البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الإجارة]

(7/283)


كتاب الإجارة وهي مشتقة من الأجر، وهو الثواب.
تقول: أجرك الله، أي: أثابك الله، فكأن الأجرة عوض عمله، كما أن الثواب عوض عمله.
إذا ثبت هذا: فيجوز عقد الإجارة على المنافع المباحة، مثل: أن يؤاجر نفسه أو عبده للخدمة، أو داره للسكنى، وما أشبه ذلك، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال عبد الرحمن الأصم، والقاساني: لا تصح الإجارة؛ لأنها غرر.
ودليلنا: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو لم يكن في الإجارة إلا هذا.. لكفى) . وذلك:

(7/285)


أن الله تعالى ذكر: أن المطلقة إذا أرضعت ولد زوجها.. فإنه يعطيا أجرها، والأجرة لا تكون إلا في إجارة، والرضاع غرر؛ لأن اللبن قد يقل وقد يكثر، وقد يكون الصبي يشرب من اللبن قليلًا، وقد يشرب من اللبن كثيرًا، وقد أجازه الله تعالى.
ويدل على صحتها: قَوْله تَعَالَى - في قصة موسى وشعيب -: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] [القصص: 26 - 27] . فلولا أن الإجارة كانت جائزة في شرعهم.. لما قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26] ، ولأنكر عليها شعيب، وأيضًا فإنه قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] . فجعل المنفعة مهرًا.
وقَوْله تَعَالَى - في قصة الخضر وموسى -: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] [الكهف: 77] .
وأما السنة: فروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استأجر أجيرًا.. فليبين له الأجرة» .

(7/286)


وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال ربكم: ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى فيّ عهدًا ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى عمله ولم يوفه أجرته» .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر استأجر رجلًا خريتًا عالمًا بالهداية» . والخريت: الدليل.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وأعطى الحجام أجرته» .
وأما الإجماع: فروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: (أنه أجر نفسه

(7/287)


ليهودي يستقي له الماء؛ كل دلو بتمرة) .
وروي: أن ابن عمر، وابن عباس قالا في قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] [البقرة: 198] : (هو أن يحج الرجل ويؤاجر نفسه) .
وروي: (أن عبد الرحمن بن عوف استأجر أرضًا، فبقيت في يده إلى أن مات، فقال أهله: كنا نرى أنها له حتى وصى بها، وذكر: أن عليه شيئًا من أجرتها) .
وما روي خلاف ذلك عن أحدٍ من الصحابة.
وأما القياس: فلأن المنافع كالأعيان، فلما جاز عقد البيع على الأعيان.. جاز عقد الإجارة على المنافع.

[مسألة: لا أجرة على المنفعة المحرمة]
] : ولا تجوز الإجارة على المنافع المحرمة، مثل: أن يستأجر رجلًا ليحمل له خمرًا لغير الإراقة.

(7/288)


وقال أبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لعن الله الخمرة وحاملها» . وإذا كان حملها محرمًا.. قلنا: منفعتها محرمة، فلم يجز أخذ العوض عليها، كالميتة، والدم.
وإن استأجره على حمل خمر لإراقتها.. قال ابن الصباغ: صحت الإجارة؛ لأن إراقتها واجبة.

[فرع: الإجارة لما فيه نفع]
ذكر الصيدلاني: أن الشافعي قال في " حرملة ": (يجوز الاستئجار على كنس الخلاء؛ لأنها تقع على منفعة وإن كان بإخراج نجاسة، فصحت كالحجامة) .
قال الشافعي: (وإن استأجره لطرح بهيمة ماتت بجلدها.. لم تصح الإجارة؛ لأن جلدها لا يجوز أن يكون ثمنًا، فلم يجز أن يكون أجرة، فإن رافعه إلى الحاكم، فإن كان قبل العمل.. فلا شيء له، وإن كان بعد العمل.. استحق أجرة المثل؛ لأنه عمل بعوض لم يسلم له) .
فإن كان الأجير قد سلخ الجلد.. قال ابن الصباغ: رده إليه؛ لأن يد مالك الشاة مقرة عليه، وله استصلاحه.

[فرع: استئجار الكلاب]
وهل يجوز استئجار الكلاب المعلمة؟ فيه وجهان:
من أصحابنا من قال: يجوز؛ لأن منفعتها مباحة، فجاز استئجارها، كسائر المنافع المباحة.
ومنهم من قال: لا يجوز، وهو الصحيح؛ لأنها منفعة غير مملوكة، وإنما أبيحت للحاجة، كالميتة للمضطر.
والدليل على أنها غير مملوكةٍ: أنها لا تضمن بالغصب، وكل منفعة لا تضمن بالغصب، لا يصح الاستئجار عليها.

(7/289)


فإن استأجر بيتا ليتخذه بيت نارٍ، أو كنيسة، أو ليبيع فيه الخمر.. لم تصح الإجارة. وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: أنه فعل محظور، فلا يجوز الاستئجار عليه، كما لو استأجر امرأة ليزني بها.
وإن استأجر دارًا أو بيتًا ليتخذه مسجدًا ليصلي فيه.. صحت الإجارة، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح عقد الإجارة بذلك؛ لأن فعل الصلاة لا يجوز استحقاقه بعقد الإجارة بحال، فلا تجوز الإجارة له، كما لو استأجر امرأة ليزني بها) . وهذا غير صحيح؛ لأن ذلك فعل جائز، فجاز الاستئجار له، كالخياطة. وما ذكروه.. فلا يصح؛ لأن الصلاة لا تدخلها النيابة، فلا ينتفع بها المستأجر، بخلاف المسجد، ويفارق الزنا، فإنه فعل محظور.

[فرع: لا يستأجر الفحل للضراب]
] : ولا تجوز إجارة الفحل للضراب، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (يجوز) وبه قال أبو علي بن أبي هريرة من أصحابنا، لأنها منفعة تستباح بالإعارة، فاستبيحت بالإجارة، كسائر المنافع.
والأول أصح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن عسب الفحل» ، وبعضهم يرويه: (عن ثمن عسب الفحل) . وقد اختلف في العسب:
فقال الأموي، وأبو عبيدٍ [في " غريب الحديث " 1/154] : هو الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل، يقال: عسبت الرجل أعسبه عسبًا: إذا أعطيته الكراء على ذلك، وعلى هذا تحمل رواية من روى: (ثمن عسب الفحل) ، أي: عن كراء الفحل.
وقال بعض أهل اللغة: العسب: هو الضراب نفسه؛ لقول الشاعر، وذكر قومًا أسروا له عبدًا، فرماهم به:

(7/290)


فلولا عسبه لتركتموه ... وشر منيحةٍ عسب معار
ويروى:
فلولا عسبه لرددتموه ... وشر منيحةٍ هنه معار
وعلى هذا تحمل رواية من روى: (عن ثمن عسب الفحل) ، ولأن ذلك لا يقدر على تسليمه؛ لأنه متعلق باختيار الفحل وشهوته.
فإن استعار من رجل فحلًا، وأعطاه هدية أو كرامة.. جاز لمالك الفحل قبولها.
وقال أحمد: (لا يجوز؛ لأن ما منع من أخذ الأجرة عليه.. لا يجوز قبول الهدية لأجله، كمهر البغي، وحلوان الكاهن) .
دليلنا: أنه هدية لأجل منفعة مباحة، فجاز أخذها، كالهدية للحجام، وأما البغي والكهانة: فهما شيئان محظوران، فلم يجز أخذ الهدية لأجلهما.

[فرع: استئجار الأموال]
ولا يجوز استئجار الدراهم والدنانير ليتجر بها؛ لأنه لا يمكن التجارة بها إلا بإتلافها، والإجارة لا تصح إلا في عين يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها. وهل تصح إجارتها ليجمل بها الدكان، ويتركها التاجر في يده، ويقلبها ليأمنه الناس ويعاملوه؟
فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنها منفعة مباحة يمكن استيفاؤها مع بقاء العين، فهي كسائر المنافع.

(7/291)


والثاني - وهو الصحيح -: لا تصح؛ لأنها منفعة لا تضمن بالغصب، فلم يصح الاستئجار عليها كوطء الأمة، وما ذكره الأول.. يبطل بالطعام، فإن الطعام يتجمل به الحناط بتركه في دكانه ليعامله الناس، ومع هذا فلا يصح إجارته لذلك. وهل يصح استئجار الطعام ليعاير به الكيال والمكاييل؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري.

[فرع: استئجار البستان للثمرة]
وإن استأجر بستانًا لأخذ ثمرته، أو استأجر موضعًا ليرعى فيه.. لم يصح؛ لأن الثمرة والمراعي أعيان، فلا تستباح بعقد الإجارة.
وإن استأجر بستانًا لينظر إليه.. لم يصح؛ لأنه يملك النظر إليه من غير إذن صاحبه، فبذل المال في ذلك سفه، فلم يصح.
وإن استأجر أشجارًا ليجفف عليها الثياب، أو ليشد عليها حبلًا يجفف عليه الثياب.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنها منفعة غير مقصودة.
والثاني: يصح؛ لأنها منفعة مباحة، فهي كسائر المنافع.
قال الشيخ أبو إسحاق: وكذلك الوجهان فيمن استأجر شجرًا للاستظلال به، ولعله أراد: إذا كان قعود المستظل في ملك صاحب الشجر، فأما إذا كان قعوده في ملكه، أو في موضع مباح، بأن يكون الشجر يجاوره بملكه، أو بموضع مباح، وظلها فيه.. فلا يصح استئجاره لذلك، وجهًا واحدًا؛ لأنه يملك القعود في ظلها من غير إذن صاحب الشجرة، وبذل المال فيه من أكل المال بالباطل.
ولو قيل: إذا كان قعود المستظل في ملك صاحب الشجرة.. صحت الإجارة، وجهًا واحدًا، كما لو استأجر منه بيتًا ليستظل فيه.. لم يكن بعيدًا.
وإن استأجر حبلًا ليجفف عليه الثياب.. قال ابن الصباغ: صح ذلك، وجهًا واحدًا؛ لأن ذلك منفعة مقصودة منه.

(7/292)


[فرع: استئجار الكتب]
] : وإن استأجر كتابًا فيه قرآن، أو فقه، أو طب، أو شعر مباح، وما أشبه ذلك ليقرأ فيه.. صح.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح، كما لا يصح أن يستأجر سقف بيت فيه تصاوير لينظر إليها) .
دليلنا: أن هذا منفعة مباحة، فجاز عقد الإجارة عليها، كلبس القميص، وأما النظر إلى السقف والتصاوير: فليس بمقصود.
قال ابن الصباغ: وإن كان النظر إلى السقف شيئًا مقصودًا مباحًا.. جاز استئجاره لذلك أيضًا.

[فرع: استئجار حائط لأجل وضع خشبه]
فإن استأجر حائطًا ليضع عليه خشبًا معلومة، مدة معلومة.. صح.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح) .
دليلنا أن هذه منفعة مقصودة مقدور على استيفائها، فصحت الإجارة عليها؛ كما لو استأجر سطحًا لينام عليه، أو ثوبًا ليلبسه.

[فرع: الاستئجار لاستيفاء القصاص]
وإن استأجر رجلًا يستوفي له القصاص في الطرف، أو في النفس.. صح.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح في النفس؛ لأن عدد الضرب مجهول) .
دليلنا: أن هذا حق يجوز التوكيل في استيفائه، فجاز عقد الإجارة عليه، كالقصاص في الطرف، وتكون الأجرة هي على المقتص منه.

(7/293)


وقال أبو حنيفة: (هي تكون على المقتص له) .
دليلنا: أنها أجرة تجب لإيفاء حق، فكانت على الموفي، كأجرة الكيال والوزان، وذلك: أنه إذا باع عشرة أقفزة من صبرة، أو عشرة أرطال من ظرف سمن.. فإن الكيل يجب على البائع، وأجرة الكيال عليه. وإن باعه صبرة، أو سمنًا في ظرفٍ، فأراد المشتري أن يعرف كيلها، أو وزنه.. فإن أجرة الكيال والوزان عليه. وكذلك: أجرة النقاد إن باعه بدنانير معينة.. فأجرة ناقد الدنانير على البائع.
وإن باعه بدنانير في الذمة.. فأجرة ناقدها للقبض على المشتري؛ لأن الإيفاء واجب عليه.

[فرع: الاستئجار للبيع والشراء]
إذا استأجر رجلًا ليبيع له ثوبًا بعينه.. صحت الإجارة، وإن استأجره ليشتري له ثوبًا بعينه.. قال ابن الصباغ: لم تصح الإجارة عندي.
والفرق بينهما: أن البيع في العادة ممكن؛ لأنه لا ينتفي الراغب فيه أصلًا، وأما الشراء بشيء معين: فلا يكون إلا من واحدٍ، وقد يبيع، وقد لا يبيع، فلا يمكن تحصيل العمل بحكم الظاهر.
وإن استأجره لشراء شيء، ووصفه، ولم يعينه.. جاز؛ لأن الظاهر أنه يمكنه شراؤه.

[فرع: استئجار الكافر المسلم]
وإن استأجر الكافر مسلمًا.. نظرت:
فإن استأجره لعمل في ذمته.. صح؛ لأنه لا صغار عليه في ذلك.
وإن استأجره لعمل مقدر، في زمان معلوم.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناءً على القولين في جواز شراء الكافر للمسلم؛ لأن في ذلك استيلاء عليه وصغارًا، كالملك.

(7/294)


و [الثاني] : منهم من قال: يصح، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن ذلك عمل في مقابلة عوض، فأشبه العمل في ذمته، ويخالف الملك؛ لأنه يقتضي تسلطا واستدامة ملكه عليه.

[مسألة: من يملك الإجارة وبم تنعقد؟]
ولا تصح الإجارة إلا من جائز التصرف في المال؛ لأنه تصرف في المال، فهو كالبيع.
وتنعقد الإجارة بلفظ الإجارة؛ لأنه لفظ موضوع له، وهل تنعقد بلفظ البيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: تنعقد؛ لأنه تمليك يتقسط العوض فيه على المعوض، فانعقد بلفظ البيع، كالصرف ينعقد بلفظ البيع، وفيه احتراز من النكاح، فإنه لا ينعقد بلفظ البيع؛ لأنه لا يتقسط العوض فيه على المعوض.
والثاني: لا ينعقد؛ لأن البيع يخالف الإجارة في الاسم والحكم، فلم تنعقد الإجارة بلفظه، كالنكاح.
وإذا عقدت الإجارة على عين.. فاختلف أصحابنا فيما يتناوله عقد الإجارة:
فقال أبو إسحاق: إن العقد يتناول العين، ولهذا يقول: أجرتك داري. وقال أكثر أصحابنا: إن العقد يتناول المنفعة دون العين، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لأن الأجرة في مقابلة المنفعة.
ولهذا: إذا قبض المستأجر العين.. ضمن المنفعة دون العين، وما كان العوض في مقابلته.. فهو المعقود عليه، وقوله: (أجرتك داري) معناه: منفعة داري، ولو قال: أجرتك منفعة داري.. صح.
إذا ثبت هذا: فإن منافع العين المستأجرة تحدث على ملك المستأجر.
وقال أبو حنيفة: (المنفعة تحدث على ملك المؤاجر، ولا يملكها المستأجر بالعقد) .

(7/295)


ودليلنا: أن منافع الأعيان كالأعيان الموجودة، بدليل: أنه يجوز العقد عليها، كما يجوز العقد على الأعيان الموجودة، وإذا صح العقد عليها.. فقد انتقلت إلى ملك المستأجر، فكانت حادثة على ملكه، كمنافع أعيان ماله.

[مسألة: الإجارة على الأعمال والأعيان]
يصح عقد الإجارة على الأعمال والأعيان، فأما عقدها على الأعمال: فينقسم قسمين:
أحدهما: إجارة على عمل معين، مثل: أن يقول: استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب.. فيلزمه أن يخيطه بنفسه.
والثاني: على عمل في الذمة، مثل: أن يقول: استأجرتك على أن يحصل لي خياطة هذا الثوب، فيجوز أن يخيطه بنفسه، ويجوز أن يستأجر غيره، أو يستعينه عل خياطته؛ لأن المنافع كالأعيان، فلما جاز عقد البيع على عين معينة، وعلى عين موصوفة في الذمة، فكذلك الإجارة.
وأما عقد الإجارة على الأعيان: فالأعيان تنقسم قسمين: عقارًا، وغير عقار.
فأما غير العقار: فيصح عقد الإجارة فيها على عين معينة، مثل: أن يقول: أجرني عبدك هذا، أو جملك هذا، فيملك المستأجر منفعة تلك العين المعينة، كما لو اشتراه. ويصح عقد الإجارة على عين موصوفة في الذمة، مثل: أن يقول أجرني عبدًا، أو جملًا في ذمتك، ويصفه، ويصف ما يكتري له، كما يصح أن يسلم إليه في عبد أو جمل في ذمته، فإن قال: أجرني عبدك الفلاني، ولم يكن المستأجر رآه.. فهل يصح؟ فيه قولان، بناء على القولين في بيع عين معينة لم يرها المشتري.
وأما العقار، كالدور، والأرض: فيصح عقد الإجارة عليها، ولكن لا يصح إلا على عقار معين، مثل: أن يقول: أجرني دارك هذه، أو أرضك هذه، فإن قال: أجرني دارًا، أو أرضًا في ذمتك.. لم يصح؛ لأن العقار لا يثبت في الذمة، ولهذا لا يصح السلم عليه، فكذلك الإجارة.

(7/296)


[فرع: ما جاز الإجارة على كله جازت على بعضه]
] : وكل عين جاز عقد الإجارة عليها، إما معينة أو في الذمة.. جاز عقد الإجارة على جزء مشاع منها، سواء استأجرها الشريك أو غيره، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة، وزفر: (لا يجوز إجارة المشاع إلا من الشريك) .
وقال أبو يوسف، ومحمد: لا تجوز إجارة المشاع بحال.
دليلنا على أبي حنيفة: أن كل عقد ملك أن يعقده مع شريكه.. جاز أن يعقده مع غير شريكه، كالبيع.
وعلى أبي يوسف، ومحمد: أنها منفعة يتعلق بها عقد الإجارة، فإذا جاز بيع أصلها.. جاز عقد الإجارة على تلك المنفعة، كالدار إذا كانت مقصودة، ولأن الدار إذا كانت لنفسين، فأجراها معًا من واحد.. جاز، ونحن نعلم أن كل واحد منهما قد أجر نصفه مشاعًا، كذلك إذا أجر أحد الشريكين.

[مسألة: جواز إجارة الأرض بكل عين أو منفعة]
يجوز إجارة الأرض للزراعة بكل ما جاز أن يكون ثمنًا في البيع، سواء كان مما تنبته الأرض كالحبوب، أو مما لا تنبته الأرض، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
وقال الحسن البصري، وطاووس: لا تجوز إجارة الأرض بحال، بعد أن وافقانا على جواز إجارة الدور والدكاكين.
وقال مالك: (لا تجوز إجارة الأرض بما تنبته من الحبوب، كالحنطة، والشعير، والذرة) . واحتج بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا بطعام مسمى» .
دليلنا على الحسن، وطاووس: ما ذكرناه من الأخبار في أول الباب.

(7/297)


وعلى مالك: أن ما جاز أن يكترى بالذهب والفضة.. جاز بما تنبته الأرض، كالدور، والدكاكين. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ولا بطعام مسمى» فأراد: مما يخرج من تلك الأرض، وخرج النهي على عرف أهل البلد ذلك الوقت؛ لأنهم كانوا يكرون الأرض بما يخرج على السواقي والجداول، أو بربع ما يخرج منها، أو بثلثه، أو بشيء مسمى مما يخرج منها، فنهاهم عن ذلك.
إذا ثبت هذا: فإن اكترى أرضًا للزراعة أو للغراس.. نظرت:
فإن كان لها ماء دائم لا ينقطع في العادة، مثل: أن تكون تشرب من دجلة أو الفرات، أو كان لها نهر أو بئر، أو كان لها بركة قد جمع فيها ماء من الأمطار يكفيها، أو كانت الأرض (بعلًا) وهي: الأرض التي فيها نداوة تكتفي بها.. صحت إجارتها للزرع والغراس؛ لأنه يمكنه زراعتها مع ذلك، فصح، كما لو باعه عبدًا يملكه.

[مسألة: استأجر أرضًا لا ماء فيها]
قال الشافعي: (فإذا تكارى الأرض التي لا ماء لها، وإنما تسقى بنطف سماء أو سيل إن جاء.. فلا يصح كراؤها إلا على أن يكريه إياها أرضًا بيضاء لا ماء لها، يصنع بها المكتري ما شاء في سنته، إلا أنه لا يبني ولا يغرس، فإذا وقع على هذا.. صح الكراء، ولزمه، زرع أو لم يزرع.
فإن أكراه إياها على أن يزرعها، ولم يقل: أرضا بيضاء لا ماء لها، وهما يعلمان أنها لا تزرع إلا بمطر أو سيل يحدث.. فالكراء فاسد) .
قال أصحابنا: وإذا اكترى أرضًا ليس لها ماء قائم، وإنما تزرع على سيل نادر إن جاء، أو بالأمطار الكثيرة، ولا تكتفي بالمطر المعتاد والنطف.. ففيها ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يكتري هذه الأرض للزراعة.. فلا يصح؛ لأن اعتماد الزرع على السقي، فإذا لم يكن لها ماء قائم لا ينقطع في العادة.. لم يتمكن من استيفاء المنفعة،

(7/298)


إذ السيل النادر مظنون، والمطر الكثير قد يقل؛ لأن العادة قد جرت أن الكثير قد يقل، فلم يصح، كما لو أكراه أرضًا لا يملكها.
الثانية: أن يقول: أجرتك هذه الأرض، وهي أرض بيضاء لا ماء لها، ولا يقول: للزراعة.. قال الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: فتصح الإجارة؛ لأن الأرض قد تكترى للزرع وغيره، بأن يقعد فيها، أو يؤوي إليها بهائمه، أو يطرح فيها طعامًا أو حطبًا.
وقال الصيمري: لا تصح هذه الإجارة حتى يقول: أجرتكها أرضًا بيضاء لا ماء لها، تصنع بها أنت بلا ماء لنفسك ما شئت، ولا يستغنيان بقولهما: لا ماء لها، فإن لم يقولا جميع ذلك.. بطل؛ لأن الظاهر عند الإطلاق - ولا ماء لها - أن رب الأرض ربما تكلف سوق الماء إليها.
إذا ثبت هذا: فيجوز له أن يزرع هذه الأرض مدة الإجارة، ويحفر فيها بئرًا للسقي؛ لأن الزرع من منافع تلك الأرض، وله طم البئر، وله تركها إذا رضي مالك الأرض بتركها. وليس له الغرس فيها، ولا البناء؛ لأنهما يرادان للبقاء، والمكري لم يدخل على أن يبقى في أرضه شيء بعد مدة الإجارة.
الثالثة: أن يقول: أجرتك هذه الأرض، ولم يقل: للزراعة، ولا أنها أرض بيضاء، فهل تصح الإجارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تصح؛ لأن الأرض إنما تراد للزرع في العادة والغالب، ولو شرط الزراعة.. كان باطلًا، فكذلك إذا أطلق.
والثاني: ينظر فيها: فإن كانت بحيث لا يمكن أن يساق إليها ماء من نهر لارتفاعها، ولا يتأتى فيها بئر يحفر لصلابتها أو لقلة الماء فيها.. صح الكراء؛ لأن عمله بذلك بمنزلة ما لو شرط أنها أرض بيضاء.

(7/299)


وإن كانت بحيث يمكن أن يساق إليها الماء من نهر، أو يحفر فيها بئر ماء.. لم يصح الكراء؛ لأن المكتري يجوز أن يعتقد أن لها ماء، أو أن المكري يحصل لها الماء، وأنه يكتريها للزراعة، وذلك متعذر في العادة، فلم يصح.
قال الشيخ أبو حامد: وقد ذكرها أبو إسحاق المروزي في " الشرح "، وسها في كلمة، فقال: فيها وجهان، أحدهما: لا يصح إذا شرط زرعها. وجميع أصحابنا قالوا: إذا شرط زرعها.. لم يصح، وجهًا واحدًا، وإنما الوجهان عند الإطلاق.
وإن كانت الأرض مما يكتفي زرعها بالمطر القليل.. قال الشيخ أبو حامد: صحت إجارتها للزرع؛ لأن الله تعالى ما أجرى العادة بقطع الأمطار جملة، وإنما أجرى العادة بأن المطر قد يقل، فلذلك قلنا: لا تصح إجارة الأرض للزرع التي لا يكتفي زرعها إلا بالمطر الكثير.
وإن كانت الأرض لا تشرب إلا من زيادة نهرٍ، فإن كانت زيادته نادرةً، فإن اكتراها للزراعة بعد زيادة الماء.. صح؛ لأن الانتفاع بها ممكن، وما يتخوف في ثاني الحال من نقص يؤثر بالزرع.. لا يؤثر، كمن اشترى عبدًا، فإنه يصح وإن كان يتخوف موته أو إباقه. وإن اكتراها للزراعة قبل زيادة الماء.. لم يصح؛ لأنه قد يزيد، وقد لا يزيد، وذلك ضر مظنون، فلم يصح.
فإن اكتراها على أنها ارض بيضاء لا ماء لها، ولم يقل: للزراعة.. صح، كما قلنا في الأرض التي لا ماء لها. وإن اكتراها، ولم يقل: إنها أرض بيضاء لا ماء لها، ولا أنه يكتريها للزراعة.. لم يصح، وجهًا واحدًا؛ لأن لها ماءً بحالٍ؛ لأنه يمكن أن يسقي من النهر بالدواليب وإن كانت عالية.
فإن كانت الزيادة معتادةً.. صحت إجارتها للزراعة قبل وجود الزيادة، فكذلك

(7/300)


تصح إجارة أرض البصرة التي تشرب من المد للزرع؛ لأن ذلك معتاد لا يختلف؛ لأن الماء يمد كل يوم مرتين.
قال ابن الصباغ: وكذلك تصح إجارة الأرض التي تشرب بالمطر المعتاد للزرع قبل مجيء المطر، ولعله أراد الأرض التي تكتفي بالمطر القليل، كما ذكره الشيخ أبو حامد.

[فرع: استأجر أرضًا مغمورة بالماء]
وإن استأجر أرضًا وفيها ماء، فإن كان الماء كدرًا لا ترى معه الأرض، ولم يكن رأى الأرض قبل ذلك.. لم يصح، على الصحيح من القولين؛ لأنه لا يجوز عقد الكراء على عين لم يشاهدها، وإن كان قد رأى الأرض قبل ذلك، أو كان الماء صافيًا ورأى الأرض وفيها الماء.. نظرت:
فإن استأجرها لزرع يصلح مع قيام الماء فيها، كالأرز، وما أشبهه.. صحت الإجارة؛ لأنه يمكنه الانتفاع بها عقيب العقد.
وإن استأجرها لزرع لا يصلح مع قيام الماء فيه، كالحنطة، والشعير، والذرة، فإن كان فيها موضع يمكن فتحه وخروج الماء منها، وتزرع بعد ذلك.. صحت إجارتها؛ لأنه يمكن زراعتها. وإن لم يكن فيها موضع يمكن فتحه وخروج الماء، ويعلم أن الماء لا ينحسر عنها بالشمس والريح.. لم تصح إجارتها للزرع؛ لأنه لا يتمكن من زراعتها.
وإن كان يعلم في العادة أن الماء ينحسر عنها بطلوع الشمس وهبوب الريح.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بها في الحال.

(7/301)


والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره -: أنه يصح، وهو الصحيح؛ لأنه يعلم بحكم العادة إمكان زراعتها، وكون الماء فيها هو من عمارتها، فلا يمنع زراعتها وقت الزراعة.
وليس من شرط الإجارة حصول الانتفاع بها في جميع مدتها، ألا ترى أنه يجوز أن يستأجر الأرض للزراعة سنتين، والزراعة لا تكون إلا في بعضهما.

[فرع: خوف غرق الأرض لا يمنع الإجارة]
قال في " الأم " [3/247] : إذا كانت الأرض على صفة يمكن زرعها، إلا أنه يخاف عليها الغرق، وقد تغرق، وقد لا تغرق.. جازت إجارتها؛ لأن الظاهر عدم الغرق، والأصل السلامة.

[فرع: الاستئجار لتعليم سورة كريمة]
] : وإن استأجر رجلًا على تحصيل تعليم سورة من القرآن، والأجير لا يحفظها.. صحت الإجارة؛ لأنه يمكنه تحصيل تعليمه، بأن يستأجر من يحفظها ليعلمه.
وإن استأجره ليعلمه سورة، والأجير لا يحفظها.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تصح؛ لأنه عقد على منفعة معينة لا يقدر عليها، فهو كما لو أجر عبد غيره.
والثاني: تصح؛ لأنه يمكنه أن يتعلم من غيره ويعلمه.

[مسألة: الاستئجار على منفعة معلومة]
ولا تصح الإجارة إلا على منفعة معلومة القدر؛ لأن المنافع كالأعيان، فلما لم يجز العقد على الأعيان مع الجهل بها.. فكذلك العقد على المنافع.
إذا ثبت هذا: فإن المنافع تنقسم ثلاثة أقسام:
[الأول] منها: ما لا يتقدر إلا بالمدة.

(7/302)


و [الثاني] منها: ما لا يتقدر إلا بالعمل.
و [الثالث] منها: ما يتقدر بالمدة أو بالعمل.
فأما ما لا يتقدر إلا بالمدة: فإجارة العقار كله، كالأرض، والدور، والحوانيت؛ لأنه ليس للعقار عمل معلوم، فلم يتقدر العقد على منفعته إلا بالمدة، وكذلك: الاستئجار لتطيين السطوح والحيطان وتجصيصها لا تتقدر معرفته إلا بالزمان، فيقول: استأجرتك لتطين لي شهرًا، أو تجصص لي شهرًا؛ لأنه لا يمكن تقدير العمل فيه؛ لأن بعضه يكون رقيقًا، وبعضه يكون ثخينًا؛ لاختلاف أرض السطح والحائط، وكذلك: الإجارة على الرضاع لا تقدر المنفعة فيها إلا بالزمان؛ لأنه لا يمكن تقدير اللبن الذي يشبع به الصبي.
وأما ما لا تتقدر المنفعة فيه إلا بالعمل: فمثل أن يقول: استأجرتك لتبيع لي هذا الثوب أو لتخيطه، أو استأجرتك لتحج عني، أو عن فلان، أو لتقبض لي من فلان شيئًا، وما أشبه ذلك؛ لأنه لا يمكن تقدير المنفعة فيها بالمدة.
وأما ما تتقدر المنفعة فيه بالعمل أو بالمدة: قال الشيخ أبو حامد: فمثل أن يقول: أجرني دابتك هذه لأركبها إلى موضع كذا، أو أجرني عبدك هذا ليخيط لي هذا الثوب، أو أجرني عبدك هذا ليخدمني شهرًا، أو ليخيط لي شهرًا، أو ليبني لي شهرًا، أو أجرني هذا الجمل لأركبه شهرًا أو سنة.. فيصح ذلك؛ لأن المنفعة معلومة لكل واحدٍ منهما.
فرع: [استأجره ليخيط ثوبًا في يوم] :
وإن قال: أجرني عبدك ليخيط لي هذا الثوب يومًا.. لم يصح، وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف، ومحمد: يصح.

(7/303)


دليلنا: أن تصحيحها يؤدي إلى التناقض؛ لأنه قد يفرغ من الخياطة في بعض اليوم، فإن طولب بالعمل في بقية اليوم.. أخل بشرط العمل، وإن لم يطالب بالعمل.. أخل بشرط المدة، وإن قال: استأجرتك لتحصل لي خياطة خمسة أيام.. قال القاضي أبو الطيب: لم يصح؛ لأن المنفعة مجهولة؛ لأن الخياطين تختلف أعمالهم، وإنما تصح الإجارة، بأن يقول: استأجرتك لتخيط لي خمسة أيام، أو لتخيط هذا الثوب، أو لتحصل لي خياطة هذا الثوب؛ لأن المنفعة في ذلك كله معلومة.

[فرع: شرط مدة الإيجار أن تكون مقدرة]
وما قدر من الإجارة بالمدة: فمن شرط المدة أن تكون معلومة الابتداء والانتهاء، فيقول: أجرني دارك هذه مدة شهر من هذا الوقت، أو من الآن، فإن قال: شهرًا أو سنة، ولم يقل من الآن، أو من هذا الوقت.. لم تصح.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (إذا أطلق.. اقتضى أن يكون أولها عقيب العقد) .
دليلنا: أن المعقود عليه هو الشهر، وذلك غير معلوم، بل يجوز أن يكون هذا الشهر أو غيره، فلم تصح، كما لو قال: بعتك عبدًا.
إذا ثبت هذا: فإن من شرط المدة أن تكون متصلة بالعقد، فإن قال: أجرتك داري شهر رجب، وهو في جمادى.. لم تصح الإجارة.
وقال أبو حنيفة: (تصح) .
دليلنا: أن الإجارة عقد بنفسها يتقسط العوض فيها على المعوض، فإذا عقدت على معنى ينافي الشروع في قبضها عقيب العقد.. لم تصح، كما لو باعه عبدًا آبقًا، أو مغصوبًا.
فقولنا: (يتقسط العوض فيها على المعوض) احتراز من نكاح الصغيرة، فإنه

(7/304)


يصح، وإن كان لا يتأتى القبض فيها عقيب العقد الأول. أو نقول: لأن عقد الإجارة معاوضة محضة، فبطل فيما لا يتأتى فيه القبض عقيب العقد، كالبيع. ولا يبطل ببيع العين الغائبة، فإن قبضها يكون في موضعها.
وإن استأجر من رجل عينًا شهر شعبان، ثم استأجرها منه شهر رمضان قبل انقضاء شعبان.. فهل تصح الإجارة في شهر رمضان؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تصح؛ لأن مدة إجارة العقد الثاني لم تتصل بوقت العقد، فلم تصح، كما لو كانت العين في إجارة غيره في شعبان، فأجرها من الثاني قبل انقضاء إجارة الأول.
والثاني: تصح، وهو المنصوص؛ لأن العين في يد المستأجر، ولا حائل بينه وبينها، فصار كما لو جمع في الإجارة بين الشهرين.

[فرع: الإجارة المطلقة بأجرة معينة]
وإن قال: أجرتك داري كل شهر بدينار، ولم يبين عدد الشهور.. لم تصح الإجارة.
ومن أصحابنا من قال: فيه قول آخر: أنه تصح في الشهر الأول بدينار، وتبطل فيما زاد عليه، وهو قول أبي حنيفة، واختيار أبي سعيد الإصطخري، إلا أن أبا حنيفة قال: (لكل واحد منهما أن يفسخ الإجارة عند انقضاء الشهر، فإذا لم يفعلا حتى مضى يوم من الشهر الثاني.. فليس لواحد منهما أن يفسخ) .
وقال مالك: (الإجارة صحيحة، وكلما مضى شهر.. استحق دينارًا، إلا أنها غير لازمة) .
دليلنا: أن قوله: (كل شهر) لا نهاية له، وإذا كانت مدة الإجارة مجهولة.. لم تصح، كما لو قال: أجرتك زمانًا، ولأن الشهر الأول وإن كان معلومًا، إلا أنه

(7/305)


أضيف إلى مجهول، والمعلوم إذا أضيف إلى مجهول.. صار الجميع مجهولًا، فصار كما لو قال: أجرتك داري هذه ودار أخرى بمائة.
وإن قال: أجرتك داري هذه سنة من هذا الوقت، فإن قال: سنة عددية، أو سنة بالأيام.. كانت الإجارة ثلاثمائة وستين يومًا، وإن قال: سنة هلالية.. كانت الإجارة اثني عشر شهرًا، تمت الشهور أو نقصت.
فإن عقد الإجارة في آخر جزء من الشهر.. اعتبر جميع شهور السنة بالأهلة، وإن عقد الإجارة بعد أن مضى جزء من الشهر، أو بقي منه جزء بعد العقد.. اعتبر ما بقي من هذا الشهر، وعد بعده أحد عشر شهرا بالأهلة، وتمم الشهر الأول بالعدد بعد الأحد عشر.
فإن قال: أجرتك سنة وأطلق، ولم يقل: عددية ولا هلالية.. انصرف ذلك إلى الهلالية؛ لأنها هي السنة المعهودة في الشرع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] [البقرة: 189] .
وإن أجره سنة شمسية، أو رومية، أو فارسية.. فذكر الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وابن الصباغ: أن الإجارة لا تصح؛ لأن هذه السنة تزيد على السنة الهلالية، وتلك الزيادة غير معلومة، بل تختلف، فإنها سنة تكون: ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا وربع يوم، وسنة تكون: ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا ونصف يوم، وسنة تكون: ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا وثلاثة أرباع يوم، إلا أن تكون هذه الزيادة معلومة عند المتعاقدين، فتصح الإجارة. فإن جهلا ذلك أو أحدهما.. لم تصح.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فقال: إذا أجره سنة شمسية.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تصح؛ لأنه على حساب النسيء فيه أيام، والنسيء حرام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] [التوبة: 37] . وأراد بقوله: (النسيء) ما ذكروه من التقدم والتأخر لأجل الزيادة والنقصان في السنة؛ لأن النسيء المذكور في الآية: أن العرب كانت تؤخر تحريم المحرم إلى صفر.
والثاني: تصح؛ لأن مدة الإجارة معلومة، فهو كالنيروز، والمهرجان.

(7/306)


[فرع: شرط بيان جنس الانتفاع بالمؤجر]
إذا قال: أكريتك هذه الأرض، وأطلق، ولم يبين جنس الانتفاع بها.. لم يصح؛ لأن الأرض تكرى للزرع، وللغراس، وللبناء، فإذا لم يبين واحدًا منها.. لم يصح، وإن قال: أكريتكها لتزرع فيها زرع كذا.. صح، وإن قال: أجرتكها لتزرعها ما شئت، أو لتزرعها أضر الزرع.. صحت الإجارة؛ لأن أي زرع زرعه.. فهو مأذون له فيه، وإن قال: لتزرعها، وأطلق.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو العباس: لا يصح؛ لأن الزروع يختلف ضررها في الأرض.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يصح؛ لأن الإطلاق يعم الزروع، وقد ثبت أنه لو قال: لتزرعها ما شئت، أو لتزرعها أضر الزروع.. صح، فإذا أطلق.. حمل على العموم.
وإن أراد أن يغرسها أو يبني فيها.. لم يكن له ذلك؛ لأن ضررهما أكثر من ضرر الزرع.

[فرع: أجرة الأرض للغراس]
] : فإن قال: أجرتك هذه الأرض لتغرسها الغرس الفلاني.. صح، وإن قال: لتغرسها ما شئت، أو لتغرسها أضر الغروس.. صح، وإن قال: لتغرسها، وأطلق.. ففيه وجهان، كالزرع، الأصح: أنه يجوز.
فرع: [استأجر أرضًا للغراس فزرعها] : وإذا استأجر أرضًا للغراس.. فله أن يزرع فيها؛ لأن ضرر الزرع أقل من ضرر الغراس.
فرع: [أجره ليزرع وليغرس ولم يبين] :
إذا قال: أكريتك هذه الأرض، فازرعها أو اغرسها، أو قال: فازرعها أو اغرسها ما شئت.. قال الشافعي: (فالكراء جائز) . وقال المزني: الأشبه - بقوله -:

(7/307)


لا يجوز؛ لأنه عقد على زرع وغرس ولم يبين قدر كل واحد منهما، فكان مجهولًا.
واختلف أصحابنا في تأويلها:
فقال أبو العباس، وأبو إسحاق: ليس تأويلها ما ذكره المزني، وإنما تأويلها: أنه اكتراها ليغرسها كلها إن شاء، أو ليزرعها كلها إن شاء؛ لأنه إذا اكتراها للغراس.. فقد استفاد به الزرع؛ لأنه أقل ضررًا، فإذا ذكره كان تأكيدًا. فأما إذا أراد زرع بعضها وغرس بعضها.. لم يصح؛ لما ذكره المزني.
وقال أبو الطيب بن سلمة: بل الإجارة صحيحة؛ لأنه إذا استأجر على أن يزرع ويغرس.. فقد استأجرها للأمرين معًا، فكذلك إذا استأجرها على أن يزرع أو يغرس.. صح، ويكون له زرع نصفها وغرس نصفها؛ لأن الإضافة تقتضي التسوية، كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو.
والأول أصح؛ لأن الشافعي قد قال في " الأم ": (إذا قال: أجرتك هذه الأرض لتغرس بعضها، وتزرع بعضها.. لم يصح) .

[مسألة: إكراء البهائم]
مسألة: [جواز إكراء البهائم] :
قال الشافعي: (وإكراء الإبل جائز) .
وجملة ذلك: أن إكراء الإبل والخيل والبغال والحمير والبقر جائز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] [النحل: 8] . ولم يفرق بين المملوك والمكترى، وقَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] [البقرة: 198] .
قال ابن عباس: (أراد بذلك: ليس عليكم جناح أن تحجوا وتكروا جمالكم) .
وهذا إجماع لا خلاف فيه.
إذا ثبت هذا: فإن البهائم تكرى، لا سيما للركوب والحمل عليها والعمل،

(7/308)


فإن أراد أن يكتري بهيمة للركوب.. جاز أن يكتري بهيمة معينة، وجاز أن يكتري بهيمة موصوفة في الذمة. (فالمعينة) : أن يقول: أكرني هذا الجمل، أو هذا الفرس. و (الموصوفة) : أن يقول: أكرني جملًا، أو دابة، أو بغلًا، أو حمارًا، ويذكر النوع والذكورية، والأنوثية؛ لأن الغرض يختلف بذلك؛ لأن الأنثى أسهل في الركوب من الذكر. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: إذا كان في الجنس الواحد نوعان مختلفان في السير.. فهل يجب ذكر بيانه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب ذكره؛ لأن سيرهما يتفاوت.
والثاني: لا يجب؛ لأن التفاوت يقل.
ولا بد أن يكون الراكب معلومًا، ولا يكون معلومًا إلا بالمشاهدة.
وقال أصحاب مالك: يجوز الإطلاق في ذلك؛ لأن أجسام الناس متقاربة في الغالب. وهذا غير صحيح؛ لأن الناس مختلفون في الطول والثقل، ويتفاوتون تفاوتًا لا يمكن ضبطه بالوصف.
وأما ما يوطأ به المركوب: فإن أطلق ذلك، ولم يذكره.. وجب له أن يوطأ بما جرت العادة أن يوطأ بمثله، فإن كان المركوب فرسًا.. وطأه بالسرج واللجام، وإن كان بغلًا أو حمارًا.. وطأه بالإكاف والبرذعة، وإن كان جملًا.. وطأه بالقتب والزاملة.
وإن ذكر محملًا أو كنيسة.. كان له أن يركب به، ولا بد أن يكون المحمل معلومًا، ويصير معلومًا بالمشاهدة، وهل يصير معلومًا بالوصف؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو إسحاق:
أحدها: يصير معلومًا بالوصف، كما قلنا في السرج والقتب.

(7/309)


والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أن محامل بغداد وخوارزم وكنائسهم تصير معلومة بالوصف؛ لأنها خفيفة لا تختلف في العادة، وأما محامل خراسان وكنائسها: فلا تصير معلومة بالوصف؛ لأنها ثقال تختلف في العادة.
والثالث - وهو الصحيح -: أنها لا تضبط بالوصف؛ لأنها تختلف اختلافًا متباينًا، ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ الوجه الأول.
وقال ابن الصباغ: ولا بد أن يقول: يكون المحمل مغطى أو مكشوفًا؛ لأن الغرض يختلف فيه، ولا عرف فيه، فإذا ذكر: أنه مغطى.. فهل يصح أن يطلق الغطاء؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري، المشهور: أنه يصح؛ لأن ما يغطى به لا يختلف اختلافًا متباينًا، فيغطيه بلبد، أو نطع، أو خرقٍ. فإن شرط شيئًا.. تعين ما شرط، وله أن يغطي بمثله وأخف منه.
وهل يشترط بيان ما يوطأ به فوق المحمل؟ فيه وجهان، وأصحهما: أنه لا يجب، ويحمل على ما جرت به العادة.

[فرع: يذكر المكاري ما يصطحبه المسافر من حاجات وأمتعة]
وأما المعاليق التي يحتاج إليها في السفر، مثل: القدر والدلو والحبل والقربة والركوة، فإن ذكرها المكتري وكانت معلومة، إما بالمشاهدة، أو بالوصف.. صح، وإن أطلق، وقال: وتحمل المعاليق.. فهل يصح؟
قال الشافعي: (الكراء فاسد) . قال: (ومن الناس من قال: هو جائز استحسانًا، ويحمل على العرف) . واختلف أصحابنا فيها:

(7/310)


فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه مختلف، فلا بد من بيانه.
والثاني: يصح، ويحمل على العرف، وهو الوسط؛ لأنه لا يتفاوت، فهو كغطاء المحمل والكنيسة.
ومنهم من قال: لا يصح، قولًا واحدًا؛ لأن الشافعي لا يقول بالاستحسان.

[فرع: ليس للراكب اصطحاب ما لا يعتاد]
قال الصيدلاني: فإذا اكترى دابة تركب بسرج ولجام.. لم يكن للمكتري أن يعلق عليه المعاليق، كالسفرة، والسطيحة، والقربة؛ لأنه خلاف العادة.
فرع: [اشتراط المسافة أو قدر وقتها] :
وأما قدر السير ووقته: فإن شرط أن يركبها كل يوم شيئًا معلومًا، إما فرسخين، أو ثلاثة مما تقدر أن تمشي فيه مثل تلك البهيمة.. صح العقد، وحملا عليه.
قال القاضي أبو الطيب: إلا أن يكون ذلك الطريق مخوفًا، فلا يجوز تقدير السير فيه؛ لأن السير ليس إلى اختيارهما.
وإن لم يشرطا سيرًا مقدرًا في كل يوم، فإن كان لتلك الطريق منازل معروفة، وجرت العادة بالمسير فيه بزمان مخصوص من ليل أو نهارٍ.. صح العقد، وحملا على ما جرت به العادة في تلك الطريق، كما قلنا فيمن باع بدينار وأطلق، في بلدٍ فيه نقد متعارف.
وإن لم يكن لتلك الطريق منازل معروفة، ولا وقت يمشي فيه.. لم يصح العقد مع

(7/311)


الإطلاق، كما قلنا فيمن باع بدينار وأطلق، في بلد لا نقد فيه غالب.
قال أبو إسحاق المروزي: إذا أكرى إلى مكة في زماننا.. فلا بد أن يذكر المراحل؛ لأن السير في هذا الزمان سير لا تطيقه الحمولة.

[فرع: مكان النزول للمكتري يحمل على العرف]
وإن كان العرف في تلك الطريق النزول في بلدة، فإن اتفقا على موضع النزول في البلد.. جاز، وإن اختلفا: فقال المكتري: ننزل وسط البلد؛ لأنه أحفظ للمتاع، وقال المكري: بل ننزل في طرف البلد؛ لأنه أقرب لرعي الإبل، أو قال أحدهما: ننزل في هذا الجانب، وقال الآخر: بل ننزل في الجانب الآخر.. حمل الأمر على ما جرت به العادة في نزول القوافل في تلك البلد.
فرع: [تعيين مكان النزول] :
قال الطبري: فإذا استأجر بهيمة ليركبها من بغداد إلى البصرة، وكان منزله في البصرة، فإن قال: إلى طرف البصرة، أو إلى منزلي فيها.. صح العقد، وحملا على ذلك، وإن أطلقا.. فهل تصح الإجارة؟ فيه وجهان. فإذا قلنا: تصح.. فهل تنتهي الإجارة إذا بلغ إلى طرف البصرة، أو لا تنتهي حتى يبلغ منزل المكتري؟ فيه وجهان.

[مسألة: اكترى مركبة لحمولته]
فأما إذا أراد أن يكتري الحمولة للحمولة، و (الحمولة) - بضم الحاء -: الشيء الذي يحمل. و (الحمولة) - بفتح الحاء -: البهيمة التي تحمل. قال الله تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142] [الأنعام: 142] .
قال أهل التفسير: (الحمولة) : الكبار، و (الفرش) : الصغار.
إذا ثبت هذا: فإن اكترى ظهرًا للحمولة، فلا يفتقر إلى ذكر جنس الظهر، ولا

(7/312)


إلى نوعه، بل يقول: أكرني ظهر بهيمة لتحمل لي كذا وكذا، إلى موضع كذا وكذا، فيصح؛ لأنه لا غرض في معرفة جنس الظهر ونوعه؛ لأن الغرض تحصيل حمل المتاع، فعلى أي بهيمة حمله المكري من جمل، أو بغل، أو حمارٍ.. فقد حصل المقصود، بخلاف اكتراء البهيمة للركوب؛ لأن الغرض يختلف باختلاف البهيمة، فلذلك لم يكن بد من بيان البهيمة.
وأما المتاع المحمول: فلا بد من معرفة جنسه، أنه طعام، أو حديد، أو قطن؛ لأن تعب البهيمة يختلف باختلافه وإن استوى في القدر؛ لأن الحديد وما أشبهه يقع على موضع واحدٍ من الظهر، ولا يأخذ جميع الظهر، والقطن وما أشبهه يقع على جميع الظهر، وتدخل فيه الريح، ففي كل واحدٍ منهما ثقل من وجهٍ، وخفة من وجهٍ، فلذلك وجب بيانه.
ولا بد من معرفة قدره، فإن كان المتاع مشاهدًا.. وجب عليه بيانه، وإن قال: أكرني ظهرًا على حمل هذا القطن، أو على حمل هذه الصبرة.. صح وإن لم يعرفا وزن القطن، ولا كيل الصبرة، كما قلنا في البيع. وإن لم يشاهده، ولكن وصفه بالوزن أو بالكيل.. صح؛ لأنه يصير معلومًا بذلك.
وأما الظروف التي فيها المتاع: فإن كانت معلومة بالمشاهدة.. جاز، وإن لم تكن مشاهدة، فإن كان المتاع موصوفًا بالوزن.. لم يفتقر إلى معرفة جنس الظرف؛ لأنها تكون من جملة الوزن، وإن كان المتاع معلومًا بالكيل.. فلا بد من معرفة ظرفه، إما بالمشاهدة، أو بالوصف؛ لأنه يختلف بالثقل والخفة.
قال الشافعي: (إلا أن يكون من الغرائر الجبلية، فيجوز أن يطلق؛ لأنها لا تختلف اختلافًا متباينًا، فكان تسميتها كافيًا) .
قال ابن الصباغ: ويذكر المدة التي يحمل فيها، والموضع الذي يحمل إليه، كما قلنا في الركوب

(7/313)


قال الطبري: وإذا استأجره ليحمل له متاعًا إلى بلد، فبلغ به طرف ذلك البلد.. فللمكري حط المتاع هناك.
وقال أبو حنيفة: (يلزمه أن يبلغ به إلى منزل المكتري في ذلك البلد) .
دليلنا: أن المعقود عليه هو الحمل إلى البلد، واسم البلد يقع على طرفه.

[فرع: اكترى البهيمة ليحمل عليها ما لا تطيقه]
وإن اكترى منه بهيمة ليحمل عليها متاعًا لا تقدر عليه البهيمة، أو ليحمل عليها ما شاء.. لم يصح؛ لأن حملها لما لا تقدر عليه يؤدي إلى قتلها، وقوله: (ما شاء) يدخل فيه ما يقتلها، وقتلها لا يجوز.
فرع: [اكتراء البهيمة لإدارة الرحى] :
وإن اكترى دابة لإدارة الرحى.. فلا بد أن تكون البهيمة معلومة، إما بالمشاهدة، أو بالصفة، ولا بد أن يعلم الحجر بالمشاهدة لا بالصفة؛ لأن عمل البهيمة يختلف فيه بثقله وخفته. ولا بد من تقدير الطحن، إما بالزمان، بأن يقول: يومًا أو يومين، أو بالعمل، بأن يقول: لطحن قفيز أو قفيزين.
وإن استأجر بهيمة لإدارة الدولاب.. فلا بد أن تكون البهيمة معلومة بالمشاهدة، أو بالصفة، ولا بد أن يعلم الدولاب؛ لأن تعب البهيمة يختلف باختلافه، ولا يعلم إلا بالمشاهدة؛ لأنه يختلف ولا يضبط بالصفة، ويقدر ذلك بالزمان؛ لأنه لا يصير معلومًا إلا بذلك.
وإن اكتراها ليسقي عليها بالغروب.. فلا بد من معرفة الغرب؛ لأنه يختلف، ويقدر ذلك بالزمان أو بعدد الغروب، ولا يجوز أن يقدر بسقي الأرض مشاهدة ولا موصوفة؛ لأن ما تروى به الأرض من الماء مجهول.

(7/314)


فرع: [استئجار بهيمة للحرث] :
وإن استأجر ظهرًا للحرث.. فلا بد من معرفة الظهر بالمشاهدة أو بالوصف، ولا بد أن يشاهد رب البهيمة الأرض المحروثة؛ لأن تعب البهيمة يختلف باختلاف صلابة الأرض ورخاوتها، وذلك لا يضبط بالوصف، ويصح تقدير المنفعة هاهنا بالعمل، بأن يقول: أجرني هذا الظهر لأحرث عليه هذه الأرض، أو نصف الأرض.
وإن استأجره ليحرث هذه الأرض.. صح، ولا يفتقر إلى بيان جنس الظهر؛ لأن المقصود حرث تلك الأرض، فيصح وإن لم يذكر جنس الظهر، كما قلنا في حمل المتاع. وهل يصح أن يكتري ظهرًا مشاهدًا أو موصوفًا على أن يحرث عليه مدة معلومة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه مجهول.
والثاني: يصح، وهو الأصح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره؛ لأن المنفعة تصير معلومة بذلك.
وإن اكترى ظهرًا غير مشاهد ولا موصوف ليحرث عليه مدة.. لم يصح، وجهًا واحدًا؛ لأن ذلك يختلف.
فرع: [اكتراء الظهر للدياس أو الجارحة للصيد] :
ويجوز أن يستأجر الظهر على دياس الزرع، فإن كان على دياس زرع معين.. لم يفتقر إلى ذكر جنس الظهر؛ لأن المقصود دياسه، فهو كحمل المتاع.
وإن كان على دياس مدة.. لم يصح حتى يعلم الظهر، إما بالمشاهدة، أو بالوصف.

(7/315)


ويجوز أن يستأجر جارحة الصيد، ولا يصح حتى يعلم الجارحة، إما بالمشاهدة، أو بالوصف؛ لأن الجوارح تختلف، ولا بد من ذكر جنس الصيد الذي ترسل عليه الجارحة؛ لأن لكل صيد تأثيرًا في إتعاب الجارحة.

[مسألة: الاستئجار لرعي الأغنام]
وإن استأجره ليرعى له غنمًا معينة.. تعين العقد بها، فإن تلفت قبل انقضاء مدة الإجارة.. قال ابن الصباغ: فإن أصحابنا قالوا: تنفسخ الإجارة، ولا يكون للمستأجر إبدالها، وإن تلف بعضها.. انفسخ خفيه العقد، وإن توالدت.. لم يلزمه أن يرعى أولادها.
قال ابن الصباغ: وعندي أنه إذا عين الغنم.. جاز له إبدالها، كما إذا استأجر دابة ليركبها.. جاز له أن يركبها مثله.
وإن استأجره ليرعى له الغنم مدة وأطلق.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -: أنه لا يصح؛ لأن لكل قدر من الغنم تأثيرًا في إتعاب الراعي.
والثاني - وهو قول ابن الصباغ -: أنه يصح، ويرعى له ما جرت العادة أن يرعى الواحد من رعاة الغنم، فإذا تلف شيء منها.. أبدله، وإذا توالدت.. رعى أولادها؛ لأن العادة جرت بأن الأولاد تتبع الأمهات في الرعي.

[فرع: استئجار كحال للعين]
وإن استأجر كحالا ليكحل له عينه.. جاز له؛ لأنه عمل جائز يمكن تسليمه، ويقدره بالمدة، فإن قدره بالبرء.. لم يجز؛ لأنه لا يعلم متى يبرأ.
ولا يجب الكحل على الكحال؛ لأن الأعيان لا تستحق بالإجارة، فإن شرط الكحل على الكحال.. ففيه وجهان:

(7/316)


أحدهما: يجوز؛ لأن العادة جرت به عليه، ولأنه يشق على العليل تحصيل الدواء، فجوز ذلك، كالرضاع.
والثاني: أن الإجارة باطلة، وهو الأصح؛ لأن ذلك في معنى بيعتين في بيعة فإن اشترى منه الكحل، واستأجره على الكحل في عقد واحد.. فقد جمع بين بيع وإجارة، وفي ذلك قولان، مضى ذكرهما.
وإن استأجره ليصبغ له ثوبًا بصبغ من عند الصباغ، أو ليكتب له كتابًا بحبر من الكاتب، فإن قلنا: يجوز اشترط الكحل على الكحال.. صح هاهنا أيضًا. وإن قلنا هناك: لا يصح.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لما ذكرناه في الكحل.
والثاني: يصح؛ لأنه بيع للصبغ والحبر والعمل، والكتاب فيه تسليم الصبغ والحبر؛ لأنه مقدر بذلك.

[مسألة: استئجار امرأة للرضاع والحضانة]
] : وإن استأجر امرأة على إرضاع صبي.. صحت الإجارة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى في المطلقات: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] . والأجرة لا تكون إلا في إجارة.
فإن استأجرها على الحضانة، وهي حفظ الصبي، وتربيته، ودهنه، وكحله، وغسل خرقه، وتنظيفه.. لزمها ذلك دون الإرضاع. وإن استأجرها على إرضاعه وحضانته.. لزمها ذلك.
واختلف أصحابنا هل المقصود الحضانة، واللبن تبع، أو المقصود اللبن والحضانة تبع؟
فمنهم من قال: المقصود هو اللبن، والحضانة تبع؛ لأن الله تعالى قال:

(7/317)


{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} [الطلاق: 6] . فذكر الإرضاع، ولم يذكر الحضانة، والإرضاع إنما ينصرف إلى اللبن دون الحضانة.
ومنهم من قال: المقصود الحضانة، واللبن تبع، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأن اللبن عين، والأعيان لا تستباح بعقد الإجارة متبوعًا، وإنما تستباح على وجه التبع لغيرها، ألا ترى أن من استأجر بئرًا ليشرب منها.. لم يصح، وإن استأجر دارًا وفيها بئر ماء.. جاز أن يستقي منها تبعًا للدار؟ وأما الآية: فلأن الرضاع يشتمل على حضانة ولبن، فما قابل الحضانة منها.. كان أجرة، وما قابل اللبن.. كان ثمنًا؛ لأن الأعيان لا تستباح بالإجارة، وقول الله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 25] [النساء: 25] . تغليب للأكثر منهما؛ لأن من شأن العرب إذا جمعت بين شيئين أن تغلب الأكثر، فعلم أن الحضانة هي المقصودة.
وإن استأجرها على الإرضاع، ولم يذكر الحضانة.. فهل يلزمها الحضانة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمها ذلك؛ لأن العادة جارية بأن المرضعة تتولى ذلك.
والثاني: لا يلزمها؛ لأن المذكور في العقد هو الإرضاع، وذلك لا يتناول أكثر من سقي اللبن.
إذا ثبت هذا: فمن شرط صحة الإجارة على الإرضاع: أن يعلم الصبي، ولا يصير معلومًا إلا بالمشاهدة؛ لأنه لا يضبط بالوصفِ، وتقدر المنفعة فيها بالمدة؛ لأن تقديرها بالعمل لا يمكن.
ولا تصح الإجارة حتى يشترط أنها ترضعه في بيتها، أو في بيت أبي الصبي؛ لأن الغرض يختلف بذلك؛ لأن للأب غرضًا في أن ترضعه في بيته، لكي يشرف على ولده، ولها غرض في أن ترضعه في بيتها؛ لأنه أسهل لها، ولكي لا تبتذل في القعود في بيوت الناس.
فإن استأجرها الأب بأجرة من مال الصبي.. جاز؛ لأن نفقته في ماله.
وإن استأجرها الأب بأجرة في ذمته.. قال الشيخ أبو حامد: صح، ولزم الأب

(7/318)


الأجرة؛ لأن الصبي إن لم يكن له مال.. فنفقته على الأب، وإن كان له مال.. فقد تطوع الأب بالأجرة من ماله، وما تطوع به الإنسان بعقد.. لزمه.

[فرع: تأجير المتزوجة نفسها للإرضاع]
إذا كان للمرأة زوج، فأجرت نفسها للإرضاع بإذن الزوج.. صحت الإجارة ولزمت؛ لأن الحق لهما، وإن أجرت نفسها للإرضاع بغير إذنه.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: تصح؛ لأن العقد يتناول محلًا غير المحل الذي يتناوله عقد النكاح؛ لأنه لا يملك خدمتها ولا إرضاعها.
والثاني: لا يصح؛ لأنه يستحق الاستمتاع بها في كل وقت، وفي تصحيح عقد الإرضاع عليها ما يمنعه من الاستمتاع بها.
فإذا قلنا: لا تصح.. فلا كلام، وإن قلنا: تصح.. فللزوج فسخ الإجارة؛ لأنها تعوق استمتاعه.
وإن أجرت نفسها للإرضاع، ثم تزوجت.. لم يكن للزوج فسخ هذه الإجارة؛ لأنها سابقة لحقه، وإن أجرت نفسها، ثم أقرت: أنها قد كانت تزوجت برجل قبل الإجارة، وصدقها الزوج.. ثبتت الزوجية بينهما، ولم يكن للزوج فسخ هذه الإجارة؛ لأن الإجارة قد لزمت في الظاهر، فلا يقبل قولها فيما يؤدي إلى فسخها.
وكل موضع لزمت فيه الإجارة، ولم يكن للزوج فسخها.. فهل يمنع الزوج من وطئها؟ فيه وجهان:
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 330] : يمنع من وطئها، وهو قول أحمد؛ لأنه لا يؤمن أن تحبل، فينقص اللبن.
وقال الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: لا يمنع الزوج من وطئها؛ لأن

(7/319)


استمتاعه بها حق له متحقق، وجواز الحبل من الوطء أمر مظنون، فلم يسقط حقه المتحقق بأمر المظنون.
فعلى هذا: ليس للزوج أن يطأها في وقت إرضاع الصبي، وإنما يطؤها إذا نام الصبي، أو إذا روي باللبن.

[فرع: استئجار المرأة العبد لخدمة الخلوة]
] : قال الطبري في " العدة ": إذا استأجرت امرأة عبدًا لخدمة الخلوة.. لم تصح الإجارة.
وقال أبو حنيفة: (تصح الإجارة، والخدمة حرام) . وكذلك: لو استأجر حرة أجنبية منه لخدمة الخلوة.. لم تصح الإجارة.
وفي الأمة وجهان. وقال أبو حنيفة: (تصح) .
دليلنا: أن الإجارة وقعت لخدمة خاصة، وهي ممتنعة؛ لكونها محرمة، فلم يصح العقد كمن استأجر شيئًا لا منفعة فيه.

[مسألة: الاستئجار لحفر بئر ونحوه]
وإن استأجر رجلًا ليحفر له بئرًا أو نهرًا.. صح، ولا بد من تقدير العمل.
قال ابن الصباغ: وذلك يحصل بأمرين، إما بأن يقدره بالمدة، بأن يستأجره ليحفر له شهرًا أو شهرين، أو بالعمل، فإن كانت بئرًا.. ذكر قدر عمقها، وقدر دورها. وإن كان نهرًا.. ذكر طوله وعرضه وعمقه.
قال ابن الصباغ: فإن كانت الإجارة على أن يحفر له مدة.. لم يفتقر إلى معرفة

(7/320)


الأرض التي يحفر فيها، وإن كانت على أن يحفر له أذرعًا معلومة.. فلا بد من مشاهدة الأرض التي يحفر فيها؛ لأنها تختلف بالصلابة والرخاوة، وإن استأجره على أن يحفر له أذرعًا معلومة.. فعلى الحافر أن يخرج التراب الذي يحصل بالحفر؛ لأنه لا يمكنه أن يحفر إلا بإخراج تراب ما حفر، فإن تهور شيء من تراب ما حفره من جانبي البئر.. لم يلزم الحافر إخراج ذلك، بل على المستأجر أن يخرج ذلك؛ لأنه سقط من ملكه، ولم يتضمنه عقد الإجارة، فهو كما لو سقط في البئر بهيمة لمالك البئر.
فإن حفر الأجير، فوصل إلى حجر في البئر يمكنه حفرها.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: يلزمه حفرها إذا أمكنه وإن شق عليه؛ لأنه قد التزم الحفر بالعقد.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لا يلزمه حفرها؛ لأنها مخالفة لما شاهد من الأرض.
وإن وصل إلى حجر لا يمكنه حفرها، أو نبع فيها ماء لا يمكنه معه الحفر وقد بقي من الذرعان التي استأجره عليها بعضها.. انفسخت الإجارة فيما بقي، وهل ينفسخ فيما مضى؟ فيه طريقان، كما قلنا فيمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض.
فإذا قلنا: ينفسخ فيما مضى.. سقط المسمى، ووجب للأجير أجرة المثل فيما قد عمل.
وإذا قلنا: لا ينفسخ.. ثبت لكل واحد منهما الخيار في الفسخ لأجل ما بقي، فإن فسخا، أو فسخ أحدهما.. سقط المسمى، ووجب للأجير أجرة المثل لما قد عمل. وإن لم يفسخ واحد منهما.. قال ابن الصباغ: وجب للأجير من المسمى بقدر ما عمل، ولا يقسط ذلك على عدد الأذرع؛ لأن ذلك يختلف، لأن أعلى البئر أسهل في نقل التراب، ولكن يقال: كم أجرة ما قد عمل؟ وكم أجرة ما بقي؟ ويقسم المسمى عليهما.

(7/321)


[فرع: الاستئجار لحفر القبر]
] : وإن استأجره لحفر قبر.. فليس عليه رد التراب إلى القبر بعد وضع الميت فيه. وقال أبو حنيفة: (عليه ذلك) .
دليلنا: أن المعقود عليه هو الحفر، وقد وجد ذلك، فلا يلزمه غيره.

[فرع: الاستئجار على البناء]
ويجوز الاستئجار على البناء، ويجوز تقدير ذلك بالزمان، بأن يقول: استأجرتك لتبني لي يومًا أو شهرًا بآجر، أو أحجار، أو طين، أو لبن.
ويجوز تقديره بالعمل، بأن يقول: لتبني لي حائطًا بآجر، أو حجر، أو طين، أو لبن، ويذكر طوله وعرضه وسمكه.
ويجوز أن يستأجره ليضرب له اللبن، ويقدره بالمدة أو بالعمل، فإن قدره بالعمل.. ذكر عدد اللبن، ويذكر طولها وعرضها وسمكها.
قال ابن الصباغ: فإن كان القالب معلومًا.. جاز أن يطلق، كما إذا كان المكيال معلومًا معروفًا.. جاز إطلاقه في السلم.
وإن قال: بهذا القالب.. قال القاضي أبو الطيب: صح، وقال ابن الصباغ: في هذا نظر، وينبغي أن لا يصح، كما لو علق السلم على مكيال بعينه.
ولا بد أن يذكر موضع الضرب؛ لأنه يختلف بقرب الماء منه وبعده؛ لأن نقل الماء والتراب على الأجير.

(7/322)


[فرع: استئجار الحمام]
إذا استأجر حمامًا.. صحت الإجارة؛ لأنه يمكنه الانتفاع به مع بقاء عينه، فهو كالدور.
إذا ثبت هذا: فلا بد أن يشاهد المستأجر بيوت الحمام؛ لأن الغرض يختلف باختلاف صغيرها وكبيرها، ولا بد أن يشاهد القدر؛ لأن الغرض يختلف باختلاف صغيرها وكبيرها، ويشاهد بئر الحمام؛ لأن البئر إذا كانت عميقة وبعيدة من الحمام.. كانت أكثر مؤنة من القريبة القليلة العمق، ويشاهد موضع الوقود، ومطرح الرماد، والموضع الذي يستنقع فيه الماء إذا خرج من الحمام؛ لأنه إذا كان بعيدًا عميقًا.. ذهب الماء سريعًا، وإذا كان قريبًا من الحمام غير عميق.. امتلأ ترابًا.
وكذلك: إذا أراد أن يشتري حمامًا.. فلا يصح حتى يشاهد جميع هذه المواضع؛ لما ذكرناها.

[فرع: الاستئجار ليعلمه سورة ما من القرآن]
وإن استأجره على أن يعلمه سورة من القرآن.. لم تصح حتى يعينا السورة؛ لأن السور تختلف، وإن استأجره ليعلمه عشر آيات من سورة بعينها.. فهل يصح من غير أن يعين آيات منها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المرأة التي له وهبت نفسها - لرجل: (ما تحفظ من القرآن؟) قال: سورة البقرة والتي تليها، قال: (قم فعلمها عشرين آية، وهي امرأتك» .

(7/323)


والثاني: لا يصح؛ لأن الأعشار تختلف.
وأما الخبر: فقد روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «زوجتكها بما معك من القرآن» .
وإن صح الخبر.. حملناه على: أنه عقد له النكاح بتعليم عشرين آية معينة، وإنما أعاد ذكر ذلك.. حكاية لما وقع عليه العقد، بدليل: أن قوله: «قم فعلمها عشرين آية، وهي امرأتك» ليس بنكاح.
وهل تفتقر صحة الإجارة على تعليم القرآن إلى أن يعين الحرف الذي يعلمه إياه، كحرف نافع، أو ابن كثير، أو غيرهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يفتقر إليه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل: «زوجتكها بما معك من القرآن» . ولم يفرق، ولأن هذه الحروف كلها مأثورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منزلة عليه، فجاز أن يعلمه ما شاء منها، كما لو اشترى منه قفيزًا من صبرة.. فإن له أن يدفع إليه القفيز من أي جانب شاء منها.
والثاني: لا تصح الإجارة حتى يبين الحرف؛ لأن بعض القراءات أشد من بعض، وبعضها أكثر من بعض.

(7/324)


قال الشيخ أبو حامد: وقيل: إن قراءة ابن كثير أكثر من قراءة غيره، وإذا كان كذلك، وكان الإطلاق مجهولًا.. فلم تصح.
فرع: [نسيان المستأجر ما تعلمه أو بعضه] :
وإن استأجره على أن يعلمه سورة أو آيات معلومة، فإن علمه ثلاث آيات، ثم نسيها المستأجر.. لم يلزم الأجير إعادة التعليم، وجهًا واحدًا.
وإن علمه بعض آية، فنسيها المستأجر قبل أن يفرغ من تعليم باقيها.. لزم الأجير إعادة تعليمها، وجهًا واحدًا؛ لأن بعض الآية لا يقع به الإعجاز.
وإن علمه آية أو آيتين، فنسي.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يكون المستأجر قابضًا، فيلزم الأجير إعادة التعليم؛ لأن الإعجاز لا يقع بأقل من ثلاث آيات؛ لأنه قدر به سورة قصيرة.
والثاني: يكون المستأجر قابضًا؛ لأن الآية من جنس الإعجاز، فأشبهت الثلاث.
فرع: [الاستئجار مدة لتعليم القرآن] :
وإن استأجره ليعلم ابنه الصغير القرآن مدة معلومة.. صحت الإجارة.
وهل تدخل الجمع في المدة من غير أن يستثنيها؟ سمعت شيخنا الإمام زيد بن عبد الله اليفاعي رحمة الله عليه يقول: يحتمل أن تكون على وجهين مأخوذين من الوجهين، فيمن استأجر ظهرًا ليركبه في طريق، وقد جرت العادة بأن ينزل الراكب في بعض تلك الطريق للرواح عن الدابة، هل يلزم المكتري ذلك بالإطلاق؟

(7/325)


[مسألة: الاستئجار لأحد المناسك]
] : وإن استأجره للحج والعمرة.. لم تصح حتى يبين أنه إفراد، أو تمتع، أو قران؛ لأن الغرض يختلف باختلاف ذلك. وهل تفتقر صحة الإجارة إلى أن يبين موضع الإحرام؟ ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (أن ذلك شرط) ، وذكر في موضع آخر: (أن ذلك ليس بشرط) . واختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق:
فـ[الطريق الأول] : ذهب أكثرهم إلى: أنها على قولين:
أحدهما: أن ذلك شرط؛ لأن الغرض يختلف باختلاف الميقات، وتختلف الأجرة باختلاف المواقيت.
والثاني: أن ذلك ليس بشرط؛ لأن له عرفًا في الشرع، وهو ميقات البلد، فانصرف إليه الإطلاق، كمن باع بنقد مطلق في بلد فيه نقد غالب.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (يشترط ذكر موضع الإحرام) إذا كان للبلد ميقاتان مختلفان.
وحيث قال: (لا يشترط) أراد: إذا لم يكن للبلد إلا ميقات واحد.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: هي على حالين آخرين:
فحيث قال: (يشترط) إذا كان الحج عن حي؛ لأن له اختيارًا يرجع إليه.
وحيث قال: (لا يشترط) إذا كان المحجوج عنه ميتًا؛ لأنه لا يمكن الرجوع إلى اختياره.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: لا يشترط بيان موضع الإحرام، فإن شرط على الأجير أن يحرم من موضع، إما من الميقات، أو قبله.. لزمه ذلك. وإن أطلق.. لزمه الإحرام من ميقات ذلك البلد.
وإن قلنا: يشترط بيان موضع الإحرام، فإن عين الميقات أو قبله.. لزمه أن يحرم

(7/326)


منه، وإن عين له دون الميقات.. لم يصح؛ لأنه يمر على الميقات وهو مريد للنسك بلا إحرام، وإن أطلق.. كانت الإجارة فاسدة.
فإن أحرم الأجير عن المستأجر.. انعقد الإحرام عن المستأجر؛ لأنه فعله عنه بإذنه، فوقع عنه وإن كان العقد فاسدًا، كما لو وكله وكالة فاسدة ليشتري له عينًا، فاشتراها له.. فإن الملك فيها للموكل.

[مسألة: إجارة الحلي]
ولا تصح الإجارة إلا بأجرة معلومة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استأجر أجيرًا.. فليبين له أجرته» ، ولأن عقد يقصد به العوض، فلم يصح من غير ذكر العوض، كالبيع، وفيه احتراز من النكاح؛ لأنه لا يقصد به العوض.
ويجوز أن يستأجر حلي الذهب بالذهب والفضة، وحلي الفضة بالفضة والذهب.
قال الصيمري: ومن أصحابنا من توقف في إجارة حلي الذهب بالذهب، وحلي الفضة بالفضة. وليس بصحيح؛ لأن المعقود عليه هو منفعة الذهب لا عين الذهب، فلم يكن فيه ربًا.

[فرع: استئجار منفعة عين بمنفعة عين أخرى]
ويجوز أن يستأجر منفعة عين بمنفعة عين أخرى، سواء كانت من جنسها أو من غير جنسها.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز أن تكون المنفعتان من جنس، بأن يستأجر دارًا بمنفعة دار أخرى، فإن كانتا مختلفتين، بأن يستأجر منفعة عبد بمنفعة دار.. صح) .

(7/327)


ودليلنا: أنهما منفعتان يجوز إجارتهما، فجاز أن يستأجر إحداهما بالأخرى، كما لو كانتا مختلفتين.
إذا ثبت هذا: فلا تصح الإجارة إلا بأجرة معلومة القدر؛ لما ذكرناه من الخبر، ولأنه عقد معاوضة.. فلم يصح بعوض مجهول، كالبيع.
فإن استأجر أجيرًا كل يوم بطعام معلوم، من بر، أو ذرة، أو شعير، أو غير ذلك مما يجوز السلم فيه.. صح؛ لأنه عوض يجوز أن يكون ثمنًا في البيع، فجاز أن يكون عوضًا في الإجارة، كالدراهم والدنانير.
وإن استأجره بطعامه الذي يأكله كل يوم وكسوته.. لم تصح الإجارة، وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (يجوز ذلك في إجارة المرضعة وحدها) .
وقال مالك، وأحمد: (يجوز ذلك في كل أجير) .
دليلنا: أن هذا عوض في عقد.. فلم يجز أن يكون مجهولًا، كالبيع.
وعلى أبي حنيفة: أن كل ما لا يجوز أن يكون أجرة في غير الرضاع.. لا يجوز أن يكون أجرة في الرضاع، كالدراهم المجهولة.
فإن قالوا: فقد قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] . إلى أن قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] .
قلنا: المراد بهذا: بيان نفقة الزوجة، فنص على وجوب نفقتها في حالة الإرضاع؛ لينبه على وجوبها في كل حالٍ؛ لأنها إذا وجبت مع تشاغلها بالإرضاع، فمع عدم التشاغل أولى.

[فرع: الاستئجار لحمولة معينة]
] : فإن قال: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة بعشرة دراهم.. صح، كما لو اشتراها بعشرة دراهم.
وإن قال: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة، كل قفيز بدرهم.. صحت

(7/328)


الإجارة؛ لأن جملة الصبرة معلومة، وأجزاء الأجرة معلومة، بخلاف ما لو قال: أجرتك هذه الدار: كل شهر بدرهم.. فإنه لا يصح؛ لأنه ليس للشهور غاية تنتهي إليها، ولقفزان الصبرة حد يعلم بالتفصيل.
وإن قال: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة كل عشرة أقفزة بعشرة دراهم، وما زاد فبحساب ذلك.. صحت الإجارة؛ لأن أجزاء الأجرة قد علمت، وأن كل قفيز في مقابله درهم، وما زاد بحساب ذلك، فهو كما لو قال: لتحمل لي هذه الصبرة كل قفيز بدرهم، فإن قال: استأجرتك لتحمل لي من هذه الصبرة كل قفيز بدرهم.. لم تصح؛ لأن (من) للتبعيض، ولا يدري كم يحمل منها؟
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو اكترى حمل مكيلة، وما زاد فبحسابه.. فهو في المكيلة جائز، وفي الزيادة فاسد، وله أجرة مثله) . واختلف أصحابنا في تأويلها.
فقال أبو إسحاق المروزي: تأويلها: هو أن يقول: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة كل قفيز بدرهم، وتحمل لي صبرة أخرى - لم يشاهدها الأجير - بهذا الحساب، أي: ما زاد على الصبرة المشاهدة فبحسابها.. فتصح الإجارة في المشاهدة، وتبطل في التي لم يرها، ولا يكون في الحاضرة قولان؛ لأنهما صفقتان، فلا تبطل إحداهما لبطلان الأخرى. ولو قال: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة والصبرة الأخرى كل قفيز بدرهم.. لبطل العقد في الغائبة، وفي الحاضرة قولان.
ومنهم من قال: تأويلها: أن يقول: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة - وهي عشرة أقفزة - كل قفيز بدرهم، وما زاد فبحساب ذلك.. فتصح في العشرة؛ لأنها متحققة، ولا تصح في الزيادة؛ لأنها مبهمة الوجود.
ومنهم من قال: تأويلها: أن تكون له صبرة حاضرة، فقال: استأجرتك لتحمل هذه الصبرة كل قفيز بدرهم، فإن قدم لي طعام فحملته فبحساب ذلك.. فتصح في

(7/329)


الصبرة وما يحمله بعد ذلك، فقد وعده بأن تكون أجرته مثل ذلك، فلا يؤثر في العقد، ولا يلزمه الوعد.
ومنهم من قال: تأويلها: أن يقول: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة كل عشرة أقفزة بعشرة دراهم، وما زاد فبحساب ذلك.. فيجوز في العشرة، ولا يجوز فيما زاد عليها. وهذا غير صحيح؛ لأنا قد قلنا: إن هذا عقد صحيح.

[فرع: الاستئجار للطحن أو للرعي بجزء من كل]
قال أبو علي في " الإفصاح ": إذا استأجره ليطحن له حنطة بربعها.. لم يصح. وإن استأجره ليطحن له ثلاثة أرباعها بربعها.. صح.
قلت: وعلى قياس ما قال أبو علي الطبري: إذا استأجره ليرعى له بهيمة مدة معلومة بربعها.. لم تصح الإجارة، وإن استأجره ليرعى له ثلاثة أرباعها بربعها.. صحت الإجارة.
فإن قيل: كيف يتصور له أن يرعى ثلاثة أرباعها؛ لأنه لا يتأتى له ذلك إلا برعي جميعها؟
فالجواب: أنه لا يمتنع مثل ذلك في الإجارة، ألا ترى أنه يجوز له أن يستأجر نصف ظهر ليركبه، وإن كان لا يتصور إلا بركوب جميعه، وإنما يملك منفعة نصفه، ثم يتهايآن؟ وكذلك: لو كان بين رجلين بهيمة.. جاز لأحدهما أن يستأجر غيره على رعي نصيبه منها، ثم يكون القيام بها واجبًا على الأجير والمالك الآخر.

[فرع: استئجار الشريك]
فرع: [جواز استئجار الشريك] : قال الطبري: وإن كان بين رجلين حنطة مشتركة بينهما.. جاز لأحدهما أن يستأجر الآخر على طحن نصيبه منها، أو على حمله إلى موضع آخر.

(7/330)


وقال أبو حنيفة: (لا يصح) .
دليلنا: أن ما تقبل جنبيته الإجارة.. صح عقدها على ما هو منفعة؛ لأن منفعة الشريك كمنفعة الدابة.

[فرع: الاستئجار على جزاف]
إذا كانت الإجارة مشاهدة، إلا أنها جزاف لا يعرفان قدرها، مثل: أن يستأجره بصبرة طعام لا يعلمان كيلها، أو بملء كفه دراهم قد شاهداها ولم يعلما عددها.. فهل يصح؟ ينظر فيه:
فإن كانت الإجارة على منفعة في الذمة.. ففيه قولان، كما قلنا فيمن أسلم دراهم جزافا على طعام أو غيره.
وإن كانت الإجارة على منفعة معينة، مثل: أن يستأجر بهيمة ليركبها إلى بلد، أو استأجره ليخيط له بها ثوبًا.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان؛ لأن الإجارة عقد على معدوم، فهي كالسلم.
و [الثاني] : منهم من قال: يصح، قولًا واحدًا؛ لأن المنافع أجريت مجرى الأعيان؛ لأنها متعلقة بعين حاضرة، والسلم يتعلق بموجود ومعدوم.

[فرع: الإجارة على منفعة]
وما عقد من الإجارة على منفعة معينة، مثل: أن يقول: أجرني هذا الجمل لأركبه شهرًا، أو لأركبه إلى موضع كذا، أو أجرني عبدك هذا ليخيط لي هذا الثوب، أو ليخيطه بكذا وكذا.. فيصح أن تكون الأجرة في هذه الإجارة معينة، وفي الذمة.

(7/331)


(فالمعينة) : أن يقول: بهذا الدينار، أو بهذه الدراهم.. فيجوز قبض الدينار في المجلس، وبعد التفرق منه.
والتي (في الذمة) : بأن يقول: بعشرة دراهم في ذمتي؛ لأن ذلك بمنزلة بيع العين بثمن معين، وبثمن في الذمة، فإذا كانت الأجرة في هذه الإجارة في الذمة.. نظرت: فإن شرطا تعجيلها.. وجب تعجيلها، وإن شرطا تأجيلها.. كانت مؤجلة، وإن أطلقا ذلك.. كانت معجلة، ووجب تسليمها.
وقال أبو حنيفة: (إذا أطلقا ذلك.. فالقياس يقتضي: أن المكتري كلما قبض جزءًا من المنفعة.. وجب عليه تسليم ما في مقابله من الأجرة، ولكن يشق ذلك) .
فعلى هذا: يجب كلما مضى يوم من المدة.. وجب تسليم ما في مقابلته من الأجرة، واحتج بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف رشحه» ، وروي: (عرقه) .
ودليلنا: أنه عقد لو شرط فيه تعجيل العوض.. كان معجلا، فاقتضى إطلاقه تعجيل العوض، كالبيع.
وقولنا: (لو شرط فيه تعجيل العوض.. كان معجلًا) احتراز من القراض والكتابة، فإن القراض لو شرط فيه تعجيل العوض.. لم يتعجل، ولو شرط في الكتابة تعجيل العوض.. لبطلت.
وأما الخبر: فنحمله على إذا شرط تعجيل الأجرة، بأن يستأجره يومًا، ويشترط تأجيل الأجرة إلى آخر اليوم، وعلى أن الأجير قد يعرق بابتداء العمل.
فإن قبض المستأجر العين التي استأجرها، واستوفى المنفعة منها، أو عمل الأجير العمل الذي استؤجر عليه.. استقرت الأجرة، كما قلنا فيمن اشترى عينًا وقبضها.. فإن الثمن يستقر عليه.

(7/332)


وإن قبض المستأجر العين المستأجرة، ومضى زمان يمكنه أن يستوفي منها منفعته ولم يستوفها، أو جاء المؤاجر بالعين المؤاجرة وعرضها على المستأجر فلم يقبضها، ومضى زمان قد كان يمكنه استيفاء المنفعة فيه.. استقر على المستأجر المسمى.
وقال أبو حنيفة: (لا يستقر عليه حتى يستوفي المنفعة) .
دليلنا: أنه مكنه من الاستيفاء.. فوجب عليه البدل، كالمبيع إذا تلف في يد المشتري.

[فرع: الانتفاع بعين مستأجرة بأجرة فاسدة]
فإن استأجر عينًا إجارة فاسدة وقبضها، فإن انتفع بها المستأجر.. وجب عليه أجرة المثل، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (يجب عليه أقل الأمرين من المسمى، أو أجرة المثل) .
دليلنا: أن ما ضمن بالمسمى في العقد الصحيح.. ضمن بجميع القيمة في العقد الفاسد، كبيع الأعيان.
وإن لم ينتفع بها المستأجر.. وجبت عليه أجرة المثل، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه شيء) .
دليلنا: أن كل ما لو تلف تحت يده بعقد صحيح ضمنه.. وجب أن يضمنه إذا تلف تحت يده بعقد فاسد، كالأعيان في البيع، وعكسه الأعيان في الهبة، فإنها لما لم يضمنها إذا تلفت تحت يده بهبة صحيحة.. لم يضمنها إذا تلفت تحت يده بهبة فاسدة.
إذا ثبت هذا فإن الشيخ أبا إسحاق ذكر في " المهذب ": إذا استأجر عينًا إجارة

(7/333)


صحيحة، وقبضها، ومضى زمان يمكنه فيه الاستيفاء.. استقر عليه المسمى. وإن عرضت عليه العين المستأجرة، ومضى زمان يمكنه الاستيفاء.. استقرت الأجرة. ثم قال بعد هذا: فإن كان هذا في إجارة فاسدة.. استقرت عليه أجرة المثل.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أن هذه المسألة في الإجارة الفاسدة إنما تكون معطوفة على الأولى، وهو إذا قبض العين، لا على الثانية، وهو إذا عرض عليه العين؛ لأن الأجرة إنما تستقر عليه لأحد أمرين: إما أن يكون العقد صحيحًا، أو يتمكن من استيفاء المنفعة، أو بأن تتلف المنفعة تحت يده، ولم يوجد هاهنا أحدهما.

[مسألة: ما يستأجر في الذمة يدفع حالًا]
وما عقد من الإجارة على منفعة في الذمة.. فيجوز أن تكون المنفعة حالة، ولا يجوز أن تكون المنفعة مؤجلة، مثل: أن يقول: استأجرتك على تعجيل خياطة هذا الثوب حالًا. ويجوز أن تكون المنفعة مؤجلة، مثل: أن يقول: استأجرتك على تحصيل خياطة هذا الثوب إلى أول شهر كذا؛ لأن المنفعة في الذمة كالمسلم فيه، والمسلم فيه يصح أن يكون حالًا مؤجلًا، وإن أطلق ذلك.. اقتضى الحلول، كما قلنا في السلم إذا لم يذكره مؤجلًا.
وتنعقد هذه الإجارة بلفظ السلم، فيقول: أسلمت إليك دينارًا في ذمتي، أو هذا الدينار بمنفعة ظهر من صفته كذا وكذا؛ لأركبه إلى بلد كذا وكذا، وتنعقد بلفظ الإجارة، بأن يقول: أجرني ظهرًا من صفته كذا وكذا؛ لأركبه إلى موضع كذا.
وسئل الشيخ أبو حامد عمن قال: استأجرت منك ظهرًا في ذمتك، من صفته كذا وكذا؛ لأركبه شهرًا، أتسلمه إلى الشهر الفلاني غير متصل بالعقد؟ فتوقف، وقال: أنا أنظر فيه، فقال بعض أصحابه: عندي أنه يجوز؛ لأن المنفعة في هذه

(7/334)


الإجارة يصح أن تتقدر بالمدة وبالعمل، فلما جاز أن تتقدر بالعمل.. جاز أن تتقدر بالمدة، ولا يجوز أن تكون الأجرة هاهنا مؤجلة؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الكالئ بالكالئ» . و (الكالئ بالكالئ) : هو بيع النسيئة بالنسيئة، ولأن هذه الإجارة في معنى المسلم فيه، ورأس مال السلم لا يصح أن يكون مؤجلًا. وهل يشترط هاهنا قبض الأجرة في المجلس قبل أن يتفرقا؟ ينظر فيه:
فإن عقد الإجارة بلفظ السلم.. اشترط قبض الأجرة قبل أن يتفرقا، كما قلنا في السلم.
وإن عقد بلفظ الإجارة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يشترط قبضه في المجلس قبل التفرق اعتبارًا باللفظ.
والثاني: يشترط قبضه قبل التفرق، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق اعتبارًا بالمعنى، ومثل هذين الوجهين الوجهان في قبض رأس مال السلم في المجلس إذا عقد السلم بلفظ البيع، وقد مضى ذكرهما.

[فرع: استيفاء المنفعة يوجب المسمى من الأجرة]
فإن استأجر منه ظهرًا في ذمته ليركبه إلى بلد، أو ليركبه شهرًا، فأحضر المؤاجر ظهرًا، وقبضه المستأجر، وركبه إلى تلك البلد، أو إلى مثلها، أو ركبه شهرًا.. استقر عليه المسمى؛ لأنه استوفى المعقود عليه.
وإن لم يركبه، وأمسكه في يده زمانا يمكنه استيفاء المعقود عليه.. فالذي يقتضي المذهب: أن الأجرة تستقر، ويلزمه أن يرد الظهر؛ لأن منفعة الظهر تلفت تحت يده، فهو كما لو استوفاها.
وإن عرض المؤاجر الظهر على المستأجر، فامتنع من قبضه.. فالذي يقتضي المذهب: أن المؤاجر يرفع الأمر إلى الحاكم ليقبض له الظهر منه، فإن ركبه المستأجر، وإلا.. أجره الحاكم له، كما قلنا فيمن أسلم إلى رجل في شيء فأحضر المسلم إليه المسلم فيه، فامتنع المسلم من قبضه.

(7/335)


[فرع: الاستئجار على تحصيل الحج]
] : وإن استأجره على تحصيل حج.. جاز أن يكون على حج في هذه السنة، وجاز أن يكون على حج في سنة بعدها، كما قلنا في الإجارة على الأعمال في الذمة. فإن عين الحج في سنة، فمضت تلك السنة، ولم يحج الأجير.. لم تنفسخ الإجارة؛ لأن هذه السنة محلها، ولم يتعين بها، فصار بمنزلة تأخير الدين عن محله. وهل للمستأجر الخيار في فسخ الإجارة؟
قال أبو إسحاق المروزي: إن كانت الإجارة عن ميت.. لم يكن للمستأجر فسخ الإجارة؛ لأنه لا يمكنه التصرف في الأجرة، ولا بد من استئجار غيره.
قال الشيخ أبو حامد: إلا أن يخشى إفلاس الأجير.. فيرفعه الوصي إلى الحاكم؛ ليفسخ الإجارة عليه، ويسترد منه الأجرة.
فإن قيل: هلا قلتم: يجوز فسخ الإجارة عليه، ويسترد منه الأجرة هاهنا؛ لأنه ربما استأجر غيره بأقل منه؟
قيل: هذا أمر مظنون، فلا ينفسخ العقد لأمر مظنون.
وإن كانت الإجارة عن حي.. جاز له فسخ الإجارة؛ لأن له أن يتصرف في الأجرة.

[فرع: لا يعقد الإجارة على منفعة مؤجلة]
وما عقد من الإجارة على منفعة معينة.. لا يجوز مؤجلا، مثل: أن يقول: أكرني هذا الظهر لأركبه إلى موضع كذا، تسلمه إلى أول الشهر الفلاني منفصلا عن العقد.. فإن ذلك لا يصح، كما نقول فيمن باع عينًا، واشترط تأخير قبضها عن حال العقد.. فإن ذلك لا يصح.
وإن استأجره ليحج بنفسه، فإن كان في الحرم.. لم تصح هذه الإجارة إلا في أشهر الحج، ليمكنه الشروع في الحج عقيب العقد، وإن كان في غير الحرم.. جاز عقدها قبل أشهر الحج بقدر مدة يمكنه الوصول فيها إلى الميقات أول أشهر الحج، وهكذا:

(7/336)


إن استأجره ليحج ماشيًا، وكان المشاة يخرجون قبل ذلك.. جاز العقد قبل ذلك للحاجة.

[مسألة: استئجار بعض منفعة]
] : ويجوز أن يكتري جملًا معينًا ليركبه عقبة في الطريق، وتكون منفعته في باقي الطريق لمالكه، ويجوز أن يكتري الرجلان من رجل جملًا معينًا يتعاقبان عليه في الطريق.
وقال المزني: لا تصح هذه الإجارة في الجمل المعين، إلا أن يكون الظهر موصوفًا في الذمة فتصح؛ لأن الإجارة المعينة لا يدخلها الأجل، وإذا ركب أحدهما بعد الآخر.. لم تتصل منفعة الثاني بالعقد، فلم تصح.
والأول هو المنصوص؛ لأن ملك كل واحد منهما مقارن للعقد، وإنما يتأخر حق أحدهما لأجل القسمة، وذلك لا يمنع صحة العقد، كما لو ابتاع رجلان صبرة بينهما.
إذا ثبت هذا: فإن كان لتلك الطريق عادة فيما يركب كل واحد من المتعاقدين، مثل: أن يركب أحدهما يومًا، والآخر يومًا، أو يركب أحدهما أميالًا معروفة، والآخر مثله.. حملا على ذلك.
وإن طلب أحدهما أن يركب ثلاثة أيام، ويركب الآخر ثلاثة أيام.. قال الشافعي: (لم يكن له ذلك) ؛ لأن في ذلك إضرارًا على الماشي وعلى المركوب، ولأن الإنسان إذا ركب وهو غير تعب.. خف على المركوب، وإذا ركب وهو بعد كلال وتعب.. وقع على المركوب كالميت، فأتعب المركوب.

(7/337)


وإن لم يكن في تلك الطريق عادة فيما يركبه المتعاقبان.. لم يصح العقد حتى يبينا ما يركبه كل واحد منهما.
قال الشيخ أبو حامد: ولو اتفقا على: أن يركب كل واحد منهما ثلاثة أيام بثلاثة أيام.. لم يجز؛ لما فيه من الضرر على المركوب وغيره.
وأما من يبدأ بالركوب منهما: فإن اتفقا عليه.. فلا كلام، وإلا.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.

[مسألة: لزوم عقد الإيجار]
وإذا تم عقد الإجارة.. فإنه يكون لازمًا، وليس لأحدهما أن يفسخه من غير عيب يجده، وبه قال مالك، والثوري.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزم من جهة المكتري، فمتى حدث له عذر فيما استأجر له، مثل: أن يستأجر دكانًا للبز فيحترق بزه، أو يذهب رأس ماله، أو يفلس، أو اكترى جمالًا للحج فبدا له منع الحج، أو مرض، أو اكترى دارًا في بلد ليسكنها، فخرج من تلك البلد، وما أشبه ذلك.. فله فسخ الإجارة) .
دليلنا: أنه عقد معاوضة محضة لازم من أحد الطرفين، فكان لازمًا من الطرف الآخر، كالبيع.
فقولنا: (عقد معاوضة) احتراز من الرهن.
وقولنا: (محضة) احتراز من الكتابة.
وقولنا: (لازم من أحد الطرفين) احتراز من القراض.
والله أعلم وبالله التوفيق.

(7/338)


[باب ما يلزم المتكاريين وما يجوز لهما]
إذا اكترى ظهرًا للركوب.. كان ما يحتاج إليه للتمكن من الركوب على المكري، مثل: السرج واللجام للفرس، والإكاف للبغل، والبرذعة للحمار، والخطام للجمل، والبرة التي في أنفه، والحزام، والقتب، والحقيبة تحت القتب؛ لأن كون الظهر عريًا يتأذى الإنسان بركوبه.
ولا يمشي الجمل بغير زمام، ويتصعب الفرس بغير لجام. وما يحتاج إليه للوطاء والترفه.. فهو على المكتري، كالمحمل، والكنيسة، والغطاء الذي فوقهما، والمضربة التي تكون تحت الكنيسة؛ لئلا تتحرك الكنيسة.
قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: وكذلك: الحبل الذي يشد به أحد المحملين إلى الآخر، والحبل الذي يشد به المحمل على الجمل، فهو على المكتري؛ لأنهما من آلة المحمل.
قالا: وأما شد أحد المحملين إلى الآخر: فاختلف أصحابنا فيه:
فـ[الأول] : منهم من قال: إنه على المكتري؛ لأن ذلك من تمام المحمل وإصلاحه للركوب، فهو كتأليف المحمل.
والثاني: إنه على المكري، وهو الأصح؛ لأنه يراد للتمكن من الركوب، فهو كشد المحمل على الجمل.

(7/339)


وأما صاحب " المهذب ": فحكى الوجهين فيما يشد به أحد المحملين إلى الآخر، يعني: الحبل.

[فرع: لوازم المؤجر تابعة له]
وإذا أكراه دارًا، أو دكانًا.. فعلى المكري تسليم المفتاح إلى المكتري؛ لأنه لا يتمكن من الانتفاع بالدار إلا بالمفتاح، إذ به يفتحها، فهو كالباب عليها. وكل ما ذكرنا: أنه على المكري إذا تلف في يد المكتري من غير تفريط منه.. لم يضمنه، ويجب على المكري إبداله، كما لو انكسر جذع من الدار.

[فرع: تجهيز الدابة وأجرة دليل الطريق والسائق]
وعلى المكري رفع المحمل والكنيسة إلى ظهر الجمل، وشدهما عليه بالحبل، وحطهما؛ لأنه لا يتواصل إلى الركوب إلا بشد ذلك عليه، ولأن العادة جرت أن الجمال يتولى ذلك.
وأما أجرة دليل الطريق: فإن كانت الإجارة على تحصيل الراكب أو المتاع في بلد.. فإن ذلك على المكري؛ لأن عليه تحصيل ذلك، وهذا من جملة التحصيل.
قال الشيخ أبو حامد: وهكذا إن استأجر منه جملًا ليحمله عليه إلى مكة أو غيرها من المواضع.. فإن أجرة الدليل على المكري؛ لأن عليه أن يحمله إلى ذلك الموضع.
وإن كانت الإجارة على ظهر بعينه يسلمه إليه.. فإن أجرة الدليل على المكتري؛ لأنه ليس على المكري أكثر من تسليم الظهر، وقد فعل.

(7/340)


وأما سائق الظهر وقائده: فذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه على المكري من غير تفصيل.
وذكر الشيخ أبو حامد، والمحاملي: أنه كأجرة الدليل على ما مضى.
فرع: [ما يجب على الجمال أن يفعله لأجل الراكب] :
وكل ما لا يمكن الراكب فعله على الجمل والحاجة داعية إليه.. فعلى الجمال أن يوقف الجمل حتى ينزل الراكب، ويفعله على الأرض، وذلك كالغائط، والبول، والطهارة؛ لأنه لا يمكنه فعل ذلك على الظهر، ويصلي الفرض على الأرض؛ لأنه لا يصح فعلها على الظهر. قال الشافعي: (وليس للجمال أن يستعجله في الصلاة، ولا للراكب أن يطول الصلاة، بل تكون خفيفة في تمام) .
وكل ما يمكن الراكب أن يفعله على الظهر، مثل: الأكل، والشرب، وصلاة النفل.. فلا يلزم الجمال أن يوقف له الجمل لأجله؛ لأنه يمكنه فعل ذلك وهو راكب.
وعلى الجمال أن يبرك الجمل للمرأة عند ركوبها ونزولها؛ لأن العادة جرت أنهن يركبن وينزلن والجمل بارك، فحمل مطلق العقد عليه، ولأن المرأة عورة، فلا يؤمن إذا ركبت أو نزلت والجمل قائم أن ينكشف شيء من عورتها. وأما الرجل: فإنه يركب وينزل والجمل قائم؛ لأن العادة جرت بذلك، إلا أن يكون الرجل زمنًا، أو شيخًا ضعيفًا، أو سمينًا لا يمكنه ذلك مع قيام الجمل، أو كان مريضًا.. فيلزم الجمال أن يبرك له الجمل؛ لأنه لا يقدر على ذلك من قيام. فإن أكرى رجلًا صحيحًا، ثم مرض.. فعليه أن يبرك له الجمل، وإن أكراه وهو مريض، فبرئ.. لم يلزمه أن يبرك له الجمل اعتبارًا بحالة الركوب لا بحالة العقد.

(7/341)


[فرع: عدم الإضرار بالمؤجر شرط في استعماله]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن اختلفا في الرحلة.. رحل لا مكبوبًا ولا مستلقيًا) . واختلف أصحابنا في صورته:
فقال أبو إسحاق: (المكبوب) : أن يضيق قيد المحمل من مؤخر البعير، ويوسع قيد المحمل من مقدم البعير، و (المستلقي) : أن يوسع مؤخره، ويضيق مقدمه. فالمكبوب أسهل على الجمل، والمستلقي أسهل على الراكب.
ومنهم من قال: (المكبوب) : أن يضيق قيد المحمل من المقدم والمؤخر، و (المستلقي) : أن يوسعهما.
وأي التأويلين كان.. فإن لا يجاب الجمال ولا الراكب إليه، بل يفعل ما جرت العادة به، مما لا يضر بالمركوب ولا بالراكب.
قال ابن الصباغ: وكذلك: إذا اختلفا في جلوس الراكب.. رجع فيه إلى العادة. ومن طلب منهما مفارقة القافلة، إما بالحث، أو بالتقصير.. لم يلتفت إليه إلا برضا الآخر بذلك.

[فرع: ما يجب في إكراء دار للسكنى]
وإن أكراه دارًا للسكنى.. فعلى المكري تسليم الدار فارغة الحش من الأذى؛ لأنه من مؤن التمكين، فإن امتلأ في يد المكتري.. فعلى من تجب مؤنة إخراجه؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه على المكري؛ لأن التمكين من الانتفاع يتعلق بذلك.
والثاني: أنه على المكتري؛ لأنه هو الذي شغله بذلك.

(7/342)


قال المسعودي [في " الإبانة: ق \ 335] : وعلى هذين الوجهين إخراج رماد الحمام المستأجر، وتنقية الحوض الذي يخرج إليه الغسالة.
وعلى المكري تسوية الدعامة في الدار، وإصلاح المغلاق، وتطيين السطح، وإن تكسر شيء من الخشب.. فعليه إبداله؛ لأن المكتري لا يمكن من الانتفاع إلا بذلك.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 335] : وأما نصب باب جديد، أو إحداث ميزاب، فينظر فيه: فإن لم يمكن الانتفاع بالدار حسب ما كان يمكن وقت العقد إلا بنصب ذلك.. فعلى المكري ذلك، وإلا.. فلا.

[مسألة: نفقة المركوب على المكري]
وعلى المكري علف الظهر وسقيه؛ لأن التمكين من الانتفاع عليه، ولا يمكن الانتفاع به إلا بذلك. فإن هرب الجمال.. فلا يخلو: إما أن يهرب بجماله، أو يهرب بنفسه ويترك جماله.
فإن هرب بجماله.. نظرت:
فإن كانت الإجارة على ظهر في الذمة.. لم تنفسخ الإجارة بهرب الجمال؛ لأن المعقود عليه في الذمة لم يتلف. فإن رفع المستأجر الأمر إلى الحاكم، وأثبت الإجارة عنده.. فإن الحاكم ينظر:
فإن وجد للمكري مالًا استأجر منه للمستأجر ظهرًا؛ لأن المنفعة في ذمته، فإذا تعذرت من جهته.. قام الحاكم مقامه، كما لو كان في ذمته لغيره دين، فهرب.. فإن الحاكم يقضي الدين من ماله.

(7/343)


فإن لم يجد له مالًا.. اقترض عليه من بيت المال، أو من رجل من الرعية ما يكتري به الظهر، وإن لم يكن في بيت المال ما يقرضه، ولم يجد من يقرضه من الرعية، فإن اختار المكتري أن يقرضه، فقبض الحاكم المال منه، واكترى له به، أو فوض ذلك إلى أمين.. جاز، كما لو اقترض له من غيره، وإن أمر الحاكم المكتري ليكتري لنفسه من ماله، ويكون ذلك قرضًا على المكري.. قال الشيخ أبو حامد: فإن الشافعي قال في " البويطي ": (لا يجوز ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يكون وكيلًا لغيره في القبض من نفسه) . وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 333] في ذلك وجهين.
فإن تعذر عليه الاقتراض.. فالمكتري بالخيار: بين أن يقيم على الإجارة إلى أن يجد المكري، فيطالبه بما عليه، وبين أن يفسخ الإجارة، وتكون الأجرة دينًا له في ذمة المكري؛ لأن المعقود عليه تعذر، فثبت له الخيار، كما لو أفلس المشتري.
وإن كانت الإجارة على أجمال بأعيانها.. لم يكن للحاكم أن يكتري له غيرها؛ لأن الإجارة وقعت على عينها، فلا يجوز إبدالها بغيرها، كما لو باعه عينًا، فهرب بها، ويكون المكتري هاهنا بالخيار: بين أن يفسخ الإجارة؛ لأنه استحق المنفعة معجلة وقد تأخرت، فثبت له الخيار، وبين أن يصبر إلى أن يجد الجمال، فيستوفي حقه.
فإن اختار فسخ الإجارة.. نظرت:
فإن كان قد استوفى بعض المنفعة.. انفسخت الإجارة فيما بقي، وهل تنفسخ فيما مضى؟ فيه طريقان، كما قلنا فيمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض.
فإن قلنا: تنفسخ في الجميع.. رجع بجميع المسمى إن كان قد دفعه، ووجبت عليه أجرة المثل لما قد استوفاه، فيقاصه الحاكم.
وإن قلنا: تنفسخ في الباقي.. كان له الخيار فيما مضى، فإن اختار الفسخ.. فهو

(7/344)


كما لو قلنا: تنفسخ في الجميع، وإن اختار الإمضاء.. رجع بقسط ما بقي من المسمى.
وإن كان لم يستوف شيئًا من المنفعة.. انفسخ العقد في الجميع. فإن كان قد سلم المسمى، وأقام البينة على ذلك عند الحاكم.. نظر الحاكم:
فإن وجد للمكري مالًا.. دفع إلى المكتري ما سلمه من مال المكري.
وإن لم يجد له مالا.. كان ذلك دينا في ذمة المكري للمكتري إلى أن يجده، ولا يقترضه الحاكم هاهنا للمكتري؛ لأن الدين في ذمة المكتري، فإذا اقترض له من غيره.. كان ذلك دينًا في ذمته، فلا يحصل في ذلك فائدة، ويفارق المنفعة؛ لأنها من غير جنس المال المقترض، ولأن المنفعة تفوت بتأخيرها.
وإن لم يختر المكتري الفسخ.. نظرت:
فإن كانت الإجارة على مدة، بأن اكترى منه الجمال ليركبها شهرًا.. فإنه كلما مضى جزء من الشهر.. انفسخ من الإجارة بقدره، فإن مضى الشهر قبل أن يرجع الجمال.. انفسخت الإجارة، وكان الحكم فيها كما لو فسخ المستأجر.
وإن كانت الإجارة على عمل، مثل: أن يستأجر الجمال ليركبها إلى موضع كذا.. لم تنفسخ الإجارة، ولكن متى وجد المستأجر الجمال التي اكتراها.. استوفى منفعته منها.
فأما إذا هرب الجمال وترك الجمال في يد المكتري.. فإن الجمال قد هرب من حقين:
أحدهما: النفقة على الجمال بالعلف والسقي.
والثاني: القيام رفع الأحمال وحطها.
فإن رفع المستأجر الأمر إلى الحاكم.. نظر الحاكم:

(7/345)


فإن وجد للجمال مالًا.. أخذ منه ما يحتاج إليه لنفقة الجمال، وللقيام برفع الحمال وحطها، وسوق الظهر وقوده.
إن لم يجد له مالًا غير الجمال، فإن كان فيها فضل على ما يحتاج إليه المكتري.. باع الحاكم منها بقدر ما يحتاج إليه لذلك، وإن لم يكن فيها فضل.. اقترض عليه الحاكم من بيت المال إن كان فيه فضل، أو من رجل من الرعية.
وإن أراد أن يقترض من المكتري.. نظرت:
فإن قبض منه المال ودفعه إليه، أو إلى رجل من أهل القافلة لينفقه على الجمال، أو استأجر من يرفع الأحمال ويحطها.. جاز ذلك.
وإن أمر الحاكم المكتري لينفق من ماله على ذلك قرضًا على الجمال.. فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون مقبول القول فيما يستحقه على غيره.
والثاني: يصح، وهو الأصح؛ لأنه موضع ضرورة؛ لأن إقامة أمين في ذلك يشق ويتعذر؛ لأنه يحتاج إلى الخروج معها وإلى الإنفاق في الطريق، فجاز له ذلك؛ لأن الحاكم قد لا يجد غيره.
ولا بد للجمال من علف وسقي.
فإذا قلنا بهذا: واختلف الجمال والمكتري في قدر ما أنفق عليها، فإن كان الحاكم قد قدر له ما ينفق عليها كل يوم، فادعى: أنه أنفق ذلك، وخالفه المكري.. فالقول قول المكتري فيه؛ لأن الحاكم قد قدر له ذلك، وهو أمين.
وقوله: إنه أنفق ذلك، مقبول، وإن كان الحاكم لم يقدر له ما ينفق كل يوم، وإنما أذن له في الإنفاق، فإن كان ما يدعيه النفقة بالمعروف.. فالقول قول

(7/346)


المكتري مع يمينه: أنه أنفق ذلك. وإن ادعى أكثر من ذلك.. لم يقبل قوله في الزيادة؛ لأنه متطوع بها.
فإذا بلغ المكتري إلى الموضع الذي اكترى إليه.. فقد استوفى حقه، ويبيع الحاكم شيئًا من الجمال بقدر دين المكتري، ويقضيه إياه، فإن رأى الحاكم أن يبقي باقيها إلى أن يعود صاحبها، ويبيع منها شيئًا لينفق عليها.. جاز، وإن رأى أن يبيع باقيها، ويحفظ ثمنها على صاحبها.. جاز.
وإن أنفق المكتري بغير إذن الحاكم، فإن قدر على الحاكم ولم يستأذنه.. لم يرجع بشيء؛ لأنه متطوع، وإن لم يقدر على الحاكم، فإن أنفق من غير إشهاد، ولا شرط الرجوع.. لم يرجع بشيء؛ لأنه متطوع، وإن أشهد شاهدين: أنه أنفق ليرجع به على الجمال.. ففيه وجهان:
أحدهما: يرجع؛ لأنه موضع ضرورة.
والثاني: لا يرجع؛ لأنه لم ينفق بإذن من له الإذن، فلا يرجع به.
وإن لم يجد من يشهده.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع؛ لما ذكرناه إذا أشهد مع وجود الحاكم.
والثاني: يرجع؛ لأن الجمال قد علم أنه لا بد للجمال من القيام بالعلف والسقي. هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في الإبانة " ق \ 333] : إذا لم يجد قاضيًا، فأنفق.. فهل يرجع به؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يرجع به.
والثاني: لا يرجع به.
والثالث: إن أشهد.. رجع به، وإن لم يشهد.. لم يرجع به.

(7/347)


[مسألة: استيفاء مدة المأجور]
] : إذا استأجر عينًا على عمل، فاستوفاه، أو استأجرها مدة، فمضت تلك المدة وهي في يده.. فهل يلزم المكتري ردها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه، وهو ظاهر النص، وبه قال مالك؛ لأنه قبضها لاستيفاء ما وجب له، فإذا انقضت الإجارة.. كان ممسكًا لها بغير إذن مالكها، فلزمه ردها، كالعارية، وكما لو أطارت الريح ثوبًا إلى بيته، وعرف مالكه.. فإن عليه رده إليه.
فعلى هذا: إن كان لردها مؤنة.. لزمته تلك المؤنة. فإن تمكن من ردها، فلم يردها حتى مضت مدة، ثم تلفت.. لزمه أجرة المثل لتلك المدة، ولزمه قيمتها.
والوجه الثاني: لا يلزمه ردها، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها أمانة في يده، فلا يجب عليه ردها إلا بالمطالبة، كالوديعة، وتقدير الإجارة بالمدة لا يخرجها عن أن تكون أمانة بعد المدة، كما لو قال: أودعتك هذا شهرًا.. فإنه في الشهر بعده أمانة.
فعلى هذا: إذا مضت مدة بعد استيفاء منفعته.. لم يلزمه لها أجرة، إلا إن استوفى منفعته منها، فتكون مؤنة الرد على المؤاجر.
فإن استأجر عينًا، وشرط المؤاجر: أن على المستأجر ردها بعد انقضاء الإجارة، فإن قلنا: يلزمه الرد من غير شرط.. كان هذا الشرط تأكيدًا، وإن قلنا: لا يلزمه الرد.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال القاضي أبو الطيب في " المجرد ": يلزمه الرد؛ لأنه دخل في العقد على ذلك.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: تبطل الإجارة؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الإجارة.

(7/348)


[مسألة: هيئة سكنى الدار]
إذا استأجر دارًا للسكنى.. فليس من شرطه أن يفسر السكنى؛ لأنه لا يمكن ضبطها بالوصف.
فعلى هذا: له أن يسكنها بنفسه وبغيره، وله أن يترك فيها الأمتعة التي لا تدق سقوفها، ولا يترك فيها السرجين؛ لأنه يفسدها.
وهل له أن يطرح فيها ما يسرع إليه الفساد؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن الفأر ينقب الحائط لأجله.
والثاني: له ذلك؛ لأن ذلك متعارف في السكنى.
ولا يسكنها الحدادين والقصارين؛ لأن ذلك يوهن الجدران فيها.
وإن استأجر دارًا ليسكنها وحده، فتزوج.. قال أبو حنيفة وصاحباه: (فله أن يسكنها معه) .
وقال أبو ثور: (ليس له أن يسكنها معه) . قال الصيمري: وهو القياس.

[فرع: استئجار القميص]
وإن استأجر قميصًا ليلبسه.. فله أن يلبسه ليلًا ونهارا إذا كان مستيقظًا، وإن أراد أن ينام فيه.. نظرت:
فإن كان ليلًا.. لم يجز؛ لأن ذلك غير متعارف.
وإن كان نهارًا.. قال الصيمري: فإن كان ساعة أو ساعتين.. جاز؛ لأن ذلك متعارف، وإن نام فيه أكثر النهار.. لم يجز؛ لأن ذلك غير متعارف. وليس له أن

(7/349)


يتزر به؛ لأن ذلك غير متعارف في لبس القميص، وهل له أن يرتدي به؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك، كما قلنا في الاتزار به.
والثاني: له ذلك؛ لأنه أخف من اللبس.
وإن استأجره ليلبسه ثلاثة أيام ولم يذكر الليالي.. فهل تدخل الليالي؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة "، الأصح: تدخل.
وإن استأجره يومًا كاملًا.. فوقته من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. فإن قال: يومًا، وأطلق.. قال الصيمري: كان ذلك من وقته إلى مثله من الغد.
وإن استأجره نهار يوم.. فوجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
والثاني: من طلوع الشمس إلى غروبها.

[فرع: اشتراط النزول في الطريق]
وإن اكترى ظهرًا ليركبه إلى بلد، فإن شرط المكري: أنه ينزل للرواح عن الدابة، أو شرط المكتري: أنه لا ينزل للرواح عنها.. حملا على ما شرطا، وإن أطلقا ذلك وقد جرت عادة الناس في النزول عن الدواب في تلك الطريق للرواح عليها، فإن كان الراكب مريضًا، أو امرأة، أو شيخًا زمنًا.. لم يلزمه النزول، وإن كان رجلًا صحيحًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه النزول؛ لأن العرف قد جرى بذلك، فصار كالمشروط.
والثاني: لا يلزمه؛ لأنه عقد الإجارة على جميع المسافة، وفي إيجاب النزول إخلال ببعض ما عقد عليه، فلم يجب.

(7/350)


[فرع: استئجار مركب مسافة معينة]
وإن استأجر ظهرًا ليركبه إلى مكة.. لم يكن له أن يحج عليه؛ لأن ذلك أكثر، وإن استأجره ليحج عليه.. فله أن يركبه من مكة إلى عرفات، ومن عرفة إلى المزدلفة، ثم إلى منى، ثم إلى مكة للطواف والسعي، وله أن يطوف عليه ويسعى، وهل له أن يركبه من مكة إلى منى؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأنه من تمام الحج.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه قد حل من الإحرام.

[مسألة: استئجار مركب لأجل نقل بضاعة]
وإن اكترى ظهرًا ليحمل عليه أرطالًا من الزاد إلى بلد، فإن سرق الزاد، أو تلف بغير الأكل.. فله إبداله، وإن نقص الزاد بالأكل المعتاد.. فهل له إبداله؟ فيه قولان:
أحدهما: له إبداله، كما لو اكترى ظهرًا ليحمل عليه ثيابًا إلى بلد، فباع في الطريق بعضها.. فله أن يبدل مكان ما باع غيرها، ولأنه لا خلاف أنه إذا اكتراه ليحمل له الماء.. فإن له أن يبدل مكان ما فني منه، فكذلك الزاد.
والثاني: ليس له إبداله؛ لأن العادة جرت أن الزاد لا يبقى في جميع مسافة الطريق، وإنما ينقص بالأكل، فحمل ذلك على العرف.
وقال أبو إسحاق: القولان إذا كان الزاد من أول الطريق إلى آخره بسعر واحد، لا يزيد ولا ينقص، فأما إذا كان الزاد في موضع من الطريق غاليًا، وفي موضع رخيصًا.. فله أن يبدله مكان ما أكله، قولًا واحدًا؛ لأن له غرضًا إذا اختلف سعره أن لا يشتري من موضع واحد.

(7/351)


[مسألة: لا يمنع من ضرب الدابة المعتاد]
وإن استأجر دابة.. فله أن يضربها الضرب المعتاد للمشي؛ لما روي عن جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى منه جملًا، وحمله عليه إلى المدينة، وكان يضربه بالعصا» .
وله أن يكبحها باللجام، وهو: أن يجبذ لجامها بالعنان حتى يلوي رأسها، ويرده إليه؛ لأن ذلك متعارف.

[مسألة: استأجره لمنفعة فله أن يفوت بعضها]
وإن استأجر عينًا لمنفعة معينة.. فله أن يستوفي تلك المنفعة، أو مثلها، أو دونها، مثل: أن يستأجر دابة ليركبها في طريق إلى بلد، فله أن يركبها في مثل تلك الطريق في الأمن والسهولة والحزونة القدر، وكذلك: لو استأجرها ليركبها في طريق حزن.. فله أن يركبها في طريق سهل لا يزيد عليه في القدر، وكذلك: لو استأجرها ليركبها بنفسه.. فله أن يركبها من هو في مثل حاله في الطول والقصر والهزال والسمن، وليس له أن يستوفي أكثر من المنفعة التي استأجر عليها، كما قلنا فيمن استأجر أرضًا للغراس.. فله أن يزرعها، ولو استأجرها للزرع.. لم يغرس فيها.
ولو اكترى دابة بعينها، فأراد المكري أن يعطيه غيرها.. لم يلزم المكتري قبولها. والفرق بينهما: أن المعقود عليه منفعة الدابة، فلم يكن له أن يدفع إليه غيرها، كما لو باع منه دابة، وأراد أن يعطيه غيرها. وليس كذلك الراكب، فإنه هو المستوفي، فجاز أن يستوفي بنفسه وبغيره، كما لو كان له دين على غيره.. فإن له أن يستوفيه بنفسه، وله أن يوكل من يستوفيه.

(7/352)


[فرع: ما اكتراه له لا يغيره]
فإن اكترى ظهرًا ليحمل عليه القطن. لم يكن له أن يحمل عليه الحديد، وإن اكتراه ليحمل عليه الحديد.. لم يكن له أن يحمل عليه القطن؛ لأن في كل واحد منهما ضررًا على الظهر، وارتفاقًا له ليس في الآخر مثله.
وإن اكتراه ليركبه بالسرج.. لم يركبه من غير سرج؛ لأنه أضر به، وإن اكتراه ليركبه من غير سرج. لم يكن له أن يركبه بسرج؛ لأنه أثقل عليه.
وإن اكتراه ليركبه.. لم يحمل عليه المتاع، وإن اكتراه ليحمل عليه المتاع.. لم يكن له أن يركبه؛ لأنهما لا يتساويان.

[فرع: الاستئجار للسكن والإسكان]
وإن أكراه دارًا ليسكنها ويسكن بها من شاء.. فله أن يسكنها القصارين، والحدادين، وأضر من سكن؛ لأنه مأذون فيه.
وإن قال: على أن تسكنها بنفسك، أو أطلق.. فله أن يسكنها بنفسه، وله أن يسكنها من هو في مثل حاله، ولا يسكنها من هو أضر منه، كالحدادين، والقصارين.
وإن أجره إياها على أن يسكنها بنفسه، ولا يسكنها مثله، ولا من هو دونه، أو أجره بهيمة ليركبها في طريق، ولا يركبها في مثله ولا دونه، ولا يركبها من هو مثله، أو دونه.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا تصح الإجارة؛ لأنه شرط ينافي مقتضاها.
والثاني: الإجارة صحيحة والشرط باطل؛ لأنه لا ضرر على المؤاجر بذلك، فبقيت الإجارة على مقتضاها.
والثالث: أن الإجارة جائزة، والشرط صحيح؛ لأن المستأجر لم يملك المنفعة إلا من جهة المؤاجر، فلم يملك غير ما ملكه إياه.

(7/353)


[مسألة: المستأجر يؤجر المؤجر وغيره]
إذا استأجر عينًا وقبضها.. فله أن يؤاجرها من المؤاجر، ومن غيره.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز أن يؤاجرها من المؤاجر) .
دليلنا: أن كل ما جاز العقد عليه مع غير العاقد.. جاز مع العاقد، كما لو اشترى عينًا وقبضها. ولأن على قول من قال من أصحابنا: عقد الإجارة وقع على العين، وقد قبض العين، وعلى قول من قال: إنها وقعت على المنفعة، فإن المنفعة قد صارت في حكم المقبوض. ولأنه قد أمكنه استيفاؤها، فصار كما لو اشترى عينًا فقبضها، وإن كان لم يقبضها.
فإن أجرها من غير المكري.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن المنفعة في محلها تحل محل الأعيان، بدليل: أنها تضمن بالعقد الصحيح بالمسمى، وبالفاسد بالمثل، كبيع الأعيان، وقد ثبت أنه لو ابتاع عينًا لم يجز له أن يبيعها قبل أن يقبضها، فكذلك هذا مثله.
والثاني: يجوز، وهو قول أبي العباس؛ لأن قبض العين في الإجارة لا تأثير له في قبض المنفعة، ألا ترى أنه إذا استأجر دارًا، فقبضها، وانهدمت قبل استيفاء المنفعة.. انفسخت الإجارة، كما لو انهدمت قبل القبض؟ والأول أصح.
وإن أجرها المستأجر من المؤاجر قبل القبض، فإن قلنا: يصح أن يؤاجرها من غيره.. فمنه أولى أن يصح، وإن قلنا: لا يصح أن يؤاجرها من غير المؤاجر.. فهل يصح أن يؤاجرها من المؤاجر؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لما ذكرناه في الأجنبي.
والثاني: يصح؛ لأنها في قبضته. والأول أصح؛ لأن هذا يبطل بمن اشترى عينًا وباعها من بائعها قبل القبض.
إذا ثبت هذا: فيجوز أن يؤاجرها بمثل ما استأجرها به، وبأقل منه، وبأكثر منه.

(7/354)


وقال أبو حنيفة: (لا يجوز أن يؤاجرها بأكثر منه إلا أن يكون قد أحدث فيها عمارة) .
دليلنا: أن كل ما جاز أن يؤاجره بمثل ما استأجره.. جاز أن يؤاجره بأكثر منه، كما لو أحدث فيها عمارة.

[مسألة: زرع ما لا يستحصد قبل مضي مدة الإجارة]
إذا اكترى أرضًا مدة ليزرعها، وأطلق.. فقد مضى في ذلك وجهان، الأصح: أن الإجارة صحيحة.
إذا ثبت هذا: فإن أراد المستأجر أن يزرع فيها زرعًا لا يستحصد في مثل تلك المدة.. فهل للمكري أن يمنعه؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو إسحاق: لا يمنع منه؛ لأنه يستحق الزراعة إلى أن تنقضي المدة، فلا يجوز منعه منه قبل انقضائها، ولأنه لا خلاف أنه إذا سبق وزرع.. لم يجبر على قلعه قبل انقضاء المدة، فلم يمنع من زراعته.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: يمنع من زراعته؛ لأنه متعد بذلك؛ لأنه لا يستحق منفعة الأرض أكثر من المدة المقدرة، وإذا أراد أن يزرع ما لا يستحصد فيها.. فربما رأى حاكم تبقية الزرع إلى أن يحصد، فيؤدي ذلك إلى الضرر بصاحب الأرض.
فإن بادر وزرع، أو قلنا بالأول: إنه لا يمنع.. لم يكن لصاحب الأرض مطالبته بقلعه قبل انقضاء المدة؛ لأنه ملك منفعة الأرض فيها، فإذا انقضت المدة.. فله أن يطالبه بنقله؛ لأنه لا يفيد تقدير الإجارة بالمدة إلا ذلك، فإن اتفقا على تركه بعارية أو أجرة.. جاز؛ لأن الحق لهما.

(7/355)


[فرع: مضت المدة والزرع لم يستحصد]
وإن اكترى أرضًا مدة ليزرعها، فزرعها، وانقضت المدة والزرع لم يستحصد.. فلا يخلو: إما أن يكون استأجرها لزرع مطلق، أو لزرع معين.
فإن كان استأجرها لزرع مطلق، وقلنا: يصح، فإن لم يستحصد لتفريط من المكتري، بأن زرع في الأرض زرعًا لا يستحصد في مثل تلك المدة، أو كان مما يستحصد فيها إلا أنه أخر زراعته.. فللمكري أن يطالبه بنقله عند انقضاء المدة؛ لأنه لا يفيد تقدير الإجارة بالمدة إلا تفريغ العين المستأجرة، فإن اتفقا على ترك الزرع إلى الحصاد بإعارة أو إجارة.. جاز. وإن لم يستحصد بغير تفريط منه، بأن اشتد البرد، أو قل المطر.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجبر المكتري على نقل الزرع؛ لأنه فرط، أو كان يمكنه أن يستظهر بالزيادة في مدة الإجارة.
فعلى هذا: إن اتفقا على تركه بإجارة أو إعارة إلى الحصاد.. جاز.
والثاني: لا يجبر على نقله، وهو الصحيح؛ لأنه لا صنيع له في تأخر الزرع، وقد زرع ما يجوز له زرعه، وما قاله الأول.. غير صحيح؛ لأنه لا فائدة في أن يكتري أكثر مما جرت العادة بأن يدرك الزرع فيه في الغالب؛ لأن فيه تضييع الأجرة، و: «قد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إضاعة المال» .
فعلى هذا: يجب للمكري أجرة المثل لما زاد على مدة الإجارة؛ لأنه لا يجوز الإضرار به في تعطيل منفعة أرضه بغير عوض.
وإن كان استأجر الأرض لزرع معين لا يستحصد في مثل تلك المدة.. نظرت:
فإن شرط عليه قلعه عند انقضاء المدة.. فالإجارة صحيحة؛ لأن له غرضًا في

(7/356)


قلعه، فإذا انقضت المدة.. أخذ بقلعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم» ، وإن اتفقا على تركه بإجارة أو إعارة.. جاز.
وإن شرطا تبقية الزرع فيها إلى أن يستحصد.. فالإجارة باطلة؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الإجارة، فأبطلها، وله أن يمنعه من الزراعة، فإن بادر المكتري، فزرعها قبل المنع.. لم يجبر على نقله؛ لأنه زرع مأذون فيه، ويجب للمكري أجره المثل؛ لأنه استوفى منفعة أرضه بعقد باطل.
وإن أطلقا ولم يشرطا القلع ولا التبقية.. فإن الإجارة صحيحة؛ لأن الانتفاع بالزرع في تلك المدة ممكن، وهل يجبر على نقله عند انقضاء المدة؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق: يجبر؛ لأنه لا يفيد تقدير الإجارة بالمدة إلا ذلك، فإن تراضيا على تركه بإجارة أو إعارة.. جاز.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يجبر؛ لأن المكري لما أجره أرضه مدة لزرع لا يستحصد فيها.. فقد رضي بتركه فيها؛ لأن العادة جرت أن الزرع لا يحصد إلا بعد أن يستحصد.
فعلى هذا: يجب للمكري أجرة مثل أرضه؛ لما زاد على مدة الإجارة.

[فرع: يلزم المكتري قلع ما بقي بعد الحصاد]
] : وإذا اكترى أرضًا للزراعة، فزرعها، وحصد زرعه.. فإنه يلزم المكتري قلع ما بقي في الأرض من قصب الزرع وعروقه؛ لأنه عين ماله، فلزمه إزالته عن أرض الغير.

[مسألة: غرس زرع بعد انقضاء المدة]
وقبلها] :
وإن اكترى أرضًا مدة للغراس.. فليس له أن يغرس بعد انقضاء المدة؛ لزوال العقد، فإن غرس شيئًا بعد المدة.. أخذ بقلعه؛ لأنه غرس غير مأذون فيه، وأما ما غرسه قبل انقضاء المدة: فينظر فيه:

(7/357)


فإن كان قد شرط قلعه بعد انقضاء المدة.. أخذ بقلعه؛ لأنه دخل في العقد على ذلك، ولا يجب على المكري غرامة ما نقص الغراس بالقلع، ولا على المكتري تسوية حفر الأرض، ولا أرش نقصها بالقلع؛ لأنهما رضيا بذلك.
فإن قيل: هلا قلتم: إن شرط القلع يبطل هذه الإجارة؛ لأن إطلاقها يقتضي التبقية، وكل عقد صح مطلقًا بطل بالتوقيت، كالنكاح؟
قلنا: التبقية بعد المدة ليست من مقتضى العقد، فلذلك لم يبطل العقد إذا شرط ما يخالف مقتضاه، وإنما التبقية من مقتضى الإذن، فلذلك شرط القلع لم يؤثر في العقد.
وإن لم يشرطا القلع، ولكن أطلقا أو شرطا التبقية.. فالحكم فيهما واحد.
فإن لم يختر المكتري القلع.. لم يجبر على قلعه من غير عوض.
وقال أبو حنيفة، والمزني: (يجبر على قلعه من غير عوض) .
وقال مالك: (المكري بالخيار: بين أن يطالب بالقلع من غير ضمان، أو يدفع قيمته ليكون له، أو يبقيه في الأرض، ويكونا شريكين) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» . وهذا ليس بظالم، فوجب أن يكون له حق، ولأن كل من اكترى ملكًا لغيره.. فإن تفريغه على حسب العادة، والعادة في الشجر أنه يراد للتأبيد، ولا ينقل حتى يجف وييبس.
إذا ثبت هذا: فإن اختار المكري أن يقلع غراسه.. كان له ذلك؛ لأنه عين ماله، فملك نقله إلى حيث شاء، وهل يلزمه تسوية حفر الأرض، وأرش نقص إن حدث بها لأجل القلع؟ ينظر فيه:
فإن قلعه بعد انقضاء مدة الإجارة.. لزمه ذلك. واختلف أصحابنا في تعليله:

(7/358)


فمنهم من قال: لأنه قلع غراسه من ملك الغير بغير إذنه، فهو كالغاصب.
ومنهم من زاد وصفًا آخر، فقال: لأنه قلعه من أرض غيره بغير إذنه، ولا يد له عليها.
وإن كان ذلك قبل انقضاء المدة، فمن قال بالتعليل الأول.. فإنه قال: يجب عليه تسوية الأرض وأرش النقص، ومن قال بالثاني.. قال: لا يجب عليه هاهنا شيء. والأول أصح.
وإن لم يختر المكتري القلع.. فالمكري هاهنا بالخيار بين ثلاثة أشياء:
[الأول] : بين أن يعطي المكتري قيمة غراسه، ويتملكه مع أرضه. قال الشافعي: (وإن كانت عليه ثمرة.. أعطاه قيمة الثمرة أيضًا؛ لأنها ملك لصاحب الغراس) . فلما جاز أن يعطيه قيمة الشجرة ويملكها.. فكذلك الثمرة.
و [الثاني] : بين أن يقلع الغراس، ويضمن ما نقص بالقلع، فيقال: كم قيمته وهو ثابت؟ فإن قيل: مائة.. قيل: فكم قيمته وهو مقلوع؟ فإن قيل: خمسون.. دفع إليه خمسين، وقلع.
و [الثالث] : بين أن يقر الغراس في الأرض، ويطالبه بأجرة مثلها؛ لأن الضرر يزول عنهما بذلك.
فإن اختار إقراره بالأجرة، ثم بدا للمكري، وبذل قيمته ليتملكه، أو بذل أرش نقصه ليقلعه.. كان له ذلك.. وكذلك لو اختار المكتري قلع غراسه بعد أن كان قد رضي ببذل الأجرة.. كان له ذلك.
فإن باع صاحب الغراس غراسه من صاحب الأرض.. صح بيعه، وإن باعه من غيره.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن ملكه غير مستقر؛ لأن لصاحب الأرض أن يبذل قيمته ليتملكه.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأن ملكه ثابت عليه في الحال، واستحقاق المكري إزالة ملكه عنه لا يمنع صحة البيع، كما لو باع ما فيه الشفعة.

(7/359)


[فرع: غرس أرضًا في إجارة فاسدة]
فإن اكترى أرضًا كراء فاسدًا، فغرس فيها أو بنى.. كان الحكم في قلع ذلك أو إقراره حكم ما ذكرناه في الإجارة الصحيحة؛ لأنه مأذون فيه.
وبالله التوفيق

(7/360)


[باب ما يوجب فسخ الإجارة]
إذا وجد المستأجر بالعين التي استأجرها عيبًا لم يعلم به، تنقص به المنفعة، بأن وجد الظهر أعرج، أو وجد العبد المستأجر للخدمة أجذم، أو أبرص، أو انقطع الماء في البئر في الدار المستأجرة، وما أشبه ذلك.. فله أن يرد العين بالعيب؛ لأن إطلاق العقد يقتضي السلامة من العيب، فثبت له الرد لأجله، كما لو اشترى عينًا، فوجد بها عيبًا، وكذلك: إذا حدث العيب في العين المستأجرة في يد المستأجر.. فله أن يردها؛ لأن العين في يد المستأجر كالعين في يد المؤاجر، فإذا ثبت له الرد فيما كان موجودًا في يد المؤاجر.. فكذلك بما أحدث في يد المستأجر.
وإن اكترى أرضًا للزراعة فزرعها، فأفسد الماء أو الجراد زرعه، أو اكترى دكانًا ليبيع فيه البز، فاحترق بزه.. لم يكن له أن يفسخ الإجارة؛ لأن المنفعة لم تهلك، وإنما هلك مال المستأجر.
وأما إذا جاء سيل فغرق الأرض المستأجرة، أو زاد نهر فغرقها.. قال الشيخ أبو حامد: فإن كان السيل والماء ينفصل عنها بعد يوم أو يومين، أو بعد مدة لا تفوت بها الزراعة.. فإن الإجارة لا تنفسخ؛ لأن المنفعة لم تهلك، وإنما عارضها عارض، إلا أن له خيار الفسخ؛ لأن المنفعة تأخرت، فهو كإباق العبد المستأجر، وإن كان الماء بحيث لا يزول عنها، فإن كان ذلك عقيب عقد الإجارة.. انفسخت الإجارة؛ لأن المنفعة قد تلفت، ويسترد المستأجر المسمى إن كان قد دفعه، وإن كان قد مضى من زمان الإجارة مدة لها أجرة.. انفسخ العقد فيما بقي من مدة الإجارة، وهل ينفسخ فيما مضى منها؟ على الطريقين فيمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض.
فإذا قلنا: تنفسخ في الجميع.. وجبت عليه أجرة المثل؛ لما مضى من المدة.
وإن قلنا: تنفسخ في الباقي لا غير.. ثبت للمستأجر الخيار فيما مضى من المدة؛

(7/361)


لأن الصفقة تفرقت عليه، فإن فسخ العقد فيها.. كان كما لو قلنا: ينفسخ، وإن لم يفسخ.. قسم المسمى على أجرة المثل لما مضى، وأجره المثل لما بقي من المدة.
وإن استأجر دارا فتشعثت: لزم المكري إصلاحها، فإن أصلحها.. فلا كلام، وإن لم يصلحها.. فللمستأجر الخيار في فسخ الإجارة؛ لأن ذلك عيب بها. وإن لم تفسخ حتى مضت مدة الإجارة.. فهل يلزمه جميع الأجرة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه جميع الأجرة؛ لأنه لم يستوف جميع المنفعة، فهو كما لو سكنها بعض المدة، فانهدمت.
فعلى هذا: يقال: كم أجرة مثل هذه الدار قبل التشعث؟ فإن قيل: عشرون.. قيل: فكم أجرة مثلها وهي متشعثة؟ فإن قيل: خمسة عشر.. سقط عنه من المسمى ربعه إن وجد التشعث في ابتداء مدة الإجارة، وإن وجد بعد مضي بعض المدة، بأن مضى من المدة نصفها.. رجع بثمن الأجرة.
والوجه الثاني: يلزمه جميع الأجرة المسماة؛ لأنه رضي بسكناها ناقصة، فلزمه جميع المسمى، كما لو اشترى عبدًا، فوجد به عيبًا ولم يرده.

[فرع: رد العين المستأجرة بالعيب]
ومتى رد العين المستأجرة بالعيب، فإن كانت الإجارة وقعت على عينها.. لم يكن له أن يطالب ببدلها، كما لو اشترى عبدًا، فوجد به عيبًا فرده.. فإنه لا يطالبه ببدله.
فإن ردها بالعيب قبل أن يمضي شيء من المدة.. انفسخ العقد، ورجع بجميع المسمى، وإن كان ذلك بعد أن مضى شيء من المدة.. انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة، وهل تنفسخ فيما مضى؟ على الطريقين.
وإن كانت الإجارة على عين في الذمة.. لم تنفسخ الإجارة برد العين، بل له أن يطالب ببدلها سليمة، كما لو أسلم إليه على شيء، فدفعه إليه، فوجد به عيبًا.

(7/362)


[مسألة: استأجر دابة فماتت]
وإن استأجر من رجل عبدًا، فمات قبل قبض العبد، أو بهيمة بعينها، فماتت، فإن كان ذلك قبل أن يقبضها المستأجر.. انفسخت الإجارة، كما لو اشترى عبدًا، فمات قبل القبض. وإن قبضه المستأجر واستوفى المنفعة، ثم مات العبد، أو البهيمة.. لم يؤثر ذلك في الإجارة؛ لأنه قد استوفى المنفعة. وإن مات بعد أن قبضه المستأجر، وقبل أن يمضي شيء من مدة الإجارة.. انفسخت الإجارة، وبه قال كافة الفقهاء، إلا أبا ثور، فإنه قال: (لا تنفسخ، كما لو اشترى عبدًا، فقبضه، ثم مات في يده) . وهذا خطأ؛ لأن المعقود عليه هو المنفعة، وقد تلفت قبل القبض، فانفسخت الإجارة، كما لو مات قبل القبض.
وإن مات العبد بعد أن استوفى المستأجر بعض المنفعة وبقي البعض.. انفسخت الإجارة فيما بقي، وهل تنفسخ فيما مضى؟ على الطريقين.

[مسألة: استأجر دارًا فهدمت]
وإن استأجر دارًا للسكنى فانهدمت.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تنفسخ الإجارة) ، وقال فيمن أجر أرضًا للزراعة، فانقطع ماؤها: (فإن الإجارة لا تنفسخ، ولكن يثبت للمستأجر الخيار في فسخ الإجارة) .
فمن أصحابنا من قال: فيهما قولان:
أحدهما: تنفسخ فيهما الإجارة؛ لأن المنفعة المعقود عليها قد تلفت، فهو كما لو مات العبد المستأجر.

(7/363)


والثاني: لا تنفسخ الإجارة فيهما؛ لأن المنفعة فيهما لم تتلف، وإنما نقصت المدة، فهو كما لو تشعثت الدار المستأجرة.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما، فقال: تنفسخ الإجارة في الدار، ولا تنفسخ في الأرض؛ لأن الدار غير باقية بعدم الانهدام، والأرض باقية بعد انقطاع الماء.

[فرع: غصب العين المستأجرة]
وإن غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر.. نظرت:
فإن كانت الإجارة على منفعة في الذمة.. لم تنفسخ الإجارة، فيطالب المستأجر المؤاجر بإقامة عين غيرها مقامها؛ لأن المعقود عليه في ذمته.
وإن كانت الإجارة على منفعة تلك العين.. نظرت:
فإن غصبها أجنبي.. فللمستأجر فسخ الإجارة؛ لأنه تأخر حقه، فإن فسخ.. فلا كلام، وإن لم يفسخ، فإن كانت الإجارة على عمل.. لم تنفسخ، بل متى وجد العين المستأجرة.. استوفى منفعته منها، وإن كانت الإجارة على مدة، فمضت المدة.. فهو كما لو اشترى عينًا، فأتلفها أجنبي قبل القبض.
وإن غصبها المؤاجر وكانت على مدة، فمضت قبل أن يفسخ المستأجر الإجارة.. فعلى الطريقين في العين المبيعة إذا أتلفها البائع قبل القبض.

[مسألة: استكرى مرضعة فماتت]
وإن استأجر امرأة للإرضاع، فماتت المرأة، فإن كان قبل أن يمضى شيء من المدة.. انفسخت الإجارة، وإن كان بعد أن مضى شيء من المدة وبقي البعض.. انفسخت الإجارة فيما بقي، وهل تنفسخ فيما مضى؟ فيه طريقان.
وإن مات الصبي قبل أن يمضي شيء من المدة.. ففيه قولان:

(7/364)


أحدهما: لا تنفسخ الإجارة بموته؛ لأنه مستوفى به، فلا تبطل الإجارة بموته، كالراكب.
والثاني: تنفسخ، وهو المشهور؛ لأن العقد وقع على إيقاع الفعل فيه، وقد تعذر ذلك بموته، فانفسخت الإجارة، كما لو استأجره لخياطة ثوب، فتلف الثوب.
فإذا قلنا بالأول.. أقيم غير الصبي مقامه، إن تراضيا على ذلك.. جاز، وإن تشاحا.. فسخ العقد.
فرع: [قذف الطفل لبن المرضع] :
وإن استأجر امرأة على إرضاع صبي، فصار يقذف من لبنها.. قال الصيمري: فللمستأجر أن يفسخ الإجارة؛ لأنه عيب فيها.

[فرع: استنكف عن استئجار الطبيب]
وإن استأجر رجلًا ليقلع له ضرسًا ألمًا، فبرئ، أو ليكحل له عينًا عليلة، فبرئت قبل الكحال.. فهو كما لو مات الصبي الذي استؤجر على إرضاعه على ما مضى؛ لأنه لا يجوز قلع ضرس لا ألم فيه، ولا كحل عين لا علة بها.
وإن لم يبرأ، ولكن امتنع المستأجر من القلع أو الكحل.. قال ابن الصباغ: فإنه لا يجبر عليه؛ لأن الأجير إذا بذل العمل ومكن منه.. وجب على المستأجر دفع الأجرة.
وقال القاضي أبو الطيب في " المجرد ": عندي أنها لا تستقر، حتى إن هذا الضرس لو انقلع.. لانفسخت الإجارة، ووجب رد الأجرة، كما قلنا في النكاح إذا مكنت الزوجة من نفسها ولم يطأها، ويفارق إذا حبس الدابة مدة المسافة.. فإن الأجرة تجب عليه؛ لأن المنافع تلفت تحت يده.

(7/365)


[مسألة: موت الأجير في الحج]
] : وإن مات الأجير في الحج بعد قطع المسافة وقبل الإحرام.. نظرت:
فإن كانت الإجارة على حج في الذمة.. لم تنفسخ الإجارة؛ لأن المعقود عليه يمكن استيفاؤه بعد موته، ولا يستحق الأجير لما قطع من المسافة شيئًا من الأجرة.
وإن كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه.. بطلت الإجارة؛ لأن المعقود عليه عمل الأجير بنفسه، وقد فات ذلك بموته.
وهل يستحق الأجير هاهنا شيئًا من الأجرة؟ المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يستحق شيئًا من الأجرة) .
واستفتي أبو بكر الصيرفي وأبو سعيد الإصطخري عام القرامطة، وقد أحصر الناس قبل الإحرام، فأفتيا: أن للأجراء بقدر ما قطعوا من المسافة من الأجرة؛ لأن هذه المسافة لا بد منها، ولا يتوصل إلى النسك إلا بقطعها، فوجبت لها الأجرة. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الأجرة إنما يقابل المقصود بها، وهي الأفعال الواقعة على المستأجر، فأما السبب: فلا يقابله، كما إذا استأجره ليبني له، أو ليخبز له، فقرب آلة البناء وآلة الخبز، فمات قبل البناء والخبز.
فأما إذا مات الأجير بعد ما أتى بجميع أركان الحج، وبقي عليه الرمي والمبيت.. فقد سقط الحج عن المحجوج عنه، ويلزم الأجير الجبران بالدم لما بقي عليه، وهل يلزمه أن يرد شيئًا من الأجرة؟ فيه طريقان:

(7/366)


من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يرد شيئًا؛ لأنه قد جبر ما تركه بالدم، فصار كما لو لم يترك شيئًا.
والثاني: يرد؛ لأنه فعل بعض ما استؤجر عليه، فصار كما لو استأجره ليبني له عشرة أذرع.. فبنى له تسعة.
ومنهم من قال: يرد، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه.
وأما الدم: فإنه وجب على الأجير لحق الله تعالى دون حق المستأجر.
وإن مات الأجير بعد الإحرام وقبل أن يأتي بالوقوف في الحج، أو بالطواف والسعي.. فهل يستحق هاهنا شيئًا من الأجرة؟
إن قلنا بقول الصيرفي وأبي سعيد الإصطخري: إنه يستحق شيئًا من الأجرة إذا مات بعد قطع المسافة وقبل الإحرام.. فهاهنا أولى أن يستحق.
وإن قلنا بالمنصوص: (إنه لا يستحق هناك شيئًا) .. فهل يستحق الأجير هاهنا من الأجرة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يستحق شيئًا من الأجرة؛ لأن ما أتى به لا يسقط به عن المستأجر الفرض، فلم يستحق له أجرة، كما لو استأجر رجل رجلًا ليرد عليه عبده الآبق، فرده إلى بعض الطريق، ثم هرب منه.
والثاني: يستحق شيئًا من الأجرة؛ لأنه قد عمل بعض ما استؤجر عليه، فصار كما لو استأجره ليبني له عشرة أذرع.. فبنى له تسعة.
فإذا قلنا بهذا: فكم يستحق من الأجرة؟ اختلف أصحابنا فيه على طريقين:
فـ[الأول] : ذهب أكثرهم إلى: أنها على قولين:
أحدهما: يقسط على قطع المسافة والعمل، وإن كان لو انفرد قطع المسافة.. لم يستحق له شيئًا؛ لأنه هاهنا تابع للعمل. ويجوز أن يتناول العقد شيئًا على وجه التبع وإن لم يفرد، كأساس الحيطان، وطي الآبار، يصح بيعه تبعًا لغيره، ولا يصح بيعه وحده.

(7/367)


والثاني: يقسط على العمل وحده؛ لأنه المقصود، بخلاف قطع المسافة، فإنه لو قابلها بشيء من العوض بعد العمل.. لقابلها قبل العمل.
و [الثاني] : قال أبو العباس: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (تتقسط الأجرة على العمل خاصة) إذا استأجره ليحصل له حجة، ولم يعين المسير من بلده.
والموضع الذي قال: (تتقسط الأجرة على قطع المسافة والعمل) إذا استأجره ليحصل له حجة من بلده.
إذا ثبت هذا: فهل يجوز البناء على عمل الأجير؟ فيه قولان:
قال في القديم: (يجوز) ؛ لأنه عمل تدخله النيابة، فجاز البناء عليه، كسائر الأعمال.
وقال في الجديد: (لا يجوز) . وهو الصحيح؛ لأنه عبادة يفسد أولها بفساد آخرها، فلا يتأدى بنفسين، كالصوم، والصلاة، وفيه احتراز من تفرقة الزكاة.
فإن قلنا بقوله الجديد، فإن كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه.. بطلت بموته، فإن كان وقت الوقوف باقيًا.. استأجر المستأجر من يحرم عنه بالحج، وإن كانت الإجارة في الذمة.. لم تبطل الإجارة بموت الأجير، ويستأجر ورثة الأجير من يستأنف الإحرام عن المستأجر. وإن فات وقت الوقوف.. تأخر الحج إلى السنة الثانية، فإن كانت الإجارة عن حي.. فله أن يفسخ الإجارة، ويسترجع الأجرة، وإن كانت عن ميت.. لم يكن للوصي أن يفسخ الإجارة؛ لأن الحي يستفيد بالفسخ التصرف في الأجرة، وهذا لا يوجد في الإجارة عن الميت.
وإن قلنا بقوله القديم، فإن كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه.. بطلت بموته، ويكون الذي يتولى الاستئجار لمن يتم هو المستأجر، وإن كانت الإجارة على حج في الذمة.. لم تبطل بموته، ويكون الذي يتولى الاستئجار لمن يتم هو وارث الأجير.
وأما ما يحرم به الأجير الثاني: فينظر فيه:

(7/368)


فإن كان وقت الوقوف باقيًا.. فإن الثاني يحرم بالحج من مكانه، ولا يجب الدم؛ لأنه بنى على إحرام الأول.
وإن كان قد فات وقت الوقوف بعد وقوف الأول.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يحرم بالعمرة، ويطوف ويسعى؛ لأنه لا يجوز أن يحرم بالحج في غير أشهر الحج، ولا يأتي بالرمي والمبيت؛ لأنه ليس في العمرة رمي ولا مبيت.
والثاني - حكاه الشيخ أبو حامد -: أنه يحرم إحرامًا مطلقًا لا ينوي به حجًا ولا عمرة.
والثالث - وهو ظاهر قول الشافعي -: أنه يحرم بالحج؛ لأنه بنى على إحرام الأول.
قال أصحابنا: وجميع هذه الأوجه ضعيفة؛ لأن:
على قول أبي إسحاق: يحرم بالعمرة، ويطوف عنها ويسعى، ثم يقع ذلك عما عليه من طواف الحج وسعيه، وهذا لا يجوز.
وعلى قول الثاني: الإحرام المطلق لا بد من صرفه إلى حج أو عمرة.
وعلى قول الثالث: يحرم بالحج في غير أشهر الحج، وهذا لا يجوز. وضعفها يدل على ضعف القول القديم الذي تفرعت عليه.

[مسألة: أجر عبده ثم أعتقه]
وإن أجر عبده، ثم أعتقه قبل انقضاء مدة الإجارة.. صح عتقه؛ لأن الإجارة عقد على المنفعة، فلم يمنع صحة العتق، كما لو زوج أمته، ثم أعتقها، ولأنه إذا صح عتق العبد المغصوب.. فلأن يصح عتق العبد المستأجر أولى، وهل يرجع العبد على سيده بأجرة المدة بعد العتق؟ فيه قولان:
قال في القديم: (يرجع عليه بأجرة المثل لمدة الإجارة بعد العتق) ؛ لأنه فوت

(7/369)


عليه بالإجارة ما كان يملكه من منفعة نفسه بعد العتق، فوجب عليه بدلها، كما لو أكرهه على العمل.
وقال في الجديد: (لا يرجع عليه بشيء) . وهو الصحيح؛ لأنه تصرف في منافعه تصرفًا كان له، فإذا طرأت الحرية.. لم يملك الرجوع عليه بشيء، كما لو زوج أمته، ثم أعتقها.
فإذا قلنا بقوله القديم.. كانت نفقة العبد على نفسه بعد العتق.
وإن قلنا بقوله الجديد.. ففيه وجهان:
أحدهما: تجب نفقته على المولى؛ لأنه كالباقي على ملكه، بدليل: أنه ملك بدل منفعته.
والثاني: تجب في بيت المال؛ لأنه لا يمكن إيجابها على المولى؛ لأنه قد زال عن ملكه. ولا على نفسه؛ لأنه لا يقدر عليها مدة الإجارة.
فإذا قلنا: تجب على المولى.. ففي قدرها وجهان:
أحدهما: تجب عليه نفقته بالغة ما بلغت، لأن من وجبت عليه نفقة شخص بالملك.. وجبت بالغة ما بلغت، كالعبد المملوك.
والثاني: يجب عليه أقل الأمرين من نفقته، أو قدر أجرة مثله؛ لأنها إنما وجبت عليه؛ لاستحقاقه بدل منفعته بعد العتق، فلا يجب عليه أكثر من بدل المنفعة.

[مسألة: استئجار عين وموت أحد المتكاريين]
إذا استأجر من رجل عينًا، أو استأجره على منفعة، فمات أحد المتكاريين أو ماتا قبل استيفاء المنفعة.. لم تبطل الإجارة، وبه قال عثمان البتي، ومالك، وأحمد، وإسحاق.
ويقال أبو حنيفة، والثوري، والليث: (تبطل بموت أحدهما) .
دليلنا: أنه عقد لازم، فلا يبطل بموت العاقد، كالبيع.

(7/370)


[مسألة: بيع المؤجر لغير المستأجر قبل استيفاء الزمن]
] : وإن أجر داره، ثم باعها من غير المستأجر قبل انقضاء مدة الإجارة.. فهل يصح البيع؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح البيع؛ لأن البائع لا يمكنه تسليمه إلى المشتري، فلم يصح كالمغصوب.
والثاني: يصح البيع، فإن كان المشتري عالمًا بكونه مستأجرًا.. فلا خيار له. وإن لم يعلم.. فله الخيار، وبه قال مالك، وهو الأصح؛ لأن الإجارة عقد على المنفعة، فلم تمنع صحة البيع، كما لو زوج أمته، ثم باعها.
وقال أبو حنيفة: (البيع موقوف على إجازة المستأجر، فإن أجازه.. صح، وإن رده.. بطل) . بناء على أصله في البيع الموقوف، وقد مضى.

[فرع: أكرى عينًا ثم باعها من المستأجر]
وإن أكرى عينًا وباعها من المكتري قبل أن يستوفي المنفعة.. صح البيع، قولًا واحدًا؛ لأنه ليس هاهنا يد تحول بينه وبين العين المبيعة، وهل تنفسخ الإجارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تنفسخ، وهو اختيار ابن الحداد؛ لأن الإجارة عقد على منفعة الرقبة، فإذا ملك الرقبة.. بطل العقد على منفعتها، كما لو تزوج أمة، ثم اشتراها.
والثاني: لا تنفسخ الإجارة، وهو قول الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق؛ لأنه ملك المنفعة بعقد، والرقبة بعقد، لم يتنافيا، كما لو اشترى الثمرة، ثم اشترى الأصل، ولأن الموصى له بالمنفعة لو أجر منفعته من مالك الرقبة.. لاجتمع للمستأجر ملك الرقبة والمنفعة، ولم تبطل الإجارة، فكذلك هذا مثله، ولأنه لو أجر عينًا من رجل، ثم استأجرها المكري من المكتري.. لصح أن يجتمع له ملك الرقبة والمنفعة، فكذلك هذا مثله.

(7/371)


فإذا قلنا بهذا: فتلفت العين قبل انقضاء مدة الإجارة.. لم يبطل البيع؛ لأن المبيع هلك في يد المبتاع، ولكن تبطل الإجارة فيما بقي من المدة، وهل تبطل فيما مضى؟ على طريقين، مضى ذكرهما.
فإذا قلنا: تبطل.. فهل يرجع المكتري بأجرة المدة بعد البيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع، وهو قول ابن الحداد؛ لأن الإجارة انفسخت لمعنى من جهة المستأجر، فلم يرجع بشيء، كالمرأة إذا ارتدت قبل الدخول.
والثاني: يرجع بأجرة المدة بعد البيع، وهو قول أكثر أصحابنا؛ لأن الإجارة انفسخت قبل انقضاء مدتها، فرجع بأجرة ما بقي، كما لو تقايلا.
وإن استأجر رجل من أبيه دارًا، فمات الأب قبل انقضاء الإجارة.. فهل تنفسخ الإجارة؟ على الوجهين الأولين.
فإن مات الأب وعليه دين يحيط بالتركة، فإن قلنا: إن الإجارة لا تنفسخ.. فإن الأجرة تؤخذ من الابن، وتقسم على أصحاب الديون، ولا تباع الدار حتى يستوفي الابن منفعته. وإن قلنا: إن الإجارة تنفسخ.. فإن أجرة ما بقي من المدة بعد الموت لا تؤخذ من الابن إن كان لم يدفعها، وتؤخذ الدار في الحال، وتباع لحق أصحاب الديون.
وإن كان الابن قد دفع جميع الأجرة إلى الأب.. قال ابن الحداد: رجع الابن هاهنا بأجرة ما بقي من المدة؛ لأنه لا صنع له في انفساخ الإجارة، بخلاف الشراء.

[فرع: استأجر من أبيه فمات فورثه]
وإن استأجر رجل من أبيه دارًا مدة معلومة، وسلم الأجرة إلى الأب، فمات الأب قبل انقضاء الإجارة ولا دين عليه، وخلف ابنين أحدهما هذا المكتري، فإن قلنا: لا تنفسخ الإجارة إذا مات الأب ولا وارث له غير المكتري.. لم تنفسخ الإجارة هاهنا في شيء من الدار، ولا يرجع الابن المكتري هاهنا على أخيه بشيء. وإن قلنا هناك: تنفسخ الإجارة.. فإن الإجارة لا تنفسخ هاهنا في نصف الدار الذي ورثه الابن غير

(7/372)


المكتري، ولكن تنفسخ الإجارة في نصفه الذي ورثه الابن المكتري، وهل يرجع الابن المكتري على أخيه بشيء من الأجرة؟
قال ابن الحداد: يرجع عليه بربع أجرة الدار في المدة التي بقيت من الإجارة بعد موت الأب، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن الإجارة لما انفسخت في نصف الدار.. استحق الابن الرجوع في أجرة ما انفسخت فيه الإجارة، وذلك دين تعلق بتركة الميت، فكان على الابن غير المكتري نصف ذلك بقسطه من الميراث، ألا ترى أن الأجرة التي سلمها الابن لو كانت باقية.. لكانت بينهما نصفين؟ فإذا كانت تالفة.. وجب أن يأخذ من الذي أخذ أخوه من التركة بقسط ما انفسخت فيه الإجارة.
ومن أصحابنا من قال: لا يرجع على أخيه بشيء؛ لأن الذي انفسخت فيه الإجارة هو النصف الذي ورثه المكتري، فلا يجوز أن يرجع على أخيه بشيء.
قال ابن الصباغ: وما قاله ابن الحداد.. غير صحيح؛ لأنه إذا جعل ما انفسخ فيه العقد من الأجرة بينهما.. فقد ملك المكتري بميراثه نصف الدار بمنفعته. وورث الآخر نصف الدار مسلوب المنفعة. قال: والأولى في ذلك أن يقوم نصيب المكتري بمنفعته، ويقوم نصيب غير المكتري مسلوب المنفعة، ويكون لغير المكتري من التركة ما بين القيمتين، ويكون للمكتري نصف المسمى فيما بقي من المدة من التركة.

[فرع: استأجر دارًا وقبل مضي المدة اشتراها]
] : فإن اكترى رجل من رجل دارًا مدة، ثم اشتراها المكتري قبل انقضاء مدة الإجارة، ثم وجد بها عيبًا يرد به المبيع، فردها المشتري، وفسخ البيع، فإن قلنا: الإجارة لا تنفسخ إذا ملك المكتري العين.. فإنه يستوفي ما بقي له من الإجارة بعد الرد بالعيب، وإن قلنا بقول ابن الحداد: إن الإجارة تنفسخ إذا ملك المكتري العين.. فإن الإجارة لا تعود بالرد بالعيب؛ لأن الإجارة انفسخت حين ملكها بالشراء، فلا تعود الإجارة بالرد بالعيب إلا بعقد جديد.

(7/373)


[فرع: وجد المكتري في العين عيبًا بعد بيعها من آخر]
وإن اكترى رجل من رجل عينًا مدة، ثم باعها المكري من غير المكتري قبل انقضاء المدة، وقلنا: يصح البيع، فوجد المكتري بالعين عيبًا فردها.. فلمن تكون منفعة العين فيما بقي من مدة الإجارة؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال ابن الحداد: تكون للمشتري؛ لأن المنفعة تابعة للرقبة، وإنما استحقها المكتري بعقد، فإذا زال حقه.. عادت إلى مالك العين، كما نقول فيمن زوج أمته من رجل، ثم باعها من آخر، ثم طلقها الزوج، فإن منفعة البضع تكون للمشتري.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: بل تكون المنفعة فيما بقي من مدة الإجارة للمكري؛ لأن المشتري ملك العين مسلوبة المنفعة تلك المدة، فلا يجوز أن يرجع إليه ما لم يملكه، ولأن المكري يستحق عوض المنفعة على المكتري تلك المدة، فإذا سقط العوض.. عاد المعوض إليه.
قال القاضي أبو الطيب: فعلى قول من خالف ابن الحداد: يجوز أن يبيع الرجل داره، ويستثنى منفعته مدة معلومة، وعلى قوله فيها: لا يصح.

[مسألة: أجر الموقوف له العين الموقوفة]
إذا أجر الموقوف عليه العين الموقوفة عليه مدة.. فهل تصح الإجارة؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 334] :
أحدهما: لا تصح الإجارة؛ لأنه لا يملك العين، وإنما يملك منفعتها مدة حياته، ولعله يموت قبل مضي مدة الإجارة، فلم تصح الإجارة، كما لو استعار عينًا من غيره مدة، وأجرها.
والثاني: يصح، وهو قول البغداديين من أصحابنا، وهو المشهور؛ لأن منفعة الوقف الآن حق له، فجاز له العقد عليها، كما لو استأجر عينًا، ثم أجرها.

(7/374)


وهذان الوجهان إنما هما إذا جعل الواقف النظر للموقوف عليه، أو لم يجعل الواقف النظر إلى أحد، وقلنا: إن النظر فيه يكون للموقوف عليه.
فأما إذا جعل الواقف النظر في الوقف على أهل البطون إلى رجل، فأجر الوقف عليهم مدة.. صحت الإجارة، وإذا مات أهل البطن الأول.. استحق أهل البطن الثاني أجرة العين من حين انتقال الوقف إليهم، ولا تبطل الإجارة بموت أهل البطن الأول، وجهًا واحدًا.
وأما إذا كان النظر في الوقف للموقوف عليه، فأجر الوقف مدة، وقلنا: تصح، ثم مات الموقوف عليه قبل انقضاء مدة الإجارة.. فهل تبطل الإجارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تبطل، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأنه أجر عينًا ملك عقد الإجارة عليها، فلم تبطل بموته، كما لو أجر عينًا يملكها مدة، ثم مات قبل انقضاء المدة.
والثاني: تبطل بموت الموقوف عليه الأول؛ لأن منافع الوقف بعد موت الأول حق للثاني، فلا ينفذ عقده عليها من غير إذن ولا ولاية.
ويفارق إذا أجر ملكه ثم مات؛ لأن الوارث يملك من جهة المورث، وقد زال ملك المورث عن المنفعة، والموقوف عليه الثاني يملك من جهة الواقف، فلا ينفذ عقد الأول.
فإذا قلنا: لا تبطل الإجارة، فإن كان ما يخص البطن الثاني من الأجرة على المكتري لم يقبضه منه الأول.. أخذه منه الثاني، وإن كان الأول قد قبضه من المكتري.. رجع الموقوف عليه الثاني بذلك في تركة الأول؛ لأنه لما لزم الثاني عقد الأول.. لزمه قبضه.
وإذا قلنا: تبطل الإجارة فيما بقي من المدة.. فهل تبطل فيما مضى؟ فيه طريقان:

(7/375)


فـ[الأول] : إذا قلنا: تبطل.. كان للموقوف عليه الأول أجرة المثل؛ لما مضى.
و [الثاني] : إن قلنا: لا تبطل.. ثبت للمكتري وورثة الأول الخيار في فسخ عقد الإجارة، فإن فسخاه أو أحدهما.. كان لورثة الأول أجرة المثل فيما مضى، وإن لم يفسخه واحد منهما.. كان لهم بقسط ما مضى من المدة من المسمى.

[فرع: بلوغ الصبي يؤثر في الإجارة]
وإن أجر رجل صبيًا له عليه ولاية، أو أجر ماله مدة، ثم بلغ الصبي قبل انقضاء المدة.. فهل تنفسخ الإجارة؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: لا تنفسخ، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأنه عقده في حال ولايته عليه، فصار كما لو زوجه، ثم بلغ.
ومنهم من قال: تنفسخ؛ لأنه بان بالبلوغ أن تصرف الولي عليه إلى هذا الوقت.
ومنهم من قال: ينظر فيما عقد عليه الولي من المدة:
فإن تحقق أن الصبي يبلغ قبل انقضائها، مثل: أن يكون له أربع عشرة سنة، فأجره سنتين.. فإنه لا يصح في السنة الأخيرة؛ لأنه يتحقق أنه يبلغ بخمس عشرة سنة، وهل يصح في الأولى؟ على قولين في تفريق الصفقة.
وإن كانت مدة لا يتحقق بلوغه فيها، مثل: أن يؤجره وله أربع عشرة سنة، فبلغ فيها بالاحتلام.. لم تنفسخ الإجارة، وكانت لازمة له.
قال ابن الصباغ: وعندي: أن الوجهين الأولين إنما هما إذا كانت مدة الإجارة لا يتحقق بلوغه فيها، وأما إذا كان يتحقق بلوغه فيها.. فلا يلزم بعقد الولي؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يعقد على منافعه طول عمره، ويفارق النكاح؛ لأن النكاح لا يمكن تقدير مدة فيه.
وبالله التوفيق

(7/376)


[باب تضمين المستأجر والأجير]
إذا استأجر عينًا لمنفعة فقبضها، فتلفت في يده مدة الإجارة من غير فعله.. لم يلزمه ضمانها؛ لأنه قبضها لمنفعة يستحقها، فهو كما لو اشترى ثمرة نخلة، فتلفت النخلة حال أخذه الثمرة، وإن تلفت بفعله.. نظرت:
فإن كان فعلًا جائزًا، كضرب البهيمة المعتاد للمشي، وكبحها المعتاد باللجام.. لم يلزمه ضمانها، وبه قال أبو يوسف.
وقال أبو حنيفة: (يلزمه ضمانها، كما لو ضرب زوجته فماتت) .
دليلنا: أن الضرب والكبح المعتاد معنى تضمنه عقد الإجارة، فلم يكن موجبًا للضمان، كالركوب، ويخالف ضرب الزوجة، فإنه كان يمكنه تخويفها وزجرها بالكلام، بخلاف الدابة.
وإن كان فعلًا غير جائز، بأن ضربها ضربا غير معتاد، أو كبحها كبحًا غير معتاد، فماتت.. لزمه ضمانها؛ لأنه متعد بذلك، فلزمه ضمانها كما لو ذبحها.
مسألة: [استأجر ظهرًا مسافة فزاد عليها] :
وإن اكترى ظهرًا ليركبه من الجند إلى عدن، فركبه إلى عدن، ثم ركبه من عدن إلى أبين.. فإن عليه الأجرة المسماة إلى عدن؛ لأنه ملك ذلك عليه، وعليه

(7/377)


أجرة المثل بركوبه من عدن إلى أبين.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه أجرة المثل لما زاد) . بناء على أصله: أن المنافع لا تضمن بالغصب. وقد مضى ذلك.
وقال مالك: (إذا جاوز بها إلى مسافة بعيدة، مثل: أن اكتراها من بغداد إلى واسط، فركبها إلى البصرة.. فصحابها بالخيار: بين أن يطالبه بأجرة المثل، وبين أن يطالبه بقيمتها يوم التعدي) .
دليلنا [على أبي حنيفة] : أنه استوفى أكثر مما استحقه، فهو كما لو اشترى من رجل عشرة أقفزة فقبض منه خمسة عشر قفيزًا.
وعلى مالك: لأن العين قائمة، فلا يطالب بقيمتها، كما لو كانت المسافة قريبة.
وأما وجوب ضمان الظهر على المكتري: فإنه يضمنه من حين جاوز من عدن إلى أبين؛ لأنه تعدى بالمجاوزة، فإن رده من أبين إلى عدن.. فإنه لا يزول عنه الضمان حتى يرده إلى يد مالكه أو وكيله، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، وفرَّقا بينها وبين الوديعة بأنه إذا تعدى فيها، وردها إلى الحرز.. زال عنه الضمان؛ لأن الوديعة مأذون في إمساكها، والظهر غير مأذون له في إمساكه بعد العود.
وقال محمد، وزفر: يزول عنه الضمان في الإجارة إذا رده إلى الموضع الذي اكترى إليه، كما قالوا في الوديعة إذا ردها إلى الحرز.
دليلنا: أنه ضمنها بالتعدي، فلا يزول الضمان عنه بالرد إلى المكان، كما لو غصب عينًا، وردها إلى المكان الذي غصبها منه.
وإن مات الظهر.. نظرت:

(7/378)


فإن مات في المسافة التي استأجر إليها.. لم يلزمه ضمانه؛ لأنه أمانة في يده. وإن مات بعد أن جاوز به المكان الذي استأجر إليه.. نظرت:
فإن كان صاحبها معها، بأن كانا لما بلغا إلى عدن جاوز بها المستأجر إلى أبين وصاحبها ساكت يسير معها.. فإن المكتري لا يضمنها باليد؛ لأن يد صاحبها عليها؛ لأنه لم تزل يده عنها، فهو كما لو سرق الرجل جملًا وعليه خز.. فإنه لا يضمنه.
فإن نزل المستأجر عن الدابة، وتلفت بعد نزوله عنها، أو مضى بها صاحبها لسقيها، فتلتف في يده.. لم يجب على المكتري الضمان؛ لأنها تلفت في يد صاحبها.
وإن تلفت والمكتري راكب عليها.. فالظاهر أنها تلفت من فعلين:
أحدهما: لا يوجب الضمان، وهو ركوبه لها إلى المكان الذي اكترى إليه.
والثاني: يوجب الضمان، وهو ركوبه لها بعد المجاوزة، فيلزمه الضمان، وفي قدر ما يلزمه قولان:
أحدهما: يلزمه نصف قيمته؛ لأن الظهر تلف من جائز وغير جائز، فلزمه نصف قيمتها، كما لو جرحه مالكه، وجرحه المكتري، ومات.
والثاني: تسقط القيمة على المسافتين، فما قابل المسافة التي اكترى إليها.. لا تجب عليه، وما قابل المسافة التي تعدى بها.. تجب عليه؛ لأنه يمكن التقسيط للقيمة عليهما.
وأصل هذه المسألة: إذا أمر الإمام الجلاد أن يجلد رجلًا ثمانين جلدة في القذف، فجلده إحدى وثمانين، فمات المجلود.. فكم يضمن الجلاد؟ على قولين:
أحدهما: نصف الدية.
والثاني: جزءًا من إحدى وثمانين جزءًا من الدية.

(7/379)


وسئل الشيخ أبو حامد عمن سخر رجلًا مع بهيمته، فتلفت البهيمة في يد صاحبها؟ فقال: لا يضمنها الغاصب؛ لأنها في يد صاحبها.
وأما إذا لم يكن المكري مع الظهر، فتلف الظهر في يد المكتري بعد أن جاوز به المكان الذي اكترى إليه.. فإنه يلزمه جميع قيمته أكثر ما كانت من حين جاوز به إلى أن تلف؛ لأنه تعدى بذلك، وقد تلف في يده، فهو كالغاصب.

[فرع: اكتريا ظهرًا فركب ثالث]
وإن اكترى رجلان ظهرًا ليركباه، فركباه، وارتدف معهما ثالث بغير إذن، فتلف الظهر.. وجب على المرتدف الضمان؛ لأنه تعدى بذلك. وفي قدر ما يلزمه ثلاثة أوجه:
أحدها: يلزمه نصف قيمة الظهر؛ لأنه تلف من جائز وغير جائز.
والثاني: يلزمه ثلث قيمته؛ لأن الرجال لا يوزنون، فيقسط على عددهم.
والثالث: تقسط القيمة على أوزانهم؛ لأنه يمكن وزنهم.
فرع: [اكترى مركبة ليحمل عليها وزنًا معينًا] :
إذا اكترى منه بهيمة ليحمل عليها عشرة أقفزة إلى بلد، فحمل عليها طعامًا، فكيل، فوجد أحد عشر قفيزًا، فإن كانت تلك الزيادة حصلت بفعل المكتري، بأن كان المكتري هو الذي كال الطعام، وحمله على البهيمة، وساقها، فتلفت البهيمة.. فإنه يجب على المكتري الأجرة المسماة لحمل العشرة الأقفزة، ويجب عليه أجرة

(7/380)


المثل بحمل ما زاد على عشرة، كما لو اكتراه إلى بلد، فجاوز به إلى غيره، ويجب عليه جميع قيمة البهيمة؛ لأنها تلفت تحت يده بعدوانه، وإن كان صاحبها معها.. لزم المكتري الضمان؛ لما تعدى به من حمله على البهيمة أكثر مما يستحقه. وفي قدر ما يلزمه من الضمان قولان:
أحدهما: نصف قيمتها.
والثاني: يقسط الزائد، بناء على القولين في الجلاد إذا جلد إحدى وثمانين.
وليس للمكتري أن يطالب المكري برد الزيادة إلى البلد الذي اكترى منه. وأما إن كانت الزيادة حصلت بفعل المكري، بأن فوض المكتري إليه أن يكيل عشرة أقفزة، ويحملها على بهيمة، فكال المكري أحد عشر قفيزًا، وحملها على بهيمته.. فإنه غاصب لما زاد على العشرة؛ لأنه قبضه بغير إذن مالكها، ولا تجب له أجرة بحمله؛ لأنه متطوع بحمله، فإن تلفت البهيمة.. لم يلزم المكتري ضمانها؛ لأنها تلفت بفعل صاحبها، وللمكتري أن يطالب المكري برد ما زاد على العشرة إلى البلد الذي اكترى منه؛ لأنه حمله بغير إذنه، وليس للمكتري إجباره على رده، بل لو اختار إقراره في البلد الذي حمله إليه.. كان له؛ لأنه عين ماله.
وإن لقيه المكتري في البلد الذي حمل منه الطعام.. فهل له أن يطالبه ببدل الطعام إلى أن يرد إليه طعامه؟
نقل المزني: (أن له مطالبته ببدله) . وقال في " الأم ": (له مطالبته برده) . وقد قيل: له المطالبة ببدل الطعام.
ومن أصحابنا من قال: له المطالبة ببدله إلى أن يرد إليه طعامه، كمن غصب من رجل عبدًا، فأبق منه.
ومنهم من قال: ليس له المطالبة ببدله؛ لأن عين ماله باقية يمكن ردها، ويفارق الآبق، فإنه لا يمكن رده، والذي حكاه الشافعي فليس بمذهب له.
وأما إذا كال المكتري أحد عشر قفيزًا، وحملها المكري على بهيمته، ولم يعلم.. ففيه وجهان:

(7/381)


أحدهما: أن حكمه حكم ما لو كاله المكتري، وحمله على البهيمة؛ لأن التدليس حصل بالكيل؛ لأن المكري لم يعلم به.
والثاني: أن حكمه حكم ما لو كاله المكري، وحمله على البهيمة؛ لأنه مفرط في ذلك، وكان الاحتياط أن لا يحمل إلا بعد المعرفة بقدره.
وهذان الوجهان مأخوذان من القولين فيمن سم طعامه، وقدمه إلى غيره، فأكله.
قال أبو إسحاق: وهذا إذا كانت الزيادة بحيث يمكن الاحتراز منها، ولا يقع التفاوت فيها بين الكيلين، وأما إذا كانت يسيرة لا يمكن الاحتراز منها، ويقع مثلها في الكيلين، مثل: أن يزيد مكوكًا أو مكوكين.. فلا يكون لها حكم في أجرة ولا ضمان ولا رد؛ لأن ما يقع في المكيال في العادة من الغلط يعفى عنه، كما يعفى عن الغبن الذي يتغابن الناس بمثله في بيع الوكيل.
وإن كانت الزيادة بفعل أجنبي، بأن استأمنه المكتري والمكري على أن يكيل عشرة أقفزة، ويحمله على البهيمة، فكال عليها أحد عشر قفيزًا، وحمله عليها.. فإنه يجب عليه أجرة المثل للزيادة للمكري، ويجب عليه ضمان البهيمة إن تلفت، ويجب عليه رد الزيادة للمكتري إلى البلد الذي حمل منه؛ لأنه تعدى بمال كل واحد منهما، فتعلق لكل واحد منهما حكم التعدي في ماله.

[فرع: اختلاف المكري والمكتري في وزن الحمل]
وإن اختلف المكري والمكتري في الزيادة، بأن قال المكتري: أنا حملت عليها أحد عشر قفيزًا، وقال المكري: بل حملت أنت عليها عشرة أقفزة، وحملت عليها لنفسي قفيزًا.. قال الشيخ أبو حامد: فالقول قول المكري مع يمينه؛ لأن يده عليها. قيل له: وإن كان المكتري مع الطعام؟ قال: نعم؛ لأن ذلك على بهيمة المكري ويده عليها وعلى المتاع الذي عليها.

(7/382)


[فرع: اكترى أرضًا ليزرعها حنطة فزرع غيرها]
] : وإن اكترى أرضًا ليزرعها حنطة، فزرعها ما هو أضر من الحنطة، بأن زرعها ذرة أو دخنًا.. فاختلف أصحابنا فيما يلزمه من الأجرة:
فقال الشيخ أبو إسحاق: هي على قولين:
أحدهما: يلزمه أجرة المثل للأرض؛ لأنه تعدى بالعدول عن المعقود عليه إلى غيره، فلزمه أجرة المثل، كما لو استأجر أرضًا ليزرعها وزرع غيرها.
والثاني: يلزمه الأجرة المسماة وأجرة المثل للزيادة؛ لأنه استوفى ما استحقه وزيادة، فأشبه إذا استأجر ظهرًا إلى مكان، فجاوز به.
وقال الشيخ أبو حامد: فيه قولان:
أحدهما: يلزمه المسمى وأجرة المثل للزيادة.
والثاني: أن المكري بالخيار: إن شاء.. أخذ المسمى وأجرة المثل للزيادة، وإن شاء.. أخذ أجرة المثل للجميع.
وقال القاضي أبو حامد: المسألة على قول واحد، وأن المكري بالخيار: إن شاء.. أخذ المسمى وأجرة المثل للزيادة، وإن شاء.. أخذ أجرة المثل للجميع؛ لأنه أخذ شبهًا ممن اكترى أرضًا، فزرع غيرها، وشبهًا ممن اكترى ظهرًا إلى مكان، فجاوز به إلى غيره، فخير بين موجبيها.
وإن اكترى ظهرًا ليحمل عليه مائة منا قطنًا، فحمل عليه مائة منا حديدًا.. فهو كما لو اكترى أرضًا ليزرعها حنطة، فزرعها دخنًا على ما مضى من الخلاف. والذي

(7/383)


يقتضيه المذهب: أن الأرض والبهيمة إذا تلفتا تحت يد المكتري.. وجب عليه ضمانهما؛ لأنه تعدى بما فعله، فصار ضامنًا لهما بذلك.

[مسألة: تلف العين بيد الأجير]
وإن استأجر رجل رجلًا ليعمل له في عين، فتلفت العين في يد الأجير.. نظرت: فإن كان بتفريط من الأجير، مثل: أن استأجره ليخبز له، فألزق الخبز قبل أن يسكن حمي التنور أو الفرن ويهدأ لهبه، أو ترك الخبز فيه أكثر مما يترك في العادة، فاحترق.. ضمنه بكل حال؛ لأنه هلك بعدوانه.
وإن هلك بغير تفريط من الأجير.. نظرت:
فإن كان يعمل في ملك المستأجر، مثل: أن استدعى خياطًا إلى داره أو دكانه ليخيط له، أو استدعى صباغًا إلى ملكه ليصبغ له، أو لم يكن في ملكه، إلا أنه واقف مع الأجير مشاهد له، فتلفت العين من غير تفريط من الأجير.. فلا يجب على الأجير ضمانها، قولًا واحدًا؛ لأن يد المالك ثابتة على عين ماله حكمًا، فهو كما لو أجر رجلًا دابة ليركبها، فركبها وصاحبها معها.
وإن لم تكن يد صاحبها عليها، مثل: أن كان الخياط يخيط في ملك نفسه، والمستأجر غائب عنه، فتلفت العين من غير تفريط من الأجير.. فهل يجب على الأجير الضمان؟ ينظر فيه:
فإن كان أجيرًا مشتركًا.. ففيه قولان:
أحدهما: يجب عليه الضمان، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، وروي ذلك عن عمر، وعلي.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» ، ولأنه قبض العين لمنفعة نفسه من غير استحقاق، فضمنها، كالعارية.

(7/384)


فقولنا: (لمنفعة نفسه) احتراز من الوديعة.
وقولنا: (بغير استحقاق) احتراز من الرهن ومن العين التي استأجرها.
والثاني: لا يجب عليه الضمان، وبه قال عطاء، وطاوس، وزفر، وأحمد، وإسحاق، والمزني. وهو الصحيح؛ لأنها عين قبضها بعقد الإجارة، فلم يضمنها من غير تعد، كالعين المستأجرة، أو لأنها عين قبضها لمنفعة نفسه ومنفعة المالك، فلم يضمنها من غير تعد فيها، كمال القراض والنخل في المساقاة.
وقال الربيع: كان الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يذهب إلى: أنه لا ضمان على الأجير، قولًا واحدًا، وإنما كان لا يبوح به لفساد الصناع. هذا مذهبنا.
وقال أبو يوسف، ومحمد: إن تلفت العين بأمر ظاهر، كالحريق، والنهب.. فلا ضمان عليه، وإن تلفت بغير ذلك.. ضمن.
وقال أبو حنيفة: (إن تلفت بفعله.. ضمنها وإن كان الفعل مأذونًا فيه، وإن تلفت بغير فعله.. فلا ضمان عليه) . وتوجيه القولين دليل عليهم.
وإن كان الأجير منفردًا.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هو على قولين. وهو المنصوص؛ لأن الشافعي قال: (والأجراء كلهم سواء) .
ومنهم من قال: لا يجب عليه الضمان، قولًا واحدًا، كما لو كان العمل في دكان المستأجر.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في صفة الأجير المشترك والمنفرد:
فمنهم من قال: (المشترك) : هو الذي استأجره على عمل في ذمته؛ لأن لكل أحد أن يستأجره على عمل في ذمته، وهو مشترك بين الناس. و (المنفرد) : هو الذي استأجره ليعمل له مدة؛ لأنه لا يجوز لغيره أن يستأجره في تلك المدة، فقد انفرد بها.
ومنهم من قال: (المشترك) : هو أن يستأجره ليعمل له شيئًا، وقال له: اعمله في أي موضع شئت، فيجعله شريكًا في الرأي والتدبير. و (المنفرد) : أن يستأجره

(7/385)


ليعمل له شيئًا، وقال: اعمله في هذا الموضع، ولا تعمله في غيره. والصحيح هو الأول.

[فرع: استأجر معلمًا ليعلم صبيًا]
وإن استأجر رجلًا ليعلم له صبيًا.. فللمعلم أن يضربه ويؤدبه على التعليم؛ لأن العادة جرت به.
فإن مات الصبي منه.. وجب على الأجير ضمانه، قولًا واحدًا؛ لأنه قد كان يمكنه تأديبه بالتخويف والزجر بالقول، بخلاف البهيمة، حيث قلنا: إذا ضربها المستأجر ضربًا معتادًا، فماتت منه.. لم يجب عليه ضمانها؛ لأنه لا يمكن زجرها بغير ذلك.
وإن مات الصبي في يد المعلم من غير فعل منه، فإن كان حرًا.. لم يجب عليه ضمانه، قولًا واحدًا؛ لأن يده ثابتة على نفسه، وإن كان مملوكًا.. فعلى قولين؛ لأن يد المعلم تثبت على المملوك.

[فرع: لا يد للحجام على الحر]
ولا يد للحجام على الحر، فإن مات بغير تعد من الحجام فيه.. لم يجب عليه ضمانه، قولًا واحدًا؛ لأن يد الحر ثابتة على نفسه، وإن كان المحجوم مملوكًا، فمات وهو في يد الحجام بغير تعد منه فيه.. فهل يجب عليه ضمانه؟ فيه قولان، كالبهيمة.
وإن استأجر رجلًا ليرعى له غنمًا، فتلفت في يد الأجير من غير تفريط منه، فإن كان يرعاها في ملك صاحبها، أو في غير ملكه إلا أن مالكها مشاهد لها.. لم يجب على الراعي ضمانها، قولًا واحدًا، وإن كان يرعاها في موات، أو في ملك الأجير ومالكها غير مشاهد لها.. فهل يجب عليه ضمانها؟ فيه قولان.
وإن استأجر له رجلًا ليحفظ له متاعًا في دكانه.. لم يضمنه الأجير من غير تفريط منه، قولًا واحدًا؛ لأنه في ملك صاحبه.

(7/386)


[فرع: استأجر سائسًا ليروض دابته]
وأن استأجر رواضًا ليروض له دابة.. فله أن يضربها ويكبحها باللجام، ويحمل عليها في السير أكثر مما يكون لمستأجر الدابة؛ لأن القصد تأديبها، وذلك لا يحصل إلا بذلك، فإن فعل ذلك وماتت منه، فإن كانت في ملك صاحبها، أو كان مشاهدًا لها.. لم يجب على الرائض ضمانها، قولًا واحدًا؛ لأن يد صاحبها عليها، وإن كان في غير ملك صاحبها وهو غائب عنها.. فهل يجب على الأجير ضمانها؟ فيه قولان.
وإن ضربها، أو كبحها، أو حمل عليها في السير أكثر مما جرت عادة الرواض به، فماتت.. ضمنها، قولًا واحدًا؛ لأنه متعد بذلك.

[فرع: ما يضمنه الأجير]
وأما قدر ما يضمنه الأجير.. فينظر فيه:
فإن استأجره ليعمل له في عين في ملكه أو غير ملكه وهو مشاهد لها.. فقد قلنا: إنه لا يضمنها الأجير إلا بالتعدي فيها، فإن تعدى الأجير فيها، ثم أتلفها.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يلزمه قيمتها يوم الإتلاف لا يوم التعدي؛ لأنه إذا تعدى فيها وهي باقية.. فيد مالكها عليها، فزال تعديه بثبوت يد صاحبها عليها.
وإن كان الأجير يعمل في غير ملك المستأجر والمالك غير مشاهد لها، فإن قلنا: إن يده يد أمانة فتعدى فيها.. لزمه قيمتها أكثر ما كانت من حين التعدي إلى أن تلفت. وإن قلنا: إن يده ضمان.. لزمه قيمتها أكثر ما كانت من حين قبضها إلى أن تلفت.
ومن أصحابنا من قال: يجب قيمتها يوم التلف إلا أن يتعدى بها.. فيلزمه على هذا قيمتها أكثر ما كانت من حين تعدى بها إلى أن تلفت. والأول أصح.
وأما وجوب الأجرة للأجير إذا تلفت العين بعد أن عمل جميع العمل أو بعضه.. فينظر فيه:

(7/387)


فإن كان العمل في ملك المستأجر أو في غير ملكه وهو مشاهد لها.. استحق الأجير أجرة ما عمل؛ لأنه كلما عمل الأجير شيئًا.. صار قابضًا له.
قال الشيخ أبو حامد: إلا أن يكون الأجير تعدى في العين حين ابتدأ في العمل، فإنه لا يستحق أجرة ما عمل؛ لأنه متعد حين العمل، فلم يستحق أجرة.
وإن كان العمل في ملك الأجير والمستأجر غير مشاهد له.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو إسحاق: إن قلنا: إنه أمين.. لم يستحق الأجرة؛ لأنه لم يسلم العمل، وإن قلنا: إنه ضامن.. استحق عليه الأجرة؛ لأنه يقوم عليه معمولًا، فيصير بالتضمين مسلمًا للعمل، فاستحق الأجرة.
وقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: لا يستحق الأجير الأجرة على القولين، وإن كان قد أخذ الأجرة.. ردها؛ لأن الأجرة إنما تستقر له بتسليم العمل، ولم يسلم له شيئًا من العمل.

[فرع: استأجر حائكًا لينسج غزله]
قال ابن الصباغ: إذا دفع إلى حائك غزلًا، واستأجره لينسجها له ثوبًا طوله عشرة أذرع في عرض أربعة، فنسجه دون الطول والعرض المذكورين.. استحق من الأجرة بحصة ما عمل من المسمى، وإن نسجه أكثر مما قدر له.. لم يستحق زيادة على المسمى.
وقال محمد بن الحسن: إذا جاء به أكثر من الذرع المشروط أو أقل.. فصاحب الثوب بالخيار: بين أن يطالبه بمثل غزله ويدفع إليه الثوب، وبين أن يدفع إليه بحسابه من الأجرة؛ لأن غرضه لم يسلم له. وهذا غير صحيح؛ لأنه استأجره ليعمل له عملًا، فعمل له بعضه فاستحق بقدره من الأجرة، كما لو استأجرة ليضرب له لبنا معلومًا، فضرب له بعضه.

(7/388)


[فرع: استأجره لينسج ثوبًا صفيقًا]
قال الطبري: وإن استأجره لينسج له غزلًا ثوبًا صفيقًا، فنسجه رقيقًا.. فله أجرة المثل، وإن استأجره لينسجه رقيقاُ، فنسجه صفيقًا.. فله المسمى، ولا شيء له للزيادة في العمل.
وقال أبو حنيفة: (يضمن قيمة الغزل في الحالين، والثوب له) .
دليلنا: أن ما عمله من جنس ما استؤجر عليه، والنقص عن المشروط عبث بمال الغير، فاقتضى ضمانًا، ولا ينقل الملك قهرًا، والزيادة التي أحدثها متطوع بها، فلم يستحق لأجلها أجرة.
وإن جحد النساج الغزل، ثم نسجها ثوبًا.. فالثوب لمالك الغزل، ولا شيء للأجير.
وقال أبو حنيفة: (الثوب للنساج، وعليه قيمة الغزل) .
دليلنا: أنه صار ضامنًا له بالجحود، فلا يستحق أجرة بعد ذلك، ولا يملكها، كالغاصب.

[فرع: استأجره بريدًا]
وإن استأجر رجلًا ليحمل له إلى رجل كتابًا، ويرد الجواب، فأوصل الأجير الكتاب إلى المكتوب إليه، فمات المكتوب إليه قبل رد الجواب.. فللأجير من الأجرة بقدر ذهابه.
وقال أبو حنيفة: (لا شيء له) .
دليلنا: أنه عمل بعض ما استؤجر عليه على مقتضى الأمر، فاستحق من الأجرة بقدر ما عمل، كما لو كتب إلى جماعة، فأوصل إليهم، فرد بعضهم الجواب دون بعض.

(7/389)


وإن استأجره ليحمل له الكتاب إلى رجل، ولم يقل: وترد الجواب، فلم يجد الأجير المكتوب إليه. استحق الأجير الأجرة.
وقال أبو حنيفة: (لا يستحق) .
دليلنا: أنه عمل المعقود عليه؛ لأن عليه قطع المسافة بالكتاب، فاستحق الأجرة، كما لو وجد المكتوب إليه، فدفع إليه الكتاب، فامتنع من أخذه.

[مسألة: إتلاف الخياط القماش]
إذا دفع إلى رجل ثوبًا، وقال: إن كان يكفيني للقميص فاقطعه لي قميصًا، فقطعه، فلم يكفه.. لزم القاطع الضمان، لأنه أذن له بالقطع بشرط، وقد قطعه من غير وجود الشرط، فضمنه.
وإن قال: أيكفينى للقميص؟ فقال: نعم، فقال: اقطعه لي قميصًا، فقطعه، فلم يكفه.. لم يلزم القاطع الضمان؛ لأنه قطعه بإذن مطلق.
وإن دفع إلى رجل ثوبًا، فقال: استأجرتك لخياطته، فإن خطته روميًا فلك درهمان، وإن خطته فارسيًا فلك درهم.. فالأجرة فاسدة.
وقال أبو حنيفة: (الأجرة صحيحة) .
دليلنا: أن المنفعة المعقود عليها غير معينة، فلم تصح، كما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين، أو بعتك هذا الثوب بدرهم، أو هذا العبد، أو هذين العبدين بدرهمين.

[فرع: أجرة الحمامي]
واختلف أصحابنا فيما يأخذه الحمامي:
فمنهم من قال: هو ثمن الماء، وهو متطوع بحفظ الثياب، ومعير للسطل.

(7/390)


فعلى هذا: لا يضمن الحمامي الثياب إذا تلفت من غير تفريط، وله عوض السطل إذا تلف بكل حال.
ومنهم من قال: هو أجرة الدخول والسطل ولحفظ الثياب.
فعلى هذا: لا يضمن الداخل السطل إذا تلف بغير تعد منه.
وهل يضمن الحمامي الثياب إذا لم يفرط فيها؟ على قولين؛ لأنه أجير مشترك.

[مسألة: ارتكاب الأجير محظورًا في الحج]
إذا ارتكب الأجير في الحج شيئًا من محظورات الحج، بأن تطيب أو لبس.. وجبت الفدية في ماله؛ لأنها جناية، فكان بدلها عليه.
وإن استأجره ليقرن عنه أو يتمتع.. فإن الدم يجب على المستأجر؛ لأنه وجب بإذنه.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] فيها قولًا مخرجًا: أنه يجب على الأجير، كدم الجبرانات. والأول هو المشهور.
فإن شرط المستأجر: أن دم القران والتمتع على الأجير.. بطلت الإجارة؛ لأنه في معنى بيع وإجارة، إلا أن الهدي مجهول، فلذلك لم يصح، قولًا واحدًا.

[فرع: إفساد الأجير الحج]
وإن أفسد الأجير الإحرام بالوطء.. فإن الإحرام ينقلب إلى الأجير، وعليه أن يمضي في فساده، ويلزمه بدنة، ويلزمه القضاء.
وقال المزني: لا ينقلب إلى الأجير، بل يمضي فيه الأجير عن المستأجر، ولا يجب القضاء على أحدهما؛ لأن الحج لا يجوز أن ينعقد عن شخص وينقلب إلى

(7/391)


غيره، ولا يجب القضاء على الأجير؛ لأن الحج فسد على غيره ولا على المستأجر؛ لأنه لم يفسد. وهذا خطأ؛ لأنه أتى بالحج على غير الوجه المأذون فيه، فوقع عنه، كما لو وكله أن يشتري له عينًا بصفة، فاشترى له عينًا بغير تلك الصفة، وهل تنفسخ الإجارة؟
قال ابن الصباغ: إن كانت الإجارة على حج الأجير بنفسه.. انفسخت الإجارة؛ لأن المعقود عليه حجه بنفسه في هذه السنة، وقد فات ذلك، وإن كانت الإجارة على حج في الذمة.. فهل يثبت للمستأجر الخيار؟ ينظر فيه:
فإن كانت الإجارة عن حي.. ثبت له الخيار؛ لأنه يستفيد بذلك التصرف بالأجرة.
وإن كانت الإجارة عن ميت من ماله.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: يثبت للمستأجر الخيار؛ لأن له فائدة في الفسخ، وهو أنه يتعجل عنه الاستئجار في السنة الثانية؛ لأن الأجير يقضي فيها عما أفسده.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لا يثبت له الخيار؛ لأنه لا بد من استئجار غيره. وأما قضاء الأجير في الثانية: فإنه يمكنه أن يستأجر من يحج عن الميت؛ لأن الإجارة في ذمته.

[فرع: إحصار الأجير]
] : وإن أحرم الأجير عن المستأجر، وأتى ببعض النسك، ثم أحصر.. فإنه يتحلل، وعمن يقع ما فعله قبل التحلل؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: يقع عن المستأجر؛ لأنه أتى به على الوجه المأذون فيه، بخلاف الإفساد.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يقع عن المحصر، والدم عليه. قال ابن الصباغ: وهو الأقيس. وهل يكون له شيء من الأجرة؟ على قولين، كما لو مات.

(7/392)


وإن لم يتحلل الأجير، وأقام حتى فات الحج وزال الحصر.. قال ابن الصباغ: انقلب إلى الأجير في قول الشيخ أبي حامد والقاضي، ويتحلل بعمل عمرة، ولا يستحق الأجرة على ما فعل بعد الفوات؛ لأنه فعل ذلك ليتحلل من إحرامه.
وهل يستحق الأجرة لما فعله قبل الإحرام؟ على قولين.
فرع: [استأجره ليحرم من ميقات معين] :
وإن استأجره ليحرم عنه من ميقات طريق، فسلك الأجير طريقًا آخر، فأحرم من ميقاتها.. أجزأ عن المحجوج عنه، ولا يلزم الأجير الدم، ولا يرد شيئًا من الأجرة وإن كان الميقات الذي أحرم منه أقرب إلى الحرم؛ لأن الشرع جعل هذه المواقيت يقوم بعضها مقام بعض من غير نقص.
وإن أحرم عنه من دون الميقات، أو استأجره ليحرم عنه من موضع فوق الميقات، فجاوز ذلك الموضع، وأحرم دونه.. لزم الأجير دم؛ لأنه ترك الإحرام من موضع لزمه الإحرام منه، وهل يلزمه أن يرد شيئًا من الأجرة؟
روى المزني: (أنه يرد بقدره من الأجرة) . وقال في القديم: (أراق دمًا) . ولم يتعرض للأجرة. واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: فيها قولان:
أحدهما: يرد؛ لأنه ترك بعض ما استؤجر عليه.
والثاني: لا يرد؛ لأن ما تركه قد انجبر بالدم، فهو كما لو تطيب أو قتل صيدًا.
ومنهم من قال: يرد، قولًا واحدًا، وسكوته عن الأجرة لا يدل على أنه لا يرد منها شيئًا.
فعلى هذا: يقال: كم أجرة حجه من الميقات أو من الموضع الذي عينه؟ وكم أجرة حجه من الموضع الذي أحرم منه؟ وينظر ما بينهما، فيرد من المسمى مثل تلك النسبة.

(7/393)


فرع: [استأجره في اليمن ليحرم بحج] :
وإن استأجر رجل رجلًا من اليمن ليحرم عنه بالحج من الميقات، فلما بلغ الأجير الميقات، أحرم بعمرة عن نفسه، فلما تحلل عنها، أحرم عن المستأجر بحجة من مكة.. لزم الأجير الدم، لا لأجل المنفعة ـ لأنهما عن شخصين ـ ولكن لأجل أنه ترك الإحرام عن المستأجر من الميقات، وهل يلزم الأجير أن يرد شيئًا من الأجرة؟ على ما مضى من الطريقين.
فإذا قلنا: يلزمه أن يرد.. فكيف يقسط؟ فيه قولان:
قال في " الأم ": (يلزمه أن يرد ما بين حجه من الميقات وبين حجه من مكة، بأن يقال: كم أجرة حجة يحرم بها من الميقات؟ فإن قيل: عشرة.. قيل: فكم أجرة حجة يحرم بها من مكة؟ فإن قيل: تسعة.. لزمه أن يرد عشر المسمى؛ لأن الحج إنما هو من الميقات، وما قبله ليس بحج) .
وقال في " الإملاء ": (تقسط الأجرة هاهنا على المسافة والعمل) . فيقال: كم أجرة حجة يسافر لها من اليمن، ويحرم بها من الميقات؟ فإن قيل: عشرون.. قيل: وكم أجرة حجة يسافر لها من اليمن، ويحرم بها من مكة؟ فإن قيل: عشرة.. لزمه أن يرد نصف المسمى؛ لأنه استأجره على عمل وسفر، وقد جعل السفر عن نفسه، فرد ما في مقابلته.
والفرق بين هذه المسألة على هذا القول والتي قبلها: أن هاهنا صرف المسافة إلى نفسه؛ لأنه اعتمر عن نفسه من الميقات، وفي التي قبلها لم يصرف المسافة إلى نفسه، بل قطعها عن المستأجر؛ لأنه أحرم بالنسك عنه، وإنما ترك بعض العمل. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد.
قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من قال: تقسط على حجة من اليمن وحجة من مكة؛ لأن سفره كان لنفسه. قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأنه لا يعلم ذلك.

(7/394)


فإن فرغ المعتمر من عمرته، ورجع إلى الميقات، فأحرم منه بحجة عن المستأجر.. قال الشيخ أبو حامد: فعلى قوله في " الأم ": (لا يرد شيئًا) ، وعلى قوله في " الإملاء ": (يرد ما بين الموضع الذي استأجره منه وبين الميقات) .

[فرع: استأجره لحج فترك واجبًا]
وإن استأجره للحج، فحج عنه وترك المبيت والرمي.. لزمه من الدماء ما يلزمه إذا ترك ذلك في حجة نفسه، وهل يرد من الأجرة شيئًا؟ على الطريقين فيمن أحرم دون الميقات.
فرع: [استأجره ليحج قارنًا فتمتع] :
إذا استأجره ليقرن بين الحج والعمرة، فأتى بالعمرة والحج عنه متمتعًا.. فقد زاده من وجه، ونقصه من وجه.
أما الزيادة: فلأنه استؤجر على نسكين ليأتي بهما معًا فأفردهما، وهذا أزيد، فلا شيء له بهذه الزيادة؛ لأنه تطوع بها.
وأما النقصان: فلأنه استؤجر ليأتي بهما من الميقات، وقد أتى بالحج من مكة، فيقعان عن المحجوج عنه، ويجب على المستأجر دم التمتع؛ لأنه أذن في نسك يقتضي وجوب الدم.
قال الشيخ أبو حامد: ويجب على الأجير دم لتركه الإحرام بالحج من الميقات. وقال المحاملي: يجزئ الدم الذي على المستأجر عن الأجير.
وهل يجب على الأجير أن يرد بقسط ما ترك من إحرامه بالحج من الميقات إلى مكة؟ فيه طريقان.
قال ابن الصباغ: وهذا يدل على: أن الأجير يجب عليه الدم، إذ لو لم يجب عليه الدم.. لوجب أن يرد من الأجرة، قولًا واحدًا.

(7/395)


فرع: [استأجره ليقرن فأفرد] :
وإن استأجره ليقرن بين الحج والعمرة، فأفرد الحج عنه، فإن أتى بالحج لا غير، فقد استؤجر على نسكين ولم يأت إلا بأحدهما.. فيكون له من الأجرة بقسط ما أتى به، فيقال: كم أجرة حجة وعمرة على وجه القران؟ فإذا قيل: عشرة.. قيل: فكم أجرة حجة مفردة لا عمرة بعدها؟ فإن قيل: ثمانية.. لزمه أن يرد خمس المسمى. وإن أتى بالعمرة بعد الحج.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال ابن الصباغ: لا تقع العمرة عن المستأجر؛ لأنه عين له أن يأتي بها في أشهر الحج، فإذا فات ذلك الوقت لم يكن له أن يأتي بها عنه.
والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أنها تقع عن المستأجر؛ لأنه قد أذن له بها.
فعلى هذا: إن أحرم الأجير بالعمرة من الميقات.. فلا دم عليه؛ لأنه قد أتى بها من الميقات، وقد زاده خيرًا؛ لأن إفراد الحج والعمرة أفضل من القران، ولا يستحق لهذه الزيادة أجرة؛ لأنه متطوع بها. وإن أتى بالعمرة من أدنى الحل.. وجب عليه الدم؛ لأنه أخل بالإحرام بالعمرة من الميقات، وهل يرد من الأجرة شيئًا؟ فيه طريقان.
فرع: [استأجر من يتمتع فقرن] :
إذا استأجر رجلًا ليحج عنه متمتعًا، فقرن الأجير بين الحج والعمرة من الميقات عنه.. وقعًا عن المستأجر، لأنه أذن فيهما، وقد زاد الأجير من وجه، ونقص من وجه، أما الزيادة: فلأنه أتى بالنسكين من الميقات، وأما النقصان: فلأنه استؤجر على أن يأتي بالنسكين منفردين، فجمع بينهما. ويجب على المستأجر دم؛ لأنه أذن في نسك يقتضي وجوب الدم، ولا شيء للأجير بالزيادة حيث أحرم بالحج من الميقات؛ لأنه متطوع به، ولا يلزمه دم لترك إحرامه بالحج من مكة؛ لأن الميقات أبعد منها، وهل يلزمه أن يرد شيئًا من الأجرة لأجل النقصان؟ فيه وجهان:

(7/396)


[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: عليه أن يرد ما بين أجرة المتمتع والقارن من المسمى إن كان بينهما شيء.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لا يلزمه أن يرد شيئًا؛ لأن ذلك العمل يجزئ في الشرع عن العبادتين.
وإن استأجره ليحج عنه متمتعًا، فحج عنه مفردًا، فإن أتى بالحج عنه لا غير.. فقد زاده من وجه، ونقصه من وجه، أما الزيادة: فلأنه كان عليه أن يحرم عنه بالحج من مكة، وقد أحرم به عنه من الميقات، فلا شيء له بهذه الزيادة؛ لأنه متطوع بها، وأما النقصان: فلأنه استأجره ليأتي بنسكين عنه، فأتى عنه بأحدهما، فيرد من الأجرة بقدر ما ترك، فيقال: كم أجرة حجة وعمرة على وجه التمتع؟ فإن قيل: عشرة.. قيل: فكم أجرة حجة يحرم بها من مكة؟ فإن قيل: خمسة.. لزمه أن يرد نصف المسمى. وإنما قلنا: كم أجرة حجة يحرم بها من مكة؛ لأنه تطوع بالإحرام بها من الميقات.
وإن أتى بالعمرة عنه بعد الحج.. قال الشيخ أبو حامد: فإن أحرم بها من الميقات.. فلا دم عليه؛ لأنه زاده خيرًا، وإن أحرم بها من أدنى الحل.. فعليه دم لتركه الإحرام بالعمرة من ميقات البلد، وهل يرد شيئًا من الأجرة؟ فيه طريقان.
وعلى قياس ما قال ابن الصباغ فيمن استؤجر ليقرن، فأفرد الحج وأتى بالعمرة بعده.. أن لا تقع العمرة هاهنا عن المستأجر؛ لأنه استأجره ليأتي بالعمرة عنه في أشهر الحج، وقد فاتت، فلا تقع عنه.
وعلى قياس قول الشيخ أبي حامد أنا إذا قلنا: إن التمتع أفضل من الإفراد.. أن يرد من الأجرة المسماة بقدر ما بين أجرة المتمتع والمفرد.
فرع: [استأجره ليفرد فقرن] :
وإن استأجر رجلًا ليحج عنه مفردًا، فقرن الأجير بين الحج والعمرة عنه.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المناسك الكبير ": (كان الحج والعمرة عن المحجوج عنه، وقد زاده خيرًا، وعلى المستأجر دم القران) .

(7/397)


وجملة ذلك: أن الأجير إذا استؤجر ليفرد الحج، فقرن بين الحج والعمرة، فإن كانت الإجارة عن ميت عليه فرض العمرة، أو عن حي قد كان في كلامه ما يدل على الإذن بالعمرة، بأن يقول: تحج عني وتعتمر بكذا، فيقول الأجير: بل أحج عنك لا غير هذا، ثم عقد الإجارة على إفراد الحج، ثم قرن الأجير الحج والعمرة عنه.. فإن الحج والعمرة يقعان عن المحجوج عنه؛ لأن الميت لا يمكن إذنه. وأما الحي: فقد وجد منه ما يدل على الإذن. وعلى من يجب دم القران؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أنه على الأجير؛ لأن المحجوج عنه لم يصرح بالرضا بوجوبه عليه.
والثاني: على المحجوج عنه؛ لأن النسكين وقعا عنه.
وإن كانت الإجارة عن ميت لا عمرة عليه، أو عن حي لم يكن في كلامه ما يدل على الإذن بالعمرة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقع النسكان عن المحجوج عنه؛ لأن العمرة من جنس الحج وتابعة له، فتضمن إذنه له بالحج إذنًا بالعمرة.
فعلى هذا: على من يجب دم القران؟ على الوجهين الأولين.
والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد، وهو المشهور ـ: أن النسكين يقعان عن الأجير؛ لأنه لم يوجد من المحجوج عنه الإذن في العمرة، فوقعت عن الأجير، وإذا انعقدت له العمرة.. انعقد له الحج؛ لأنهما نسك واحد، فلا يتبعض.
وإن استأجره للإفراد، فتمتع.. قال الشيخ أبو حامد: فإن أتى بالعمرة من الميقات، وبالحج من مكة.. فقد أتى بالعمرة عن المستأجر بغير إذنه.
فإن كان المحجوج عنه ميتًا عليه فرض العمرة، أو حيًا وكان في كلامه ما يدل على الإذن بالعمرة.. وقعت العمرة والحج عن المحجوج عنه، ودم التمتع على الأجير؛ لأن المحجوج عنه لم يأذن بها، ولا شيء للأجير للعمرة؛ لأنه تطوع بها، وعلى

(7/398)


الأجير دم لترك الإحرام بالحج من الميقات، وهل يرد شيئًا من الأجرة؟ على الطريقين.
وإن كان المحجوج عنه ميتًا لا عمرة عليه، أو حيًا لم يوجد منه إذن بالعمرة ولا ما يدل عليه، ولم يعد الأجير للإحرام بالحج إلى الميقات.. فإن العمرة تقع عن الأجير، والحج يقع عن المحجوج عنه، ولا يجب على الأجير دم التمتع؛ لأنهما وقعا عن شخصين، ولكن عليه دم لترك الإحرام بالحج من الميقات، وهل يرد شيئًا من الأجرة؟ على الطريقين.
فإذا قلنا: يجب عليه. فهل تقسط على المسافة والعمل، أو على العمل دون المسافة؟ على قولين، مضى ذكرهما.
وبالله التوفيق

(7/399)


[باب اختلاف المتكاريين]
إذا اختلفا في قدر الأجرة أو في قدر المنفعة.. تحالفا، كما قلنا في المتبايعين إذا اختلفا في الثمن أو المثمن.
وإن اختلفا في التعدي بالعين المستأجرة.. فالقول قول المكتري مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التعدي.
وإن اختلفا في ردها.. فالقول قول المكري مع يمينه، كما قلنا في المعير.
وإن اختلف الأجير المشترك والمستأجر في رد العين التي استؤجر على العمل فيها، فإن قلنا: إنه ضامن.. فالقول قول المستأجر مع يمينه، كالمعير، وإن قلنا: إنه ليس بضامن.. ففيه وجهان، كالوكيل بجعل.
وإن قال الأجير: هلكت العين بعد العمل، فلي الأجرة، وقال المستأجر: بل هلكت قبل العمل فلا أجرة لك.. فالقول قول المستأجر مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته.

[مسألة: اختلاف المستأجر والخياط على الصنع]
إذا دفع إلى خياط ثوبًا، فقطعه قباء، فقال رب الثوب: أمرتك أن تقطعه قميصًا، وقال الخياط: بل أمرتني أن أقطعه قباء.. فقد ذكرها الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في

(7/400)


(اختلاف العراقيين) ، ونقلها المزني، فقال: فيها قولان:
أحدهما: القول قول الخياط، وهو قول ابن أبي ليلى.
والثاني: أن القول قول رب الثوب، وهو قول أبي حنيفة.
قال الشافعي: (وهذا أشبه، وكلاهما مدخول؛ لأن الخياط يدعي الأجرة، وينفي الغرم، ورب الثوب يدعي الغرم، وينفي الأجرة. ولا أقبل قولهما، وأردهما إلى أصل السنة، فيتحالفان) .
وقال في (الإملاء) : (إذا دفع إلى صباغ ثوبًا، فصبغه أسود، فقال رب الثوب: أمرتك أن تصبغه أحمر، فقال الصباغ: بل أمرتني أن أصبغه أسود.. أنهما يتحالفان، وعلى الصباغ أرش النقص) . واختلف أصحابنا في المسألة على ثلاث طرق:
فـ[الأول] : قال أكثرهم: هي على قولين:
أحدهما: أن القول قول الخياط.
والثاني: أن القول قول رب الثوب.
و [الطريق الثانية] : منهم من قال: فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: القول قول الخياط.
والثاني: أن القول قول رب الثوب.
والثالث: أنهما يتحالفان.
و [الطريق الثالثة] : قال الشيخ أبو حامد: الأشبه بالمذهب: أنها على قول واحد، وأنهما يتحالفان؛ لأن الشافعي ذكر القولين في (اختلاف العراقيين) ، وطعن عليهما، ولما ذكر التحالف.. لم يطعن فيه.
فإذا قلنا: القول قول الخياط.. فوجهه: أنه قد ملك القطع لاتفاقهما عليه، فكان الظاهر أنه إنما فعل ما ملكه، فكيف يحلف؟

(7/401)


قال ابن الصباغ: يحلف بالله: ما أذنت لي في قطعه قميصًا، ولقد أذنت لي في قطعه قباء.
وقال الشيخ أبو حامد: يحلف: أن رب الثوب أذن له في قطعه قباء.
فإذا حلف.. لم يلزمه الغرم؛ لأنه حقق بيمينه أنه مأذون له فيما فعله، وهل يستحق أجرة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يستحق؛ لأنه يسقط بيمينه ما يدعى عليه من الغرم، فلا يجوز أن يثبت بيمينه حقا له.
والثاني: أنه يستحق؛ لأنا حكمنا بيمينه أنه مأذون له بالقطع، فاستحق الأجرة.
فإذا قلنا بهذا: فأي أجرة يستحق؟
قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان:
أحدهما: الأجرة التي ادعاها أنها مسماة في العقد؛ لأنا قبلنا قوله: إن رب الثوب أذن له، فوجب له ما اقتضاه الإذن.
والثاني: لا يستحق المسمى، وإنما يستحق أجرة المثل؛ لأنا لو قبلنا قوله.. لم يؤمن أن يدعي ألفًا، وأجرة مثله درهم.
وذكر الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وابن الصباغ: أنه يستحق المسمى، وجهًا واحدًا.
قال الشيخ أبو حامد: ما رأيت أحدًا من أصحابنا يقول: يستحق المسمى، وإن كان القياس يقتضي ذلك.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أن الشيخ أبا حامد، ومن قال: يستحق أجرة المثل ولا يستحق المسمى، أرادوا: إذا كان ما يدعيه من المسمى أكثر من أجرة المثل، فأما إذا كان الذي يدعيه من المسمى أقل من أجرة المثل.. استحق ذلك، وجهًا واحدًا إذا قلنا: إنه يستحق الأجرة؛ لأنه لا يجوز أن يوجب له أكثر مما يدعيه.
وإذا قلنا: إن القول قول رب الثوب ـ قال في (التعليق) : وهو الأصح ـ فوجهه:

(7/402)


قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» . والخياط يدعي على رب الثوب الإذن، ولأنهما لو اختلفا في أصل الإذن.. لكان القول قول رب الثوب، فكذلك إذا اختلفا في صفته.
قال ابن الصباغ: وعندي: أنه يكفيه أن يحلف أنه ما أذن له في قطعه قباء، ولا يحتاج إلى إثبات إذنه في قطع القميص، فإذا حلف.. وجب الغرم على الخياط؛ لأنه أثبت بيمينه أن الخياط غير مأذون له في قطعه، والقطع بغير إذن يوجب الغرم، وفي قدر الغرم قولان:
أحدهما: يجب ما بين قيمة الثوب صحيحًا ومقطوعًا قباء؛ لأنه تعدى بقطعه قباء، فلزمه أرش القطع.
والثاني: يلزمه ما بين قيمته مقطوعًا قميصًا ومقطوعًا قباء؛ لأن قطع القميص مأذون فيه. وهل يجب للأجير أجرة؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يجب له أجرة قطع ما تحصل من قطع القباء للقميص؛ لأنه مأذون فيه.
و [الثاني]ـ المنصوص ـ: (أنه لا شيء له) ؛ لأنه لم يقطعه للقميص، فهو متعد في ابتداء القطع.
وإذا قلنا: إنهما يتحالفان ـ وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق ـ فوجهه: أن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه؛ لأنه الخياط يدعي الأجرة، ورب الثوب ينكرها. ورب الثوب يدعي الأرش، والخياط ينكره، فتحالفا، كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن.
فعلى هذا: إذا حلف أحدهما ونكل الآخر.. كان الحكم فيه كما لو قلنا: إن القول قول الحالف، وحلف. وإن حلفا.. لم يستحق الخياط الأجرة؛ لأن التحالف يوجب رفع العقد، والخياطة من غير عقد لا يستحق لها أجرة.

(7/403)


وهل يجب على الخياط أرش القطع؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه شيء؛ لأن كل واحد منهما قد نفى بيمينه ما ادعي عليه به.
والثاني: يجب عليه؛ لأن التحالف يوجب رفع العقد. والقطع من غير عقد يوجب الضمان.
فعلى هذا: في قدر الأرش القولان الأولان.
فكل موضع أوجبنا للخياط الأجرة.. فإن الخياط لا يرجع في الخيوط؛ لأنها إن كانت من الثوب.. فهي لصاحب الثوب، وإن كانت للخياط.. فهي تابعة للخياطة التي أخذ عليها الأجرة.
وكل موضع قلنا: لا أجرة له، فإن كان الثوب مخيطًا بخيوط من رب الثوب أو من الثوب.. فإن رب الثوب يأخذ ثوبه مخيطًا، وليس للخياط فتق الخياطة؛ لأنه قد عمل في ملك غيره عملًا لا عين له فيه، فلم يكن له إزالته، كما لو نقل ملك غيره من زاوية إلى زاوية.. فليس له رده إلا برضا المالك. وإن كانت الخيوط من الخياط.. فله أن يأخذ خيوطه؛ لأنها عين ماله. فإن بذل له رب الثوب قيمة الخيوط.. لم يجبر الخياط على قبولها؛ لأنها عين مال الخياط لا يتلف بردها ما له حرمة، فلم يلزمه أخذ عوضها. فإن قال رب الثوب: أنا أشد بطرف خيطك خيطًا، فإذا جررت خيطك دخل هذا الخيط مكان خيطك.. لم يلزم الخياط تمكينه من ذلك؛ لأنه انتفاع بملكه، ولأنه يتأخر بذلك وصوله إلى خيطه إلى أن يثبت الخيط الآخر مكانها، فلم يجبر على ذلك.

[مسألة: الأجير يحبس العين ليستوفي الأجرة]
إذا استأجر رجلًا ليعمل له عملًا في عين، مثل: خياطة، أو صياغة، فعمل الأجير ذلك.. فهل له أن يحسب العين إلى أن يستوفي الأجرة؟ فيه وجهان:

(7/404)


أحدهما: لا يجوز له؛ لأن العين غير مرهونة عنده بالأجرة، ولأنه لو استأجره على حمل متاع فحمله.. لم يكن له حبس المتاع إلى أن يستوفي الأجرة، فكذا هذا مثله.
والثاني: له أن يحبس العين؛ لأن العمل في العين ملكه، فجاز له حبسه، كالعين المبيعة، بخلاف الحمل، فإنه لا يمكن حبسه.

[فرع: استحقاق أجرة المثل]
إذا دفع إلى رجل ثوبا ليخيطه له، أو متاعًا ليحمله له إلى مكان، فإن سمى له أجرة صحيحة.. استحق المسمى ولا كلام، وإن سمى له أجرة فاسدة، أو عرض له بالأجرة، بأن قال: اعمل وأنا أحاسبك على أجرتك، أو لا ترى مني إلا ما يسرك.. استحق أجرة المثل؛ لأنه قد عرض له بالأجرة وهي مجهولة، فاستحق أجرة المثل، كما لو سمى له عوضًا فاسدًا.
وأن دفعها إليه فعملها الأجير.. فهل يستحق أجرة الثمل؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه يستحق أجرة المثل؛ لأنه قد أتلف عليه منافعها، فاستحق عليه بدلها، فهو كما لو أكرهه على العمل.
والثاني ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: إن استدعى الصانع لأن يعمل، بأن قال: أعطني ثوبك لأخيطه.. لم يستحق أجرة؛ لأنه اختار إتلاف منفعة نفسه بغير عوض. وإن استدعاه رب الثوب إلى العمل، بأن قال: خط لي هذا الثوب.. لزمه أجرة المثل؛ لأنه أدى ما عليه منفعته، فاستحق عليه بدلها.
والثالث: إن كان الصانع معروفًا بأخذ الأجرة على العمل.. استحق الأجرة؛ لأن

(7/405)


العرف في حقه كالشرط، وإن كان غير معروف بذلك.. فلا أجرة له.
والرابع ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يستحق أجرة) ؛ لأن المنافع ليست بأولى من الأعيان، وقد ثبت أنه لو قدم إلى رجل طعامًا، وقال: كله.. لم يستحق عليه عوضه، فكذلك هذا مثله.
والله أعلم.

(7/406)


[باب الجعالة]
يجوز عقد الجعالة في رد الآبق وخياطة الثوب، وكل عمل يجوز عقد الإجارة عليه، فيقول: من رد عبدي الآبق، أو خاط لي هذا القميص، أو خاط لي قميصًا. فله دينار؛ لقول تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] [يوسف: 72] .
فذكر الله الجعالة في شرع من قبلنا ولم ينكرها، فدل على جوازها، ولأن بالناس حاجة إلى الجعالة؛ لأنه قد يأبق له عبد لا يعلم مكانه، ولا يقدر على رده بنفسه، ولا يجد من يتطوع بالمضي لرده، ولا تصح الإجارة على رده؛ للجهالة بمكانه، فجوز عقد الجعالة لذلك.
إذا ثبت هذا: فيصح أن يكون العامل في الجعالة غير معلوم، والعمل غير معلوم؛ للآية.
والفرق بين الجعالة والإجارة: أن الإجارة عقد لازم، فوجب تقدير العمل فيها والعامل، والجعالة عقد جائز، فجاز أن يكون العمل فيها غير معلوم، كالعارية.

(7/407)


فإن قال: من رد عبدي من موضع كذا فله كذا.. صح؛ لأنه إذا صح ذلك مع جهالة العمل.. فلأن يصح إذا كان العمل معلومًا أولى.
فإن قال: من رد عبدي من البصرة في هذا الشهر فله كذا.. قال القاضي في (المجرد) : لم يصح؛ لأنه يكثر بذلك الغرر، حيث قدره بمدة معلومة.

[مسألة: تعيين قدر الجعل]
ولا تصح الجعالة حتى يكون عوض العمل معلومًا؛ لأنه عوض في عقد، فلم يصح مع الجهالة به، كالمسلم فيه.
والفرق بين العمل والعوض: أن العمل قد تدعو الحاجة إلى أن يكون مجهولًا؛ لما ذكرناه، ولا تدعو الحاجة إلى أن يكون العوض مجهولًا، ولأن العمل لا يكون لازمًا، والعوض يكون لازمًا بعد العمل.

فرع: [فيمن قال: أول من يحج عني فله كذا] :
فإن، قال: أول من يحج عني فله مائة درهم، فحج عنه رجل.. قال الشافعي في (المنثور) : (استحق المائة) .
وقال المزني: يستحق أجرة المثل. وليس بشيء؛ لأنه جعالة، والجعالة تصح لعامل غير معين.

[فرع: تفاوت الجعل في اختلاف المدة]
قال ابن الصباغ: فإن قال لرجل: إن خطت لي هذا الثوب اليوم فلك دينار، وإن خطته غدًا فلك نصف دينار.. فهو عقد فاسد، فإذا خاطه.. استحق أجرة المثل، وبه قال مالك، وزفر.
وقال أبو حنيفة: (الشرط الأول جائز، والثاني فاسد، فإن خاطه في اليوم الأول.. فله دينار، وإن خاطه بعده.. فله أجرة مثله) .

(7/408)


وقال أبو يوسف، ومحمد: الشرطان جائزان.
دليلنا: أنه عقد واحد، فإذا اختلف فيه العوض بالتقديم والتأخير.. كان فاسدًا، كما لو قال: أجرتك هذا بدرهم نسيئة، أو بنصف درهم نقدًا.
إذا ثبت هذا: فكل موضع شرط فيه جعلًا فاسدًا، فعمل الأجير.. استحق أجرة مثله، كما قلنا في الإجارة.

[مسألة: العوض يلزم بشرط رب المال]
ولا يستحق العامل العوض إلا إذا عمل بإذن صاحب المال، وشرط العوض له، فأما إذا رد لرجل عبدًا آبقًا، أو رد له بهيمة ضالة بغير إذنه.. فإنه لا يستحق عليه عوضًا، سواء رده من موضع قريب أو بعيد، وسواء كان معروفًا برد الضوال أو لم يكن معروفًا بذلك.
وقال أبو حنيفة: (إن رد له بهيمة ضالة بغير إذنه.. لم يستحق عليه العوض ـ كقولنا ـ وإن رد له عبدا آبقًا بغير إذنه.. فالقياس: أنه لا يستحق عليه جعلًا، ولكن يعطى عليه جعلًا استحسانًا، فإن رده من مسيرة ثلاثة أيام فما زاد، وكانت قيمة العبد أربعين درهما فأكثر.. استحق عليه أربعين درهما، وإن رده من مسيرة دون ثلاثة أيام.. استحق عليه أجرة مثل عمله، وإن رده من مسيرة ثلاثة أيام، وقيمة العبد أربعون درهما.. استحق أربعين درهمًا إلا درهمًا، وإن كانت قيمته عشرة.. استحق عشرة دراهم إلا درهمًا) .
وقال أبو يوسف، ومحمد: يعطى أربعين درهمًا بكل حال حتى لو كانت قيمته عشرة دراهم.
وقال مالك: (إن كان الراد معروفًا برد الضوال والأباق.. استحق أجرة مثله،

(7/409)


وإن كان غير معروف بذلك.. فلا شيء له) .
دليلنا: أنه رد لغيره ما لم يشرط له عليه عوضًا، فلم يستحق عليه عوضًا، كما لو رد بهيمة مع أبي حنيفة، وكما لو كان غير معروف برد الضوال مع مالك.

[فرع: الرد لا يستوجب العوض]
وإن رد عبده بإذنه، ولم يشرط له عوضًا.. فهل يستحق عليه أجرة المثل؟ على الأوجه الأربعة المذكورة في الإجارة، الصحيح: أنه لا يستحق عليه.
وإن قال: من رد عبدي فله دينار، فرده من لم يسمع قوله ولا بلغه.. لم يستحق عليه شيئًا؛ لأنه متطوع.
وإن قال رجل: من رد عبد فلان فله دينار، فرده رجل.. استحق الدينار على الذي قال ذلك؛ لأنه التزم العوض فلزمه بالعمل. وإن نادى، فقال: قال فلان: من رد عبدي فله دينار، فرده رجل.. لم يلزم المنادي شيء؛ لأنه حكى قول غيره، ولم يلتزم ضمانه. فإن أنكر مالك العبد أنه قال ذلك.. فالذي يقتضي المذهب: أنه المنادي إذا كان عدلًا وشهد عليه بذلك.. حلف من رد العبد معه إذا صدقه، واستحق على مالك العبد الدينار، وإن لم يكن عدلًا أو لم يشهد عليه.. لم يلزم المنادي شيء؛ لأنه يقول: أنا صادق، ومالك العبد كاذب، فلا يلزمني الغرم بكذبه، ولأنه لا يلتزم ضمانه، فلا يلزمه بالحكاية.

[مسألة: يستحق الجعل بتمام العمل]
فإن قال: إن جئتني بعبدي فلك دينار، فرده حتى صار على باب البلد، فهرب العبد أو مات.. لم يستحق العامل شيئًا؛ لأن المقصود رده، ولم يوجد ذلك.

(7/410)


والفرق بينه وبين الأجير في الحج ـ إذا عمل بعض العمل فمات.. أنه يستحق بقسط ما عمل في أحد القولين ـ: أن المقصود بالحد تحصيل الثواب، وقد حصل للمحجوج عنه الثواب ببعض العمل، والمقصود هاهنا الرد، ولم يوجد، ولأن الإجارة عقد لازم.. فلزمت الأجرة بنفس العقد، وهاهنا الجعالة عقد جائز.. فلم تلزم إلا بالعمل.
فرع: [ما يستحق لبعض العمل] :
قال ابن الصباغ: فإن قال رجل لآخر: إن علمت ابني القرآن فلك كذا وكذا، فعلمه القرآن أو بعضه، ومات الصبي.. استحق الأجير بقدر ما علمه؛ لأن العمل وقع مسلمًا؛ لأن الصبي لا تثبت يد المعلم عليه.
ولو قال: إن خطت لي هذا الثوب فلك درهم، فخاط نصفه، وتلف الثوب في يد الخياط.. لم يستحق شيئًا؛ لأن رب الثوب لم يتسلم العمل.
وإن قال رجل: من رد عبدي من موضع كذا.. فله دينار، فرده رجل من نصف تلك المسافة.. استحق نصف الدينار؛ لأنه عمل نصف العمل، وإن رده من أبعد من الموضع المذكور.. لم يستحق أكثر من الجعل المسمى؛ لأنه تطوع بما زاد عليها.
وإن أبق له عبدان، فقال: من ردهما فله دينار، فرد رجل أحدهما.. استحق نصف الدينار؛ لأنه عمل نصف العمل. وإن قال: من رد عبدي فله دينار، فرده جماعة.. اشتركوا في الدينار؛ لاشتراكهم في الرد.
وإن قال لرجل: إن رددت عبدي فلك دينار، وقال لآخر: إن رددته فلك ديناران، وقال لآخر: إن رددته فلك ثلاثة، فردوه جميعًا.. استحق كل واحد منهم ثلث ما شرطه له؛ لأن كل واحد منهم عمل ثلث العمل. وإن شرط لواحد منهم جعالة فاسدة، ولآخرين جعالة صحيحة.. استحق من شرط له جعالة صحيحة ثلث ما سمى له، ويستحق من شرط له جعالة فاسدة ثلث أجرة مثله اعتبارًا بالانفراد.

(7/411)


[فرع: معاون المجعول له لا يستحق عوضًا]
وإن قال لرجل: إن رددت عبدي فلك دينار، فرده معه رجلان آخران، فإن قالا: عاوناه في الرد.. استحق المجعول له الدينار، ولم يستحقا شيئًا؛ لأنهما عملا له بغير عوض.
وإن قالا: شاركناه في العمل لنشاركه في الجعل.. استحق المجعول له ثلث الدينار؛ لأنه عمل ثلث العمل ولا شيء للآخرين؛ لأن مالك العبد لم يشرط لهما شيئًا، وإنما شرط للثالث.

[مسألة: فسخ الجعالة]
الجعالة عقد غير لازم؛ لأنها عقد على عمل مجهول بعوض، فكانت غير لازمة، كالقرض.
إذا ثبت هذا: فيجوز لكل واحد منهما فسخها، فإن فسخها العامل قبل العمل أو قبل تمامه.. لم يستحق شيئًا، وإن فسخها رب المال، فإن كان قبل أن يبتدئ العامل شيئًا من العمل.. لم يستحق العامل شيئًا من الأجرة؛ لأنه إنما عمل بقول رب المال، وقد رفع ذلك، وإن فسخ بعد تمام العمل.. لم يسقط عنه ما بذله من الجعل؛ لأنه قد استقر بالعمل، وإن كان بعد أن عمل العامل شيئًا من العمل.. استحق العامل أجرة ما قد عمله؛ لأنه ليس له إسقاط عمله بغير عوض.

[فرع: تعداد الجعل]
إذا قال: من رد عبدي فله عشرة دراهم، ثم قال: من رده فله درهم، أو قال: من رده فله درهم، ثم قال: من رده فله عشرة.. كان الاعتبار بالبذل الأخير؛ لأنه عقد غير لازم، فجاز النقصان والزيادة في عوضه، كالربح في القراض.

(7/412)


[مسألة: اختلفا في العوض وقدره]
وإن قال العامل: شرطت لي العوض في رد عبدك، وقال مالك العبد: لم أشرط لك، أو قال العامل: شرطت لي العوض في رد هذا العبد، فقال: بل شرطت لك في رد غيره، ولا بينة.. فالقول قول رب المال؛ لأن الأصل براءة ذمته.
وإن اختلفا في قدر العوض المشروط.. تحالفا، ووجب للعامل أجرة المثل، كما قلنا في المتبايعين إذا اختلفا في ثمن السلعة بعد هلاكها.
وإن قال: أنا رددت عبدك الآبق، وقال العبد: بل جئت بنفسي، وصدقه المولى.. فالقول قول المولى مع يمينه؛ لأن الأصل عدم رده.
وبالله التوفيق

(7/413)