البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب إحياء الموات]

(7/471)


كتاب إحياء الموات يجوز إحياء الموات وتملكه بذلك؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له، وليس لعرق ظالم حق» .
وروي: «لعرق ظالم» بإضافة العرق إلى ظالم.
وروى سمرة بن جندب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحاط حائطًا على أرض.. فهي له» وأراد به في الموات.

(7/473)


وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «موتان الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني» هكذا روي بفتح الميم والواو.
و" الموتان" ـ بضم الميم وسكون الواو ـ: الموت الذريع. و" الموتان" ـ بفتح الميم وسكون الواو ـ عمى القلب، يقال: رجل موتان القلب: إذا كان لا يفهم.
وأجمع المسلمون على جواز إحياء الموات والتملك به.

(7/474)


إذا ثبت هذا: فإن الإحياء لا يفتقر إلى إذن الإمام. وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز إحياء الموات إلا بإذن الإمام) .
وقال مالك: (إن كان قريبًا من العمران في موضع يتشاح الناس فيه.. افتقر إلى إذن الإمام، وإلا.. لم يفتقر) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» ، و «من أحاط حائطًا على أرض.. فهي له» ولم يفرق بين أن يكون بإذن الإمام، أو بغير إذنه، ولأنها عين مباحة، فلم يفتقر تملكها إلى إذن الإمام، كالصيد والحشيش.
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فهي لكم مني» أراد: هي لكم أن تحيوها.

[مسألة: البلاد نوعان]
والبلاد على ضربين: بلاد إسلام وبلاد شرك. فأما بلاد الإسلام فعلى ضربين: عامر وموات.
فأما العامر: فهو لمالكه، ولا يجوز لأحد أن يتصرف في شيء منه إلا بإذن مالكه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أخذ شبرًا من الأرض بغير حقه.. طوقه الله إياه يوم القيامة إلى سبع أرضين» .
إذا ثبت هذا: فإن كان هذا العامر يجاور مملوكًا، كالدور والأرض المتلاصقة.. فإن ملك كل واحد منهما لا يتجاوز إلى ملك غيره، إلا أن يكون له في ملك غيره رسم مسيل ماء، أو طريق، فله ذلك، ولكل واحد منهما أن يتصرف في ملكه بما شاء من وجوه التصرفات وإن كان فيه ضرر على جاره.
وإن كان العامر يجاور مواتًا.. فلصاحب العامر من الموات الذي يجاور ملكه ما لا يمكنه الانتفاع بالعامر إلا به، مثل الطريق، ومسيل الماء الذي يخرج من الدار، وما تحتاج إليه الأرض من مسيل الماء.

(7/475)


وإن كانت بئرًا.. فله من الموات قدر ما يحتاج إليه في نزع الماء منها، فإن كانت يستقى منها بالسواني.. فقدر ما تحتاج إليه من السانية في ذهابها ومجيئها. وإن كان دولابًا.. فقدر ما يدور فيه الثور. وإن كانت للماشية.. فقدر ما تعطن فيه الماشية.
وإن كانت ليستقى باليد منها.. فقدر ما يقف فيه المستقي، ولا يقدر ذلك بشيء.
وقال أبو يوسف: حريم البئر أربعون ذراعًا، وحريم العين خمسمائة ذراع.
وقال أحمد: (حريم البئر خمسة وعشرون ذراعًا، إلا أن يكون البئر عاديًا، فحريمه خمسون ذراعًا؛ لما روى الدارقطني عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حريم البئر البديء خمسة وعشرون ذراعًا، وحريم البئر العادي خمسون ذراعًا» .
وأراد بقوله: (البديء) الذي ابتدئ حفرها.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حريم البئر أربعون ذراعًا من حواليها، كلها لأعطان الإبل والغنم، وابن السبيل أول شارب، ولا يمنع فضل ماء يمنع به الكلأ» .

(7/476)


وإنما حد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حريم البئر بأربعين ذراعًا على عادة أهل الحجاز؛ لأنهم كانوا يحفرون آبارًا عميقة يغور الماء فيها، فيحتاج أن يمشي الثور فيها أربعين ذراعًا.
وأما الخبر الذي رواه أحمد: فمختلف، وإن صح حملناه على ما تدعو الحاجة إليه.
قال الشيخ أبو حامد: وللدار حريم، فإذا حفر إنسان في فنائها وأصل حيطانها.. منع منه.
قال ابن الصباغ: وعندي أن حيطان الدار لا فناء لها ولا حريم، ألا ترى أنه لو أراد رجل أن يحيي إلى جنبها دارًا.. لم يلزمه أن يبعد عن فنائها؟ وإنما يمنع من حفر البئر في أصل الحائط؛ لأنه يضر به، وينبغي إذا كان لا يضر به أن يجوز.
وهل يكون صاحب العامر مالكًا لمرافق العامر من الموات؟
حكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: لا يكون مالكًا له، وإنما يكون أحق به؛ لأنه لم يحصل له فيه إحياء، فلم يملكه.
وقال القاضي أبو الطيب: يكون مالكًا له؛ لأنه تابع للعامر، فلما كان مالكًا للعامر.. ملك ما تبعه.
قال ابن الصباغ: وهذا أقيس؛ لأن العامر إذا بيع دخلت هذه الحقوق في البيع، ولأن معنى الملك في هذه الحقوق موجود، فإنه لا يجوز لأحد إحياؤها، وقد اختلفوا في ثبوت الشفعة في الطريق، وهذا يدل على ثبوت الملك فيها.
وأما الموات: فعلى ضربين:
ضرب: لم يجر عليه ملك قط لأحد، فهذا يجوز إحياؤه وتملكه، وهذا الذي ورد فيه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» .
والضرب الثاني: موات قد كان جرى الملك عليه لمسلم ثم مات، أو غاب وخربت الأرض وصارت كالموات، فإن كان المالك لها معروفًا.. فهذا لا يجوز إحياؤه بلا خلاف، كما قلنا في العامر، وإن كان المالك لها غير معروف.. قال الشيخ أبو حامد: فلا يملك ذلك بالإحياء عندنا.

(7/477)


وقال أبو حنيفة: (يملك بالإحياء) .
وحكى الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: أن ذلك وجه لبعض أصحابنا؛ لأنها عادت مواتًا كما كانت، فصارت مباحة كما لو لم يجر عليها أثر ملك.
ودليلنا: ما روى كثير بن مرة، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضًا ميتة في غير حق مسلم.. فهو أحق بها» وهذه في حق مسلم.
وروى ابن الزبير، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضًا ميتة ليست لأحد.. فهو أحق بها» ولأن هذه لها مالك، فلا يجوز إحياؤها كما لو كان المالك لها معينًا.
وأما بلاد الشرك: فضربان، عامر وموات:
فأما العامر، وما يحتاج إليه العامر من المرافق: فإنه ملك للكفار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} [الأحزاب: 27] [الأحزاب: 27] فأضافها إليهم، فدل على: أنهم ملكوها ولا يجوز إحياؤها، وإنما تملك بالقهر والغلبة.
وأما الموات: فإن كان قد جرى عليها ملك لمالك معروف.. لم يجز إحياؤها، كالعامر، وإن لم يجر عليها ملك.. جاز إحياؤها. ومن أحياها ملكها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» ولم يفرق.
فعلى هذا: إذا أحيا مسلم مواتًا في أرضهم، ثم ظهر المسلمون على أرضهم فملكوها.. كانت غنيمة، إلا ما أحياه المسلم.
وإن كانت مواتًا قد جرى عليها أثر ملك لهم، ولا يعرف مالكها، فهل يجوز إحياؤها وتملك بالإحياء؟ حكى البغداديون من أصحابنا فيها وجهين، وحكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 342] قولين:

(7/478)


أحدهما: يجوز إحياؤها وتملك بالإحياء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني» وأراد به: الأرض التي كانت ملكًا لقوم عاد، ولأنه لو وجد في بلاد الشرك ركاز من ضرب المشركين.. لملكه بالوجود وإن كان قد جرى عليه ملك مشرك، فكذلك إذا أحيا مواتًا جرى عليه ملك لمالك غير معروف من المشركين.
والثاني: لا تملك بالإحياء.
قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (والموات ما ليس عليه أثر عمارة) ، ولأنها أرض حية جرى عليها الملك، فلم تملك بالإحياء، كما لو كان لها مالك معروف، ولأنه يجوز أن تكون لكافر لم تبلغه الدعوة فلا يكون ماله مباحًا.
ومن قال بهذا.. قال: معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عادي الأرض لله ولرسوله» أراد به: الملك القديم، فعبر عن الملك القديم بالعادي؛ لأنه يقال: شيء عادي، أي: قديم. فإن أحيا المسلم مواتًا في بلد صولح الكفار على الإقامة فيها.. لم يملكها بذلك؛ لأن الموات يتبع البلد، فإذا لم يجز تملك البلد عليهم، فكذلك ما تبعه.

[فرع: إحياء قرب العامر]
ويجوز إحياء الموات بقرب العامر إذا لم يكن من مرافق العامر.
وقال مالك: (لا يجوز إيحاء ذلك بغير إذن الإمام، ولم يحده بحد) .
وقال أبو حنيفة: (لا يحيي إلا ما جاوز مدى الصوت من العامر، بأن يصيح إنسان في العامر، فالذي ينتهي إليه صوته من الموات.. لا يجوز إحياؤه) .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» ولم يفرق.
وروى الشافعي، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة أقطع الناس الدور، فقال حي من بني زهرة، يقال لهم:

(7/479)


بنو عبد زهرة: يا رسول الله: نكب عنا ابن أم عبد ـ أي: أخرج من جملتنا ابن مسعود ـ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ولم ابتعثني الله إذا؟ إن الله لا يقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيهم حقه» .
قال الشافعي: (وفي ذلك دلالة على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بالمدينة بين ظهراني عمارة الأنصار من المنازل، وأن ذلك ليس لأهل العامر) .
وفي بعض نسخ المزني: (وأن ذلك لأهل العامر) .
فإن كان الأول.. فمعناه: وأن ذلك ليس لأهل العامر منعه. وإن كان الثاني.. فمعناه: أن ذلك لأهل العامر أن يحيوه أيضًا، كغيرهم.
وأما معنى قوله: (أقطع الدور) فقد اختلف أصحابنا في تأويله:
فمنهم من قال: كان الذي أقطعهم دورًا قديمة عادية خربت. وهذا قول من يقول: إن ما كان مملوكًا ومات أهله في الجاهلية، ولا يعرف مالكه.. يجوز إحياؤه.
ومنهم من قال: إنه أقطعهم ما يبنونه دورًا. فسماها دورًا؛ لأنها تؤول إليه، كقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] [يوسف: 36] فسمى العصير خمرًا؛ لأنه يؤول إليه.

(7/480)


وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقطع العقيق وهو على ميل من المدينة) ولم ينكر عليه أحد، ولأنه موات لم يملك، غير متعلق بمصلحة العامر، فجاز إحياؤه، كما لو زاد على مدى الصوت.

[مسألة: لا يقطع لكافر في دار الإسلام]
] : وإذا أحيا الكافر الحربي أو الذمي مواتا في دار الإسلام.. لم يملكه بذلك، وليس للإمام أن يأذن له في ذلك.
وقال مالك وأبو حنيفة: (يجوز للإمام أن يأذن في ذلك، وإذا أحيا أرضًا مواتًا في بلاد الإسلام بالإذن.. ملكه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موتان الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني» .
فوجه الدليل من الخبر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أضاف الموات إلى الله لا على سبيل أنه يملكها؛ لأنه مالك لها ولغيرها، وإنما أضافها إلى الله تعالى تشريفًا لها؛ لأنها تملك بغير عوض ولا عن مالك، كما أضاف خمس الغنيمة إليه لشرفه؛ لأنه يملك بغير عوض ولا عن مملك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] .
فلما لم يكن للكافر حق في خمس الغنيمة.. فكذلك في الموات في بلاد الإسلام. وإنما لم يضف الزكاة إليه؛ لأنها أوساخ الناس، ثم قال: «هي لكم مني» وهذا خطاب للمسلمين.

(7/481)


[فرع: لا تحفر بئر تضر ببئر موات]
] : قال ابن الصباغ: إذا حفر بئرًا في موات للتملك، فجاء آخر فحفر قريبًا منها بئرًا ينسرق إليها ماء البئر الأولى.. لم يكن له ذلك.
قال أصحابنا: فلو حفر الثاني في ملكه بئرًا بحيث ينسرق ماء جاره إليه.. جاز.
والفرق بينهما: أن الذي يحفر في الموات يبتدئ التملك، وليس له أن يتملك الموات على وجه يضر بملك غيره، وليس كذلك هاهنا؛ لأن كل واحد منهما حفر في ملكه، فلا يمنع من ذلك.
ولو حفر رجل في ملكه كنيفًا يفسد على جاره بئره.. قال القاضي أبو الطيب: لم يمنع من ذلك؛ لأنه يتصرف في ملكه، فهو بمنزلة أن يكون له دكان، فيخبز فيه، فيتأذى الجيران به، فلا يمنع.
وحكى في " المهذب " [1/431] : أن بعض أصحابنا قال: ليس له أن يحفر في أصل حائطه حشًا؛ لأنه يضر بالحاجز الذي بينه وبين جاره في الأرض.. وليس بشيء.

[مسألة: العرف في إحياء الموات]
] : قال الشافعي: (والإحياء ما عرفه الناس إحياء لمثل المحيا) .
وجملة ذلك: أن الشرع ورد بالإحياء مطلقًا، وما ورد به الشرع مطلقًا.. رجع فيه إلى العرف والعادة في ذلك الشيء، كما قلنا في أقل الحيض وأكثره، والتفرق في البيع والقبض فيه، والحرز في السرقة.
إذا ثبت هذا: فإن كان يحيي الموات دارًا للسكنى.. فإحياؤها أن يبني حيطان الدار بالحجارة، أو اللبن، أو الآجر، وما أشبه ذلك مما يبنى به.
قال الصيمري: ويبني الحيطان عالية، بحيث يمنع من أراده، ويسقف منها ولو

(7/482)


بيتًا واحدًا؛ لأن الدار تراد للإيواء، ولتقي من البرد والحر والمطر، ولا يقيه إلا السقف، فإن لم يسقف كان متحجرًا.
وهل من شرط تمام الإحياء في الدار نصب الباب؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: أن ذلك شرط؛ لأن الدور لا تكون دورًا إلا بذلك.
والثاني: أن ذلك ليس بشرط؛ لأن عدم ذلك لا يمنع السكنى، وإنما يراد للحفظ.
وإن أراد أن يحيي الموات حظيرة للغنم، أو للحطب، أو للشوك.. فإحياؤها أن يبني حولها حائطًا بحجارة، أو لبن، أو آجر، أو ما أشبهه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحاط حائطًا على أرض.. فهي له» .
قال ابن الصباغ: وهل من شرط تمام إحيائها نصب الباب؟ على الوجهين في الدار.
وإن جمع ترابًا حول الحظيرة وسنمه، أو اتخذ حائطًا من حجارة نصبه من غير بناء، أو من حطب، أو شوك، أو خشب.. فذكر الشيخ أبو حامد: أنه لا يملكه بذلك، ولكن يكون بذلك متحجرًا.
قال الشافعي: (لأن المسافر قد ينزل منزلًا وينصب الحجارة حول الخباء، ولا يكون ذلك إحياء) .
وليس من شرط الحظيرة التسقيف؛ لأن ذلك لا يحتاج إليه في الحظيرة، بخلاف الدار للسكنى.
وإن أراد أن يحيي الموات للزراعة.. فإحياؤها أن يجمع ترابًا يحيط بها بما يبين به الأرض من غيرها، ويحرثها، ويسوق الماء إليها، فإن كانت تشرب من بئر.. حفر

(7/483)


لها بئرًا، وإن كانت تشرب من ماء مباح.. فأن يطرق إليها طريقًا للماء، وإن كانت تشرب من ماء المطر.. فأن يطرق إليها طريقًا ينزل فيه الماء إليها.
وهل من شرط تمام إحيائها الزراعة فيها؟
قال الشافعي في " المختصر " [3/108] : (ويزرعها) واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: إن الزرع ليس بشرط في الإحياء، وهو المنصوص في " الأم " [3/266] لأن الزراعة انتفاع من المحيا، فلم يكن شرطًا في الإحياء، كما لو أحيا حظيرة للغنم، فلا يشترط في إحيائها ترك الغنم فيها.
ومنهم من قال: إن ذلك شرط في الإحياء. وهو ظاهر ما نقله المزني؛ لأن الأرض لا تكون معمورة للزرع إلا بالزرع.
وحكى الشيخ أبو إسحاق وجهًا ثالثًا: أن أبا العباس قال: لا تكون الأرض محياة للزرع حتى يزرعها ويسقيها؛ لأن عمارتها للزراعة لا تكمل إلا بذلك.
قال الشافعي في " الأم ": (وعمارة الأرض للغراس أن يغرس الأرض) .
والفرق بين الزراعة والغرس على أحد الوجهين: أن الغراس يراد للبقاء، فهو كبناء الدار، والزرع لا يراد للبقاء، فهو كسكنى الدار.
وإن حفر في الموات بئرًا.. لم يتم الإحياء حتى يصل إلى الماء. فإن كانت الأرض صلبة.. فقد تم الإحياء، وإن كانت رخوة.. لم يتم الإحياء حتى يطويها.

[مسألة: العمارة في الموات]
تثبت الحق] : وإذا سبق إلى موات فشرع في عمارته.. كان متحجرًا له بذلك، وصار أحق به من غيره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه.. فهو أحق به» .

(7/484)


فإن مات.. انتقل إلى وارثه؛ لأن يد الوارث تقوم مقام يد المورث.
وإن نقله إلى غيره.. صار الثاني أحق به؛ لأنه قد أقامه مقام نفسه.
وإن باعه.. فهل يصح بيعه؟ حكى البغداديون من أصحابنا فيه وجهين، وحكاهما المسعودي قولين [في " الإبانة " ق \ 343] :
أحدهما: يصح؛ لأنه صار أحق به، فصح بيعه له كالمالك.
والثاني: لا يصح، وهو المذهب؛ لأنه لم يملكه، وإنما ملك أن يملك. فإن بادر غيره فأحياها:
فإن كان قبل أن يتطاول الزمان في ثبوت يد الأول عليها.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يملكها الثاني؛ لأن يد الأول قد ثبتت عليها، وقد ملك أن يملكها، فلم يملكها غيره.
والثاني: أن الثاني يملكها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» ولم يفرق بين أن تكون قد تحجرها غيره، أو لم يتحجرها.
وإن تطاول الزمان في ثبوت يد الأول عليها: فإن السلطان يستدعيه، ويقول له: إما أن تحييه، وإما أحياه غيرك، فإن استمهله.. قال الشيخ أبو حامد: أمهله يومًا، وثلاثًا، وشهرًا، فإن أحياه.. ملكه، وإن تركه.. زال ملكه عنه. وإن لم يتركه فجاء غيره وأحياه.. ملكه، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا عذر له مع تطاول المدة.

(7/485)


[مسألة: المعادن في الموات]
والمعادن على ضربين: ظاهرة، وباطنة.
فأما الظاهرة: فهي ما لا يحتاج في الانتفاع بها إلى عمل، فهي مثل: الماء في الأنهار، والعيون، وكالنفط، والمومياء، والياقوت، والملح، والكحل، فهذا لا يملكه أحد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» . فعلق الملك بالإحياء، وهذا لا يحتاج إلى إحياء.
إذا ثبت هذا: فإن الناس يشتركون فيها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس شركاء في ثلاثة: النار، والماء، والكلأ» .

(7/486)


فأما اشتراكهم في النار: فهو أن يضرم رجل نارًا في حطب مباح مطروح في موات. فأما إذا حطب الرجل حطبًا، وأضرم فيه نارًا.. فهو أحق بها، وله أن يمنع غيره منها.
وأما اشتراكهم في الكلأ: فهو الكلأ النابت في الموات.
وأما اشتراكهم في الماء: فهو الماء في الأنهار والعيون التي ليست بمملوكة.
فإذا سبق واحد إلى شيء من هذه المعادن الظاهرة.. أخذه وملكه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه.. فهو أحق به» .
فإن أخذ منها وانصرف، وجاء غيره وأخذ منها وانصرف، وعلى هذا يأخذ واحد بعد واحد.. جاز. وإن جاء واحد وأطال يده عليها.. ففيه وجهان:

(7/487)


أحدهما: لا يزيل الإمام يده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم.. فهو أحق به» .
والثاني: أن الإمام يزيل يده عنها؛ لأنه يصير متحجرًا، وتحجرها لا يجوز.
وإن جاء اثنان في حالة واحدة، فإن اتسع المعدن لهما.. أخذاه، ولا كلام. وإن ضاق المعدن عليهما، فإن كانا يأخذان شيئًا قليلًا، كالماء الذي يأخذانه ليشرباه، أو ليتطهرا به، وما أشبهه.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الإمام يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. قدم؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.
والثاني: أن الإمام ينصب رجلًا ليستقي منه لهما، ثم يقسمه بينهما؛ لأن قسمة ذلك ممكنة.
والثالث: أن الإمام يقدم أحدهما باجتهاده.
وإن كانا يأخذان الكثير للتجارة.. هايأ الإمام بينهما يومًا بيوم أو شهرًا بشهر على حسب ما يراه، ويقرع في البادئ منهما؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.
وإن كان بقرب الساحل بقعة إذا حفرت وانساق الماء إليها ظهر بها ملح.. جاز إحياؤها؛ لأنه لا ينتفع بها إلا بالعمل، فهي كالموات.
وأما المعادن الباطنة: وهي ما لا يتوصل إلى أخذ شيء منها إلا بعلاج وعمل، كمعدن الذهب والفضة والفيروز والرصاص والنحاس وما أشبهه، فإذا عمل فيها رجل ووصل إلى نيله.. ملك ما أخذ منه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم. فهو أحق به» .
وهل يملك المعدن؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه يملكه؛ لأنه أرض غير مملوكة، لا يتوصل إلى منفعتها إلا بنفقة ومؤونة، فيملك بالإحياء، كالموات.
والثاني: لا يملكه بالإحياء، وهو الصحيح؛ لأن المحيا: ما يتكرر الانتفاع به

(7/488)


بعد عمارته من غير إحداث عمارة وعمل آخر، فهذا لا يمكن في المعادن؛ لأنه لا ينتفع بها إلا بعمل متجدد في كل شيء يأخذه.
قال الشافعي: (ولأنه لو ملكه.. لجاز بيعه، وبيعه لا يجوز؛ لأن المقصود منه مجهول) .
فإذا قلنا: يملكه بالإحياء.. فإحياؤه هو العمل الذي يتوصل به إلى نيله، وقبل ذلك تحجر.
وإن قلنا: إنه لا يملكه.. فلا يجوز تحجره، بل لكل أحد أن يجيء ويأخذ منه.
فإن أطال المقام عليه، فهل تزال يده؟ على وجهين، كما قلنا في المعادن الظاهرة.
وإن سبق إليه اثنان في حالة واحدة.. فهو كما لو سبقا إلى معدن ظاهر على ما مضى. هذا ترتيب الشيخ أبي إسحاق، وذكر الشيخ أبو حامد والمحاملي: أنه لا يأتي فيه إلا وجهان:
أحدهما: يقرع بينهما.
والثاني: يقدم الإمام من يرى منهما. ولا يجيء الثالث، وهو: أن يقسم بينهما؛ لأن الموضع لا يتسع إلا لأحدهما.

[فرع: غلبة المسلمين على أرض معدن]
وإن عمل جاهلي في الموات على معدن باطن، وظهر على نيله، ثم غلب المسلمون على تلك الأرض.. فهو كما لو لم يعمل عليه. وهل يملك بالإحياء؟ على القولين.
فإن قيل: هلا قلتم: إنه يصير غنيمة على القول الذي يقول: إن هذه المعادن تملك بالإحياء؟
فالجواب: أن المعادن إنما تملك بالإحياء إذا قصد المحيي تملكها، ونحن لا نعلم أن الجاهلي قصد تملكها أم لا، فجرى مجرى من حفر بئرًا في موات وارتحل عنها، فإنه يجوز لغيره الانتفاع بها؛ لأنا لا نعلم أنه يملكها أم لا؟

(7/489)


[فرع: إحياء الأرض يقتضي ملكها وما فيها]
إذا أحيا رجل مواتًا.. ملكها. فإن ظهر بها معدن ذهب أو فضة أو غير ذلك مما ذكرنا.. ملك ذلك المعدن، قولًا واحدًا؛ لأنه قد ملك الأرض بالإحياء، فملك جميع أجزائها، والمعدن من أجزائها، فملكه، كما لو أحيا أرضًا فنبع فيها عين ماء. ويفارق إذا حفر في الموات معدنًا منفردًا في أحد القولين؛ لأنه لم يملك الأرض، وإنما قصد تملك المعدن، والموات لا تملك إلا بعمارة، ولا يوجد ذلك في المعدن.

[مسألة: مقاعد الباعة في الأسواق]
ويجوز القعود بمقاعد الأسواق، ورحاب المساجد، والطرق الواسعة للبيع والشراء بإجماع الأمة على جواز ذلك.
فإن سبق رجل إلى شيء من هذه المواضع.. كان أحق به؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «منى مناخ من سبق» .
وله أن ينصب فيها ما يستظل به مما ينقله معه ولا يضر به على الناس، كالبواري ونحوه.

(7/490)


وليس له أن يبني فيها دكة ولا بيتًا؛ لأن في ذلك ضررًا على الناس.
فإن جاء آخر، وقعد بين يدي الأول حتى ضيق عليه المكان.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 344] : كان له منعه.
فإن قام رجل من شيء من هذه المواضع وترك رحله فيه.. لم يكن لغيره أن يقعد فيه؛ لأن يد الأول لم تزل عنه. فإن نقل رحله عنه:
قال الشيخ أبو حامد والبغداديون من أصحابنا: فلغيره أن يقعد فيه؛ لأن يد الأول زالت عنه.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 343] : إذا فارق ذلك الموضع ليلًا.. فليس لغيره أن يقعد فيه. وكذلك لو لم يقعد فيه يومًا أو يومين لمرض أو شغل.. فليس لغيره أن يقعد فيه. وإن طالت غيبته.. بطل حقه، ولغيره أن يقعد فيه، ولا يرده عليه إذا عاد.
قال: وهكذا لو كان جالسًا في مسجد فسبقه الحدث فذهب ليتوضأ.. لم يكن لغيره أن يجلس في مكانه.

[فرع: للإمام المنع من القعود]
وإن قعد رجل في شيء من هذه المواضع وأطال الإقامة.. فهل للإمام أن يزيل يده عنه؟ فيه وجهان، كما قلنا فيمن سبق إلى معدن ظاهر وأطال.
وإن جاء اثنان إلى ذلك الموضع في حالة واحدة، ولم يتسع المكان لهما.. ففيه وجهان
أحدهما: يقرع بينهما.
والثاني: يقدم الإمام أحدهما، كما قلنا في الرجلين إذا جاءا معًا إلى معدن ظاهر.
ولا يجيء الوجه الثالث هناك هاهنا ـ وهو: أن يقسم بينهما ـ لأن الموضع لا يتسع لهما، فلا فائدة في قسمته.

(7/491)


فرع: [مواضع النجعة في البادية] :
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 343] : المواضع التي ينزل بها أهل البادية للنجعة، فمن نزل بها.. فهو أحق بها، وكذا لو أرسل نعمه في صحراء.. فليس لغيره أن ينحي نعمه عنها، ويرسل نعمه فيها.
والله تعالى أعلم

(7/492)


[باب الإقطاع والحمى]
يجوز للإمام أن يقطع الموات لمن تملكها بالإحياء؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع الزبير حفر فرسه ـ يعني: عدوه ـ فأجراه، فلما قام.. رمى بسوطه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أقطعوا له من ميتتها سوطه»
و: (أقطع أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقطع العقيق) ولم ينكر عليهما أحد، فدل على إجماعهم على صحة الإقطاع.
ولا يقطع الإمام أحدًا من الموات إلا ما يقدر المقطع له على إحيائه؛ لأنه إذا أقطعه ما لا يقدر على إحيائه.. استضر الناس بذلك من غير فائدة.
ومن أقطعه الإمام شيئًا.. صار أحق به، كالذي يتحجر شيئًا من الموات بابتداء العمل على ما مضى بيانه.

(7/493)


[مسألة: إقطاع المعدن]
وأما إقطاع المعادن: فينظر فيه: فإن كان معدنًا ظاهرًا ـ وهو: الذي يتوصل إلى نيله من غير إحداث عمل ـ كالأنهار والعيون وما أشبهه.. فلا يصح إقطاعه؛ لما روي: «أن الأبيض بن حمال المازني وفد على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليقطعه ملح مأرب ـ فروي: أنه أقطعه، وروي: أنه أراد أن يقطعه ـ فقال له رجل من المجلس ـ قيل: إنه الأقرع بن حابس ـ: أتدري يا رسول الله ما الذي تقطعه؟ إنما تقطعه الماء العد، فانتزعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -) .
وفي رواية الشافعي [في " الأم " 3/265] : قال: "فلا آذن"، وذكر في " المهذب " [1/432] : «فاستقاله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الأبيض: قد أقلتك فيه على أن تجعله مني صدقة، فقال: هو منك صدقة» .

(7/494)


و (الماء العد) : هو الذي لا ينقطع، وأراد: أنه بمنزلة ما لا ينقطع من الماء.
فإن قيل: في الخبر ما يدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطعه إياه، ثم تبين أنه أخطأ فاسترده، وأن الخطأ عليه جائز.. قلنا: عن هذا أجوبة:
أحدها: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد كان أقطعه إياه ولم يخطئ في الحكم، وإنما أخطأ في الصورة؛ لأنه ظن أنه معدن باطن يحتاج الانتفاع به إلى نفقة ومؤنة، فلما أخبر أنه معدن ظاهر لا يحتاج إلى نفقة ومؤنة.. امتنع.
والثاني: أنه وإن أخطأ في الحكم فالخطأ في الحكم جائز على الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، وإنما لا يقرهم الله عليه بخلاف غيرهم، فإنهم يخطئون ويقرون عليه.
والثالث: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن أقطعه، وإنما أراد أن يقطعه، فلما أخبر أنه كالماء العد.. امتنع من إقطاعه.
فعلى هذا: لم يخطئ في حكم ولا في صورة، بل كان وعده، ثم استقاله؛ لتطيب نفسه من النفقة.
وأما المعادن الباطنة ـ وهي: المعادن التي لا يتوصل إلى أخذ ما فيها إلا بحفر بعد حفر ـ كمعادن الذهب والفضة: فإن قلنا: يجوز تملكها بالإحياء.. جاز إقطاعها، كما قلنا في الموات، وإن قلنا: لا تملك بالإحياء.. فهل يجوز إقطاعها؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز إقطاعها؛ لأنها لا تملك بالإحياء، فلم يجز إقطاعها، كالمعادن الظاهرة.
والثاني: يجوز إقطاعها؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية، جلسيها وغوريها، وحيث يصلح الزرع من قدس، ولم يعطه حق مسلم، وأخذ منه الزكاة» ، ولأنه يجوز إقطاع ما لا يملك بالإحياء، كمقاعد الأسواق والطرق.

(7/495)


وإن شئت قلت: في المعادن الباطنة ثلاثة أقوال:
أحدها: تملك بالإحياء، ويجوز إقطاعها.
والثاني: لا تملك بالإحياء، ولا يجوز إقطاعها.
والثالث: لا تملك بالإحياء، ويجوز إقطاعها.
فإذا قلنا: يجوز إقطاعها.. لم يقطع الإمام منها رجلًا إلا ما يقوم بعمارته، كما قلنا في الموات.
فرع: [يجوز إقطاع مقاعد الأسواق] :
ويجوز إقطاع مقاعد الأسواق، والطرق الواسعة، فإذا أقطعه الإمام شيئًا من ذلك.. صار أحق به من غيره. فإن قام عنه ونقل رحله عنه، ثم رجع إليه ووجد غيره فيه.. فالأول الذي أقطعه الإمام أحق به. وهذا هو الفرق في الارتفاق بهذه المواضع بغير الإقطاع، وبالإقطاع.

[مسألة: المعدن الباطن لمالك الأرض]
ومن ملك معدنًا باطنًا، ثم جاء غيره وأخذ منه شيئًا، فإن كان ذلك بغير إذن المالك. كان ما أخرجه لمالك المعدن، ولا أجرة للمخرج، وإن كان بإذنه.. نظرت:
فإن قال: استخرجه لنفسك، فأخرجه.. فالهبة فاسدة؛ لأنه مجهول، ويأخذه مالك المعدن، ولا أجرة للمخرج؛ لأنه أخرجه لنفسه.
فإن قيل: أليس لو قارضه على أن يكون الربح كله للعامل، فعمل وربح.. كان القراض فاسدًا، وكان الربح لرب المال وللعامل أجرة ما عمل؟
قال ابن الصباغ: فإن أصحابنا قالوا: الفرق بينهما: أن العمل وقع لغيره؛ لأن

(7/496)


العمل في رأس المال وهو يعلم أنه لغيره، والبيع والشراء وقع لصاحب المال، وهاهنا عمل لنفسه؛ لأنه اعتقد أن ما يعمل فيه له.
قال ابن الصباغ: والفرق الجيد عندي: أن إذنه هاهنا تمليك للعين الموجودة، والعمل فيها لا يكون بالإذن؛ لأن عمله في ملك نفسه لا يفتقر إلى إذن غيره، فلم يستحق في مقابلته شيئًا. أما القراض: فإنه لا يملك فيه بالإذن إلا التصرف، وبه يملك الربح، فإذا لم يحصل له بتصرفه ملك ما يحصل بالتصرف، وحصل لغيره.. كان له أجرة العمل الذي حصل به ملك غيره.
وإن قال مالك المعدن: استخرجه لي، ولم يشرط له أجرة، فاستخرج له منه شيئًا.. كان المخرج لمالك المعدن.
وهل يستحق المخرج أجرة المثل على مالك المعدن؟ فيه أربعة أوجه، مضى ذكرها.
وإن شرط له أجرة معلومة على عمل معلوم، بأن قال: استأجرتك أن تحفر لي كذا وكذا يوما بكذا.. صح. وإن قال: إن أخرجت لي كذا وكذا فلك كذا.. صح، وكان جعالة.

[مسألة: الحمى لموضع]
] : وأما الحمى: فهو أن يحمي الرجل موضعًا من الموات الذي فيه الكلأ ليرعى فيه البهائم، يقال: حمى الرجل يحمي حمى، وحامى يحامي محاماة، وحماء، فيجوز قصر الحمى ومده، والمشهور فيه: القصر. قال الشاعر:
أبحت حمى تهامة ثم نجد ... وما شيء حميت بمستباح
إذا ثبت هذا: فإن الحمى كان جائزًا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيحمي لنفسه وللمسلمين؛ لما

(7/497)


روى الصعب بن جثامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حمى إلا لله ولرسوله» .
فأما لنفسه: فإنه ما حمى، وأما للمسلمين: فإنه قد حمى، والدليل عليه: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمى النقيع لخيل المجاهدين» .
و (النقيع) : بالنون: اسم للمكان الذي حماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وبالباء: اسم لمقابر المدينة.
وأما آحاد الرعية: فليس لأحد منهم أن يحمي شيئًا من الموات؛ لأن الرجل العزيز في الجاهلية كان إذا انتجع بلدًا مخصبًا.. أوفى بكلب على جبل، أو نشز من الأرض ـ إن لم يكن جبل ـ ثم استعواه، ووقف له من يسمع منتهى صوته ـ وهو العواء ـ فحيث انتهى صوته.. حماه من كل ناحية لضعفاء ماشيته خاصة، ويرعى مع الناس في غيره، فأبطل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك، وقال: «لا حمى إلا لله ولرسوله» .
وأما إمام المسلمين: فليس له أن يحمي لنفسه، قولًا واحدًا، وهل له أن يحمي لخيل المجاهدين، ونعم الصدقة، ونعم من يضعف من المسلمين عن طلب النجعة؟ فيه قولان:

(7/498)


أحدهما: ليس له ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حمى إلا لله ولرسوله» ، ولأنه لا يجوز له أن يحمي لنفسه، فلا يحمي لغيره كآحاد الرعية.
والثاني: يجوز، وبه قال مالك وأبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لما روي في بعض الأخبار: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حمى إلا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين» .
وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أتاه أعرابي من أهل نجد وقال: يا أمير المؤمنين: بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها، فعلام تحميها؟ فأطرق عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجعل ينفخ ويفتل شاربه ـ وكان إذا كره أمرًا فعل ذلك ـ فجعل الأعرابي يردد ذلك عليه، فقال عمر: المال مال الله، والعباد عباد الله، فلولا ما أحمل عليه في سبيل الله.. ما حميت عليهم شبرًا في شبر) .
قال مالك: (نبئت أنه كان يحمل في كل عام على أربعين ألفًا من الظهر) ، وقال مرة: (من الخيل) .
وروي: (أن عمر حمى موضعًا وولى عليه مولى له يسمى هنيًا، وقال: يا هني: ضم جناحك للناس، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان، ونعم ابن عوف، فإنهما إن تهلك ماشيتهما.. يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة والغنيمة، إن تهلك ماشيته.. يأتيني بعياله فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا، لا أبا لك؟ إن الماء والكلأ أهون علي من الدينار والدرهم، وايم الله: إنهم ليرون أني ظلمتهم،

(7/499)


وإن البلاد لبلادهم، قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده: لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله.. ما حميت شبرًا من أرض المسلمين) .
قال الشيخ أبو حامد: فقوله: (ضم جناحك للناس) أي: تواضع لهم ـ وقيل معناه: اتق الله؛ لأن ضم الجناح هو تقوى الله، فكأنه قال: اتق الله في المسلمين.
وقوله: (وأدخل رب الصريمة والغنيمة) أي: لا تمنع الضعفاء من هذا الحمى.
و (الصريمة) تصغير صرمة، وهي: ما بين العشر إلى الثلاثين من الإبل. وما دون العشر يقال له: الذود.
و (الغنيمة) : تصغير غنم.
وأما قوله: (وإياك ونعم ابن عفان، ونعم ابن عوف) أي: لا تدخلها الحمى؛ لأنهما غنيان لا يضرهما هلاك نعمهما.
إذا ثبت هذا: وقلنا: يجوز للإمام أن يحمي.. فإنه يحمي قدرًا لا يضيق به على المسلمين؛ لأنه إنما يحمي للمصلحة، وليس من المصلحة إدخال الضرر على المسلمين.

[فرع: حمى النبي لا ينقض]
إذا حمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مواتًا لمصلحة، فإن كان ما حمى له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المصلحة باقيًا.. لم يجز لأحد إحياؤه، وإن زال ذلك المعنى.. فهل يجوز إحياؤه؟ فيه وجهان:

(7/500)


أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ربما عاد ذلك المعنى فيحتاج إلى ذلك الحمى، كما قلنا في المحلة إذا خربت وفيها مسجد.. فلا يجوز نقضه ونقل خشبه، ولأن ما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معلوم أنه مصلحة، فلا يجوز تغييره، كما أمر بالرمل والاضطباع بسبب، ولم يزل بزوال ذلك السبب.
والثاني: يجوز إحياؤه.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأن الحكم إذا وجب لعلة.. زال بزوال العلة، بخلاف المسجد، فإنه يرجى عود العمارة فيحتاج إلى المسجد ولا يتمكن منه؛ لأنه لا يحتاج إلى الإنفاق عليه، وليس كذلك الحمى؛ لأنه إن عاد ذلك المعنى واحتيج إلى الحمى.. فإنه يحمى في الوقت، ولا شيء يتعذر.

[فرع: حمى الحاكم]
وأما إذا حمى الإمام مواتًا لمصلحة، وقلنا: يصح حماه، فأحياه إنسان، فإن كان بإذن الإمام.. جاز وملكه إذا أحياه؛ لأن إذن الإمام نقض لذلك الحمى، وإن أحياه بغير إذنه.. قال ابن الصباغ.. فقد قيل: فيه وجهان، وقيل: هما قولان:
أحدهما: لا يملكه من أحياه؛ لأنها أرض محمية، فلم يملكها من أحياها، كالذي حماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والثاني: يملكه؛ لأن الملك بالإحياء ثبت بالنص، وحمى الإمام اجتهاد، فكان النص مقدمًا على الاجتهاد.

[فرع: توسع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ملك خيبر وغيرها]
قال الشيخ أبو حامد: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابتداء الإسلام ـ حيث كان الأمر ضيقًا ـ ما كان يدخر إلا قوت يوم لنفسه وعياله، ويتصدق بالباقي في بره، فلما انتشر

(7/501)


الإسلام، وكثرت الفتوح، وملك خيبر وبني النضير وغير ذلك.. اتسع، فكان يدخر قوت سنة لنفسه وعياله، ويتصدق بالباقي، وكان ممن يملك. وقال بعض الناس: ما كان يملك شيئًا، ولا يتأتى منه الملك، وإنما أبيح له ما يأكله وما يحتاج إليه، فأما تملك شيء: فلا. وهذا غلط؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] [الحشر: 7] فأضاف ذلك إليه، والإضافة تقتضي الملك، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعتق صفية وتزوجها وجعل عتقها صداقها» و: «استولد مارية» ولا يكون ذلك إلا في ملك.
فرع: [لا حق لعرق ظالم] :
روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «ليس لعرق ظالم حق» .
قال الشافعي: (والعرق: ما وضع في الأرض للبقاء والدوام) .
والعروق أربعة:
عرقان ظاهران، وهما: الغراس والبناء.
وعرقان باطنان، وهما: البئر والنهر.

[باب حكم المياه]
7 -

(7/502)


باب حكم المياه
إذا حفر الرجل بئرًا في ملكه.. فالبئر ملك له؛ لأن من ملك أرضًا ملكها إلى القرار، فإن نبع فيها ماء فهل يملكه؟ على وجهين، مضى ذكرهما في البيوع.
وإن حفر الرجل بئرًا في موات ليتملكها، فما لم ينبع فيها الماء.. فلا يملكها، لكنه متحجر لها، فإن نبع فيها الماء وكانت صلبة لا تفتقر إلى طي، أو كانت رخوة فطواها.. ملك البئر، وهل يملك ما فيها من الماء؟ على الوجهين.
وإن حفرها في موات لا ليتملكها، ولكن لينتفع بها، فنبع فيها الماء.. فإنه لا يملكها؛ لأنه لم يقصد تملكها، وإنما قصد الارتفاق بها، فلم يملكها. فما دام مقيمًا عليها.. فهو أحق بها؛ لأنه سابق إليها، فإن أزال يده عنها وجاء غيره.. كان أحق بها؛ لأنه ماء مباح.
إذا ثبت هذا: فإن الماء الذي ينبع في البئر التي يملكها، لا يلزمه أن يبذل لغيره منه ما يحتاج إليه لنفسه وماشيته وزرعه وشجره.
وأما ما يفضل عن حاجة نفسه وماشيته وزرعه وشجره: فيجب عليه أن يبذله لماشية غيره إذا كان بقرب هذا الماء كلأ مباح لا يمكن للماشية رعيه إلا بأن تشرب من هذا الماء، فيلزم مالك الماء بذل الماء بغير عوض. وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال أبو عبيدة بن حرب: لا يلزمه ذلك، وإنما يستحب له بذله، كما لا يلزمه بذل الكلأ في أرضه لماشية غيره.
ومن الناس من قال: يلزمه بذله بعوض، كبذل الطعام للمضطر. والأول أصح؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ» .

(7/503)


وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ.. منعه الله فضل رحمته يوم القيامة» فأوجب عليه بذل الفضل من غير عوض، وتوعده على منعه. والتوعد لا يكون إلا على فعل معصية.
ولا يلزمه بذل فضل الماء لزرع غيره وشجره. ومن الناس من قال: يلزمه بذل الفضل لزرع غيره وشجره. وهذا ليس بصحيح؛ لأن التوعد إنما ورد في منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ، ويخالف بذل الماء للماشية؛ لأن الماشية لها حرمة بنفسها، ولهذا يلزمه سقي ماشيته، والزرع والشجر لا حرمة له بنفسه، ولهذا لو كان له زرع أو شجر لم يلزمه سقيه.

[فرع: الشرب من النهر المملوك]
قال ابن الصباغ: وإذا كان لرجل نهر مملوك.. جاز لكل أحد أن يتقدم ويشرب منه؛ لأنه به حاجة إلى ذلك، وهو فاضل عن حاجة صاحب النهر، إذا كان لا يؤثر فيه.

[مسألة: الماء مباح مملوك حسب مكانه]
المياه على ثلاثة أضرب:
[الأول] : ماء مباح في موضع مباح.

(7/504)


والثاني: ماء مباح في موضع مملوك.
والثالث: ماء نبع في ملك.
فأما الماء المباح في موضع مباح: فمثل الماء في الأنهار العظيمة، كدجلة والفرات، وما جرى من ذلك إلى نهر صغير، وكالسيول في الموات، فهذا الماء الناس فيه شرع واحد، لكل أحد أن يأخذ منه، ومن قبض منه شيئًا.. ملكه، وفيه ورد قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس في ثلاثة شركاء: الماء والنار والكلأ» .
وأما الماء المباح في موضع مملوك: فمثل أن يحفر رجل ساقية إلى أرضه، ويرد فيها الماء من هذه الأنهار العظيمة، أو ينزل في أرضه ماء من المطر.. فهذا الماء مباح؛ لأنه ليس من نماء أرضه، وإنما هو على أصل الإباحة. ولا يملك المباح إلا بالتناول وهو: أن يأخذه في جرة أو جب، إلا أن صاحب الأرض أحق به لكونه في أرضه، ولا يجوز لغيره أن يدخل إلى أرضه بغير إذنه، فإن خالف الغير ودخل إلى هذه الأرض، وأخذ شيئًا من هذا الماء.. ملكه، وكان متعديًا بدخول أرض غيره بغير إذنه.
قيل للشيخ أبي حامد: فإن سقى الرجل زرعه بماء مباح، أيملك الماء الذي في أرضه بين زرعه؟ قال: لا يملكه، كما لو دخل الماء إلى أرضه وفيه سمكة، فإنه لا يملك السمكة بدخولها إلى أرضه، وإنما يكون أحق بها من غيره.
وإن توحل في أرضه ظبي، أو عشش فيه طائر.. فإنه لا يملكه لكونه في أرضه، ولكن لا يجوز لغيره أن يدخل إلى أرضه ويأخذ هذا الظبي والطير منها؛ لأنه لا يجوز له التخطي فيها بغير إذن مالكها، فإن خالف ودخلها، وأخذ الظبي والطير منها.. ملكه بالأخذ.
وحكى الطبري في " العدة " وجهًا آخر:
أنه يملك الظبي المتوحل في أرضه والطائر الذي عشش في أرضه، وليس بشيء. وإن نصب رجل شبكة فوقع فيها صيد.. ملكه؛ لأن الشبكة كيده.
وأما الضرب الثالث ـ وهو الماء الذي ينبع في موضع مملوك ـ: فهو: أن ينبع في

(7/505)


أرضه عين ماء، أو يحفر في أرضه بئرًا أو عينًا، أو يحفر في الموات بئرًا ليتملكها، وينبع فيها الماء.. فقد مضى ذكر هذا في أول الباب.

[فرع: السقي من الأنهار]
وأما السقي بالماء: فإن كان الماء مباحًا في موضع مباح: فإن كان نهرًا عظيمًا لا يحصل فيه تزاحم، كدجلة والفرات، وكالسيول العظيمة.. فلكل أحد أن يسقي منه متى شاء وكيف شاء؛ لأنه لا ضرر على أحد بذلك.
وإن كان يحصل فيه تزاحم، بأن كان هذا الماء المباح في الموضع المباح قليلًا لا يمكن سقي الأرض إلا بجميعه.. فإن ترتيب السقي فيه: أن الأعلى يسقي أرضه منها إلى أن يجول الماء في أرضه ـ إذا كانت مستوية ـ إلى الكعبين، ثم يرسل الماء إلى من تحته، وعلى هذا إلى أن تنتهي الأرضون؛ لما روى عبادة بن الصامت: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في شرب النخل من سيل: أن للأعلى أن يسقي حتى يبلغ الماء إلى الكعبين، ثم للأسفل كذلك حتى ينتهي الأرضون» .
وروى ابن الزبير: «أن الزبير ورجلًا من الأنصار اختصما في شراج الحرة التي يسقون بها النخل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه الزبير، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير: يا زبير اسق أرضك، ثم أرسل الماء إلى جارك" فغصب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك! فتلون وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال: "يا زبير اسق أرضك، واحبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر". قال الزبير: فوالله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] [النساء: 65] » .

(7/506)


قال أبو عبيد [في "غريب الحديث (4/2) ] : و (الشراج) : جمع شرج، والشرج: نهر صغير. و (الحرة) : أرض ملبسة بالحجارة. و (الجدر) : الجدار.
فقيل: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أمر الزبير في المرة الأولى أن يسقي أرضه أقل من حقه مسامحة لجاره، فلما أغضبه الأنصاري.. أمره أن يسقي إلى الجدر، وعلم أن الماء إذا بلغ الجدر، بلغ إلى الكعب، وذلك قدر حقه.
وقيل: بل كان أمره في الأولى أن يسقي أرضه قدر حقه، وهو: أن يبلغ الماء إلى الكعب، فلما قال الأنصاري ما قال.. أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسقي أرضه أكثر من حقه عقوبة للأنصاري، إذ كانت العقوبات يومئذ في الأموال.
قال أصحابنا: والأول أشبه. وفرع أبو جعفر الترمذي على هذا: إذا كان لرجل أرض بعضها أعلى من بعض، ولا يقف الماء في العالية إلى الكعبين حتى يحول في المتسفلة إلى الركبتين.. فليس له أن يحبس الماء في المتسفلة إلى الركبتين، ولكن يسقي المتسفلة إلى الكعبين، ثم يسدها، ويسقي العالية إلى الكعبين.
وفرع الترمذي والإصطخري على هذا فرعًا آخر وهو: إذا أراد رجل أن يحيي مواتًا ويجعل شربه من هذا النهر: فإن لم يضق الماء على الذين قد حصلت لهم الأرض والشرب من النهر قبل هذا.. كان للثاني أن يسقي معهم؛ لأن الماء مباح، ولا ضرر عليهم في ذلك.
وإن كان الماء يضيق على أهل الأرض.. لم يكن للثاني ذلك.
قال أبو سعيد الإصطخري: لأن من أحيا مواتًا.. ملكه، وملك مرافقه وما يصلح

(7/507)


به. ومن مرافق هذه الأرض كفايتها من الماء، فإذا كان في إحياء هذا نقصان الماء عليهم.. لم يكن له ذلك.
وعلل الترمذي تعليلًا آخر، فقال: من سبق إلى شيء مباح.. كان أحق به، وهؤلاء الذين تقدم إحياؤهم سبقوا إلى هذا الماء والشرب منه، فكانوا أحق به من غيرهم.

[فرع: السقي من ماء مملوك]
وأما السقي من الماء المملوك: فإن حفر رجل بئرًا في ملكه، أو نهرًا، ونبع فيه الماء.. فإنه يملك البئر والنهر، وفي ملكه للماء وجهان.
وسواء قلنا: يملكه، أو لا يملكه.. فليس لأحد أن يدخل ملكه بغير إذنه ليأخذ منه شيئًا، فيسقي هذا الرجل أرضه بهذا الماء كيف شاء.
وإن حفر بئرًا أو نهرًا في ملكه، ونزل فيها ماء مباح.. فإنه لا يملك هذا الماء، ولكنه أحق به؛ لكونه في أرضه، ويسقي به أرضه كيف شاء. فإن وقف رجل في موات بقرب هذه البئر ـ أو النهر ـ ورمى حبلًا عليه دول في هذه البئر.. لم يكن له ذلك؛ لأنه ينتفع بما هو ملك غيره، ولكنه إن خالف وأخذ منه الماء.. ملكه.
وإن حفر جماعة نهرًا من موات ـ أو بئرًا ـ فنبع فيها الماء.. ملكوا النهر والبئر. وهل يملكون الماء؟ على الوجهين.
فإن أرادوا أن يتساووا في الملك.. تساووا في النفقة.
وإن أرادوا التفاضل في الملك.. تفاضلوا في النفقة؛ لأنهم إنما ملكوا بالعمارة.. فاختلف ملكهم باختلاف نفقاتهم.
إذا ثبت هذا: وأرادوا السقي بهذا الماء، فإن اتفقوا على المهايأة، وأن يسقي كل واحد منهم يومًا.. جاز، غير أن المهايأة لا تلزمهم، فمتى أرادوا نقضها.. جاز.
وإن أرادوا قسمته من غير مهايأة:
قال أبو جعفر الترمذي: أمكن ذلك، بأن تؤخذ خشبة مستوية الطرفين والوسط،

(7/508)


فتفتح فيها كواء على قدر حقوقهم، ثم توضع في مكان بين الأرضين والنهر، ويكون الموضع مستويًا، ثم يجمع الماء إلى ذلك الموضع، فيدخل في كل كوة قدر حق صاحبها، فإذا فعل ذلك.. فقد صار مقسومًا قسمة صحيحة، وليس لأحدهم أن يوسع كوته ولا يعمقها؛ لأنه يدخل فيها بذلك أكثر من حقه. فإن تغيرت.. أصلحها.
فإن أراد أحدهم أن يأخذ حقه من الماء قبل موضع القسمة، ويحفر ساقية إلى أرضه.. لم يكن له ذلك؛ لأن الحريم مشترك بينه وبين غيره، فلم يكن له خرقه.
وإن أراد أحدهم أن يدير قبل موضع القسمة رحى.. لم يكن له ذلك؛ لأنه يضعها في موضع مشترك بينه وبين غيره بغير إذن شركائه.
وإن أراد أن ينصب رحى بعد موضع القسمة في ساقيته التي تجري إلى أرضه.. جاز؛ لأنه وضع الرحى في ملك له منفرد به.
فإن أحيا رجل منهم مواتًا ليسقيها من مائه من هذا النهر وساقيته، أو كان له أرض أخرى ليس لها رسم شرب من هذا النهر، فأراد أن يسقيها منه بمائه ومن ساقيته.. فذكر الشيخان ـ أبو حامد وأبو إسحاق ـ: ليس له ذلك؛ لأنه يجعل لهذه الأرض شربًا من هذا النهر، فلم يكن له ذلك، كرجل له دار في درب لا ينفذ، فاشترى دارًا في درب آخر طريقها منه، فأراد أن ينفذ إحداهما إلى الأخرى، فإنه لا يكون له ذلك.
قال ابن الصباغ: وهذا وجه جيد عندي، غير أن الدارين قد اختلف أصحابنا فيها، فمنهم من جوز ذلك، ويمكن من جوز ذلك في الدارين أن يفرق بينها وبين الأرض؛ لأن الدار لا يستطرق منها إلى الدرب، وإنما يستطرق إلى أخرى، ومن أخرى إلى الدرب، وهاهنا يحمل في الساقية إليها، فيصير لها رسم في الشرب.

(7/509)


[فرع: كري النهر على المنتفعين]
قال ابن الصباغ: إذا كان النهر مشتركًا بين عشرة، فأرادوا أن يكروه، فإن على الجماعة أن يشتركوا في الكري في أوله، فإذا جاوزوا الأول.. كان على الباقين دونه، فإذا جاوزوا الثاني.. كان على الباقين دونه.. وعلى هذا. وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: يشتركون في جميعه؛ لأن الأول ينتفع بجميعه؛ لأنه ينتفع بأوله بسقي أرضه، وبالباقي بصب مائه، فكان الكري على الكل بقدر شربه وأرضه.
ودليلنا: أنه ينتفع بالماء الذي في موضع شربه، فأما ما بعده: فإنه يختص بالانتفاع به من دونه، فلا يشاركهم فيه.
والله أعلم

(7/510)