البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب اللقطة]

(7/511)


كتاب اللقطة اللقطة ـ بسكون القاف ـ: هو المال الملقوط.
وأما اللقطة ـ بفتح القاف ـ: فاختلف أهل اللغة فيها:
فقال الأصمعي وابن الأعرابي والفراء: هو اسم المال الملقوط.
وقال الخليل: هو اسم الرجل الملتقط؛ لأن ما جاء على وزن فعلة.. فهو اسم الفاعل، كقولهم: همزة ولمزة وضحكة.
إذا ثبت هذا: فإذا وجد الحر الرشيد لقطة.. لم تخل: إما أن يجدها في موضع مملوك، أو في موضع مباح:
فإن وجدها في موضع مملوك.. فهي لمالك ذلك الموضع؛ لأن يده ثابتة على الموضع وعلى ما فيه، إلا إن قال مالك الموضع: ليست بملك لي.
وإن وجدها في موضع مباح.. فلا يخلو: إما أن يكون حيوانًا، أو غير حيوان، فإن

(7/513)


كان غير حيوان.. نظرت:
فإن كانت يسيرة بحيث يعلم أن صاحبها لو علم أنها ضاعت منه لم يطلبها، كزبيبة أو تمرة وما أشبههما.. لم يجب تعريفها، وله أن ينتفع بها في الحال؛ لما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بتمرة مطروحة في الطريق فقال: لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة.. لأكلتها»
وروى جابر قال: «رخص لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به» .
وروي: (أن عمر بن الخطاب رأى رجلًا يعرف زبيبة، فقال: إن من الورع ما يمقته الله) .
وإن كانت اللقطة كثيرة بحيث يطلبها من ضاعت منه، كالذهب والفضة والثياب والجواهر وغيرها، فإن وجدها في غير الحرم.. جاز التقاطها للتملك؛ لما روى زيد بن خالد الجهني، قال: سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اللقطة فقال: «اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فشأنك بها» . وروي: «فاستنفع بها» .
وسئل عن ضالة الغنم، فقال: «خذها فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب» .

(7/514)


وسئل عن ضالة الإبل، فغضب حتى احمرت وجنتاه أو قال: احمر وجهه، فقال: «ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر، دعها حتى يجيء صاحبها فيأخذها»
«وروى أبو ثعلبة، قال: قلت يا رسول الله: أفتني في اللقطة فقال: ما وجدته في طريق ميتاء،، أو قرية عامرة.. فعرفها سنة، فإن وجدت صاحبها، وإلا.. فهي لك. وما وجدته في طريق غير ميتاء، أو قرية غير عامرة.. ففيها وفي الركاز الخمس» .
قال أبو عبيد ["في غريب الحديث" (2/204) ] : و (الميتاء) : الطريق العامر المسلوك، ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين توفي ابنه إبراهيم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، فبكى عليه وقال:

(7/515)


«لولا أنه وعد حق، وقول صدق، وطريق ميتاء.. لحزنا عليك يا إبراهيم أشد من حزننا»
قال: وبعضهم يقول: مأتي عليه الناس. وكلاهما جائز.
ويجوز أن يلتقطها للحفظ على صحابها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة:2] .
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» .
وإن وجدها في الحرم.. لم يجز له التقاطها للتملك. ومن الناس من قال: يجوز له التقاطها للتملك. وبه قال بعض أصحابنا، وحكاه ابن الصباغ عن مالك وأبي حنيفة؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مكة: «لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد» .
و (المنشد) : المعرف، يقال: أنشدت الضالة إنشادا، فأنا منشد: إذا عرفتها. فأما الطالب لها: فيقال له: الناشد.
يقال من الطلب: نشدت الضالة، أنشدها نشدانا: إذا طلبتها، فأنا ناشد.
ومنه ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فقال: «أيها الناشد غيرك الواجد» .

(7/516)


وإذا كان المنشد هو المعرف.. كان معناه أنها لا تحل إلا للمعرف لها إذا لم يجد صاحبها.
والمذهب الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] [العنكبوت:67] وما وصفه الله تعالى بالأمن لا يجوز أن يضيع فيه مال الغير.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل لقطة الحاج» .
وعموم الخبر يقتضي: لا تحل لقطة الحاج بمكة، ولا بغيرها، فأجمع المسلمون على أنها تحل بغير مكة، وبقي الحرم على ظاهر الخبر.
وأما الخبر الأول: فأراد به أنه لا يحل للمنشد منها إلا إنشادها، فأما للانتفاع بها.. فلا تحل له، إذا لو حل له تملكها لما كان لمكة مزية على غيرها من البلاد. والخبر ورد في بيان فضيلة مكة على غيرها.
وقيل: أراد بقوله: (إلا لمنشد) أي: لا تحل إلا لصاحبها الذي يطلبها، وسماه منشدا. وهذا حسن في الفقه، ولكن لا يجوز في اللغة أن يسمى الطالب منشدا، وإنما هو ناشد.
ولأن مكة بلد صغير، وينتابها الناس من الآفاق، فإذا عرفنا اللقطة فيها.. استشاع التعريف فيها، فإن كانت لأحد من أهلها.. تعرفها في الحال وأخذها.
وإن كانت لمن ينتابها من الناس من غيرها وقد راح إلى أهله.. فلا يخلو أن يخرج من بلده غيره، من صديق له أو قريب، فيمكنه أن يتعرفها له، فكان الحظ في تركها وحفظها إلى أن يجيء صاحبها؛ لأن الظاهر أنها تصل إليه وليس كذلك سائر البلاد؛ لأن البلد قد يكون كبيرا لا يستشيع التعريف فيه إن كانت لأهلها، وربما كانت لغريب

(7/517)


دخل ذلك البلد، وربما لا يعود إليه، فالظاهر أنها لا تعود إلى مالكها، فلذلك جاز تملكها.
إذا ثبت هذا: فإن الملتقط يلزمه المقام لتعريفها، فإن لم يمكنه المقام.. دفعها إلى الحاكم ليعرفها من سهم المصالح؛ لأن ذلك مصلحة.

[فرع: رؤية اللقطة في طريق مسلوك]
] وإن وجد شيئا من ضرب الجاهلية في طريق مسلوك، أو قرية عامرة.. فهو لقطة. وإن وجده في موات، أو في قرية خربة كانت عامرة للجاهلية.. فهو ركاز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما كان منها في طريق ميتاء.. فعرفها حولا كاملا، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فهي لك. وما كان منها في خراب.. ففيها وفي الركاز الخمس» و (الركاز) : المال المدفون.
هكذا: إذا احتملت الأمرين، بأن تكون آنية، أو دراهم لا نقش عليها.. قال الشيخ أبو حامد: فهو ركاز أيضا.

[فرع: اللقطة ذات الشأن]
وإن كانت اللقطة يسيرة، إلا أنها تتبعها النفس، ويطلبها صاحبها إذا علم أنها ضاعت منه.. فهل يجب تعريفها سنة أو ثلاثة أيام؛ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب تعريفها سنة، بل يكفي ثلاثة أيام؛ لأن ذلك يشق.
والثاني: وهو المذهب: - أنه يجب تعريف الكثير واليسير سنة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عرفها سنة» ولم يفرق.
إذا ثبت هذا: وقلنا لا يجب تعريف اليسير سنة.. ففي قدره ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الدينار فما دونه: يسير، وما زاد عليه كثير؛ لما روي: «أن عليا

(7/518)


- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجد دينارًا، فذكره للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمره بأكله» .
والثاني: أن اليسير درهم فما دونه، وما زاد عليه كثير.
والثالث: أن ما دون ربع دينار يسير، وربع دينار فما زاد عليه كثير؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ما كانت يد السارق تقطع في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشيء التافه» . ومعلوم أنها كانت تقطع بربع دينار.

(7/519)


[مسألة: استحباب اللقطة للأمين]
إذا وجد اللقطة وكان أمينا.. قال الشافعي في " المختصر " [3/125] : (لا أحب لأحد ترك لقطة وجدها إذا كان أمينا عليها) .
وقال في موضع آخر: (لا يحل له ترك اللقطة إذا كان أمينا عليها) .
واختلف أصحابنا فيه: فمنهم قال فيه قولان:
أحدهما: يستحب له أخذها، ولا يجب عليه، لأن ذلك أمانة، فلم يجب عليه أخذها، كقبول الوديعة.
والثاني: يجب عليه أخذها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة:2] ، ولقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] [التوبة:71] . وإذا كان وليا عليه.. وجب عليه حفظ ماله.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمة مال المؤمن كحرمة دمه» . ولو خاف على دمه.. لوجب عليه حفظه، فكذلك إذا خاف على ماله.
وقال أبو العباس، وأبو إسحاق وغيرهما: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال (يستحب له أخذها، ولا يجب عليه) أراد به: إذا وجدها في بلد، أو قرية، أو محلة، يعلم أمانة أهلها؛ لأن ترك أخذها لا يكون تغريرا بها؛ لأن غيره يقوم مقامه في حفظها، فجرى مجرى الصلاة على الجنازة، ودفن الميت إذا كان هناك من يقوم بها غيره.
والموضع الذي قال (يجب عليه أخذها) أراد: إذا وجدها في بلد، أو قرية، أو محلة يعلم أن أهلها غير ثقات، أو وجدها في مسلك يسلكه أخلاط الناس؛ لأن في تركها تغريرا بها.

(7/520)


فإن تركها الأمين ولم يأخذها فتلفت.. لم يجب عليه ضمانها، سواء قلنا: يجب عليه أخذها، أو يستحب له أخذها؛ لأن الضمان إنما يكون باليد أو الإتلاف، ولم يوجد منه أحدهما، وإنما يفيد الوجوب الإثم لا غير.
فأما إذا كان الواجد لها غير أمين: فلا يستحب له أخذها؛ لأن المقصود بأخذها حفظها على صاحبها، والتغرير يحصل بأخذه لها، فإذا تركها.. فربما وجدها من يحفظها على صاحبها.
إذا ثبت هذا: فقد حكي عن مالك وأحمد: (أنهما كرها الالتقاط للأمين أيضا) .
وروي ذلك عن ابن عباس وعطاء وجابر بن زيد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤوي الضالة إلا ضال» .
ودليلنا: حديث زيد بن خالد الجهني، ولأنه أخذ أمانة فلم تكره، كالوديعة. وأما الخبر: فمحمول على كبار الحيوان إذا وجده في البرية.

[فرع: تضمن اللقطة بالحفظ مدة التعريف]
] : إذا أخذ لقطة بنية التعريف.. لم يلزمه ضمانها بالأخذ، ولكن يلزمه حفظها مدة التعريف، فإن ردها إلى الموضع الذي وجدها فيه.. لم يبرأ بذلك.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا وفاق بيننا وبين أبي حنيفة، بخلاف الوديعة، فإنه خالفنا فيها.

(7/521)


وحكى ابن الصباغ: أن أبا حنيفة قال في اللقطة أيضا: (إنه يبرأ بذلك) كما قال في الوديعة.
ودليلنا: أنه لما أخذها.. فقد التزم حفظها فإذا تركها في الموضع الذي وجدها فيه.. فقد ضيعها، فلزمه ضمانها، كما لو رماها إلى موضع آخر.
وإن أخذ اللقطة من موضعها بنية تملكها في الحال.. ضمنها بالأخذ، ولا يبرأ بالتعريف. وإن عرفها بعد ذلك. فهل يملكها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 358] :
أحدهما: لا يملكها، لأنها دخلت في ضمانه، فهو كما لو أخذها غصبا.
والثاني: يملكها، وهو الأصح؛ لظاهر الأخبار، ولم يفرق، ولأن سبب التملك هو التعريف، وقد وجد.

[مسألة: وجد اللقطة رجلان]
وإذا وجد رجلان لقطة، فأخذاها معا.. كانت بينهما بعد التعريف، كما إذا أثبتا صيدا، وإن رأياها معا فبادر أحدهما وأخذها.. كانت لمن أخذها؛ لأن استحقاق اللقطة بالأخذ دون الرؤية، كما قلنا في الاصطياد.
فإن رآها أحدهما، فقال لصاحبه: أعطنيها، فأخذها الآخر؛ فإن أخذها لنفسه.. كان أحق بها؛ لأن استحقاقها بالأخذ دون الرؤية، وإن أخذها لصاحبه الذي أمره بأخذها، فهل تكون للآمر؟ فيه وجهان، بناء على القولين في التوكيل في الاصطياد والاحتشاش.
وإن أخذ رجل اللقطة فضاعت منه، ووجدها آخر.. فإن الثاني يعرفها، فإن جاء مالكها، وأقام البينة عليها.. وجب عليه ردها إليه؛ لأنه هو المالك لها. وإن لم يجد مالكها ولكن جاء الملتقط الأول، وأقام البينة على التقاطه لها.. وجب على الثاني ردها إليه؛ لأن الأول قد ثبت له عليها حق بالالتقاط، فوجب ردها إليه كما لو تحجر مواتا.

(7/522)


[مسألة: ما تعرف به اللقطة]
قال الشافعي: (ويعرف عفاصها ووكاءها وعددها ووزنها وحليتها ويكتبها ويشهد عليها) .
وجملة ذلك: أنه إذا وجد لقطة.. فيحتاج أن يعرف منها أشياء:
أحدها: (العفاص) : وهو الوعاء الذي يكون فيه اللقطة: كالكيس الذي يكون فيه الدنانير أو الدراهم، واللفافة التي تكون فوق الثوب، والصندوق الذي يكون فيه المتاع، يقال أعفصت الإناء: إذا أصلحت له العفاص، وعفصته: إذا شددته عليه. وأما (الصمام) : فهو ما يسد به رأس المحبرة والقارورة.
والعفاص والوعاء شيء واحد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في حديث زيد بن خالد: «اعرف عفاصها» . وفي حديث أبي بن كعب قال: «اعرف وعاءها» فدل أن المعنى واحد.
الثاني: أن يعرف (وكاءها) : وهو الخيط الذي يشد به المال في الوعاء. ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «العينان وكاء السه» .
الثالث: أن يعرف (جنسها) ، بأن يعرف أنها دنانير أو دراهم أو ثياب أو طعام.
الرابع: أن يعرف (قدرها) ، بأن يعرف عددها إن كانت معدودة، أو وزنها إن كانت موزونة، وكيلها إن كانت مكيلة، وذرعها إن كانت مذروعة.
الخامس: أن يعرف (حليتها) : وهو صفتها، فإن كانت من النقود.. عرف من أي السكك هي. وإن كانت ثيابا.. عرف أنها قطن أو كتان أو حرير، وأنها دقيقة أو غليظة. وإن كانت حيوانا.. عرف نوعه وحليته.

(7/523)


وإنما قلنا ذلك؛ لما روى زيد بن خالد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن اللقطة فقال اعرف عفاصها ووكاءها» وفي حديث أبي بن كعب «اعرف عددها، ووعاءها، ووكاءها» فنص على هذه الأشياء، وقسنا غيرها عليها؛ لأنها في معناها.
واختلف أصحابنا لأي معنى أمر بتعرف هذه الأشياء؟
فقال أبو إسحاق: يحتمل ثلاثة معان:
أحدها: أن المقصود ما في الوعاء، فنص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على معرفة الوعاء والوكاء وحفظهما؛ لينبه على معرفة ما في الوعاء وحفظه.
والثاني: أن الوعاء والوكاء لا خطر له، والعادة أن الإنسان إذا وجد شيئا ربما يرمي بالوعاء والوكاء، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحفظهما؛ لئلا يرمى بهما.
والثالث: أن الملتقط ربما خلط اللقطة ورفعها في جملة أمواله، فأمر بمعرفة الوعاء والوكاء؛ لكي تتميز عن أمواله ولا تختلط بها.
ومن أصحابنا من قال: إنما أمره بمعرفة ذلك؛ لأن صاحبها ربما جاء ووصفها بذلك، فإن غلب على ظنه صدقه.. جاز له الدفع إليه بذلك.
ومن أصحابنا من قال: إنما أمره بمعرفة ذلك؛ لأنه إذا عرف ذلك أمكنه الإشهاد عليها، والتعريف لها لتكون معلومة بما ذكرناه.
قال الشافعي: (ويكتبها ويشهد عليها) .
قال أصحابنا: يكتبها؛ لئلا ينسى ما عرفه، وذلك مستحب غير واجب.
وأما الإشهاد عليها: فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يستحب ولا يجب، فإن تركه.. لم يجب عليه ضمانها. وبه قال مالك؛ لحديث زيد بن خالد، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمره بالإشهاد عليها، ولأنه آخذ أمانة، فلا يجب الإشهاد عليها، كالوديعة.
والثاني: يجب الإشهاد عليها، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إن لم يشهد عليها.. ضمنها) ؛ لما روى عياض بن حمار: أن

(7/524)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وجد لقطة.. فليشهد ذا عدل- أو ذوي عدل - ولا يكتم ولا يغيب. فإن وجد صاحبها.. فليردها عليه، وإلا.. فهو مال الله عز وجل يؤتيه من يشاء» ولأنه إذا لم يشهد عليها.. كان الظاهر أنه أخذها لنفسه، ولأن القصد من أخذ اللقطة حفظها على صاحبها، والحفظ إنما يتم بالإشهاد؛ لأنه ربما غاب أو مات، ويأخذها ورثته.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 362] : إذا قلنا: يجب الإشهاد.. فإنه يشهد أنه وجد لقطة ولا يعلم الشهود بالعفاص والوكاء وغير ذلك.

[مسألة: نية حفظ اللقطة]
إذا أخذ اللقطة بنية أن يحفظها على صاحبها أبدا.. فهل يلزمه تعريفها؟ فيه وجهان، حاكهما الطبري:
أحدهما: لا يلزمه، وهو المشهور؛ لأن التعريف يراد للتملك وإباحة أكلها، ولا نية له في ذلك.
والثاني: يلزمه التعريف؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عرفها سنة» ، ولأن صاحبها لا يعلم بها إلا بالتعريف. وإن أراد أن يتملكها.. عرفها.
والكلام في التعريف في سبعة مواضع: في وجوبه، وقدر مدته، ووقته، وقدر التعريف، ومكانه، وكيفيته، ومن يتولاه.
فأما الوجوب: فالدليل عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم عرفها سنة» . وهذا أمر، والأمر

(7/525)


يقتضي الوجوب، ولأن سبب التملك هو التعريف، فمتى أراد التملك.. لزمه الإتيان بالسبب.
وأما قدر مدته: فسنة؛ للخبر، ولأن من ضاع منه شيء.. ربما لم يتمكن من طلبه في الحال لشغل، أو لأنه لم يعلم إلا بعد زمن، أو لبعده عن الموضع الذي ضاع فيه، فلم يكن بد من مدة، فقدرت بسنة؛ لأنه يمر فيها الفصول الأربعة. ولأن الغالب ممن ضاع منه شيء أنه يتمكن من طلبه في سنة، فإذا لم يوجد له مالك.. فالظاهر أنه لا مالك له.
فإن قيل: فقد روي «عن أبي بن كعب: أنه قال: وجدت صرة فيها مائة دينار فأتيت بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "عرفها حولًا" فعرفتها، ثم أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "عرفها حولًا"، ثم أتيته فقال: "عرفها حولًا" فأمره بتعريفها ثلاثة أحوال؟» .
قلنا: عن ذلك أجوبة:
أحدها: أن ابن المنذر قال: قد ثبت الإجماع بخلاف هذا الحديث، فيستدل بالإجماع على نسخه.
وأيضًا فإن له ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنه عرفها حولًا، وقصر في تعريفها، فأمره أن يعيد التعريف فعرفها حولًا آخر وقصر في التعريف، فأمره أن يأتي بالتعريف الكامل حولًا.
والتأويل الثاني: أنه ذكر ذلك لفظًا، فقال: «عرفها حولًا» ، «عرفها حولًا» ، «عرفها حولًا» ، لا أنه كرر الأحوال.
والثالث: أنه أمره بتعريفها حولًا، فأتاه في بعض الحول، فقال: «عرفها حولًا» أي: تمم الحول، ثم أتاه قبل إتمامه أيضًا، فقال: «عرفها حولًا» أي: تمم الحول.
إذا ثبت هذا: فابتداء السنة من حين التعريف لا من حين الالتقاط. فإن عرفها سنة متوالية.. فلا كلام، وإن عرفها شهرًا، ثم قطع التعريف مدة، ثم عرفها، ثم قطع

(7/526)


التعريف، ثم عرفها إلى أن استوفى مدة التعريف متفرقة، ففيه وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأنه يقع عليها اسم سنة التعريف، فهو كما لو نذر صوم سنة وصامها سنة متفرقة.. أجزأه.
والثاني: لا تجزئه حتى يأتي بها متوالية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عرفها حولًا» وظاهره التوالي، ولأن المقصود بالتعريف وصول الخبر إلى المالك، وذلك لا يحصل إلا بالتوالي، كما لو حلف أن لا يكلم زيدًا سنة.
وأما وقت التعريف: فهو بالنهار دون الليل، ودون أوقات الخلوة؛ لأن العادة جرت بتعريف اللقطة وطلبها بالنهار دون الليل، ويستحب أن يكثر منه في أدبار الصلوات؛ لأن الناس يجتمعون لها، فيتصل الخبر بمالكها.
وأما قدر التعريف: فليس عليه أن يعرف من أول النهار إلى آخره؛ لأن في ذلك مشقة عليه، وينقطع عن دينه ودنياه.
قال الصيمري: بل يعرفها في اليوم مرة أو مرتين؛ لأن المقصود يحصل بذلك.
إذا ثبت هذا: فنقل المزني: (ويكون أكثر تعريفها في الجمعة التي أصابها فيها) .
وقال في موضع آخر: (يكون أكثر تعريفه في البقعة التي أصابها فيها) .
ونقل الربيع: (ويكون أكثر تعريفه في الجماعات التي أصابها فيها) .
فقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 358] : إذا وجدها في الجامع.. عرفها كل جمعة؛ لأن الغالب أن مالكها يعود كل جمعة.
وقال الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: الصحيح ما نقله الربيع من هذا، حيث قال: (في الجماعات) وهو موافق لقوله: (في البقعة التي أصابها فيها) وأنه يعرفها في الجماعات والبقعة التي وجدها فيها؛ لأن ذلك أبلغ في تعريفها.
وأما رواية المزني في الجمعة التي أصابها فيها: فإنه يقتضي أنه يكثر تعريفها في

(7/527)


الأسبوع الذي وجدها فيه. فإذا لم يجد صاحبها.. قل تعريفه، وليس بشيء.
وأما مكان التعريف: فإنه يعرفها على أبواب الجوامع، وأبواب مساجد الجماعات، وفي الأسواق، وإذا اجتمع الناس في المجالس في المحال؛ لأن القصد بالتعريف إعلام صاحبها بها، والتعريف في هذه المواضع أبلغ. ولا يعرفها داخل المسجد؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيها الناشد غيرك الواجد، إنما بني المسجد لذكر الله والصلاة»
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد.. فليقل: لا ردها الله عليك". [و] "إنما بنيت المساجد للصلاة» .
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البيع والشراء، وإنشاد الضوال في المساجد» .
قال الصيمري: وقد كره قوم إنشاد الشعر في المساجد، وليس ذلك عندنا بمكروه.
وقد كان حسان بن ثابت ينشد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشعر في المسجد، وقد أنشده

(7/528)


كعب بن زهير قصيدتين في المسجد. ولكن لا يكثر منه في المسجد.
وأما كيفية التعريف: فهو أن يقول: وجدت شيئًا أو لقطة، أو يقول: من ضاع له شيء، أو من ضاع له ذهب أو دراهم، ولا يزيد عليه. فإن ذكر النوع والقدر والعفاص والوكاء، فهل يكون ضامنًا بذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصير ضامنًا بذلك؛ لأنه لا يجب عليه الدفع بمجرد الصفة.
والثاني: يكون ضامنًا؛ لأنه ربما حفظ ذلك رجل وحاكمه إلى حنبلي يوجب الدفع بالصفة.
وأما من يتولى التعريف: فإن الواجد يتولى التعريف بنفسه، وإن تطوع رجل بتعريفها.. جاز. وإن لم يجد من يتطوع عنه بالتعريف.. فعليه أن يستأجر من ماله من يعرفها؛ لأن هذا سبب للتملك، والتملك له، فكانت الأجرة عليه.

(7/529)


وإن دفعها الملتقط إلى القاضي ليعرفها القاضي عنه أو دفعها إلى أمين بأمر القاضي.. جاز. وإن دفعها إلى أمين ليعرفها عنه بغير أمر القاضي.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 359] :
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنها أمانة في يده.. فلم يكن له إخراجها من يده بغير إذن المالك والقاضي من غير ضرورة، كالوديعة.
والثاني: له ذلك؛ لأن صاحب الشرع قد جعله وليا على هذه اللقطة، فصار كتصرف الأب في مال الابن.

[مسألة: تملك اللقطة بعد سنة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (فإن جاء صاحبها، وإلا.. فهي له بعد سنة) .
وقال في موضع آخر: (فإذا عرفها سنة فإن شاء ملكها على أن يغرمها لصاحبها إذا جاء، وإن شاء حفظها عليه) .
وجملة ذلك: أنه إذا وجد اللقطة وعرفها سنة.. فهل تدخل في ملكه من غير أن يختار تملكها، اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: تدخل في ملكه بمضي سنة التعريف وإن لم يختر تملكها، واحتج بظاهر كلام الشافعي: (وإلا فهي له بعد سنة) ، وبما روي في حديث أبي ثعلبة الخشني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «ما وجدته في طريق ميتاء أو قرية عامرة.. فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فهي لك» ، ولأن سبب التملك هو التعريف فإذا وجد السبب.. حصل الملك، كالاصطياد، والاحتشاش، وإحياء الموات.
وقال أكثر أصحابنا: لا يملكها بمضي السنة، وهو الأصح؛ لأن الشافعي قال: (فإذا عرفها سنة: فإن شاء ملكها) ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث زيد بن خالد الجهني: «ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فشأنك بها» فأغراه بتملكها بعد التعريف، فدل على أنه لم يملكها بمضي مدة التعريف، ولأنه تملك بعوض، فافتقر إلى اختيار التملك - وفيه احتراز من الصيد والاحتشاش. فإذا قلنا بهذا:

(7/530)


فبماذا يحصل له الملك؟ فيه ثلاثة أقوال، حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها: أنه لا يملكها إلا بثلاثة أشياء: وهو أن ينوي بقلبه تملكها، ويتلفظ بذلك وهو أن يقول: تملكتها - ويتصرف فيها، كما قلنا في المستقرض في أحد الوجهين: أنه لا يملك ما استقرض إلا بالعقد والتلفظ والقبض والتصرف.
والقول الثاني: أن الملتقط يملك اللقطة بالنية والقول، وإن لم يتصرف فيها، كما قلنا في المستقرض في الوجه الثاني: أنه يملك بالعقد والقبض وإن لم يتصرف.
و [القول] الثالث: أن الملتقط يملك اللقطة بمجرد نية التملك، وإن لم يتلفظ بها، ولم يتصرف؛ لأن القول إنما يفتقر إليه إذا كان هناك موجب، فيقبل منه. ولا يوقف الملك على التصرف؛ لأنه لو لم يملك قبل التصرف.. لما صح تصرفه.
وحكى ابن الصباغ وجها رابعا - وهو اختيار القاضي أبي الطيب -: أنه يملك اللقطة بمجرد القول وهو: أن يختار تملكها بالقول وإن لم ينو بقلبه ولم يتصرف؛ لأن الملك في الأموال يحصل بالاختيار بالقول من غير نية ولا تصرف، كما قلنا في الشفعة والغنيمة، فحصل فيها خمسة أوجه.

[فرع: للفقير والغني تملكها بعد الحول]
وإذا عرف الملتقط للقطة لسنة.. فقد ذكرنا أن له أن يحفظها على صاحبها، وله أن يختار تملكها سواء كان الواجد غنيا أو فقيرًا، وسواء كان من آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو من غيرهم.
وقال أبو حنيفة) إذا وجدها الفقير وعرفها حولا.. فهو بالخيار: بين أن يحفظها على صاحبها، وبين أن يتملكها، وبين أن يتصدق بها عن صاحبها. ويكون ذلك موقوفا على إجازة صاحبها، فإن رضي به.. وقعت الصدقة عنه، وإن رده.. كانت الصدقة عن الواجد، ووجب عليه ضمانها. وإن وجدها الغني فعرفها حولا.. كان

(7/531)


بالخيار: بين أن يحفظها على صاحبها، وبين أن يتصدق بها عن صاحبها. فإن أجازها صاحبها.. وقعت عنه، وإن ردها.. وقعت عن الواجد، وكان عليه ضمانها، ولا يجوز للغني تملكها) .
وحكى أصحابنا عن أبي حنيفة (إذا كان الواجد من آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. فليس له أن يتملك اللقطة وإن كان فقيرًا)
وقال مالك: (إن كان الواجد فقيرًا.. فله أن يتملك اللقطة بعد التعريف، وإن كان غنيا.. فليس له أن يتملكها بعد التعريف، بل يحفظها على صاحبها)
دليلنا: ما وري في حديث زيد بن خالد الجهني: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن اللقطة فقال: عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها» أي: افعل بها ما تشاء. وروي: «وإلا.. فاستنفع بها» ولم يفرق بين الغني والفقير.
«وروى أبي بن كعب قال: وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "عرفها حولا" ثم أتيته" فقال: "عرفها حولا" - مرتين أو ثلاثا - إلى أن قال: اعرف عددها ووعاءها ووكاءها، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فاستمتع بها»
قال الشافعي: (وأبي بن كعب من أيسر أهل المدينة أو كأيسرهم)
ولأن من صح أن يملك بالقرض.. صح أن يملك اللقطة، كالفقير، وعكسه العبد.

[مسألة: اللقطة أمانة كالوديعة]
وإذا التقط الرجل لقطة بنية التملك بعد التعريف، أو بنية الحفظ على صاحبها.. فإن اللقطة أمانة في يده مدة التعريف؛ لأن الحظ في التعريف لصاحبها، فهي كالوديعة. فإن تلفت في يده، أو نقصت من غير تفريط.. فلا ضمان عليه، كما قلنا في الوديعة. فإن جاء صاحبها قبل انقضاء مدة التعريف.. أخذها وزيادتها المتصلة بها والمنفصلة عنها؛ لأنها باقية على ملكه.
وإن نوى الملتقط تملكها قبل انقضاء مدة التعريف.. لم يملكها بذلك؛ لأن

(7/532)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أباح له تملكها بتعريفها سنة، فلا يملكها قبل ذلك، وهل يضمنها بهذه النية؟ ينظر فيه:
فإن نقلها بعد هذه النية من موضع إلى موضع.. ضمنها، ولم يزل عنه الضمان بترك نية الخيانة، ولا يملكها بعد السنة بالتعريف؛ لأنه قد صار غاصبًا.
وإن لم ينقلها بعد هذه النية.. ففيه وجهان حكاهما الطبري:
أحدهما: يصير ضامنا لها؛ لأنه صار ممسكا لها على نفسه.
فعلى هذا: لا يملكها بالتعريف، ولا يزول عنه الضمان بنية ترك الخيانة، وإنما يبرأ بالتسليم إلى مالكها.
والثاني: لا يصير ضامنا لها، ولم يذكر المسعودي [في " الإبانة " ق \ 359] غيره؛ لأنه لم يوجد منه إلا مجرد النية، وذلك لا يوجب الضمان. فإن ترك هذه النية وعرفها.. تملكها بعد استيفاء التعريف.

[فرع: ثبوت بدل اللقطة بعد تملكها]
وإذا أخذ اللقطة فعرفها حولا، فإن قلنا: لا يملكها إلا باختيار التملك.. فهي أمانة في يده، كما كانت قبل انقضاء مدة التعريف.
وإن قلنا: إنه يملكها بمضي مدة التعريف، أو قلنا: لا يملكها إلا باختيار تملكها، فاختار تملكها.. ملكها ببدلها في ذمته. فإن كان لها مثل.. ثبت مثلها في ذمته، وإن لم يكن لها مثل.. ثبتت قيمتها في ذمته.
وحكي عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: إذا تملك اللقطة بعد الحول.. لا يثبت بدلها في ذمته، وإنما يضمنها إذا جاء صاحبها وطالب بها.
وقال داود: (يملكها، ولا يثبت بدلها في ذمته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن جاء

(7/533)


صاحبها، وإلا.. فشأنك بها» ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رواية عياض بن حمار: «فإن جاء صاحبها.. فهو أحق بها، وإلا.. فهي مال الله، يؤتيه من يشاء» ولم يذكر وجوب البدل عليه) .
وهذا ليس بصحيح؛ لما روى الشافعي: «أن عليا كرم الله وجهه وجد دينارًا، فذكره للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمره أن يعرفه، فعرفه، فلم يعترف به، فأمره بأكله، فلما جاء صاحبه.. أمره أن يغرمه» . وفي رواية غير الشافعي: «أن عليا كرم الله وجهه دخل على فاطمة، فرأى الحسن والحسين - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - يبكيان، فقال: ما يبكيهما؟ قالت أصابهما الجوع، فخرج علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فوجد دينارا بالسوق، فحمله إليها، فقالت: احمله إلى الدقاق، فاشتر به دقيقا، فحمله إليه، فقال: أنت ختن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ ـ وكان الدقاق يهوديا ـ فقال علي: نعم، فقال: خذ الدينار والدقيق، فأخذه، فأتى به فاطمة، فقالت: احمله إلى فلان الجزار وخذ عليه لحمًا بدرهم، فمر عليه، وأخذ اللحم وحمله إليها، فعجنت وخبزت، وأرسلت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما أتاها، ذكرت له الأمر، وقالت له: إن كان حلالًا أكلت وأكلنا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "باسم الله" فبينا هو في ذلك إذ سمع رجلا ينشد الله والمسلمين.. فاستدعاه وسأله، فقال: ضاع مني دينار، فقال لعلي: مر على الجزار واسترجع منه الدينار وقل: علي الدرهم، ورده إليه»
ولأنه مال من له حرمه، فوجب أن لا يملكه بغير عوض بغير اختيار صاحبه، كالمضطر إلى الطعام.
فإن جاء صاحبها والعين باقية في ملك الملتقط.. أخذها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن جاء صاحبها.. فهو أحق بها» .
وإن وجدها زائدة.. نظرت.. فإن كانت زيادة متصلة، كالسمن والكبر.. أخذها مع

(7/534)


زيادتها؛ لأنه يتبعها.. وإن كانت زيادة منفصلة، كاللبن والولد المنفصلين.. كانت الزيادة للملتقط؛ لأنها زيادة حدثت في ملكه.
وإن وجدها صاحبها ناقصة.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يأخذها وأرش ما نقصت؛ لأن جميعها مضمون على الملتقط إذا تلفت، فكذلك إذا تلف بعضها.
والثاني: أنه بالخيار: بين أن يرجع بالعين ويأخذ أرش النقص معها، وبين أن يطالب ببدلها؛ لأن بدلها ثابت في ذمة الملتقط، فكان لصاحبها المطالبة به.
والثالث: حكاه القاضي أبو الطيب في " المجرد " - "أنه يأخذها ولا أرش له؛ لأن النقص كان في ملكه. والمذهب الأول.
وإن جاء صاحبها وقد تلفت العين في يد الملتقط، أو أتلفها.. رجع بمثلها إن كان لها مثل، أو بقيمتها إن لم يكن لها مثل.
وقال داود: (لا يرجع عليه ببدلها) ، ووافقه الكرابيسي من أصحابنا. وهذا ليس بصحيح؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
إذا ثبت هذا: فمتى تعتبر قيمتها؟ وفيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق: تعتبر قيمتها يوم يطالب بها صاحبها؛ لأنه وقت وجوبها؛ لأنه لو وجبت عليه قيمتها حين التملك.. لوجب إذا مات قبل أن يجيء صاحبها أن لا يكون لورثته أن يقتسموا جميع التركة، بل يعزل منها قدر قيمتها، كمن مات وعليه دين.
و [الثاني] : - وهو المذهب - أن قيمتها تعتبر يوم تملكها؛ لأن للقطة تجري مجرى القرض، ومن اقترض شيئا.. وجبت عليه قيمته، فإن قيمته تعتبر وقت تملكه، لا حين يطالب به.
قال الشيخ أبو حامد: وأما قسمة التركة التي ذكرها أبو إسحاق: فلا نسلمه، وإن سلمناه.. فإنما كان كذلك؛ لأنه لا يعرف المستحق، والظاهر أنه لا يعرف، فلم توقف التركة.

(7/535)


[فرع: بيع الملتقط اللقطة]
فإن تملك الملتقط اللقطة وباعها، وحضر المالك في حال الخيار.. ففيه وجهان:
أحدهما: يفسخ المالك البيع ويأخذه؛ لأنه يستحق العين، والعين باقية.
والثاني: لا يملك الفسخ؛ لأن الفسخ حق للمتعاقدين، فلم يملكه غيرهما من غير إذنهما.

[مسألة: لا تدفع اللقطة بالتخمين]
وإذا التقط الرجل لقطة فعرفها، فجاء رجل وادعى أنها له:
فإن وصفها المدعي بصفاتها، وشهدت له البينة أن تلك اللقطة بهذه الصفة له..
وجب دفعها إليه؛ لأنه قد عرف أنه مالكها بالبينة.
وإن لم يصفها، ولم يقم عليها بينة.. لم يجز دفعها إليه.
وإن وصفها بصفاتها، ولم يقم عليها بينة، فإن لم يغلب على ظن الملتقط أنها له.. لم يجب دفعها إليه، ولم يجز؛ لأنه لا يدفع إليه أمانة عنده بالتخمين.
فإن طلب المدعي يمين الملتقط.. نظرت: فإن أقر الطالب أنها لقطة في يد الملتقط يمينًا: ما يعلم أنها ملك الطالب، وإن لم يدع الطالب أن الملتقط يعلم أنها ملكه.. لم يجب عليه أن يحلف. وإن لم يقر الطالب أنها لقطة في يد الملتقط، وقال: هي ملكي.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 359] : فإن الملتقط يحلف على البت والقطع. فأما إذا غلب على ظن الملتقط بوصف الطالب أنها ملكه.. فإنه يجوز له دفعها إليه، ولكن

(7/536)


لا يجب عليه دفعها إليه. وبه قال أبو حنيفة، وعامة أهل العلم.
وقال أحمد وبعض أصحاب الحديث: (يجب عليه دفعها إليه بذلك) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن جاء ربها.. فهو أحق بها، وإلا.. فشأنك بها» .
و (ربها) : مالكها، ونحن لا نعلم مالكها بوصفه لها، ولأنه وصف لما ادعاه فلم يستحقه بالصفة، كالمغصوب والمسروق. وكما لو كان عند رجل وديعة، وأشكل عليه المودع لها، فجاء رجل ووصفها بصفاتها، فإنه لا يجبر على دفعها إليه بذلك فكذلك هذا مثله.
إذا ثبت هذا: فإن اختار الملتقط دفع اللقطة إلى من وصفها بصفاتها، ثم جاء طالب آخر وادعى أنها له، وأقام بينة أن تلك اللقطة ملكه، أو أنه ابتاعها من مالكها، ولا يعلم أنها انتقلت منه - قال الشيخ أبو حامد: أو شهدت له أنه ورثها ولا يعلم أنها انتقلت من ملكه - حكم لصاحب البينة بملك اللقطة؛ لأن البينة أولى من الصفة.
فإن كانت اللقطة باقية.. أخذها الثاني ولا كلام، وإن كانت قد تلفت في يد الأول الذي أخذها بالصفة.. فللثاني الذي أقام البينة أن يطالب ببدلها الملتقط؛ لأنه دفعها إلى غير مستحقها، وله أن يطالب الذي تلفت في يده؛ لأن التلف حصل بيده. فإن ضمن الذي تلفت بيده.. لم يرجع بما ضمنه على الملتقط؛ لأنه يقول: ظلمني صاحب البينة، فلا يرجع على غير من ظلمه. وإن رجع صاحب البينة على الملتقط.. فهل للملتقط أن يرجع بما ضمنه على الذي تلفت في يده؟ ينظر فيه:
فإن كان قد سمع من الملتقط إقرار أن الملك للواصف، بأن يقول: هي ملكك، أو صدقت هي ملكك، وما أشبه ذلك.. لم يرجع الملتقط على الذي تلفت بيده بشيء؛ لأنه يعترف أن صاحب البينة ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه.
وإن لم يتقدم منه إقرار بالملك للواصف، بأن قال حين الدفع: يغلب على ظني صدقه، إذا دفع إليه بالصفة.. كان له الرجوع على الواصف؛ لأن التلف حصل بيده، ولم يقر له بالملك.
هذا إذا دفعها الملتقط إلى الواصف برأيه. فأما إذا دفعها إليه برأي حاكم يرى

(7/537)


وجوب الدفع بالصفة، وألزمه ذلك.. فليس للذي أقام البينة أن يرجع على الملتقط بشيء؛ لأن الملتقط غير مفرط في الدفع.
فأما إذا تلفت اللقطة في يد الملتقط بعد أن تملكها، فجاء رجل فادعاها ووصفها، فغلب على ظن الملتقط صدقه، فدفع إليه قيمتها، ثم جاء آخر وادعاها، وأقام عليها بينة.. فلصاحب البينة أن يطالب الملتقط بقيمة اللقطة، وليس له أن يطالب الواصف؛ لأن القيمة التي قبضها ليست عليه اللقطة.

[مسألة: لقطة الحيوان]
] : وإن كانت اللقطة حيوانًا.. فلا يخلو: إما أن يجدها في صحراء، أو في قرية: فإن وجدها في صحراء.. نظرت: فإن كان حيوانًا يمتنع بقوته من صغار السباع، كالإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، أو يبعد أثره في الأرض لخفته، كالظباء والغزلان والأرانب، أو بطيرانه، كالحمام.. فلا يجوز التقاطها للتملك.
وحكى ابن الصباغ: أن أبا حنيفة قال: (يجوز التقاطها للتملك) .
ودليلنا: ما روي: «أن رجلًا قال: يا رسول الله! إنا نصيب هوامي الإبل، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ضالة المسلم حرق النار فلا تقربنها» .
وفي حديث آخر: «لا يؤوي الضالة إلا ضال» و (الضالة) : اسم للحيوان خاصة.

(7/538)


وفي حديث زيد بن خالد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ضالة الإبل، فغضب حتى احمرت وجنتاه، وقال: ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها» .
وسئل عن ضالة الغنم فقال: «هي لك، أو لأخيك، أو للذئب» .
فقوله: «معها حذاؤها» يعني: أخفافها، أي: أنها تقوى على السير، وقطع البلاد.
وقوله: «سقاؤها» يعني: أجوافها: لأنها تأخذ الماء الكثير في أجوافها، فيبقى معها.
وقوله: «ترد الماء، وتأكل الشجر» أي: هي محفوظة بنفسها.
فزجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أخذ الإبل وبين لأي معنى منع منه. وقسنا عليه ما في معناها.
إذا ثبت أنه لا يجوز التقاطها للتملك.. فهل يجوز أخذها للحفظ على صاحبها؟
ينظر فيه:
فإن كان الواجد لها هو الإمام، أو الحاكم.. جاز له أن يأخذها ليحفظها على صاحبها؛ لما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانت له حظيرة يجمع فيها الضوال) . ولأن في ذلك مصلحة لصاحبها. فإن كان له حمى.. تركها في الحمى، ويسمها بسمة الضوال؛ لتتميز عن نعم الصدقة والجزية وخيل المجاهدين. وإن لم يكن له حمى، واحتاجت إلى الإنفاق عليها، فإن طمع في مجيء صاحبها في يوم أو يومين أو ثلاث.. أنفق عليها. وإن لم يطمع في مجيء

(7/539)


صاحبها.. باعها وحفظ ثمنها له؛ لأنه لو تركها.. استغرقت النفقة قيمتها، فكان بيعها أحوط لصاحبها.
وإن كان الواجد لها من الرعية، فأخذها ليحفظها على صاحبها.. فهل يضمنها بالأخذ لذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يضمنها؛ لأنه أخذها ليحفظها عل صاحبها، فهو كالحاكم.
والثاني: يضمنها بالأخذ؛ لأنه لا ولاية له على مالكها بحال، بخلاف الإمام والحاكم فإنهما يرصدان لمصالح المسلمين، ولهما ولاية على غير الرشيد.
فإذا قلنا بهذا: أو أخذها بنية التملك.. فقد لزمه ضمانها؛ فإن ردها إلى الموضع الذي وجدها فيه.. لم يزل عنه الضمان؛ لأن ما لزمه ضمانه "لا يزول عنه ضمانه برده إلى مكانه، كما لو غصب شيئا من مكان ثم رده إليه. وإن سلمها إلى الإمام أو الحاكم.. فهل يزول عنه الضمان؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يزول عنه الضمان؛ لأن الإمام والحاكم لا ولاية له على رشيد، ويجوز أن يكون مالكها رشيدا.
والثاني: يزول عنه الضمان، وهو الصحيح؛ لأن الإمام أو الحاكم لو أخذها ليحفظها على صاحبها.. جاز فإذا قبضها.. كذلك، لأن له ولاية على مال الغائب، ولهذا يقضي منه ديونه ويحفظه عليه.
فعلى هذا: إن أخذها الإمام أو الحاكم منه.. كان كما لو وجدها بنفسه وأخذها ليحفظها على ما مضى.
وإن كان الحيوان مما لا يمتنع بنفسه من صغار السباع، كالشياه، وعجاجيل البقر، وفصلان الإبل الصغار، وما أشبهها.. فيجوز التقاطه؛ لما روى زيد بن

(7/540)


خالد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ضالة الغنم، فقال: خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب» .
ومعنى هذا: أي هي لك إن أخذتها، أو هي لأخيك إن أخذها.
قال الصيمري: يحتمل أنه أراد: أنها باقية على ملك مالكها.
وقوله: «أو للذئب» أي: إذا لم تأخذها أنت ولا أحد.. أكلها الذئب بلا شك.
فإذا التقط الرجل شيئا من هذا.. فهو بالخيار:
إن شاء تطوع بالإنفاق عليها، وحفظها لصاحبها.
وإن شاء عرفها حولا، وتملكها بعد ذلك.
وإن شاء باعها وحفظ ثمنها لصاحبها، أو عرف الحيوان نفسه حولا وتملك الثمن. وإن شاء أكلها قبل الحول، وعرفها حولا، فإن جاء صاحبها.. غرم له قيمتها. وقال مالك: (لا يجب عليه غرم قيمتها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإنما هي لك، أو لأخيك أو للذئب» ولم يذكر الغرم) .
ودليلنا: أن هذا ملك لغيره، فلم يكن له تملكه بغير عوض من غير رضا المالك، كما لو كان في البنيان. والخبر محمول على أنه أراد: بعوضها.
إذا ثبت هذا: فإن أراد الملتقط بيعها، فإن لم يكن في البلد حاكم.. باعها بنفسه؛ لأنه موضع ضرورة. وإن كان في البلد حاكم.. رفع الأمر إليه ليبيعها الحاكم، أو يأمره بالبيع أو يأمر غيره.
فإن باعها الملتقط من غير إذن الحاكم مع قدرته عليه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح البيع؛ لأنه لما قام مقام المالك في الحفظ. قام مقامه في البيع.
والثاني: لا يصح، وهو الصحيح؛ لأنه لا ولاية له على المالك في بيع ماله، بخلاف الحاكم.
فإذا قلنا بهذا: وجاء المالك.. كان له أن يطالب الملتقط برد العين إن كانت باقية، أو بقيمتها إن كانت تالفة.

(7/541)


وله أن يطالب المشتري بذلك. فإن تلفت في يد المشتري، فرجع عليه بقيمتها ... لم يرجع المشتري على الملتقط بالقيمة، بل يرجع عليه بالثمن إن كان دفعه. وإن رجع المالك على الملتقط بالقيمة.. رجع بها الملتقط على المشتري، ورد عليه الثمن.
وإذا قلنا بالأول: أو باعها بإذن الحاكم.. فإن الثمن يكون أمانة في يده مدة التعريف. فإن جاء المالك بعد البيع. لم يملك فسخ البيع، بل يرجع بالثمن، سواء كان قبل أن يتملكه الملتقط أو بعد ما تملكه؛ لأنه قام مقام اللقطة.
فإن هلك الثمن في يد الملتقط في مدة التعريف من غير تفريط منه، ثم جاء مالك اللقطة.. لم يجب على الملتقط ضمان، كما لو هلكت اللقطة في مدة التعريف.
وإن اختار المتلقط أكلها قبل الحول.. كان له ذلك؛ لأن في ذلك حظا لصاحبها؛ لأن قيمتها ثبتت في ذمة الملتقط، فإذا تركت، ربما تلفت، فسقط حق مالكها.
وهل يلزم المتلقط عزل قيمتها مدة التعريف؟
قال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: لا يلزمه عزل قيمتها هاهنا، وجها واحدا. وحكى في " المهذب " في عزل القيمة هاهنا وجهين:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن كل موضع جاز له أكل اللقطة.. لم يلزمه عزل بدلها، كما بعد الحول.
والثاني: يلزمه عزل بدلها من ماله؛ لأنه ليس له أن ينتفع باللقطة قبل الحول، فلما جوزنا له بالانتفاع بها هاهنا قبل الحول.. لزمه عزل بدلها من ماله؛ ليقوم بدلها مقامها.
فإذا قلنا: لا يلزمه عزل بدلها.. فإن بدلها يكون دينا في ذمته، ويعرف اللقطة نفسها. فإن مات أو أفلس، ثم جاء صاحبها.. ضارب مع الغرماء بقدر قيمة اللقطة.
وإن قلنا: يلزمه عزل بدلها، فعزله.. فإنه يعرف اللقطة نفسها، لا ما عزله، ويكون ما عزله أمانة في يده مدة التعريف، فإن تلفت في يده من غير تفريط.. لم يلزم الملتقط شيء آخر غير الذي عزله؛ لأن القيمة قد قامت مقام اللقطة، فإن اختار أن يحفظ القيمة أبدا على صاحب اللقطة بعينه.. كان له ذلك، وإن أراد أن يتملكها بعد

(7/542)


التعريف.. كان له ذلك، فإذا تملكها كانت القيمة في ذمته، وإن مات المتلقط أو أفلس قبل أن يتملك القيمة، فجاء مالك اللقطة.. كان أحق بالقيمة المعزولة وله من سائر الغرماء.

[فرع: وجد حيوانا في قرية عامرة]
وإن وجد الحيوان في بلد أو قرية عامرة.. فقال المزني: قال الشافعي فيما وضعه بخطه - لا أعلمه سمع منه -: (فالجميع لقطة) .
واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: الصحيح ما ذكره المزني: فالصغير والكبير من الحيوان لقطة في البلد؛ لأنا إنما منعناه من أخذ الكبير من الحيوان في الصحراء؛ لأن ترك أخذه أحظ لصاحبه؛ لأنه يأكل الشجر، ويرد الماء، ويحتفظ بنفسه، وهذا المعنى غير موجود فيه في البلد، لأنه لا يجد ما يرعى فيه، فكان التقاطه أحظ لصاحبه.
ومن أصحابنا من قال: ما يجده من الحيوان في البلد كالذي يجده في الصحراء، فإن كان إبلا، أو ما كان في معناها.. لم يكن له أخذها.
وإن كان غنما، أو ما كان في معناها.. كان له أخذها؛ لعموم حديث زيد بن خالد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفرق فيه بين البلد والصحراء، وإنما فرق فيه بين الصغير والكبير؛ لأن الكبير في البلد لا يضيع أيضا ولا يخفى أمره بخلاف الصغير.
فإذا قلنا بهذا: فليس له أن يأخذ الكبار للتملك، وله أن يأخذ الصغار ويكون فيه بالخيار: بين أن يتطوع بالإنفاق عليها ويحفظها على صاحبها، وبين أن يعرفها حولا ويتملكها، وبين أن يبيعها ويحفظ ثمنها، أو يتملكها بعد التعريف، وهل له أن يأكلها في البلد؟ فيه وجهان:
قال أكثر أصحابنا: لا يأكلها. والفرق بين البلد والصحراء: أنه لا يجد في الصحراء من يشتريها في الغالب، فجاز له أكلها، وفي البلد يجد من يشتريها في الغالب.. فلم يجز له أكلها.

(7/543)


وقال الشيخ أبو حامد: يجوز له أكلها في البلد؛ لأن الشافعي قد نص على: (أنه إذا وجد الطعام الرطب في البلد.. فله أكله وإن كان يجد من يشتريه) . وهذا في معناه.
وإن قلنا بقول أبي إسحاق: وأن الصغار والكبار لقطة.. فهو بالخيار: بين أن ينفق على الجميع ويحفظها على صاحبها، أو يعرفها ويتملكها، أو يبيعها ويحفظ ثمنها، أو يتملكه بعد التعريف، وهل له أكل الجميع؟ على الوجهين في الصغار في البلد.

[فرع: وجد ضالة في دار الحرب]
إذا وجد لقطة أو ضالة في دار الحرب، ولا مسلم في دار الحرب.. فهي غنيمة، لأهل الخمس خمسها، والباقي لمن وجدها.
وإن وجد لقطة أو ضالة للحربي في دار الإسلام.. فهي فيء لا يختص به الواجد.

[فرع: لقطة الهدي الضال]
إذا وجد هديا ضالا في أيام منى أو قبلها.. فقد قال ابن القاص: أخذه وعرفه، فإن لم يجد صاحبه، وخاف أن يفوته الذبح.. ذبحه.
قال الشافعي: (وأحب إلي أن يرجع إلى الحاكم حتى يأمره الحاكم بذبحه) .
قال أبو علي السنجي: قياس قول الشافعي: أنه لا يأخذ الهدي إذا وجده في الصحراء؛ لعموم الخبر. ويحتمل ما حكاه ابن القاص، أن الشافعي قال: (يرجع به إلى الحاكم) أراد به: إذا وجده في المصر. وإن ثبت النص فيها عن الشافعي.. فوجهه: أنه معد للذبح، فإذا وجده وأشرف الوقت على الخروج.. فالغالب أنه انفلت من صاحبه. وإن تركه خرجت العبادة عن وقتها، فجاز له أخذه وذبحه.
وقال القفال: إذا وجد الهدي مشعرا مقلدا.. فهل له أن يذبحه؟ فيه قولان مأخوذان من القولين فيمن وجد هديا مذبوحا في الطريق، وقد أشعر وقلد، وضرب

(7/544)


بدمه على صفحة سنامه.. هل له الأكل منه بهذه العلامة؟ على قولين. وهكذا لو قلد هديه وأشعره.. هل يقوم هذا الفعل مقام النطق في إيجابه؟ على قولين.

[مسألة: التقاط العبد الصغير]
إذا التقط الرجل عبدا صغيرا غير مميز.. فله أن يحفظه على صاحبه، ويتطوع بالإنفاق عليه. وله أن يعرفه حولا ويتملكه. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 363) : وله أن يبيعه، كالشاة.
وإن وجد جارية صغيرة غير مميزة.. فله أن يحفظها على صاحبها، ويتطوع بالإنفاق عليها، وهل له أن يتملكها؟ ينظر فيه:
فإن كان لا يحل له وطؤها: بأن كانت من ذوي محارمه.. جاز له أن يتملكها بعد التعريف، كما يجوز له أن يقترضها.
وإن كانت ممن يحل له وطؤها.. لم يجز له تملكها، كما لا يجوز له اقتراضها.
وإن وجد عبدًا كبيرًا، أو صغيرًا مميزًا يتحفظ بنفسه، أو جارية كبيرة، أو صغيرة مميزة، تتحفظ بنفسها.. لم يكن له التقاطهما؛ لأنهما يحفظان أنفسهما.
فإن أراد الواجد أن يحفظهما على مالكهما، وينفق عليهما من كسبهما.. جاز. وإن لم يكن لهما كسب.. رفع الأمر إلى الحاكم؛ ليبيعهما، ويحفظ ثمنهما على مالكهما، فإن باعه الحاكم، أو كان العبد صغيرًا فتملكه المتلقط وباعه، ثم جاء مالكه وأقر أنه كان قد أعتق قبل البيع.. فحكى الشيخ أبو حامد فيه قولين:
أحدهما: يقبل قول السيد فيه، ويحكم بحريته، ويبطل البيع؛ لأن السيد أقر على نفسه بما يضره، فلا تهمة عليه فيه.. فيقبل.
والثاني: لا يقبل قوله، بل نحكم بصحة البيع؛ لأن الإمام يلي بيعه حين باعه.. فلم يقبل قول المالك بما يبطله، كما لو باع الرجل عبد نفسه، ثم أقر أنه كان أعتقه قبل ذلك.

(7/545)


وحكى القاضي أبو الطيب: أن من أصحابنا من قال: لا يقبل قوله قولا واحدا؛ لما ذكرناه.

[فرع: ادعاء عبد آبق في مصر وطلبه في مكة]
إذا أبق للرجل عبد، فحصل عند الحاكم بمصر، فجعله مع الضوال، فأقام رجل عند حاكم مكة شاهدين شهدا على أن ذلك العبد بصفاته له، فكتب حاكم مكة إلى حاكم مصر: حضر إلي فلان بن فلان، وادعى أن له في يدك عبدًا، من صفته كذا وكذا، وشهد له ذلك شاهدان.. فهل يجب تسلميه بذلك إلى المدعي؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب تسليمه بذلك. وبه قال أبو حنيفة ومحمد؛ لأنهم لم يشهدوا على عينه، وإنما شهدوا على الصفات، والصفات تشتبه، وقد تتفق الصفات مع اختلاف الأعيان.
فعلى هذا: لو جاء طالب له آخر، وادعى أنه له، ووصفه بصفاته.. لم يجز دفعه إليه حتى يتضح له: من المالك منهما؟
القول الثاني: يجب تسليمه إليه بذلك. وبه قال أبو يوسف؛ لأن البينة أثبتته له بصفاته، كما ثبتت في الذمة بوصفه في السلم. فإذا قلنا بهذا: فإن حاكم مصر يجعل في رقبة العبد خيطا، ويضيقه بحيث لا يمكن أن يخرجه من رأسه، ويختم على ذلك الخيط، ويسلمه إلى المدعي أو وكيله، ويكون مضمونا على المدعي إن تلف، فيحمله إلى حاكم مكة، فإن قال الشاهدان: إن هذا هو العبد الذي شهدنا عليه للمدعي.. استقر ملكه عليه. وإن قالا: هو غيره.. لزمه رده إلى حاكم مصر. والأول أصح؛ لأنه يدخل على الثاني ثلاثة أشياء:
أحدها: أنه إذا أسلم العبد إلى المدعي.. لم يؤمن أن يموت المدعي أو يفلس، وقد تلف العبد في يده، ويكون لغيره، فلا يصل صاحبه إلى العبد، ولا إلى قيمته.
الثاني: أنه قد يكون للغير، فتذهب منفعته في الطريق مع المدعي.
الثالث: قد تكون أم ولد للغير، فيسلمها إلى غيره، وهذا لا سبيل إليه.

(7/546)


وإذا قلنا بالأول: فرأى حاكم مصر بيعه وحفظ ثمنه، فنصب المدعي رجلا ليبتاعه له من حاكم مصر، فابتاعه له، ثم مضى به إلى مكة فحضر الشاهدان وشهدا أن هذا العبد ملكه. حكم بفساد البيع، فيكتب حاكم مكة إلى حاكم مصر بذلك ليرد له الثمن إن كان قد قبضه؛ لأنه قد بان أنه ملكه، ولا يقول المدعي لحاكم مصر: بعني هذا العبد؛ لأن ذلك إقرار منه أنه ليس بملك له.

[مسألة: التقاط كلب صيد]
إذا التقط كلب صيد.. عرفه حولا، فإن لم يجد صاحبه.. كان له أن ينتفع به بعد الحول؛ لأنه وإن كان غير مملوك فإن الانتفاع به جائز، فقام بعد الحول والتعريف مقام صاحبه. فإن جاء صاحبه وقد هلك.. لم يجب عليه قيمته؛ لأنه لا قيمة له.
وهل يضمن قيمة منفعته بعد الحول؟ فيه وجهان بناء على الوجهين في جواز إجارته.

[مسألة: التقاط الطعام الرطب]
وإن كانت اللقطة طعامًا رطبًا لا يمكن استبقاؤه، كالطبائخ والهرائس.. فقد قال الشافعي: (له أن يأكله إذا خاف فساده، ويغرمه لربه) .
قال المزني: وقال الشافعي فيما وضعه بخطه ـ لا أعلمه سمع منه ـ: (إذا خاف فساده.. أحببت له أن يبيعه) فجعل المزني هذا قولًا آخر أنه لا يجوز له أكله؛ لأنه يمكنه بيعه.
قال أصحابنا: وما خرجه المزني غير صحيح، بل يجوز له الأكل، قولًا واحدًا.
وما ذكره الشافعي بخطه لا يدل على أنه لا يجوز له الأكل، وإنما يدل على أن البيع أولى من الأكل، وهذا صحيح.
وإذا ثبت هذا: فهو بالخيار: بين أن يبيعه، وبين أن يأكله، كما قلنا في الشاة إذا

(7/547)


وجدها في صحراء؛ لأنه يخاف على كل واحد منهما الهلاك؛ فإن اختار بيعه، فإن لم يكن في البلد حاكم.. باعه بنفسه؛ لأنه موضع ضرورة، ويعرف الطعام الذي وجده لا نفس الثمن. وإن كان في البلد حاكم، فرفع الأمر إليه، فباعه الحاكم بنفسه، أو أمر الملتقط أو غيره أن يبيعه فباعه.. صح البيع.
وإن باعه الملتقط بنفسه من غير إذن الحاكم.. فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنه لا يصح البيع.
قلت: ويحتمل أن يكون على الوجهين اللذين حكاهما الشيخ أبو إسحاق في بيع الشاة التي وجدها في الصحراء.
وإن اختار أكله.. فهل يلزمه عزل قيمته؟ حكى الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: فيه وجهين عن أبي إسحاق، وقد مضى تعليلهما في أكل الشاة التي وجدها في الصحراء.

[فرع: التقاط ما يحتاج إلى مؤونة]
وإن التقط ما لا يبقى إلا بمؤونة وعلاج، كالرطب والعنب، فإن كان بيعه رطبًا أحوط.. قال ابن الصباغ: كان كالطعام الرطب على ما مضى.
وذكر الشيخان ـ أبو حامد وأبو إسحاق ـ: أنه يباع ويحتفظ بثمنه لصاحبه.
وإن كان تجفيفه أحوط، فإن تطوع الواجد بالإنفاق على تجفيفه.. جاز، وإن لم يتطوع.. باع الحاكم جزءًا منه، وأنفقه على تجفيفه، بخلاف الحيوان فإنه لا يباع منه شيء؛ لأن النفقة هاهنا لا تتكرر، بخلاف النفقة على الحيوان فإنها تتكرر، فلذلك قلنا: لا يباع منه شيء لذلك.

[مسألة: لقطة خمر مراق]
وإن وجد خمرًا أراقها صاحبها.. لم يجب تعريفها؛ لأن إراقتها مستحقة، فإن صارت عنده خلًا.. ففيه وجهان:

(7/548)


أحدهما: يجب تعريفها؛ لأنها عادت إلى الملك السابق لصاحبها.
والثاني: لا يجب تعريفها؛ لأن صاحبها قد أسقط حقه منها بإراقتها.

[مسألة: لقطة العبد]
إذا التقط العبد لقطة.. فهل يصح التقاطه؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح. وبه قال أبو حنيفة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من التقط لقطة.. فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل، ولا يكتمها ولا يغيبها» ولم يفرق بين الحر والعبد. ولأنه كسب بفعل، فصح من العبد، كالاصطياد والاحتشاش، وفيه احتراز من الميراث.
والثاني: لا يصح التقاطه. وهو اختيار المزني؛ لأن الالتقاط يقتضي: أمانة وولاية في مدة التعريف، وتملكًا بعوض في ذمته، والعبد ليس من أهل الأمانة والولاية، ولا ذمة له يستوفى الحق منها، فلم يصح.
فإذا قلنا: يصح التقاطه، فإن لم يعلم السيد باللقطة.. فإنها أمانة في يد العبد. وإن تلفت في يد العبد بغير تفريط منه.. لم يضمنها؛ لأن الأمانة لا تضمن بغير تعد.
وإن أتلفها العبد، أو تلفت في يده بتفريط منه.. ضمنها في رقبته، كما لو أتلف مالًا لغيره.
وإن عرفها العبد حولًا تعريفًا كاملًا.. لم يملكها العبد قولًا واحدًا؛ لأنه لا يملك المال على القول الجديد، ويملكه على القول القديم إذا ملكه السيد، ولم يملكه السيد هاهنا.
فإن قلنا: إن اللقطة تدخل في ملك الملتقط بعد انقضاء التعريف.. دخلت في ملك السيد.
وإن قلنا: لا يملكها الملتقط إلا باختيار التملك.. لم يملكها السيد حتى يختار

(7/549)


تملكها، فإن تملكها العبد وتصرف فيها. فإنه لا يملكها ويضمنها، وفي محل ضمانه لها وجهان:
أحدهما: يضمنها في ذمته، كما لو اقترض شيئًا فاسدًا، أو قبضه وأتلفه.
والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أنه يضمنها في رقبته؛ لأنه لزمه بغير رضى من له الحق، بخلاف القرض الفاسد.
وأما إذا علم بها السيد: فله أخذها من يده؛ لأن كسبه له، فإن أخذها السيد بعد أن عرفها العبد.. كان للسيد أن يتملكها. وإن كان العبد قد عرفها بعض الحول.. فللسيد أن يكمل التعريف ويتملكها. وإن كان قبل أن يعرفها العبد.. عرفها السيد حولًا وتملكها. وإن لم يأخذها السيد من العبد، بل أقرها في يده، فإن كان العبد ثقة.. جاز، كما لو استعان به في حفظ ماله، ويكون الحكم فيه كما لو أخذها السيد منه. وإن كان العبد غير ثقة.. ضمنها السيد وزال الضمان عن العبد؛ لأن السيد فرط في إقرارها بيده، فلزمه ضمانها، كما لو أخذها من يده وردها إليه؛ لأن يد العبد كيد سيده.
وإن علم فلم يأخذها من يده ولم يقرها، وإنما أهملها في يده.. فهل يجب على السيد ضمانها؟ قال ابن الصباغ: فيه وجهان، يأتي توجيههما.
وأما إذا قلنا: لا يصح التقاط العبد.. فإن العبد يضمنها بالأخذ؛ لأنه أخذ ما لًا يجوز له أخذه، فهو كما لو غصب مال غيره، فإن علم بها السيد.. فإنه لا يخلو: إما أن يأخذها من يده، أو يقرها في يده، أو يهملها. فإن أخذها من يده.. زال الضمان عن العبد، وصار كأن السيد التقطها.
قال ابن الصباغ: وينبغي لو أخذها غير السيد من الأحرار.. أن يزول عن العبد الضمان؛ لأن كل من هو من أهل الالتقاط نائب عن صاحبها.
فإن قيل: إذا حصل الشيء مضمونًا، لم يزل الضمان بالانتقال إلى يد غير يد مالكه..
فالجواب: أنه إنما لا يزول الضمان إذا أخذه من لا يجوز له أخذه، وهاهنا يجوز للسيد أخذها، فصار كما لو غصب عينًا، فدفعها الغاصب إلى وكيل المغصوب منه.

(7/550)


إذا ثبت هذا: فإن اختار السيد حفظها على صاحبها.. جاز. وإن اختار تملكها.. عرفها حولًا ثم تملكها. فإن كان العبد قد عرفها.. لم يعتد بتعريفه؛ لأن وجود التقاطه بمنزلة عدمه، فكذلك تعريفه.
وإن لم يأخذها السيد منه، ولكن أقرها في يده ليعرفها، فإن كان العبد ثقة.. جاز وزال عن العبد الضمان؛ لأن العبد صار ممسكًا لها عن السيد، فصار كما لو أخذها السيد من يده وردها إليه.
وإن كان العبد غير ثقة.. ضمنها السيد؛ لأنه فرط في تركها في يده؛ لأن يد السيد على العبد وعلى ما في يده، فصار كما لو أخذها السيد منه ثم ردها إليه.
وإن لم يأخذها السيد منه ولا أقرها، ولكن أهملها في يده.. فقد روى المزني: (أن السيد يضمنها في رقبة عبده) ، ونقل الربيع: (أنه يضمنها في رقبة عبده وسائر أمواله) . وأراد بقوله (وسائر أمواله) : في ذمته.
فمن أصحابنا من قال: الصحيح ما نقله المزني، وأنه يضمنها في رقبة عبده لا غير؛ لأن السيد لا يضمن جنايات عبده في ذمته، وإنما يتعلق الضمان برقبة العبد لا غير، فإن تلف العبد.. سقط حق صاحب اللقطة.
وقال أبو إسحاق: الصحيح ما نقله الربيع، وقد نقله المزني في "جامعه الكبير " وإنما أسقطه في " المختصر "؛ لأن السيد قد كان يمكنه أن يأخذها منه، أو يقرها في يده، فإذا لم يفعل.. صار متعديًا، فكان ضامنًا لها في ذمته، كما لو غصب العبد مالًا لغيره، وعلم به السيد، وأمكنه انتزاعه منه، فلم يفعل حتى تلف في يد العبد، فإن السيد يضمنه في ذمته.
فعلى هذا: إن تلف العبد.. تعلق الضمان بذمة السيد.
وإن كان على السيد ديون وأفلس.. كان للملتقط أن يأخذ حقه من العبد، ولا يشاركه الغرماء فيه.
وإن لم تف قيمته بحقه.. ضارب الغرماء فيما بقي له من قيمة اللقطة في مال السيد. ومن أصحابنا من قال: فيها قولان، ووجههما ما ذكرناه.

(7/551)


فرع: [عتق العبد ومعه لقطة لم يعلم بها سيده] :
إذا التقط العبد لقطة فأعتقه سيده قبل أن يعلم باللقطة، فإن قلنا: يصح التقاطه.. كان للسيد أخذها منه، كما لو اكتسب مالًا قبل العتق ولم يعلم به السيد.
وإن قلنا: لا يصح التقاطه.. لم يكن للسيد أخذها؛ لأنه قبل أن يعتق لم يتعلق به حق للسيد.
وهل للعبد أن يبتدئ تعريفها بعد العتق، ويتملكها بعد التعريف؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأنه قد صار على صفة يصح التقاطه، فصار كما لو وجدها في هذه الحالة.
والثاني ـ خرجه الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق ـ: ليس له ذلك؛ لأن يده قد صارت يد ضمان، فلا تنقلب يد أمانة.

[مسألة: المكاتب في اللقطة]
قال الشافعي في " المختصر " [3/128] : (والمكاتب في اللقطة كالحر؛ لأن ماله يسلم له) ونص في " الأم " [3/289] : (أنه كالعبد) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كالعبد؛ لأنه ناقص بالرق، بدليل أنه لا يرث، ولا تصح الوصية إليه.
ومنهم من قال: إنه كالحر قولًا واحدًا.
قال الشافعي في " الأم ": (لأن ماله له) وهذا التعليل أصح من التعليل الذي نقله المزني: (أن ماله يسلم له) ؛ لأنه قد يسلم له، وقد لا يسلم له.

(7/552)


فإذا قلنا: إنه كالحر، أو قلنا: إنه كالعبد، وقلنا: يصح التقاطه، فإذا التقط لقطة.. فهي أمانة في يده، فإذا عرفها حولًا.. صح تعريفه، وله أن يتملكها بعد التعريف؛ لأنه من أهل التملك كالحر.
وإذا قلنا: إنه كالعبد، وقلنا: لا يصح التقاطه، فالتقط لقطة.. ضمنها بأخذه لها، وليس للسيد أن يأخذها منه، كما يأخذها من العبد؛ لأنه لا سبيل للسيد على ما في يد المكاتب، ولكن يسلمها إلى الحاكم، فإذا قبضها الحاكم.. برئ المكاتب من ضمانها، فإن عرفها الحاكم حولًا، فهل للمكاتب أن يتملكها؟ فيه وجهان:
قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب: له أن يتملكها؛ لأنه من أهل التملك.
وقال الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: ليس له أن يتملكها؛ لأنه ليس من أهل الالتقاط، فلم يملكها بالحول والتعريف.
فعلى هذا: تكون في يد الحاكم إلى أن يجد صاحبها.

[فرع: لقطة المبعض]
وأما إذا وجد من نصفه حر ونصفه عبد لقطة.. فقد نص الشافعي: (أنه كالحر) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان كالعبد؛ لأنه ناقص بالرق. ومنهم من قال: هو كالحر قولًا واحدًا، وهو الصحيح؛ لأنه يملك بنصفه الحر ملكًا تامًا.
فإذا قلنا: إنه كالعبد، وقلنا: لا يصح التقاطه، فهو كالعبد يصير ضامنًا لها، وإذا أخذها السيد منه.. زال عنه الضمان.
وإذا قلنا: إنه كالحر، أو كالعبد، وقلنا: يصح التقاطه، فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة.. فاللقطة لهما بعد التعريف. وإن كان بينهما مهايأة.. فهل تكون اللقطة لمن وجدت في يومه؟ فيه قولان:

(7/553)


أحدهما: تكون له؛ لأنه كسب للعبد، فكانت لمن وجدت في يومه، كالمعتاد.
والثاني: أنها لا تكون لمن وجدت في يومه، بل تكون بينهما؛ لأنه كسب نادر، والنادر غير معلوم وجوده، فلا يدخل في المهايأة.

[فرع: لقطة المدبر والمعلق عتقه]
وأما المدبر والمعتق بصفة، إذا التقط لقطة.. فحكمه حكم العبد القن على ما مضى.
وأما أم الولد إذا التقطت لقطة.. فنص الشافعي: (أنها كالعبد القن) .
قال الشافعي: (إلا أنها إذا تلفت اللقطة في يدها، فإن علم بها السيد.. كان الضمان عليه في ذمته، وأما إذا لم يعلم بها.. كان الضمان في ذمتها) .
قال الربيع: وفيه قول آخر: (أن ضمانها في ذمته) . وقوله: (في ذمتها) غلط.
واختلف أصحابنا في قول الشافعي: (في ذمتها) :
فقال أكثرهم: هو غلط كما قال الربيع؛ لأن هذا فرعه الشافعي على القول الذي يقول: لا يصح التقاط العبد، وكان يجب أن يكون ضمانها في رقبتها، إلا أن السيد قد منع من بيعها بالإحبال، ولم يبلغ بها حالة يتعلق الحق بذمتها إذا لم يعتقها، فوجبت جنايتها في ذمته. وقوله (في ذمتها) غلط من الكاتب. وقال أبو إسحاق: يمكن تأويل قول الشافعي: (في ذمتها) أن يكون فرعه على القول الذي يقول: يصح التقاط العبد، فإذا التقطت أم الولد لقطة.. حصلت في يدها أمانة، إلا أنه يجب عليها أن تعلم السيد بها ليأخذها منها، فإذا لم تفعل حتى تلفت في يدها.. فقد فرطت، فتعلق الضمان بذمتها؛ لأن صاحبها كأنه رضي بكونها في يدها، فصار بمنزلة أن يدفع رجل وديعة إلى أم ولد لتدفعها إلى سيدها، فلم تدفعها حتى تلفت في يدها، فإن ضمانها يكون في ذمتها.

(7/554)


قال الشيخ أبو حامد وهذا وإن كان صحيحًا في الفقه، فلا يحمل كلام الشافعي على هذا؛ لأنه إنما فرعه على القول الذي يقول: لا يجوز التقاط العبد.

[مسألة: لقطة معدومي أهلية التكليف]
إذا وجد الصبي أو المجنون أو المحجور عليه للسفه لقطة فالتقطها.. صح التقاطه؛ لعموم الأخبار، ولأن هذا كسب، فصح منهم، كالاصطياد والاحتشاش.
هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 360] : في التقاط الصبي قولان، كالعبد. وهذا ليس بمشهور. إذا ثبت هذا: فإن تلفت اللقطة في يد أحدهم بغير تفريط، قبل أن يعلم بها الولي.. لم يجب ضمانها؛ لأنه قبض ما له قبضه. وإن تلفت في يده بتفريط منه، أو أتلفها.. وجب ضمانها في ماله، كما لو أتلف مال غيره.
وإن علم بها الولي.. فعليه أن يأخذها منه؛ لأنه ليس من أهل حفظ الأموال. فإن تركها الولي في يده حتى تلفت.. قال القاضي أبو الطيب ضمنها الولي؛ لأن الولي يلزمه حفظ مال الصبي وما تعلق به حقه، وهذا قد تعلق بها حقه، فإذا تركها في يده.. صار مضيعًا لها، فضمنها.
وإن أخذها الولي فعرفها حولًا.. نظر الولي: فإن كان المولى عليه ممن يجوز أن يقترض عليه.. تملكها له. وإن كان ممن لا يجوز أن يقترض له، بأن كان غنيًا، فهل للولي أن يتملكها له؟ فيه وجهان.
قال عامة أصحابنا: ليس له أن يتملكها له؛ لأن الملك في اللقطة يجري مجرى الاقتراض. فإذا كان لا حاجة به إلى الاقتراض، لم يتملكها له.
وقال ابن الصباغ: له أن يتملكها له؛ لأن الظاهر عدم صاحبها، ولهذا جعلناه

(7/555)


بمنزلة الاكتساب. ولو جرى مجرى الاقتراض.. لم يصح الالتقاط من الصبي والمجنون، وكان يراعى في صحة الالتقاط الحاجة إلى الاقتراض.

[مسألة: لقطة الفاسق]
إذا وجد الحر الفاسق لقطة فيكره له أخذها؛ لأنه ربما تدعوه نفسه إلى استحلالها وكتمانها. فإن التقطها.. صح التقاطه قولًا واحدًا؛ لأنه من جهات التكسب، فصحت من الفاسق، كالاصطياد. وهذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 361] : في صحة التقاطه قولان، كالعبد.
إذا ثبت أنه يصح التقاطه.. فهل يقرها الحاكم في يده؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يقرها في يده، بل ينتزعها ويسلمها إلى أمين؛ لأن اللقطة في الحول الأول أمانة في يد الملتقط، والفاسق ليس من أهل الأمانة.
والقول الثاني أنه يقرها في يده، ولكن لا يهمل الحاكم أمرها، بل يضم إليه أمينًا يشرف عليه ويمنعه من التصرف فيها قبل الحول؛ لأن الفاسق لما ساوى الأمين في تملك اللقطة بعد الحول.. ساواه في كونها بيده. والأول أصح.
وفي الذي يتولى تعريفها قولان، سواء قلنا تقر في يده، أو لا تقر:
أحدهما: يعرفها الواجد لها وإن كان فاسقًا؛ لأنه هو الواجد، ولأنها إنما انتزعت منه خوفًا من أن يخون بها، ولا خيانة في التعريف.
والثاني: أن الفاسق لا ينفرد بتعريفها، ولكن يضم إليه الحاكم أمينًا يعرفها معه؛ لأنه لا يؤمن أن يقصر في التعريف. فإذا انتهى التعريف.. كان للفاسق أن يتملكها؛ لأنه من أهل التملك.

[فرع: لقطة الذمي في بلاد المسلمين]
] : واختلف أصحابنا في الذمي إذا التقط لقطة في دار الإسلام:
فمنهم من قال: لا يصح التقاطه؛ لأن الالتقاط أمانة بولاية، والذمي ليس من

(7/556)


أهلها، ولأنه لا يملك بالإحياء في دار الإسلام، فلا يملك بالالتقاط فيه.
ومنهم من قال: يصح التقاطه؛ لأن له ذمة صحيحة ويملك بالقرض، فصح التقاطه.
فإذا قلنا: يصح التقاطه.. فهل تقر في يده، ويصح تعريفه بنفسه، أو ينزعها الحاكم منه، ويضم من يعرفها معه؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالفاسق.
ومنهم من قال: تقر في يده، وينفرد بالتعريف قولًا واحدًا؛ لأنه وإن كان كافرًا، فهو مقر على دينه، كما أنا نقول: لا يصح إنكاح الفاسق، ويصح إنكاح الذمي.

[فرع: القول للمدعي حتى يأتي صاحب اليد بالبينة]
قال الشافعي في " الأم ": (إذا كان في يد رجل عبد، فادعاه آخر، وشهد له به شاهدان أنه ملكه، فقال من بيده العبد: هذا اشتريته من فلان، ببلد كذا، ولي عليه بينة هناك تشهد أني ابتعته، وكان مالكًا له حين باعه مني.. فإن العبد يسلم إلى المدعي، ولا يعتد بدعوى من بيده العبد؛ لأن بينة المدعي قد قامت، وثبت له الملك، فلا يوقف بالدعوى، فيسلم العبد إلى المدعي إلى أن يأتي من بيده العبد ببينة) .
والله أعلم

(7/557)