بذلك على القراض؟

(7/183)


قلنا: موضع الحجة منه، قول الرجل لعمر: لو جعلته قراضا؟ ولم ينكر عليه عمر ولا غيره القراض.
فإن قيل: فإذا كانا قد تسلفا ذلك من أبي موسى وابتاعا به متاعا.. فقد ملكا المال وربحه.. فكيف ساغ لعمر أن يجعله قراضا، ويأخذ منهما نصف الربح؟
فتأول أصحابنا ذلك ثلاث تأويلات:
أحدها - وهو تأويل أبي العباس -: أن أبا موسى كان قد اجتمع عنده مال لبيت المال، وأراد أن ينفذه إلى المدينة، فخاف عليه حرز الطريق، فأقرضهما ذلك المال ليكون في ذمتهما أحوط لبيت المال، وقد ملكا المال وربحه، إلا أن عمر أراد أن ينفع المسلمين، فاستدعاهما، واستطاب أنفسهما في نصف الربح. وللعامل أن يفعل كفعل أبي موسى إذا خاف على المال.
و (الثاني) : من أصحابنا من قال: كان الطريق آمنا، وإنما أقرضهما أبو موسى ليتقرب به إلى قلب عمر، فلما تصرفا في المال وربحا.. كان ذلك الربح كله ملكا للمسلمين، واستحقا أجرة المثل، وبلغت أجرتهما نصف الربح، ولهذا روي عن عمر: أنه قال: (كأني بأبي موسى وهو يقول: ابنا أمير المؤمنين) .
و (الثالث) : قال أبو إسحاق: كان أبو موسى أقرضها ذلك المال، ثم قارضهما بعد ذلك، فخلطا الربح الذي حصل منه، فاستطاب عمر أنفسهما عن نصف الربح.
والأول أصح؛ لأن الدراهم والدنانير لا يجوز إجارتهما للتجارة، فجوز عقد القراض عليهما، كالنخل لما لم يجز إجارتها لتستغل.. جاز عقد المساقاة عليها، والأرض لما جازت إجارتها لتستغل.. لم تجز عقد المخابرة عليها.

(7/184)


[مسألة: القراض في أنواع المال]
ويجوز القراض على الدراهم والدنانير، قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع لا خلاف فيه بين أهل العلم، فأما ما سواهما من الأموال مما له مثل، كالحبوب والأدهان، أو مما لا مثل له، كالثياب والعبيد.. فلا يجوز عقد القراض عليها، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم.
وقال الأوزاعي، وابن أبي ليلي: (يجوز القراض على ذلك كله، فإن كان المال له مثل.. رد العامل مثله، وإن لم يكن له مثل.. رد قيمته) .
دليلنا: أن القراض موضوع على أن يأخذ رب المال رأس المال، ويشتركا في الربح، ولا يشارك العامل رب المال في رأس المال، ولا يستبد رب المال برأس المال والربح، والقراض على العروض يفضي إلى ذلك؛ لأنه إذا قارضه على ما له مثل، كأن يقارضه على كر طعام يساوي مائة درهم، فقد يتصرف فيه، فيبلغ المال ألفا، فإذا تفاضلا.. فقد يغلو الطعام، فلا يؤخذ الكر إلا بالألف، فيستبد رب المال في جميع الربح، وقد تكون قيمة الكر يوم القراض ألفا، فيبيعه العامل بألف، ولا يتصرف فيه، ثم يتفاضلان، وقد رخص الطعام، فصار الكر بمائة، فيشتري له العامل الكر بمائة، ويشاركه بتسعمائة، وهى من رأس المال.
وإن قارضه على ما لا مثل له، وتفاضلا.. احتاج أن يرد قيمته، فإن شرطا أن ترد قيمته يوم المفاضلة.. كان باطلا من وجهين:
أحدهما: أن قيمته يومئذ مجهولة، والقراض على المجهول لا يجوز.
والثاني: أنه يفضي إلى الفساد الذي ذكرناه في ذوات الأمثال.
وإن اشترطا أن ترد قيمته يوم القراض.. أفضى أيضا إلى الفساد؛ لأنه قد يدفعه وقيمته مائة، فيتركه في يده، فتزيد قيمته، فتبلغ ألفا، ثم يبيع، ويتفاضلان، فيدفع إليه مائة، ويشاركه العامل بالباقي، ويشاركه برأس المال. وقد يدفعه وقيمته ألف،

(7/185)


فيبقى ذلك في يده، فتنقص قيمته، فتصير مائة، ثم يتصرف ويبيع، فيبلغ المال ألفا، فإذا تفاضلا. احتاج أن يدفع إليه جميع ذلك، فيستبد رب المال بالربح، وما نافى العقد.. أبطله، بخلاف الدراهم والدنانير، فإنهما وإن كانت قيمتهما تزيد وتنقص، إلا أنهما لا يقومان بغيرهما. هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ق\ 320] : هل يصح القراض على ذوات الأمثال؟ فيه وجهان.

[فرع: صحة المضاربة بمعلوم على النصف]
قال الطبري: ولو قال: خذ ما شئت من مالي مضاربة بيننا على النصف، فأخذ الدراهم.. صح تصرفه فيه، ولا يكون قراضا، خلافا لأبي حنيفة.
دليلنا: أن العقد وقع على غير معين ولا معلوم، فهو كما لو قال: على ما ورثت من أبي، وإن أخذ شيئا من العروض، فتصرف فيها.. فهل يصح تصرفه بها؟ فيه وجهان.
قال الطبري: ولو قال: خذ هذه الألف مضاربة على النصف، فأخذه ولم يتكلم.. لم تصح المضاربة، خلافا لأبي حنيفة.
دليلنا: أنه لم يوجد من أحدهما لفظ في عقد المضاربة، وهو من أهله، كما لو لم يتكلم رب المال.

[فرع: بطلان القراض بمغشوش]
] : ولا يجوز القراض على دراهم ولا دنانير مغشوشة، سواء كان الغش أقل من الذهب والفضة أو أكثر.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الغش أكثر.. لم يصح، وإن كان أقل.. صح) .
دليلنا: أنه نقد مغشوش، فلم يصح القراض عليه، كما لو كان الغش أكثر.

(7/186)


[فرع: القراض بغير المال]
وإن قارضه على سبيكة.. لم يصح القراض، كما لا يصح القراض على العروض.
وإن قارضه على فلوس.. لم يصح القراض، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف.
وقال محمد: القياس أن لا يجوز إلا أني أجوزه استحسانا.
دليلنا: أن الفلوس ليست بنقد غالب، فلم يصح القراض عليها، كالثياب.
فإن دفع إلى رجل غزلا، وقال: انسجه على أن تبيعه، وتدفع إلي قيمة الغزل، ويكون الباقي بيننا.. لم يصح؛ لأن القراض موضوع على أن يتصرف العامل في رقبة المال وعينه، وهاهنا لم يمكنه من التصرف في رقبة المال وعينه، وإنما يتصرف في منفعته، فلم يصح، ولأنه قد تزيد قيمة الغزل وقد تنقص، فيفضي إلى الفساد الذي ذكرناه في القراض على العروض، فإن نسج العامل الغزل.. كان الثوب ملكا لصاحب الغزل، وعليه للعامل أجرة عمله؛ لأنه عمل ليسلم له المشروط، ولم يسلم له، فاستحق أجره عمله.
وإن دفع إليه شبكة، وقال: اصطد بها، وما رزق الله من صيد كان بيننا.. لم يصح القراض؛ لما ذكرناه: من أن مقتضى القراض أن يتصرف العامل في رقبة رأس المال، وإنما يتصرف هاهنا في منفعته.
فعلى هذا: إذا اصطاد العامل صيدا.. كان الصيد ملكا له؛ لأنه حصل بفعله، وعليه أجرة مثل الشبكة لمالكها؛ لأنه بذلك منفعتها بعوض، ولم يسلم له، فاستحق أجرتها.
وإن دفع إلى رجل بهيمة، وقال: أكرها، وما حصل من ذلك كان بيننا.. لم

(7/187)


يصح القراض؛ لما ذكرناه في الشبكة، فإن أكراها العامل.. كان الكراء لمالك البهيمة، وعلى مالك البهيمة أجرة مثل العامل، والفرق بين الشبكة والبهيمة: أن عمل العامل على البهيمة تابع لعمل البهيمة، فكانت الأجرة لمالكها، والعمل على الشبكة للعامل، والشبكة تبع للعامل.
فإن دفع إليه ثوبا، وقال: بعه، فإذا نض ثمنه فقد قارضتك عليه.. لم يصح القراض، وقال أبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: أنه قراض معلق على شرط، فلم يصح، ولأن ما يباع به الثوب من الثمن مجهول، والمجهول لا يصح.
وإن قال: قارضتك على الدين الذي لي على فلان، فاقبضه، وتصرف به.. لم يصح، فإن فعل الأجير ذلك.. كان له أجرة المثل؛ لأنه عمل بعوض، ولم يسلم له العوض، وأما قدر الأجرة: فقال المسعودي [في (الإبانة) ق \ 320] : ينظر فيه:
فإن قال: قارضتك عليه لتقبض وتتصرف.. فله أجرة المثل للتقاضي والقبض والتصرف.
وإن قال: إذا قبضت، فقد قارضتك.. فليس له إلا أجرة مثل التصرف.

[مسألة: يشترط في القراض معرفة قدر المال]
ولا يصح القراض إلا على مال معلوم، فإن قارضه على دراهم جزاف لا يعلمان عددها ووزنها.. لم يصح.
وقال أبو حنيفة: (يصح، فإن اتفقا على قدر رأس المال، وإلا كان القول قول العامل) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الغرر» ، وفي القراض على مال لا يعرفان قدره غرر؛ لأنه لا يدري إلى ماذا يرجع رب المال عند المفاضلة.

(7/188)


[فرع: تعيين مال القراض]
وإن قدم إليه ألف دينار ومائة درهم، وقال: قارضتك على أحدهما.. لم يصح القراض؛ لأن ذلك يمنع صحة العقد، فلم يصح، كما لو باعه أحد العبدين.
وإن دفع إليه كيسين في كل واحد منهما مائة درهم، وقال: قارضتك على أحدهما، وأودعتك الآخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنهما متساويان.
والثاني: لا يصح كما لا يصح مثل ذلك في البيع.
وإن كان عنده له دراهم وديعة، فقارضه عليها.. صح، كما لو دفع إليه مالا وقارضه عليه.
وإن كان غصب منه دراهم وقارضه عليها.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه مقبوض من تحت يده، فصح، كالوديعة.
والثاني: لا يصح؛ لأن مال الغصب مضمون عليه، ومال القراض أمانة عنده، وهما متنافيان. والأول أصح؛ لأن هذا يبطل بمن رهن الغاصب العين المغصوبة، فإذا قلنا: يصح، واشترى العامل به شيئا، وسلم المغصوب إلى البائع.. برئ من الضمان؛ لأنه سلمه بإذن مالكه.

[فرع: المقارضة في مال القاصر]
فرع: [يجوز للولي المقارضة في مال القاصر] :
يجوز لولي الطفل والمجنون، كالأب، والجد، والوصي، والحاكم الأمين من قبله، أن يقارض على مال الصغير؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة» .

(7/189)


وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قارض على مال اليتيم) ، ولأن عقد القراض يطلب به نماء المال.. فجاز للولي فعله، كالبيع.

[مسألة: شرط بيان حصة كل من العامل وصاحب رأس المال من الربح]
ولا يصح القراض إلا بشرط أن يبينا الربح؛ لأنه هو المقصود بالقراض.
فإن قارضه على مال، على أن يكون الربح بينهما نصفين.. صح ذلك؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساقى أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع» . والقراض بمعنى المساقاة، فإن قال: قارضتك على أن يكون الربح بيننا.. ففيه وجهان:
(أحدهما) : من أصحابنا من قال: لا يصح؛ لأن ذلك مجهول؛ لأنه لا يعلم هل يكون الربح بينهما أثلاثا، أو نصفين فلم يصح.
و [الثاني] : قال أبو العباس: يصح، ويكون الربح بينهما نصفين، وهو الصحيح؛ لأن الإضافة تقتضي التسوية، فهو كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو.
وإن قال: قارضتك على هذا المال، على أن لي نصف الربح، وسكت عما للعامل.. ففيه وجهان:
(أحدهما) : قال أبو العباس: لا يصح؛ لأن الربح كله لرب المال، وإنما يملك العامل شيئا منه بالشرط ولم يشرط له شيئا.
و (الثاني) : من أصحابنا من قال: يصح، ويكون الربح بينهما نصفين؛ لأن مقتضى القراض أن الربح لهما، فإذا شرط رب المال لنفسه نصف الربح.. كان الباقي للعامل.

(7/190)


والأول أصح؛ لأن المزني نقل عن الشافعي في (المساقاة) : (إذا قال: خذ هذا مساقاة، على أن لي النصف.. لم يصح) .
وإن قال رب المال: قارضتك على أن لك نصف الربح.. ففيه وجهان:
(أحدهما) : من أصحابنا من قال: لا يصح؛ لأنه لم يبين ما لنفسه.
و (الثاني) : قال أبو العباس: يصح، ويكون الربح بينهما نصفين. وهو الصحيح؛ لأن الربح كله لرب المال بحق الملك، وإنما العامل يملك شيئا منه بالشرط، فإذا شرط للعامل بعضه.. كان الباقي لرب المال.
فعلى هذا: إذا قال: قارضتك على أن لك ثلث الربح، ولي النصف، وسكت عن السدس.. كان لرب المال ثلثا المال، وللعامل ثلثه.
قال أبو العباس: وإن دفع إليه ألفا، وقال: خذ هذا قراضا على النصف، أو على الثلث، أو على غير ذلك.. صح، وكان ذلك تقديرا لنصيب العامل؛ لأن الظاهر أن الشرط له؛ لأن رب المال يستحقه بالملك، والعامل يستحقه بالشرط، فإن اختلفا، فقال العامل: شرطته لي، وقال رب المال: شرطت ذلك لنفسي.. كان القول قول رب المال مع يمينه؛ لأن الظاهر معه. وإن قال: قارضتك على أن لك شركة في الربح أو شركا فيه.. لم يصح.
وقال محمد بن الحسن: يكون له نصف الربح.
وقال أصحاب مالك: يكون له مضاربة المثل.
دليلنا: أن ذلك مجهول؛ لأن الشرك يقع على القليل والكثير، فلم يصح، كما لو قال: على أن لك سهما في الربح.

(7/191)


[فرع: تعيين مقدار الربح لكل]
] : وإن قال: قارضتك على هذا المال، على أن لك ثلث الربح، وما بقي من الربح في من الثلث، ولك الثلثان.. صح، فيكون للعامل سبعة أتساع الربح، ولرب المال تسعاه.
وإن دفع رجل إلى رجلين مالا، وقال: قارضتكما عليه، على أن يكون لي نصف الربح، ولكما النصف.. صح؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين، فهو كما لو أن رب المال عقد مع واحد القراض، على أن الربح بينهما نصفين.. لصح، ويكون نصف الربح بين العاملين نصفين؛ لأن الإضافة تقتضي التسوية.
وإن قال: قارضتكما على أن يكون لي نصف الربح، والنصف الآخر لأحدكما منه الثلث، وللآخر الثلثان.. صح، وحمل على ما شرط.
وإن دفع رجلان إلى رجل ألف درهم بينهما نصفين، وشرطا أن له نصف الربح، ولهما نصف الربح بينهما نصفين.. صح ذلك، وإن شرطا أن له نصف الربح، والنصف الآخر لأحدهما ثلثه، وللآخر ثلثاه.. لم يصح؛ لأنهما متساويان في المال، فلا يجوز شرط تفاضلهما فيما بقي لهما من الربح، وإن قالا: قارضناك على أن يكون لك نصف الربح، تستحق ثلثه من نصيب عمرو، وثلثيه من نصيب زيد، ويكون لعمرو ثلثا النصف الآخر، ولزيد ثلثه.. صح ذلك؛ لأن عمرا شرط له ثلث نصيبه، وشرط له زيد ثلثي نصيبه، فصح، وإن قالا: على أن لك نصف الربح، ثلثه من نصيب عمرو، وثلثاه من نصيب زيد، ثم يكون النصف الآخر بين زيد وعمرو نصفين.. لم يصح.
وقال أبو حنيفة، وأبو ثور: (يصح) .

(7/192)


دليلنا: أن هذا شرط ينافي مقتضى العقد؛ لأنهما شرطا أن يأخذ أحد ربي المال من نصيب الآخر من الربح بعضه.. فلم يصح، كما لو شرطا أن يكون النصف الآخر لأحدهما.

[فرع: يدفع الربح على المالين المتساويين سواء]
إذا دفع إليه ألفا، وقال: ضم إليه ألفا من عندك واعمل عليهما، على أن يكون لي ثلثا الربح ولك ثلثه، أو على أن يكون لك ثلثا الربح ولي ثلثه.. لم يصح؛ لأنه إن شرط لنفسه الأكثر.. لم يصح؛ لأنهما متساويان في المال، وذلك يقتضي تساويهما في الربح، ثم شرط عليه العمل، ونقصه من الربح.. فلم يصح وإن شرط للعامل أكثر.. فسد أيضا لأن الشركة إذا وقعت على المال.. كان الربح مقسطا على قدر المالين، والعمل تابع، والمال هاهنا غير متفاضل، فلا يجوز تفاضلهما في الربح.
فإن دفع إليه ألفين، وقال: ضم إليها ألفا من عندك، فتكون ألفان شركة بيننا، والألف الأخرى قارضتك عليها بنصف الربح.. جاز؛ لأن أكثر ما فيه أن المال الذي للقراض مشاع، وإذا لم تمنعه الإشاعة من التصرف.. صح القراض.

[فرع: قارضه بشرط أن يدفع بقدر ماله بضاعة]
قال في (الأم) [3/236] : (إذا دفع إليه ألفا قراضا على أن يعمل فيها بالنصف، وشرط عليه أن يدفع إليه ألفا أخرى بضاعة.. لم يصح القراض) ؛ لأن معنى البضاعة: أن يعمل عليها لصاحبها بغير عوض له، وهذا لا يلزمه، وإذا لم يلزم العامل ذلك.. لم يستحق العامل ما بذل له من الربح؛ لأنه لم يبذل ذلك إلا بهذا الشرط. فأما إذا قال: قارضتك على هذه الألف بالنصف، واستعملتك على أن تعمل لي على هذه الألف بضاعة.. صح القراض؛ لأنه لم يجعله شرطا.

(7/193)


[فرع: قارضه بشرط ربح نصف المال له]
قال أبو العباس: إذا قال: قارضتك على هذه الألف، على أن لك ربح نصفها.. لم يجز القراض.
وقال أبو ثور، وأبو حنيفة: (يصح) ، كما لو قال: على أن لك نصف ربحها.
والأول أصح؛ لأنه جعل للعامل ربح بعض المال، فلم يصح، كما لو دفع إليه ألفين، وقارضه عليهما، وجعل للعامل ربح أحدهما، ويخالف إذا جعل له نصف الربح، لأنه لا يؤدي إلى إفراده بربح شيء من المال، وإن قارضه على ما قارض به فلان عامله، فإن علما قدر ما شرط للعامل من الربح.. صح القراض؛ لأنهما أشارا إلى معلوم عندهما، فهو كما لو صرحا بذكره، وإن كانا لا يعلمان ذلك أو أحدهما.. كان القراض فاسدا؛ لأنه قراض على شيء مجهول بينهما.

[فرع: اشتراط ربح درهم لأحدهما]
] : إذا دفع إليه ألفا قراضا، وشرط العامل أن ينفرد بدرهم من الربح، والباقي من الربح بينهما.. لم يصح؛ لأنه قد لا يربح إلا ذلك الدرهم، ومن مقتضى القراض أن الربح بينهما، وهكذا: لو شرط أن لرب المال درهما من الربح، والباقي بينهما لم يصح؛ لما ذكرناه، وهكذا: لو شرطا على أن للعامل درهما من الربح، والباقي لرب المال.. لم يصح؛ لما ذكرناه.
وأن قارضه على أنه إذا اشترى عبدا أو دابة بصفة كذا وكذا، أخذ رب المال برأس ماله، والباقي بينهما.. لم يصح؛ لأنه قد لا يكون في المال ربح إلا ذلك الموصوف، وهكذا: لو قال: قارضتك على أن أرتفق بمال القراض، بأن يقول: إذا اشتريت دابة ركبتها، وإذا اشتريت دارا سكنتها.. لم يصح القراض؛ لأنه قد لا يكون في المال ربح إلا تلك المنفعة، فلا يجوز أن يختص بها أحدهما.

(7/194)


[مسألة: شرط الربح للعامل]
إذا دفع إليه ألفا، وقال: قارضتك على هذا، على أن يكون الربح كله لك.. قال أبو العباس: كان قراضا فاسدا، فإذا عمل العامل وربح.. كان الربح كله لرب المال؛ لأنه نماء ماله وللعامل أجرة المثال؛ لأنه عمل على عوض، ولم يسلم له، فكان له أجرة المثل، ووافقنا أبو حنيفة على هذا.
وإن قال: قارضتك على هذا، على أن يكون الربح كله لي.. قال أبو العباس: كان قراضا فاسدا، فإذا عمل العامل وربح.. كان الربح كله لرب المال، واستحق العامل أجرة مثله.
وقال أبو حنيفة: (إذا عمل العامل في هذه.. كان بضاعة، وكان الربح كله لرب المال، ولا أجرة للعامل) . وبه قال بعض أصحابنا.
ودليلنا: أن مقتضى القراض أن يكون الربح بينهما، فإذا شرطه لأحدهما.. فقد شرط ما ينافي مقتضاه، وإذا بطل العقد.. وجب للعامل أجرة المثل، كالأولى.
وإن دفع إليه ألفا، وقال: اعمل عليه والربح كله لك.. قال أبو العباس: كان ذلك قرضا؛ لأنه لم يذكر اسم القراض ولا معناه، وإن قال: اعمل عليه والربح كله لي.. قال أبو العباس: كان ذلك بضاعة، فيكون الربح كله لرب المال، ولا شيء للعامل؛ لأن هذه صفة البضاعة.
قال: والأصل في هذا: أن كل لفظة كانت موضوعة لعقد من العقود خاصة فيه، فإنها إذا أطلقت.. حلمت عليه، وإن عقبت بما ينافي ذلك العقد.. فسد العقد، وكل لفظة كانت محتملة لنوعين من العقود فأكثر، فإذا ذكرت، ثم عقبت بما يقتضيه أحد تلك العقود.. حملت على بيان ذلك العقد، وبيان هذا: أن قوله: قارضتك، لفظة موضوعة لنوع من العقود، وهو العقد الذي يشترك فيه العامل ورب المال في الربح، فإذا أطلقت.. حملت على ذلك، وإن عقبت بما ينافي ذلك، بأن يقول: الربح كله لي أو كله لك فسد القراض، وكذلك قوله: بعتك بلا ثمن، يكون بيعا فاسدا، وقوله: خذ هذا المال واعمل عليه، لفظة مشتركة بين القراض والقرض والبضاعة،

(7/195)


فإذا أطلق.. لم يكن حملها على أحد أنواع العقود المذكورة بأولى من البعض، فإن عقبها بشرط يقتضيه أحد هذه العقود.. حلمت عليه، فإذا قال: اعمل عليه على أن يكون الربح بيننا.. كان قراضا. وإن قال: اعمل عليه على أن يكون الربح كله لك.. كان قرضا. وإن قال: اعمل عليه على أن يكون الربح كله لي.. كان بضاعة. وكذا إذا قال: ملكتك هذا، إن قال بعوض.. كان بيعا، وإن لم يذكر العوض.. كان هبة. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ق \ 321] : لو قال: قارضتك على أن يكون الربح كله لك.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه قرض، وبه قال أبو حنيفة.
والثاني: أنه قراض فاسد.
وإن قال: قارضتك على أن يكون الربح كله لي.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه بضاعة.
والثاني: أنه قراض فاسد.
وإن قال: أبضعتك على أن جميع الربح لك.. ففيه وجهان، وكذا لو قال: بعتك هذا الثوب، ولم يذكر الثمن.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه بيع فاسد.
والثاني: ليس ببيع، ولا مضمون.

[فرع: تغيير مقدار ربح العامل]
قال في (العدة) : لو شرط للعامل نصف الربح، ثم بعد أيام رده إلى ثلث الربح أو ربعه.. لم يجز ما لم يفسخا العقد الأول، ويجددا عقدا آخر، خلافا لأبي حنيفة رحمة الله عليه.

(7/196)


دليلنا: أن عقد المضاربة الصحيحة لا يقبل تغيير المشروط من الربح، فلم يصح، كما لو انفرد به أحدهما.

[مسألة: فسخ القراض]
مسألة: [القراض يجوز فسخه] :
القراض من العقود الجائزة لكل واحد منهما أن يفسخه متى شاء؛ لأنه عقد يتضمن تصرف العامل في رقبة المال بإذن رب المال، فكان جائزا، كالوكالة.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجوز القراض إلى مدة من المدد) . قال أصحابنا: وفي ذلك مسائل:
إحداهن: أن يقول: قارضتك إلى سنة، فإذا مضت فلا تبع، ولا تشتر.. فيبطل القراض بهذا الشرط؛ لأن عقد القراض يجوز مطلقا، فبطل بالتوقيت، كالبيع والنكاح، ولأن القصد من القراض أن يتصرف العامل في المال للربح، وقد لا يحصل الربح إلا في البيع بعد السنة.
الثانية: أن يقول: قارضتك سنة على أني لا أمنعك فيها من البيع والشراء.. بطل القراض؛ لأن عقد القراض عقد جائر، فلا يجوز أن يشترط لزومه على رب المال.
الثالثة: إذا قال: قارضتك على هذا سنة، فإذا مضت منعتك من الشراء دون البيع.. فالمذهب أن القراض صحيح؛ لأنه يملك منعه من الشراء متى شاء، فإذا شرط ذلك.. فقد شرط ما يقتضيه العقد، فلم يؤثر.
وحكي عن أبي إسحاق المروزي: أنه قال: يفسد القراض؛ لأنه عقد عقدا، وشرط قطعه، فبطل، كما لو تزوج امرأة على أن يطلقها. وليس بشيء.
الرابعة: إذا قال: قارضتك سنة وأطلق. ففيه وجهان، حكاهما أبو علي السنجي:
أحدهما: لا يبطل؛ لأن له عزله بعد العقد متى شاء.
والثاني: يبطل، وهو الصحيح؛ لأن تقييده بالسنة يقتضي منعا بعده من البيع والشراء.

(7/197)


[مسألة: قارضه وجعل غلامه معه وشرط الربح أثلاثا]
قال الشافعي رحمة الله عليه: (ولو قارضه فجعل معه رب المال غلامه، وشرط أن يكون الربح بينه وبين العامل والغلام أثلاثا.. فجائز) .
قال أصحابنا: وفي ذلك مسألتان:
إحداهما: أن يقول: قارضتك على هذا على أن لك ثلث الربح، ولي ثلث الربح، ولعبدي ثلث الربح، ولم يشترط على عبده شيئا من العمل في المال.. فيصح ذلك وجها واحدا؛ لأن ما شرطه رب المال لعبده هو لرب المال، فكأنه شرط لنفسه ثلثي الربح وللعامل الثلث.
الثانية: أن يشترط لعبده شيئا من الربح، ويشترط أن يعمل العبد مع العامل فاختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: لا يصح؛ لأن عمل العبد كعمل سيده، فإذا لم يجز أن يشترط رب المال على نفسه شيئا من العمل.. فكذلك لا يجوز أن يشترطه على عبده، وحمل هذا القائل كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أنه أراد: إذا لم يشترط رب المال على عبده شيئا من العمل.
وقال أبو العباس، وأبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: يجوز أن يشترط رب المال أن يعمل عبده مع العامل، ولا يبطل القراض بذلك، وهو ظاهر النص هاهنا وقد نص الشافعي رحمة الله عليه في (المساقاة) أيضا: (إذا ساقاه على نخل، وشرط رب المال أن يعمل غلامه مع العامل صح) ، ولأن غلامه ماله، فجاز أن يجعل تابعا لماله بخلاف عمل رب المال بنفسه. قال أبو العباس: فعلى هذا: إذا دفع إليه مالا وحمارا، أو بغلا ليحمل عليه مال القراض، أو كيسا ليجعل فيه مال القراض.. جاز.

[فرع: شرط أن يكون ربح المال لصاحبه وعامله وآخر]
وإن شرط رب المال لنفسه ثلث الربح، ولزوجته أو لغلامه الحر، أو الأجنبي ثلث الربح، وللعامل الثلث، فإن شرط رب المال على زوجته وغلامه الحر أو الأجنبي

(7/198)


العمل مع العامل.. جاز، كما لو قارض اثنين. وإن لم يشرط عليهم العمل.. لم يصح؛ لأنه شرط الربح لغير نفسه وغير العامل، وإن قال: قارضتك على هذا، على أن لك نصف الربح، ولي نصف الربح، على أن يعطي هو غلامه أو زوجته من النصف الذي له نصفه.. جاز ذلك؛ لأنه شرط النصف لنفسه، ثم شرط على نفسه شرطا لم يلزمه، فصح، ولم يؤثر في العقد، كما قال الشافعي رحمة الله عليه في من تزوج امرأة وأصدقها ألفا، على أن يعطي هو أباها ألفا.. لا يصح؛ لأنه شرط صداقا لغير الزوجة، ولو أصدقها ألفين على أن تعطي هي أباها ألفا.. صح، وتكون المرأة بالخيار: بين أن تعطي أباها ألفا، أو لا تعطيه.
قال ابن الصباغ: وإن قال رب المال: قارضتك على أن لك ثلثي الربح، على أن تعطي امرأتك نصفه.. فقال القاضي أبو حامد: إن أوجب ذلك عليه.. كان ذلك قراضا فاسدا، وإن لم يوجب ذلك عليه.. صح، كما قال الشافعي رحمة الله عليه فيمن أصدق امرأته ألفين، على أن تعطي هي أباها ألفا: (أن الصداق صحيح، وتكون بالخيار: إن شاءت.. أعطت أباها، وإن شاءت.. لم تعطه) .

[مسألة: شرط المقارض على العامل البيع من رجل بعينه]
إذا قارضه وشرط عليه أن لا يبيع أو لا يشتري إلا من رجل بعينه.. فالمنصوص: (أن القراض لا يصح) . وحكى القاضي أبو الطيب عن الماسرجسي: أنه قال: إذا كان الرجل بيعا تجلب إليه الأمتعة، ولا تنقطع عنه في العادة.. جاز أن يعينه ليبتاع منه. وليس بشيء؛ لأنه قد لا يبيع منه ذلك الرجل ولا يشتري منه إلا ما يكون فيه الربح، وقد يغيب عنه ذلك الرجل، أو يفلس، أو يموت، وذلك يمنع مقصود عقد القراض، فلم يصح.
وإن قارضه على أن لا يشتري إلا سلعة معينة، أو جنسا لا يعم وجوده في ذلك

(7/199)


الوقت، كالصيد في موضع لا يوجد فيه غالبا.. لم يصح عقد القراض؛ لأن المقصود من القراض طلب الربح، وذلك لا يحصل إلا بأن يمكن العامل من التصرف التام.
قال الشيخ أبو حامد: والتصرف التام يحصل بأن يقول: قارضتك، فابتع ممن شئت، وبع ممن شئت، وابتع ما شئت، أو يقول: اتجر في الجنس الفلاني، وكان مما يعم وجوده في الشتاء والصيف، كالثياب، والطعام.
وقال الشيخ أبو إسحاق المروزي: وهكذا: إذا قارضه على أن يتجر في جنس يعم وجوده في بعض الأوقات دون بعض، كالرطب، والعنب.. فيصح ذلك؛ لأنه يعم وجوده في وقته، فتمكن التجارة فيه.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز إلا أن يقول: فإذا انقطع.. فاتجر فيما شئت، أو في جنس يعم وجوده في الشتاء والصيف، وليس بشيء.
فإن قيل: فقد قلتم لا يجوز أن يقارضه إلى مدة والقراض على ما ينقطع قراض إلى مدة؟
قلنا الفرق بينهما: أنه إذا قارضه إلى مدة.. فقد تنقطع المدة وبيده أعيان لا ربح فيها إلا ببيعها، فإذا منعه من بيعها.. تعذر المقصود، وليس كذلك إذا قارضه إلى مدة ما يوجد في وقت دون وقت؛ لأنه يتجر فيه ما دام موجودا، فيبيعه ويشتريه، فإذا انقطع ذلك.. انقطع ابتياعه، وأمكنه بيع ما في يده، فيحصل المقصود.

[فرع: قارضه على شيء له غلة]
ولو قارضه على أن يشتري مستغلات يكون أصلها موقوفا، وغلتها بينهما، كالنخل، والدواب، والأرض.. لم يصح القراض؛ لأن عقد القراض موضوع على أن يتصرف العامل في رقبة المال، وهذا قد شرط منعه من ذلك، فلم يصح.

(7/200)


[فرع: تخيير المقارض العامل بنصف المال لنوع خاص]
قال المزني: إذا دفع إليه ألف درهم، وقال: ابتع بها هرويا أو مرويا بالنصف كان فاسدا؛ لأنه لم يبين، ولا خلاف بين أصحابنا أن القراض فاسد، واختلفوا في تعليله:
فقال أكثرهم: إنما فسد؛ لأن القراض يقتضي أن يكون العامل مأذونا له في البيع والشراء، وهاهنا إنما أذن له في الابتياع دون البيع.
وقال أبو إسحاق: إنما فسد؛ لأن رب المال لم يبين أن النصف الذي من الربح للعامل، أو لنفسه.
وقال أبو العباس: لا يفسد بذلك؛ لأن الشرط إذا أطلق.. انصرف إلى العامل، وقد مضى ذكره، وإنما فسد.. للمعنى الأول.
ومنهم من قال: إنما فسد؛ لأن الهروي والمروي جنس لا يعم وجوده.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: إنما فسد؛ لأنه لم يعين أحد الجنسين.
والأول أصح؛ لأن ما قاله أبو إسحاق قد مضى فساده، ومن قال: إن الهروي والمروي لا يعم وجوده.. غير صحيح؛ لأن الهروي والمروي لا يعدم وجوده في بلدة، وما قاله ابن أبي هريرة.. غير صحيح؛ لأنه يجوز أن يخيره فيما يشتريه.
إذا ثبت هذا فإن اشترى العامل وربح.. كان الشراء والربح لرب المال، وللعامل أجرة المثل؛ لأنه عمل ذلك بإذنه بعوض، ولم يسلم له.. فاستحق أجرة المثل.
وقال الطبري: وليس للعامل أن يبيعه؛ لأنه لم يؤذن له فيه.

[فرع: إطلاق يد العامل لا يصح في محرم]
إذا قارضه، وقال له: اتجر فيما شئت.. لم يجز للعامل أن يشتري الخمر، سواء كان العامل مسلما أو ذميا.

(7/201)


وقال أبو حنيفة: (إذا كان العامل ذميا.. جاز له أن يشتري الخمر ويبيعها؛ لأنها مال عنده، ويشاركه رب المال في الربح وإن كان مسلما) . وبنى ذلك على أصله: أن الملك يدخل في ملك الوكيل، ثم ينتقل إلى ملك الموكل.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله حرم الكلب، وحرم ثمنه، وحرم الخنزير، وحرم ثمنه، وحرم الخمر، وحرم ثمنه» . فإذا اشترى الذمي الخمر، ونقد الثمن فيه.. فهل يضمنه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يضمنه؛ لأن رب المال فوض الاجتهاد إليه، وعنده: إن التجارة في الخمر ونقد الثمن فيه جائز، فلا يكون متعديا.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه يكون ضامنا؛ لأنه لا يكون له نقد الثمن مع الحكم ببطلان البيع، فإذا فعل ذلك.. كان ضامنا.
وإن اشترى العامل أم ولد، ولم يعلم بها.. قال المسعودي [في (الإبانة) ق \ 322] : فلا ضمان عليه؛ لأنه لا يعرف أم الولد.
وإن اشترى العامل المسلم خمرا لم يعلم به ونقد الثمن من مال القراض.. فهل يضمن؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في (الإبانة) ] .
أحدهما: لا يضمن، كما لا يضمن ما صرفه في ثمن أم الولد.
والثاني: يضمن؛ لأنه كان يمكنه أن يذوقه، فإذا لم يفعل.. ضمنه.

[فرع: قارض على التجارة بجنس فلا يغيره]
قد ذكرنا: أن رب المال يقول: قارضتك على أن تتجر فيما شئت، أو على أن تتجر في جنس كذا، وهو مما يعم وجوده، فإذا أذن له في جنس.. لم يجز له أن يتجر في غيره؛ لأن تصرفه مقصور على إذن رب المال.

(7/202)


فإذا قال له: اتجر في الثياب والبز.. فهل يجوز على الإطلاق؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) .
فإذا قلنا: يجوز.. دخل فيه ما يلبس من القطن والإبريسم والكتان والصوف، وهل يدخل فيه الثياب المخيطة؟ فيه وجهان، ذكرهما الطبري في (العدة) ، ولا يدخل فيه القطن؛ لأنه لا يقع عليه اسم البز، وهل تدخل فيه الأكسية البرزكانية؟ فيه وجهان:
أحدهما: تدخل فيه؛ لأنها تلبس، فهي كالثياب.
والثاني: لا تدخل؛ لأنها لا تدخل في إطلاق اسم البز.
وإن قال: على أن تتجر في الرقيق.. فهل يجوز أن يشتري أشقاصا من الرقيق؟ فيه وجهان، حكاهما في (العدة) . وإن قال: على أن تتجر في الطعام.. لم يدخل فيه الدقيق والشعير والذرة، لأن إطلاق اسم الطعام إنما ينصرف على الحنطة.

[مسألة: ما يقوم به العامل في القراض]
] : ويتولى العامل من الأعمال في مال القراض ما جرت به العادة للعامل أن يتولاه منه، كالبيع والشراء، وطي الثياب ونشرها، وحمل ما خف من المتاع؛ لأن العادة جرت بأن يتولى ذلك الرفيع والوضيع، فإن استأجر لذلك.. كانت الأجرة من ماله، ولا يلزمه أن يتولى ما لم تجر العادة أن يتولاه العامل، كحمل الأمتعة الثقيلة، بل يستأجر لها من مال القراض من يتولاها، فإن عمل ذلك بنفسه.. فلا أجرة له بذلك؛ لأنه متبرع بذلك، وإن غصب المال أو سرق.. فهل يملك المخاصمة على ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن عقد القراض يقتضي التجارة دون الخصومة.

(7/203)


والثاني: له ذلك؛ لأن عقد القراض يقتضي حفظ المال، وهذا من حفظ المال.

[مسألة: مقارضة عامل القراض عاملا آخر]
إذا قارض العامل في القراض عاملا آخر.. نظرت:
فإن كان ذلك بإذن رب المال، ولم يشرط العامل الأول لنفسه شيئا من الربح، بل شرط الربح بين رب المال والعامل على ما أذن له فيه.. صح القراض، وكان العامل الأول وكيلا لرب المال في عقد القراض، وإن شرط العامل الأول لنفسه شيئا من الربح، بأن شرط أن ربح المال بينهم أثلاث.. لم يصح القراض؛ لأنه شرط الربح لغير رب المال، أو لغير العامل.
فعلى هذا: إذا عمل الثاني.. كان الربح كله لرب المال، وللعامل الثاني أجرة علمه.
وإن قارض العامل الأول عاملا آخر بغير إذن رب المال.. لم يصح القراض؛ لأن رب المال إنما رضي باجتهاد الأول دون اجتهاد غيره.
فعلى هذا: إذا تصرف العامل الثاني في المال.. رد المال إلى بيت المال ولا كلام، وإن حصل في المال ربح.. بنينا على من غصب شيئا، أو أودع شيئا، فتصرف فيه وربح، لمن يكون الربح؟ فيه قولان:
(الأول) : قال في القديم: (يكون ذلك للمغصوب منه؛ لأنا لو جعلنا ذلك ملكا للغاصب.. كان ذلك ذريعة إلى غصب الأموال والتجارة فيها لتحصيل الأرباح، وأدى إلى خفر الأمانات والودائع، فجعل ذلك لرب المال؛ لحق المال، وليحسم الباب.
و (الثاني) : قال في الجديد: (يكون الربح للغاصب) . وهو الصحيح؛ لأنه إن

(7/204)


اشترى بعين مال الغاصب.. فالشراء باطل، فلا يتصور الربح، وإن اشترى بثمن في ذمته، ونقد المال المغصوب في الثمن.. فقد ملك السلعة، ولزمه الثمن في ذمته، فإذا نقد الثمن من المال المغصوب.. فقد تعدى بذلك، ولا تبرأ ذمته من الثمن، فإذا حصل ثمن السلعة.. فقد حصل ثمن ملكه.
واختلف أصحابنا في مأخذ هذين القولين:
فمنهم من قال: إنما ذكر الشافعي رحمة الله عليه هذا في القديم؛ لأنه كان يذهب في القديم إلى جواز البيع الموقوف. وهذه طريقة القفال والخراسانيين من أصحابنا.
وقال أبو العباس، وأبو إسحاق رحمهما الله، وأكثر أصحابنا: لا يعرف للشافعي جواز البيع الموقوف في قديم ولا جديد، وإنما ذهب إلى هذا في القديم للمصلحة، كما ذكرناه.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا هاهنا بقوله القديم وأن الربح للمغصوب منه.. فإن لرب المال هاهنا نصف الربح إذا كان قد قارض الأول على نصف الربح، وأما النصف الثاني: فقال المزني: يكون بين العاملين نصفين، واختلف أصحابنا في ذلك على أربعة أوجه:
أحدها: أن الحكم فيها كما قال المزني، وأن العامل الثاني يأخذ ربع الربح، ولا شيء له غير ذلك؛ لأن الأول قارض الثاني على أن ما رزق الله من الربح.. بينهما، والذي رزقهما الله من الربح هو النصف، وأما النصف الآخر: فهو مستحق لرب المال.
والثاني: أن العامل الثاني يستحق ربع الربح، ويأخذ مع ربع الربح نصف أجرة مثله؛ لأنه دخل على أن يأخذ نصف ما رزق الله من ربح، والربح يقع على ما زاد على رأس المال، ولم يحصل له إلا نصف المشروط، فوجب أن يرجع بنصف أجرة مثله.

(7/205)


والثالث: وهو قول المسعودي [في (الإبانة) : ق \ 223] : إن قال الأول للثاني: قارضتك أو اعمل لي على أن لك نصف الربح.. استحق هاهنا مع ربع الربح نصف أجرة المثل، كما قال صاحب الوجه الثاني، وإن قال: قارضتك أو اعمل على ما رزق الله تعالى بيننا.. فله ربع الربح من غير شيء معه، كما قال صاحب الوجه الأول.
والرابع: وهو قول ابن الصباغ: أن نصف الربح لا يقسم بين العاملين، بل يكون للعامل الأول؛ لأن المضاربة فاسدة، والشرط لا يثبت مع الفاسد، فيرجع العامل الثاني على العامل الأول بجميع أجرة مثله؛ لأنه غره.
وأما إذا قلنا بالقول الجديد، وأن ربح المال المغصوب للغاصب، وكان العامل الثاني قد اشترى في الذمة، ونقد الثمن من مال القراض وربح.. فلمن يكون الربح؟ قال المزني: يكون الربح هاهنا للعامل الأول، وللعامل الثاني أجرة عمله، واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من خطأ المزني، وقال: يكون الربح هاهنا للعامل الثاني؛ لأنه هو المتصرف هاهنا، فكان الربح له كالغاصب.
ومنهم من وافق المزني، وقال: يكون الربح هاهنا للأول؛ لأن الثاني هاهنا تصرف للأول، فكان الربح له، ويجب للثاني أجرة مثله، بخلاف الغاصب له، فإنه تصرف لنفسه، وأما الضمان: فإن كان المال باقيا.. فللمالك أن يطالب برده من شاء منهما، وإن كان تالفا.. فله أن يطالب به من شاء من العاملين، فإن طالب الأول.. لم يرجع الأول على الثاني؛ لأنه دخل معه على الأمانة، وإن رجع به على الثاني.. فهل يرجع الثاني على الأول؟ فيه قولان.
(الأول) : قال في القديم: (يرجع عليه) ؛ لأنه غره.
و (الثاني) : قال في الجديد: (لا يرجع عليه) ؛ لأن التلف حصل بيده.

(7/206)


[فرع: قارضه على أن نصف الربح للمال]
قال الطبري: فإن دفع العامل المال إلى رب المال، وقال: قارضتك على هذا المال على أن يكون لك نصف الربح الذي شرطته لي.. لم يصح، ويبطل به عقد القراض، خلافا لأبي حنيفة.

[فرع: لا يشتري المقارض من مال القراض]
] : لا يجوز لرب المال أن يشتري من المال الذي في يد العامل للقراض؛ لأن المال له، فلا يجوز أن يشتري منه، كما لا يجوز أن يشتري من وكيله.
وإن كان لرجل غلامان في القراض مع كل واحد منهما مال منفرد به.. فهل يجوز لكل واحد منهما أن يشتري من الآخر؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) .
ويجوز للسيد أن يشتري من مكاتبه؛ لأنه معه كالأجنبي، وهل يجوز للسيد أن يشتري من عبده المأذون له؟ ينظر فيه:
فإن لم يكن على المأذون له دين.. لم يجز للسيد أن يشتري منه؛ لأن ما في يده ملكه.
وإن كان عليه دين معاملة.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يصح؛ لأن حقوق الغرماء قد تعلقت بما في يد العبد، فصار كالمستحق لهم، فصار كما لو اشترى منهم.
والثاني: لا يصح؛ لأن تعلق حق الغرماء به لا يخرجه عن ملكه.

(7/207)


[مسألة: شراء عامل القراض عبدا]
] : وإذا دفع إليه ألف درهم قراضا، فاشترى العامل عبدا بألف درهم للقراض صح، فإن اشترى عبدا آخر بألف للقراض.. لم يصح للقراض؛ لأن رأس المال ألف، وقد استحق تسلميه للأول، فإن اشترى الثاني بعين الألف.. لم يصح؛ لأنه اشترى بمال غيره ما لم يؤذن له فيه، وإن اشترى الثاني بألف في الذمة.. لزم الشراء للعامل، والثمن عليه؛ لأنه اشترى لغيره ما لم يأذن فيه، فلزمه.
قال المسعودي [في (الإبانة) ق \ 223] : فإن أقبض الألف في البيع الثاني.. انفسخ البيع الأول إذا وقع الشراء الأول بعينها.
قلت: ويحتمل أنه أراد: إذا تلفت قبل أن يقبضها البائع الأول.

[مسألة: إطلاق يد العامل والإذن له وعدمهما]
وإن دفع إلى رجل مالا قراضا.. فلا يخلو: إما أن يطلق رب المال الإذن، أو يقيده.
فإن أطلق.. لم يجز للعامل أن يبيع إلا بنقد البلد، ولا يبتاع إلا بنقد البلد، ولا يبيع إلى أجل، ولا يبتاع إلى أجل؛ لأنه يتصرف في مال غيره بغير إذنه، فاقتضى الإطلاق، وذلك كالوكيل، ولأن المقصود بالقراض طلب الربح فإذا باع أو ابتاع إلى أجل.. كان منافيا للمقصود، ولأنه إذا باع إلى أجل.. أخرج السلعة من يده، وربما لم يحصل له الثمن، فإذا ابتاع إلى أجل.. فإنه ابتاع بفضل.
قال الشيخ أبو حامد: فإن قال له: بع نقدا أو نسيئة، واشتر نقدا أو نسيئة.. جاز له أن يفعل ما شاء من ذلك؛ لأن رب المال قد أذن له في ذلك.
قال في (الأم) : (فإن قال له: تصرف كيف شئت، وافعل ما ترى.. كان كالمطلق) .
قال الطبري: وإن قال: قارضتك على أن لا تبيع إلا بالنسيئة.. فهل يبطل؟ فيه وجهان:

(7/208)


أحدهما: يصح، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه مأذون فيه.
والثاني: لا يصح؛ لأنه مقارضة على خلاف معهودها، وفيه خطر على المال، فإذا قلنا: يصح.. فهل يصح بيعه بالنقد؟ فيه وجهان:

[فرع: صحة شراء المعيب للقراض]
وإن اشترى العامل شيئا معيبا.. صح شراؤه للقراض، ولو وكله بشراء سلعة معينة موصوفة.. لم يكن له أن يشتري سلعة معيبة، فإن اشتراها معيبة.. لم يصح، والفرق بينهما: أن القصد بالقراض طلب الربح، وقد يحصل الربح بطلب المعيب، والقصد في شراء السلعة الموصوفة الاقتناء، ولا يقتنى إلا السليم.
وإن اشترى العامل شيئا ظنه سليما، فبان أنه معيب.. فللعامل أن يفعل ما رأى فيه الحظ من الرد والإمساك؛ لأنه قائم مقام رب المال، وإن حضر رب المال والعامل، فإن اتفقا على الرد أو الإمساك.. فلا كلام وإن اختلفا، فدعا أحدها إلى الإمساك والآخر إلى الرد.. نظر الحاكم إلى ما فيه الحظ من ذلك، فقدم قول من دعا إليه؛ لأن المقصود طلب الربح، ولكل واحد منهما حق متعلق به، فقدم ما فيه المصلحة لهما.

[مسألة: شراء من يعتق على رب المال بإذنه]
] : وإن اشترى العامل من يعتق على رب المال.. نظرت:
فإن كان بإذن رب المال.. صح الشراء، وعتق على رب المال، كما لو اشتراه بنفسه، فإن اشتراه بجميع مال القراض.. بطل القراض؛ لأنه اشتراه بإذن رب المال،

(7/209)


وعتق عليه، فهو كما لو أتلفه رب المال، فإن لم يكن في المال ربح.. فلا شيء للعامل؛ لأن العامل في القراض صحيح لا يستحق شيئا إذا لم يكن في المال ربح، وإن كان في المال ربح.. رجع العامل على رب المال بقدر حصته من الربح؛ لأنه أتلف ذلك، فلزمه ضمانه، وإن اشتراه ببعض مال القراض، فإن كان الثمن مثل رأس المال.. انفسخ القراض في رأس المال، ويكون ما بقي من الربح بينهما، وإن كان أقل من رأس المال.. انفسخ العقد، ورد الثمن ويكون ما بقي من رأس المال على القراض والربح بينهما وإن كان الثمن أكثر من رأس المال انفسخ القراض في جميع رأس المال وبعض الربح ويقتسمان ما بقي من الربح، ثم يرجع العامل على رب المال بقدر حصته من الربح الذي حصل في ثمن العبد؛ لأنه تلف في حقه. هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في (التعليق) .
وذكر القاضي أبو الطيب في (المجرد) : إذا كان الثمن جميع ما بيده، وكان بعضه ربحا، وقلنا: العامل حصته بالظهور، ولم يعلم العامل أن الذي اشتراه له يعتق على رب المال.. لم يعتق في قدر نصيبه، إلا أن يكون له مال آخر، فيقوم عليه.
وإن اشتراه العامل بغير إذن رب المال.. لم يصح الشراء في حق رب المال؛ لأن المقصود بالقراض شراء ما يربح فيه، وهذا لا يوجد في شراء من يعتق على رب المال. فإن اشترى بعين مال القراض.. لم يصح الشراء في حق العامل أيضا، وإن اشتراه بثمن في الذمة.. صح الشراء في حق العامل.

[فرع: شراء زوج المضاربة]
وإن كان رب المال امرأة ولها زوج عبد، فاشتراه عاملها في القراض، فإن اشتراه بإذنها.. صح شراؤه للقراض، وينفسخ نكاحها، كما لو اشترته بنفسها، وإن اشتراه بغير إذنها بعين مال القراض.. فهل يصح شراؤه للقراض؟ فيه وجهان:

(7/210)


أحدهما: يصح الشراء، وينفسخ به النكاح، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن الربح يحصل بشرائه، فصح، فهو كما لو لم يكن لها زوج، أو كما لو أذنت في شرائه.
والثاني: لا يصح، وهو المنصوص؛ لأن إذنها يقتضي شراء ما لها فيه حظ ومنفعة، وشراء زوجها يضرها؛ لأنه ينفسخ نكاحها، ويسقط به حقها من الكسوة والنفقة، فهو كما لو اشترى لها من يعتق عليها وإن اشتراه بثمن في ذمته فإن قلنا: يصح شراؤه للقراض إن اشتراه بعين مال القراض.. صح أيضا هاهنا. وإن قلنا هناك: لا يصح للقراض.. فإنه يصح في حق العامل وحده، كما قلنا في العامل إذا اشترى من يعتق على رب المال بغير إذنه، بثمن في ذمته.

[مسألة: ما يجب على عامل القراض وما لا يجوز له فعله]
مسألة: [ما يجب على العامل تجاه مال القراض وما لا يجوز له فعله] :
وإذا قارضه على مال؛ ليتجر به في الحضر.. فقد ذكرنا: أنه يتولى بنفسه ما جرت العادة أن يتولاه العامل بنفسه، ولا يستحق لذلك عوضا، وليس عليه أن يتولى من الأعمال ما لم تجر عادة العامل أن يتولاه بنفسه، مثل: النداء على المتاع، وحمله إلى الخانات، وله أن يستأجر من يعمل ذلك من مال القراض.
ولا يستحق أن ينفق على نفسه من مال القراض، ولا يكتسي منه بلا خلاف؛ لأنه إنما يستحق الجزء المشروط له من الربح دون غيره.
ولا يسافر بالمال من غير إذن رب المال.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجوز إذا كان الطريق آمنا) .
دليلنا: أن السفر فيه تغرير بالمال؛ لأنه يعرض فيه الخوف والفساد، فلم يملكه العامل من غير إذن رب المال، كما لو كان الطريق مخوفا.
وإن أذن له رب المال أن يسافر بالمال.. جاز له أن يسافر به؛ لأن المنع منه لحقه، وقد رضي به، وإذا سافر به.. فعليه أن يتولى من الأعمال ما جرت العادة أن يتولاه العامل في السفر، مثل: حفظ المتاع، والنوم عليه، وليس عليه أن يتولى من

(7/211)


الأعمال ما لم تجر العادة أن يتولاه العامل، مثل: رفع الأحمال، وحطها، وما أشبه ذلك، بل يستأجر من مال القراض من يتولاها. وهل تجب للعامل النفقة في السفر من مال القراض، مثل: المأكول، والمشروب، وما يحتاج إليه من المركوب والملبوس؟
نقل المزني في (المختصر) [3/62] : (أن له النفقة بالمعروف) ، وقال في (البويطي) : (ليس له ذلك إلا بإذن رب المال) .
وقال المزني في (الجامع الكبير) : حفظت عن الشافعي: (أن القراض لا يصح حتى يشرط العامل لنفسه نفقة معلومة في كل يوم، وثمن ما يلبسه للعمل) .
واختلف أصحابنا في ذلك على طريقين.
فـ (الأول) : قال بعض أصحابنا: لا يستحق العامل ذلك، قولا واحدا، لأن ذلك إنفاق على نفسه، فلم يستحقه العامل في السفر، كما لو كان في الحضر، وتأولوا ما نقله المزني في (المختصر) : على النفقة على الأعمال التي لا يتولاها العامل بنفسه.
و (الطريق الثاني) : منهم من قال: في المسألة قولان:
أحدهما: لا يستحق ذلك؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن ينفرد العامل بجميع الربح، لأنه قد يحتاج إلى جميع الربح للنفقة.
والثاني: يستحق ذلك، وهو قول مالك؛ لأن سفره لأجل المال، فكانت نفقته فيه، ولأنا لو قلنا: إنه ينفق على نفسه من ماله.. لأدى إلى أن لا يحصل له شيء من الربح؛ لأنه قد ينفق جميع نصيبه من الربح، وربما لا يربح، فيغرم النفقة.
فإذا قلنا: لا نفقة له.. فلا كلام، وإذا قلنا: يستحق النفقة.. فالذي يقتضي المذهب: أنه لا يستحق النفقة.. إلا في الربح؛ لأن مقتضى القراض رد رأس المال.
وكم يستحق من النفقة؟ فيه وجهان:

(7/212)


أحدهما: جميع النفقة؛ لأن يسافر لأجل المال، فكانت جميع نفقته فيه.
والثاني: أنه يستحق ما زاد لأجل السفر على نفقة الحضر؛ لأن ذلك هو القدر الذي لزمه لأجل السفر.
وهل يفتقر إلى تقدير النفقة؟ فيه قولان:
(الأول) : قال في (البويطي) : (يفتقر إلى تقدير النفقة في عقد القراض) ؛ لأنه جزء يستحقه العامل من مال القراض، فكان مقدرا، كحصته من الربح.
والثاني: لا يفتقر، وهو الأصح؛ لأن الأسفار تختلف، فيقل الإنفاق فيها ويكثر، وذلك لا يمكن تقديره، بخلاف حصة العامل من الربح، قال أبو العباس، وأبو إسحاق: يضعف التقدير جدا.

[فرع: سافر مقارضا وبمال له فالنفقة محصصة]
] : فإن سافر العامل في مال القراض، وبمال له.. كانت النفقة محصصة على المالين.
قال أبو علي في (الإفصاح) : وإنما تحصص النفقة على المالين إذا كان ماله مما يقصد له السفر، فأما إذا كان يسيرا: فلا حكم له، وتكون النفقة والمؤن كلها في مال القراض، وكذلك: إن سافر بمال له ومالين منفردين لمقارضين له.. كانت نفقته محصصة على قدر الأموال فيها؛ لأن سفره لأجلها، فقسمت نفقته عليها.
وإن دفع إليه مالا قراضا، وأذن له في السفر فيه إلى بلد، فلقيه رب المال في تلك البلد التي سافر إليها، وقد نض المال، فأخذه رب المال، وأراد العامل الرجوع إلى بلده.. فهل يجب على رب المال نفقة الرجوع؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب له ذلك؛ لأنه استحق نفقة ذهابه ورجوعه بمقتضى القراض، فلم تسقط نفقة رجوعه باسترجاع المال.

(7/213)


والثاني: لا يستحق؛ لأن عقد القراض قد انفسخ، فلا يستحق بعد ذلك نفقة، كما لو مات العامل، فإنه لا يستحق الكفن في مال القراض.

[فرع: موت المقارض والعامل في السفر]
يمنعه النفقة] :
ذكر الطبري: لو مات رب المال والعامل في السفر.. فليس له أن ينفق من مال المقارضة ذاهبا ولا راجعا في أحد الوجهين، خلافا لأبي حنيفة؛ لأن المال قد صار للورثة، فافتقر إلى إذنهم.

[مسألة: وقت استحقاق العامل الربح]
] : إذا قارضه قراضا صحيحا، وحصل في المال ربح.. فمتى يملك العامل ما شرط له حصة من الربح؟ فيه قولان:
أحدهما: وهو قول مالك، والمزني: (أنه لا يملكه إلا بالمقاسمة) ؛ لأن العامل لو ملك شيئا من المال قبل القسمة.. لكان شريكا لرب المال، حتى لو تلف شيء من المال.. لكن محسوبا من المالين، فلما كان التالف محسوبا من الربح.. دل على: أنه لم يملك شيئا من المال.
والثاني: أنه يملك حصته من الربح بالظهور، وهو قول أبي حنيفة. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأن العامل إنما يملك فسخ القراض بالمطالبة بحقه من الربح، ومن ملك مطالبة شريكه بقسمة ما بينهما.. دل على: أنه يملك حصته بالظهور، كالمال بين الشريكين.

[مسألة: لا يقسم الربح إلا برضا المتعاقدين]
فإن طلب أحد المتقارضين قسمة الربح بينهما مع بقاء عقد القراض، وامتنع الآخر.. لم يجبر الممتنع؛ لأن لكل واحد منهما غرضا في الامتناع؛ لأن رب المال يقول: الربح وقاية لرأس المال، والعامل يقول: لا آمن أن أخسر، فأحتاج إلى رد

(7/214)


ما أخذته، فإن اتفقا على قسمة الربح مع بقاء عقد القراض.. صح؛ لأن الحق لهما، فإن حصل بعد ذلك في المال خسران، وكان للعامل نصف الربح، وقد أخذه.. كان على العامل أقل الأمرين من نصف الخسران، أو رد جميع ما أخذ؛ لأن الربح والخسران حصلا في عقد واحد، فجبر أحدهما بالآخر.

[فرع: اقتسما الربح قبل نهاية المضاربة]
] : إذا دفع إليه ألفا، فاتجر بها، فصارت ألفين، فاقتسما الربح بينهما وتفاصلا، ثم تلف الأصل في يد العامل من غير تفريط.. فلا شيء عليه.
وقال أبو حنيفة: (عليه أن يرد ما أخذ من الربح) .
دليلنا: أنهما اقتسما الفضل والأصل حاصل، فصحت القسمة، وترك أصل المال في يده أمانة، فهو كما لو استرده، ثم دفعه إليه، فتلف.

[فرع: نقص مال المضاربة ثم زاد فكيف يقتسمان الربح]
إن دفع رجل إلى رجل مائة درهم قراضا، فاتجر العامل فيها، فخسر عشرة وبقي في يده تسعون درهما، فأخذ رب المال عشرة منها، ثم اتجر العامل بالثمانين، فبلغت مائة وخمسين درها.. فإن رأس المال يكون هاهنا تسعة وثمانين درهما إلا تُسع درهم، وما زاد على ذلك ربح يقتسمانه على ما شرطاه بينهما؛ لأن رأس المال كان مائة، فلما خسر عشرة.. بقي في يد العامل تسعون.
ولو أخذ رب المال جميع التسعين.. انفسخ القراض فيها وفي العشرة التي خسرها العامل، فلما أخذ رب المال عشرة لا غير.. انفسخ القراض فيها وفي قسطها من الخسران، والعشرة المأخوذة هي تُسع التسعين، وقسطها من الخسران درهم وتسع درهم؛ لأنك إذا قسمت العشرة على تسعين أصاب كل عشرة درهم وتُسع درهم، فاحتجت أن تسقط ما خص العشرة المأخوذة وما خصها من الخسران من رأس المال،

(7/215)


وهو مائة، فيبقى تسعة وثمانون درهما إلا تُسع درهم، ويكون الباقي من المائة هو رأس المال، وما زاد على ذلك ربح.
فإن كانت بحالها وخسر العامل من المائة عشرين درهما، ثم أخذ رب المال من الباقي عشرين درهما، ثم اتجر العامل فيما بقي، وهو ستون، فبلغ مائة وخمسين.. فإن رأس المال هاهنا يكون خمسة وسبعين، وما زاد فهو ربح؛ لأنه لما خسر عشرين وبقي ثمانون، فأخذ رب المال عشرين منها، وذلك ربعها، فسقطت هي وما قابلها من الخسران من رأس المال، والذي قابلها من الخسران خمسة؛ لأن العشرين - التي هي خسران - مقسومة على الثمانين.. فكأنه أخذ من المائة خمسة وعشرين، وتبقى خمسة وسبعون، هي رأس المال.
وإن كانت هي بحالها، غير أن العامل خسر من المائة عشرين، ثم أخذ رب المال من الثمانين أربعين، ثم اتجر العامل فبلغت ستين.. فإن رأس المال يكون خمسين؛ لأنه لما أخذ من الثمانين نصفها.. انفسخ القراض فيها وفيما يخصها من الخسران، وهو عشرة، فكأنه أخذ خمسين من مائة.
وهكذا: لو خسر العامل من المائة عشرة، وبقي في يده تسعون، فأخذ رب المال منها خمسة وأربعين، ثم اتجر العامل وربح.. فإن رأس المال يكون خمسين، وما زاد فهو ربح؛ لأنه لما أخذ من التسعين نصفها.. انفسخ فيها القراض وفيما يخصها من الخسران، وهو خمسة، فكأنه أخذ خمسين من مائة، فلما اتجر العامل وربح.. كان رأس المال ما بقي بعد المأخوذ.

[فرع: أخذ المقارض نصف رأس المال واتجار العامل بالباقي]
فرع: [أخذ المقارض نصف رأس المال بعد الربح ثم اتجر العامل بالباقي] :
فإن دفع إليه مائة درهم قراضا، على أن الربح بينهما نصفان، فاتجر العامل فيها فبلغت مائة وستين درهما منها، فأخذ رب المال ثمانين درهما منها، ثم اتجر العامل في الباقي، فخسر حتى بلغت عشرين.. فإن العامل يرد العشرين التي بقيت في يده إلى

(7/216)


رب المال، ويأخذ من رب المال خمسة عشر درهما من الثمانين التي قبضها، وإنما كان كذلك؛ لأن المال لما بلغ مائة وستين درهما، فإن خمسة أثمان المال - وهو مائة هو رأس المال، وثلاثة أثمانه - وهو ستون - ربح، فلما أخذ رب المال الثمانين من المالين.. كان خمسة أثمانه - وهو خمسون درهما - من رأس المال، وثلاثة أثمانه - وهو ثلاثون - من الربح.. لا يجبر به الخسران؛ لأن المأخوذ قد انفسخت فيه المضاربة، فكان للعامل نصف ذلك الربح، وهو خمسة عشر. وأن كانت بحالها، فاتجر العامل في المائة، فبلغت مائة وخمسين درهما، ثم أخذ رب المال خمسين درهما منها، وبقي في يد العامل مائة، فاتجر فيها، فعادت إلى خمسين.. فإن العامل يرد الخمسين التي في يده إلى رب المال، ويأخذ من الخمسين التي أخذها رب المال سدسها؛ لأن ثلثي الخمسين المأخوذة رأس المال، وثلثها ربح، وللعامل نصف الربح.
وإن ربح العامل في المائة عشرين، فأخذ رب المال منها ستين، ثم اتجر العامل في الستين الباقية، فخسر، فعادت إلى أربعين أو أقل.. فإنه يرد ما بقي في يده إلى رب المال، ويأخذ من رب المال نصف سدس الستين، وهو خمسة؛ للمعنى الذي ذكرناه.

[فرع: قارضه على ألف وأضافه ألفا أخرى والربح بينهما]
وإن دفع إليه ألفا قراضا، على أن الربح بينهما نصفان، ثم دفع إليه ألفا قراضا، على أن يضمها إلى الأولى، ويعمل عليهما، ويكون الربح بينهما نصفين.. قال الشافعي: (فإن قارضه على الثانية قبل أن يتصرف في الأولى.. صح القراض فيهما، وإن قارضه على الثانية بعد أن تصرف في الأولى.. لم يصح القراض على الثانية) .
ووجهه: أنه عقد معه قراضين على كل واحد من الألفين قراضا، ومن شأن العقدين أن لا يبنى أحدهما على الآخر في الربح والخسران، فإذا كان قد تصرف في الأولى.. فربما حصل فيه ربح أو خسران، فإذا ضم الثانية إليها.. جبر الخسران في الأولى بالثانية، فلم يصح، وإذا لم يكن تصرف في الأولى.. فإنه لا يفضي إلى أن

(7/217)


يجبر خسران إحداهما في الأخرى، بل إن حصل خسران.. فهو فيهما، وإن حصل ربح.. فهو فيهما، وإن تصرف في الأولى ونضت.. فقال القاضي أبو الطيب في (المجرد) : جاز ضم الثانية إليها؛ لأنه قد أمن المعنى الذي ذكرناه، وصار كأنه لم يتصرف في الأولى.

[فرع: شراء عامل القراض من يعتق عليه]
وإن اشترى العامل من يعتق عليه، كابنه وأبيه، بمال القراض بغير إذن رب المال.. نظرت:
فإن لم يكن في المال ربح حال ما اشتراه.. صح شراؤه؛ لأنه لا ضرر على رب المال بذلك؛ لأنه يمكن بيعه، فإن ظهر في المال ربح فلا كلام، وإن كان في المال ربح قبل أن يبتاع العبد، فإن قلنا: إن العامل لا يملك حصته من الربح إلا بالقسمة.. لم يعتق الأب ولا شيء منه؛ لأن العامل لا يملك منه شيئا، فإن اقتسما الربح، وحصل في نصيب العامل.. عتق عليه، وإن حصل في نصيب رب المال لم يعتق عليه، وإن حصل بينهما.. عتق على العامل نصيبه منه، وقوم عليه نصيب رب المال فيه إن كان العامل موسرا بقيمة نصيب رب المال. وإن قلنا: إن العامل يملك حصته من الربح بالظهور.. فهل يعتق عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يعتق عليه؛ لأن ملكه عليه غير تام قبل القسمة؛ لأن الربح قبل القسمة وقاية لرأس المال، وإنما يتم ملكه بالقسمة.
فعلى هذا: حكمه حكم ما ذكرناه إذا قلنا: لا يملك حصته من الربح إلا بالقسمة.
والوجه الثاني: يعتق عليه؛ لأنه ملكه، فعتق عليه، كما لو اشترى العامل من يعتق على رب المال بإذنه.
فعلى هذا: إن كان العامل يملك من الربح بقدر قيمته.. عتق عليه جميعه، ولا كلام، وإن كان لا يملك من الربح إلا بقدر بعض قيمته.. عتق عليه ذلك القدر، وقوم

(7/218)


عليه نصيب رب المال فيه إن كان العامل موسرا به، وإن لم يكن له مال آخر.. عتق منه بقدر نصيب العامل لا غير.
وأما إذا اشتراه وفي المال ربح حين الشراء:
فإن قلنا: إن العامل لا يملك حصته من الربح إلا بالمقاسمة، أو قلنا: إنه يملك حصته من الربح بالظهور، وقلنا - بأحد الوجهين في المسألة قبلها - على هذا القول: إنه لا يعتق عليه.. صح شراؤه هاهنا؛ لأنه لا ضرر على رب المال بذلك.
وإن قلنا: يملك حصته من المال بالظهور، وقلنا - بأحد الوجهين في المسألة قبلها - على هذا القول: إنه يعتق عليه حصته منه.. فهل يصح الشراء هاهنا؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يصح؛ لأنهما شريكان في المال، وأحد الشريكين إذا اشترى من يعتق عليه.. صح شراؤه.
فعلى هذا: إن كان العامل يملك من الربح قدر قيمته يوم الشراء.. عتق عليه، وإن كان لا يملك من الربح إلا أقل من قيمته، فإن كان موسرا بقيمة الباقي.. عتق عليه، وإن كان معسرا بقيمة باقيه.. عتق عليه بقيمة قدر ما ملك من الربح من رقبته، ورق الباقي.
والوجه الثاني: لا يصح الشراء؛ لأن ذلك يؤدي إلى تنجز حق العامل قبل رب المال، ولأنه إذا عتق بعضه، ولم يكن موسرا بقيمة الباقي.. نقصت قيمة الباقي، واستضر رب المال بذلك، والعامل لا يملك تصرف تصرفا فيه ضرر على رب المال.

[مسألة: يد عامل القراض يد أمانة]
والعامل أمين على مال القراض، لا يضمن شيئا منه إلا بالتعدي؛ لأن رب المال ائتمنه عليه، فهو كالمودع.

(7/219)


[فرع: إذا فرط العامل بمال القراض]
ضمنه] :
فإن خلط العامل مال القراض بمال له، ولم يتميزا.. صار ضامنا له؛ لأنه تعدى بذلك فضمنه كالمودع.
قال الشيخ أبو حامد: وإن أخذ العامل من رب المال ما ليس يمكنه القيام فيه والتصرف، فتصرف فيه وتلف، أو تلف بعضه.. لزمه ضمانه؛ لأنه كان يمكنه أن لا يأخذ إلا ما يمكنه القيام بحفظه والتصرف فيه، فإذا أخذ أكثر من ذلك.. صار مفرطا فيه، فضمنه.

[فرع: قارضه بألفي درهم فتلف أحدهما]
فيحسب من الربح أو رأس المال] : وإن دفع رجل إلى رجل آخر ألفي درهم قراضا، فتلف أحدهما.. نظرت فيه:
فإن تلف في يد العامل قبل أن يتصرف.. انفسخ القراض فيها، وكان رأس المال الألف الأخرى لا غير، وجها واحدا؛ لأنها تلفت وهي باقية بعينها، فهي كما لو تلفت قبل أن يقبضها العامل.
وإن تصرف العامل بالألفين، واشترى بهما وباع، ونض المال، ثم تلف منه ألف.. فإن التالف يكون من الربح، وجها واحدا؛ لأن الربح وقاية لرأس المال، فكان محسوبا منه.
وإن اشترى بكل واحد من الألفين عبدا، فتلف أحدهما.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن التالف من رأس المال، فيكون رأس المال ألفا لا غير؛ لأن العبدين بدل الألفين، ولو تلف أحد الألفين.. لكان محسوبا من رأس المال، فكذلك إذا تلف ما هو بدل عنه.
والثاني: أن التالف يحسب من الربح. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح

(7/220)


ويكون رأس المال ألفين؛ لأنه تلف بعد أن تصرف فيه، فكان محسوبا من الربح، كما لو باع العبد، وتلف ثمنه.

[فرع: اشترى عبد فتلف مال القراض قبل تسليم ثمنه]
وإن دفع إلى رجل ألف درهم قراضا، فاشترى العامل عبدا للقراض، فتلف الألف قبل أن يسلمه إلى بائع العبد.. نظرت:
فإن كان العامل اشترى العبد بعين الألف.. بطل بيع العبد، وانفسخ القراض؛ لأن تلف الثمن المعين قبل القبض يبطل به البيع.
وإن اشترى العبد بثمن في ذمته.. نظرت:
فإن كان تلف الألف قبل الشراء.. فإن القراض ينفسخ في الألف، ويلزم العامل ثمن العبد الذي اشتراه، وجها واحدا؛ لأنه اشتراه بعد انفساخ القراض، فلزمه الثمن.
وإن تلف الألف بعد الشراء.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الألف تلزم العامل؛ لأن إذن رب المال إنما تضمن التصرف في قدر المال الذي دفعه إليه في القراض، ولم يضمن أن يلزمه أكثر منه.
والثاني: أن الألف تلزم رب المال؛ لأن العامل اشترى العبد لرب المال؛ لأن إذنه له تضمن الشراء بعين المال وبثمن في الذمة، كرجل وكل وكيلا ليشتري له عبدا بثمن في ذمته، فسلم إليه ألفا لينقدها في الثمن، فاشترى له عبدا بألف في ذمته، ثم تلف الألف قبل أن يسلمه، فإن الموكل يلزمه ثمن العبد.
فإذا قلنا بهذا: ففي قدر رأس المال الوجهان في المسألة قبلها:
أحدهما: أن رأس المال الألفان الأول والثاني.
والوجه الثاني: أن رأس المال الألف الثاني لا غير.
فروع ثلاثة - ذكرها أبو العباس -:

(7/221)


الأول: [اشترى بمال القراض عبدا فقتله عبد آخر عمدا] :
إذا اشترى العامل عبدا بمال القراض، فقتله عبد آخر عمدا.. نظرت:
فإن لم يظهر في المال ربح حين القتل.. فالحق في ذلك لرب المال، فإن اقتص من العبد القاتل.. جاز، وإن عفا عنه على غير مال.. صح، وانفسخ القراض في قدر قيمة العبد المقتول، وإن عفا عنه على مال.. صح، وكان القراض ثابتا في المال الذي عفا عنه؛ لأنه بدل عن العبد، فإن كان ذلك المال مثل قيمة العبد المقتول، أو دونه.. كان ذلك لرب المال، وإن كان أكثر من قيمة المقتول.. كان قدر قيمة المقتول لرب المال، وما زاد على ذلك ربح بينهما.
وإن كان قد ظهر في المال ربح حين القتل.. فالحق فيه لرب المال والعامل، وهما بالخيار، فإن تراضيا على القصاص.. اقتصا، وإن عفوا على مال أو على غير مال.. صح، وإن عفا أحدهما عن القصاص.. صح عفوه، ولم يكن للآخر أن يقتص؛ لأن العامل يملك حصته من الربح في أحد القولين، وفي الآخر قد تعلق له فيه حق.
الفرع الثاني: [اشترى العامل بمال القراض جارية، لم يجز له وطؤها] :
إذا اشترى العامل جارية للقراض.. لم يجز له وطؤها؛ لأنه إن لم يظهر في المال ربح.. فهي ملك لرب المال، ولا يجوز له وطء جارية غيره، وإن ظهر في المال ربح، فإن قلنا: إنه لا يملك شيئا من الربح إلا بالقسمة.. فهي جارية غيره، وإن قلنا: إنه يملكه بالظهور.. فهي جارية مشتركة بينهما، ولا يجوز لأحد الشريكين وطء الجارية المشتركة.
ولا يجوز لرب المال وطؤها؛ لأنه إن كان في المال ربح، وقلنا: يملك العامل حصته بالظهور.. فهي مشتركة بينهما، وإن قلنا: لا يملكه إلا بالقسمة، أو لم يظهر في المال ربح.. فهي معرضة لكي يحصل فيها ربح، فيتعلق بها حق العامل، والوطء ينقصها، وربما أحبلها.

(7/222)


إذا ثبت هذا: فإن أذن رب المال للعامل في وطئها.. لم يجز؛ لأن الوطء لا يستباح بالإباحة، وإن أذن العامل لرب المال في وطئها، فإن كان قد ظهر في المال ربح، وقلنا: إنه يملك حصته منه بالظهور.. لم يجز؛ لما ذكرناه، وإن قلنا: لا يملكه إلا بالقسمة، أو لم يظهر في المال ربح.. جاز لرب المال وطؤها، كما لو أذن المرتهن للراهن في وطء الجارية المرهونة.
الفرع الثالث: [جارية القراض لا تزوج] :
إذا اشترى العامل جارية للقراض، فأراد أحدهما أن يزوجها دون الآخر.. لم يجز؛ لما ذكرناه في الوطء، فإن تراضيا على ذلك.. جاز؛ لأن الحق لهما، ولو اشترى العبد المأذون له في التجارة جارية، وأراد السيد تزويجها، فإن لم يكن على المأذون له دين.. جاز ذلك بغير رضا المأذون له؛ لأن الملك فيها للسيد دونه، وإن كان على المأذون له دين.. لم يجز للسيد، لأن حقوق الغرماء تعلقت بها.

[فرع: اشترى عبدا للقراض فأراد أحدهما أن يكاتبه دون الآخر]
فرع: [اشترى عبدا للقراض، لم يجز لأحدهما مكاتبته دون الآخر] : قال الشافعي: (إذا اشترى العامل عبدا للقراض، فاراد أحدهما أن يكاتبه دون الآخر.. لم يجز؛ لأن الكتابة إتلاف، فإن اتفقا على كتابته.. جاز، ثم ينظر فيه:
فإن كان العبد يساوي ألفا، ولا ربح في المال، وكاتباه على ألف فأداه.. عتق، وكانت الألف لرب المال، والولاء له، ولا حق للعامل فيه؛ لأنه لم يحصل في المال فضل.
وإن كاتباه على ألفين - وكان الربح بينهما نصفين - فأدى العبد ذلك.. عتق عليهما، وكان لرب المال ألف درهم رأس ماله، والألف الثانية بينهما نصفان، فيكون الولاء بينهما: لرب المال ثلاثة أرباع الولاء، وللعامل ربع الولاء) .

(7/223)


[فرع: اشترى جارية للمقارض الأول، ثم للثاني، فاشتبهتا]
إذا قارض رجل رجلا على مال، ثم قارض رجل آخر العامل على مال آخر.. صح القراض الثاني.
وقال أحمد: (لا يصح الثاني إذا كان فيه ضرر على الأول) .
دليلنا: أن هذا عقد جائز، فلا يمنع العقد مع المعقود معه، كالوكالة.
إذا ثبت هذا: فإن اشترى العامل للأول جارية بمائة، ثم اشترى للثاني جارية بمائة، واشتبهتا، ولم تتميزا.. ففيه قولان:
أحدهما: أن الجاريتين تكونان للعامل، سواء كان فيها ربح أو خسران، وعليه قيمتهما لربي المالين؛ لأن اختلاطهما بسبب منه، فصار كما لو أتلفهما. هكذا ذكر الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق.
وذكر ابن الصباغ: أن عليه - على هذا القول - ضمان المالين، وأراد: المالين اللذين اشترى بهما الجاريتين.
والقول الثاني: أن ربي المالين يكونان شريكين في الجاريتين، كما لو اختلط لرجلين كيسان.
فعلى هذا: تباع الجاريتان، فإن كان ثمنهما قدر رأس مالهما.. اقتسمه ربَّا المالين، وإن كان فيه ربح.. قاسمهما العامل بحسب شرطه مع كل واحد منهما، وإن كان فيه خسران.. كان ضمانه على العامل؛ لأنه حصل بتفريطه.
قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر عندي؛ لأن المفرط لا يضمن نقصان السوق، كالغاصب.

[فرع: جنى عبد المضاربة على غيره]
فله الفدية من مال المضاربة] :
قال الطبري: لو جنى عبد المضاربة على غيره.. كان للمضارب أن يفديه من مال المضاربة في أحد الوجهين؛ لأنه من صلاحه، فهو كالنفقة، خلافا لأبي حنيفة، ولو

(7/224)


أراد العامل أن يبيع العبد في أرش الجناية.. قال سهل: ليس ذلك؛ لأن له ملك المنفعة دون الرقبة، كالمستعير.
قال الطبري: وإن اشترى العامل عبدا بألف، وهو يساويه، ثم رجعت قيمته إلى خمسمائة، ثم قتل رجلا وله ابنان، فعفا أحدهما عن القصاص، فباع رب المال نصفه بحق الابن الثاني.. تعلق بالنصف الثاني رأس المال بخمسمائة في أحد القولين؛ لأن الذاهب في حكم المستهلك، ويستحيل أن يتفقا على المضاربة، ففي الحقيقة: الذي بقي على المضاربة نصف العبد، فيكون على المضاربة بنصف مال المضاربة، حتى إن زادت.. كانت الزيادة ربحا بينهما.

[مسألة: يفسخ القراض أحد المتعاقدين]
] : قد ذكرنا: أن عقد القراض غير لازم، ولكل واحد منهما أن يفسخه متى شاء، كالوكالة، فإذا فسخاه، أو فسخه أحدهما.. انفسخ، وليس للعامل أن يشتري بعد ذلك شيئا بمال القراض؛ لأنه إنما اشترى مع بقاء القراض وقد انفسخ. وأما البيع: فينظر فيه:
فإن كان المال ناضا من جنس رأس المال.. أخذ رب المال من رأس ماله، فإن كان هناك ربح.. اقتسماه، وإن لم يكن هناك ربح.. فلا شيء للعامل؛ لأنه لا يستحق في العمل بالعقد الصحيح في القراض إلا ما شرط له من الربح، ولا ربح هاهنا.
وإن كان المال عرضا أو نقدا من غير جنس رأس المال، فإن اتفقا على بيعه.. باعه العامل، فإن لم يكن فيه ربح.. أخذ رب المال رأس ماله ولا شيء للعامل، وإن كان فيه ربح.. اقتسما الربح، وإن اتفقا على أن يأخذ رب المال منه بقيمة رأس ماله، ويقتسما ما بقي من العرض.. جاز؛ لأن الحق لهما.
وإن طلب العامل البيع، وامتنع رب المال.. فقال البغداديون من أصحابنا: يجبر رب المال على البيع، سواء ظهر فيه ربح أو لم يظهر، لأن حقه من الربح إنما يظهر بذلك.

(7/225)


وقال المسعودي [في (الإبانة) ق \ 322] : إن ظهر فيه ربح.. فللعامل بيعه، وإن لم يظهر فيه ربح.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس للعامل البيع؛ لأنه لا حق له فيه.
والثاني: له بيعه؛ لأنه يرجو الربح بالبيع، فإن قال رب المال: لا تبع العرض، ولكن يقوم، وينظر ما فيه من الربح، وادفع إلى العامل نصيبه منه.. قال الشيخ أبو حامد: فليس للعامل أن يبيع؛ لأنه إنما يبيع ليحصل له حقه من الربح، فإذا دفع إليه رب المال ذلك.. فقد حصل حقه، وزال الضرر عنه، فلا حاجة به إلى البيع، كما قلنا فيمن استعار أرضا، فغرس فيها، ثم رجع المعير في العارية.. فليس له المطالبة بقلع الغراس؛ لأن في ذلك ضررا على المستعير، فإن دفع المعير قيمة الغراس ليتملكه، أو قال: اقلعه، وادفع أرش نقصه.. كان له ذلك؛ لأن الضرر يزول عن المستعير.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن ذلك مبني على القولين متى يملك العامل حصته من الربح؟ فإن قيل: يملكه بالظهور.. لم يجبر على أخذ قيمة حصته من العرض، كما لو كان بينهما عرض مشترك، فبذل أحدهما للآخر قيمة حقه منه، وإن قلنا: لا يملكه إلا بالقسمة.. ففيه وجهان، بناء على القولين في العبد الجاني إذا امتنع المولى من بيعه، وبذلك قيمته للمجني عليه:
أحدهما: لا يجبر على بيعه؛ لأن البيع لحقه، وقد بذل له حقه.
والثاني: يجبر؛ لأنه ربما زايد قيمته مزايد، فاشتراه بأكثر من قيمته، فإن أخذ رب المال العرض بقيمته، ثم زادت قيمته، وظهر فيه ربح وهو في يد رب المال.. فهل يتعلق حق العامل به؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في (الإبانة) ق \ 322] .
وإن طلب رب المال بيع العرض، وامتنع العامل من بيعه، وقال: خذه، وقد تركت حقي من الربح ولا أبيع العرض، فإن رضي رب المال بذلك.. جاز، وإن

(7/226)


طالبه بالبيع.. فذكر الشيخ أبو إسحاق: أن ذلك مبني على القولين في العامل متى يملك حصته من الربح؟ فإن قلنا: يملكه بالظهور.. لم يجبر رب المال على القبول؛ لأن قبول الهبة لا يجب، وإن قلنا: إنه لا يملك حصته إلا بالقسمة.. ففيه وجهان وقال ابن الصباغ: فيه وجهان، سواء كان فيه ربح أو لم يكن، وسواء قلنا: يملكه بالظهور أو بالقسمة:
أحدهما: لا يجبر العامل على البيع؛ لأن البيع لحقه، وقد رضي بإسقاطه.
والثاني: يجبر؛ ليصل رب المال إلى رأس ماله.

[فرع: فسخا القراض وهناك دين]
فإن فسخا القراض أو أحدهما، وكان هناك دين من مال القراض.. وجب على العامل أن يتقاضاه، سواء كان في المال ربح أو لم يكن فيه ربح.
وقال أبو حنيفة: (إن كان فيه ربح.. كان على العامل أن يتقاضاه، وإن لم يكن فيه ربح.. لم يكن عليه أن يتقاضاه) . كما لا يلزم الوكيل أن يتقاضى الدين إذا عزل.
ودليلنا: أن المضاربة تقتضي رد رأس المال على صفته، والديون لا تجري مجرى الناض.. فلزمه أن يستنضه، كما يلزمه بيع العروض، بخلاف الوكيل، فإنه لا يلزمه بيع العروض.

[مسألة: موت المقارض]
قال الشافعي: (وإن مات رب المال.. صار رأس مال القراض لوارثه، فإن رضي.. ترك المقارض على قراضه، وإلا.. فقد انفسخ القراض، وإن مات العامل.. لم يكن لوارثه أن يعمل مكانه) .
وجمله ذلك: أنه إذا مات أحد المتقارضين.. انفسخ عقد القراض؛ لأنه عقد جائز، فيبطل بالموت، كالوكالة.

(7/227)


إذا ثبت هذا: فإن كان الميت رب المال.. فقد انتقل ماله إلى وارثه، فإن اختارا أن يقيما على الفسخ، فإن كان المال ناضا من جنس رأس المال.. أخذ رب المال رأس ماله، واقتسما الربح إن كان هناك ربح، وإن كان المال عرضا.. فللعامل المطالبة ببيعه، وهل لرب المال المطالبة ببيعه؟ على ما ذكرناه إذا فسخا القراض والمال عرض، وهل يتولى العامل بيع العرض بنفسه؟ فيه وجهان:
قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: له ذلك؛ لأن انفساخ القراض بالموت كانفساخه بالفسخ وقد بينا: أن له أن يبيعه إذا فسخا، فكذلك إذا مات رب المال.
وقال ابن الصباغ: لا يلزم ورثة رب المال تمكينه من الانفراد بالبيع، بل يرفع ذلك إلى الحاكم ليأمر ببيعه؛ لأن الوارث لا يلزمه حكم ائتمان مورثه، ولهذا لو كان لمورثهم وديعة، فمات ولم يعلموا بها، ولا أعلمهم المودع.. ضمنها المودع.
وإن أراد وارث رب المال والعامل أن يعقدا قراضا.. نظرت:
فإن كان المال ناضا.. جاز؛ لأنه إن لم يكن فيه ربح.. فهو عقد لقراض على دراهم أو دنانير ينفرد الوارث بملكها، وإن كان فيه ربح أيضا.. جاز وإن كان ذلك العقد على مال مشاع؛ لأن الشريك هو العامل، وذلك لا يمنعه من التصرف، كما لو كان بينهما ألف، فقارض أحدهما الآخر.. فإنه يصح.
إذا ثبت هذا: فإن القراض يفتقر إلى تجديد عقد؛ لأن العقد الأول قد بطل بالموت.
قال الشيخ أبو حامد: وقول الشافعي: (فإن رضي.. ترك العامل على قراضه) لم يرد: أنه يتركه على العقد الأول، وإنما أراد: أنه يستأنف معه العقد ثانيا. وقول الشافعي: (وإلا.. فقد انفسخ القراض) لم يرد: أنه ينفسخ في هذه الحالة؛ لأنه انفسخ بالموت، وإنما أراد به: أنه يقيم على الفسخ الأول.
وإن كان المال عرضا، وأراد وارث رب المال والعامل استئناف عقد القراض عليه.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
قال أبو إسحاق المروزي: يصح، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الشافعي لم يفرق

(7/228)


بين أن يكون المال ناضا، أو عرضا، ولأن هذا ليس بابتداء قراض على العرض، وإنما هو بناء على قراض رب المال، ولأنا إنما منعنا القراض على غير الدراهم والدنانير؛ لأنه يحتاج عند المفاصلة إلى رد المثل، أو رد القيمة، وذلك يختلف باختلاف الأوقات، وهذا غير موجود في مسألتنا؛ لأن رأس المال هاهنا غير العرض.
ومن أصحابنا من قال: لا يصح، وهو اختيار الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق؛ لأن القراض الأول قد بطل بالموت، وهذا عقد قراض على العرض، فلم يصح، كما لو عقده على عرض قد اشتراه الوارث.
وما قاله أبو إسحاق ينكسر في المتقارضين إذا فسخا عقد القراض والمال عروض، ثم أرادا عقد القراض ثانيا على ملك العروض.. فإنه لا يصح وإن كان بناء على القراض الأول، ويمكن هاهنا أيضا رد رأس المال الذي عقدا عليه أولا.
وإن كان الميت هو العامل.. فقد ذكرنا: أن القراض ينفسخ بموته. فإن كان المال ناضا.. أخذ رب المال رأس ماله، وإن كان هناك ربح.. أقتسمه رب المال ووارث العامل، وإن كان المال عرضا.. بيع؛ ليظهر الربح فيه لوارث العامل، وليس لوارث العامل أن يبيعه إلا أن يأذن رب المال؛ لأن رب المال إنما رضي باجتهاد العامل دون ورثته، فإن لم يتفقا على من يبيعه.. رفع إلى الحاكم ليأمر ببيعه.
وإن أجاز رب المال ابتداء عقد القراض مع وارث العامل، فإن كان المال ناضا.. فقال البغداديون من أصحابنا: جاز، سواء كان في المال ربح أو لم يكن فيه ربح، كما قلنا في رب المال إذا مات.
وقال المسعودي [في (الإبانة) : ق \ 323] : إن كان في المال ربح.. لم يجز؛ لأنه شريك، وإن لم يكن فيه ربح جاز، فإن كان فيه خسران فشرط أن يجبر الخسران بتصرفه.. لم يجز، وإن كان المال عرضا.. لم يجز عقد القراض عليه، وجها واحدا

(7/229)


والفرق بين هذه والتي قبلها على قول أبي إسحاق: أن رب المال إذا مات بقي ماله الذي عقد عليه، ووارثه قد قام مقامه، فبنى القراض على الأصل الذي كان لمورثه، وهو موجود، وليس كذلك إذا مات العامل؛ لأنه إنما كان منه العمل، وإذا مات.. انقطع، وبطل عمله، فلم يبق له شيء موجود يبني عليه وارثه.

[فرع: مال المضاربة في التركة كالوديعة]
إذا مات العامل، ولم يعرف مال المضاربة بعينه.. كان بمنزلة من مات وعنده وديعة لغيره، ولم تعرف في ماله، وقد مضى ذكرها.

[فرع: فقد الأهلية يفسخ العقد]
وإن جن أحد المتقارضين، أو أغمي عليه.. انفسخ القراض؛ لأنه عقد جائز، فبطل بالجنون والإغماء، كالموت، فإذا أفاقا، وأرادا عقد القراض ثانيا.. فالذي يقتضي المذهب: أن حكمه حكم ما لو انفسخ القراض بموت رب المال على ما مضى.

[مسألة: القراض في مرض الموت بأكثر من أجرة المثل]
إذا قارض الرجل في مرض موته رجلا على أكثر من أجرة مثله.. صح، ولم يعتبر ما زاد على أجرة مثله من الثلث؛ لأنه إنما يعتبر من الثلث ما يخرجه المريض من ماله، ولم يخرج هاهنا شيئا من ماله؛ لأن الربح ليس من ماله، وإنما يحصل بكسب العامل، فإن مات وعليه ديون.. قدم حق العامل على ديون الغرماء؛ لأن حقه تعلق بعين المال.

[مسألة: ينفذ تصرف العامل ولو وجد شرط فاسد]
إذا دفع إلى رجل مالا قراضا، وشرط فيه شرطا فاسدا، وتصرف العامل فيه.. نفذ تصرفه؛ لأن رب المال قد أذن له في التصرف، وإنما شرط في العقد شرطا

(7/230)


يفسده، وفساد الشرط لا يقدح في الإذن، فإذا كان الإذن باقيا.. صح تصرفه كما لو أذن له في التصرف من غير عوض.
فإن قيل: ما الفرق بين هذا، وبين من باع بيعا بثمن فاسد.. أن البيع لا يصح؟
قلنا: الفرق بينهما: أن البيع مشتمل على ثمن ومثمن، وأحدهما لا ينفك عن الآخر، فإذا بطل أحدهما.. بطل الآخر، ففسد العقد، وليس كذلك الإذن بالتصرف على عوض، فإن أحدهما قد ينفك عن الآخر، فإذا فسد الشرط.. لم يؤثر في الإذن، فإن حصل في المال ربح.. كان الربح لرب المال؛ لأنه نماء ماله، ولا شيء للعامل فيه، ويستحق أجرة المثل، سواء حصل في المال ربح أو لم يحصل.
ومن أصحابنا من قال: إن رضي العامل على أن يعمل بغير عوض، بأن قال: قارضتك على أن الربح كله لي.. لم يستحق العامل شيئا. وليس بشيء.
وقال مالك: (إن لم يحصل في المال ربح لم يستحق العامل أجرة) .
ودليلنا: أنه عمل في قراض فاسد، فاستحق أجرة المثل، كما لو لم يرض إلا بعوض، وكما لو حصل في المال ربح.

[فرع: المقارضة بالدين]
إذا كان لرجل على رجل دين، فقال له: أعزل المال الذي لي عليك، وقد قارضتك عليه.. لم يصح القراض؛ لأن الإنسان لا يصح قبضه دين غيره من نفسه، ولأنه قراض على صفة، فلم يصح، كما لو دفع إليه ثوبا، وقال: بعه، وإذا بعته.. فقد قارضتك على ثمنه.
إذا ثبت هذا: فإن عزل من عليه الدين قدر الدين من ماله، واشترى بعينه شيئا.. كان ذلك ملكا لمن عليه الدين؛ لأنه اشتراه بعين ماله، وإن اشترى شيئا بثمن في ذمته بنية القراض، ونقد الثمن من الذي عزله.. ففيه وجهان:

(7/231)


أحدهما: أن الشراء يقع لمن له الدين، وتبرأ ذمه المشتري من الدين بتسليمه إلى البائع؛ لأنه سلمه إليه بإذنه، ويكون الربح كله له، ويجب عليه للعامل أجرة مثله.
والثاني - وهو المذهب -: أن الشراء لمن عليه الدين، ولا تبرأ ذمته من الدين، ولا أجرة له؛ لأنه لا يصح أن يشتري شيئا بنية القراض؛ إلا إذا كان في يده مال القراض، وليس في يده مال للقراض؛ لأنا بينا أن قبضه من نفسه لا يصح.
مسألة: [قبول قول العامل في دعوى التلف] :
إذا ادعى العامل تلف مال القراض، وأنكر رب المال، ولا بينة.. فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأن يتصرف في مال غيره بإذنه، فقبل قوله في التلف، كالوكيل.

[فرع: دعوى العامل رد مال القراض وإنكار المقارض]
وإن ادعى من بيده مال القراض لغيره: أنه رده على مالكه، وأنكر المالك.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: إن قبض العين لمنفعة المالك، ولا منفعة للقابض فيها، وهو المودع والوكيل بغير جعل.. فقبل قول القابض مع يمينه في الرد، وجها واحدا؛ لأنه لا منفعة للقابض، وإنما المنفعة للمالك، ولأن يد القابض كيد المالك، بدليل: أنه يملك انتزاعها من يده متى شاء.
الثانية: إذا كانت المنفعة في العين للقابض دون المالك، وهو المرتهن والمستعير والمستأجر.. فلا يقبل قول القابض في الرد، وجها واحدا؛ لأن المنفعة فيها للقابض، ولأن يده ليست كيد المالك.
الثالثة: إذا كانت المنفعة في العين للقابض والمالك، وهو: العامل في

(7/232)


القراض، والوكيل بجعل، والأجير المشترك، إذا قلنا: ليس بضامن.. فهل يقبل قوله مع يمينه في الرد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل لأنه قبض العين لمنفعة نفسه، فهو كالمستعير.
والثاني: يقبل قوله مع يمينه، وهو الأصح؛ لأن معظم المنفعة فيها للمالك، فهو كالمودع، ولأن المالك يملك انتزاعها من يده متى شاء، فهو كالوكيل بغير جعل.

[فرع: اختلاف المقارض وعامله على نسبة الربح]
وإن قال العامل: شرطت لي نصف الربح، وقال رب المال: بل شرطت لك ثلث الربح.. تحالفا؛ لأنهما اختلفا في صفة العقد، كالمتبايعين، فإذا حلفا.. كانا كالمتبايعين إذا تحالفا، وهل ينفسخ العقد بنفس التحالف، أو بالفسخ؟ على ما مضى.
وإذا انفسخ العقد، أو فسخه أحدهما.. وجب للعامل أجرة المثل فيما عمل.

[فرع: اختلفا في قدر رأس المال ولا بينة]
] : وإن اختلفا في قدر رأس المال، فقال العامل: رأس المال مائة، وقال رب المال: بل رأس المال مائتان، ولا بينة.. فالقول قول العامل مع يمينه، وحكى الشيخ أبو إسحاق وجها آخر: إن كان في المال ربح.. تحالفا، والأول أصح؛ لأن الاختلاف فيما قبضه العامل، والأصل عدم القبض إلا فيما أقر به، ولأن المال في يد العامل، ورب المال يدعي جميعه، والعامل لا يقر له إلا ببعضه.. فكان القول قول صاحب اليد.

[فرع: اختلاف العاملين والمقارض على رأس المال بعد المضاربة]
وإن دفع رجل إلى رجلين مالا قراضا، على أن له النصف من الربح، والنصف الآخر بينهما نصفان، فتصرفا، فبلغ المال ثلاثة آلاف، فقال رب المال: رأس المال

(7/233)


ألفا، والربح ألف، فصدقه أحد العاملين على ذلك، وكذبه العامل الآخر، فقال: بل رأس المال ألف، والربح ألفان، ولا بينة هاهنا.. فإن القول قول المكذب مع يمينه: أن رأس المال ألف، فإذا حلف.. أخذ خمسمائة، وبقي ألفان وخمسمائة، والعامل المصدق قد وافق رب المال على ما ادعاه، فأخذ رب المال ألفين رأس ماله، وما غصب من مال القراض.. فإنه يكون محسوبا من الربح.
فإذا ثبت هذا: فإن رب المال والعامل المصدق يقولان: الربح ألف لا غير، وقد أخذ العامل الحالف منه خمسمائة، فنصفها - وهو مائتان وخمسون - لرب المال، والنصف الآخر بين العاملين، فالحالف يستحق مما أخذ مائة وخمسة وعشرين، والمصدق يستحق منها مثل ذلك نصيبه، وقد بقي من الربح في يد رب المال والمصدق خمسمائة، فلرب المال نصفها - مائتان وخمسون - ولكل واحد من العاملين مائة وخمسة وعشرون، فيكون الحالف قد غصب رب المال والمصدق ثلاثمائة وخمسة وسبعين، لرب المال ثلثها، وللعامل ثلثها، وقد وجد له من جنس حقهما مائة وخمسة وعشرون، فيقسمانها على قدر حقيهما، لرب المال ثلثاها وهو ثلاثة وثمانون وثلث درهم، وللعامل ثلثها، وهو أحد وأربعون وثلثا درهم، فيحصل لرب المال - من الخمسمائة التي بقيت من الربح معهما - ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث، ويحصل للعامل مائة وستة وستون وثلثان.

[فرع: اختلاف العامل والمقارض في المشتري]
] : فإن اشترى العامل عبدا، فظهر فيه ربح، فقال رب المال: اشتريته للقراض، وقال العامل: بل اشتريته لنفسي، ولا بينة.. فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأن العبد في يده، فكان القول قول فيه، ولأنه قد يشتريه لنفسه، وقد يشتريه للقراض، ولا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالنية، وهو أعلم بنيته.
فإن أقام رب المال بينة: أن العامل اشتراه بمال القراض.. ففيه وجهان:

(7/234)


أحدهما: أنه يحكم به للقراض؛ لأن الظاهر مما اشتراه بمال القراض أنه للقراض.
والثاني: أنه لا يحكم به للقراض، بل القول قول العامل مع يمينه؛ لأنه قد يشتريه بمال القراض على وجه التعدي، فلا يحكم به للقراض؛ لبطلان البيع فيه.
وإن اشترى العامل عبدا، فظهر فيه خسران، فقال العامل: اشتريته للقراض، وقال رب المال: بل اشتريته لنفسك.. فالمنصوص هاهنا: (أن القول قول العامل مع يمينه؛ لأنه أعلم بنيته) .
وحكى أبو العباس - إذا اختلف الوكيل والموكل في بيع عين أو شرائها.. فقال الموكل: ما بعتها، أو ما اشتريتها، وقال الوكيل: بل بعتها أو اشتريتها - عن الشافعي قولين:
أحدهما: (القول قول الوكيل) .
والثاني: (القول قول الموكل) .
واختلف أصحابنا في القراض:
فمنهم من قال: فيها قولان، كما قلنا في الوكيل والموكل.
وقال أكثرهم: بل القول قول العامل في القراض، قولا واحدا.
والفرق بينهما: أن الوكيل والموكل يختلفان في أصل البيع والشراء، فكان القول قول الموكل؛ لأن الأصل عدم ذلك، وهاهنا اتفقا على أصل الشراء، وإنما اختلفا في نية العامل، وهو أعلم بنيته.

[فرع: اختلفا في النهي عن شراء عبد]
وإن اشترى العامل عبدا، فقال رب المال: كنت نهيتك عن شرائه، وأنكر العامل النهي.. فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأن الأصل عدم النهي، ويكون العبد في القراض.

(7/235)


[فرع: استقراض العامل لإكمال مال المقرض]
قال الشافعي في " أمالي حرملة ": (وإذا دفع إلى رجل إلى مائة درهم قراضا، فتصرف فيها، فخسر خمسين، فقال لصديق له: أقرضني خمسين لأضمها إلى ما معي؛ ليرى ذلك رب المال ولا ينزعها مني، فإذا ترك المال في يدي.. رددت الخمسين إليك، فأقرضه خمسين، وأضافها إلى الخمسين التي بقيت معه، فلما حمل المال إلى رب المال.. أخذ رب المال المائة، وفسخ القراض، فادعى المقرض: أن له في المال خمسين أقرضه إياها، وأنه يستحق أخذها، وأقام على ذلك بينة.. لم يكن له أخذ الخمسين؛ لأن المستقرض ملكها، وزال ملكه عنها إلى رب المال، فصار بمنزلة ما لو تلفت في يده، ويكون حق المقرض في ذمة العامل) .

[فرع: تراجع العامل عن قوله ربحت]
فإن قال العامل: ربحت في المال ألفا، ثم قال بعد ذلك: غلطت، فظننت أني ربحت ذلك، ثم نظرت في الحساب، فلم أكن ربحت، أو قال: أظهرت ذلك خوفا من أن ينتزع المال من يدي.. لم يقبل رجوعه؛ لأنه تعلق بذلك حق رب المال، فلم يسقط برجوعه، كما لو أقر لغيره بدين، ثم رجع عنه.
فإن قال: قد كان حصل في المال ربح، ثم تلف.. قبل قوله؛ لأنه أمين، فقبل قوله في التلف.
قال أبو علي في (الإفصاح) : وإنما يقبل قوله هاهنا في الخسران إذا كان قد تصرف فيه بعد ذلك، وإن لم يتصرف وكان السعر بحاله.. لم يصدق.

[فرع: اختلفا في المال قرضا أو قراضا]
قال الطبري في (العدة) : وإن دفع إلى رجل مالا، فتلف في يده، ثم اختلفا، فقال رب المال: دفعته قرضا، وقال القابض: بل أخذت قراضا، وأقام كل واحد بينة.. فبينة العامل أولى في أحد الوجهين، خلافا لأبي حنيفة.

(7/236)


وقال الطبري: ولو قارضه على نقد، ثم تصرف العامل فيه، ثم أبطل ذلك النقد.. فالظاهر من المذهب: أنهما متى أرادا المفاصلة.. أنه يرد مثل النقد الذي عقدا عليه القراض، ثم يقتسمان الباقي.
وقال بعض أصحابنا: يرد من النقد الحادث. حكاه أبو علي السنجي، والأول أصح.
وبالله التوفيق.

(7/237)


[باب العبد المأذون له]
لا يجوز للعبد أن يتجر بغير إذن مولاه؛ لأن منافعه مستحقة لمولاه، فلا يجوز إبطالها عليه بغير إذنه، فإن رآه المولى يتجر، فسكت عنه، ولم يأمره، ولم ينهه، لم يصر مأذونا له في التجارة.
وقال أبو حنيفة: (يصير مأذونا له) .
دليلنا: أنه تصرف يفتقر إلى الإذن.. فلم يقم السكوت مقامه، كما لو باع الراهن الرهن والمرتهن ساكت.

(7/238)


وإن باع العبد شيئا بغير إذن مولاه.. لم يصح؛ لأنه مال لسيده، فلم يصح بيعه بغير إذنه، كمال الأجنبي.
وإن اشترى العبد شيئا في ذمته، أو اقترض شيئا.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
(الأول) : قال أبو إسحاق، وأبو سعيد الإصطخري: لا يصح؛ لأنه عقد معاوضة، فلم يصح من العبد بغير إذن سيده، كالنكاح.
و (الثاني) : قال أبو علي بن أبي هريرة، وغيره: يصح؛ لأنه محجور عليه لحق غيره، فصح تصرفه بثمن في ذمته، كالمفلس، وفيه احتراز من السفيه.
فإذا قلنا: يصح الشراء والقراض.. قال ابن الصباغ: فللبائع والمقرض الرجوع فيه إذا كان في يد العبد؛ لأنه قد تحقق إعساره، وإن كان قد تلف في يده.. رجع عليه بالثمن وعوض القرض إذا أعتق وأيسر، وإن كان السيد قد قبضه.. فقد ملكه، وليس للبائع والمقرض الرجوع فيه؛ لأن السيد أخذ ذلك، وله أخذه، فسقط حق البائع والمقرض، كما يسقط حق البائع ببيع المبيع ورهنه، ويكون للبائع أو المقرض العوض في ذمة العبد إلى أن يعتق ويوسر.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن المبيع يدخل في ملك السيد، فإن علم البائع برقه.. لم يطالبه بشيء حتى يعتق، وإن لم يعلم برقه، ثم علم.. فهو بالخيار: بين أن يصبر إلى أن يعتق، وبين أن يفسخ البيع، ويرجع إلى عين ماله، ولم يفرق: بين أن يقبضه السيد من العبد، أو لم يقبضه.
وإن قلنا: إن الشراء والقرض فاسدان.. فإن البائع والمقرض يرجعان في العين إذا كانت باقية، سواء كانت في يد العبد أو في يد السيد؛ لأن ملكهما باق عليها. وإن كانت تالفة، فإن تلفت في يد العبد قبل أن يقبضها السيد.. رجع عليه البائع والمقرض ببدلها إذا عتق وأيسر، وإن قبضها السيد.. فالبائع والمقرض بالخيار: بين أن يرجع على السيد ببدلها في الحال، وبين أن يصبر إلى أن يعتق العبد ويوسر، فيرجع عليه.

(7/239)


[مسألة: اتجار العبد بإذن مولاه]
وإن اتجر العبد بإذن المولى.. صح؛ لأن المنع منه لحق المولى، فزال بإذنه، فإن حصل عليه ديون في المعاملة، فإن كان في يده مال.. قضيت منه الديون، وإن لم يكن في يده شيء.. فإن الديون تكون في ذمته تتبع به إذا عتق وأيسر، ولا تتعلق برقبته ولا بذمة السيد، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (يباع العبد فيه إذا طالب الغرماء ببيعه) .
وقال أحمد: (تتعلق بذمة السيد) .
ودليلنا على أبي حنيفة: أن دين ثبت على العبد برضا من له الدين، فوجب أن لا يتعلق برقبته، كما لو استقرض بغير إذن سيده.
وليلنا على أحمد: أن السيد لا يضمن عن عبده، وإنما أذن له في التجارة، وهذا لا يوجب ثبوت ذلك في ذمة السيد، كالمرتهن إذا أذن للراهن بالتصرف في الرهن.

[مسألة: يتصرف العبد بما أذن له فيه]
ولا يتصرف العبد المأذون له إلا على حسب ما أذن له فيه سيده، فإن دفع إليه مالا، وقال له: اتجر فيه.. كان له أن يبيعه، ويشتري بثمنه.
وإن أذن له: في التجارة مطلقا.. فهل يصح؟ فيه وجهان، حكاهما في (العدة) :
أحدهما: يصح؛ لعموم إذنه.
والثاني: لا يصح، وهو اختيار أبي طاهر؛ لأن الإطلاق مجهول، فلم يصح، كالوكالة.
وإن أذن له أن يتجر بذمته.. فهل يصح؟ فيه وجهان، الصحيح: أنه يصح. وإن أذن له في التجارة في صنف من المال.. لم يتجر في غيره.

(7/240)


وقال أبو حنيفة: (يجوز) .
دليلنا: أنه تصرف مستفاد بالإذن من جهة الآدمي، فكان مقصورا على ما أذن فيه، كالمضارب، وفيه احتراز من الصبي إذا بلغ، فإنه تصرف مستفاد بالشرع.
وإن أذن له في التجارة.. لم يملك أن يؤاجر ما اشتراه للتجارة، ولا أن يؤاجر نفسه، ومن أصحابنا من قال: له أن يؤاجر الأعيان التي اشتراها للتجارة.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يؤاجر نفسه) .
والأول أصح؛ لأن المأذون فيه هو التجارة، والإجارة ليست من التجارة. وعلى قول أبي حنيفة: إنه عقد على نفسه، فلا يملكه بالإذن في التجارة، كالبيع، والنكاح.

[فرع: تصرف العبد في مال التجارة غير مطلق]
ولا يبيع بدون ثمن المثل، ولا بنسيئة، ولا بغير نقد البلد، ولا يسافر بالمال من غير إذن السيد؛ لأن تصرفه لغيره بإذنه، فهو كالوكيل، ولا يجوز له أن يتخذ دعوة، ولا يهب بغير إذن سيده.
وقال أبو حنيفة: (يجوز ذلك) .
دليلنا: أنه تبرع بمال مولاه من غير إذنه، فلم يصح، كمال سيده الذي في يده.

[فرع: ادعاء العبد الإذن بالتجارة دون بينة]
] : إذا زعم العبد: أن سيده أذن له في التجارة.. فليس لأحد معاملته حتى يعلم الإذن.
وقال أبو حنيفة: (يجوز) .
دليلنا: أن الأصل عدم الإذن، كالراهن إذا ادعى: أن المرتهن أذن له في بيع الرهن.

(7/241)


وإن زعم العبد: أن سيده قد حجر عليه، وقال السيد: لم أحجر عليه.. لم يصح تصرف العبد.
وقال أبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: أن الاعتبار بالمتعاقدين، والعبد يزعم: أنه لا يصح عقده، فهو كما لو قال: أبيعك هذه العين وإن كنت لا أملكها.

[فرع: إباق العبد لا يبطل الإذن له]
إذا أبق العبد المأذون له في التجارة.. لم يبطل إذن سيده له.
وقال أبو حنيفة: (يبطل) .
دليلنا: أن الإباق معنى لا يمنع من ابتداء الإذن في التجارة، فلم يمنع استدامته، كما لو غصب أو حبس بدين عليه.

[فرع: شراء العبد المأذون من يعتق على سيده]
] : وإن اشترى العبد المأذون له في التجارة من يعتق على سيده، كوالده، أو ولده.. نظرت:
فإن كان السيد قد نهاه عن شرائه.. لم يصح شراؤه، قولا واحدا، سواء كان عليه دين أو لم يكن؛ لأنه يملك التصرف بإذنه، فلا يملك ما نهاه عنه.
وإن أذن له السيد في شرائه.. صح شراؤه، كما لو اشتراه السيد بنفسه.
فإن لم يكن على المأذون له دين.. عتق عليه، وإن كان عليه دين.. فهل يعتق عليه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يعتق عليه؛ لأن حقوق الغرماء تعلقت بماله، فصار كالمستحق لهم.
والثاني: يعتق عليه، ويغرم السيد قيمته للغرماء إن كان موسرا بها؛ لأنه ملكه، فعتق عليه، وإن كان معسرا بها.. لم يعتق عليه؛ لأن عتقه يؤدي إلى الإضرار بالغرماء.

(7/242)


وإن اشتراه العبد بغير إذن سيده من غير أن ينهاه عنه.. فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح، وهو الصحيح؛ لأن إذن السيد تضمن شراء ما فيه حظ ويمكنه التجارة فيه، ولا يتناول من يعتق عليه، كالعامل في القراض إذا اشترى من يعتق على رب المال.
والثاني: يصح الشراء؛ لأن الشراء لا يصح من العبد بنفسه وإنما يشتري بإذن سيده، فإذا أذن له في الشراء.. تناول شراء كل ما يملكه السيد بنفسه، ويفارق العامل في القراض، فإن يصح له أن يشتريه لنفسه، ويصح لرب المال، فلم يصح في حق رب المال إلا ما تضمنه إذنه.
فإذا قلنا بهذا: فإن لم يكن على المأذون له دين.. عتق العبد، وإن كان عليه دين.. فهل يعتق العبد؟ قال الشيخ أبو حامد: ينظر فيه.
فإن كان السيد معسرا.. لم يعتق، قولا واحدا.
وإن كان موسرا بقيمته.. فهل يعتق؟ فيه قولان، كالمرهون.
فإذا قلنا: يعتق.. غرم السيد قيمته للغرماء.
وأما ابن الصباغ: فقال: إذا كان على المأذون له دين.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يبطل الشراء؛ لأن الدين يمنع من عتقه، فكان بطلان العقد أحسن.
والثاني: يصح الشراء، ولا يعتق.
والثالث: يعتق عليه، وتكون ديون الغرماء في ذمة السيد.
وقال أبو حنيفة: (إن لم يكن دفع إليه المال وإنما أذن له في التجارة.. صح الشراء، وعتق على مولاه، وإن كان دفع إليه مالا.. لم يصح الشراء ورد على مولاه) .
دليلنا: أنه إذن مطلق في الشراء، فلم يتناول من يعتق على الآذن، كما لو دفع إليه مالا.

(7/243)


[مسألة: اكتساب العبد ملك لسيده إلا ما ملكه إياه]
إذا اكتسب العبد مالا، بأن احتش أو اصطاد، أو عمل في معدن، فأخذ منه مالا، أو اتهب مالا، أو أُوصي له به، فقبله.. فإن العبد لا يملكه ما لم يملكه السيد، بلا خلاف على المذهب، وإنما يدخل ذلك في ملك السيد.
وقال مالك: (يدخل في ملك العبد، وللسيد أن ينتزعه منه، فإن عتق قبل ينتزعه منه.. استقر ملك العبد عليه) . وبه قال داود، وأهل الظاهر، وإسحاق، وهي إحدى الروايتين عن أحمد، ويأتي الدليل عليهم.
فأما إذا ملكه السيد مالا.. فهل يملكه؟ فيه قولان:
(الأول) : قال في القديم: (يملكه) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعتق عبدا وله مال.. فمال العبد له، إلا أن يستثنيه السيد، فيكون له» .
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من باع عبدا وله مال.. فماله للبائع، إلا أن يشترطه

(7/244)


المبتاع» . فأضاف إليه المال، وحقيقة الإضافة تقتضي الملك إذا كانت الإضافة إلى من هو من أهل الملك، ولأنه آدمي حي، فملك المال، كالحر.
و (الثاني) : قال في الجديد: (لا يملك) . وبه قال أبو حنيفة، والثوري، والرواية الأخرى عن أحمد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] (النحل: 75) . فنفى قدرته على شيء، فلو قلنا: إنه يملك.. لأثبتنا له قدرة على ما يملك، ولأنه سبب يملك به المال، فلم يملك به العبد، كالإرث.
وأما الخبر الأول: فلا يعرف.
وأما الثاني: ففيه دليل على: أنه لا يملك؛ لأنه قال: (فماله للبائع) . فلو ملكه العبد.. لما جعله للبائع، فدل على: أن إضافة الملك إليه إنما هي إضافة مجاز، لا أنها إضافة تقتضي الملك.
إذا ثبت هذا: فإن للقولين فوائد.
منها: إذا ملكه السيد نصابا من المال، فإن قلنا بقوله الجديد.. فالزكاة فيه على السيد؛ لأن ملكه لم يزل عنه. وإن قلنا بالقديم.. لم تجب الزكاة فيه على السيد؛ لأنه قد زال ملكه عنه، ولا على العبد؛ لأن ملكه ضعيف.
ومنها: إذا ملكه السيد جارية، قلنا بالجديد.. لم يجز للعبد وطؤها؛ لأنه لا يملكها. وإن قلنا بالقديم، فإن أذن له السيد في وطئها.. جاز له وطؤها، وإن لم يأذن له في وطئها.. لم يجز له وطؤها.
ومنها: إذا وجبت على العبد كفارة، فإن قلنا بالجديد.. لم يجز له أن يكفر بالإطعام ولا بالكسوة؛ لأنه لا يملك ذلك، بل يكفر بالصوم. وإن قلنا بالقديم.. جاز له أن يكفر بالإطعام والكسوة، ولا يكفر بالعتق بكل حال؛ لأن العتق يتضمن الولاء، والعبد ليس ممن يثبت له الولاء.

(7/245)


ومنها: إذا ملكه السيد مالا، ثم باعه وماله، فإن قلنا بقوله الجديد.. لم يصح البيع حتى يكون ماله معلوما عند المتبايعين؛ لأنهما مالان مبيعان. فإن كان ماله دراهم، فباع العبد وماله بدراهم، أو كان ماله دنانير، فباعه وماله بدنانير.. لم يصح البيع؛ لأن ذلك ربا، وإن كان ماله دنانير، فباع العبد وماله بدراهم، أو كان ماله دراهم، فباع العبد وماله بدنانير.. فعلى القولين فيمن جمع بين بيع وصرف. وإن قلنا بقوله القديم، واشترط المبتاع ماله.. صح البيع فيهما وإن كان المال مجهولا عندهما، أو عند أحدهما؛ للخبر.
واختلف أصحابنا في تعليله:
فمنهم من قال: إنما صح ذلك؛ لأن البيع ينصرف إلى العبد، وأما ماله.. فهو تابع له، فلم تؤثر الجهالة فيه، كما لا تؤثر الجهالة في طي الآبار، وأساس الحيطان، وسقوف البيوت، إلا أنه إذا باع العبد بدراهم، وكان ماله دراهم، أو باعه بدنانير، وكان ماله دنانير.. لم يصح البيع على هذا التعليل؛ لأن الربا يحرم في التابع، كما يحرم في المتبوع.
ومنهم من قال: إنما يصح البيع فيهم وإن كان ماله مجهولا؛ لأن ماله غير مبيع، بل يبقى على ملك العبد.
فعلى هذا: يصح أن يبيع العبد وماله إن كان دراهم بدراهم، وإن كان دنانير بدنانير، وهذا التعليل هو الأصح؛ لأن الشافعي قال في القديم: (وعاب علينا بعض الناس، فقال: إنكم تجوزون أن يشتري عبدا ومعه ألفا درهم بألف درهم، فيقبض المشتري الثمن بأحد الألفين، ويسلم له العبد والألف الآخر) ، فالتزم الشافعي السؤال، وتكلم عليه، فدل على: أن ذلك يصح على القديم، وهذا لا يستقيم إلا على هذه العلة.

(7/246)


[فرع: اشتراط المبتاع ومال العبد]
إذا اشترى عبدا، وله مال، وقلنا: يملكه العبد، فاشترطه المبتاع مع العبد.. كان للمشتري أن ينتزع المال منه، فإن انتزعه منه، وأتلفه، ثم وجد بالعبد عيبا.. لم يكن له رده.
وقال داود: (يرد العبد وحده) . وهذا ليس بصحيح؛ لأن العبد إذا كان ذا مال تكون قيمته أكثر، فتلف المال ينقص من قيمته، فلم يجز رده مع ذلك.
والله أعلم.

(7/247)