البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب السبق والرمي]

(7/415)


كتاب السبق والرمي الأصل في جواز المسابقة: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} [يوسف: 17] [يوسف: 17] . فذكر الله

(7/417)


المسابقة في شرع من قبلنا، ولم ينكرها، فدل على جوازها.
وأما السنة: فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» .
وأجمعت الأمة على جواز المسابقة. إذا ثبت هذا: فتجوز المسابقة على الخيل والإبل؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بين الخيل» .
وروي: «أنه كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناقة تسمى العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له، فسابقها، فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه، فقالوا: يا رسول الله، سبقت العضباء‍! فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه حق على الله أن لا يرتفع شيء من

(7/418)


الدنيا ـ وروي: من هذه القذرة ـ إلا وضعه» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» .
وروي: (لا سبق) بسكون الباء وبفتحها، فبسكونها: هو المصدر، وبفتحها: هو المال المسابق عليه. وأما (النصل) : فهي السهام التي يرمى بها، مثل: السهام العربية، والنشاب. وأما (الخف) : فهي الإبل. و (الحافر) : الخيل.
ويجوز ذلك بغير عوض؛ لما «روى سلمة بن الأدرع، قال: أتى علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نترامى، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حسن هذا لعبًا، ارموا، فإن أباكم إسماعيل كان راميًا، ارموا، واركبوا، ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا»

(7/419)


ويجوز ذلك بعوض؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» .
و (السبق) ـ بفتح الباء ـ: هو المال المتسابق عليه.
«وسئل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هل كنتم تراهنون؟ فقال: نعم، راهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فرس له، فجاءت سابقة، فهش لذلك وأعجبه» والرهان

(7/420)


لا يكون إلا على عوض. وهل تجوز على الفيل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» . والفيل له خف، ويقاتل عليه، فهو كالإبل.
والثاني: لا يجوز، وبه قال أحمد؛ لأنه لا يصلح للكر والفر، فهو كالبقر.
قال ابن الصباغ: والأول أولى، لأنه يقال: إنه يسبق الخيل.
وفي جواز المسابقة على البغال والحمير قولان:
أحدهما: لا تجوز؛ لأنها لا تصلح للكر والفر.
والثاني: تجوز، وهو المشهور؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أو حافر» .
وتجوز المسابقة على الأقدام بغير عوض؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: سابقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرتين، فسبقته في المرة الأولى، فلما بدنت.. سبقني، وقال: هذه بتلك» .
يقال: بدن الرجل ـ بضم الدال وتخفيفها ـ: إذا سمن. وبدن ـ بفتح الدال وتشديدها ـ: إذا كبر، يبدن تبدينًا. قال الشاعر
وكنت خلت الشيب والتبدينا ... والهم مما يذهل القرينا
وهل تجوز المسابقة على الأقدام بعوض؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجوز، وبه قال أهل العراق؛ لأنه يحتاج إليه الراجل في القتال، كما يحتاج إليه في الفرس للقتال.

(7/421)


والثاني: لا تجوز، وهو المنصوص، وبه قال أحمد؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» . و (السبق) ـ بفتح الباء ـ: هو المال المسابق عليه.
وتجوز المسابقة على الطير بغير عوض، وهل تجوز المسابقة عليها بعوض؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجوز؛ لأنه يستعان بها في الحرب في حمل الكتاب بالأخبار.
والثاني: لا يجوز، وهو المنصوص؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا سبق إلا في خف، أو نصل، أو حافر» . والطيور ليست بواحد منها.
وتجوز المسابقة على السفن بغير عوض، وهل تجوز المسابقة عليها بعوض؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجوز؛ لأنه يقاتل عليها في البحر، كما يقاتل على الخيل في البر.
والثاني: لا تجوز، وهو المنصوص؛ لما ذكرناه من الخبر، ولأنها ليست بآله للحرب، وإنما الحرب فيها.
وتجوز المصارعة بغير عوض، وهل تجوز بعوض؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجوز، وبه قال أهل العراق؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صارع يزيد بن ركانة على مائة، فصرعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان لا يصرع، ثم عاد، فصرعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم عاد فصرعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأسلم، ورد عليه الغنم» .

(7/422)


والثاني: لا تجوز، وهو المنصوص؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا سبق إلى في نصل، أو خف، أو حافر» . ولأن الصراع ليس بآلة الحرب.
وأما صراع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليزيد بن ركانة: فإنما كان طمعًا منه في إسلامه، ولهذا لما أسلم.. رد عليه الغنم.

[مسألة: المناضلة بالرمي]
وتجوز المسابقة على الرمي بالقسي العربية والعجمية بعوض وغير عوض؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» .
فإن قيل: فقد روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى مع رجل قوسًا عجمية، فقال: لعن الله حاملها، عليكم بالقسي العربية وسهامها، فإنه سيفتح عليكم بها» .

(7/423)


فالجواب: أن الأمة أجمعت على جواز الرمي بالأعجمية، فيستدل بهذا الإجماع على أن هذا الخبر منسوخ، وإن لم نعلم ناسخه، ويحتمل أن يكون إنما نهى عنها ولعن حاملها؛ لأن العجم لم يكونوا أسلموا يومئذ، فلذلك لعنهم، ومنع العرب أن يتعرضوا بما لا يعرفون ولم يألفوه.
وتجوز المسابقة على الرمي بالمزاريق؛ لأن لها نصلًا، ويقاتل بها، فهي كالسهام، وهل تصح المسابقة بالرمح والسيف والعمود؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تجوز، وبه قال أحمد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أو نصل» ؛ لأنه لا يرمى بها، فلا معنى للمسابقة بها.
والثاني: تجوز، وقد قال الشافعي في (الأم) [4/148] : (بكل ما ينكي العدو، من سيف، أو رمح، أو مزراق) ، ولأنه سلاح يقاتل به، فهو كالنشاب.
وهل تجوز المسابقة على رمي الأحجار عن المقلاع بعوض؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) :
أحدهما ـ ولم يذكر ابن الصباغ غيره ـ: أنه لا يصح؛ لأنه ليس بآلة للحرب.
والثاني ـ ولم يذكر في (المهذب) غيره ـ: أنه يصح؛ لأنه آلة للحرب، فهو كالنشاب.

(7/424)


[فرع: المسابقة على غير آلة الحرب]
وأما المسابقة على ما ليس آلة للحرب، كضرب كرة الصولجان، ورفع الأحجار، واللعب بالخاتم، وما أشبه ذلك.. فلا يصح بعوض؛ لأنه لا منفعة في ذلك للحرب.

[مسألة: ما جاز أن يدفع له من أفراد جاز البذل له من بيت المال]
] : كل موضع قلنا: تجوز المسابقة بعوض، فيجوز أن يبذله السلطان من بيت المال، أو من مال نفسه؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بين الخيل، وجعل بينها سبقًا» ، ولأن في ذلك حثًا على تعلم الفروسية والرمي ليتقووا به على الجهاد، ويقع فيه الصلاح للمسلمين.

(7/425)


ويجوز أن يكون العوض من رجل من الرعية.
وقال مالك: (لا يجوز ذلك لغير الإمام) .
دليلنا: أنه بذل مال لمصلحة، فصح من غير الإمام، كوقف الخيل في سبيل الله.
ويجوز أن يكون السبق من أحدهما، بأن يقول: سبقتك عشرة، فإن سبقتني.. فهي لك، وإن سبقتك.. فلا شيء لك علي ولا شيء لي عليك.
وقال مالك: (لا يجوز) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بحزبين من الأنصار يتناضلون وقد سبق أحدهما الآخر، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ارموا، وأنا مع الحزب الذي فيه ابن الأدرع ". فكف القوم أيديهم وقسيهم، وقالوا: يا رسول الله صلى الله عليك، غلب من كنت معه. فقال: ارموا، وأنا معكم جميعًا»
ويجوز أن يكون السبق بينهما بشرط أن يدخلا معهما محللا على فرس مماثل لفرسيهما، فإن سبقهما.. أحرز السبقين، وإن سبقاه.. فلا شيء له.
وإن أخرج كل واحد منهما مالًا، ولم يدخلا بينهما محللا.. لم يصح.
وقال مالك: (لا يصح أن يكون المال منهما، سواء كان بينهما محلل أو لم يكن) . وحكاه الطبري، وابن الصباغ، عن ابن خيران.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق.. فليس بقمار، ومن أدخل فرسًا بين فرسين وقد أمن أن يسبق.. فهو قمار» .

(7/426)


ومعنى قوله: «وقد أمن أن يسبق.. فهو قمار» أراد: إذا كان فرس المحلل بطيئًا لا يرجى له السبق.. فإن ذلك لا يجوز؛ لأن وجوده كعدمه.
ومعنى قوله: «وإن لم يأمن أن يسبق.. فليس بقمار» أراد: إذا كان مكافئًا لهما؛ لأن المكافئ يرجى له السبق.

[فرع: صحة العقد بعوض معلوم حالا أو مؤجلًا]
ولا يصح العقد إلا أن يكون العوض معلومًا، إما معينا، أو في الذمة، وإذا كان في الذمة.. جاز أن يكون حالا ومؤجلًا، كما قلنا في الثمن والإجارة.
وإن قال أحدهما لصاحبه: سبقتك عشرة، فإن سبقتني فهي لك على أن لا أسابق، أو على أن لا أرمي أبدًا.. كان باطلا؛ لأنه شرط ترك ما هو مندوب إليه.
وإن قال: سبقتك عشرة، فإن سبقتني أخذتها وتعطيني قفيز حنطة.. قال الشافعي في " الأم " [4/148] : (لم يصح؛ لأن العقد يقتضي أن لا يكون على السابق شيء، وإنما يكون على المسبوق) .

[فرع: عمل مخرج العطاء كالجعل]
إذا كان المخرج للسبق هو السلطان، أو رجل من الرعية، أو أحد المتسابقين.. فهو كالجعالة.
وإن كان المال من المتسابقين وبينهما محلل.. ففيه قولان:

(7/427)


أحدهما: أنه لازم، كالإجارة، لأنه عقد يشترط أن يكون العوض فيه والمعوض معلومين، فكان لازمًا، كالإجارة.
والثاني: أنه غير لازم، كالجعالة؛ لأنه عقد بذل العوض فيه على ما لا يتقين حصوله، فلم يكن لازمًا، كالقراض. والأول أصح.
فإذا قلنا: إنه كالإجارة.. كان الحكم في الرهن والضمان فيه حكم الإجارة.
وإن قلنا: إنه كالجعالة.. فحكم الرهن والضمان فيه حكم مال الجعالة، وقد مضى.
وأما الزيادة والنقصان في المال أو في السبق أو في الرمي: فإن قلنا: إنه كالإجارة.. لم يجز إلا أن يفسخا الأول، ثم يعقد ثانيًا. وإن قلنا: إنه كالجعالة، فإن اتفقا على الزيادة أو النقصان جاز، وإن طلب أحدهما ذلك، فإن كانا متساويين في السبق، أو في عدد الرمي والإصابة.. كان له ذلك، وقيل للآخر: إن رضيت بما طلب صاحبك، وإلا.. فافسخ العقد.
وإن كانا غير متساويين: فإن كان الذي يطلب الزيادة أو النقصان هو الذي له الفضل.. جاز؛ لأنه لا ضرر على الآخر بذلك.
وإن كان الذي يطلب الزيادة أو النقصان هو المفضول.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه عقد غير لازم.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه لو قلنا: يجوز.. لأفضى إلى أن لا يسبق أحد أحدًا بحال.

[فرع: جعل المخرج لمن سبق]
وإن كان المخرج للسبق هو السلطان أو رجل من الرعية.. نظرت:
فإن جعله فيما بينهم، بأن قال: من سبق منكم إلى الغاية.. فله عشرة، فإن

(7/428)


كانا اثنين، وسبق أحدهما إلى الغاية.. استحق العشرة، وإن كانوا ثلاثة، فجاء اثنان منهم إلى الغاية جميعًا.. استحقا العشرة، كما لو قال: من رد عبدي.. فله دينار، فرده اثنان، وإن جاءوا جميعًا إلى الغاية في حالة واحدة.. لم يستحق واحد منهم شيئًا؛ لأنه لم يسبق بعضهم بعضًا.
وهكذا لو قال: من سبق منكم إلى الغاية.. فله عشرة، ومن صلى.. فله عشرة، وكان المتسابقون أكثر من اثنين.. صح؛ لأن كل واحد منهم يجتهد أن يكون سابقًا أو مصليًا. فمن سبق منهم إلى الغاية.. استحق العشرة، ومن صلى استحق العشرة أيضًا. ولا شيء لمن بعد المصلي. والمصلي: هو الثاني؛ لأن رأس فرس الثاني يكون عند صلا فرس الأول، فلهذا سمي مصليًا. قال الشاعر:
إن تبتدر غاية يومًا لمكرمة ... تلق السوابق منا والمصلينا
وإن جعل السبق لجميعهم، فإن لم يفاضل بينهم، بأن كانا اثنين، فقال: من سبق منكما فله عشرة، ومن صلى فله عشرة.. لم يصح؛ لأنه لا فائدة فيه؛ لأن كل واحد منهما يعلم أنه يستحق، سواء كان سابقا أو مسبوقًا فلا يجتهد.

(7/429)


وإن فاضل بينهما، بأن قال: من سبق منكما فله عشرة، ومن صلى فله خمسة.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن كل واحد منهما يعلم أنه يستحق عوضًا، سواء كان سابقًا أو مسبوقًا، فلا يجتهد في الركض.
والثاني: يصح. قال ابن الصباغ: وهو الأصح؛ لأن كل واحد منهما يجتهد في الركض ليأخذ الأكثر.
فرع: [المخرج للسبق أحدهما] : وإن كان المخرج للسبق أحد المتسابقين، فإن سبق المخرج.. أحرز سبقه، ولا يستحق الآخر شيئًا؛ لأنه لم يسبق، وإن سبق غير المخرج.. أخذ سبق المخرج.
وإن أخرج كل واحد من المتسابقين سبقًا، وأدخلا بينهما محللا.. نظرت:
فإن جاء الثلاثة إلى الغاية معًا، أو جاء المخرجان إلى الغاية في حالة واحدة وجاء المحلل بعدهما.. لم يستحق المحلل شيئًا؛ لأنه لم يسبقهما، ويحرز كل واحد من المخرجين سبقه؛ لأن أحدهما لم يسبق صاحبه.
وإن سبقهما المحلل إلى الغاية، ثم جاء المخرجان بعده معًا.. أخذ المحلل سبقيهما، لأنه سبقهما. وإن سبق أحد المخرجين، ثم جاء المحلل والمخرج الثاني معًا.. أحرز السابق سبق نفسه. وفي سبق المسبوق وجهان:
[الأول] : قال أبو علي بن خيران: لا يأخذه السابق ولا المحلل؛ لأنا لو قلنا: يأخذه السابق.. لكان هناك من يغرم مرة، ويغنم أخرى، وهذا قمار.
و [الثاني] : المنصوص للشافعي: (أنه يأخذه السابق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق.. فهو قمار، وإن لم يأمن أن يسبق.. فليس بقمار» ، ولأن المحلل يغنم ولا يغرم) . وبهذا خرجا من القمار.
وعبر بعض أصحابنا عن هذين الوجهين، فقال: هل دخول المحلل لتحليل المال، أو لتحليل العقد؟ فيه وجهان، فإن قلنا: إنه لتحليل العقد لا غير.. لم

(7/430)


يستحق المخرج سبق صاحبه، وإن قلنا: إنه لتحليل المال.. استحقه.
وإن سبق أحد المخرجين، ثم جاء المحلل بعده، ثم المخرج الآخر.. فإن المخرج السابق يحوز سبق نفسه، وفي سبق المسبوق أربعة أوجه، حكاها الطبري:
أحدها ـ وهو المنصوص ـ: (أنه للسابق المخرج) .
والثاني: أنه للمحلل؛ لأنه سبقه.
والثالث: أنه لا يستحقه السابق المخرج ولا المحلل، وهو إذا قلنا: إن المحلل دخل لتحليل العقد.
والرابع: أنه بين السابق المخرج والمحلل؛ لأنهما سبقاه.
وإن جاء أحد المخرجين والمحلل معا إلى الغاية، وتأخر المخرج الآخر عنهما.. فإن المخرج السابق يحرز سبق نفسه، وفي سبق المسبوق وجهان:
[الأول] : المنصوص (أنه للسابق والمحلل) .
و [الثاني] : قال أبو علي بن خيران: يكون جميعه للمحلل.
وإن جاء المحلل أولا، ثم صلى بعده أحد المخرجين، ثم فسكل المخرج الثاني.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الطبري:
أحدها ـ وهو المنصوص ـ: (أن سبقي المخرجين للمحلل؛ لأنه سبقهما) .
والثاني: أن سبق المصلي للمحلل، وسبق الفسكل بين المحلل والمصلي.
والثالث: أن سبق المصلي للمحلل، وسبق الفسكل للمصلي. والأول أصح.

[مسألة: يشترط اتحاد جنس المركوب]
وهل تصح المسابقة على مركوبين من جنسين؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: لا يصح أن يسابق بين الخيل والإبل، ولا بين البغال والحمير؛

(7/431)


لأن فضل أحد الجنسين على الآخر معلوم.
فعلى هذا: يجوز أن يسابق بين نوعين من جنس، كالهجين والعتيق من الخيل، والبخاتي والعراب من الإبل.
وقال أبو إسحاق: يجوز أن يسابق بين جنسين إذا تقاربا في الجري، كالخيل والنجب، والخيل والبغال، والبغال والحمير؛ لأن المقصود معرفة جودة المركوب، فإذا علم تقاربهما في الجري.. جازت المسابقة عليهما، كما لو كانا من جنس واحد.
فعلى هذا: لو سابق بين فرسين يعلم أن أحدهما يسبق الآخر.. لم يصح؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبقهما.. فهو قمار» .
فرع: [المسابقة على مركوبين معينين] :
ولا يصح عقد المسابقة إلا على مركوبين معينين؛ لأن المقصود معرفة جودتهما. وذلك لا يحصل إلا بتعيينهما.

[مسألة: معرفة المسافة التي يسابق عليها]
شرط] :
ولا يصح عقد المسابقة حتى تكون المسافة التي يستبقان فيها معلومة الابتداء والانتهاء؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء

(7/432)


إلى ثنية الوداع، وبين ما لم يضمر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق» . و (الخيل المضمرة) : هي التي تسقى اللبن، وتعلف المنعقد من العلف، وتجري في طرفي النهار، فإذا نزل الفارس عن الفرس وهو عرق.. أزال ذلك العرق، وتجلل بالأجلة، يفعل ذلك أربعين يومًا، فيشتد لحم الفرس وعصبه، ويكثر جريه. ولأن بعض الخيل قد يكون مقصرًا في ابتداء عدوه، سريعًا في انتهائه، وبعضها بضد ذلك.
ولا بد من بيان غاية معلومة الابتداء والانتهاء ليجمع لفرسه حاليه، فيظهر جودته، فإن شرط السبق في بعض الطريق إلى الغاية.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) :
أحدهما: يصح؛ لأنه قد يسبق في بعض الطريق، فصار كالغاية.
والثاني: لا يصح؛ لأن الفرس قد يسبق في أول الطريق، ثم يسبق في آخرها، فكان الاعتبار بالغاية المشروطة.

[مسألة: مكان الانطلاق واحد]
ويطلق المركوبان في مكان واحد؛ لأن المقصود معرفة جودة المركوبين في السبق، ولا يعلم إلا بذلك، فإن كان بينهما محلل وتنازعا في مكانه.. جعل بينهما؛ لأنه أعدل، وإن اختلفا في اليمين واليسار.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، ولا يجلب وراء الفرس بشيء؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أجلب

(7/433)


على الخيل يوم الرهان.. فليس منا» . و (الجلب) : هو أن يضرب بعد الفرس بشيء يابس أو غيره مما يفزع منه الفرس، فيسرع في الجري لذلك. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا جلب ولا جنب» .
فأما (الجلب) : فله تأويلان:
أحدهما: الجلب وراء الفرس في المسابقة على ما ذكرناه
و [الثاني] : قيل: بل هو في الصدقة، وهو أن يقدم المصدق بلدًا، فينزل في موضع، ثم يرسل إلى أهل المواشي ليجلبوا مواشيهم إليه.
وأما (الجنب) : فهو في خيل السباق أيضًا، وهو أن يجنب الرجل خلف فرسه

(7/434)


الذي سابق عليه فرسًا آخر، فإذا بلغ قريبًا من الغاية.. نزل عن الذي هو راكب عليه، وركب الآخر فيسبق؛ لأنه أقل كلالا من الأول.

[مسألة: تقييد السبق بأقدام]
وإذا تسابقا واشترطا في السبق أن يسبق أحدهما الآخر بخمسة أقدام وما أشبهه.. فقد قال أبو علي الطبري في (الإفصاح) : يجوز ذلك؛ لأنهما يتحاطان فيما استويا فيه، وينفرد أحدهما بالأقدام المشروطة، فصح، كما قلنا في الرمي.
وحكى فيه وجها آخر: أنه لا يصح. وليس بشيء.
فإذا قلنا بالأول.. لم نحكم للسابق بالسبق حتى يسبق بما شرطا، وإن لم يشرطا شيئًا.. قال الشافعي: (فالسبق: أن يسبق أحدهما صاحبه، وأقل السبق بالهادي أو ببعضه، أو بالكتد أو ببعضه) .
قال أصحابنا: إن كان المركوبان متساويين في (الهادي) ـ وهو: العنق ـ اعتبر السبق أن يسبق أحدهما الآخر ببعض العنق أو ببعض الكتد، و (الكتد) : الكاهل: وهو العالي بين أصل العنق والظهر ـ وهو مجتمع الكتفين ـ وهو من الخيل مكان السنام من الإبل.
وإن كانا مختلفين في العنق، بأن كان طول عنق أحدهما ذراعا وشبرًا، وطول عنق الآخر ذراعًا لا غير.. فإن سبق صاحب العنق القصير ببعض عنقه أو ببعض كتده. حكم له بالسبق، وإن سبق صاحب العنق الطويل بقدر شبر.. لم يحكم له بالسبق؛ لأن ذلك قدر زيادة الخلقة، وإن سبق بأكثر من شبر من عنقه.. حكم له بالسبق؛ لأنه سبق بذلك، فإن سبق صاحب العنق الطويل بأكثر من زيادة الخلقة من عنقه، وسبق الآخر ببعض كتده.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) :

(7/435)


أحدهما: أن السابق هو المتقدم بعنقه؛ لأن سبق الخيل هو هكذا.
والثاني: أن السابق هو المتقدم ببعض كتده؛ لأن القصد من وصول العنق وصول البدن، ومن سبق ببعض كتده.. فقد وصل ببدنه، فكان أولى.
فإن قيل: فلم قال الشافعي: (أقل السبق أن يسبق بالهادي أو ببعضه، أو بالكتد أو ببعضه) ، ونحن نعلم أن من سبق بأحدهما.. فقد سبق الآخر؟ فأجاب أصحابنا عن هذا بأجوبة:
فمنهم من قال: أراد إذا تساوى المركوبان بالعنق، اعتبر السبق بالعنق. وإن اختلفا في طول العنق.. اعتبر السبق بالكتد؛ لأنه لا يختلف.
ومنهم من قال: أراد: إذا كانت المسابقة بين الخيل والإبل.. فيكون الاعتبار بالتقدم ببعض الكتد؛ لأن من عادة الخيل أن تمد أعناقها إذا عدت، ومن عادة الإبل أن ترفع أعناقها.
ومنهم من قال: أراد بذلك: بالمسابقة في الخيل؛ لأن منها ما يمد أعناقها إذا عدت، ومنها ما يرفع أعناقها، فلا يعتبر السابق منهما بالعنق، وإنما يعتبر بالكتد.
هذا مذهبنا.
وقال الثوري: إذا سبق أحد الفرسين صاحبه بأذنه.. حكم له بالسبق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بعثت أنا والساعة كفرسي رهان، كاد أن يسبق أحدهما الآخر بأذنه» .

(7/436)


ودليلنا: أن الاعتبار: هو السبق بسرعة العدو، وقد يكون أحدهما أسرع، وأذن الآخر أسبق؛ بأن يرفع السريع رأسه قليلًا، والآخر يمد عنقه، فيسبق بأذنه. وأما الخبر: فالمقصود به ضرب المثل، وقد يضرب المثل بما لا يكاد يوجد، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة.. بنى الله له بيتا في الجنة» . ولا يمكن ذلك، أو نحمله على الفرسين إذا تساويا في طول العنق ومدها.

[فرع: توقف أحد الفرسين]
فإن عثر أحد المركوبين أو وقف لعلة، فسبقه الآخر.. لم يحكم له بالسبق؛ لأنه سبقه لعلة طارئة لا بجودة جريه.

(7/437)


وإن مات أحد المركوبين قبل بلوغ الغاية.. بطل العقد؛ لأن العقد تعلق بعينه وقد فات.
وإن مات الراكب، فإن قلنا: إنه كالجعالة.. بطل العقد، وإن قلنا: إنه كالإجارة.. لم يبطل، وقام وارثه مقامه.

[مسألة: أقل المناضلة يكون بين اثنين]
وإن كان العقد على الرمي.. لم يجز بأقل من نفسين؛ لأن المقصود معرفة حذق الراميين وذلك لا يبين بأقل من اثنين.
فإن قال رجل لرجل: ارم عشرين سهمًا، فإن كان صوابك فيها أكثر من خطئك فلك علي كذا.. فنقل المزني: (أنه لا يجوز) . واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: إذا قال: ارم عشرين سهماُ، فإن كان صوابك فيها أكثر من خطئك فلك علي كذا.. صح ذلك فإن كان صوابه أحد عشر من عشرين.. استحق المسمى، ويكون ذلك جعالة؛ لأنه شرط له عوضا بما له فيه غرض صحيح، ولا يكون نضالا. فأما ما نقله المزني.. فله تأويلان:
أحدهما: أنه أراد به: إذا قال له: ناضل نفسك، فإن كان صوابك أكثر فلك كذا.. فلا يصح؛ لأنه لا يناضل نفسه.
والتأويل الثاني: أن يقول: فإن كان صوابك أكثر فقد نضلتني.. فلا يصح أيضا؛ لأنه لا يجوز أن ينضله إذا لم يرم معه.
ومن أصحابنا من قال مثل ما نقله المزني، وأنه لا يصح، واختلفوا في تعليله: فمنهم من قال: إنما لم يجز؛ لأنه جعل له الجعالة على العشرين، ومنها صواب ومنها خطأ، والخطأ لا تجوز له جعالة.

(7/438)


وقال أبو جعفر الأستراباذي: إنما لم يجز؛ لأنه جعل له عوض على الإصابة وهي مجهولة، فلو قال: إن أصبت من العشرين عشرة أو اثني عشر.. صح ذلك، واستحق المسمى بإصابة المشروط.
والوجه الأول أصح: وقد نص الشافعي على ذلك في " الأم "، فقال: (ولو قال: ناضل نفسك) فأخل المزني بذلك.
وقول من قال: فقد نضلتني، خلاف ما قال الشافعي.
وقول من قال: إنه جعل الجعالة في مقابلة الخطأ والصواب، فليس بصحيح؛ لأنه إنما جعله في مقابلة إصابة الأكثر دون الجميع.
وقول الأستراباذي ليس بصحيح؛ لأن أكثر العشرين أحد عشر.
فرع: [لا يناضل واحد عن اثنين]
فلو قال لرجل: ارم عن نفسك عشرة أسهم وعني عشرة أسهم، فمن كانت الإصابة في عدده أكثر فهو الناضل.. لم يصح؛ لأنه يجتهد في نوبة نفسه دون نوبة صاحبه.

[مسألة: جواز الجعل من السلطان وغيره]
] : وأما إخراج المال في المناضلة في الرمي.. فعلى ما ذكرناه في إخراجه بالمسابقة: يجوز أن يكون من السلطان، أو من رجل من الرعية، أو من أحد المتناضلين، أو منهما وبينهما محلل مكافئ لهما.
قال الطبري: فإن تناضل رجلان، وكان المال من أحدهما، فجاء رجل إلى المخرج، وقال: أن شريكك فيما بذلت، فإن نضل صاحبك غرمت معك، وإن نضلته أخذت منك نصف ما بذلته.. لم يجز. وهكذا: لو أخرجا المال وأدخلًا بينهما محللًا، فجاء رجل إلى أحدهما أو إليهما، فقال: أنا شريككما في ذلك ولا أرمي،

(7/439)


فإن نضلكما المحلل غرمت معكما نصف ما أخرجتما، وإن نضلتماه أخذت منكما النصف.. لم يجز؛ لأن الذي يغنم ويغرم في عقد النضال من يرمي، وهذا لا يرمى.

[فرع: النضال بين الماهر والمخطئ]
فإن كان أحد المتناضلين كثير الإصابة والآخر كثير الخطأ.. فهل يصح عقد النضال بينهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن فضل أحدهما على الآخر معلوم.
والثاني: يصح؛ لأن المناضلة تبعثه على الاجتهاد في الرمي.

[مسألة: مناضلة مختلفي آلة الرمي]
قال الشافعي: (ولا بأس أن يناضل أهل النشاب أهل العربية) .
وجملة ذلك: أنهما إذا عقدا عقد النضال وأطلقا، ولم يذكرا قوسًا عربية ولا قوسًا عجمية، فإن كان في البلد نوع متعارف من القسي، إما العربية، أو العجمية.. صح العقد، وحملًا على ذلك النوع، كما قلنا فيمن باع بنقد مطلق ببلد فيه نقد غالب. وإن لم يكن فيه نوع متعارف.. فذكر الشيخ أبو حامد: أنه يصح، ويستويان في القوس، إما العربية، وإما العجمية.
وقال أبو العباس بن القاص: لا بد من بيان القوس التي يرميان عنها في الابتداء؛ لأنه قد يكون أحدهما أحذق في أحد النوعين دون الآخر. قال ابن الصباغ: وهذا أصح.
وإن اتفقا على أن يرمي أحدهما بالعربية والآخر بالعجمية.. جاز؛ لأن النوعين من جنس واحد يتقاربان، فإن أراد أحدهما أن ينتقل من النوع الذي عينه إلى النوع الآخر.. لم يلزم الآخر إجابته إلى ذلك؛ لأن الأغراض تختلف؛ لأنه قد يكون رميه بأحدهما أجود من رميه بالنوع الآخر، وإن عين قوسًا من نوع، وأراد أن ينتقل إلى قوس آخر من ذلك النوع.. جاز؛ لأن المقصود معرفة حذق الرامي، وحذقه

(7/440)


لا يختلف فيما بين القوسين من نوع واحد اختلافًا متباينًا فإن شرطا في العقد على أنه لا ينتقل من ذلك القوس إلى قوس أخرى من ذلك النوع.. فهل يصح؟ فيه ثلاثة أوجه، كما قلنا فيمن اكترى دابة ليركبها في طريق ولا يركبها مثله، ولا في مثل تلك الطريق.
وإن عقدا النضال على الرمي بجنسين، بأن يرمي أحدهما بالنبل، والآخر بالحراب.. لم يصح؛ لأن فضل أحدهما على الآخر لا يعلم بذلك.

[مسألة: شروط عقد المناضلة]
ولا يصح عقد النضال على الرمي إلا بشروط:
أحدها: أن يكون عدد الرشق معلومًا، وهو عدد ما يرميان من السهام؛ لأنهما إذا لم يذكرا عددًا محدودًا.. لم يعلم متى ينتهي الرمي، ولا يظهر فضل أحدهما على الآخر.
و (الرشق) ـ بكسر الراء ـ: هو عدد الرمي، ويسمى: الوجه، واليد، والدست.
وأما (الرشق) ـ بفتح الراء ـ: فهو عبارة عن الرمي نفسه، يقول: رشقت رشقًا، أي: رميت رميًا.
الشرط الثاني: أن يكون عدد الإصابة من الرشق معلومًا؛ ليعلم تفاضلهما، فإن شرطا أن يصيب عشرة من عشرة أو تسعة من عشرة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه قد يصيب ذلك، فهو كما لو شرط إصابة ثمانية من عشرة.
والثاني: لا يصح؛ لأن ذلك يندر، فلا يحصل المقصود.
الشرط الثالث: أن تكون المسافة التي بين الرامي وبين الغرض معلومة؛ لأن الإصابة تختلف بالقرب من الغرض والبعد منه، فإن كان هناك غرض معلوم المدى.. قال الشيخ أبو إسحاق: صح إطلاق العقد، ويحمل عليه، كما قلنا في البيع بنقد مطلق ببلد فيه نقد غالب.

(7/441)


ولا يجوز أن تكون المسافة مما لا يصيب مثلهما في مثلها غالبًا، وإنما يجوز في المسافة التي يصيب مثلهما في مثلها غالبًا، وهل يجوز في المسافة التي يصيب مثلهما في مثلها نادرًا؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن إصابتهما في ذلك تندر، فلا يحصل المقصود.
والثاني: يجوز؛ لأن ذلك يبعثهما على الاجتهاد في الرمي.
وقدر أصحابنا ما يصاب في مثله بمائتين وخمسين ذراعًا؛ لما روي عن بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قيل له: كيف تقاتلون العدو؟ فقال: (إذا كانوا على مائتين وخمسين ذراعًا.. قاتلناهم بالنبل، وإذا كانوا على أقل من ذلك.. قاتلناهم بالرماح، وإذا كانوا على أقل من ذلك.. قاتلناهم بالسيوف) . وما لا يصاب في مثله ما زاد على ثلاثمائة وخمسين ذراعًا، وقيل: (إنه ما رمى إلى أربعمائة إلا عقبة بن عامر الجهني) .
وفيما بين مائتين وخمسين إلى ثلاثمائة وخمسين وجهان:
أحدهما: يجوز العقد عليه، وهو ظاهر النص؛ لأن الإصابة معتادة فيه.

(7/442)


والثاني: لا يجوز؛ لأن الإصابة فيه لا توجد غالبًا.
وإن تناضلا على أن يكون السابق من بعد وقوع سهمه من غير تحديد الغاية.. فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، كما لا يجوز السباق إلى غير غاية محدودة.
والثاني: يجوز؛ لأن الإبعاد في الرمي مقصود، كالإصابة، فصح العقد عليه.
الشرط الرابع: أن يكون قدر الغرض معلومًا، إما بالمشاهدة، أو بالصفة، وأنه شبر أو أكثر أو أقل؛ لأن الحاذق يصيب الصغير والكبير، وغير الحاذق لا يصيب الصغير.
قال أصحابنا: و (الغرض) : هو ما ينصب في الهدف، وهو التراب المجموع، أو البناء المرتفع من رق أو شن أو قرطاس. و (الشن) : الجلد البالي الذي ينصب.
وقال الأزهري: (القرطاس) : ما ينصب في الهدف. و (الغرض) : ما ينصب في الهواء. والمستحب: أن يكون الرمي بين غرضين، وقد روي ذلك عن ابن عمر وأنس؛ لأنه أبعد من التنافر.
الشرط الخامس ـ ذكره الشيخ أبو إسحاق ـ: أن يكون موضع الإصابة معلومًا، بأن يشرطا أن يصيبا الهدف أو البناء أو الغرض أو الدارة التي في الغرض، أو الخاتم التي في الدارة؛ لأن الغرض يختلف بذلك. قال: فإن أطلقا.. حمل على إصابة الغرض؛ لأن المتعارف في الرمي إصابة الغرض، فحمل الإطلاق عليه.
الشرط السادس: أن تكون صفة الإصابة معلومة.
قال المحاملي: وقد ذكر الشافعي في صفة الإصابة أربعة أوصاف، بأن يقول:

(7/443)


حوابي، أو خواصر، أو خوازق، أو خواسق. قال ابن الصباغ: أو خواصل.
فأما (الحوابي) : فقال المحاملي، والطبري: هو أن يمر السهم مع الأرض، فيصيب الغرض. وقال ابن الصباغ: هو أن يقع السهم بين يدي الغرض، ثم يحبو إليه، ومنه يقال: حبا الصبي.
وأما (الخواصر) : قال المحاملي: فهو السهم الذي يصيب الغرض ولا يؤثر فيه، وسماه في " المهذب " [1/424] : القرع.
وقال ابن الصباغ: الخواصر: ما كان في جانبي الغرض، ومنه قيل: الخاصرة؛ لأنها من جانبي الإنسان.
وما قال المحاملي أقيس؛ لأنه تفسير لصفة الإصابة. وما قاله ابن الصباغ تفسير لموضع الإصابة، وإن كان صحيحًا في اللغة.
وأما (الخوازق) : فهي ما أصاب الغرض، وخدش فيه، وسقط عنه، ولم يثبت فيه.
وأما (الخواسق) : فهي ما أصاب الغرض، وخدش فيه، وثبت.
وأما (الخواصل) : فحكى ابن الصباغ عن الأزهري: أنه قال: هي ما أصاب القرطاس، يقال: خصلت مناضلي أخصله خصلًا.
قال ابن الصباغ: وللإصابة أسماء غير هذه، وليست من شرائط المناضلة، وهي: (المارق) : وهو السهم الذي ينفذ في الغرض، ويقع من الجانب الآخر، ويسمى: الصارد.

(7/444)


و (الخارم) : وهو السهم الذي يصيب الغرض ويقطعه، ويخرج طرفه من الجانب الآخر لا غير.
و (المزدلف) : وهو السهم الذي يقع على الأرض دون الغرض، ويثب إليه.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن المرق والخرم كالخزق والخسق في وجوب بيانه في الإصابة.

[فرع: شرط المحاطة والمبادرة]
وهل يشترط في صحة عقد المناضلة أن يذكر أن الرمي محاطة أو مبادرة؟ فيه وجهان، هكذا قال عامة أصحابنا، وأضاف صاحب " المهذب " [1/424] الحوابي إلى ذلك:
أحدهما: أن ذكر ذلك شرط، فإن لم يذكر.. بطل العقد؛ لأن غرض الرماة يختلف، فإن منهم من تكثر إصابته في ابتداء الرمي، ومنهم من تكثر إصابته في الانتهاء.
والثاني: أن ذلك ليس بشرط؛ لأن مقتضى المناضلة المبادرة.. فصح العقد مع الإطلاق، ويحمل على المبادرة؛ لأنه مقتضى العقد.
إذا ثبت هذا: (فالمحاطة) : أن يتفقا على أن يحطا ما يتساويان فيه من الإصابة، ويفضل لأحدهما إصابة معلومة.
وأما (المبادرة) : فأن يشترطا إصابة معلومة من الرشق، وأن من بدر إليها منهما كان ناضلًا.
وحكى ابن الصباغ: أن أبا يعقوب البويطي قال: قيل في المبادرة: هو أن يفرقا جميعًا سهميهما، وأيهما وقع سهمه أولًا.. بدر بالسبق. والأول هو الصحيح.

(7/445)


[فرع: شرط من يبدأ الرمي]
وهل من شرط صحة عقد المناضلة أن يذكرا عند العقد من يبدأ بالرمي؟ فيه وجهان، وحكاهما ابن القاص قولين:
أحدهما: لا يصح العقد حتى يذكر ذلك، وهو ظاهر النص؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر بالبداية، وإذا قدمنا أحدهما بالقرعة.. انكسر قلب الآخر، وفسد رميه.
والثاني: يصح العقد؛ لأن ذلك من توابع العقد.
قال المحاملي: فعلى هذا: إن كان السبق منهما.. أقرع بينهما، وإن كان السبق من أحدهما.. كانت البداية له. وإن كان المال من أجنبي.. كان للمخرج أن يجعل البداية لأحدهما. وقال في " المهذب ": فيه وجهان:
أحدهما: إن كان المال من أحدهما.. قدم، وإن كان منهما.. أقرع بينهما.
والثاني: يقرع بينهما بكل حال.
وإن كان الرمي بين غرضين، فبدأ أحدهما من أحد الغرضين.. بدأ الثاني من الغرض الثاني؛ لأن ذلك أعدل.
وإن كانت البداية لأحدهما، فبدأ الآخر ورمى.. لم يعتد له إن أصاب ولا عليه إن أخطأ؛ لأنه رمى من غير عقد.

[فرع: موقف الرامي]
قال الشافعي: (وللمبتدئ أن يقف في أي مقام شاء، ثم للآخر أن يقف من الغرض الآخر أي مقام شاء) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان الرمي بين غرضين: فاختلفا: فقال أحدهما: يقف عن يمين الغرض، وقال الآخر: بل يقف عن يساره.. فإن الخيار في ذلك إلى من يبدأ

(7/446)


بالرمي؛ لأنه لا مزية بالبداية، فكان له الاختيار في المكان. فإذا صار إلى الغرض الثاني.. كانت البداية بالرمي والاختيار في الوقوف في المكان إلى الثاني.
فإن كان النضال من ثلاثة، فبدأ أحدهم.. اقترع الآخران، فمن خرجت له القرعة.. رمى بعد الأول، وكان له الخيار في المكان.

[فرع: يقبل القول في استدبار الشمس]
قال في " الأم ": (فإن طلب أحدهما أن يكونا مستقبلين الشمس في حال الرمي، وطلب الآخر استدبارها.. أجيب من طلب استدبارها؛ لأن العرف هكذا، فحمل الإطلاق عليه) . فإن شرطا في العقد أن يرميا مستقبلين للشمس.. قال الشافعي: (حملا على ذلك، كما لو شرطا الرمي ليلًا) .

[مسألة: يرمي الأول ثم الثاني سهمًا سهمًا على ما اتفقا]
قال الشافعي: (ويرمي البادئ السهم حتى ينفذا نبلهما) .
وجملة ذلك: إن إطلاق المناضلة تنصرف إلى المراسلة، وهو أن يرمي أحدهما سهمًا، ثم يرمي الآخر سهمًا، إلى أن يستكملا عدد رشقهما؛ لأن ذلك هو المتعارف في الرمي، ولأن الآخر يصلح قوسه إلى أن يرمي الآخر، فكان ذلك أولى.
فإن شرطا أن يرمي أحدهما خمسة أسهم، ثم يرمي الآخر خمسة، أو يرمي أحدهما جميع رشقه، ثم يرمي الآخر جميع رشقه.. حملا على ذلك؛ لأنه لا يؤثر في مقصود المناضلة.
فإن عقد النضال على أرشاق كثيرة، فإن شرطا أن يرميا كل يوم أرشاقًا منها معلومة.. جاز، وحملا عليه، وإن أطلقا ذلك.. جاز، وحملا على التعجيل، فيرميان من أول النهار إلى آخره، إلا أن يعرض عذر من مرض، أو ريح تشوش السهام، أو مطر؛ لأنه يرخي الوتر، ويفسد الريش. وكذلك: إن عرضت الحاجة إلى الطعام والشراب، أو قضاء حاجة الإنسان من غائط أو بول، لهما أو لأحدهما.. قطع الرمي لذلك.

(7/447)


وإذا جن الليل.. قطعا الرمي؛ لأن العادة ترك الرمي بالليل، إلا أن يكونا قد شرطا الرمي بالليل، فإنهما يرميان به، فإن كان القمر منيرًا.. كفى، وإن لم يكن منيرًا.. فلا بد أن يكون معهما شمعة أو ما أشبهها؛ ليتمكنا من الإصابة.

[مسألة: اتحادهما في عدد الرميات]
ولا يجوز أن يتفاضلا في عدد الرشق، فيكون رشق أحدهما ثلاثين والآخر عشرين، ولا أن يحتسب خسق أحدهما خاسقين، ولا أن تكون الشمس في وجه أحدهما دون الآخر.
ولا يجوز أن يختلفا في عدد الإصابة، ولا في موضعها؛ لأن المناضلة إنما تراد ليعرف بها فضل أحدهما على الآخر، فكانت موضوعة على التساوي.
فرع: [لا يتفاضلان في عدد النبال] :
قال الشافعي: (ولا يجوز أن ينتضل رجلان وفي يد أحدهما من النبل أكثر مما في يد الآخر) . فتأول أصحابنا هذا تأويلين:
أحدهما: أنه أراد باليد الرشق، فلا يكون رشق أحدهما أكثر من رشق الآخر، والرشق يسمى: يدًا، ووجهًا، ودستًا.
والثاني: أراد به اليد في الحقيقة؛ لأن بعض الرماة قد يرمي وفي يده سهم أو سهمان، فأراد: أنه لا يجوز أن يشترطا أن يكون في يد أحدهما من السهام أكثر مما في يد الآخر؛ لأن من كثرت في يده السهام تشوش رميه.

[فرع: الشرط الفاسد في المناضلة يبطلها]
] : وإذا شرطا في المناضلة أو المسابقة شرطًا فاسدًا.. بطل العقد؛ لأنه كالإجارة في أحد القولين، أو كالجعالة في الآخر، وهما يبطلان بالشروط الفاسدة، وهل يستحق الناضل والسابق شيئًا في العقد الفاسد؟ فيه وجهان:

(7/448)


أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه لا يستحق شيئًا؛ لأن عوض المثل إنما يستحق في العقد الفاسد إذا تلفت منفعة العامل في نفع صاحبه، وهاهنا لم يحصل للآخر نفع، فلم يستحق عليه عوض المثل.
والثاني: أنه يستحق عوض المثل. وهو الصحيح؛ لأن كل منفعة ضمنت بالمسمى في العقد الصحيح.. ضمنت بعوض المثل في العقد الفاسد، كالقراض.

[مسألة: الشرط الباطل يبطل النضال]
ولو قال: سبقتك عشرة، على أنك إن نضلتنى أطعمت السبق أصحابك، أو كان المال منهما، وبينهما محلل، وشرطا أن الناضل يطعم السبق أصحابه. فالمنصوص: (أن الشرط باطل، والنضال باطل) .
وقال أبو إسحاق: يحتمل قولًا آخر، أن يبطل الشرط، ويصح النضال، كما قال الشافعي ـ فيمن قال: أصدقتك ألفين على أن تعطي أباك ألفا ـ: (إن الشرط باطل، والصداق صحيح) ؛ لأنه شرط عليها ما لا يعود نفعه إليه. وهذا ليس بصحيح؛ لأنه تمليك شرط فيه شرط يمنع كمال التصرف، فإذا بطل الشرط.. بطل العقد، كما لو باعه شيئًا، وشرط على المشتري أن يتصدق بالمبيع، أو كما لو باعه شيئًا، واشترط عليه أن لا يبيعه.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: يصح النضال.. كان الناضل بالخيار: بين أن يطعم أصحابه، أو لا يطعمهم، وإذا قلنا: لا يصح النضال.. لم يستحق الناضل المسمى، وهل يستحق عوض المثل؟ على الوجهين في المسألة قبلها.
مسألة: [عقد على إصابة خمسة سهام] :
فإن عقد النضال على عشرين رشقًا وإصابة خمسة منها مبادرة، فإن أصاب أحدهما خمسة من خمسة، أو من ستة، وأصاب الآخر منها أربعة.. فالذي أصاب خمسة هو الناضل، وسقط رمي ما بقي من الرشق؛ لأن أحدهما قد نضل صاحبه.

(7/449)


وإن رميا عشرة، فأصاب أحدهما ثلاثة، والآخر أربعة، أو استويا في عدد الإصابة.. رميا ما بقي من الرشق؛ لأن كل واحد منهما يرجو أن ينضل صاحبه، فإن رمى المصيب أربعة سهمًا، فأصاب.. لم يرم المصيب ثلاثة ذلك السهم؛ لأنه لا فائدة له في رميه؛ لأن عليه إصابة سهمين، وقد بقي له من الرشق سهم.
وإن أصاب كل واحد منهما خمسة من خمسة أو أكثر.. لم ينضل أحدهما صاحبه؛ لأن أحدهما لم يبدر إلى عدد الإصابة، وسقط رمي ما بقي من الرشق؛ لأنهما قد أصابا العدد المشروط في الإصابة.
وإن شرطا إصابة خمسة من عشرين رشقًا محاطة، فإن رمى كل واحد منهما عشرة، وأصاب خمسة.. لم ينضل أحدهما صاحبه؛ لأن إصابتهما متساوية، فتسقط إحداهما بالأخرى، ولا يسقط ما بقي من الرشق؛ لأن كل واحد منهما يرجو أن ينضل صاحبه. وإن أصاب أحدهما عشرة أسهم من عشرين رشقًا، [و] أصاب الآخر خمسة من عشرين.. فقد نضل المصيب عشرة؛ لأن خمسة تسقط بخمسة، ويبقى له خمسة، وهو العدد المشروط. وإن رمى كل واحد منهما ستة عشر سهمًا، ولم يصب أحدهما شيئًا، أو أصاب كل واحد منهما سهمًا من سبعة عشر سهمًا، أو سهمين من ثمانية عشر سهمًا.. فالذي يقتضي المذهب: أن يسقط رمي ما بقي من الرشق؛ لأنه لا يرجو أحدهما أن ينضل صاحبه، فلا فائدة في رميه.
وإن رمى أحدهما خمسة عشر، فأصابها كلها، وأصاب الآخر خمسة من خمسة عشر، فطلب صاحب الخمسة أن يرمي باقي الرشق.. لم تجب إجابته إلى ذلك؛ لأنه

(7/450)


لا فائدة له في ذلك، لأن أكثر ما فيه أن يصيب صاحب الخمسة الخمسة الباقية له، ويخطئ الآخر فيها، ويبقى لصاحب الخمسة عشر خمسة، فينضله بها.
وإن استويا في عدد الرمي، وبدر أحدهما إلى إصابة العدد المشروط قبل إكمال الرشق، فطالبه الآخر بإكمال الرشق، فإن كان يرجو أن ينضله، أو يساويه، أو يمنعه أن ينضله:
فأما رجاء أن ينضله: فمثل أن يرمي أحدهما عشرة، فيصيب منها ستة، ويرمي الآخر عشرة، فيصيب منها واحدًا، ويرمي صاحب الواحد العشرة الباقية، فيصيبها كلها، فيكون له أحد عشر، ويخطئ الآخر بالعشرة الباقية، فيسقط ستة بستة، ويفضل للآخر خمسة.
وأما المساواة: فبأن يصيب أحدهما عشرة من خمسة عشر، ويصيب الآخر خمسة من خمسة عشر، فربما رمى صاحب الخمسة ما بقي من الرشق، فأصابها كلها، وأخطأ فيها صاحبه، فيكون له عشرة ولصاحبه عشرة.
وأما منعه أن ينضله: فبأن يصيب أحدهما أحد عشر من خمسة عشر، ويصيب الآخر سهمين من خمسة عشر، فربما أصاب صاحب السهمين الخمسة الباقية، وأخطأ صاحبه فيها، فيصير معه سبعة، فإذا سقط من أحد عشر ـ وهي إصابة صاحبه ـ سبعة.. بقي له أربعة، وهي دون العدد المشروط في الإصابة.
فمتى رجا واحدًا من هذه الأحوال.. فهل له المطالبة برمي باقي الرشق؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له المطالبة بذلك؛ لأن صاحبه قد حصل له العدد المشروط من الإصابة بعد الحط، فلا معنى لإكمال الرشق، كما قلنا في المبادرة.
والثاني: أن له المطالبة بذلك؛ لأن له فائدة في ذلك، بخلاف المبادرة، فإنه لا فائدة له في الإصابة بعد استوائهما في العدد المشروط.

(7/451)


[فرع: تناضلا على عشرين وإصابة عشرة]
لو تناضلا على رمي عشرين رشقا، وإصابة عشرة منها، فرمى أحدهما، فأصاب سهمين، وأصاب الآخر سهمين، فقال أحدهما للآخر: ارم هذا السهم، فإن أصبت، فقد نضلتني.. لم يجز؛ لأنه لا يكون ناضلًا له إلا أن يتفقا في عدد الرمي، وينضله في الإصابة.
فإن تفاسخا عقد المناضلة، ثم قال: إن رميت هذا السهم، فأصبت، فلك كذا.. جاز؛ لأن ذلك جعالة مبتدأة فيما له فيه غرض صحيح، وهو حثه له على الرمي والإصابة.
قال ابن الصباغ: وينبغي أنه إذا قال: ارم هذا السهم، فإن أصبته فلك كذا ـ غير المشروط بينهما ـ ولا يعد هذا السهم من النضال الذي بينهما.. أن يجوز ذلك؛ لأنه خارج من المناضلة. فإن قال: ارم سهمًا، فإن أصبت، فلك كذا، وإن أخطأت فعليك كذا.. لم يجز؛ لأنه قمار.

[مسألة: صور النضال على الحوابي]
مسألة: [] :
إذا عقد النضال على الحوابي، على أن ما كان من الإصابة أقرب إلى الشن أسقطت الإصابة التي هي أبعد منها، ويفضل للناضل عدد معلوم.. جاز ذلك؛ لأن المحاطة جائزة، وهذا نوع من المحاطة.
إذا ثبت هذا: فقد ذكر الشافعي في هذا مسائل:
[الأولى] منها: إذا رمى أحدهما سهمًا، فوقع في الهدف، ورمى الآخر خمسة، فوقعت أبعد من سهم الأول، ثم رمى الأول سهمًا، فوقع أبعد من الخمسة.. سقطت الخمسة بالأول، وسقط الذي بعد الخمسة بالخمسة؛ لأن الخمسة إلى الغرض أقرب منه.
الثانية: إذا رمى الأول خمسة، فوقعت قريبة من الشن، وبعضها أقرب إلى الشن

(7/452)


من بعض، ثم رمى الثاني خمسة، فوقعت أبعد من الخمسة الأولى.. سقطت الخمسة الثانية، وثبتت الأولى، ولم يسقط الأقرب منها الأبعد منها؛ لأن الأقرب من رمي أحدهما يسقط الأبعد من رمي الآخر، لا من رمي نفسه.
الثالثة: إذا رمى أحدهما فأصاب الهدف، ورمى الآخر فأصاب الغرض.. أسقطت إصابة الغرض إصابة الهدف؛ لأن الأقرب إلى الغرض يسقط الأبعد منه، فلأن تسقط إصابة الغرض ما خرج عنه أولى.
الرابعة: أن يصيب أحدهما الغرض، ويصيب الآخر العظم الذي في وسط الرقعة في الغرض، قال الشافعي [في " الأم " (4/149) ] : فمن الرماة: (من قال: تسقط الإصابة في العظم ما كان أبعد منها في الغرض) ؛ لأنه لما كان القريب إلى الشن يسقط ما بعد منه.. كذلك القريب إلى الرقعة يسقط ما بعد منها.
قال الشافعي: (والقياس عندي: أن لا يسقطه) ؛ لأن الشن كله موضع إصابته، فليس بعض إصابته أقرب من بعض.
الخامسة: قال الشافعي: (من الرماة من قال: إنهما يتقايسان النبل ما كان منه في الوجه أو عاضدًا، وليس هذا بقياس. والقياس: هو أنهما يتقايسان ما كان ساقطًا وعاضدًا. وخارجًا) .
وأراد بذلك: أن من الرماة من يقول: إنهما يتقايسان النبل، ويسقط القريب منه البعيد إذا كان ذلك في وجه الشن، وهو ما وقع بين يدي الغرض وأسفل منه، وهو المراد بقوله: (ساقطًا) .
وقوله: (عاضدًا) : وهو ما كان من جانبي الغرض دون ما أصاب ما جاوز الغرض من فوق.

(7/453)


وقال الشافعي: (ليس هذا بقياس، بل القياس: أنهما يتقايسان ما كان ساقطًا وعاضدًا وخارجًا، فيسقط الأقرب منها من أي جهات الغرض ما كان أبعد منها) .
السادسة: إذا رميا فأصابا الهدف، وكانا في القرب سواء إلى الهدف.. قال الشافعي: (تناضلا) يريد: أنهما سواء، فيسقطان.

[مسألة: النضال بين فئتين]
ويجوز أن يكون النضال بين جهتين.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يجوز؛ لأنه لا يجوز لأحدهم أن يأخذ بإصابة غيره. والأول هو المنصوص؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بحزبين من الأنصار يتناضلان، فقال: ارموا، وأنا مع الحزب الذي فيه ابن الأدرع» ولم ينكر عليهم.
إذا ثبت هذا: فإن أرادوا التحزب.. فإنه ينتصب لكل حزب رئيس، يم يختار أحد الرئيسين واحدًا من الرماة، ثم يختار الرئيس الآخر واحدًا بإزائه، ثم يختار الأول واحدًا، ثم يختار الثاني واحدًا، إلى أن يستكمل كل واحد حزبه، فإن اختلف الرئيسان فيمن يختار أولًا.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. وإن أرادوا أن يجعلوا الرئيس واحدًا في اختيار الحزبين.. لم يجز؛ لأنه تدخله التهمة، فيختار لنفسه الحذاق. ولا يجوز أن يختار أحد الرئيسين جميع أهل حزبه أولًا؛ لأنه يختار لنفسه الحذاق، بل يختار كل رئيس واحدًا على ما مضى. فإن قال أحد الرئيسين: أن أختار أولًا على أن أخرج السبق، أو على أن يكون السبق على حزبي، أو قال لصاحبه: اختر أولًا، على أن يكون السبق عليك.. لم يجز؛ لما ذكرناه من أن ذلك يؤدي إلى أن يختار أحدهما لحزبه الحذاق. فإن عدل بين الحزبين بالقوة والضعف، ثم اقترع الزعيمان على الحزبين.. لم يصح؛ لأن المناضلة كالإجارة في أحد القولين، وكالجعالة في الآخر، وأيهما كان.. فلا تدخله القرعة.

(7/454)


[فرع: معرفة المتناضلين لبعضهما]
شرط] :
قال الشافعي: (ولا يجوز السبق حتى يعرف كل واحد من المتناضلين من يرمي معه، بأن يكون حاضرًا يراه أو غائبًا يعرفه) .
قال القاضي أبو الطيب: ظاهر هذا: أنه يكفي معرفة الزعيم لهم، ولا يصح حتى يتساوى الحزبان في العدد؛ لأن المقصود معرفة حذقهم، فإذا كان أحدهما أكثر عددًا.. كان الفضل بكثرة العدد لا بجودة الرمي، ويكون عدد الرشق منقسمًا بينهم؛ لأنه إذا لم يكن منقسمًا عليهم.. بقي هناك سهم، وتنازعوا فيمن يرميه. وتبنى إصابة بعض الحزب على إصابة بعض، وخطأ بعضهم على خطأ البعض؛ لأنهم بمنزلة الرجل الواحد.

[فرع: شرط التقديم مفسد]
وإن شرطوا أن يكون فلان مقدمًا في الرمي، وفلان في الحزب الآخر معه، ثم فلان وفلان بعده.. قال الشافعي: (كان فاسدًا) ؛ لأن تدبير الحزب في البداية إلى زعيمهم؛ ليقدم من رأى تقديمه، فإذا شرطوا أن يكون ذلك إلى اختيار الزعيم الآخر.. كان شرطًا ينافي مقتضى العقد، فأبطله.

[فرع: اختيار أحد الزعماء للغريب]
فإن جاء رجل غريب لا يعرفونه، فادعى: أنه يحسن الرمي، فاختاره أحد الرئيسين.. نظرت:
فإن خرج من أهل الرمي إلا أنه كثير الخطأ، فقال أهل حزبه: ظنناه أنه كثير الإصابة.. وقد بان بخلافه، أو خرج كثير الإصابة، فقال أهل الحزب الآخر: ظنناه قليل الإصابة.. لم يسمع ذلك منهم. قال الشافعي: (وكان كمن عرفوه) ؛ لأن شرط دخوله في العقد: أن يكون من أهل الصنعة دون الحذق والنقص، كما اشترى عبدًا

(7/455)


على أنه كاتب، فبان حاذقًا فيها أو ناقصًا.. فإن ذلك لا يؤثر.
وإن بان أنه لا يحسن الرمي أصلا.. بطل العقد فيه؛ لأنه ليس من أهل العقد.
قال ابن الصباغ: ويبطل العقد في محاذيه؛ لأنا قد قلنا: إن أحد الزعيمين يختار واحدًا، ويختار الآخر واحدًا، وهل يبطل في الباقي؟ فيه قولان، بناء على تفريق الصفقة.
فإذا قلنا: لا يبطل.. ثبت للحزبين الخيار؛ لأن الصفقة تفرقت عليهم.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن العقد يبطل في واحد من الحزبين غير معين.
وهل يبطل العقد في الباقي؟ فيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان.
و [الثاني] : منهم من قال: يبطل، قولًا واحدًا؛ لأن من في مقابلته لا يتعين، ولا سبيل إلى تعيينه بالقرعة.
فإذا قلنا: لا يبطل، وتنازعوا فيمن يخرجونه بإزائه.. فسخ العقد.

[فرع: قسمة الربح بين أحد الحزبين]
وإذا تناضل حزبان، فنضل أحدهما الآخر.. ففي قسمة المال بينهم وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يقسم بينهم بالسوية، كما يقسم على المنضولين بالسوية إذا التزموه.
فعلى هذا: إن خرج فيهم من لم يصب.. استحق.
والثاني: يقسم بينهم على عدد إصابتهم؛ لأنهم استحقوا ذلك بالإصابة، فإن خرج فيهم من لم يصب.. لم يستحق شيئًا.

(7/456)


[فرع: تفاضل أحد المتناضلين]
وإذا تناضلا فظهر لأحدهما فضل على الآخر في الإصابة، فقال المفضول: اطرح فضلك وعلي لك دينار.. لم يجز؛ لأن ذلك يمنع معرفة الحاذق منهما، فإن تفاسخا العقد، وعقدا عقدًا آخر.. جاز، وإن لم يتفاسخاه، ولكن رميا تمام الرشق فتمت له الإصابة مع ما أسقطه.. استحق السبق، ورد الدينار إن كان أخذه؛ لأنه لم يملكه.
والله أعلم

(7/457)


[باب بيان الإصابة والخطأ في الرمي]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (وإذا تناضلا، فكان الشرط بينهما إصابة الشن خاصة.. لم يعتد له إلا بما أصاب الشن دون ما يصيب الجريد والعروة والمعاليق) .
قال المحاملي: و (الشن) : هو الجلد المنصوب للرمي. و (الجريد) : هو الطوق الذي يكون حول الجلد. و (العروة) : هي التي يعلق بها ذلك الطوق. و (المعاليق) : هي الخيوط التي تربط بالعروة؛ ليعلق بها الغرض، و (الغرض) : هو الشن، والجريد، والعرى.
إذا ثبت هذا: فإن شرطا إصابة الشن.. لم يعتد إلا بإصابة الجلد خاصة، دون ما زاد عليه.
وإن كان الشرط إصابة الغرض، فإن أصاب الشن أو الجريد أو العروة.. اعتد له بذلك؛ لأن اسم الغرض يجمع ذلك كله، وإن أصاب المعاليق، وهي: الخيوط التي يعلق بها الغرض.. ففيه قولان:
أحدهما: يعتد له بذلك؛ لأنهما من جملة الغرض، ألا ترى أن المعاليق إذا مدت.. امتد الغرض؟
والثاني: لا يعتد له بذلك؛ لأنه ليس من جملة الغرض، وإنما يراد لإمساك الغرض، فهي كالهدف.

[مسألة: ثبوت السهم في الهدف]
قال الشافعي: (وإن كان في الشن نبل، فأصاب سهمه فوق سهم في الشن.. لم يحتسب، ورد عليه، فرمى به) .

(7/458)


قال أصحابنا: إذا وقع سهمه في فوق سهم ثابت في الغرض.. نظرت:
فإن كان السهم الذي في الغرض لم يغرق إلى فوقه، بل باقيه خارج.. لم يحتسب لمن أصاب فوقه ولا عليه؛ لأن بين سهمه والغرض طول السهم.
وإن كان السهم الذي في الغرض قد غرق فيه إلى فوقه؛ فإن كان الشرط في الإصابة مطلقًا.. احتسب له بالإصابة، لأنا نعلم أنه لولا فوق هذا السهم لأصاب الغرض، وإن كانت الإصابة هي الخسق.. لم يحتسب له ولا عليه؛ لأنا لا نعلم مع فوق هذا السهم الثابت، هل كان يخسق، أو لا؟
قال ابن الصباغ: فإن أصاب فوق السهم، وسبح على الشن، فأصاب الغرض. حسبت إصابته.

[فرع: نقل الريح الغرض]
إذا رمى إلى الغرض، فنقلت الريح الغرض من مكانه إلى مكان آخر، فإن أصاب الغرض في مكانه الذي انتقل إليه.. حسب عليه في الخطأ؛ لأن الشرط بينهما الإصابة في الموضع الأول، وإن أصاب الموضع الذي كان فيه الغرض، فإن كان الشرط بينهما الإصابة مطلقًا.. حسب له؛ لأن الغرض لو كان مكانه أصابه. وإن كان الشرط الخواسق، فإن كان الهدف صلبًا قويًا.. حسب له؛ لأنه لو كان الغرض بحاله.. خسقه، وإن كان ترابًا.. لم يحتسب له ولا عليه؛ لأنا لا نعلم لو كان الغرض هناك، هل كان يخسقه، أم لا؟
إذا ثبت هذا: فقد قال الشافعي في " الأم ": (ولو رمى والشن منصوب، فطرحه الريح، أو طرحه إنسان قبل أن يقع سهمه.. كان له أن يعود فيرمي بذلك السهم؛ لأن الرمية زالت) .
قال ابن الصباغ: واختلف أصحابنا فيه:

(7/459)


فذهب ابن القاص إلى: أن المسألة على ظاهرها، وأنه إذا أصاب مكان الغرض.. لا يكون إصابة؛ لأن محل الإصابة زال.
ومنهم من قال: أراد الشافعي: إذا كان الشرط الخواسق، وكان الموضع ترابًا. على ما مضى بيانه، وهذا أصح.
قال الشافعي: (فإن اتفقا على أن يرميا الغرض في موضعه الثاني.. جاز، كما لو اتفقا على ذلك ابتداء) .
فرع: [معاونة الريح على الإصابة] :
إذا رمى مفارقًا للغرض، فحملت السهم ريح خفيفة، فأصاب الغرض، أو نزع نزعًا مقصرًا ليصيب مع معاونة الريح، فأعانته الريح، وأصاب.. احتسب له؛ لأن ذلك غاية الحذق في الرمي، وإن أخطأ.. احتسب عليه؛ لأنه أخطأ بسوء رميه.
فأما إذا رمى وفي الجو ريح عاصف، فصرفت سهمه عن الإصابة، أو حملت سهمه، فأصاب.. لم يحتسب عليه ولا له؛ لأنه لم يصب بجودة رميه، ولا أخطأ بسوء رميه.
وإن رمى من غير ريح، فثارت ريح بعد خروج السهم، فحملت سهمه، فأخطأ.. لم يحتسب عليه؛ لأنه أخطأ بعارض لا بسوء رميه، وإن أصاب.. فقد قال بعض أصحابنا: فيه وجهان، بناء على القولين في السهم المزدلف، وقال الشيخ أبو إسحاق: عندي: أنه لا يحتسب له، قولًا واحدًا.

[فرع: لا تحتسب إلا إصابة النصل]
قال الشافعي: (إذا أصاب بالقدح.. لم يحتسب إلا ما أصاب بالنصل) .
قال أصحابنا: أراد (بالقدح) : الفوق، وهو: الثلمة في أسفل السهم التي يوضع فيها الوتر، فإذا أصاب به.. لم يحتسب له؛ لأن ذلك من أسوأ الرمي.

(7/460)


[مسألة: عوارض تعتري الرمي]
وإن انكسر القوس، أو انقطع الوتر، أو أصابت يده ريح، أو أغرق السهم، فخرج السهم من اليمين إلى اليسار، قال ابن الصباغ: لأن من شأن السهم أن يمر على إبهام يساره، فإذا زاد في النزع.. عثر السهم، فمر على أصل سبابة يساره، فإن رمى، ووقع السهم دون الغرض مع شيء من هذه العوارض.. لم يحتسب عليه؛ لأنه أخطأ باختلال الآلة لا بسوء رميه.
ومن أصحابنا من حكى وجهًا آخر: أن يحتسب عليه بالخطأ في إغراق السهم. والأول هو المنصوص.
قال الشافعي بعد هذا: (فإن جاء السهم، وجاز من وراء الناس.. فهذا سوء رمي وليس بعارض، فلا يرد) . واختلف أصحابنا في هذا:
فقال أبو إسحاق: عطف به الشافعي على المسألة قبلها، وهو أنه إذا عرض له بعض العوارض التي ذكرناها، فلم يقصر سهمه، ولكن جاوز الغرض ولم يصبه.. اعتد عليه به في الخطأ؛ لأنه إنما لا يحتسب عليه به في الخطأ إذا قصر سهمه دون الغرض؛ لأن العارض منعه، فأما إذا جاوز السهم الغرض.. فإنه أخطأ بسوء رميه لا للعارض؛ لأنه لو كان للعارض تأثير.. لمنعه عن بلوغه.
ومن أصحابنا من قال: هذه غير معطوفة عليها، بل هي مبتدأة، وأراد به: إذا رمى فجاوز سهمه الغرض، والناس الذين عنده يشهدون الإصابة من غير عارض.. فإنه يعتد عليه بالخطأ؛ لأنه أخطأ بسوء رميه.
فأما إذا عرض شيء من العوارض التي ذكرناها، وجاوز سهمه الغرض، وأخطأه.. فإنه لا يعتد به عليه في الخطأ، كما لو قصر سهمه عن الغرض.
وإن أصاب الغرض مع شيء من هذه العوارض التي ذكرناها.. فهل تحتسب له الإصابة؟ حكى المحاملي، وابن الصباغ فيها وجهين:

(7/461)


[الأول] : على قول أبي إسحاق: يعتد له به؛ لأنه لما اعتد عليه بالخطأ عند مجاوزة السهم الغرض.. اعتد له بالإصابة.
و [الثاني] : على قول غيره من أصحابنا: لا يعتد له بالإصابة؛ لأنه لما لم يعتد عليه بالخطأ.. لم يعتد عليه بالإصابة.
وذكر في " المهذب " [1/427] : أنه يعتد له بالإصابة، وجهًا واحدًا؛ لأن الإصابة مع اختلال الآلة أدل على حذقه.

[فرع: انكسار السهم]
وإن انكسر السهم، فوقع دون الغرض.. لم يحتسب عليه بالخطأ؛ لأنه أخطأ بعارض لا بسوء رميه.
وإن أصاب بالنصل.. احتسب له به في الإصابة؛ لأن ذلك أدل على حذقه. وإن أصابه بفوقه أو عرضه.. لم يحتسب له ولا عليه؛ لأنه لم يخطئ بسوء رميه، وإنما أخطأ باختلال الآلة.
فرع: [حدوث عارض رد السهم] :
وإن عرض دون الغرض عارض، من إنسان أو بهيمة، فإن رد العارض السهم، ووقع دون الغرض.. لم يحتسب عليه في الخطأ؛ لأنه لم يخطئ بسوء رميه، وإن وقع السهم في العارض، ثم جاوز السهم الغرض ولم يصبه.. فهل يحتسب عليه في الخطأ؟ فيه وجهان، ذكرناهما في انكسار القوس وانقطاع الوتر:
[الأول] : قال أبو إسحاق في " المهذب " [1/428] : يحسب عليه.
و [الثاني] : قال غيره من أصحابنا: لا يحتسب عليه.
وإن نفذ السهم في العارض وأصاب الغرض.. فهل يحتسب له في الإصابة؟ قال ابن الصباغ: فيه وجهان:

(7/462)


[أحدهما] : إن قلنا: يحتسب عليه. بالخطأ إذا جاوز الغرض.. احتسب له بالإصابة.
و [الثاني] : إن قلنا: لا يحتسب عليه بالخطأ عند مجاوزة الغرض.. لم يحتسب له بالإصابة.
وقال الشيخ أبو إسحاق: يحتسب له بالإصابة، وجهًا واحدًا؛ لأن إصابته مع العارض أدل على حذقه.
وإن رمى بسهم، فازدلف ووقع في الغرض وأصابه؛ بأن يقع في الأرض دون الغرض، ثم يقوم من الأرض إلى الغرض.. فهل يحتسب له بالإصابة؟ من أصحابنا من قال: فيه وجهان، ومنهم من قال: هما قولان:
أحدهما: يحتسب له بالإصابة؛ لأنه أصاب الغرض بنصل السهم، فهو كما لو لم يزدلف سهمه.
والثاني: لا يحتسب له في الإصابة؛ لجواز أن تكون الإصابة بازدلاف السهم في الأرض واضطرابه، لا بجودة الرمي.
قال المحاملي: فعلى هذا: لا يحتسب له في هذا الرمي ولا عليه.
وقال أبو إسحاق المروزي: يحتمل أن يكون على اختلاف حالين: فإن كانت الأرض أعانت.. لم يحتسب له، وإن لم تكن أعانت.. احتسب له.
وإن ازدلف سهمه، فأخطأ.. قال المحاملي: احتسب عليه بالخطأ؛ لأن الازدلاف من سوء الرمي والخطأ فيه. وحكى صاحب " المهذب " فيه وجهين:
أحدهما: يحتسب عليه فيه بالخطأ؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يحتسب عليه فيه؛ لأن الأرض تشوش الرمي، وتزيل السهم عن سننه، فإذا أخطأ.. لم يكن ذلك بسوء رميه.

(7/463)


[مسألة: يحتسب خاسقًا إذا خرق]
قال الشافعي: (ولو تشارطا الخواسق.. لم يحتسب له خاسقًا حتى يخرقه فيتعلق بنصله) وجملة ذلك: أنه إذا كان الشرط بينهما الخواسق، فإن أصاب السهم الغرض وثقبه وثبت فيه.. حسب له في الإصابة؛ لأن هذا هو الخاسق، وإن خدشه ولم يثقبه.. احتسب عليه في الخطأ؛ لأنه لم يخسق، وإن ثقبه وسقط عنه ولم يثبت فيه، فهل يحتسب له خاسقا؟ فيه قولان، قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من يقول: هما وجهان:
أحدهما: يعتد له به في الإصابة؛ لأنه قد خرقه، والخسق والخرق واحد، ولعله لم يثبت فيه لسعة الثقب.
والثاني: لا يحتسب له فيه، وهو الأصح؛ لأن كل واحد منهما مخالف للآخر في الاسم والمعنى، والخسق أعلى من الخرق.
فعلى هذا: يحتسب عليه فيه بالخطأ. وإن كان الشرط بينهما الإصابة مطلقا فأصاب وخرق أو خسق أو خرم أو مرق.. احتسب له في الإصابة؛ لأن الإصابة توجد في هذه الأنواع.

[فرع: اشتراط الخسق]
وإن كان الشرط بينهما الخسق، فأصاب أحدهما الغرض وكان ملصقًا بالهدف، فسقط عنه السهم ولم يثبت فيه، وادعى الرامي أنه قد خسق وإنما لم يثبت سهمه لغلط لقيه من نواة أو حصاة أو ما أشبه ذلك، وقال المصاب عليه: إنما لم يثبت سهمك لسوء رميك، لا لما ذكرت، فإن علم موضع الإصابة باتفاقهما، أو بقيام البينة عليه.. نظرت:

(7/464)


فإن لم يكن في الغرض ما يمنع ثبوت السهم وقد خرقه.. ففيه قولان بناء على أن الخارق هل يحسب خاسقًا؟ فإن قلنا: يحسب له.. فلا كلام. وإن قلنا: لا يحسب له.. حسب عليه في الخطأ.
وإن علم موضع الإصابة، وكان فيه ما يمنع من جري السهم من نواة أو حصاة، وقد خرق إلى أن يبلغ إلى المانع، فإن قلنا: إن الخارق يحسب خاسقًا.. حسب له في الإصابة. وإن قلنا: لا يحتسب الخارق خاسقًا.. لم يحسب عليه في الخطأ؛ لأنه إنما لم يخسق للعارض، لا لسوء رميه.
وإن علم موضع الإصابة ولا مانع فيه، ولا خرقه الرامي.. حسب عليه في الخطأ، ولا يمين على المصاب عليه؛ لأن ما ادعاه الرامي غير ممكن.
وإن كان هناك مانع، فقال الرامي: لم يخرق سهمي للمانع، وقال المصاب عليه: لم يخرق سهمك لسوء رميك لا لمانع.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: القول قول الرامي مع يمينه؛ لأن المانع يشهد له.
والثاني: القول قول المصاب عليه مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الخسق.
وإن لم يعلم موضع الإصابة: فإن فتش الغرض ولم يوجد وراءه حصاة، ولا نواة تمنع الخسق.. فالقول قول المصاب عليه بغير يمين؛ لأن ما يدعيه الرامي غير ممكن، ويحسب على الرامي بالخطأ. وإن وجد بعد الغرض ما يمنع من الثبوت.. فالقول قول المصاب عليه مع يمينه؛ لأن ما يدعيه الرامي ممكن، فلذلك حلف المصاب عليه.

[فرع: إصابة الخرق وثبوته فيه]
قال الشافعي: (وإن كان الشن باليًا، فأصاب موضع الخرق، فغاب في الهدف.. فهو مصيب) .

(7/465)


وجملة ذلك: أنه إذا كان الشرط بينهما الخواسق، فوقع السهم في موضع من الغرض قد خلق وبلي، أو ثقبه كانت فيه، وثبت في الهدف، فإن كان الهدف قويًا مثل صلابة الشن، بأن يكون بناء أو طينًا يابسًا وما أشبهه.. احتسب له فيه؛ لأنا نعلم أن السهم لو وقع في الغرض لخسقه. وهذا مراد الشافعي.
وإن كان الهدف ترابًا أو طينًا رطبًا.. لم يعتد له به؛ لأنا لا نعلم لو أصاب الغرض، هل كان يثبت أم لا؟ ولا يحتسب عليه به في الخطأ أيضًا؛ للاحتمال فيه.
وإن كان الشرط الخسق، فأصاب طرف الشن وخرقه وثبت مكانه، فحصل الشن من أحد جانبي السهم والجانب الآخر فارغ.. ففيه قولان، حكاهما المزني في " المختصر ":
أحدهما: لا يعتد له به؛ لأن الخاسق هو الذي يثبت في الغرض، ويحيط الغرض بجميع السهم، والغرض هاهنا لا يحيط بجميع السهم، فلم يعتد به خاسقًا.
والثاني: يعتد له به.
قال المحاملي: وهو الأشبه؛ لأن الخاسق هو الذي يصيب الغرض ويثبت فيه وقد وجد ذلك.

[فرع: المروق في الغرض خسق]
وإن كان الشرط الخسق، فرمى أحدهما فوقع في الغرض ومرق منه.. قال الشافعي: (كان عندي خاسقا) قال: (ومن الرماة من لا يحتسبه إذا لم يثبت فيه) .

(7/466)


واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: هو خاسق قولًا واحدًا، وإنما حكى الشافعي مذهب غيره؛ لأنه قد وجد فيه الخسق وزيادة.
ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يعتد به خاسقًا؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يعتد له به؛ لأن المقصود بالمناضلة أن يعلم حذق الرامي وحسن رميه، والخسق فيه ضرب من الحذق وهو أن ينزع نزعًا يعلم أن سهمه يثبت في الغرض، ولا يزيد عليه، فإذا مرق، لم يوجد هذا المعنى، ولم يعد مصيبًا.
قال في " الأم " [4/150] : إذا كان الشرط الخواسق، فرمى أحدهما، فوجد السهم في ثقبة من الغرض، وهو ثابت في الهدف مع جليدة من الغرض، فقال الرامي: خسقت، ولشدة الرمي قطعت هذه الجليدة، وثبت في الهدف، فأنكر الآخر، وقال: بل كان في الغرض ثقبة وفيها هذه الجليدة، فوقع سهمك في الجليدة.. فالقول قول المصاب عليه مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الخسق.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا ـ كما قدمنا في المسألة قبلها ـ إن كان الهدف رخوًا.. لم يثبت كونه خاسقًا، وإن كان صلبًا.. كان خاسقًا. وأراد: إذا كان الهدف رخوًا.. فالقول قول المصاب عليه مع يمينه. وإن كان صلبًا.. حكم للرامي بالخسق من غير يمين؛ لما قدمناه.

(7/467)


[مسألة: ما يبطل المناضلة]
وإن مات أحد المتناضلين، أو ذهبت يده.. بطلت المناضلة؛ لأن المقصود معرفة حذقهما، وقد فات ذلك.
وإن مرضا، أو أحدهما، أو رمدت عينه.. لم يبطل العقد؛ لأنه يمكن استيفاء ذلك بعد زوال العذر، ويحتمل أن يثبت للآخر الخيار في فسخ العقد؛ لأنه تأخر المعقود عليه.
وإن أراد أحدهما أن يفسخ العقد، أو يجلس عن الرمي، وكان العوض منهما، وبينهما محلل، فإن قلنا: إنه كالإجارة.. لم يصح فسخه، وأجبر الممتنع منهما عن الرمي بالحبس والتعزير، وإن قلنا: إنه كالجعالة، فإن كان قبل الرمي أو بعد الرمي، وهما متساويان في الإصابة.. صح الفسخ، ولم يجبر الممتنع عن الرمي.
فإن كان أحدهما قد ظهر له فضل إصابة، فإن كان الذي فسخ أو امتنع من الرمي هو الفاضل.. صح فسخه، ولم يجبر على الرمي، وإن كان الفاسخ أو الممتنع هو المفضول، فهل يصح فسخه، ولا يجبر على الرمي؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في أول الباب.
وإن شرطا أن كل واحد منهما يجلس عن الرمي أي وقت شاء، فإن كان ذلك في حال العقد، فإن قلنا: إن العقد لازم.. بطل الشرط والعقد، وإن قلنا: إنه كالجعالة.. لم يبطل العقد؛ لأنه شرط ما هو من مقتضى العقد.
وإن كان هذا الشرط بعد العقد.. لم يبطل العقد، قولًا واحدًا، كما لو شرطا في البيع شرطًا باطلًا بعد العقد وانقضاء الخيار.

(7/468)


[مسألة: لا يعجل أحد المتناضلين صاحبه]
] : وإذا رمى أحد المتناضلين فأصاب.. فليس للمصيب أن يعجل صاحبه في الرمي ويدهشه؛ لأنه ربما أخطأ مع العجلة. وليس للمصاب عليه أن يطول إرساله، فيمسح قوسه وسهمه، ويمد مدًا طويلًا، يقصد بذلك تبريد يد المصيب؛ لينسى القصد الذي أصاب به، ويقال له: لا نكلفك أن ترمي على عجلة، ولا يجوز أن تطول لتضر بصاحبك، ولكن ارم على حسب العادة. وليس للمصيب أن يفتخر في إصابته، ويتبجح فيها؛ لأن ذلك يغيظ صاحبه ويدهشه.
ويستحب أن يكون عند الغرض شاهدان ليشهدا الإصابة والخطأ، ويخبرا بها، وليس للشاهد أن يمدح المصيب؛ لأن ذلك يغيظ صاحبه، ولا يذم المخطئ؛ لأنه إنما استحب كونه هنالك للشهادة، ولا للمدح والذم.
وبالله التوفيق

(7/469)