البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب اللقيط]

(8/5)


كتاب اللقيط اللقيط، والملقوط، والمنبوذ: اسم للطفل الذي يوجد مطروحًا. وهو فعيل: بمعنى مفعول، كما يقال للمقتول: قتيل، وللمدهون: دهين.
والتقاط المنبوذ فرض، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة: 2] فأمر بالمعاونة على البر، وهذا من البر.
وقَوْله تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] [الحج: 77] فأمر بفعل الخير، وهذا من فعل الخير.
وقَوْله تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] [التوبة: 71] والولي يلزمه حفظ المولى عليه.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] [المائدة: 32] .
فقيل: معناه: له ثواب من أحيا الناس كلهم. وفي أخذ اللقيط إحياء له، فكان واجبًا، كبذل الطعام للمضطر.
إذا ثبت هذا: فإن التقاطه فرض على الكفاية إذا قام به بعض الناس.. سقط عن الباقين. وإن تركوه.. أثم جميع من علم به، كما نقول في غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه.

(8/7)


[مسألة حرية اللقيط]
) : وإذا وجد لقيط مجهول الحال.. حكم بحريته، لما روى سنين أبو جميلة - رجل من بني سليم - قال: (وجدت منبوذًا على عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأخذته، فذكره عريفي لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما رآني.. قال: عسى الغوير أبؤسًا، فقال عريفي: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، لا يتهم في ذلك، قال عمر: أهو كذلك؟ قال: نعم، فقال عمر: اذهب فهو حر، وولاؤه لك، وعلينا نفقته) .
وفي بعض الروايات: (ونفقته من بيت المال) . وإنما أراد عمر بهذا: أي لعل هذا الرجل الذي وجده هو صاحب المنبوذ. فقال: (عسى الغوير أبؤسًا) ، حتى أثنى عليه عريفه خيرًا. وهذا مثل لكل شيء يخاف منه أن يأتي بشر.
قال الأصمعي: (والأبؤس) : جمع البأس. وأصل هذا: أن غارًا كان فيه ناس، فانهار عليهم الغار، فماتوا. وقيل: أتاهم فيه عدو فقتلهم، فصار ذلك مثلًا لكل أمر يخاف منه، صم صغر الغار فقيل: غوير.

(8/8)


وقال الكلبي: (الغوير) ماء لكلب، يسمى الغوير. وقال: وهذا المثل إنما تكلمت به الزباء، وذلك أنها وجهت قصيرًا اللخمي بعير ليحمل إليها من بز العراق، وكان يطلبها رجال جذيمة الأبرش، فحمل الأحمال صناديق - وقيل: غرائر - وجعل في كل واحد منها رجلًا معه السلاح، ثم تنكب بهم على الغوير؛ لأنه طريق منهج، فسألت عنه، فأخبرت أنه تنكب بالعير على الغوير، فقالت: (عسى الغوير أبؤسًا) أي: عسى أن ذلك الطريق يأتيها منه شر، واستنكرت حاله.
قال أبو عبيد: وهذا أشبه من الأول.
وأما نصب أبؤس.. فأراد: عسى الغوير أن يحدث أبؤسًا.
وأما قول عمر: (وولاؤه لك) .. فإنا نحمله على أنه أراد ولاء حضانته، لا ولاء ميراثه.
وقد حمله قوم على ولاء الميراث، ونحن نذكره في موضعه - إن شاء الله - ولأن الأصل في الناس الحرية.

[فرع اللقيط ومعه مال]
الصبي الصغير يملك المال الكثير؛ لأنه يرث، ويوصي له، ويبتاع له، فهو كالكبير في الملك، وإذا ثبت أنه يملك.. فإن يده تثبت على المال، كالبائع.
فإذا ثبت هذا: فإن وجد لقيط ومعه مال، فإن كانت يده ثابتة عليه، بأن وجده لابسًا ثوبًا، أو وجد الثوب مفروشًا عليه، أو وجده على فراش، أو سرير أو في سفط، أو وجد الثوب مفروشًا عليه، أو وجد معه دراهم معقودة على ثيابه أو تحت فراشه، أو وجده مشدودًا على بهيمة، أو وجد في يده عنان دابة، أو وجده في خيمة أو دار.. فإن ذلك كله له؛ لأن

(8/9)


ذلك كله في يده، وله يد صحيحة، فهو كما لو وجد ذلك في يد بالغ.
وإن كان تحته مال مدفون، أو بالبعد منه مال مطروح، أو فرس مربوط.. لم يكن ذلك له؛ لأنه لا يد له عليه.
وإن كان بالقرب منه مال مطروح، أو فرس مربوط.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه له؛ لأن الإنسان قد يترك ماله ودابته بالقرب منه.
والثاني: أنه لا يكون له، وهو ظاهر النص؛ لأن اليد يدان، يد مشاهدة ويد حكمية. (فالمشاهدة) : ما كان ممسكًا له بيده. (والحكمية) : ما كان في ملكه، وإن لم يكن ممسكًا له، وهذا ليس بواحد منهما.
ويفارق الكبير؛ لأن ما يقربه يكون مراعيًا له، فكان بمنزلة المتصل به. والطفل لا مراعاة له، فجرى مجرى البعيد من الكبير.
إذا ثبت هذا: فإن كل مال يكون للقيط.. ينظر فيه:
فإن كان في ملك إنسان.. فهو لصاحب الملك؛ لأن الظاهر أنه له.
وإن كان في غير ملك إنسان، فإن كان من غير ضرب الجاهلية.. فهو لقطة. وإن كان من ضرب الجاهلية، فإن كان في طريق مسلوك، أو قرية عامرة.. فهو لقطة.
وإن كان في موات، أو قرية خربة كانت عامرة في الجاهلية.. فهو ركاز، وكل ما كان في يد اللقيط فهو ملك له.
وإذا أخذ رجل اللقيط، وأخذ ماله.. فهل له إمساكه وحفظه عليه بغير أمر الحاكم؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي. (في " الإبانة " ق \ 364) :
أحدهما: له ذلك، كما كانت له حضانته.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأن مالكه متعين.

(8/10)


[مسألة الناس ضربان من حيث التكليف]
الناس في الإسلام على ضربين: مكلف، وغير مكلف.
فأما (المكلف) : فهو البالغ العاقل. فهذا لا يحكم بإسلامه إلا بأن يأتي بالشهادتين.
وأما (غير المكلف) : فهو الصبي والمجنون. وقد يسلم الصبي، وقد يتبع غيره في الإسلام.
فأما إسلامه بنفسه: فيأتي ذكره في السير إن شاء الله.
وأما إسلامه تبعًا لغيره: فذلك الغير ثلاثة أشياء:
الأبوان، أو السابي، أو الدار.
فأما الأبوان: فإذا أسلما ولهما ولد صغير.. تبعهما في الإسلام.
وهكذا: إن أسلم الأب وحده.. تبعه في الإسلام بلا خلاف، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] (الطور: 21) وإن أسلمت الأم وحدها.. تبعها ولدها الصغير في الإسلام. وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا يتبعها)
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مولود يولد على الفطرة: وأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه» .
وعند مالك: (إن الأم لا مدخل لها في التهويد والتنصير والتمجيس) .

(8/11)


ولأنها أحد الأبوين، فيتبعها الولد في الإسلام تغليبًا للإسلام، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يعلو ولا يعلى» كالأب.
وأما السابي: فإذا سبي طفل من أولاد الكفار، فإن سبي معه أبواه أو أحدهما.. فإنه يتبعهما في الكفر إن كانا كافرين. وإن أسلم أحدهما.. تبعه. وإن سبي وحده.. فهل يتبع السابي في الإسلام؟ فيه وجهان.
أحدهما: لا يتبعه؛ لأن يده يد ملك.
والثاني: يتبعه؛ لأنه لا يمكن اعتبار إسلامه بنفسه، ولا بأبويه، فلم يبق من يتبعه غير السابي.
فعلى هذا: إن كان السابي مسلمًا.. حكم بإسلام الصبي. وإن كان السابي يهوديًا أو نصرانيًا.. لم يحكم بإسلامه.
وأما إسلامه بالدار: فالدار على ثلاثة أضرب: دار إسلام يسكنها المسلمون، ودار إسلام يسكنها المشركون، ودار شرك يسكنها المشركون.
أما دار الإسلام التي يسكنها المسلمون: فكأرض الحجاز كلها، والعراق والكوفة واليمن. فإذا وجد فيها لقيط.. حكم بإسلامه، سواء كان أكثر ساكنيها مسلمين، أو

(8/12)


كفارًا؛ لأنه يحتمل أنه مسلم، ويحتمل أنه كافر، فغلب الإسلام تغليبًا للدار، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يعلو ولا يعلى» .
وأما دار الإسلام التي يسكنها الكفار: فهي على ضربين:
دار فتحها المسلمون فملكوها وأقروا الكفار فيها ببذل الجزية، فهذه دار إسلام؛ لأن حكم الإسلام جار فيها. فإن وجد فيها لقيط: فإن كان فيها من المسلمين ولو واحد.. فإنه يحكم بإسلام اللقيط الذي وجد فيها، سواء دخلها ذلك المسلم ساكنًا أو تاجرًا، تغليبًا لحكم الدار وحكم الإسلام. فإن قال ذلك المسلم: ليس بابني.. قبل قوله في نفي نسبه عنه، ولكن لا يحكم بسقوط إسلامه بذلك.
وإن لم يدخل إليها مسلم.. فإن اللقيط الموجود فيها كافر؛ لأنه لا يحتمل أن يكون ابن مسلم.
وإن كانت دار إسلام إلا أن المشركين غلبوا عليها المسلمين وأخرجوهم منها، كـ: طرسوس، وأرض القدس، والمصيصة وما أشبهها من الثغور، فإن كان فيها مسلمون بين الكفار، ووجد فيها لقيط.. حكم بإسلامه، لاجتماع حكم الدار والمسلم الذي فيها.
وإن لم يكن فيها أحد من المسلمين.. ففيه وجهان:
قال ابن الصباغ: لا يحكم بإسلام اللقيط الموجود فيها؛ لأنه لا يحتمل أن يكون ابن مسلم.
وقال أبو إسحاق: يحكم بإسلامه؛ لأنها دار إسلام، ويحتمل أن يكون بقي فيها مسلم أخفى نفسه وهذا ابنه.

(8/13)


وأما دار الشرك التي يسكنها المشركون: فمثل الروم والترك وغيرهما: فإن لم يكن فيها مسلم.. فاللقيط الموجود فيها كافر؛ لأن الدار دار كفر.
وإن كان معهم مسلم أسير أو غيره.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه مسلم تغليبًا للمسلم الذي فيها.
والثاني: أنه كافر؛ لأنه يحتمل أنه ابن مسلم، ويحتمل أنه ابن كافر.. فغلب الكفر؛ لأن الدار دار كفر، والكفار فيها أكثر، ولأن الظاهر من الأسير أنه لا يتمكن من الوطء بنكاح ولا بغيره.

[فرع الإشهاد على أخذ اللقيط]
وإذا أخذ الملتقط اللقيط.. فهل يجب عليه الإشهاد عليه؟
من أصحابنا من قال: فيه وجهان، كما قلنا في اللقطة.
ومنهم من قال: يجب عليه الإشهاد وجهًا واحدًا؛ لأن الإشهاد في اللقطة لحفظ المال، والإشهاد ها هنا لحفظ النسب، وللنسب مزية على المال في الإشهاد، ولهذا وجب الإشهاد في عقد النكاح دون البيع وغيره من العقود.

[مسألة الإنفاق على اللقيط]
وأما نفقة اللقيط، فلا يخلو: إما أن يكون له مال، أو لا مال له. فإن كان له مال.. كانت نفقته في ماله؛ لأنه الطفل إذا كان له أبوان موسران وله مال، كانت نفقته في ماله، فلأن تكون نفقة من لا يعرف أبواه في ماله أولى.
فإن كان في البلد حاكم.. لم يجز للملتقط أن ينفق على اللقيط من ماله بغير إذن الحاكم؛ لأن الملتقط لا ولاية له على مال اللقيط، وإنما له الولاية على حضانته، فإن خالف وأنفق عليه من ماله بغير إذن الحاكم.. لزمه الضمان؛ لأنه تعدى بذلك.
وإن جاء الملتقط إلى الحاكم وعرفه الحال.. نظرت: فإن أخذ الحاكم المال منه، ودفعه إلى أمين، وأمره أن يعطي الملتقط كل يوم قدر النفقة، أو ينفقه الأمين عليه،

(8/14)


أو قبض الحاكم المال من الملتقط، ودفع إليه كل يوم قدر نفقة اللقيط، وأمره بإنفاق ذلك عليه.. جاز.
وإن أقر الحاكم المال في يد الملتقط، وأمره أن ينفق منه قدر ما يحتاج إليه.. فقد قال الشافعي ها هنا وفي (الدعوى) : (يجوز) .
وقال في (اللقطة الكبير) من " الأم " (3/290) : (إذا وجد الرجل ضالة وأراد أن ينفق عليها من ماله على أن يرجع بذلك على صاحبها.. لم يجز، إلا أن يدفع ذلك إلى الحاكم حتى ينصب عدلًا، فيأمر الملتقط بدفع المال إليه، حتى يتولى الإنفاق) .
فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين:
أحدهما: لا يجوز أن يأذن له في الموضعين بالإنفاق، بل ينصب أمينًا يجعل المال في يده، ويعطيه قدر النفقة كل يوم؛ لأنه إذا أذن له في أن ينفق النفقة مما في يده.. صار قابضًا من نفسه ومقبضًا، وإنما يجوز ذلك في الأب والجد.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا التعليل إنما يصح في الضالة، وفي اللقيط إذا لم يكن له مال فأقرضه الملتقط.
والقول الثاني: أنه يجوز أن يأذن له في الإنفاق، وهو الصحيح؛ لأن الملتقط أمين. فإذا أذن له في الإنفاق.. صار وليًا، وللولي أن ينفق على المولى عليه من ماله بإذن الحاكم، كالولي على اليتيم من قبل الحاكم والوصي. ولأنه لا خلاف أنه إذا أخذ المال من يده، جاز أن يدفع إليه كل يوم قدر النفقة ويتولى إنفاق ذلك عليه، فجاز إقرار المال بيده لينق منه قدر حاجته.
ومن أصحابنا من حملها على ظاهرهما فقال في اللقيط: يجوز، وقال في الضالة: لا يجوز.
والفرق بينهما: أن اللقيط مولى عليه بكل حال؛ لأنه إذا لم يكن له أب ولا جد.. فالحاكم وليه. وإذا كان له أحدهما.. قام الحاكم مقامه عند غيبته، وقد أذن له. وأما الضالة: فيجوز أن تكون لبالغ رشيد لا ولاية للحاكم عليه.

(8/15)


إذا ثبت هذا: فإذا قلنا: إنه ينصب أمينًا يدفع المال إليه ليعطيه النفقة.. قدر له الحاكم ما يعطيه كل يوم.
وإن قلنا: يأمره بالإنفاق.. فإنه ينفق ما يحتاج إليه في العرف. فإذا بلغ اللقيط واختلفا في قدر النفقة، فإن كان ما يدعيه الملتقط النفقة بالمعروف.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أمين. وإن أدعى أكثر من النفقة بالمعروف.. لم يقبل قوله في الزيادة، ولزمه ضمان الزيادة. فإن لم يكن في البلد حاكم، فأنفق الملتقط من غير إشهاد ... ضمن. وإن أشهد، فهل يضمن؟ فيه قولان، وقيل: هما وجهان:
أحدهما: يضمن؛ لأنه أنفق بغير إذن الحاكم، فضمن كما لو كان في البلد حاكم.
والثاني: أنه لا يضمن؛ لأنه موضع ضرورة، والإنفاق لا بد منه، إذ لو ترك من غير إنفاق.. مات.
وإن لم يكن للقيط مال.. أنفق عليه من بيت المال، لما روي (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استشار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في نفقة اللقيط.. فقالوا: ينفق عليه من بيت المال) ، ولأنه لو كان بالغًا معسرًا، كانت نفقته في بيت المال، فاللقيط بذلك أحق. وإن لم يكن في بيت المال شيء، أو كان فيه شيء ولكن احتيج إليه لما هو أهم من ذلك.. فإنه يجب على المسلمين الإنفاق عليه، كما لو أضطر بالغ إلى الطعام، فإنه يجب على المسلمين بذل ما يحتاج إليه من الطعام، وهل يجب ذلك عليهم على وجه الإنفاق، أو على وجه القرض؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليهم ذلك على وجه الإنفاق بلا عوض؛ لأنه ضائع لا حيلة له، فوجب الإنفاق عليه بغير عوض، كالمجنون الذي لا يعقل ولا شيء له، فإنه يجب على المسلمين الإنفاق عليه، وكذلك يجب عليهم كفن ميت لا مال له.
والثاني: يجب عليهم ذلك، ويكون قرضًا لهم عليه، وهو المنصوص؛ لأنه نفقة لإحيائه، فلم يجب إلا بعوض، كالمضطر إلى الطعام. فإذا قلنا: يجب عليهم بغير عوض.. فإن ذلك يجب على من علم به. فإذا قام به بعضهم.. سقط الفرض عن

(8/16)


الباقين. وإن تركوا الإنفاق عليه.. أثموا، وللإمام أن يقاتلهم عليه كما يقاتلهم على ترك صلاة الجنازة.
وإن قلنا: يجب عليهم، ويكون قرضًا لهم.. قيل للملقط: أتقرضه أنت؟ فإن قال: نعم.. جاز أن يقترض منه.
فإن قبض الحاكم منه المال، ثم دفعه إليه، أو إلى أمين لينفقه عليه.. جاز، وإن أمره الحاكم أن ينفق عليه قرضًا عليه.. فهل يصح؟ فيه طريقان، كما قلنا فيه إذا أمره أن ينفق من مال اللقيط بيده.
وإن لم يجد مع الملتقط ما يقرضه.. اقترض له من غيره من المسلمين. فإن لم يقرضوه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أحصى الحاكم أهل البلد وأحصى نفسه معهم وقسط نفقته عليهم بالحصص) . ثم ينظر: فإن حصل في بيت المال شيء قبل بلوغ اللقيط، أو قبل يساره.. قضى عنه ذلك من بيت المال؛ لأنه لو كان في بيت المال شيء، كانت نفقته منه. فوجب قضاء ما اقترض عليه منه. وإن حصل للطفل مال.. وجب قضاء ذلك منه. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ. وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": إذا لم يكن للقيط مال.. ففي نفقته قولان:
أحدهما: يجب في بيت المال.
فعلى هذا: لا يرجع بما ينفق عليه على أحد.
والثاني: لا يجب في بيت المال؛ لأن مال بيت المال لا يصرف إلا فيما لا وجه له غيره، واللقيط يجوز أن يكون عبدًا، فتكون نفقته على سيده، أو حرا له مال، فنفقته في ماله، أو فقيرًا له من يلزمه نفقته.
فعلى هذا: يستقرض له الإمام نفقته من بيت المال، أو من رجل من المسلمين. فإن لم يكن يمكن ذلك.. جمع الإمام من له مكنة وعد نفسه فيهم، وقسط نفقته عليهم. فإن بان أنه عبد.. رجع على مولاه. وإن بان أن له أبًا موسرًا.. رجع عليه بما

(8/17)


اقترض عليه. وإن كان له كسب.. قضى منه. وإن لم يكن له شيء من ذلك.. قضى من سهم من يرى الإمام من المساكين أو الغارمين.

[مسألة ثبوت الولاية على اللقيط]
) : إذا التقط اللقيط حر مسلم ثقة موسر مقيم.. أقر في يده؛ لأنه لا بد له أن يكون في يد من يكفله، فكان الملتقط أحق.
وإن التقطه عبد.. لم يقر في يده؛ لأنه لا يقدر على حضانته مع خدمة سيده. فإن علم به السيد وأقره في يده.. جاز وكان السيد هو الملتقط، كما قلنا في العبد إذا التقط لقطة وعلم بها السيد وأقرها في يده.
وإن التقطه كافر، فإن كان اللقيط محكومًا بإسلامه.. لم نقره في يده؛ لأن القيام بأمر اللقيط ولاية، والكافر ليس من أهل الولاية على المسلم، ولأنه ربما فتنه عن دينه.
وإن كان اللقيط محكومًا بكفره.. أقر في يده؛ لأن الكافر يلي على من هو من أهل دينه.
وإن التقطه فاسق.. لم يقر في يده؛ لأن القيام بأمر اللقيط ولاية، والفاسق ليس من أهل الولاية، ولأنه لا يؤمن أن يسترقه.
وإن التقطه معسر. ففيه وجهان.
(أحدهما) : قال عامة أصحابنا: يقر في يده؛ لأن نفقته لا تجب على الملتقط، ولأن حضانة اللقيط ولاية، والمعسر من أهل الولاية.
والثاني: قال أبو إسحاق: لا يقر بيده؛ لأنه قد يريد التبرع بالإنفاق عليه، فلا يمكنه ذلك مع الإعسار.
وإن وجد اللقيط في مصر أو قرية: فإن وجده من يصلح للحضانة من أهل المصر والقرية، ويريد الإقامة فيه.. أقر في يده. وإن وجده من هو على الخروج منها إلى غيرها.. نظرت: فإن كان يريد الانتقال إلى بادية.. لم يقر في يده لثلاثة معان:

(8/18)


أحدها: أن تركه في الموضع الذي وجده فيه أرجى لظهور نسبه من الموضع الذي ينقله إليه.
والثاني: أن الحضر أوفق للقيط، وأحظ له؛ لأنه يوجد في الحضر ما يحتاج إليه لتربية الطفل، ولا يوجد ذلك في البادية.
والثالث: أن تركه في الحضر أظهر لحريته؛ لأنه إذا أقام به في المصر.. علم الناس به. وإذا خرج به إلى البادية. لا يؤمن أن يسترقه الملتقط، أو يموت فيسترقه وارثه.
وإن أراد الملتقط أن ينتقل به إلى مصر أو قرية مثل الموضع الذي وجده فيه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه ينقله إلى مثل الموضع الذي وجده فيه.
والثاني - وهو المذهب -: أنه لا يجوز، لما ذكرناه إذا أراد الانتقال به إلى البادية.
وإذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (ولو أراد الذي التقطه الظعن به، فإن كان يؤمن أن يسترقه. فذلك له، وإلا.. منعه) .
قال أصحابنا: أراد بهذا: أن الرجل إذا التقط لقيطا، وثبتت ولايته عليه بكونه أمينًا، ثم أراد بعد ذلك أن يظعن من ذلك البلد، وينتقل إلى بلد أخر، أو قرية أخرى، وينقل اللقيط معه. فإن كان يؤمن أن يسترقه، بأن يكون قد عرفت أمانته، وخبر في الظاهر والباطن.. فله أن ينقله مع؛ لأنه قد ثبت له حق الولاية والتربية، فكان أولى من غيره لثبوت يده عليه وولايته. وإن لم يؤمن أن يسترقه، مثل أن لم تختبر أمانته في الظاهر والباطن.. لم يقر في يده؛ لأنه لا يؤمن أن يسترقه.
فإن قيل: هذا مناقضة على قول الشافعي؛ لأن اللقيط لا يقر إلا في يد أمين، فكيف قال ها هنا: (إذا أراد أن يظعن به - إن كان يؤمن أن يسترقه - ترك، وإلا منع) ؟

(8/19)


فالجواب: أن الملتقط إذا لم يكن فاسقًا، وهو أمين في الظاهر دون الباطن، بأن يكون غريبًا دخل البلد، ولم تختبر أمانته في الباطن، فإن اللقيط يقر بيده؛ لأنه عدل في الظاهر، فهذا لا يمكن من الانتقال به وإن أقر بيده في البلد.
وأما الأمين الذي عرفت أمانته في الظاهر والباطن، بأن كان قد نشأ في البلد، وعرفت أمانته ظاهرًا وباطنًا.. فهذا يقر اللقيط بيده، ويمكن من الانتقال به بعد ثبوت ولايته عليه.
وأما إذا وجدا اللقيط في البادية، فإن كان الواجد له من مصر أو قرية بقرب تلك البادية، وأراد حمله معه إلى المصر أو القرية.. أقر بيده؛ لأن ذلك أحظ له من البادية.
وإن كان الواجد له بدويًا، فإن كان مقيمًا في الموضع الذي وجده فيه.. أقر بيده؛ لأن ذلك أرجى لظهور نسبه، وإن كان ينتقل في طلب الماء والكلأ.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقر بيده؛ لأنه هو الواجد له، وهو من أهل الولاية.
والثاني: لا يقر في يده؛ لأن على اللقيط مشقة في التنقل.

[مسألة تنازع واجدان حضانة لقيط]
) : إذا وجد اثنان لقيطًا، وتنازعا في حضانته وهما من أهل الحضانة: فإن كان ذلك قبل أن يأخذاه.. أخذه الحاكم، وأقره في يد من يرى منهما، أو من غيرهما؛ لأنه لا حق لهما قبل أن يأخذاه. وإن التقطاه وتشاحا في حضانته.. أقرع الحاكم بينهما، فمن خرجت له القرعة.. كان أحق به.
وقال أبو علي بن خيران: يقره الحاكم بيد من يرى منهما من غير قرعة. والمذهب الأول، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] [آل عمران: 44] ولأنه لا يمكن أن يجعل في أيديهما؛ لأنه لا يمكن اجتماعهما على حضانته. ولا يمكن أن يجعل بينهما فيكون عند أحدهما زمانًا، وعند الآخر مثله؛ لأن في ذلك إضرارًا باللقيط؛ لأن الأغذية تختلف عليه، ويستوحش بمفارقة من أنس إليه. ولا

(8/20)


يمكن أن يقدم أحدهما على الآخر؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. فإذا بطلت هذه الأقسام.. لم يبق إلا أن يقرع بينهما.
قال الشافعي في " الأم ": (ولا فرق بين أن يكونا رجلين أو امرأتين، أو رجلًا وامرأة؛ لأنهما من أهل الحضانة والتربية) .
فإن قيل: أليس لو افترق الزوجان، ولهما ولد له دون سبع سنين، فإن الأم أولى بحضانة الولد، فهلا قلتم: إن المرأة ها هنا أولى بالحضانة؟
قلنا: الفرق بينهما: أن الولد هناك خلق من ماء الزوجين، وللأم مزية بحمله ورضاعه، وشفقتها عليه أكثر، فلذلك قدمت على الأب. وها هنا إنما ثبت لهما الحق بالالتقاط، وهما متساويان فيه، فلم يقدم أحدهما على الآخر، ولأنا إذا جعلنا الحضانة للأم.. فإن حق الأب لا ينقطع منه؛ لأن التأديب والتعليم إليه، وذلك جمع بين الحقين، وليس كذلك ها هنا، فإنا إذا جعلنا الحضانة للمرأة.. انقطع حق الرجل عنه.

[فرع تنازل أحد الواجدين عن الحضانة للآخر]
) : فإن التقطه اثنان، وترك أحدهما حقه من الحضانة للآخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك، بل يرفع الأمر إلى الحاكم ليقره في يد الآخر؛ لأن الملتقط إنما يملك الحضانة ولا يملك نقل الولاية إلى غيره.
والثاني: يقر في يد الآخر من غير إذن الحاكم، وهو المذهب؛ لأن الحق لهما، فإذا ترك أحدهما حقه ثبت الجميع للآخر، كما لو ثبت لهما الشفعة فعفا أحدهما عن حقه.. وليس ذلك بنقل ولاية وإنما ترك حق.
وإن تنازعا حضانته وأحدهما من أهل الحضانة، والآخر ليس من أهل الحضانة.. أقر في يد من هو من أهل الحضانة؛ لأنه لا حق للآخر في حضانته.

(8/21)


[مسألة ادعى رجلان من أهل الحضانة لقيطا]
إذا تداعى رجلان من أهل الحضانة لقيطا.. فقال كل واحد منهما: أنا التقطه، فلي حق حضانته، فإن لم يكن لأحدهما عليه يد.. فإن الحاكم يأخذه ويقره في يد من يرى منهما، أو من غيرهما؛ لأنه لا يد لأحدهما عليه. وإن كان في يد أحدهما ... كان صاحب اليد أحق به؛ لأن له يدًا تدل على الالتقاط. فإن قال الآخر: أنا التقطته أولًا، وإنما غصبه الآخر مني.. فالقول قول صاحب اليد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الغصب. وإن كان في يديهما:
قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
وقال الشيخ أبو إسحاق: يتحالفان. فإن حلفا أو نكلا.. أقرع بينهما. وهذا أولى؛ لأن كل واحد منهما يدعي أنه هو الملتقط أولًا، وأن الآخر أدخل يده معه، فتحالفا كالمختلفين في الملك. فإن حلف أحدهما، ونكل الآخر.. قضي به للحالف.
وإن كان لأحدهما بينة دون الآخر.. قضى لصاحب البينة؛ لأن البينة أقوى من الدعوى.
وإن كان مع كل واحد منهما بينة: فإن كانت البينتان مؤرختين تأريخًا واحدًا، أو مطلقتين، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة.. تعارضتا، وفيهما قولان:
أحدهما: تسقطان. فيكون الحكم كما لو لم يكن مع أحدهما بينة.
والثاني: يستعملان. وفي الاستعمال ثلاثة أقوال:
أحدها: يقسم بينهما.
والثاني: يوقف الأمر حتى ينكشف.

(8/22)


والثالث: يقرع بينهما
ولا تجيء ها هنا القسمة ولا الوقف؛ لأن ذلك يضر باللقيط. ولكن يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. قدم. وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه وجهان يأتي بيانهما إن شاء الله تعالى.
وإن كانتا مؤرختين، وتاريخ إحداهما أسبق من الأخرى. قدمت السابقة بالتأريخ؛ لأنه ثبت أنه سابق. ويفارق إذا ادعيا ملك عين، وأقام كل واحد منهما بينة، وتاريخ إحداهما أسبق، فإنهما سواء في أحد القولين؛ لأن الملك قد ينتقل عن الأسبق إلى الأحدث. والملتقط إذا ثبتت يده على اللقيط.. لم ينتزعه من يده إلا الحاكم - إذا تغير حاله - ويقره في يد آخر، وذلك ليس بالتقاط.
إذا ثبت هذا: فإن البينة التي تقبل في الالتقاط عند التداعي إنما هي شاهدان.
فأما الشاهد والمرأتان، أو الشاهد واليمين، أو النساء منفردات.. فإنها لا تقبل؛ لأن ذلك ليس بمال، ولا المقصود منه المال. وهو مما يطلع عليه الرجال، فلم يقبل فيه إلا الشاهدان، كالوصية إليه.

[مسألة ادعى الملتقط ابنًا فيلحقه]
) : وإذا التقط رجل لقيطًا، ثم قال الملتقط: هو ابني.. فإنه يلحقه نسبه، ويكون ابنًا له.
وحكي عن مالك: أنه قال: (إن كان قد تعسر عليه الولد.. لم يثبت نسبه منه. وإن لم يتعسر عليه الولد.. ثبت نسبه منه) .
دليلنا: أنه أقر بنسب مجهول النسب، ويمكن أن يكون منه، وليس في

(8/23)


إقراره إضرار بغيره، فقبل، كما لو أقر له بمال، أو كما لو لم يتعسر عليه الولد.
فقولنا: (أقر بنسب مجهول النسب) احتراز ممن أقر بنسب معلوم النسب من غيره.
وقولنا: (ويمكن أن يكون منه) احتراز ممن أقر ببنوة من هو أكبر منه سنًا، فإنه لا يقبل؛ لأنه يقطع بكذبه.
وقولنا: (وليس في إقراره إضرار بغيره) احتراز ممن أقر ببنوة عبد لغيره، فإنه لا يقبل؛ لأنه يضر بالمولى؛ لأنه قد يعتقه فيكون ميراثه للأب دون المولى.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (المستحب للحاكم أن يسأل الملتقط من أين صار ابنه، لئلا يكون ممن يعتقد أنه يكون ابنًا له بالالتقاط والتربية. وإن لم يسأله.. جاز) .
وإن أدعى غير الملتقط بنوة اللقيط.. لحقه نسبه، وصار ابنًا له، للمعنى الذي ذكرناه في الملتقط. ويدفع إلى الأب؛ لأنه أحق بحضانته من غيره.

[فرع ادعاء المسلم وغيره نسب لقيط]
) : قال الشافعي: (ودعوة المسلم والعبد والذمي سواء. غير أن الذمي إذا ادعاه، ووجده في دار الإسلام، فألحقته به.. أحببت أن أجعله مسلمًا) .
وجملة ذلك: أن الدعوة - بكسر الدال-: ادعاء النسب، وبضمها: الطعام الذي يدعى إليه الناس، وبفتحها: مصدر دعا يدعو دعوة.
إذا ثبت هذا: فإن الحر المسلم إذا أدعى نسب لقيط.. فإنه يقبل، ويثبت نسبه منه، لما ذكرناه، ويلحقه في الإسلام؛ لأنه صار ابنًا له.
وأما العبد إذا أدعى بنوة لقيط.. فقد نص الشافعي ها هنا: (أنه يقبل) . قال المسعودي (في " الإبانة " ق\366) : ونص في موضع آخر: (أنه لا يقبل) .
واختلف أصحابنا فيه:

(8/24)


فمنهم من قال: تقبل دعوته، ويثبت النسب منه؛ لأن العبد كالحر في جهات استحقاق النسب من الوطء بالنكاح وبالشبهة.. فكان كالحر في دعوة النسب.
ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: تقبل دعوته، ويثبت النسب منه، لما ذكرناه.
والثاني: لا تقبل دعوته؛ لأن في ذلك إبطال حق السيد من الولاء عليه؛ لأنه قد يعتقه ويموت، فيكون ميراثه لابنه.
ومنهم من قال: لا تقبل دعوته قولًا واحدًا، لما ذكرناه.
والطريق الأول هو نقل البغداديين من أصحابنا، وهو المشهور.
فعلى هذا: لا يسلم اللقيط إلى أبيه؛ لأنه مشغول بخدمة سيدة، ولا تجب عليه نفقته؛ لأنه مملوك، ولا تجب على سيده لأن الولد حر، فلم تجب على مولى العبد نفقته.
وإن أدعى كافر بنوة اللقيط، قبلت دعوته، وثبت نسبه منه؛ لأنه كالمسلم في الجهات التي يثبت منها النسب، من الوطء بالنكاح في الملك والشبهة.. فكان كالمسلم في لحوق النسب به، وهل يلحق به في الدين؟
قال الشافعي ها هنا: (أحببت أن أجعله مسلمًا) فظاهر هذا: أنه يكون كافرًا. وقال في (الدعوى والبينات) : (أجعله مسلمًا) . فظاهر هذا: أنه لا يكون كافرًا.
واختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو إسحاق: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث جعله كافرًا.. أراد: إذا أدعى نسبه وأقام على ذلك بينة؛ لأنه إذا ثبت بالبينة أنه ولد على فراش كافر.. كان مولودًا بين كافرين، فكان كافرًا.
والموضع الذي جعله مسلمًا.. أراد: إذا أدعى بنوته ولم يقم بينة. فإنه يلحقه نسبه، ولا يكون كافرًا؛ لأنا حكمنا بإسلامه بظاهر الدار.. فلا نحكم بكفره بقول كافر.

(8/25)


ومن أصحابنا من قال: إذا ادعاه وأقام البينة. حكم بكفره قولًا واحدًا، كما قال أبو إسحاق. وإن لم يقم البينة.. ففيه قولان:
أحدهما: يحكم بكفره؛ لأن كل ما ألحقه بنسبه، ألحقه بدينه، كالبينة.
والثاني: لا يحكم بكفره؛ لأن إقراره تضمن ما ينفع اللقيط وهو: وجوب نفقته وحضانته عليه، وما يضره وهو: كونه كافرًا، فقبل قوله فيما ينفع اللقيط دون ما يضره. ولأنه يجوز أن يكون ولده وهو مسلم بإسلام أمه، وإذا احتمل هذا. لم يحكم بكفر من حكم بإسلامه بظاهر الدار بقول كافر.
والصحيح: طريقة أبي إسحاق، وقد نص الشافعي عليها في " الإملاء ". فكل موضع حكمنا بكفره، فإن الشافعي قال: (أحببت أن أجعله مسلمًا) . قال أصحابنا: أراد: أن المستحب أن لا يدفع إليه، لئلا يفتنه عن الإسلام إن أراده، بل يترك في يد الملتقط، ويؤخذ الكافر بنفقته وأجرة حضانته إلى أن يبلغ. وإن وصف الإسلام.. حكمنا بإسلامه من الآن. وإن وصف الكفر.. فهو كافر لم يزل، ودفعناه إلى أبيه.
وكل موضع حكمنا بإسلامه.. فلا يجوز دفعه إلى أبيه، بل يقر في يد الملتقط ويطالب أبوه بنفقته وأجرة حضانته إلى أن يبلغ. فإن وصف الإسلام.. حكمنا بأنه مسلم لم يزل. وإن وصف الكفر.. فهل يقر عليه؟ يأتي بيانه.

[مسألة دعوة المرأة]
قال الشافعي: (ولا دعوة للمرأة إلا ببينة) .
وجملة ذلك: أن المرأة إذا ادعت بنوة اللقيط.. هل تقبل دعوتها من غير بينة؟ أختلف أصحابنا فيها على ثلاثة أقوال:
فـ (الأول) : منهم من قال: لا تقبل دعوتها. وهو المذهب؛ لأن الأم يمكنها

(8/26)


إقامة البينة على أن الولد منها قطعًا، فلم يقبل قولها بمجرد الدعوى، والأب لا يمكنه إقامة البينة على أن الولد منه قطعًا، فلذلك قبلنا قوله، كما نقول فيمن علق طلاق امرأته على ولادتها، أو على دخول الدار، فإنه لا يقبل قولها على الولادة والدخول إلا ببينة. ولو علق طلاقها على حيضها.. قبل قولها فيه من غير بينة.
والثاني: منهم من قال: تقبل دعوتها بكل حال؛ لأنها أحد الأبوين.. فقبل قولها في إلحاق النسب بها، كالأب. ولأن المرأة كالرجل في الجهات التي يلحق منها النسب، وتزيد عليه في أنها يلحقها ولدها الذي زنت به. فإذا لحق الرجل النسب بالإقرار.. فالمرأة بذلك أولى.
فعلى هذا: إن كانت فراشًا لزوج أو سيد.. لم يلحق الولد بالزوج ولا بالسيد؛ لأنا إنما ألحقناه بها لإقرارها. ولم يوجد من الرجل إقرار. وإن كانت مملوكة.. لم يحكم برقه؛ لأنا نقبل قولها فيما يضره.
والثالث: منهم من قال: إن كانت فراشًا لزوج أو سيد.. لم يلحقها النسب؛ لأن ذلك يتضمن إلحاق النسب بغيرها من غير رضاه. وإن كانت خالية من الفراش.. لحقها النسب؛ لأنه لا يتضمن إلحاق النسب بغيرها.

[مسألة ادعيا بنوة لقيط]
إذا ادعى رجلان بنوة لقيط.. لم يلحق بهما. وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (يلحق بهما) .
وقال المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة: يجوز أن يلحق الولد بمائة أب.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] (الحجرات: 13) .
إذا ثبت هذا: نظرت في المتداعيين: فإن جاءا معًا وادعيا نسبه، ولا بينة مع أحدهما.. فإنه يعرض على القافة. فإن ألحقته بأحدهما.. لحق به. وبه قال علي

(8/27)


وأنس، وإحدى الروايتين عن عمر. وبه قال عطاء والأوزاعي ومالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا أريه القافة، وألحقه بهما) .
دليلنا: ما روى الشافعي عن سفيان عن الزهري عن عروة «عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعرف السرور في وجهه، فقال: " أي عائشة: ألم تري إلى مجزز المدلجي: نظر إلى أسامة وزيد عليهما قطيفة، وقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» . ولو لم يكن ذلك حقًا وصوابًا.. لما سر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: دعا قائفًا في رجلين تداعيًا ولدًا، فقال: لقد اشتركا فيه، فقال: وال أيهما شئت) .

(8/28)


وإن سبق أحدهم بالدعوى، أو ادعياه معًا، وكان في يد أحدهما.. فهل يقدم السابق بالدعوى أو صاحب اليد؟ فيه وجهان، حكاهما ابن اللبان:
أحدهما: يقدم السابق بالدعوى، وصاحب اليد لا مزية له بذلك.
فعلى هذا: لو كان في يد أحدهما، فسبق أحدهما بدعواه، ثم ادعاه صاحب اليد.. قدم السابق بالدعوى؛ لأنه حكم بثبوت نسبه من الأول.
والوجه الثاني: أنه لا يقدم السابق بالدعوى ولا صاحب اليد. بل يعرض على القافة، وهو المنصوص؛ لأن ولد الإنسان قد يكون في يد غيره. ولأن اليد إنما تدل على الملك لا على النسب. وأما السبق بالدعوى: فإنه إذا لم يقدم به في الملك.. ففي النسب أولى. فإن علم أن أحدهما قد سبق بالدعوى وأشكل عليه، وقلنا: يقدم السابق بالدعوى.. ففيه وجهان خرجهما ابن اللبان:
أحدهما: يكون كما لو ادعياه معًا. فيعرض على القافة؛ لأنه لم يثبت السابق.
والثاني: لا يعرض على القافة، بل يوقف أبدًا؛ لأنه يرجى معرفة السابق بقيام البينة.

[فرع ادعيا نسبًا له فترجحه القافة]
) : إذا ادعى رجل نسب لقيط.. لحق به. فلو جاء آخر بعده وادعى نسبه ولا بينة. وقلنا: لا يقدم السابق بالدعوى.. فإنه يعرض على القافة، وفي كيفية عرضه على القافة وجهان:

(8/29)


أحدهما- وهو المشهور -: أنه يعرض مع الثاني وحده، فإن لم تلحقه بالثاني، أو نفته عنه.. لحق بالأول بدعوته الأولى. وإن ألحقته بالثاني.. عرض أيضًا مع الأول، فإن لم تلحقه بالأول، أو نفته عنه.. لحق بالثاني وانتزع من يد الأول. وإن ألحقته بالأول.. لم يثبت نسبه من أحدهما، وترك حتى يبلغ، وينتسب إلى أحدهما.
وحكى ابن سريج عن بعض أصحابنا: أنه يلحق بهما. وليس بشيء.
والوجه الثاني: أن الولد يعرض مع الأول والثاني معًا؛ لأن كل واحد منهما يجوز أن يكون أبًا، والأول أصح؛ لأنه قد ثبت نسبه من الأول بدعوته السابقة.
وأما إذا جاءا معًا وادعيا نسبه: فإنه يعرض معهما على القافة؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فإن أحقته بأحدهما.. لحق به، وانتفى عن الآخر. وإن ألحقته بهما.. لم يلحق بهما، وترك حتى يبلغ وينتسب إلى أحدهما.
وقال بعض أصحابنا: يلحق بهما، وهو قول أحمد، وليس بشيء؛ لما ذكرناه من حديث عمر؛ لأنه لا يجوز أن يكون ابنهما. وهكذا إن نفته القافة عنهما، أو لم يكن هناك قافة، أو كانت وأشكل عليها الأمر.. فإنه يترك حتى يبلغ، أو يقال له: انتسب إلى من يميل إليه طبعك، لحديث عمر، ولأن الولد يميل طبعه إلى من هو منه.
فإن انتسب إلى أحدهما، ثم قال بعد ذلك: أخطأت، وإنما أنا ابن الآخر.. لم يقبل قوله. وهكذا لو ألحقته القافة بأحدهما، ثم قالت: أخطأت، وإنما هو ابن الآخر.. لم يقبل قولها؛ لأنه قد ثبت نسبه من الأول بقولها، فلا يسقط بقولها، كما لو ادعى رجلان عينًا، فشهد لأحدهما بها شاهدان، وحكم بشهادتهما، ثم قالا: أخطأنا، وإنما هي ملك الآخر.. فإنه لا يحكم بها للثاني.
وهل يصح أن ينتسب إلى أحدهما إذا صار مميزا قبل أن يبلغ؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح، كما يصح أن يختار الولد الكون مع أحد الأبوين إذا صار مميزًا، وإن لم يبلغ.

(8/30)


والثاني: لا يصح؛ لأن قوله يثبت به النسب وتلزم به الأحكام، فلم يصح من الصبي بخلاف الكون مع أحد الأبوين.. فإنه غير لازم. وأما إذا كان هناك بينة، فإن كانت مع أحدهما دون الآخر.. حكم لصاحب البينة؛ لأن البينة أقوى من الدعوى، كما قلنا في الملك. وإن كان مع كل واحد منهما بينة.. تعارضتا. وفي البينتين إذا تعارضتا قولان:
أحدهما: أنهما تسقطان. وهو الصحيح.
فعلى هذا: يكون كما لو لم يكن هناك بينة، فيعرض على القافة.
والثاني: أنهما تستعملان، وفي الاستعمال ثلاثة أقوال:
أحدها: القسمة. والثاني: الوقف. والثالث: القرعة. ولا تجيء ها هنا القسمة ولا الوقف؛ لأن القسمة لا تمكن، والوقف يضر باللقيط. وهل تجيء ها هنا القرعة؟ فيه وجهان:
(الوجه الأول) : قال الشيخ أبو حامد: يقرع بينهما. فمن خرجت له القرعة.. حكم له بالنسب، وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه قولان يأتي بيانهما.
و (الثاني) : قال القاضي أبو الطيب: لا يقرع بينهما؛ لأن القرعة لا مدخل لها في النسب، وإنما يعرض على القافة. قال ابن الصباغ: وهذا أقيس.
فإن ادعى الملتقط نسب اللقيط.. ثبت نسبه منه. فإن جاء آخر وادعى أنه ابنه، فإن أقام الثاني بينة، ولا بينة مع الملتقط.. لحق النسب بالثاني؛ لأن البينة أقوى من الدعوى واليد. وإن أقام الأول بينة أيضًا.. تعارضت البينتان، وكان الحكم فيه ما مضى في تعارض البينتين.
فإن قيل: هلا قدمتم بينة الملتقط كما قدمتم بينة صاحب اليد في الملك؟
قلنا: لا نقول ذلك؛ لأن اليد لا تدل على الأنساب، وإنما تدل على الأملاك، ولأن الملك قد يحصل باليد- وهو: الاصطياد والاغتنام- والنسب لا يحصل باليد بحال.

(8/31)


[فرع ذكر علامة من أحدهما لا تقدمه]
) : وإن ادعى رجلان نسب لقيط، وذكر أحدهما في اللقيط علامة، من خال في بدنه، أو شامة، وما أشبه ذلك، ولم يذكر الآخر ذلك.. لم يقدم الواصف له بذلك.
وقال أبو حنيفة: (يقدم الواصف له بذلك) .
دليلنا: أن معرفة العلامة هو وصف للمدعى، والمدعي لا يقدم بوصف ما ادعاه، كما لو ادعيا ملك عين ووصفها أحدهما.
وإن ادعى حر وعبد نسب لقيط، أو مسلم وكافر.. لم يقدم أحدهما على الآخر.
وقال أبو حنيفة: (يقدم الحر على العبد، والمسلم على الكافر) .
ودليلنا: أن كل واحد منهما لو انفرد بالدعوى.. قبلت دعواه، فإذا اجتمعا.. تساويا، كالحرين المسلمين.

[فرع ادعتا ولادة لقيط]
) : وإن ادعت امرأتان ولادة لقيط، ولا بينة لواحدة منهما:
فإن قلنا: لا تقبل دعوى المرأة في النسب بكل حال.. لم تقبل دعوى واحدة منهما.
فإن قلنا: تقبل دعوتها إذا لم تكن فراشًا، ولا تقبل إذا كانت فراشًا، فإن كانتا

(8/32)


فراشين لرجلين.. لم تقبل دعوتهما. وإن كانت إحداهما فراشًا دون الأخرى.. قدمت دعوة من ليست بفراش.
وإن كانتا ليستا بفراش، أو قلنا: تقبل دعوة المرأة بكل حال.. فهل تعرضان على القافة مع الولد؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يعرضان؛ لأن الأم يمكن معرفتها يقينًا من طريق المشاهدة، فلم يرجع فيه إلى القافة.
والثاني: أنهما تعرضان مع الولد على القافة، ولم يذكر ابن الصباغ غيره؛ لأنهما أحد الأبوين، فعرضتا مع الولد على القافة، كالرجلين.
وإن أقامت إحداهما بينة بالولادة: رجلين، أو رجلًا وامرأتين، أو أربع نسوة.. حكم بثبوت النسب منها؛ لأن البينة أقوى من الدعوى. فإن كانت فراشًا لزوج أو سيد.. لحق به الولد؛ لأن البينة قد شهدت بولادتها له، فلحق صاحب الفراش، ويخالف إذا ألحقناه بها بإقرارها؛ لأنا لا نلحقه بغير المقر.
وإن أقامت كل واحدة منهما بينة بالولادة، فإن قلنا: إنهما تسقطان.. كان كما لو لم تكن بينة، وقد مضى. وإن قلنا: تستعملان.. فلا يجيء الوقف ولا القسمة.
قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: ولا تجيء ها هنا القرعة؛ لأن معنا ما هو أقوى من القرعة، وهو القافة، فنعرضه عليها، فإن ألحقته بإحداهما.. قوينا بينتها بذلك، وألحقناه بها وبزوجها، ولا ينتفي عنه إلا باللعان. وإن ألحقته القافة بها، أو نفته

(8/33)


عنهما، أو أشكل عليها الأمر، أو لم يكن قافة.. ترك الولد حتى يبلغ وينتسب إلى إحداهما، وتكون نفقته عليهما.
فإذا انتسب إلى إحداهما. رجحنا به بينتها، ولحقها ولحق زوجها، وانتفى عنه باللعان.
فإن ماتت إحدى المرأتين، أو مات زوجها قبل بلوغ اللقيط.. عزل من ميراث الميت ميراث ابن. فإن بلغ وانتسب إلى الميتة.. أخذ ما عزل له من ميراثها، أو من ميراث زوجها.
وإن انتسب إلى الحية.. رد المعزول على ورثة الميتة.

[فرع ادعاء رجل وامرأة لقيطًا]
) : ذكر الطبري: إذا اجتمع رجل وامرأة، وللرجل زوجة غير هذه المرأة، وللمرأة زوج غير هذا الرجل. فادعى كل واحد منهما بنوة اللقيط، وأقام كل واحد منهما بينة.. قال أبو العباس بن سريج: ففيه أربعة أقوال.
أحدها: أن بينة الرجل أولى؛ لأنا لو ألحقناه بالمرأة.. لالتحق بزوجها من غير أن يدعيه.
والثاني: أن بينة المرأة أولى؛ لأن خروج الولد منها يعرف بالمشاهدة والقطع، وخروج الولد من الزوج لا يعلم إلا بغلبة الظن.
والثالث: أنهما يتعارضان؛ لأنه ليس إحداهما بأولى من الأخرى.
والرابع: أنه يعرض معهما على القافة.

[مسألة اشتركا بوطء وجاء ولد]
إذا اشترك رجلان في وطء امرأة، وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، وادعى أحدهما أنه ابنه وصادقه الآخر.. ففيه قولان حكاهما الطبري:

(8/34)


أحدهما: أنه يحكم بأنه ابن للمدعي، كما لو كان في يدهما عين فادعى أحدهما ملكها، وصادقه الآخر.
والثاني: أنه لا ينتفي عن الآخر بالمصادقة؛ لأنه قد وجد منه الوطء، ويجوز أن يكون ابنه.. فلا ينتفي عنه بالإنكار، كما لو وطئ امرأة وانفرد بوطئها، فأتت بولد يمكن أن يكون منه، وتصادق الرجل والمرأة أنه ليس بابنه. فعلى هذا: يعرض معهما على القافة.

[مسألة اعتبار قول قائف]
وهل يصح أن يحكم بقول قائف واحد؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما سر بقول مجزز المدلجي وحده. ولأنه مجتهد.. فقبل فيه قول الواحد، كالقاضي.
والثاني: لا يصح إلا بقول اثنين؛ لأنه حكم بالشبه في الخلقة.. فلم يقبل إلا من اثنين، كالحكم في المثل في جزاء الصيد.
وهل يصح أن يكون القائف امرأة؟ فيه قولان حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما: لا يصح؛ لأن القائف يجري مجرى الحاكم، والمرأة لا يصح أن تكون حاكما.
والثاني: يصح؛ لأن قول القائف يجري مجرى الشهادة، وقول المرأة يقبل في النسب وهو الشهادة.
قال ابن الصباغ: وهذا ضعيف؛ لأن شهادتها لا تقبل في النسب، وإنما تقبل في الولادة.

(8/35)


قال المسعودي [في " الإبانة " ق\368] : وهل يصح أن يكون القائف عبدا؟ فيه قولان بناء على أن القيافة حكم أو شهادة، فإن قلنا: حكم.. لم يصح. وإن قلنا: شهادة.. صح. قلت: هذا ضعيف؛ لأن العبد لا يصح أن يكون شاهدًا بحال.
وهل يصح أن يكون القائف من غير بني مدلج؟ فيه قولان.
أحدهما: لا يصح، لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما سر بقول مجزز المدلجي» . ولأن القيافة في طباع بني مدلج من كنانة، فلم يصح من غيرهم.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأنه علم يتعلم ويتعاطى فلم تختص به قبيلة بعينها، كالعلم بالأحكام.
وأما الخبر: فلا يدل على أنه يختص ببني مدلج، ولو كان كذلك، لاختصت القيافة بمجزز المدلجي وحده: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما سر بقوله.

[فرع عدالة القائف]
ولا يحكم بقول القائف حتى يكون عدلا؛ لأن الحكم والشهادة لا تصح إلا من عدل. ولا يصح الحكم بقوله حتى يكون حاذقًا في القيافة، مجربًا، كما لا يقبل الحكم إلا ممن عرف حذقه في الحكم.
قال البغداديون من أصحابنا: ومعرفة حذقه في ذلك: بأن يرى صبيًا ثابت النسب من رجل بعينه، لا يعرف القائف أباه، مع جماعة ليس فيهم أبوه، فيقال: أيهم أبوه منهم؟ فإن قال: ليس فيهم أبوه.. أري الصبي مع جماعة رجال فيهم أبوه، فيقال: أيهم أبوه منهم؟ فإذا أخبرنا بأبيه منهم.. علم صدقه.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\368] : معرفة حذقه: بأن يؤتى بالولد ونسوة

(8/36)


فيهن أمه فيقال: أيتهن أمه منهن؟ فإن أصابها.. علم صدقه؛ لأن كون الولد منها معلوم قطعا، بخلاف الأب.
قال المحاملي: وأصحابنا أطلقوا ذلك، ولم يذكروا تكرر ذلك منه.
والأشبه بالمذهب: أنه يحتاج إلى أن يتكرر ذلك منه ثلاث مرات؛ لأنه قد يتفق منه ذلك مرة أو مرتين. فإذا تكرر منه ثلاث مرات.. علم أنه من أهل الصنعة بذلك.

[فرع كيف يلحق القائف]
؟) : والأشباه التي يلحق بها القائف نوعان: ظاهرة وخفية:
فـ (الظاهرة) : كالسواد والبياض وما أشبههما مما يشترك في معرفتها الخاص والعام.
و (الخفية) : هي الشبه بالأطراف، كالأيدي والأرجل. فهذا يختص بمعرفته القافة.
فإن تنازع رجلان في نسب صبي، وكان يشبه أحدهما بالأشباه الظاهرة، ويشبه الآخر بالأشباه الخفية.. ففيه قولان:
أحدهما: يلحق بمن يشبهه بالأشباه الظاهرة؛ لأن الأشباه الظاهرة كالنص، والأشباه الخفية كالقياس، والنص مقدم على القياس.
والثاني: يلحق بمن يشبهه بالأشباه الخفية؛ لأن الأشباه الظاهرة كالعموم والخفية كالخاص، والخاص مقدم على العموم. ولأن الظاهرة معرفة العامة، والخفية معرفة الخاصة، والخاصة مقدمة على العامة.

(8/37)


[فرع اختلف قول القافة]
فإن ألحقته القافة بأحدهما، ثم جاء الآخر بقافة أخرى وألحقته بالثاني.. لم يلحق بالثاني؛ لأن القائف كالحاكم، ولو حكم حاكم بعين لرجل.. لم يحكم بها لآخر بحكم حاكم آخر.
وهكذا: لو قال القائف - بعد أن ألحقه بأحدهما -: أخطأت، وإنما هو ابن الآخر.. لم يقبل قوله، كما لو حكم الحاكم بعين لرجل، ثم تغير اجتهاده.. فإنه لا ينقض.

[فرع عرض الميت على القافة]
وإن مات الولد قبل أن يعرض على القافة.. فهل يعرض قبل الدفن؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يعرض؛ لأن التمييز قد يقع بالأشباه الغامضة، وذلك ينقطع بالموت، وإنما تبقى الأشباه الظاهرة.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق، وهو المشهور -: أنه يعرض؛ لأن إلحاقه بالشبه، وذلك ممكن بعد الموت.
فإن قلنا: لا يجوز أن يعرض الميت، أو كان قد دفن وتغير، وله ولد.. فإنه يعرض على القافة، ويقوم مقامه في الانتساب.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\366] : وإن ألقت سقطًا، فإن كان قد تخطط.. فإنه يرى القافة، وإن لم يتخطط لم يرى القافة
وإن مات الأبوان أو أحدهما، وقلنا: لا يجوز عرض الميت، أو كانا قد دفنا.. قال ابن اللبان: فإن عصبة الميت وقرابته تعرض على القافة، مثل أبي الميت وإخوته وأخواته وأعمامه وعماته وسائر أولاد آباء الميت الذكور والإناث، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعل عرقا نزعه» .

(8/38)


[فرع ادعاء غائب نسب مجهول]
إذا قدم رجل من أرض الأعاجم كالترك والهند، فادعى نسب رجل مجهول النسب، وصادقه المجهول - إن كان بالغا عاقلًا -، فإن كان لم يثبت على المجهول ولاء لغيره.. قبلت دعواه، وثبت نسبه منه؛ لأنه لا ضرر على أحد في ذلك: وإن كان قد ثبت عليه ولاء، بأن كان قد سباه رجل وأعتقه، أو كان قد اشترى رجل عبدًا مجهول النسب فأعتقه، وأقر آخر بنسبه.. نظرت في المقر:
فإن ادعى أنه أخوه أو عمه أو ابن عمه أو ما أشبه ذلك.. لم تقبل دعواه؛ لأنه يسقط بذلك ولاء معتقه منه وإرثه.
وإن ادعى أنه ابنه.. ففيه قولان:
أحدهما: لا تقبل دعوة المقر؛ لأنه يسقط بذلك ولاء مولاه.
والثاني: تقبل دعوته، ويثبت نسبه منه، ويقدم على المولى.
والفصل بين الولد وغيره من القرابات: أنه غير مضطر إلى الإقرار بالأخ والعم وغيرهما من القرابات؛ لأنه إذا لم يقر به.. أقر به غيره. أما أبوه أو أخوه: فلم يقبل إقراره فيه، وهو مضطر إلى الإقرار بالولد؛ لأنه لا يثبت نسبه إلا من جهته.

(8/39)


[مسألة ادعاء رجل أن الملتقط عبده]
] : إذا ادعى رجل أن اللقيط عبده.. سمعت دعواه سواء ادعاء الملتقط أو غيره؛ لأن ما يدعيه ممكن، وذلك أنه يحتمل أنه ولد أمته من زواج أو زنا، فإن قيل: إن الملتقط قد اعترف بأنه التقطه، فكيف سمعت دعواه أنه عبده؟ قيل بالجواب: إن اعترافه أنه التقطه لا يمنع من قبول دعواه بعد ذلك أنه عبده؛ لأن أمته قد تلده من زواج أو زنا، فترمي به، ولا يعلم به، فيلتقطه، ثم يعلم بعد ذلك أنه ابن أمته.
إذا ثبت أن دعواه تسمع.. فإنه لا يحكم له برقه إلا بعد أن يقيم البينة؛ لأن الظاهر حريته. فإذا أقام المدعي البينة: فلا يخلو: إما أن يقيم البينة على الولادة، أو على الملك، أو على اليد.
فإن أقام البينة على الولادة.. قبل فيه شاهدان، أو شاهد وامرأتان، أو أربع نسوة، فإن قالت البينة: نشهد أن أمة هذا ولدته في ملكه. حكم له برقه؛ لأن ما تلده أمته في ملكه.. يكون مملوكًا له ولا يلحقه نسبه؛ لأنها ليست بفراش له، وإن قالت البينة: نشهد أن هذا ولد أمته.. فقد قال الشافعي في (اللقيط) : (يحكم له بملكه في هذه الشهادة) وقال في (الدعوى والبينات) : (إذا شهدوا بأن أمته ولدته في ملكه.. حكمت له برقه) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يحكم له برقه قولًا واحدًا، وإن لم يقولوا ولدته في ملكه؛ لأنهم قد شهدوا أن أمته ولدته. والظاهر أنها ولدته في ملكه، وما ذكره في (الدعوى والبينات) إنما ذكره تأكيدًا لا شرطًا.
ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يحكم له برقه، لما ذكرناه.
والثاني: لا يحكم له برقه؛ لأنها قد تلده قبل أن يملكها، فيكون ابن أمته ولا يكون مملوكًا له.

(8/40)


وأما إذا شهد له بالملك شاهدان، فإن قالا: نشهد أن هذا ملكه أو عبده اشتراه أو اتهبه من مالكه أو ورثه.. حكم له بالملك. وإن قالا: ملكه أو عبده، ولم يذكرا سبب الملك.. ففيه قولان:
أحدهما: يحكم له بملكه؛ لأنهما قد شهدا له بالملك، فهو كما لو ادعى على رجل عينًا في يده، فشهدت له البينة بملكها.
والثاني: لا يحكم له بملكه؛ لأنهم قد يرونه بيده فيشهدون له بملكه، لثبوت يده عليه. ولا فرق في هذين القسمين بين الملتقط وغيره.
وأما إذا شهدت البينة للمدعي باليد.. نظرت: فإن شهدت بذلك للملتقط.. لم يحكم له بملكه قولا واحدًا؛ لأن يده يد التقاط لا يد ملك.
وإن ادعى ملكه غير المتلقط، فشهدت له البينة باليد.. فحكى الشيخ أبو إسحاق فيه قولين:
أحدهما: لا يحكم له بالملك؛ لأن ثبوت اليد على اللقيط لا تدل على الملك؛ لأن الظاهر الحرية.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ غيره -: أنه يحكم له باليد؛ لأن البينة شهدت له بذلك، ويحلف أنه ملكه؛ لأن الظاهر ممن بيده شيء أنه ملكه، فإذا ادعاه.. حلف عليه.

[مسألة الصبي يتبع في الإسلام أحد أبويه]
قد ذكرنا أن الصبي يحكم بإسلامه تبعًا لإسلام أبويه أو لأحدهما، أو للسابي أو للدار.
فإذا ثبت هذا: فإن حكم هذا الصبي - الذي حكم بإسلامه تبعًا لأحد هذه الأشياء قبل البلوغ - حكم سائر المسلمين. وإن مات له مناسب مسلم.. ورثه. وإن مات.. غسل، وصلي عليه، ودفن في مقابر المسلمين، وورثه مناسبه المسلم؛ لأن الذي أوجب إسلامه موجود قطعا، فهو كالمسلم بنفسه. فإن بلغ ووصف الإسلام.. استقر

(8/41)


إسلامه، وتيقنا أنه لم يزل مسلماَ. وإن بلغ ووصف الكفر.. نظرت:
فإن كان حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو لأحدهما أو للسابي.. ففيه طريقان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه مرتد) فلا يقر على الكفر قولا واحدًا؛ لأنه محكوم بإسلامه قطعًا، فهو كما لو أسلم بنفسه بعد البلوغ، ثم ارتد.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ غيره -: أنها على قولين:
أحدهما: أنه مرتد، ولا يقر على الكفر، وهو الأصح، لما ذكرناه.
والثاني: أنه ليس بمرتد، فيقر على كفره؛ لأنا حكمنا بإسلامه تبعًا لغيره في صغره؛ لأنه لا يمكن اعتباره بنفسه. فإذا بلغ أمكن اعتباره بنفسه، وزال حكم التبع.
وأما إذا كان حكم بإسلامه بالدار، فبلغ ووصف الكفر: فإن قلنا: إن من حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي، يقر على الكفر إذا بلغ ووصف الكفر.. فهذا أولى أن يقر.
وإن قلنا: هناك لا يقر.. ففي هذا قولان:
أحدهما: لا يقر على الكفر؛ لأنه محكوم بإسلامه تبعًا لغيره، فلم يقر عليه، كمن حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يقرع ويتهدد على الكفر، فإن أقام عليه.. أقر عليه) ؛ لأنه أضعف حالًا ممن حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي، بدليل: أنه لو ادعى نسبه كافر وأقام البينة على ذلك.. حكم بكفره.
إذا ثبت هذا: فكل موضع قلنا: لا يقر على كفره.. فهو مرتد، فإن تاب، وإلا قتل. وكل موضع قلنا: يقر على كفره.. نظرت:

(8/42)


فإن وصف كفرًا يقر أهله عليه، كاليهودية والنصرانية، والمجوسية.. أقر عليه. فإن التزم الجزية.. عقدت له الذمة، وأقر في بلاد الإسلام حيث يجوز إقرار أهل الذمة فيه.. وإن لم يبذل الجزية.. لم يقر في بلاد الإسلام، ولكن يقال له: الحق بأهل الحرب.
وإن وصف كفرًا لا يقر أهله عليه، كعبادة الأوثان.. قلنا له: لا تترك على هذا، فإما أن تسلم، أو تلحق بدار الحرب وأنت في أمانٍ إلى أن تلحق بدار الحرب، أو تصف كفرا يقر أهله عليه.
وكل موضع أقررناه على الكفر، فإن كان الإمام قد أنفق عليه شيئًا من بيت المال.. ففيه قولان:
أحدهما: يسترد منه بدله، كما لو انفق عليه على سبيل القرض.
والثاني: لا يسترد منه بدله؛ لأنه صدقة عليه، ومن تصدق على كافر ... لم يرجع عليه بها.
وإن بلغ هذا الصبي فقتله قاتل قبل أن يصف الكفر أو الإسلام، وكانت الجناية عمدا، فإن كان حكم بإسلامه تبعا لأبويه أو للسابي ... فهل يجب القود على قاتله؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القود؛ لأنه قتل من هو محكوم بإسلامه قطعًا عمدًا، فوجب عليه القود، كما لو قتله قبل البلوغ.
والثاني: لا يجب عليه القود، وإنما يجب عليه دية مسلم، وهو المنصوص؛ لأنه يحتمل أنه لم يصف الإسلام؛ لأنه لم يسأل عنه - وهو مسلم - فيجب عليه القود، ويحتمل أنه لم يصف الإسلام؛ لأنه غير راضٍ بالإسلام، بل هو معتقد للكفر، وذلك شبهة يسقط به القود عن القاتل.

(8/43)


وإن كان محكومًا بإسلامه بظاهر الدار.. فهل يجب القود على قاتله؟ إن قلنا: إنه لا يجب القود على من قتل من حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي.. فهذا أولى. وإن قلنا: يجب القود على قاتل من حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي.. ففي هذا قولان:
أحدهما: يجب على قاتله القود، كما قلنا فيمن قتل من حكم بإسلامه تبعًا لأبويه.
والثاني: لا يجب على قاتله القود، وإنما تجب عليه دية مسلم، وهو الصحيح؛ لأنه أضعف حالا ممن حكم بإٍسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي، بدليل: أنه لو ادعى كافر أنه ابنه وأقام عليه البينة.. حكم بكفره.

[مسألة جناية اللقيط]
وإن جنى اللقيط على غيره.. نظرت:
فإن كانت جنايته خطأ. وجب الأرش في بيت المال، سواء كانت جنايته قبل البلوغ أو بعده، وسواء كان موسرًا أو معسرًا؛ لأنه حر مسلم لا مناسب له، فكانت جنايته الخطأ في بيت المال، كغير اللقيط.
وأما إن جنى على غيره عمدًا، فإن كان بعد البلوغ.. وجب عليه القود، إن كان المجني عليه ممن يجب له عليه القود، أو الدية، وإن كان المجني عليه لا يستحق عليه القود، أو إن كانت جنايته قبل البلوغ.. لم يجب عليه القود؛ لأن الصبي لا يجب عليه القود.
وأما الأرش: فإن قلنا: إن عمد الصبي خطأ.. وجب الأرش في بيت المال. وإن قلنا: إن عمده عمد.. وجب الأرش عليه، فيؤخذ منه إن كان موسرًا، وإن كان معسرًا.. ثبت في ذمته إلى أن يوسر.

(8/44)


وإن جني على اللقيط قبل البلوغ.. نظرت:
فإن قتله قاتل، فإن كانت الجناية خطأ.. وجب دية اللقيط على عاقله الجاني، ويأخذها الإمام إلى بيت المال إرثًا للمسلمين، كسائر أمواله.
وإن قتله عمدًا.. كان الإمام بالخيار: بين أن يقتل القاتل، وبين أن يعفو عنه على الدية؛ لأن ذلك يجب للمسلمين، والإمام نائب عنهم، ولا يفعل من ذلك إلا ما رأى فيه الصلاح.
وإن جنى عليه فيما دون النفس.. نظرت:
فإن كانت الجناية خطأ.. وجب الأرش للقيط ويأخذه الملتقط له؛ لأنه مال للقيط.
وإن كانت الجناية عمدا توجب القصاص، فإن كان اللقيط موسرًا.. لم يكن لوليه أن يقتص؛ لأن القصاص جعل للتشفي، والتشفي يحصل له إذا بلغ. وليس له أن يعفو على مال؛ لأنه لا حاجة به إليه. ويحبس له الجاني إلى أن يبلغ، وإن كان اللقيط معسرًا: فإن كان عاقلًا لم يكن للولي أن يقتص؛ لأن التشفي إنما يحصل للمجني عليه وليس له أن يعفو على مال؛ لأنه لا حاجة به إليه؛ لأن نفقته تجب في بيت المال. وإن كان معسرًا معتوهًا.. قال الشافعي: (أحببت للحاكم أن يعفو على مال؛ لأنه لا يرجى له أن يقتص، فكان العفو على مال أحظ) .
وأما إذا جني عليه بعد البلوغ.. نظرت:
فإن كانت على النفس.. فهو كما لو جنى عليه قبل البلوغ. وإن كانت على ما دون النفس، فإن كانت خطأ.. وجب له الأرش، وإن كانت عمدًا يجب فيها القصاص.. فهو بالخيار: بين أن يقتص، وبين أن يعفو على مال كغيره. هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\367] : إذا قتل اللقيط عمدًا.. ففيه قولان: أحدهما: يقتص الإمام؛ لأنه وليه، كالأب ولي الصبي.
والثاني: لا يقتص؛ لأن أولياء اللقيط المسلمون، وهم لا يتعينون.
وإن قتل اللقيط خطأ.. ففيه قولان:

(8/45)


أحدهما: يجب فيه دية حر؛ لأنه حر.
والثاني: يتوقف إلى أن يتبين أحر هو أم مملوك؛ لأنه يجوز أن يكون عبدًا، فلا يجب إلا باليقين.

[مسألة قذف اللقيط]
إذا قذف اللقيط غيره: فإن كان قبل البلوغ.. لم يجب عليه حد القذف؛ لأن الصغير لا يجب عليه الحد ولكن يؤدب. وإن كان بعد البلوغ.. وجب عليه حد القذف إن كان المقذوف محصنًا، أو التعزير إن كان غير محصن.
وإن قذف اللقيط قاذف، فإن قذفه قبل البلوغ.. لم يجب على القاذف حد القذف، وإنما يعزر القاذف؛ لأن الصبي لا يجب الحد بقذفه.
وإن قذفه بعد البلوغ، فإن اتفق اللقيط والقاذف أن اللقيط عبد.. لم يجب على القاذف حد القذف، وإنما يجب عليه التعزير. وإن اتفقا أنه حر.. وجب على القاذف حد القذف.
وإن قال القاذف: هو عبد، وقال اللقيط: بل أنا حر.. ففيه قولان:
أحدهما: القول قول اللقيط مع يمينه؛ لأن الظاهر أنه حر.
والثاني: أن القول قول القاذف مع يمينه؛ لأنه يحتمل أنه حر، فيجب على القاذف الحد، ويحتمل أنه عبد، فلا يجب عليه الحد، والأصل براءة ذمته.
فأما إذا جنى رجل على اللقيط عمدًا، فقال الجاني: أنت عبد، فلا يجب علي القصاص، وقال اللقيط: بل أنا حر.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كما قلنا في القذف.

(8/46)


ومنهم من قال: القول قول اللقيط قولًا واحدًا.
والفرق بينهما: أن حد القذف يراد للردع والزجر، فإذا عدلنا عن الحد إلى التعزير.. حصل به الردع، والقصاص يراد للتشفي، فإذا عدلنا منه إلى الدية.. لم يحصل بها التشفي. ولأن التعزير بعض الحد، فإذا عدلنا عن الحد إلى التعزير، فقد عدلنا عن مشكوك فيه إلى يقين، فجاز. وليس كذلك الجناية، فإن اللقيط يجوز أن يكون عبدًا، فلا يجب في الجناية عليه قصاص، ويجوز أن يكون حرًا، فيجب على الجاني عليه القصاص. فالقصاص مشكوك فيه، والقيمة مشكوك فيها، فإذا جعلنا القول قول الجاني.. انتقلنا من مشكوك فيه إلى مشكوك فيه، فلم يجز.

[مسألة قبول قول اللقيط بأنه رقيق]
قال الشافعي: (فإذا بلغ اللقيط فباع واشترى، ونكح وأصدق، ثم أقر على نفسه بالرق.. قبل إقراره، وفي إلزامه الرق قولان) .
وجملة ذلك: أن اللقيط إذا بلغ، ثم باع واشترى، ووهب وأقبض، ونكح، فجاء آخر وادعى أنه عبده، فصدقه اللقيط، ولم يقم عليه بينة، أو قال اللقيط: أنا عبد فلان، وصدقه المقر له.. نظرت:
فإن كان اللقيط قد تقدم منه إقرار قبل هذا أنه حر.. لم يقبل إقراره الثاني أنه عبد؛ لأنه بإقراره الأول أنه حر، لزمته أحكام في العبادات لله تعالى فلا يقبل إقراره بما يسقطها، ولهذا لو أن حرًا قال لرجل: جعلت نفسي عبدك.. لم يصر عبده بذلك.
وإن لم يتقدم منه إقرار بالحرية.. فقد قال الشافعي: (قبل إقراره، وفي إلزامه الرق قولان) .
واختلف أصحابنا في ترتيب المذهب فيها:
فقال أبو الطيب بن سلمة: هل يقبل إقراره في الرق؟ فيه قولان:
أحدهما: يقبل إقراره ويحكم برقه؛ لأنه مجهول الحال.. فقبل إقراره على نفسه بالرق، كما لو قدم رجل من بلاد الكفر لا يعرف نسبه، فأقر على نفسه بالرق. ولأن

(8/47)


إقراره آكد من البنية. لأنه لا يتهم في إقراره على نفسه، والبينة متهمة. ثم ثبت أن البينة لو قامت برقه.. حكم برقه، فكذلك إذا أقر على نفسه.
والثاني: لا يقبل إقراره؛ لأنه محكوم بحريته بظاهر الدار، فلم يقبل إقراره بالرق، وقد تعلق عليه حقوق لله تعالى، فلم يقبل إقراره بما يسقطها، كما لو أقر بالحرية، ثم أقر بالرق. ويخالف المجهول؛ لأنه لم يلزمه حق لغيره فيسقطها بالإقرار.
وقال عامة أصحابنا: يقبل إقراره في الجميع، فيما له وفيما عليه؛ لأن هذه الأحكام فرع للرق، فإذا ثبت الأصل.. ثبتت فروعه، ولأن إقراره آكد من البينة. ثم لو قامت البينة.. لثبتت عليه جميع أحكام الرق، فكذلك إذا أقر.
والثاني: يقبل قوله فيما يضره، ولا يقبل فيما يضر غيره. وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني؛ لأن إقراره تضمن ما يضره ويضر غيره، فقبل قوله فيما يضره، ولم يقبل فيما يضر غيره، كمن أقر بدين عليه وعلى غيره. ولأن اللقيط قد يكون جارية وقد أنكحها الحاكم، فإذا قلنا: يقبل قولها فيما يضر غيرها.. أدى إلى أن ينفسخ النكاح بقولها، والنكاح لا ينفسخ بقول النساء. وقول الأول: (إن الأصل إذا ثبت.. تثبت فروعه) يبطل بالرجل إذا مات وخلف أخا وارثا، فأقر الأخ بابن للميت.. فإن النسب يثبت، ولا يثبت الميراث. وهذا الطريق أصح؛ لأن الشافعي قال: (قبل إقراره، وفي إلزامه الرق قولان) وأراد: في إلزامه أحكام الرق قولان. فإن قلنا بالطريق الأول، فإن قلنا: يقبل إقراره في الرق.. كان حكمه حكم الرقيق إذا تصرف بغير إذن سيده في التصرفات الماضية والمستقبلة. وإن قلنا: لا يقبل قوله في الرق.. لم يؤثر هذا الإقرار في التصرفات الماضية ولا في المستقبلة.
وإذا قلنا بالطريق الثاني، وعليه التفريع.

(8/48)


فعلى هذا: حكمه في التصرفات بعد الإقرار حكم الرقيق فيما يضره ويضر غيره.
وأما تصرفاته بعد البلوغ وقبل الإقرار: فلا تخلو: إما أن يكون اللقيط ذكرًا أو أنثى:
فإن كان أنثى وقد زوجها الحاكم بإذنها بحر ثم أقرت بالرق، فإن قُلنا: يقبل إقرارها فيما يضرها ويضر غيرها.. حكم بأن النكاح وقع باطلا؛ لأنه بغير إذن سيدها، فإن لم يدخل بها الزوج.. فلا شيء عليه. وإن كان قد دخل بها.. وجب عليه مهر مثلها لسيدها وفرق بينهما واعتدت بقرأين؛ لأنها عدة أمة، هكذا ذكر الشيخ أبو إسحاق وابنُ الصباغ. وذكر الشيخ أبو حامد والمحاملي: أنها تستبرئ بقرء واحد؛ لأنه استبراء، والأمة تستبرئ بقرء. وإن أتت أمته بأولاد.. فهم أحرار؛ لأنه اعتقد أنها حرة، وذلك شبهة، ويجب عليه لسيدهم قيمتهم حين الوضع. فإن مات عنها.. لم يجب عليها عدة الوفاة.
وإن قلنا: يقبل قولها فيما يضرها، ولا يقبل فيما يضر غيرها.. لم يحكم بفساد النكاح؛ لأن ذلك يضر بالزوج. فإن لم يدخل بها الزوج.. لم يجب لها مهر؛ لأن السيد يقر بفساد نكاحها. والنكاح الفاسد لا تستحق به المهر قبل الدخول. فإن طلقها الزوج قبل الدخول، أو مات عنها.. لم يطالبه السيد بشيء؛ لأنه لا يدعيه.
وإن كان الزوج قد دخل بها.. وجب عليه أقل الأمرين من مهر المثل أو المسمى؛ لأن المسمى إن كان أقل.. لم يلزمه ما زاد؛ لأنه لا يقبل قولها فيما يضر غيرها. وإن كان مهر المثل أقل.. لم يجب عليه ما زاد عليه؛ لأنها لا تدعى أكثر منه.
وإن أتت منه بأولاد قبل الإقرار.. فهم أحرار؛ لأنه وطئها وهو يعتقد أنها حرة. ولا يجب عليه قيمتهم؛ لأنه لا يقبل قولها فيما يضر غيرها، ولكن يقال للزوج: قد

(8/49)


ثبت أن زوجتك أمة، فإن شئت اخترت المقام معها على أنك إذا وطئتها بعد ذلك، وحبلت منك.. كان الولد مملوكا بلا كلام؛ لأنك تطؤها على علم بأنها أمة.
فإن قيل: فهذا مما يضره، وقد قلتم لا يقبل قولها فيما يضر غيرها.. فالجواب: أنا لم نقبل قولها فيما يضر غيرها في إيجاب حق لم يدخل في العقد عليه.
فأما الحكم في المستقبل: فيمكن إيفاء حقه وحق من ثبت له الرق عليها، بأن يطلقها، فلا يلزمه ما لم يدخل عليه، أو يقيم على نكاحها، فلا يسقط حق سيدها.
فإن قيل: إذا أثبتم حق الرق الآن، فاعتبروا أن يكون ممن يجوز له نكاح الإماء.. قلنا: لا يعتبر ذلك؛ لأنا إن أثبتنا ذلك، وقلنا بفساد النكاح إذا لم يكن ممن يجوز له نكاح الإماء.. أفسدنا العقد بقولها؛ لأن شروط نكاح الأمة لا تعتبر في الاستدامة، وإنما تعتبر في الابتداء.
وإن طلقها الزوج.. اعتدت بثلاثة أقراء، وهي عدة حرة.
قال أصحابنا: ولا فرق بين أن يطلقها ثلاثًا أو دون الثلاث؛ لأن عدة الطلاق حق للزوج، وقولها لا يقبل فيما يضر غيرها؛ لأنها إن طلقت دون الثلاث.. فله الرجعة في العدة، وإن طلقت ثلاثًا، أو كان الطلاق بائنًا.. فالعدة لاستبراء مائه. ألا ترى أنها لا تجب في الموضع الذي لا يحتاج إلى الاستبراء، وهو: قبل الدخول؟
وإن مات عنها.. لم يجب عليها عدة حرة؛ لأن عدة الوفاة حق لله تعالى، لا حق للزوج فيها. ألا ترى أنها تجب في الموضع الذي لا يحتاج فيه إلى الاستبراء؟ وقولها مقبول فيما يسقط حق الله عز وجل. وتعتد بشهرين وخمس ليالٍ، وحكى المحاملي: أنها تستبرئ بقرء واحد؛ لأن استبراء الأمة بقرء.
وإن كان اللقيط ذكرًا: فإن كان قد باع واشترى بعد البلوغ، أو كان اللقيط أنثى، فباعت واشترت بعد البلوغ، فإن قلنا: يقبل قوله فيما يضره ويضر غيره.. حكم بفساد العقود كلها. فإن كانت الأعيان قائمة.. ردت إلى أهلها، وإن كانت تالفة.. ثبتت قيمتها في ذمته، يتبع بها إذا عتق.
وإن قلنا: لا يقبل قوله فيما يضر غيره.. لم يحكم بفساد العقود وتلزمه الأثمان.

(8/50)


فإن كان في يده مال.. دفعت الأثمان عنه، وما بقي منه يكون لسيده. وإن لم يف بالأثمان، أو لم يكن في يده مال.. كان ذلك دينًا في ذمته، يتبع به إذا عتق. هكذا قال الشيخ أبو حامدٍ.
وقال ابن الصباغ: إن كان له كسب.. استوفى ذلك من كسبه.
وإن كان غلامًا، فنكح، فإن قلنا: يقبل قوله فيما يضره ويضر غيره.. حكم بفساد النكاح؛ لأنه وقع بغير إذن سيده. وإن لم يدخل بها.. فلا شيء عليه. وإن دخل بها.. وجب عليه مهر مثلها. ومن أين يستوفى؟ فيه قولان:
قال في القديم: (يستوفى من رقبته، كأرش الجناية) .
وقال في الجديد: (يتبع به إذا عتق) لأنه وجب برضا من له الحق، فهو كثمن المبيع، هكذا ذكر الشيخ أبو حامدٍ وابن الصباغ.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أنه إذا دخل بها.. لزمه أقل الأمرين من مهر المثل أو المسمى؛ لأن المسمى إن كان أقل.. لم يجب ما زاد؛ لأنها لا تدعيه. وإن كان مهر المثل أقل.. لم يجب ما زاد؛ لأن قوله مقبول وإن ضر غيره.
وأما إذا قلنا: يقبل قوله فيما يضره، ولا يقبل فيما يضر غيره.. فإنا نحكم بأن النكاح وقع صحيحًا، ولا نحكم ببطلانه فيما مضى؛ لأن ذلك يضر بالزوجة. ولكن يحكم بانفساخه من الآن؛ لأنه أقر بتحريمها عليه. فإن كان لم يدخل بها.. لزمه نصف المسمى. وإن كان قد دخل بها.. لزمه جميع المسمى، فإن كان في يده كسب.. استوفى المهر منه، وإن لم يكن في يده كسب.. استوفى مما يكسبه من الآن؛ لأنه لو تزوج بإذن المولى.. لكان المهر من كسبه، فكذلك ها هنا مثله.

[فرع جناية اللقيط عمدًا]
وإن جنى اللقيط على غيره عمدًا بعد أن أقر بالرق.. وجب عليه القود، سواء كان المجني عليه حرًا أو عبدًا؛ لأن ذلك يضره، وإن كانت جنايته على غيره خطأ.. ففيه ثلاثة أوجه:

(8/51)


[الوجه الأول] قال الشيخ أبو حامد: يتعلق الأرش برقبته على القولين؛ لأنا قد حكمنا بأن أرش هذه الجناية في بيت المال، والآن فقد أقر بالرق، وهذا يضره، فقبل، فيؤخذ بالأرش من ماله إن كان بيده مال. وإن لم يكن بيده مال، أو كان ولم يف.. بيعت رقبته.
و [الوجه الثاني] قال القاضي أبو الطيب: إن قلنا: لا يقبل قوله فيما يضر غيره.. كان الأرش في بيت المال؛ لأن كونه في بيت المال أنفع للمجني عليه؛ لأن الرقبة قد لا تفي بالجناية، وربما تلفت قبل استيفاء الأرش منها، فيسقط الأرش.
و [الوجه الثالث] قال ابن الصباغ: إذا قلنا: يقبل قوله فيما يضر غيره.. لم يكن للمجني عليه حق في بيت المال، بل يتعلق حقه في رقبة اللقيط. وإن قلنا: لا يقبل قوله فيما يضر غيره، وكان الأرش أكثر من قيمة الرقبة.. استحق المجني عليه قيمة الرقبة، ووجب ما زاد له في بيت المال؛ لأنه قد تعلق حقه في بيت المال، فلا يسقط بقول الجاني.
وأما إذا جني على اللقيط بعد أن أقر بالرق.. نظرت:
فإن كانت الجناية عليه عمدًا، فإن كان الجاني عليه عبدًا.. وجب عليه القود؛ لأنه مكافئ له. وإن كان الجاني عليه حرًا.. لم يجب عليه القود؛ لأن العبد لا يستحق القود على الحر، ويكون عليه من الأرش ما على المخطئ عليه.
وإن كانت الجناية عليه خطأ، بأن قطع رجل يده خطأ، فإن كان نصف القيمة أقل من نصف الدية، أو كانا سواء.. وجب على الجاني نصف القيمة. وإن كان نصف القيمة أكثر من نصف الدية، فإن قلنا: يقبل إقراره فيما يضره ويضر غيره.. لزم الجاني نصف القيمة، وإن قلنا: لا يقبل قوله فيما يضر غيره.. لزمه نصف الدية لا غير.

[فرع إقرار اللقيط بالرق]
وإن أقر اللقيط أنه عبد لرجل، فكذبه المقر له.. سقط حق المقر له لتكذيبه. فإن أقر اللقيط بعد ذلك أنه عبد لآخر، أو صادقه المقر له الأول.. فقد قال أبو العباس:

(8/52)


يقبل، كما لو أقر لرجل بدار فكذبه المقر له، ثم أقر بها لآخر، أو صادقه المقر له.
والمنصوص: (أنه لا يقبل) ؛ لأنه قد أخبر أنه لا يملكه غير الأول، فإذا أسقط المقر له إقراره بتكذيبه له.. رجع إلى الأصل- وهو: الحرية - فلم يقبل إقراره لغيره. ويخالف الدار، فإن الأول إذا كذب إقراره.. رجعت الدار إلى ملكه، وإقراره في ملكه مقبول.

[فرع ادعاء رجل عبودية اللقيط]
وإن ادعى رجل على اللقيط أنه عبده، فأنكر اللقيط أنه عبده، ثم أقر له بعد ذلك.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\367] : قبل إقراره له، كما لو ادعى الزوج أنه راجع امرأته في عدتها، فأنكرت، ثم أقرت بصحة الرجعة.
وإن أنكر اللقيط فأقام المدعي بينة.. حكم له بملكه، وكان حكمه حكم الرقيق في التصرفات قبل قيام البينة وبعدها، سواء تقدم منه إقرار بحريته أو لم يتقدم.
وإن لم يكن مع المدعي بينة، وسأل اللقيط أن يحلف له: فإن كان قد تقدم من اللقيط إقرار بالحرية.. لم يحلف؛ لأنه لو أقر له بالرق.. لم يقبل إقراره، فلا فائدة في عرض اليمين. وإن لم يتقدم منه إقرار بالحرية، فإن قلنا بقول عامة أصحابنا: يقبل إقراره بالرق قولا واحدًا.. حلف لجواز أن يخاف من اليمين فيقر. وإن قلنا بقول أبي الطيب بن سلمة.. هل يقبل إقراره بالرق؟ فيه قولان:
فإن قلنا: يقبل.. حلف لجواز أن يخاف من اليمين فيقر.
وإن قلنا: لا يقبل إقراره.. لم يحلف؛ لأنه لو خاف من اليمين فأقر بالرق.. لم يقبل إقراره، فلا فائدة في اليمين.
قلت: وينبغي أن يبني على القولين في يمين المدعي مع نكول المدعى عليه،

(8/53)


فإن قلنا: إنها كالبينة.. عرضت اليمين على اللقيط على هذا القول أيضا، لجواز أن ينكل عن اليمين، فيحلف المدعي فيكون كما لو أقام البينة. وإن قلنا: إنه كالإقرار.. لم تعرض.
والله أعلم

(8/54)