البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب المساقاة]

(7/249)


كتاب المساقاة تجوز المساقاة على النخل، وهي: أن يدفع الرجل نخله إلى رجل ليعمل عليها، وتكون الثمرة بينهما على ما يشترطان.
وإنما سيمت بذلك؛ لأن أكثر عمل أهل الحجاز على النخل السقي من الآبار، فسميت بذلك.
وممن قال بصحة المساقاة: أبو بكر، وعمر، وسعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وأبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة وزفر: (لا تصح المساقاة) .

(7/251)


دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «افتتح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر على أن له الأرض وكل صفراء أو بيضاء - يعني: الذهب والفضة - فقالوا: نحن أعلم بالأرض منكم، فأعطونا على أن لنا النصف، ولكم النصف، فأعطاهم، فلما كان وقت الثمرة.. بعث إليهم عبد الله بن رواحة ليحزر الثمرة، فحزرها عليهم، فقالوا: يا ابن رواحة، أكثرت علينا، فقال: إن شئتم.. فلكم، وضمنتم نصيب المسلمين، وإن شئتم.. فلي، وأضمن لكم نصيبكم، فقالوا: هذا هو الحق، وبه قامت السماوات» .
وروي: «أن عبد الله بن رواحة خرص عليهم أربعين ألف وسق، فكان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها عشرون ألفا، ولهم عشرون ألفا» .
وروى ابن عمر: (أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساقى أهل خيبر على تلك الأصول بالشطر) .
وتجوز المساقاة على الكرم، وقال داود: (لا تجوز المساقاة على الكرم) .
دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من النخل والشجر» .

(7/252)


ولأن الكرم شجر تجب الزكاة في ثمرته، فجازت المساقاة عليه، كالنخل.
وإن دفع إليه وديا مقلوعا، وقال: اغرسه، وقد ساقيتك عليه.. لم يصح؛ لأنها مساقاة بصفة، ولأن المساقاة إنما تصح على أصل ثابت وهذا خشب. وإن كان مغروسا وقد علق، فساقاه على مدة يحمل إليه.. صح؛ لأنه بالعمل عليه يحصل الثمر، كما يحصل بالعمل على النخل.
و (الودي) - بكسر الدال وتشديد الياء -: هو فسيل النخل.
وكذلك: تصح المساقاة على صغار الكرم إذا غرس وعلق إلى وقت يحمل فيه.
ولا تجوز المساقاة على البقول، والقصب الفارسي، والبطيخ، والقثاء، والتوت الذكر الذي ثمرته الورق؛ لأنها كالزرع، فلم تجز المساقاة عليها، كما لا تجوز المخابرة على الزرع. وهل تصح المساقاة على سائر الأشجار المثمرة، كالتين، والتفاح، والمشمش، والرمان، والسفرجل، والتوت الشامي؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يصح) . وهو قول مالك، وأبي يوسف، ومحمد؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من النخل والشجر» . و (الشجر) : اسم لكل شجرة مثمرة، ولأنها أشجار مثمرة، فصحت المساقاة عليها، كالنخل والكرم.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يصح) ؛ لأنها أشجار لم تجب في نمائها الزكاة، فلم تصح المساقاة عليها، كالخلاف، والقصب الفارسي. وأما الخبر: فمحمول على الشجر الذي كان بخيبر، ولم يكن بها غير النخل والكرم. وهل تصح المساقاة على الثمرة الظاهرة؟ ينظر فيها:
فإن كان قد بدا الصلاح فيها.. لم تصح المساقاة عليها، قولا واحدا؛ لأنها قد

(7/253)


استغنت عن عمل يكون فيه زيادتها وتنميتها.
وإن ظهرت ولم يبد فيها الصلاح.. فهل تصح المساقاة عليها؟ فيه قولان:
قال في " الأم " [3/238] : (تصح) . وبه قال مالك؛ لأنه إذا جازت المساقاة عليها قبل ظهورها.. فبعد ظهورها أولى.
وقال في "البويطي ": (لا يصح) ؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من ثمر وزرع» . فذكر على ما يخرج لا على ما خرج، ولأن الثمرة إذا خرجت.. فقد حصل المقصود، فصار ذلك بمثابة أن يقارضه على المال بعد ظهور الربح. هذا نقل بعض أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 325] : إذا ظهرت الثمرة ولم يبد فيها الصلاح.. صحت المساقاة فيها، وجها واحدا، وإن ظهرت وبدا فيها الصلاح.. فهل تصح المساقاة عليها؟ فيه وجهان.

[مسألة: تعيين حائط المساقاة شرط]
وإن قال: ساقيتك على أحد هذين الحائطين.. لم يصح، كما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين.
وإن ساقاه على حائط له معين، إلا أن العامل لم يره.. فقد اختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: فيها قولان، كما لو اشترى عبدا معيبا لم يره.
ومنهم من قال: لا يصح، قولا واحدا؛ لأن المساقاة معقودة على الغرر، فلا يجوز أن يضاف إليها الغرر بعدم الرؤية.

[مسألة: تأقيت المساقاة شرط]
ولا تصح المساقاة إلى مدة معلومة؛ لأنها عقد لازم، فلو جاز عقدها إلى غير مدة.. لاستحقها العامل على الدوام، وهذا حكم الأملاك.
إذا ثبت هذا: فإن ساقاه على نخل أو ودي إلى مدة يحمل فيها بحكم الغالب..

(7/254)


صح؛ لأن أكثر ما فيه أن العمل كثير، والنصيب قليل، وذلك لا يمنع صحة العقد، كما لو ساقاه على جزء من ألف جزء من الثمرة، فإن حملت النخل.. استحق العامل ما شرط له، وإن لم تحمل لآفة.. لم يستحق العامل شيئا؛ لأن في العقد الصحيح لا يستحق غير ما شرط له.
وإن ساقاه إلى مدة لا تحمل فيها في العادة، مثل: أن كانت تحمل إلى خمس سنين، فساقاه إلى أربع سنين.. لم تصح؛ لأن المقصود في المساقاة أن يشتركا في الثمرة، وذلك غير موجود في هذه المساقاة.
فإن عمل العامل.. فهل يستحق الأجرة؟
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 326] : إن كان العامل لا يعلم أنها تحمل لأوان تلك المدة.. استحق الأجرة، وجها واحدا، وإن كان يعلم أنها لا تحمل.. ففيه وجهان:
قال المزني، وعامة أصحابنا: لا يستحق؛ لأنه دخل على أنه لا يأخذ في مقابلة عمله أجرة، فصار متطوعا بالعمل.
وقال أبو العباس: يستحق أجرة المثل؛ لأن عقد المساقاة يقتضي عوضا، فلا يجوز أن يخلو من العوض، كالوطء في النكاح.
وإن ساقاه إلى مدة قد تحمل فيها وقد لا تحمل، وليس أحدهما بأولى من الآخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: تصح المساقاة؛ لأنه ساقاه إلى مدة قد تحمل فيها، فصح، كما لو ساقاه إلى مدة قد تحمل فيها في الغالب.
فعلى هذا: إذا عمل العامل، فإن حمل النخل.. استحق العامل ما شرط له من الثمرة، وإن لم يحمل.. فلا أجرة له؛ لأن العقد صحيح، فلا يستحق غير ما شرط له.

(7/255)


والثاني: لا تصح المساقاة؛ لأن المساقاة إنما تصح إلى مدة تحمل فيها في الغالب، وهذه المدة لا تحمل فيها في الغالب.
فعلى هذا: إذا عمل.. استحق أجرة المثل، وجها واحدا؛ لأنه لم يرض أن يعمل إلا بعوض.

[فرع: مدة عقد المساقاة]
قال الشافعي: (وتجوز المساقاة سنة) ، وقال في (الإجارة) في موضع: (لا تجوز الإجارة أكثر من سنة) ، وقال في موضع: (يجوز أن يؤاجر عبده وداره ثلاثين سنة) ، وقال في (الدعوى والبينات) : (يجوز ما شاءَا) .
ولا يختلف أصحابنا في أن المساقاة والإجارة في ذلك واحدة، واختلفوا في أكثر مدتهما [على وجهين] :
فـ[الأول] : منهم من قال: في المسألتين ثلاثة أقوال:
أحدهما: لا تجوز أكثر من سنة؛ لأنهما عقدان على غرر، فكان القياس يقتضي أن لا يصحا، وإنما حكم بصحتهما للحاجة، والحاجة لا تدعو إلى أكثر من سنة؛ لأن منافع الأعيان تتكامل فيها.
والثاني: تجوز ثلاثين سنة، ولا يجوز أكثر منها؛ لأنها مدة كثيرة، ولأنها نصف العمر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» . فالأشياء لا تبقى على حالة واحدة أكثر منها.

(7/256)


والثالث: يجوز العقد على كل عين ما بقيت، وبه قال أكثر أهل العلم، وهو الصحيح.
قال الشيخ أبو حامد: فإن كان عبدًا.. جازت إجارته ستين سنة، وإن كانت دابة.. فمن خمس عشرة سنة إلى عشرين سنة، وإن كانت دارًا.. فما بين مائة سنة ومائة وخمسين، وإن كانت أرضًا.. فخمسمائة سنة وأكثر، كما يصح أن يبيعه بثمن مؤجل إلى ذلك الوقت.
و [الوجه الثاني] : منهم من قال: المسألة على قولين:
أحدهما: لا تجوز أكثر من سنة.
والثاني: تجوز ما بقيت العين.
فأما الثلاثون: فإنما ذكرها الشافعي على سبيل التكثير، لا على سبيل التحديد.
إذا ثبت هذا: فإن ساقاه على نخل سنة بنصف ثمرتها، أو أجره عينًا لسنة بأجرة معلومة.. لم يجب ذكر قسط كل شهر من العوض المشروط؛ لأن شهور السنة لا تختلف.
وإن أجره عينًا سنتين بعوض، وقلنا: يصح.. فهل يحتاج إلى أن يبين قسط كل سنة من ذلك العوض؟ فيه قولان:
أحدهما - وهو اختيار المسعودي [في " الإبانة " ق \ 327] : أنه لا يفتقر إلى ذلك، كما إذا اشترى منه أعيانًا بثمن واحد، فإنه لا يفتقر إلى تبيين قسط كل عين منها.
والثاني: يفتقر، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأن عقد الإجارة معرض للفسخ بتلف المعقود عليه، فإذا أطلق الأجرة لجميع المدة.. ربما لحقها فسخ، فاحتيج إلى

(7/257)


تقسيط الأجرة على المدة، وذلك يشق ويتعذر، فشرط ذلك في عقد الإجارة؛ ليستغني عن ذلك.
وإن ساقاه على أصول سنتين.. فهل يجب ذكر قسط كل سنة؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالإجارة. ومنهم من قال: يجب ذكره، قولًا واحدًا؛ لأن الثمار تختلف باختلاف السنين.

[فرع: حدوث الثمرة بعد انقضاء مدة المساقاة]
وإن ساقاه عشر سنين، فانقضت العشر، ثم أطلعت الثمرة.. فلا حق للعامل فيها؛ لأنها حادثة بعد انقضاء المدة، وإن أطلعت في آخر العشر.. ملك العامل جزءًا منها؛ لأنها حدثت قبل انقضاء المدة.

[مسألة: حصة عامل المساقاة تجب من الثمرة]
] : ولا تصح المساقاة إلا أن يشترط للعامل جزءًا معلومًا من الثمرة، كالنصف والثلث وما أشبههما؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج من النخل والشجر» ، ولأن المقصود من المساقاة على أن يقتسم رب المال والعامل الثمرة، فإذا لم يعلم ما للعامل.. لم يمكنهما القسمة.
فإن قال: ساقيتك على هذه النخل، على أن لك نصيبًا من ثمرتها، أو قسطًا، أو جزءًا.. لم يصح؛ لأن ذلك مجهول؛ لأنه يقع على القليل والكثير.
وإن قال: ساقيتك على أن لك نصف الثمرة، وسكت عن الباقي.. صح ذلك، وجهًا واحدًا؛ لأن جميع الثمرة لرب المال، فإذا شرط للعامل نصفها.. بقي الباقي على ملكه.
وإن قال: ساقيتك على أن لي نصف الثمرة، وسكت عما للعامل.. فقد قال المزني، وعامة أصحابنا: لا تصح المساقاة؛ لأن جميع الثمرة لرب المال، وإنما يستحق العامل بعضها بالشرط، ولم يشرط له شيئًا. وحكي عن أبي العباس: أنه

(7/258)


قال: يصح، ويكون الباقي للعامل؛ لأن قوله: ساقيتك.. يقتضي اشتراكهما في الثمرة، فإذا شرط لنفسه شيئًا من الثمرة.. بقي الباقي للعامل. والأول أصح.
فإذا قلنا بالأول: فعمل العامل.. فهل يستحق أجرة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يستحق؛ لأنه رضي أن يعمل بغير عوض.
والثاني: يستحق أجرة المثل؛ لأن المساقاة تقتضي العوض.
وإن قال: ساقيتك على هذه النخيل، على أن الثمرة كلها لي.. لم يستحق العامل شيئًا من الثمرة؛ لأنه لم يشترط له منها شيئًا، فإن عمل الأجير.. فهل يستحق أجرة؟ على الوجهين.
وإن قال: ساقيتك على أن الثمرة كلها لك.. لم يصح؛ لأن هذا شرط ينافي مقتضى المساقاة، فإن عمل الأجير.. استحق أجرة المثل، وجهًا واحدًا؛ لأنه لم يرض بغير عوض.
وإن قال رب النخيل لرجل: اعمل لي على هذه النخلة، والثمرة كلها لي.. قال الشيخ أبو حامد: فإن ذلك كالبضاعة، فتكون الثمرة كلها لرب النخيل.
وإن قال له: خذ هذه النخيل، واعمل عليها، والثمرة كلها لك.. قال الشيخ أبو حامد: فإن ذلك يكون قرضًا للنخيل، كما لو قال: اعمل لي على هذه الدراهم، والربح كله لك.
ولعل الشيخ أبا حامد أراد: أن النخيل تكون مقبوضة بحكم القرض الفاسد؛ لأن اقتراض النخيل لا يصح، واقتراض الثمرة على النخل لا يصح، والذي يقتضي المذهب: أنه أباح له ثمرة النخل؛ لأن الإباحة تصح في الموجود والمعدوم، والمعلوم والمجهول.

[فرع: تعليق مساقاة على مساقاة]
وإن قال: ساقيتك على هذا البستان بالنصف، على أن أساقيك على البستان الآخر بالثلث.. لم يصح؛ لأنه في معنى بيعتين في بيعة.

(7/259)


وإن كان بين رجلين نخل، فقالا: ساقيناك على أن لك نصف الثمرة.. صح، ويكون النصف الآخر بينهما على قدر أملاكهما، وسواء عرف العامل نصيب كل واحد منهما أو لم يعرفه؛ لأن نصيبه معلوم، وهو النصف من نصيب كل واحد منهما، فصح، كما لو قالا له: بعناك هذه الدار بألف.. فإنه يصح وإن لم يعلم قدر نصيب كل واحد منهما.
وإن شرطا له النصف من نصيب أحدهما، والثلث من نصيب الآخر، فإن عرف العامل نصيب كل واحد منهما.. صح؛ لأنه عوض معلوم، وإن لم يعرف ذلك.. لم يصح؛ لأنه مجهول.
فإن ساقى رجل رجلين على نخل له، وقال: ساقيتكما على أن لكما نصف الثمرة بينكما.. صح، ويكون النصف بينهما نصفين؛ لأن الإضافة تقتضي التسوية، وإن قال: ساقيتكما على أن لهذا نصف الثمرة، وللآخر سدس الثمرة.. صح ذلك؛ لأن ذلك عوض معلوم.

[فرع: المساقاة على نصف أنواع الثمر]
] : وإن كان لرجل بستان فيه أنواع من النخيل، وساقى رجلًا على أن له نصف الثمرة.. صح، وإن لم يعرف كل نوع فيه؛ لأن ذلك عوض معلوم، وإن قال: على أن لك من النوع الفلاني النصف، ومن الفلاني الثلث، ومن الفلاني السدس، فإن عرف العامل ورب المال قدر كل واحد من الأنواع.. صح؛ لأن لكل واحد منهما سهمًا معلومًا، وإن لم يعلما ذلك، أو أحدهما.. لم يصح؛ لأن نصيب كل واحد منهما يقل ويكثر.

[فرع: ساقاه سنين على أن لكل سنة حصة ونصيبًا خاصًا]
فإن ساقاه ثلاث سنين، على أن للعامل في السنة الأولى نصف الثمرة، وفي السنة الثانية ثلث الثمرة، وفي السنة الثالثة سدس الثمرة.. ففيه طريقان:

(7/260)


[الطريق الأول] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يصح ذلك، قولًا واحدًا، كما لو ساقاه على أنواع، وجعل له من كل نوع نصيبًا معلومًا وإن اختلف الأنصباء وهما يعلمان الأنواع.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو أسلم دينارًا على قفيز حنطة، وقفيز شعير.
وإن ساقاه على أن له صاعًا من الثمرة، والباقي لرب المال، أو للعامل ثمرة نخلة أو نخلات بعينها.. لم يصح؛ لأنه قد لا يحمل في البستان إلا ما اشترطه للعامل، فيؤدي إلى أن يستبد العامل بجميع الثمرة، أو قد لا يحمل النخل التي عينها للعامل، فيستضر العامل.

[فرع: مساقاة أحد الشريكين الآخر]
] : وإن كانت نخل بين الثمرة رجلين نصفين، فقال أحدهما للآخر: ساقيتك على هذه النخل، على أن لك ثلثي الثمرة ولي الثلث.. صح؛ لأنه شرط للعامل ثلث نصيبه بالعمل؛ لأن العامل يستحق نصف الثمرة بحق الملك، فصح، فهو كما لو قال: ساقيتك على نصيبي، على أن لك ثلث نصيبي من الثمرة.
وإن قال: ساقيتك على أن لك نصف الثمرة.. لم يصح؛ لأنه لم يشرط للعامل شيئًا من الثمرة بحق العمل.
وإن قال: ساقيتك على أن لك ثلث الثمرة ولي الثلثين.. لم يصح؛ لأنه لم يشرط للعامل شيئًا من ثمرته بحق العمل، ولأنه شرط أن يأخذ من نصيب الآخر سهمًا بغير عوض، وذلك لا يجوز.
فإن عمل العامل في هاتين المسألتين.. فهل يستحق أجرة المثل؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
فإن كانت بحالها، وساقى أحدهما صاحبه على أن يعملا جميعًا في النخل، ويكون لأحدهما ثلث الثمرة، وللآخر الثلثان.. لم يصح؛ لأن مقتضى المساقاة أن

(7/261)


يكون من أحدهما المال، ومن الآخر العمل، وهاهنا من كل واحد منهما مال وعمل، فإن عملا.. كانت الثمرة بينهما نصفين بحق الملك، فإن تساويا في العمل.. لم يرجع أحدهما على الآخر بشيء، وإن عمل من شرط له الثلثان أكثر.. رجع على شريكه بفضل عمله في ماله؛ لأنه لم يعمل على مال شريكه إلا بعوض، ولم يسلم له، وإن كان عمل الآخر أكثر.. فهل يستحق أجرة الزيادة؟ على الوجهين للمزني وأبي العباس.

[فرع: المساقاة على عوض مجهول]
وإن قال: ساقيتك على هذه النخل، على أنك إن سقيتها بماء سماء أو سيح - وهو السيل - فلك ثلث الثمرة، وإن سقيتها بنضح - وهو الغرب - فلك نصف الثمرة.. لم يصح؛ لأنه عوض مجهول؛ لأنه لا يدري: أيسقيها بالسيح، أو بالنضح؟ وإن ساقاه على فسيل نخل، على أن له نصف الفسيل، ونصف الثمرة.. لم يصح؛ لأن مقتضى المساقاة أن يكون الأصل لرب المال، والثمرة بينهما، فإذا شرط للعامل شيئًا من الأصل، كان ذلك ينافي مقتضاها.. فلم يصح.

[فرع: اشتراط ما لا يصح شرعًا في المساقاة]
فرع: [اشتراط ما لا يصح شرعًا] :
وإن ساقاه عشر سنين، وشرط له ثمرة سنة الإحدى عشرة.. لم يصح؛ لأنه شرط له ثمرة سنة لا يستحق عليه فيها عملًا، وإن شرط له ثمرة السنة العاشرة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه شرط عليه عملًا في مدة تثمر فيها، ولا يستحق شيئًا من ثمرتها.
والثاني: يصح، كما يصح أن يعمل في جميع السنة وإن كانت الثمرة في بعضها.

(7/262)


[مسألة: صيغ المساقاة]
وتنعقد المساقاة بلفظ المساقاة؛ لأنه لفظ وضع لها، وتنعقد بما يؤدي معناها، بأن يقول: اعمل على هذه النخيل ولك نصف ثمرتها، وقال المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 325] : وكذلك إذا قال: تعهد نخلي، أو اسق نخلي ولك نصف ثمرتها.. صح؛ لأنه يؤدي عن معنى المساقاة.
وإن قال: ساقيتك على هذه النخل، على أن لك نصف ثمرتها عوضًا عن عملك، أو أجرة عن عملك.. صح؛ لأن ما يأخذه العامل في الحقيقة هو عوض وأجرة عن عمله، فلا يضره ذكره.
فرع: [المساقاة بلفظ الاستئجار] :
وإن قال: استأجرتك على أن تعمل على هذه النخل بنصف ما يخرج من ثمرتها.. لم يصح؛ لأن الإجارة تفتقر إلى أن تكون الأجرة معلومة القدر، والأجرة هاهنا مجهولة القدر، فلم يصح.
وإن كانت الثمرة قد ظهرت، فاستأجره ليعمل له على نخيله، أو ليبني له بيته، أو يخيط له ثوبه بتلك الثمرة أو ببعضها.. نظرت:
فإن كان قد بدا فيها الصلاح، فاستأجره ليعمل على النخل، أو يبني له، أو يخيط له، أو غير ذلك، ببعض الثمرة أو بجميعها.. صح من غير شرط القطع؛ لأن بيعها في هذه الحالة يصح من غير شرط القطع، فصح أن يكون عوضًا في الإجارة.
وإن لم يبد صلاحها، فإن استأجره بجميعها بشطر القطع.. صح، كما يصح بيعها، وإن لم يشترط قطعها.. لم يصح، كما لا يصح بيعها. وإن استأجره ببعضها.. لم يصح، سواء شرط القطع فيها أو لم يشترطه؛ لأنه إن لم يشترط القطع.. لم يصح، كما لا يصح بيعها بغير شرط القطع، وإن شرط القطع.. أيضًا لم يصح؛ لأنها مشاعة بينه وبين شريكه، فلا يمكنه قطع نصيبه إلا مع قطع نصيب شريكه، فلم يصح.

(7/263)


[فرع: لا خيار في عقد المساقاة]
ولا يثبت في المساقاة خيار الثلاث، وفي خيار المجلس وجهان، وقد مضى ذلك في البيع، فإذا انعقدت المساقاة.. كانت لازمة من الطرفين؛ لأنها تفتقر إلى مدة معلومة، فكانت لازمة، كالإجارة، وعكسها القراض، والشركة، والوكالة، لما لم تفتقر إلى مدة.. كانت جائزة.

[مسألة: ما يشترط على عامل المساقاة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وكل ما فيه مستزاد في الثمرة من إصلاح الماء وطريقه، وتصريف الجريد، وإبار النخل، وقطع الحشيش المضر بالنخل ونحوه.. جاز شرطه على العامل، فأما سد الحظار: فليس فيه مستزاد وإصلاح في الثمرة، فلا يجوز شرطه على العامل) . وهذا كما قال: كل عمل كان فيه زيادة الثمرة ونماؤها، فهو على العامل، وذلك مثل:
(تلقيح النخل) : وهو تأبيرها، و (تصريف الجريد) : وهو قطع السعف اليابس، وتمييله على جانب؛ لتتدلى الثمرة، وقطع الحشيش المضر بالنخل،

(7/264)


وإصلاح (أجاجينها) التي يقف الماء فيها في أصولها، و (إصلاح الماء) : وهو فتح الساقية، وإصلاح طريقه، وإدارة الدولاب.
وأما جذاذ الثمرة: ففيه وجهان، حكاهما في " المهذب ":
أحدهما: لا يجب على العامل؛ لأن ذلك يحتاج إليه بعد تكامل النماء في الثمرة.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره -: أنه يجب على العامل؛ لأن ذلك من مصلحة الثمرة.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك (المنجل) الذي يقطع به الشوك من السعف على العامل.
قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: وعلى العامل إصلاح الجرين، وحمل الثمرة إلى الجرين، وتجفيفها إن كانت مما يجفف؛ لأن ذلك من مصلحة الثمرة.
وأما حفظ الثمرة على النخل وفي الجرين: ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد، والمسعودي [في " الإبانة " ق \ 327]-: أنه لا يجب على العامل، وهو المنصوص.
والثاني - وهو قول ابن الصباغ، والصيمري -: أن ذلك يجب على العامل. وأما الأعمال التي فيها حفظ الأصل: فهي على رب النخل. قال الشافعي: (وذلك مثل: سد الحظار، وهي: الحيطان التي تكون حول البستان؛ ليمنع من الدخول إليها، وكذلك: حفر الآبار والأنهار، وكذلك: الدولاب والبقر التي يدار عليها، والكش الذي يلقح به؛ لأن هذه الأشياء يحتاج إليها لحفظ الأصل) .
فإن شرط شيئًا من الأعمال التي تجب على العامل على رب المال، أو ما يكون

(7/265)


على رب المال على العامل.. بطلت المساقاة؛ لأن ذلك شرط ينافي مقتضاها، فأبطلها، هذا هو المشهور.
وقال القاضي أبو الطيب في " المجرد ": كسح الأنهار، والبقر التي يدار عليها الدولاب لا يتعلق بصلاح الأصول والثمرة، ويكون ذلك على من شرط أنه يكون عليه، وحكي عن أبي إسحاق: أنه قال: إذا أهملا ذلك، ولم يشترطاه على أحدهما.. لم تصح المساقاة. والأول أصح.

[مسألة: شرط عمل رب المال في المساقاة]
يفسدها] : وإن ساقاه على نخل، وشرط العامل أن يعمل معه رب المال بعض الأعمال التي تلزم العامل.. لم تصح المساقاة؛ لأن موضوع المساقاة: أن يكون العمل من العامل، والمال من رب المال، فإذا شرط شيئًا من عمل العامل على رب المال.. فقد شرط ما ينافي مقتضى المساقاة، فأبطلها.
وإن شرط العامل على رب المال أن يعمل معه غلمان رب المال.. فالمنصوص: (أنه يصح) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: لا يصح؛ لأن غلمان رب المال كرب المال، بدليل: أنه يحكم للسيد بما في يد عبده، فلما لم يجز أن يشترط العامل العمل على رب النخل.. فكذلك لا يجوز أن يشترط عمل غلمانه، وحمل هذا القائل نص الشافعي على أنه أراد: إذا شرط العامل على رب النخل عمل غلمانه في الأعمال التي تلزم رب المال، مثل: سد الحظار، وما أشبهها.
ومنهم من قال: يصح، قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب؛ لأن غلمان رب المال مال له، فإذا دفعهم ليعملوا مع العامل.. فكأنه ضم ماله إلى ماله، فهو كما لو ضم إليه نخلًا أخرى، وساقاه عليها، ولأن رب المال يلزمه بإطلاق المساقاة عمل، مثل: سد الحظار، وحفر الآبار، فجاز أن يلزم غلمانه بالشرط، بخلاف رب

(7/266)


المال؛ لأنه لا يجوز أن يكون تابعًا لماله، والغلمان ماله، فجاز أن يكونوا تابعين لماله.
فإذا قلنا بهذا: فلا بد أن يكون الغلمان معلومين، إما بالتعيين، أو بالوصف، ويكون الغلمان تحت تدبير العامل في العمل، فيلقحون متى شاء، ويسقون متى شاء؛ لأن الغلمان تبع له.
ولا يجوز أن يشترط عملهم إلا في النخل الذي لسيدهم، فإن شرط أن يعملوا في نخل للعامل، أو يعملوا له عملًا غير ذلك.. لم يصح؛ لأن العامل في المساقاة إنما يستحق جزءًا من الثمرة بعمله على النخل، ولا يستحق شيئًا آخر.
فإذا شرط أن يعمل الغلمان في نخل له.. فقد شرط أن يأخذ شيئًا من الثمرة، وشيئًا آخر من غيرها.. فلم يصح.

[فرع: نفقة غلمان صاحب النخل]
وأما نفقة الغلمان: فإن شرط أنها على سيدهم.. صح، وكانت عليه، وإن شرط أنها على العامل.. صح، وكانت عليه؛ لأنهم يعملون فيما يلزم كل واحد منهما، فجاز أن يشترط نفقتهم على كل واحد منهما، فإن شرطاها على العامل.. فليس من شرط ذلك تقديرها.
وقال محمد بن الحسن: لا يجوز حتى يقدرها.
دليلنا: أنه لو وجب ذكر مقدارها.. لوجب ذكر صفتها.
وإن أطلقا نفقة الغلمان، ولم يشترطاها على أحدهما.. ففيه ثلاثة أوجه، ذكرها في " المهذب ":
أحدها - ولم يذكر في " التعليق " و" الشامل " غيره -: أنها على المالك؛ لأنه يملكهم، فكانت نفقتهم عليه بحق الملك.

(7/267)


والثاني: أنها على العامل؛ لأن العمل مستحق عليه، فكانت نفقتهم عليه.
والثالث: أنها في الثمرة؛ لأنهم يعملونها، فكانت نفقتهم فيها.

[فرع: شرط أجرة عمال العامل من الثمرة مفسد للمساقاة]
إذا ساقى رجلًا على نخل، وشرط العامل أن أجرة من يستأجره من الأجراء ليعملوا معه تكون من الثمرة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فالمساقاة فاسدة) .
واختلف أصحابنا في تعليله:
فقال أبو إسحاق: إنما لم تصح؛ لأن الإجارة لا تصح إلا بأجرة معلومة، إما معينة، أو في الذمة، وهاهنا الأجرة مجهولة.
ومنهم من قال: إنما فسدت؛ لأن العمل مستحق على العامل، وأجرة من يعمل عليه، فإذا شرط أجرة من يعمل ذلك من الثمرة.. فقد شرط لنفسه جزءًا من الثمرة ينفرد به، فلم تصح، كما لو شرط لنفسه صاعًا من الثمرة والباقي بينهما.
ويفارق: إذا شرط غلمان رب المال يعملون معه، وتكون نفقتهم على رب النخل؛ لأن هذا ضم ماله إلى ماله.
وقال القفال: إن شرط أن يكون أجرة الأجراء من الثمرة.. لم تصح؛ لأن ذلك مجهول، وإن قالا: ثلث الثمرة يكون مصروفًا إلى أجرة الأجراء، والباقي بيننا، أو قال رب النخل: لك ثلث الثمرة، وللأجير الذي تستأجره ثلث الثمرة، ولي ثلثها.. صح ذلك، كما لو قال: على أن للعامل ثلثي الثمرة.

[مسألة: وقت ملك العامل حصة المساقاة]
إذا ساقاه على نخل، وظهرت الثمرة.. فمتى يملك العامل حصته منها؟ اختلف أصحابنا فيه:

(7/268)


فمنهم من قال: فيه قولان، كالعامل في القراض:
أحدهما: أن العامل لا يملك حصته منها إلا بالقسمة.
فعلى هذا: تجب زكاة الجميع على رب النخل.
والثاني: يملك حصته منها بالظهور.
فعلى هذا: إن بلغ نصيب كل واحد منهما نصابًا.. وجبت عليه زكاة نصيبه، وإن كان لا يبلغ النصاب إلا جميع الثمرة، فإن قلنا: تصح الخلطة فيما عدا المواشي.. وجب عليهما الزكاة، وإن قلنا: لا تصح الخلطة في غير المواشي.. لم تجب الزكاة على من نقص نصيبه عن النصاب.
ومنهم من قال: يملك العامل حصته من الثمرة بالظهور، قولًا واحدًا، وهو الصحيح؛ لأن نصيب العامل في المساقاة لم يحتمل وقاية لرأس المال، بخلاف القراض، فإن الربح كله وقاية لرأس المال، فلذلك لم يملك العامل شيئًا منه قبل القسمة في أحد القولين.

[فرع: المساقاة في أرض خراجية]
وإن ساقى رجل رجلًا على نخل في أرض خراجية.. فإن الخراج يجب على رب الأرض؛ لأن الخراج حق يؤخذ عن رقبة الأرض، ولا حق للعامل في رقبة الأرض.

[مسألة: اتهم العامل فأنكر فيصدق بيمينه]
إذا ادعى رب النخل على العامل خيانة أو سرقة، وبين الدعوى، وأنكر العامل، ولا بينة لرب النخل.. فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأنه أمين، فكان القول قوله. فإذا حلف.. سقطت دعوى رب المال، وكان العامل على عمله.

(7/269)


وإن قامت البينة على سرقته، أو خيانته، أو أقر بذلك، أو نكل عن اليمين، فحلف رب النخل.. فقد قال المزني في " المختصر ": (يكتري على العامل أمينًا يعمل مكانه) .
وقال في " الجامع ": (يكتري أمينا يعمل معه) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال: (ينزع النخل من يده، ويكتري عليه من يقوم مقامه) إذا كان العامل باطشًا، لا يمكن حفظ الثمرة منه.. يضم أمين إليه.
والموضع الذي قال: (يكتري أمينًا يعمل معه) إذا كان ضعيفًا في السرقة، ويمكن حفظ الثمرة منه.. يضم أمين إليه.
إذ ثبت هذا: فإن أجرة الأمين هاهنا على العامل؛ لأن ذلك من تمام حفظ الثمرة، وحفظها عليه.

[مسألة: ساقى رجلًا فهرب]
وإن ساقى رجل رجلًا مساقاة صحيحة، فهرب العامل، وترك العمل.. فإن المساقاة لا تنفسخ؛ لأنها عقد لازم، فإذا كان لا يملك فسخها بقوله.. فلأن لا تنفسخ بهربه أولى.
إذا ثبت هذا: فإن رب النخل يمضي إلى الحاكم، ويثبت عنده عقد المساقاة، فإذا ثبت العقد عنده.. طلب الحاكم العامل، فإن وجده.. أجبره على العمل؛ لأنه مستحق عليه. وإن لم يجده، فإن وجد له مالًا.. اكترى من ماله من يعمل عنه؛ لأن ذلك قد لزمه، وإن لم يجد له مالًا، فإن كان في بيت المال مال.. أقرضه منه، واكترى عليه من يعمل عنه. فإذا حصلت الثمرة.. اقتضى منه ما أقرضه، وحفظ الفضل له، وإن لم يحصل من الثمرة ما يقضي به ما اقترض له.. كان ذلك دينًا في ذمته

(7/270)


إلى أن يجده. وإن لم يكن في بيت المال مال، أو كان فيه مال لكنه يحتاج إليه لما هو أهم منه.. اقترض عليه من رجل من الرعية إن وجد، فإن لم يجد، ووجد من يستأجره بأجرة مؤجلة إلى وقت إدراك الثمرة.. فعل ذلك. وإن لم يجد شيئًا من ذلك.. سأل رب النخل أن يقرضه عليه، فيقبضه منه، ويستأجر به من يعمل عنه. وهل يجوز للحاكم أن يأمر رب المال أن ينفق على العمل قرضًا على العامل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، كما يجوز له أن يستقرض من غيره له.
والثاني: لا يجوز؛ لأن رب النخل لا يصح له أن يكون قابضًا من نفسه.
وإن لم يجد الحاكم من يستقرض منه، ولا أقرضه رب النخل له.. نظرت: فإن كانت الثمرة لم تظهر.. فلرب النخل أن يفسخ المساقاة؛ لأن العمل قد تعذر من جهة العامل، ومن جهة من يقوم مقامه، فكان ذلك كالعيب.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يفسخ، ولكن يطلب الحاكم عاملًا آخر يساقيه عن العامل.
قال أصحابنا: فهذا ليس بصحيح؛ لأن المساقاة تكون بين صاحب الأصول وبين العامل، فأما أن تكون بين العامل وعامل آخر: فلا تصح.
فإذا فسخ رب النخيل المساقاة، فإن كان العامل لم يعمل شيئًا.. فلا شيء له، وإن كان قد عمل.. استحق أجرة ما عمله على رب النخل، وكانت الثمرة إذا ظهرت.. لرب النخل.
وإن كان ذلك بعد ظهور الثمرة.. قال أصحابنا: فإنها تكون مشتركة بينهما.
فإن كان قد بدا صلاحها.. باع الحاكم من نصيب العامل لأجرة ما بقي من العمل، واستأجر عنه من يعمل ذلك، وإن احتاج إلى بيع جميعه.. باعه، ويجوز بيعها مطلقًا من غير شرط القطع.
وإن كان لم يبد صلاحها، فإن رضي رب المال أن يبيع نصيبه منها.. بيع الجميع

(7/271)


بشرط القطع، وقسم الثمن بينهما، وحفظ نصيب العامل، وإن لم يرض رب النخيل بيع نصيبه منها. فإنه لا يصح بيع نصيب العامل من غير رب النخل، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا يصح بيعه إلا بشرط القطع، وذلك لا يمكن مع الإشاعة. وهل يصح بيعه، أو بيع بعضه من رب النخل؟ فيه وجهان، ومضى ذكرهما في البيع.
فإن قلنا: يصح، واختار رب النخيل أن يشتري بعض نصيب العامل، أو جميعه ليتم العمل بثمنه.. فعل.
وإن لم يختر رب النخل أن يشتري، أو قلنا: لا يصح، قلنا لرب النخيل: انصرف، فلا حكم لك عندنا.
وإن لم يرفع رب النخيل الأمر إلى الحاكم، بل أنفق على من يعمل على ماله.. نظرت:
فإن كان قادرًا على الحاكم.. لم يرجع بشيء على العامل؛ لأنه متطوع، فإذا ظهرت الثمرة.. كانت مشتركة بينه وبين العامل.
وإن كان غير قادر على الحاكم، فإن أنفق ولم يشهد على الإنفاق، أو أشهد ولم يشرط الرجوع.. لم يرجع بما أنفق؛ لأنه متطوع. وإن أشهد على الإنفاق شاهدين، قال ابن الصباغ: وشرط الرجوع به.. فهل يرجع به؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع؛ لأنه لا يلي على العامل.
والثاني: يرجع، وهو الأصح؛ لأنه موضع ضرورة. هذا ترتيب البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 328] : إذا لم يجد حاكمًا، فأنفق بنفسه.. فهل يرجع به؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يرجع، كما لو وجد حاكمًا، فأنفق من غير إذنه.
والثاني: يرجع؛ لأنه معذور، ولا سبيل له إلى غير ما فعل.
والثالث: إن أشهد.. رجع، وإن لم يشهد.. لم يرجع.

(7/272)


[مسألة: موت أحد متعاقدي المساقاة]
وإن ماتا، أو مات أحدهما قبل المفاصلة.. لم تنفسخ المساقاة؛ لأنها عقد لازم، فلا تبطل بالموت، كالبيع، والإجارة.
إذا ثبت هذا: فإن مات رب المال.. فإن العامل على عمله، فإن حصلت الثمرة.. قاسم العامل ورثة رب النخيل، كما كان يقاسم رب النخيل.
وإن مات العامل، فإن اختار وارثه أن يتم العمل.. جاز، وإن امتنع من العمل.. لم يجبر عليه. وحكى القاضي أبو حامد وجهًا آخر: أنه يجبر؛ لأنه الوارث يقوم مقام مورثه. والأول أصح؛ لأن الوارث لا يلزمه حق لزم الموروث، إلا ما كان يمكنه دفعه من مال الموروث.
إذا ثبت هذا: فإن الأمر يرفع إلى الحاكم، فإن وجد للعامل مالًا.. اكترى منه من يتم العمل، وإن لم يجد له مالًا.. لم يجز للحاكم أن يقترض عليه لتمام العمل؛ لأنه لا ذمة هاهنا للميت، بخلاف الحي إذا هرب.. فإن له ذمة.
فإن كانت الثمرة لم تظهر.. فلرب النخيل أن يفسخ المساقاة، على ما ذكرناه في هرب العامل.
وإن ظهرت الثمرة.. فهي مشتركة بين رب النخيل وورثة العامل، والحكم في بيعها حكم العامل إذا هرب وقد ظهرت الثمرة، على ما مضى.

[فرع: ساقى في مرض موته بأكثر من المثل]
وإن ساقى رجل رجلًا في مرض موته على أكثر من أجرة مثله.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا تعتبر الزيادة على أجرة المثل من الثلث، كما قلنا فيمن قارض رجلًا في مرض موته على أكثر من أجرة مثله.
والثاني: تعتبر الزيادة من الثلث؛ لأن الزيادة حادثة للنخل، وهي مال له،

(7/273)


بخلاف الربح، فإنه ليس بحادث من أصل ماله، وإنما يحصل بتقليب العامل وتصرفه.

[مسألة: سلم النخل فادعى غصبها]
إذا سلم رجل إلى رجل نخلًا، وساقاه عليها بنصف الثمرة، أو بثلثها، فعمل عليها العامل، وحصلت الثمرة، ثم جاء رجل، وادعى: أن النخيل له، وأن المساقي غصبها منه، وأقام على ذلك بينة.. حكم له بالنخيل والثمرة؛ لأنها نماء ماله.
فإن كانت الثمرة باقية.. أخذها المالك، ولا يستحق العامل شيئًا منها؛ لأنها مساقاة فاسدة، ولا يستحق أجرة على رب النخيل؛ لأنه عمل على النخيل بغير إذنه، ولكن يرجع على الغاصب بأجرة عمله؛ لأنه استعمله فيها، فاستحق عليه الأجرة، كمن غصب نقرة، فاستأجر رجلًا على ضربها دراهم، فإن كان الغاصب والعامل قد اقتسما الثمرة وأتلفاها.. فللمالك أن يضمن الغاصب جميع الثمرة؛ لأنه حال بينه وبين الأصول، فضمن الأصول وما يتولد منها.
فإن أخذ منه المالك جميع الثمرة.. كان للغاصب أن يرجع على العامل بما أخذ من الثمرة؛ لأنه أخذه بعقد باطل، ويرجع العامل على الغاصب بأجرة عمله.
وإن اختار المالك أن يضمن العامل.. فله أن يضمنه نصيبه الذي قبضه لنفسه؛ لأنه أخذه عوض عمله، ولم يصح أخذه، فكان للمالك الرجوع عليه فيه، ويرجع العامل على الغاصب بأجره عمله.
وهل للمالك أن يرجع على العامل بجميع الثمرة؟ فيه وجهان:
[الوجه الأول] : من أصحابنا من قال: له أن يرجع عليه بجميع الثمرة؛ لأن يده قد ثبتت على جميع الثمرة مشاهدة بغير حق، فرجع عليه بجميعها، كما لو غصب رجل مالًا، وقارض عليه آخر، وتلف في يده.. فإن للمالك أن يضمن أيهما شاء بالجميع.
والوجه الثاني - وهو ظاهر قول المزني -: أنه لا يرجع عليه بالجميع، بل بما أخذه

(7/274)


في نصيبه؛ لأن العامل لم تثبت يده على الثمرة، وإنما اليد فيها للغاصب، ويد العامل ثابتة على الغاصب، بدليل: أن - على قول الشافعي - ليس على العامل حفظ الثمرة، ولو شرط عليه ذلك.. لبطل العقد، بخلاف مال القراض، فإن يده قد ثبتت عليه، بدليل: أنه يجب عليه حفظه.
فإذا قلنا: يرجع عليه بنصف الثمرة.. رجع المالك على الغاصب بالنصف الثاني، ولا يرجع العامل على الغاصب بالنصف الذي تلف في يده، ولكن يرجع بأجرة عمله.
وإن قلنا: يرجع المالك على العامل بجميع الثمرة.. رجع العامل على الغاصب بنصف الثمرة الذي تلف في يده؛ لأنه أتلفه، ويرجع عليه بأجرة عمله أيضًا.

[مسألة: اختلفا في نسبة المساقاة فيتحالفا]
وإن ساقى رجل رجلًا، ثم اختلفا: فقال العامل: شرطت لي نصف الثمرة، وقال رب النخل: بل شرطت لك الثلث، ولا بينة لواحد منهما.. فإنهما يتحالفان.
وقال مالك: (إذا اختلفا بعد العمل.. فالقول قول العامل إذا أتى بما يثبته) .
دليلنا: أنهما متعاقدان اختلفا في صفة العقد، فتحالفا، كالمتبايعين قبل القبض، وكالمساقاة قبل العمل.
إذا ثبت هذا: فإن حلفا جميعًا.. كانت الثمرة كلها لرب النخل، وللعامل أجرة عمله، وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر.. ثبت ما قال الحالف، فإن أقام أحدهما بينة.. حكم لصاحب البينة، وإن أقام كل واحد منهما بينة، وأشارتا إلى عقدٍ واحدٍ في وقتٍ واحدٍ.. تعارضت البينتان، وفيهما قولان:
أحدهما: تسقطان، وهو الصحيح. فعلى هذا: يتحالفان.
والثاني: تستعملان، وفي الاستعمال ثلاثة أقوال:

(7/275)


أحدهما: القسمة. والثاني: الوقف. والثالث: القرعة.
قال عامة أصحابنا: ولا يجوز الوقف هاهنا؛ لأن العقود لا توقف، ولا تجوز القسمة؛ لأن العقد لا ينقسم، ولا يجيء هاهنا إلا القرعة.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 328] : وجهًا آخر: أنه يجيء فيه القسمة، فيقسم السدس الذي يتنازعان فيه بينهما نصفين. والأول أصح.

[فرع: ساقى رجلان رجلًا، فادعى نصف الثمرة]
] : وإن ساقى رجلان رجلًا على نخيل بينهما، فقال العامل: شرطتما لي نصف الثمرة، فصدقه أحدهما، وقال الآخر: بل شرطنا لك الثلث.. لزم المقر أن يقسم للعامل نصف نصيبه، ثم ينظر فيه:
فإن شهد على شريكه: أنه شرط للعامل النصف، وكان عدلًا.. حلف معه العامل، وثبت للعامل النصف في نصيب الآخر؛ لأنه مال، والمال يثبت بشاهد ويمين.
وإن لم يكن عدلًا، أو لم يشهد على شريكه.. فإن العامل والمنكر يتحالفان، فإذا تحالفا.. انفسخ العقد بينهما، وكان جميع نصيب المنكر من الثمرة له، وعليه للعامل أجرة عمله في نصيبه؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين.
وبالله التوفيق

(7/276)


[باب المزارعة]
المزارعة والمخابرة عند أكثر أصحابنا: اسمان لمعنى واحد، وهو: أن يدفع إلى رجل أرضًا له ليزرعها، وتكون الغلة بينهما على ما يشترطان.
ومن أصحابنا من قال:
المزارعة: أن تكون الأرض والبذر من واحدٍ، والعمل من واحدٍ، وتكون الغلة بينهما.
والمخابرة: أن تكون الأرض من واحدٍ، ومن الآخر البذر والعمل، ويكون لرب الأرض شيء مشروط من الثمرة، وهي مشتقة من الخبار، وهي: الأرض اللينة.
وقيل: اشتقاقها من الخبير: وهو الأكار، يقال: خابرته مخابرةً، وآكرته مؤاكرةً.
إذا ثبت هذا: فإن دفع رجل إلى رجل أرضًا ليزرعها، على أن يكون لرب الأرض أو للعامل زرع موضع بعينه، مثل: أن يقول: زارعتك على هذه الأرض، على أن لك ما ينبت على السواقي وما أشبه ذلك، والباقي لي.. فهذا باطل بالإجماع؛ لأنه قد

(7/277)


لا يزرع الموضع الذي عينه، وقد لا يزرع سواه، فينفرد أحدهما بجميع الغلة، وذلك غرر من غير حاجة، فلم يصح.
وإن زارعه على جزء مشاع من الغلة، مثل: أن يقول: زارعتك على هذه الأرض، على أن لك نصف زرعها أو ثلثه - وهي أرض بيضاء لا شجر فيها - فهذا باطل عندنا، سواء كان البذر من مالك الأرض أو من العامل، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، ومالك، وأبو حنيفة.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى: أن ذلك صحيح لازم، وروي ذلك عن علي، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، ومعاذ بن جبل. وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمد.
وقال أحمد: (إن كان البذر من رب الأرض.. جاز، وإن كان من العامل.. لم يجز) .
دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أنه قال: (كنا نخابر ولا نرى في ذلك بأسًا حتى أخبرنا رافع بن خديج: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المزارعة، فتركناها لقول رافع) .
وروى ثابت بن الضحاك: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المزارعة» .
وروى جابر، ورافع بن خديج: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كانت لأحدكم أرض.. فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، ولا يكرها بثلث، ولا بربع، ولا بطعام مسمى» .

(7/278)


وأراد: لا يكرها بثلث ما يخرج منها ولا بربعه، ولا بطعام مسمى مما يخرج منها.
ولأنه زارعه على أرض ينفرد ببعض ما يخرج منها، فلم يصح، كما لو زارعه على أن له ما ينبت على السواقي.
إذا ثبت هذا: فإن زارع على أرضه رجلًا، فعمل الأجير.. كان باطلًا.
فإن كان البذر من مالك الأرض.. كانت الغلة كلها له؛ لأنها عين ماله، ويكون عليه للعامل أجرة مثل عمله وبقره وآلته؛ لأنه دخل في العمل ليستحق جزءًا من الغلة، ولم يحصل له ذلك، فكان له أجرة عمله.
وإن كان البذر من العامل.. كانت الغلة كلها للعامل، ووجب عليه لصاحب الأرض أجرة أرضه في مثل تلك المدة، ولا يستحق العامل أجرة عمله وبقره وآلته؛ لأن عمله حصل له.
وإن كان البذر بينهما نصفين.. كانت الغلة بينهما نصفين، ووجب للعامل نصف أجرة مثله، ونصف أجرة بقره وآلته على رب الأرض، ووجب لصاحب الأرض نصف أجرة أرضه على العامل.

[مسألة: كيفية تصحيح المخابرة]
فإن أرادا الحيلة في تصحيح المخابرة، وكون الغلة بينهما.. فيصح ذلك من وجوه:
[الأول] : منها: أن يعير صاحب الأرض العامل نصف أرضه أو ثلثها، ويعمل

(7/279)


العامل جميع الأرض، ويبذرا الأرض منهما، فتكون الغلة بينهما، ولا يرجع أحدهما على الآخر بشيء؛ لأن كل واحد منهما متطوع.
و [الثاني] منها: أن يكتري العامل نصف الأرض أو ربعها بدراهم في ذمته، ثم يستأجر صاحب الأرض العامل على عمل نصف الأرض، أو ثلاثة أرباعها، بمثل تلك الدراهم في ذمته، ثم يتقاصا، ويبذرا الأرض بينهما.
و [الثالث] منها: أن يكري صاحب الأرض العامل نصف أرضه بعمله وعمل بقره على نصيبه، ويبذرا الأرض منهما.
و [الرابع] منها: أن يكري صاحب الأرض العامل نصف أرضه بنصف عمله، ونصف عمل بقره وآلته، مدة معلومة، ويكون البذر منهما.
فإن أراد أن يكون البذر من مالك الأرض.. فإنه يقول: اكتريت منك نصف منفعة بدنك وآلتك على العمل في هذه الأرض بنصف هذا البذر، وبنصف منفعة أرضي، مدة معلومة.
وإن أراد أن يكون البذر من العامل.. فإن رب الأرض يقول: أكريتك نصف منفعة أرضي مدة معلومة بنصف عمل بدنك وآلتك فيها، وبنصف هذا البذر.
إلا أن هاتين المسألتين تكونان بيعًا وإجارة، وفي ذلك قولان.

[مسألة: المزارعة تبعًا للمساقاة]
وأما إذا كان له نخيل أو كرم، وبين النخل والكرم أرض بيضاء، لا يمكن سقي النخل والكرم إلا بسقي الأرض البيضاء التي بينه.. نظرت:
فإن كانت الأرض البيضاء قليلًا، والنخيل أكثر منها.. جاز أن يساقيه على النخيل، ويزارعه على الأرض التي بينها؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرعٍ» ، ولأن الحاجة تدعو إلى جواز

(7/280)


هذه المزارعة؛ لأنه لا يمكن سقي النخيل إلا بسقي الأرض التي بينها.
فلو قلنا: لا يجوز المزارعة عليها.. للزم على العامل عمل لا يستحق به عوضًا.
إذا ثبت هذا: فإن قال: ساقيتك على النخيل أو الكرم، وزارعتك على الأرض التي بينها بالنصف.. جاز.
وإن قال: عاملتك على النخيل والأرض بالنصف.. جاز؛ لأن لفظ المعاملة يشملهما.
وإن قال: ساقيتك على النخيل والأرض بالنصف.. لم يصح في الأرض؛ لأن المساقاة لا تتناول البياض، وهل تبطل المساقاة في النخيل؟ فيه قولان، بناء على تفريق الصفقة.
وإن قال: ساقيتك على النخيل بثلث ثمرتها، وزارعتك على الأرض التي بينها بنصف ما يخرج منها.. فهل يصح؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يصح؛ لأن المزارعة إنما جازت هاهنا تبعًا للنخل، فإذا فاصل بينهما في العوض.. لم يتبع أحدهما الآخر.
والثاني: يصح، وهو الصحيح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وابن الصباغ غيره، كما لو ساقاه على بستان فيه أنواع من الثمرة، وجعل له من كل نوع نصيبًا، وفاضل بين الأنصباء.
وإن عقد المزارعة، ثم عقد المساقاة.. لم تصح المزارعة؛ لأنها إنما أجيزت تبعًا للمساقاة، فلا تتقدم على المساقاة.
وإن عقد المساقاة على النخل، ثم عقد المزارعة على الأرض.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تصح المزارعة؛ لأنها إنما أجيزت تبعًا للمساقاة على النخيل، فإذا أفردها بالعقد.. لم تصح، كما لو باع الثمرة قبل بدو الصلاح، من غير شرط القطع منفردة عن الشجر.
والثاني: تصح؛ لأنا إنما جوزنا المزارعة؛ لأنه لا يمكن سقي النخيل إلا بسقي ما بينها من الأرض، وهذا المعنى موجود وإن عقدت المزارعة بعد المساقاة.

(7/281)


وإن كان بياض الأرض الذي بين النخيل أكثر من النخيل.. فهل تصح المزارعة عليه تبعًا للنخيل؟ فيه وجهان:
أحدهما: تصح؛ لما ذكرناه من المعنى، وهو: أنه لا يمكنه سقي النخيل إلا بسقي ما بينها من الأرض.
والثاني: لا تصح؛ لأن المزارعة إنما صحت تبعًا للنخيل، والكثير لا يتبع القليل، وإنما القليل يتبع الكثير.
إذا ثبت هذا: فكل موضع صححنا فيه المزارعة، فإن البذر يكون من رب الأرض، ويكون من العامل العمل، كالنخل في المساقاة.
وبالله التوفيق

(7/282)