البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الوقف]

(8/55)


كتاب الوقف
الوقف: عطية مؤبدة. يقال: وقف، ولا يقال: أوقف، إلا في شاذ اللغة. ويقال حبس وأحبس.
إذا ثبت هذا: فإن الوقف يصح، ويلزم بالقول ولا يفتقر إلى القبض. وبه قال مالك وأبو يوسف.

(8/57)


وقال محمد بن الحسن وابن أبي ليلى: يصح الوقف، ولكن يفتقر إلى القبض.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح الوقف أصلا) ولكن أصحابه استشنعوا هذا، فقالوا: يصح الوقف، ولكن لا يلزم، بل له بيعه وهبته. ولا يلزم إلا في موضعين: إما أن يحكم به الحاكم، أو يوصي الواقف به.
دليلنا: ما روى نافع، عن ابن عمر: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ملك مائة سهم بخيبر ابتاعها، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وقال: يا رسول الله إني ملكت مالًا لم أملك مثله قط، وأردت أن أتقرب به إلى الله تعالى، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حبس الأصل، وسبل الثمرة» . قال: فتصدق به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الفقراء وفي القربي وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل، لا يباع ولا يوهب ولا يورث. لا جناح على من وليها أن يأكل منها غير متأثل مالًا، تنظر فيها حفصة ما عاشت، فأما إذا ماتت فذوو الرأي من أهلها، يعني: من أهل الوقف.

(8/58)


فوجه الدليل من الخبر: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن جهة التقرب، فقال: «حبس الأصل» فاقتضى الظاهر أن القربة تحصل بنفس الحبس. ولم يعتبر حكم الحاكم به بعد الوقف، ولا الوصية به.
قال الشافعي: (ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حبس الأصل» أي بما عليه الأموال المطلقة، فلا تباع ولا توهب ولا تورث. إذ لا معنى لقوله: «حبس الأصل» إلا هذا. وأيضًا فإن عمر حبس، وقال: (لا يباع ولا يوهب ولا يورث) وهذا بيان حكم الوقف) .
ومعلوم: أن عمر كان جاهلًا بأصل الوقف حتى سأل النبي صلى لله عليه وسلم. فكيف يجهل أصل الوقف، ويعلم حكمه؟ فعلم أنه إنما ذكر هذا الحكم بتوقيف من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإن لم يكن بتوقيف منه، فلا يجوز أن يخفى هذا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فلما لم ينكره.. دل على أن هذا حكم الوقف.
وروي: عن أبي بكر، وعثمان، وطلحة: أن كل واحد منهم وقف داره.
وروي: (أن فاطمة وقفت على بني هاشم، وبني المطلب) . ووقف علي عليهم، وأدخل معهم غيرهم.

(8/59)


وروي عن جابر: أنه قال: (لم يبق في أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من له مقدرة إلا وقد وقف) .
وروي: أن عمرو بن العاص قدم من اليمن إلى المدينة فقال: (لم يبق في المدينة لأهلها شيء إلا وهو وقف) .
وروي: أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حفر بئرًا بـ: ينبع، فخرج ماؤها مثل عنق البعير. فقيل: بخت الوارث. قال: فتصدق بها علي وكتب: (هذا ما تصدق به علي بن أبي طالب ابتغاء وجه الله، وليصرفه عن النار، ويصرف النار عنه ينظر فيه الحسن ما عاش، ثم الحسين، ثم ذوو الرأي من ولده) .
وهذا إجماع من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على الوقف.

[مسألة وقف ما تثبت عينه]
ويصح الوقف في كل عين يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، كالدور والأرضين والثياب والأثاث والسلاح والحيوان.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح وقف الحيوان وإن حكم به الحاكم) .
وقال محمد بن الحسن: يصح الوقف في الحيوان إلا في الخيل.
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بعث عمر ساعيًا، فلما رجع.. شكا ثلاثة نفر: العباس بن عبد المطلب، وخالد بن الوليد، وابن جميل. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله، وأما خالد.. فقد ظلمتموه، قد احتبس أدراعه

(8/60)


وأعبده في سبيل الله. وروي: وأعتده» . والأعتد: الخيل.
فالخبر حجة على أبي حنيفة ومحمد.
وروي: «أن أم معقل أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: يا رسول الله! إن أبا معقل وقف ناقة في سيبل الله، وإني أريد الحج، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اركبيها، فإن الحج والعمرة في سبيل الله»
ويصح وقف الصغير من الحيوان؛ لأنه يرجى الانتفاع به. ولا يصح الوقف في الحمل؛ لأنه تمليك منجز.. فلم يصح في الحمل وحده، كالبيع. وقولنا: (تمليك منجز) احتراز من الوصية. وقولنا: (وحده) احتراز ممن وقف حيوانًا حاملًا، فإنه يصح الوقف في الحمل تبعًا لأمه، ولا يصح الوقف فيما لا يمكن الانتفاع به على الدوام، كالحيوان الذي تحطم، والطعام والريحان.

(8/61)


وحكي عن مالك والأوزاعي أنهما قالا: (يجوز وقف الطعام) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لا يمكن حبس أصله.

[فرع وقف العين غير الثابتة]
وهل يصح وقف الدراهم والدنانير؟ فيه وجهان:
إن قلنا: تصح إجارتها.. صح وقفها.
وإن قلنا: لا تصح إجارتها.. لم يصح وقفها. وهذا هو الصحيح؛ لأنه لا خلاف أنه لو غصب منه دراهم أو دنانير.. لم يجب عليه أجرتها.
وأما وقف الكلب: فاختلف أصحابنا فيه: فقال بعضهم: فيه وجهان بناء على الوجهين في إجارته. وقال القفال: لا يصح وقفه وجهًا واحدًا؛ لأنه لا يصح تمليكه. وقال بعضهم: يصح وقفه وجهًا واحدًا، كما تصح الوصية به.
وهل يصح وقف أم الولد؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن الوقف تمليك، وأم الولد لا تملك.
والثاني: يصح وقفها، كما يصح إجارتها.
فعلى هذا: إذا مات سيدها.. عتقت بموته؛ لأن ذلك قد ثبت لها بالاستيلاد، فلا يبطل بوقفها، كما لا يبطل بإجارتها.

[فرع الوقف في شيء معين]
ولا يصح الوقف إلا في عين معينة. فإن وقف عينًا في ذمته.. لم يصح؛ لأن ذلك إبطال لمعنى الملك فيها، فلم يصح في عين بذمته، كالعتق.

(8/62)


فإن قال: وقفت أحد هؤلاء العبيد.. لم يصح؛ لأنه تمليك منجز، فلم يصح في عين غير معينة، كالبيع والهبة.

[فرع وقف المشاع]
ويصح الوقف في المقسوم والمشاع، وبه قال مالك وأبو يوسف.
وقال محمد بن الحسن: لا يصح الوقف في المشاع.
دليلنا: حديث عمر: (أنه وقف مائة سهم بخيبر) . وهذا وقف مشاع.
ويصح وقف علو الدار دون سفلها، أو سفلها دون علوها؛ لأنهما كالعينين.

[مسألة الوقف فيما فيه طاعة]
ولا يصح الوقف إلا على ما فيه طاعة لله، كالوقف على أولاده أو على قرابته أو الفقراء والمساكين وطلبة العلم، وكالوقف على المساجد والسقايات والقناطر والمقابر، لما ذكرناه من أخبار الصحابة.
فإن كان الوقف على غير معين.. فهل تفتقر صحته إلى قبول الموقوف عليه.
وإن كان على معين.. فهل تفتقر صحته إلى قبول الموقوف عليه؟ فيه وجهان:
الصحيح: أنه لا يفتقر.
وقال المسعودي (في " الإبانة " ق\352) : يفتقر إلى قبوله.
ومن قال: لا يفتقر إلى القبول.. فإن الموقوف عليه إذا كان معينًا، ورد الوقف.. بطل الوقف عليه.
وإن وقف على آدمي.. فلا بد أن يكون موجودًا حيًا يوم الوقف عليه.
وإن وقف على ميت، أو على من يولد له.. لم يصح؛ لأنه عقد تمليك في حال الحياة، فلم يصح إلا على موجود حي، كالهبة والبيع.

(8/63)


إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولا يجوز أن يخرجها من ملكه إلا إلى مالك منفعة يوم يخرجها إليه) .
فإن قال قائل: لم قال الشافعي: (لا يجوز الوقف إلا على مالك) وعنده يجوز الوقف على المساجد والسقايات والقناطر والمقابر؟!
قلنا: عن ذلك جوابان:
أحدهما: أن الوقف على المساجد والسقايات والقناطر والمقابر وقف على المسلمين في الحقيقة؛ لأن منفعة هذه الأشياء ترجع إليهم.
والثاني: أنه أراد بذلك: إذا وقف على الآدمي.. فلا يصح الوقف إلا على موجود حي. فأما الميت والمعدوم: فلا يصح الوقف عليه.
فإن قيل: أليس لو وقف على أولاده وعقبهم.. جاز، وأن كان العقب لم يخلق؟
قلنا: إنما جاز ذلك على سبيل التبع للموقوف عليه الموجود.

[فرع الوقف على ذمي]
وإن وقف مسلم أو ذمي على ذمي.. صح الوقف؛ لأنه يصح أن يملك بصدقة التطوع.. فصح الوقف عليه، كالمسلم.
وإن وقف مسلم أو ذمي على كنائس أهل الذمة وبيعهم.. لم يصح الوقف؛ لأنها مجامع الكفر ومشاتم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكذلك الوقف على خادمها.. لا يصح؛ لأن خدمتها من عمارتها.
وإن وقف على النازلين في الكنائس من المارة من أهل الذمة.. قال ابن الصباغ: صح الوقف؛ لأنه وقف على أهل الذمة دون الكنائس والبيع.
وإن وقف شيئًا على كتب التوراة والإنجيل.. لم يصح؛ لأنها مبدلة مغيرة، فلا حرمة لها.
وإن وقف شيئًا على من يقطع الطريق، أو يرتد عن الدين.. لم يصح؛ لأن الوقف

(8/64)


لا يصح إلا على بر، وهذا إعانة على المعصية.
وإن وقف على مرتد أو حربي.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يصح، كما يصح الوقف على الذمي.
والثاني: لا يصح؛ لأنه مأمور بقتلهما، فلا معنى للوقف عليهما. وهذا يبطل بالزاني المحصن، فإنه مأمور بقتله، ويصح الوقف عليه.

[فرع الوقف على بهيمة رجل]
وإن وقف على بهيمة رجل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنها لا تملك، فلم يصح الوقف عليها.
والثاني: يصح. قال ابن الصباغ: وهو ظاهر المذهب؛ لأن ذلك وقف على مالكها، قال: إلا أنه ينفق منه عليها، فإذا نفقت- أي: ماتت- كان لصاحبها. وأما إذا وقف على عبد أو أم ولد.. ففيه طريقان:
قال الشيخان- أبو حامد وأبو إسحاق -: لا يصح الوقف عليهما؛ لأنه تمليك منجز، فلم يصح على العبد، كالهبة.
وقال القاضي أبو الطيب في (المجرد) : يبني على القولين في أنه: هل يملك إذا ملكه السيد؟
فإن قلنا: إنه يملك.. صح الوقف عليه. فإذا أعتق.. كان له مثله.
وإن قلنا: إنه لا يملك.. فهو كما لو وقف على بهيمة غيره، على وجهين:
الصحيح: يصح.

(8/65)


[مسألة وقف على نفسه ثم الفقراء]
) : إذا وقف شيئًا على نفسه، ثم على الفقراء والمساكين، أو على نفسه وأولاده، ثم على الفقراء.. لم يصح الوقف على نفسه.
وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو يوسف، وأحمد: (يصح) . قال ابن الصباغ: وإليه ذهب أبو العباس وأبو عبد الله الزبيري من أصحابنا، لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما وقف قال: (لا بأس على من وليها أن يأكل منها غير متأثل مالًا) . فجعل لمن يليها أن يأكل منها. وقد يليها الواقف وغيره. وقد كانت بيده إلى أن مات.
وروي: أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما وقف بئر رومة قال: (دلوي منها كدلاء المسلمين) ولأن الوقف وقفان: وقف خاص، ووقف عام. ثم ثبت: أن الوقف العام له فيه حظ، وهو: إذا وقف مسجدًا أو سقاية.. فإن له أن يصلي في المسجد، ويشرب من السقاية، فكذلك في الوقف الخاص.
ودليلنا: أن الوقف تمليك للرقبة والمنفعة، فلا يجوز أن يملك نفسه من نفسه، كما لا يجوز ذلك في البيع والهبة. وأما حديث عمر: فمحمول على أنه شرط ذلك لغيره.
وأما حديث عثمان: فلأن ذلك وقف عام، وهو يدخل في العام من غير شرط.
إذا ثبت هذا، وأن وقفه على نفسه لا يصح: فإنه يكون وقفًا منقطع الابتداء متصل الانتهاء، على ما يأتي بيانه.

(8/66)


[فرع التحبيس على الولد بشرط]
) : قال في (البويطي) : (إذا قال: داري حبس على ولدي، ثم مرجعها إلي إذا انقرض.. فالحبس باطل) . وقد قيل: جائز، ويرجع إلى أقرب الناس بالمحبس.

[مسألة الوقف المعلق أو على التخيير]
) : وإن قال: وقفت داري هذه على أحد هذين الرجلين، أو على من يختاره فلان.. لم يصح؛ لأنه تمليك منجز، فلم يصح على غير معين، كالبيع.
وإن قدر الوقف بمدة.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو إسحاق: لا يصح من غير تفصيل.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\349] : إذا قال: وقفت داري هذه على زيد سنة، ثم تعود ملكي بعد السنة.. ففيها ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يصح الوقف؛ لأن مقتضى الوقف التأبيد، وليس هذا بمؤبد.
والثاني: يصح الوقف، ويرجع إليه بعد السنة، فكأنه جعل غيره أحق بمنفعة الدار هذه السنة بإجارة أو إعارة.
والثالث: يكون كما لو قال: وقفتها على زيد وأولاده، وأطلق.. فيكون وقفًا متصل الابتداء منقطع الانتهاء، على ما يأتي بيانه.
وقال ابن الصباغ: وإن قال: وقفتها على زيد سنة، وأطلق.. فإنه وقف متصل الابتداء منقطع الانتهاء، على ما يأتي بيانه.
وإن قال: وقفت هذا على زيد سنة، ثم بعد السنة على الفقراء والمساكين.. فظاهر كلام ابن الصباغ أنه يصح قولًا واحدًا. وقد ذكر الشيخ أبو حامد ما يدل على ذلك في التي بعدها.

(8/67)


[مسألة الوقف على أحوال]
وإذا وقف وقفًا: فلا يخلو من أربعة أحوال: إما أن يكون معلوم الابتداء والانتهاء، أو يكون مجهول الابتداء والانتهاء، أو يكون معلوم الابتداء مجهول الانتهاء، أو يكون مجهول الابتداء معلوم الانتهاء.
فإن كان معلوم الابتداء والانتهاء.. صح الوقف، وذلك يتصور من وجهين:
أحدهما: أن يقفه على قوم معينين بالصفة لا يجوز بحكم العادة انقطاعهم، مثل: أن يقفه على الفقراء والمساكين، أو على طلبة العلم، أو أبناء السبيل، وما أشبه ذلك، أو على قبيلة لا تنقطع، كبني تميم.
الثاني: أن يقفه على قوم معينين ينقطعون في العادة، ثم بعدهم على من لا ينقطع، مثل أن يقفه على أولاده وأولاد أولاده، فإذا انقرضوا، فعلى الفقراء والمساكين.
قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز أن يكون الابتداء معلومًا بالصفة، والانتهاء معلومًا بالتعيين، مثل أن يقول: وقفت هذا على الفقراء والمساكين. ثم على أولادي، أو على بني تميم؛ لأن هذا لا يفنى؛ لأن الدنيا لا تخلو من فقراء ومساكين.
قال: إلا أن يقدره بمدة، مثل أن يقول: وقفته على الفقراء والمساكين سنة، أو عشر سنين، ثم على أولادي، ثم على بني تميم، فيصح.
فإن كان الوقف مجهول الابتداء والانتهاء، مثل أن يقول: وقفت داري على أولادي، ولا أولاد له، أو على رجال، أو على حمل هذه المرأة.. فلا يصح الوقف؛ لأن الوقف تمليك للرقبة والمنفعة، فلم يصح على من لا يملك، كما لا يصح البيع والإجارة من غير ملك.
فإن كان الوقف معلوم الابتداء مجهول الانتهاء، مثل أن يقول: وقفت هذا على أولادي، ويسكت، وله أولاد، أو على أولادي وأولاد أولادي ما تناسلوا وتعاقبوا،

(8/68)


ولم يصرفه بعد انقراضهم على سبيل لا ينقطع.. ففيه قولان:
أحدهما: أن الوقف باطل. وبه قال محمد بن الحسن؛ لأن مقتضى الوقف التأبيد، وهذا ليس بمؤبد؛ لأن نسله قد ينقطع، فلم يصح الوقف، كما لو كان مجهول الابتداء والانتهاء.
والثاني: يصح الوقف. وبه قال مالك؛ لأن ابتداء الوقف معلوم، ويمكن نقله إلى غيره بعد انقراضه، فصح، كما لو كان معلوم الابتداء والانتهاء.
فإذا قلنا: إن الوقف باطل.. فإن الموقوف يكون باقيًا على ملك الواقف.
وإذا قلنا: إن الوقف صحيح.. فإن الوقف يصرف إلى الموقوف عليهم ما داموا. فإذا انقرضوا.. ففيه ثلاثة أقوال حكاها المسعودي [في " الإبانة " ق\347] :
أحدها: يصرف إلى المساكين؛ لأنهم هم الذين يؤول إليهم الوقف الصحيح.
والثاني- وهو قول أبي يوسف -: أنه يرجع ملكًا إلى الواقف إن كان باقيًا، أو إلى وارثه إن كان ميتًا؛ لأنه جعله وقفًا على ما سماه، فلا يجوز أن يكون وقفًا على غيره، فرجع إلى الواقف.
والثالث- وهو الصحيح، ولم يذكر أصحابنا البغداديون غيره-: أن ينقل إلى أقرب الناس بالواقف؛ لأن ملكه قد زال عنه على وجه القربة، فلم يعد إليه، كما لو أعتق عبدا. وإذا لم يعد ملكه إليه.. كان أقاربه بعد من سماه أولى؛ لأنه قصد جهة الثواب وأولى جهات الثوب أقاربه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صدقة وذو رحم محتاج» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقتك على المساكين صدقة، وعلى ذي رحم اثنتان: صدقة وصلة» .

(8/69)


فإذا قلنا بهذا: قال المسعودي [في " الإبانة " ق\346] : فاختلف أصحابنا في أقرب الناس إليه:
فمنهم من قال: هم ورثته الذين جعلهم الله أحق بميراثه.
وقال ابن سريج: أقربهم جوارًا لا قرابة؛ لأن الشافعي قال: (يصرف إلى أقرب الناس بالواقف) وأقربهم به: جاره.
ومنهم من قال: أقربهم به رحمًا وإن لم يكن وارثًا. وهذا هو المشهور.
فعلى هذا: إن كان هناك ابن بنت أو ابنة بنت، وابن عم.. كان ابن البنت أو ابنة البنت أولى من ابن العم.
وإن كان هناك قرابة له ذكور ونساء: سوى بينهم، فيقدم الأقرب فالأقرب. فأقربهم الأولاد، ثم أولادهم وإن سفلوا، فإن لم يكن أحد منهم.. فالأبوان. فإن اجتمعا.. استويا. فإن اجتمع له جد وأخ لأب.. ففيه قولان:
أحدهما: أنهما سواء، كما قلنا في الميراث.
والثاني: أن الأخ أولى؛ لأن تعصيبه تعصيب الأولاد.
وهل يختص به فقراؤهم، أو يشترك به الأغنياء والفقراء؟ فيه قولان:
أحدهما: يشترك فيه الأغنياء والفقراء؛ لأن اسم القرابة يجمعهم.
والثاني: يختص به الفقراء؛ لأن القصد منه القربة، والقربة في الفقراء أكثر ثوابًا من الغني.
فإن كان الوقف مجهول الابتداء معلوم الانتهاء، مثل أن يقف على ولده ولا ولد له، ثم على الفقراء. أو على قوم غير معينين ثم على الفقراء، أو على زيد ثم على الفقراء فرد زيد الوقف.. فإن الوقف يبطل عليه. وهل يبطل الوقف على الفقراء في هذه المسائل؟ اختلف أصحابنا فيه:

(8/70)


فقال أبو علي بن أبي هريرة: هي على قولين كالتي قبلها. وقد نص الشافعي على القولين فيها في (حرملة) ؛ لأن الجهالة دخلت في أحد طرفي الوقف، فهو كما لو دخلت في الانتهاء.
وقال أبو إسحاق: يبطل الوقف هاهنا قولًا واحدًا، وهو المنصوص في (المختصر) ؛ لأن الثاني فرع لأصل باطل، فكان باطلًا.
فإذا قلنا: إنه باطل.. فلا كلام.
وإذا قلنا: إنه صحيح.. فلا حق للبطن الأول فيه. وهل ينقل الوقف إلى البطن الثاني؟ ينظر فيه:
فإن كان البطن الأول لا يمكن اعتبار انقراضه كرجل غير معين.. نقل الوقف في الحال إلى البطن الثاني.
وإن كان الأول يمكن اعتبار انقراضه كأم ولده، أو وقف على وارثه في مرض موته ثم على الفقراء.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ينقل في الحال إلى البطن الثاني؛ لأن الوقف لم يصح على الأول، فكان وجوده كعدمه.
والثاني: أنه يرجع إلى الواقف إن كان حيًا، أو إلى وارثه إن كان ميتًا، إلى أن ينقرض البطن الأول؛ لأنه لا يمكن نقله إلى الثاني في الحال؛ لأنه شرط في صرفه إليه انقراض الأول، فبقي على ملك الواقف.
والثالث- وهو اختيار ابن الصباغ -: أنه ينقل إلى أقرب الناس بالواقف إلى أن ينقرض الأول، ثم ينقل إلى الثاني، كما قلنا في الوقف المعلوم الابتداء، المجهول الانتهاء.

(8/71)


قال الشيخ أبو حامد: وقد نص الشافعي في (حرملة) : (أن رجلا لو وقف داره في مرض موته على ولده، وولد ولده.. صح الوقف في نصف الدار على ولد الولد، ولم يصح في النصف على الولد؛ لأنه وارث. فيكون للولد أخذ نصف غلة الوقف ما عاش، فإذا مات.. صار ذلك لولد الولد) فجعل للولد أخذ نصف الغلة بحق الملك، فإذا مات.. نقل إلى ولد الولد.
فإذا قلنا: إنه ينقل إلى أقرباء الواقف.. فهل يختص به فقراؤهم، أو يشترك فيه أغنياؤهم وفقراؤهم؟ على ما مضى من القولين.

[فرع وقف داره على اثنين ولم يذكر من بعدهما]
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\347] : لو وقف داره على زيد وعمرو، وسكت عن ذكر من بعدهما، وقلنا: يصح، فمات أحدهما.. ففيه قولان:
أحدهما: يرجع نصيب الميت إلى الباقي منهما؛ لأنها موقفة عليهما، فكان الباقي منهما أحق بها.
والثاني: يصرف نصيب الميت منهما إلى ما يصرف جميعها إذا ماتا، على ما مضى.

[فرع لم يذكر الموقوف عليه]
) : وإن قال: وقفت داري، أو تصدقت به صدقة محرمة، ولم يقل على من.. ففيه قولان:
أحدهما: إن الوقف باطل؛ لأن الوقف تمليك فلا بد من مملك، كالبيع والهبة، ولأنه لا خلاف أنه لو قال: وقفت داري على أقوام أو رجال، أنه لا يصح الوقف وقد ذكر الموقوف عليه.. فبأن لا يصح ولم يذكره أولى.
والثاني: يصح الوقف؛ لأن القصد من الوقف القربة، فصح وإن لم يذكر الواقف الموقوف عليه، كما لو قال: علي لله أن أضحي بهذه الشاة. ولأنه لو قال: أوصيت

(8/72)


بثلثي وأطلق.. لصحت الوصية وصرفت إلى الفقراء، فكذلك هذا مثله. ويفارق البيع والهبة؛ لأنه ليس لهما مصرف معروف. ويفارق إذا وقف على قوم أو رجال غير معينين؛ لأنا لو صححناه ورددناه على قوم.. ربما أخطأنا مراده إن كان قصده غيرهم.
فإذا قلنا: إن الوقف صحيح.. فإن الوقف يصرف إلى أقرباء الواقف؛ لأنهم أولى جهات الثواب.
قال الشافعي: (ويستوي فيه الأغنياء والفقراء) .
قال الشيخ أبو حامد: فنص على أحد القولين، ويجيء فيه القول الآخر أنه يختص به فقراؤهم.

[مسألة يشترط للوقف القول]
) : ولا يصح الوقف إلا بالقول. وألفاظه ستة:
وقفت، وحبست، وسبلت، وتصدقت، وحرمت، وأبدت.
فإما الوقف: فهو صريح؛ لأنه لا يصلح في عرف اللغة إلا لذلك.
وأما التحبيس، والتسبيل: فهما صريحان أيضًا؛ لأن الشرع ورد بهما، وهو قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حبس الأصل وسبل الثمرة» ولا يصلحان في اللغة إلا لذلك.
أما الصدقة: فهو كناية. فإن نوي به الوقف، صار وقفًا فيما بينه وبين الله تعالى دون الحكم، إلا أن يقول: أنا نويت به الوقف، فيصير وقفًا فيما بينه وبين الله تعالى وفي الحكم؛ لأن هذه اللفظة مشتركة بين صدقة الفرض والتطوع، وهي في صدقة التطوع أظهر.
فإن قرن بالصدقة لفظة من ألفاظ الوقف، بأن قال: صدقة موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة أو محرمة، أو مؤبدة، أو قرن بها حكمًا من أحكام الوقف، بأن قال: صدقة لا تباع، ولا توهب، ولا تورث.. صار ذلك وقفًا؛ لأن انضمام ذلك إلى لفظ الصدقة لا يحتمل غير الوقف.
وأما قوله: حرمت، وأبدت: ففيهما وجهان:

(8/73)


أحدهما: أنهما كناية. وهو اختيار المحاملي؛ لأن قوله حرمت: يقتضي تحريمًا عن نفسه، ولا يقتضي تمليك العين. والوقف يقتضي تمليك العين، فلم تكن صريحة.
وقوله أبدت: يقتضي التأبيد، وليس لهذه اللفظة عرف مستعمل.
والثاني: أنهما صريحان. وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن لفظة التحريم والتأبيد في الجمادات لا يصلحان لغير الوقف.
قال ابن الصباغ: ولأن الشافعي جعلهما مع لفظة الصدقة صريحين في الوقف. ولو كانا كناية في الوقف.. لم تصر الصدقة بهما صريحًا؛ لأن بإضافة الكناية إلى الكناية لا يحصل الصريح.

[فرع يلزم الواقف للمسجد والمقبرة أن يتلفظ بذلك]
] : فإن بنى مسجدًا وأذن للناس في الصلاة فيه، أو أذن للناس في الدفن في أرضه.. لم يصيرا بذلك وقفًا.
وقال أبو حنيفة: (إذا بنى في داره مسجدًا، وفتح بابه إلى الشارع، وأذن للناس في الصلاة فيه، أو أذن للناس بالدفن في أرضه.. صار بذلك وقفًا) .
دليلنا: أنه تحبيس عين على وجه القربة، فكان من شرطه القول مع القدرة عليه، كما لو حبس دارًا على الفقراء والمساكين. وهذا احتراز من الأخرس.

[مسألة صحة الوقف تزيل الملك]
) : وإذا صح الوقف.. زال ملك الواقف عن الوقف.
وحكى أبو العباس ابن سريج فيه قولًا آخر: أنه لا يزول ملكه عن الوقف، وهو قول مالك، والأول هو المشهور؛ لأن الوقف سبب يقطع تصرف الواقف في الرقبة والمنفعة، فأزال الملك، كالعتق.

(8/74)


إذا ثبت هذا: فإلى من ينتقل الملك في الوقف؟
نص الشافعي ها هنا: (أن الملك ينتقل فيه إلى الله تعالى) ونص في (الشهادات) : (أن الرجل إذا ادعي أن أباه وقف عليه، وأقام عليه شاهدًا واحدًا.. حلف معه) .
فمن أصحابنا من قال: هذا يدل على أن الملك انتقل إلى الموقوف عليه؛ لأنه حكم بثبوت الوقف بشاهد ويمين، ولو انتقل إلى الله تعالى.. لم يحكم بثبوته بشاهد ويمين، كما قلنا في العتق، فتكون المسألة على قولين:
أحدهما: ينتقل الملك فيه إلى الموقوف عليه، إلا أنه لا يملك التصرف في رقبته؛ لأن الوقف متمول، بدليل أنه يجب على متلفه القيمة، وما كان متمولًا، فإن الملك فيه للآدمي، كالحربي إذا استرق، والصيد.
والثاني: أنه ينتقل إلى الله تعالى، وهو الصحيح؛ لأنه معنى يزيل الملك، لا يقصد به الانتفاع بالرقبة، فانتقل إلى الله تعالى كالعتق.
وقال أبو العباس: ينتقل إلى الله تعالى قولًا واحدًا، لما ذكرناه. وإنما حكم الشافعي فيه بالشاهد واليمين؛ لأن ملك المنفعة للموقوف عليه، والمنافع تثبت بالشاهد واليمين.
وحكى القاضي أبو الطيب طريقًا ثالثًا: أن الملك ينتقل إلى الموقوف عليه قولًا واحد. وحيث قال الشافعي: (يملك الموقوف عليه منفعته لا رقبته) أراد به: لا يملك بيع رقبته ولا هبتها، والصحيح الطريق الأول.
وأما منفعة الوقف: فإنها ملك للموقوف عليه بلا خلاف.
فإن كان الموقوف شجرة.. ملك الموقوف عليه ثمرتها، وتجب فيها الزكاة؛ لأنه يملكها.
وإن كان الموقوف نصابًا من الماشية على رجل تجب عليه الزكاة، وحال عليها الحول، فإن قلنا: إن الملك فيها لله تعالى.. لم تجب فيها الزكاة، وإن قلنا: إنها في ملك الموقوف عليه، فهل تجب الزكاة عليه؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في الزكاة.

(8/75)


قال الشيخ أبو حامد: فإذا قلنا: يجب عليه.. فإنه لا يخرجها منها، وإنما يخرجها من ماله، ويملك الموقوف عليه صوفها ولبنها؛ لأنه غلتها. وإن ولدت أولادًا بعد الوقف.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الولد ملك للموقوف عليه يجوز له بيعه؛ لأنه من نمائها، فهو كثمرة الشجرة وكسب العبد.
والثاني: أن الولد يكون وقفًا، كالأم؛ لأن كل حكم ثبت للأم، تبعها فيه الولد، كأم الولد.
وإن وقف بهيمة حاملًا.. قال ابن الصباغ:
فإن قلنا: للحمل حكم.. كان الولد وقفًا.
وإن قلنا: لا حكم للحمل.. كان كالولد الحادث بعد الوقف، على الوجهين.

[فرع وطء الجارية الموقوفة]
] : وإن كان الموقوف جارية فوطئها الواقف، أو أجنبي بشبهة، أو أكرهها على الوطء.. وجب عليه المهر للموقوف عليه؛ لأن ذلك من كسبها.
ولا يجوز للموقوف عليه وطؤها قولًا واحدًا؛ لأنه لا يملكها في أحد القولين، ويملكها في الثاني، إلا أنه ملك ضعيف، بدليل أنه لا يملك بيعها ولا هبتها. والوطء لا يكون إلا في ملك تام، فإن خالف ووطئها.. لم يجب عليه الحد؛ لأنه وطء شبهة، ولا يجب عليه المهر؛ لأنه لو وطئها غيره وطئًا يوجب المهر.. لكان المهر الذي يستحق عليه للموقوف عليه، فلا يجوز أن يستحق مهرها على نفسه.
وهل يجوز تزويجها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز. كما يجوز إجارتها.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه يخاف عليها أن تحبل من الوطء، وتموت منه، فيبطل حق البطن الثاني منها.
وإذا قلنا: يجوز تزويجها.. فمن يزوجها؟

(8/76)


إن قلنا: إن الملك فيها للموقوف عليه.. زوجها.
وإن قلنا: إنه لله تعالى.. زوجها الحاكم بإذن الموقوف عليه، ويجب له مهرها. وإن أتت بولد.. كان على الوجهين في ولد البهيمة.

[مسألة تلف الموقوف]
وإن أتلف أجنبي الوقف، أو أتلفه الواقف.. وجب عليه قيمته، ولمن يكون؟ فيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: إذا قلنا: إن الملك للموقوف عليه.. وجبت له القيمة، يتصرف فيها بما شاء.
وإن قلنا: إن الملك لله تعالى.. اشترى بالقيمة شقصًا وأوقفه ويكون وقفًا بالعين التي أتلفت.
و [الطريق الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: يشتري بالقيمة مثل العين على القولين، وهو اختيار ابن الصباغ، لئلًا يبطل حق البطن الثاني منها.
فإن كان الموقوف عبدًا، فقتله عبد عمدًا.. قال ابن الصباغ: فعندي أنه للموقوف عليه إذا قلنا: إن الموقوف عليه يستحق قيمته، أن يثبت له القصاص. وإن قلنا: إن الملك لله تعالى.. فإن القصاص إلى الإمام إن رأى ذلك.
وإن قطعت يده خطأ.. وجبت فيها نصف قيمته، وفيها وجهان:
أحدهما: تكون للموقوف عليه.
والثاني: يشترى بها شقص من عبد.
وإن قتله الموقوف عليه:
فإن قلنا: إن القيمة تصرف إليه.. لم يجب عليه دفع القيمة؛ لأنه لا يستحق شيئًا على نفسه، كما لو قتل عبد نفسه.

(8/77)


وإن قلنا: يشتري بالقيمة مثل العين.. أخذت منه القيمة، واشتري بها عبد يكون وقفًا كالأول، وعلى الموقوف عليه الكفارة بكل حال.

[فرع وطء الواقف أو الأجنبي بشبهة]
وإن كان الموقوف جارية، فوطئها الواقف، أو أجنبي بشبهة، فأتت منه بولد.. فإن الولد يكون حرًا للشبهة، ويجب عليه قيمته؛ لأنه أتلف رقه باعتقاده.
فإن قلنا: إن الولد لو كان مملوكًا لكان للموقوف عليه.. وجبت القيمة له.
وإن قلنا: إن الولد يكون وقفًا كأمه لو كان مملوكًا.. ففي قيمة الولد طريقان، كما قلنا في قيمة الوقف إذا أتلفه أجنبي، أو أتلفه الواقف.
ولا تصير الجارية أم ولد للواطئ؛ لأنه وطئها في غير ملكه. وإن وطئها الموقوف عليه وأولد منها ولدًا.. فإن الولد يكون حرًا، سواء علم تحريم الوطء أو لم يعلم؛ لأنه يملكها في أحد القولين، وله فيها شبهة ملك في القول الثاني. فإن قلنا بأحد الوجهين- لو كان الولد مملوكًا كان للموقوف عليه- لم يجب عليه دفع قيمته. وإن قلنا: إن الولد يكون وقفًا كأمه.. بني على الطريقين في العين الموقوفة إذا أتلفها أجنبي، فإن قلنا: تؤخذ منه القيمة وتسلم إلى الموقوف عليه.. لم يجب على الموقوف عليه شيء. وإن قلنا: يشتري بها مثلها.. أخذت منه قيمة الولد، واشتري بها مثله.
وهل تصير أم ولد للموقوف عليه؟
إن قلنا إن الملك فيها ينتقل إلى الله تعالى.. لم تصر أم ولد له.
وإن قلنا: إن الملك انتقل إلى الموقوف عليه.. صارت أم ولد له. فإن مات وهي باقية.. عتقت بموته وأخذت قيمتها من تركته، وكان الحكم فيها كما لو أتلفها أجنبي على الطريقين: منهم من قال:

(8/78)


إن قلنا: إن الملك ينتقل إلى الله تعالى.. اشترى بالقيمة مثل الجارية، وتكون وقفًا مكانها.
وإن قلنا: إن الملك انتقل إلى الموقوف عليه.. صرفت القيمة ها هنا إلى أهل البطن الثاني بعده.
ومنهم من قال: يشترى بها مثل الجارية على القولين.

[فرع جناية العبد الموقوف]
وإن جنى العبد الموقوف على غيره:
فإن كانت جنايته توجب- واختار المجني عليه- القصاص فاقتص منه.. فلا كلام، فإن كان على النفس فقتله.. بطل الوقف، كما لو مات. وإن كانت فيما دون النفس.. بقي الوقف فيما بقي منه.
وإن كانت الجناية خطأ، أو عمدًا، فعفي عنه على مال.. وجب الأرش، ولا يجوز بيعه؛ لأن الوقف لا يجوز بيعه.
فإن قلنا: إن ملك الواقف لم يزل عنه.. وجب عليه أرش جنايته.
وإن قلنا: إن ملك الوقف للموقوف عليه.. وجب أرش الجناية عليه، بالغة ما بلغت حتى لو جنى جنايات كثيرة.. وجب عليه أرشها.
قال ابن الصباغ: وهذا يدل على ضعف هذا القول؛ لأنه لا يجوز أن يجب عليه أرش جناية غيره على وجه يجحف به.
وإن قلنا: إن الملك فيه ينتقل إلى الله تعالى.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي إسحاق -: أنها تجب على الواقف؛ لأنه منع من بيعه بسبب لم يبلغ به حالة يتعلق الأرش بذمته، فلزمه الأرش، كأم الولد.
والثاني: تجب في بيت المال؛ لأنه لا يمكن إيجاب الأرش على الواقف؛ لأن

(8/79)


ملكه قد زال عنه. ولا على الموقوف عليه؛ لأنه لا يملكه، فلم يبق إلا بيت المال.
والثالث: يجب في كسبه؛ لأنه لا يمكن إيجابه على الواقف، ولا على الموقوف عليه؛ لأنهما لا يملكانه، ولا في رقبته؛ لأنه لا يمكن بيعها، فوجب ذلك في كسبه. فإن لم يكن له كسب.. كانت على الوجهين الأولين.

[مسألة تعليق الوقف على شرط مستقبل]
ولا يصح تعليق أصل الوقف بشرط مستقبل، مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر.. فقد وقفت داري هذه على المساكين؛ لأن هذا تصرف لم يبن على التغليب، فلا يصح تعليقه على شرط، كالبيع والهبة.
ولا يصح الوقف بشرط الخيار، ولا بشرط أن يبيعه متى شاء، ولا بشرط أن يدخل فيه من شاء، أو يخرج منه من شاء.
وقال أبو يوسف: يصح بشرط الخيار، وبشرط أن يبيعه متى شاء، في إحدى الراويتين.
دليلنا: أن هذا شرط ينافي مقتضاه، فلم يصح، كما لو أعتق عبدًا وشرط شيئًا من هذه الشروط.
وأما صرف غلة الوقف: قال الشافعي: (فهي على ما شرط الواقف من الأثرة، والتقدمة، والتسوية بين أهل الغنى والحاجة، ومن إخراج من أخرج منها بصفة، ورده إليها بصفة) .
قال أصحابنا: فـ (الأثرة) : أن يخص قومًا دون قوم، مثل: أن يقف على أولاده، على أن يخص الذكور دون الإناث، أو الإناث دون الذكور.
وأما (التقدمة) : فإنه يقدم قومًا على قوم، وذلك يحصل من وجهين:
أحدهما: أن يفاضل بينهم، مثل: أن يقول وقفت عل أولادي للذكر مثل حظ الأنثيين، أو على أن للأنثى الثلثين وللذكر الثلث.
والثاني: أن يقول: على أن البطن الأعلى يقدم على البطن الثاني.

(8/80)


وأما (التسوية) : فمثل أن يقول: على أن يسوى بين الغني والفقير منهم، أو بين الذكور والإناث. والإطلاق يقتضي ذلك وشرط تأكيدًا.
وأما (إخراج من أخرج بصفة) : فمثل أن يقول: وقفت على أولادي على أن من تزوج من بناتي.. فلا حق لها فيه. وعلى أن من استغنى من أولادي.. فلا حق له فيه.
وأما (رده إليها بصفة) : فمثل أن يقول: على أن من تزوج من بناتي.. فلا حق لها فيه، فإن طلقها زوجها، أو مات عنها.. عادت إلى الوقف.
فكل هذا وما أشبهه جائز، ويحمل على ما شرطه الواقف.
فإن قيل: فهذا وقف معلق على شرط، والوقف المعلق على شرط لا يصح؟
فالجواب: أن هذا ليس بوقف معلق على شرط؛ لأن الوقف المعلق على الشرط هو: أن يعلق أصل الوقف على الشرط، مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر.. فقد وقفت داري. وأما هذا: فهو وقف منجز في الحال، وإنما الاستحقاق معلق بشرط، كما قلنا في الوكالة لو قال: إذا جاء رأس الشهر.. فقد وكلتك، فلا يصح. ولو قال: وكلتك ولا تتصرف إلا أول الشهر.. صح.

[فرع وقف شيئا على جماعة فقراء]
إذا وقف شيئًا على فقراء بني فلان: فمن جاء منهم وادعى أنه فقير.. أعطي، ولم يكلف إقامة البينة على فقره؛ لأن الأصل في الناس الفقر.
ولو قال على الأغنياء منهم: فمن ادعى الغنى منهم ليأخذ.. كلف إقامة البينة؛ لأن الأصل عدم الغنى.

[فرع وقف على رجل دابة للركوب دون نتاجها]
] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق\352] : إذا وقف دابة على رجل للركوب، ولم يجعل له درها ووبرها.. فللموقوف عليه الركوب، ولي له الدر والوبر، وكان الحكم في الدر والوبر حكم من وقف شيئًا على زيد، وسكت عمن يصرف إليه بعده.

(8/81)


[فرع الوقف في سبيل الله للغزاة]
وإن وقف شيئًا في سبيل الله.. كان ذلك وقفا على الغزاة عند نشاطهم دون المرتبين في ديوان الإمام.
وقال أحمد: (الحج من سبيل الله) وتعلق بحديث أم معقل.
دليلنا: أن مطلق كلام الآدمي محمول على المعهود في الشرع، وقد ثبت أن سهم سبيل الله في الصدقات مصروف إليهم، فكذلك الوقف المطلق.
وأما الخبر: فيحتمل أن في كلام الواقف ما دل أنه أراد سبيل الثواب.
وإن وقف شيئًا في سبيل الثواب.. صرف ذلك إلى أهله وقرابته؛ لأنهم أعظم جهات الثواب، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقتك على غير ذي رحمك صدقة. وصدقتك على ذي رحمك صدقة وصلة» .
وإن وقف شيئًا على سبيل الخير.. صرف ذلك إلى من يستحق الزكاة لحاجته إليها، وهم الفقراء، والمساكين، وفي الرقاب، والغارمون- لمصلحتهم- وابن السبيل.

[فرع الوقف على وجوه البر]
وإن وقف شيئًا على وجوه البر.. صرف ذلك إلى من اختاره الناظر من الفقراء والمساكين والمساجد والقناطر وسائر مصالح المسلمين.
وقال بعض أهل العلم: يصرف إلى من يستحق الزكاة سوى العاملين عليها. وليس بشيء؛ لأن ذلك يعم جميع مصالح المسلمين.

[فرع الوقف على العلماء]
قال الصيمري: وإن قال: وقفت هذا على العلماء.. صرف ذلك إلى كل عالم بأصول الشريعة وفروعها، ولا يصرف إلا إلى من يكمل لهما.

(8/82)


وإن قال: وقفت على الفقهاء.. صرف إلى أهل الفروع.
وإن قال: على النحاة.. لم يصرف إلى أهل اللغة.

[فرع وقف ضيعة لحقوق وتبعات]
قال أبو العباس: وإن وقف ضيعة، وقال: يكون الانتفاع منصرفا إلى عمارتها وحق السلطان، وما فضل بعد ذلك في تبعاتي في الزكاة والكفارات.. صح الوقف، وصرفت الغلة إلى الفقراء والمساكين؛ لأن الظاهر أنه أخرج زكاته وكفارته، وإنما خاف النقص، فيكون هذا تطوعا منه.

[مسألة الوقف على الأولاد يدخل الجميع]
وإن وقف على أولاده.. دخل فيه أولاده من صلبه، الذكور والإناث والخناثى؛ لأن الجميع ولده، ولا يدخل أولاد البنين، ولا أولاد البنات؛ لأن ولده حقيقة هو ولده من صلبه.
وإن كان له حمل.. استحق من الغلة الحادثة بعد انفصاله، دون الحادثة قبل انفصاله؛ لأنه لا يسمى ولدًا إلا بعد الانفصال.
وإن كان له ولد فنفاه باللعان.. لم يدخل فيه.
وقال أبو إسحاق: يدخل فيه. وهذا خطأ؛ لأنه بالنفي خرج عن أن يكون ولده.

[فرع الوقف على أولاد أولاده]
وإن وقف على أولاد أولاده.. دخل فيه أولاد البنين، وأولاد البنات الذكور والإناث والخناثى.

(8/83)


وروي: أن رجلا هاشميا بالبصرة وقف على أولاده وأولاد أولاده، وكان له ابن بنت، يقال له: ابن عائشة من أصحاب الحديث، وكان يأخذ من الوقف، فلما ولي عيسى بن أبان القضاء بالبصرة أسقطه من الوقف.
واختلف أصحاب أبي حنيفة فيما فعله عيسى بن أبان: فقال بعضهم: تحامل عليه، لكونه من أصحاب الحديث. فبلغ ذلك أبا حازم - وكان قاضيا ببغداد - فقال: ما تحامل عليه، وإنما هو مذهب محمد بن الحسن؛ لأنه قال: لو قال الإمام لمشرك: أمنتك وأولادك وأولاد أولادك.. لم يدخل أولاد البنات في الأمان؛ لأنهم لا يدخلون في إطلاق اسم أولاد الأولاد. ولهذا قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
دليلنا: أنه لو قال: وقفت على أولادي لدخل فيه الذكور والإناث من ولد صلبه. فإذا قال: على أولاد أولادي.. دخل فيه أولاد بناته.
وأما البيت: فإنما أراد أن أولاده الذين ينسبون إليه، هم أولاد بنيه، دون أولاد بناته.
إذا ثبت هذا: فإن قال: وقفت هذا على أولاد أولادي الذين ينسبون إلي.. دخل فيه أولاد أبنائه دون أولاد بناته؛ لأن أولاد بناته لا ينسبون إليه.
وإن قال هاشمي: وقفت هذا على أولادي وأولاد أولادي الهاشميين.. دخل فيه أولاده الذكور والإناث، وأولاد أبنائه؛ لأنهم هاشميون.
وأما أولاد بناته: فمن تزوجت منهن بهاشمي فأولد منها.. دخل فيه؛ لأنه هاشمي. ومن تزوجت بعامي فأولد منها.. لم يدخل في الوقف؛ لأنه عامي، وليس بهاشمي.

(8/84)


[فرع الوقف على النسل]
] : وإن وقف على عقبه، أو نسله، أو ذريته.. دخل فيه أولاد صلبه الذكور والإناث والخناثى. ويدخل فيه أولاد أبنائه، وأولاد بناته من قرب منهم، ومن بعد؛ لأن الجميع عقبه ونسله وذريته، ولهذا قال الله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] الآية [الأنعام: 84] فنسب الجميع إلى إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على البعد منه، ونسب عيسى إليه، وهو من أولاد البنات.
وإن قال: وقفت على عشيرتي. فإن كان له عشيرة يحصى عددهم- وهي: قبيلة الرجل التي ينسب إليها- صح الوقف وصرف ذلك إلى جميعهم. وإن كان عددهم لا يحصى- كبني تميم وطيء - ففيه قولان:
أحدهما: لا يصح الوقف؛ لأنه عين الموقوف عليهم، ولا يمكن تعميمهم بالانتفاع به، فلم يصح، كما لو وقف على قوم.
والثاني: يصح، ويعطي ثلاثة ممن يختاره الناظر منهم، وهو الصحيح؛ لأن كل من صح الوقف عليه إذا كان عددهم محصورًا.. صح، وإن كان عددهم غير محصور، كالفقراء والمساكين.
وإن وقف على عترته.. فقد قال ابن الأعرابي وثعلب: هم ذريته. وقال ابن قتيبة: هم عشيرته.

[فرع الوقف على جنس من الأولاد]
وإن وقف على البنين من أولاده.. لم يدخل فيه الإناث ولا الخناثى. وإن وقف على الإناث من أولاده.. لم يدخل فيه الذكور ولا الخناثى. وإن وقف على البنين والبنات من أولاده.. فهل يدخل معهم الخنثى المشكل؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:

(8/85)


أحدهما: لا يدخل؛ لأنه ليس من البنين ولا من البنات.
والثاني: يدخل فيه؛ لأنه لا يخلو أن يكون من أحدهما، وهذا أصح.
وإن وقف على بني زيد.. لم يدخل فيه بناته. وإن وقف على بني تميم وقلنا: يصح الوقف عليهم.. فهل يدخل الإناث منهم؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يدخلن؛ لأن اسم البنين إنما ينصرف إلى الذكور. فعلى هذا: لا يدخل معهم الخناثى.
والثاني: يدخلن؛ لأنه إذا أطلق اسم القبيلة.. دخل فيه الذكور والإناث. فعلى هذا: يدخل معهم الخناثى.

[مسألة الوقف على أولاده وأولاد أولاده مرتبًا ومشتركًا]
وإذا وقف وقفًا على أولاده وأولاد أولاده: فلا يخلو: إما أن يكون الوقف مشتركًا، أو مرتبًا:
فإن كان مشتركًا، وذلك بأن يقول: وقفت هذا على أولادي وأولاد أولادي ما تناسلوا وتعاقبوا، فإن انقرضوا كان على الجامع، أو على الفقراء والمساكين.. فإن الوقف على أولاده وأولاد أولاده يكون مشتركًا بين أهل البطن الأول ومن يحدث بعده، فيشارك من يحدث من كان موجودًا في الغلة الحادثة بعد حدوث الولد؛ لأن الواو تقتضي الجمع والتشريك، فإن قال: يستوي الأعلى والأدنى.. كان ذلك تأكيدًا، فإذا انقرضت ذريته.. نقل إلى من بعدهم.

(8/86)


وإن كان الوقف مرتبًا، وذلك من وجهين:
أحدهما: أن يقول: وقفت هذا على أولادي، وأولاد أولادي ما تناسلوا وتعاقبوا الأول فالأول، أو الأدنى فالأدنى، أو الأقرب فالأقرب، أو الأعلى فالأعلى، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء، والمساكين.. استحق أهل البطن الأعلى الوقف. فإذا انقرض أهل البطن الأعلى.. صرف إلى أهل البطن الثاني. وعلى هذا: لا يستحق أهل بطن وهناك أحد من أهل البطن الذي فوقه، فإذا انقرضوا.. صرف إلى الفقراء والمساكين.
والثاني: أن يقول: وقفت هذا على أولادي، فإذا انقرضوا فعلى أولادهم، فإذا انقرضوا فعلى أولادهم، وعلى هذا أبدًا.
أو يقول: وقفت هذا على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على أولادهم، وعلى هذا أبدًا، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء والمساكين.. صح وكان مرتبًا. ولكن لا بد أن يقول هاهنا: وعلى هذا أبدًا؛ لأنه ربما يحدث بطن آخر لم يذكره في قوله: فإذا انقرضوا فعلى أولادهم، أو في قوله: ثم على أولادهم. فإذا قال: وعلى هذا أبدًا.. استغرق جميع من يحدث، بخلاف القسم الأول، حيث قال: ما تناسلوا وتعاقبوا، فإن ذلك يغني عن قوله: وعلى هذا أبدًا.
فإن قال: وقفت هذا على ولدي، وولد ولدي، ثم على ولد ولد ولدي.. فإن ولده وولد ولده يشتركان في الوقف، فإذا انقرضا.. كان للبطن الثالث.
وإن قال: وقفت هذا على ولدي، ثم على ولد ولدي وولد ولد ولدي.. فإن البطن الأول ينفرد بالوقف، فإذا انقرضوا.. اشترك البطن الثاني والثالث في الوقف؛ لأنه رتب الأول وشرك بين الثاني والثالث.
فإن قال: وقفت هذا على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على عقبهم ونسلهم، ثم على الفقراء والمساكين:

(8/87)


قال الشافعي في " البويطي ": (فإن الوقف يكون للبطن الأول - وهم: أولاده ما عاشوا - فإذا انقرضوا.. كان لأهل البطن الثاني لا يشاركهم فيه أهل البطن الثالث، ولا من بعدهم. فإذا انقرض أهل البطن الثاني.. كان للبطن الثالث والرابع ومن حدث من بعدهم، يشتركون فيه. فإذا انقرض نسله.. كان للفقراء والمساكين؛ لأنه رتب الوقف في البطن الأول. وفي الثاني: يشترك فيمن بعدهم من نسله) .

[فرع وقف كيلا ما على أولاد بناته والباقي للذكور]
] : فإن قال: وقفت نخلي هذه على أولادي، على أن لبناتي منه مكيلة كذا، ويكون الباقي للذكور.. صح، وكان للبنات ما شرطه. فإن بقي شيء.. استحقه الذكور، وإن لم يبق شيء.. فلا شيء لهم.
وإن قال: وقفت هذه على أولادي، فإذا انقرضوا، فعلى أولادهم أبدًا ما تناسلوا، فمن مات منهم وكان له ولد، كان نصيبه لولده، ومن مات ولا ولد له، كان نصيبه لأهل الوقف، فإن كان للواقف ثلاثة أولاد.. كان الوقف أثلاثًا بينهم، فإن مات واحد منهم وله ولد.. كان نصيب أبيه له، فإن مات الثاني بعده ولا ولد له.. رجع نصيبه إلى أخيه وابن أخيه.

[فرع الوقف على أولاده ثم للفقراء بعدهم]
فإن قال: وقفت هذا على أولادي، فإذا انقرضوا أو انقرض أولادهم فعلى الفقراء والمساكين.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن أولاد الأولاد يستحقون الوقف بعد انقراض الأولاد؛ لأنهم لما اعتبر انقراضهم لاستحقاق الفقراء.. دل على استحقاقهم من الوقف.
والثاني - وهو الصحيح -: أنهم لا يستحقون شيئًا؛ لأنه لم يجعل لهم من الوقف شيئًا، وإنما شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم.

(8/88)


فعلى هذا: يكون الوقف منقطع الوسط، فيكون على قولين، كالوقف المنقطع الانتهاء:
أحدهما: أنه باطل.
والثاني: أنه صحيح، فيكون لأولاد الواقف. فإذا انقرضوا وهناك أولاد أولاد.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يصرف إلى الواقف إن كان حيًا، أو إلى وارثه إن كان ميتًا، إلى أن ينقرض ولد الولد، ثم يصرف إلى الفقراء والمساكين.
والثاني: أن الوقف يصرف إلى الفقراء والمساكين في الحال.
والثالث: أنه يكون لأقرباء الواقف إلى أن ينقرض ولد الولد. وقد مضى دليلها.

[مسألة الوقف على الأقرباء يكون من طرفي الأبوين]
وإن قال: وقفت هذا على قراباتي، أو على أقربائي، أو على ذوي رحمي، أو على أرحامي، أو كان ذلك في الوصية.. صرف ذلك إلى من يعرف بقرابته من قبل الآباء والأمهات. فإن كان له جد يعرف به عند عامة الناس.. صرف إلى من ينسب إلى ذلك الجد دون من ينسب إلى أبي ذلك الجد، ولا إلى من ينسب إلى أخي ذلك الجد، كالشافعي إذا وقف على قرابته، فإنه يصرف إلى من ينسب إلى شافع بن السائب، ولا يصرف إلى من ينسب إلى علي وعباس ابني السائب، ولا إلى من ينسب إلى السائب بن عبيد.
ويدخل فيه بنات الواقف، وأولاد بناته. ويدخل فيه أمهات الواقف، وآباء أمهاته، وأخواته، وخالاته.
وقال أبو حنيفة: (يدخل فيه كل ذي رحم محرم بالنسب، مثل: الآباء والأمهات، والبنين والبنات، وأولادهم، والإخوة والأخوات، والأعمام والعمات دون بنيهم) .
وقال مالك: (يدخل فيه من يرث الواقف لا غير) .

(8/89)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] .
وقَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] [الحشر: 7] . ولنا منها ثلاثة أدلة:
أحدها: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى من سهم ذوي القربى بني أجداده- وهم: بنو هاشم - وبني أعمامه - وهم: بنو المطلب -) .
والثاني: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لما أعطى بني هاشم وبني المطلب سهم ذوي القربى.. أتاه عثمان بن عفان - وهو: من ولد عبد شمس بن عبد مناف -، وجبير بن مطعم - وهو: من ولد نوفل بن عبد مناف - وقالا: أما بنو هاشم فلا ينكر فضلهم، لمكانك الذي وضعك الله فيهم، فما بال بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا، وقرابتنا وقرابتهم واحدة؟! فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما بنو هاشم، وبنو المطلب شيء واحد - وشبك بين أصابعه - إنهم ما فارقونا في جاهلية ولا إسلام» . فأقرهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على دعواهما القرابة، ولكنه أخبر أن ذلك السهم لا يستحق بالقرابة منفردة، وإنما يستحق بالقرابة والنصرة.
والثالث: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعطي من ذلك السهم من كان يرثه، ومن لا يرثه، فإنه أعطى منه العمات) .
وروي عن الزبير: أنه قال: (كنت أضرب في الغنائم بأربعة أسهم: سهم لي، وسهمين لفرسي، وسهم لأمي) ، وأمه كانت: صفية بنت عبد المطلب عمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(8/90)


وروي: أنه «لما نزل قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] [الشعراء: 214] جمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشيرته وقال: " يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا عباس، يا فاطمة بنت محمد، إني لا أغني عنكم من الله شيئًا " فعندها قال أبو لهب: ألهذا جمعتنا!؟ تبًا لك، فنزل قَوْله تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] [المسد: 1] » .
إذا ثبت هذا: فإنه يصرف إلى غني قرابته وفقيرهم، وذكرهم وأنثاهم، ويسوى بين الذكر والأنثى، كما لو وهب لرجل وامرأة شيئا.
فإن حدث له قريب بعد الوقف.. دخل في الوقف. وقال في " البويطي ": (لا يدخل في الوقف) وهذا غير صحيح؛ لأن اسم القرابة يتناوله، فدخل فيه، كما لو قال: وقفت هذا على أولادي.. فإنه يدخل فيه من يحدث من أولاده بعد الوقف. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\409-410] : إذا أوصى للقرابة، فهل تقدم قرابة الأب على قرابة الأم؟ ينظر فيه:

(8/91)


فإن كان الموصي من العجم.. فلا تقدم قرابة الأب على الأخرى، بل يصرف ذلك إلى أقاربه من جانب الأب والأم.
وإن كان من العرب.. فإنما هو لقرابته من قبل أبيه، فيدفع إلى البطن الذي ينتمي إليه؛ لأن العجم لا تعرف القبائل والبطون، فعندهم الرجل إذا سمى قرابته فإنما يريد به قرابته من جهة آبائه وأمهاته، والعرب تعرف القبائل والبطون بينهم، فلا ينسب الرجل إلى قرابة أمه ألبتة.

[فرع الوقف على أقرب الناس رحما]
وإن وقف على أقرب الناس إليه، أو أقربهم رحمًا به، أو أمسهم رحمًا به، أو أوصى له.. فإنه يصرف إلى أقرب الناس إليه من الرجال والنساء، فإن لم يكن له والدان.. صرف إلى أولاده الذكور والإناث، ويسوى بينهم، ثم إلى أولادهم، ثم إلى أولاد أولادهم، فإن كان له ابن ابنِ ابن، وابنة بنت.. صرف إلى ابنة البنت؛ لأنها أقرب من ابن ابنِ الابن. فإن لم يكن له ولد، ولا ولد ولدٍ، وله أحد الأبوين.. صرف إليه، وإن اجتمعا.. تساويا؛ لأنهما في درجة واحدة.

(8/92)


وإن كان له أب وابن.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنهما سواء؛ لأنهما في أول درجة من الميت.
فعلى هذا: يقدم الأب على ابن الابن.
والثاني - وهو المذهب -: أن الابن يقدم؛ لأنه جزء من الواقف، وأقوى تعصيبًا من الأب.
فعلى هذا: يقدم ابن الابن وإن سفل، على الأب.
وإن اجتمعت الأم والابن.. فينبغي أن يكون على الوجهين المذكورين في الأب والابن.
فإن لم يكن له والد ولا ولد، وله إخوة وأخوات.. صرف إليهم. فإن كان فيهم من يدلي بالأبوين، وفيهم من يدلي بأحدهما.. قدم من يدلي بهما؛ لأنه أقرب. وإن كان أحدهما يدلي بالأب والآخر يدلي بالأم.. فهما سواء، وأولادهم يقومون مقامهم.
فإن لم يكن له إخوة، وله جد من قبل الأب أو من قبل الأم.. صرف إليه. وإن كانت له جدة من قبل أحدهما.. صرف إليها، فإن اجتمع الجد أبو الأب، والجد أبو الأم، وأم الأم، وأم الأب.. صرف إليهم بالسوية؛ لأنهم منه بمنزلة واحدة.
وإن اجتمع الجد أبو الأب، والأخ من قبل الأب والأم، أو من الأب.. ففيه قولان:
أحدهما: أنهما سواء، لتساويهما في القرب منه.
فعلى هذا: يقدم الجد على ابن الأخ.
والثاني: أن الأخ أولى؛ لأنه أقوى تعصيبًا منه.
فعلى هذا: يقدم ابن الأخ على الجد.
فإن لم يكن له أحد هؤلاء، وله أعمام.. صرف إليهم على ترتيب الأخوة.
فإن كان له عم وأبو جد.. فعلى القولين في الأخ والجد.

(8/93)


فإن كان له عم وخال، أو عمة وخالة، أو عم وخالة.. صرف إليهما، وأولادهم يقومون مقامهم.
فإن كانت له جدتان: إحداهما تدلي بقرابتين، والأخرى تدلي بقرابة واحدة، بأن يتزوج رجل بابنة عمته، أو ابنة خالته، ثم يولد له منها ولد.. فإن أم أمّ زوجته تدلي إلى ولدهما بقرابتين، فإن كان هناك جدة تحاذيها.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن التي تدلي بقرابتين أولى.
والثاني: أنهما سواء.

[فرع الوقف على جماعة من أقرب القرابة]
وإن وقف على جماعة من أقرب الناس إليه، أو أوصى لهم.. صرف إلى ثلاثة من أقرب الدرجات إليه.
فإن كان له ثلاثة أولاد في درجة واحدة.. صرف إليهم؛ لأنهم أقل الجمع. فإن كان في الدرجة الأولى أقل من ثلاثة.. تمموا من الدرجة التي تليها. فإن كان هناك ثلاثة من ثلاث درجات.. صرف إلى كل واحد منهم ثلث الوقف. فإن كان في الدرجة الأولى أكثر من ثلاثة.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الناظر في الوقف والوصية يصرف ذلك إلى ثلاثة يختارهم منهم، كما لو وقف على الفقراء أو أوصى لهم.
والثاني: يصرف إلى جميعهم بالسوية؛ لأنه لا مزية لبعضهم على بعض، بخلاف الفقراء؛ لأنهم لا ينحصرون، فالوقف والوصية إنما يقع بجهتهم دون أعيانهم.
وإن كان في الدرجة الأولى اثنان، وفي الثانية اثنان.. صرف الثلثان إلى اللذين في الدرجة الأولى، وفي الثلث الباقي وجهان:

(8/94)


أحدهما: يصرفه الناظر إلى واحد يختاره من اللذين في الدرجة الثانية.
والثاني: يصرف إليهما بالسوية.

[فرع الوقف على أهل بيته]
وإن وقف على أهل بيته أو أوصى لهم.. صرف إلى أبيه وأقاربه من جهة أبيه، نحو أجداده وإخوته؛ لأنه روي عن ثعلب: أنه قال: أهل البيت: الأقارب من جهة الأب.
قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا: لا يكن لبنيه ولا لأقاربه من أمه شيء؛ لأنهم ليسوا من أهل بيته، فمن كان من أهل بيته وارثًا.. لم تصرف إليه الوصية، بل إلى الباقين.

[مسألة الوقف في مرض الموت]
إذا وقف شيئًا في مرض موته.. فإن ذلك وصية.
فإن كان الوقف على أجنبي: فإن احتمله الثلث من تركته.. صح الوقف. وإن لم يحتمله الثلث.. لزم الوقف في قدر الثلث ووقف ما زاد عليه على إجازة الورثة.
وإن وقف على وارثه في مرض موته.. وقف على إجازة الورثة، سواء احتمله الثلث أو لم يحتمله، كالوصية له.
فإن كان له دار لا يملك غيرها، فوقفها على ابنه في مرض موته، ولا وارث له سواه..
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\411] : لزم الوقف في ثلثها؛ لأن أكثر ما فيه أنه حال بينه وبين ثلثها، وله أن يفعل ذلك في ثلثه.
وأما الثلثان: فللابن إبطال الوقف فيهما؛ لأن الإنسان لا يملك التبرع في مرض موته إلا بثلث تركته، فإن أبطله.. فلا كلام، وإن اختار أن يجيزه وقفًا على نفسه:

(8/95)


فإن قلنا: إن الإجازة من الوارث ابتداء عطية منه.. لم يصح، كما لا يجوز أن يقف على نفسه.
وإن قلنا: إنه تنفيذ لما فعله الموصي.. صح.

[فرع وقف داره على ابنه وابنته]
وإن كان له دار، فوقفها على ابنه وابنته بينهما نصفين، واحتملها الثلث، ولا وارث له غيرهما، فإن أجاز الابن الوقف على أخته.. صح، وكانت الدار وقفًا بينهما نصفين. وإن أبى أن يجيزه.. قال ابن الحداد: بطل الوقف في نصف الموقوف على الابنة - وهو: ربع الدار - ويبقى الربع موقوفًا على الابنة، والنصف موقوفًا على الابن، ثم يقتسمان الربع الذي بطل فيه الوقف بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين.
وتصح المسألة من اثني عشر: للابن ثمانية أسهم: ستة منها وقف عليه، وسهمان طلق له، وللابنة أربعة أسهم: ثلاثة وقف عليها، وسهم طلق لها.
فإن كانت له دار وقفها على ابنه وزوجته نصفين بينهما، ولا وارث له غيرهما، وخرجت الدار من ثلثه، فإن أجاز الابن الوقف على الزوجة.. كانت وقفًا بينهما نصفين. وإن لم يجز.. فقد فضل الزوج الزوجة بثلاثة أسهم من ثمانية من الدار، فيبطل الوقف فيها، ويكون ذلك ملكًا للابن طلقًا، ويبقى أربعة أسهم من ثمانية من الدار وقفًا على الابن، فيصير أربعة أسباع نصيبه وقفًا عليه، وثلاثة أسباع نصيبه طلقًا له، فيجب أن يكون نصيب الزوجة كذلك؛ لأنه سوى بينهما في الوقف، فيكون أربعة أسباع ثمنها وقفًا عليها، وثلاثة أسباع ثمنها طلقًا لها، فنضرب ثمانية في سبعة، فذلك ستة وخمسون، للابن تسعة وأربعون سهمًا: ثمانية وعشرون منها وقف عليه، وأحد وعشرون طلق له. وللزوجة سبعة أسهم: أربعة وقف عليها، وثلاثة طلق لها.

[مسألة وقف على الموالي]
وإن وقف على مواليه، أو أوصى لهم:
فإن كان له مولى من أعلى، وهو الذي أعتقه وأنعم عليه.. صرف ذلك إليه.

(8/96)


وإن كان له مولى من أسفل، وهو الذي أعتقه الواقف أو الموصي.. صرف ذلك إليه.
وإن كان له مولى من أعلى ومولى من أسفل.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يصرف ذلك إليهما؛ لأن اسم المولى لجميعهما.
والثاني: يصرف ذلك المولى من أعلى؛ لأن جنبته أقوى؛ لأنه الوارث له.
والثالث: لا يصح الوقف؛ لأن اسم المولى في أحدهما لمعنى معين، وفي الآخر لمعنى آخر، فصار من أسماء الأضداد؛ لأن أحدهما منعم، والآخر منعم عليه، ولا يمكن حمله على العموم فيهما؛ لأن العموم إنما يحمل إذا كان من أسماء الأجناس كالمسلمين والمشركين.
وإن كان الموقوف عليه والموصى له منهما مجهولًا.. لم يصح.

[مسألة وقف على جماعة فمات أحدهم وله ولد]
إذا قال: وقفت هذا على زيد وعمرو وبكر، فمن مات منهم وله ولد، فنصيبه لولده، فإذا انقرضوا، فعلى الفقراء والمساكين.. حمل ذلك على شرطه.
وإن قال: وقفته على زيد وعمرو وبكر، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء والمساكين، فمن مات منهم وله ولد، فنصيبه لولده، ومن مات ولا ولد له، نقل نصيبه إلى أهل الوقف، أو إلى الفقراء والمساكين.. حمل ذلك على ما شرطه.
وإن قال: وقفته عليهم، فإذا انقرضوا، فعلى الفقراء والمساكين، وأطلق، فمات واحد منهم.. ففيه قولان سواء كان له ولد أو لم يكن:
أحدهما - وهو قول أبي علي الطبري -: أن نصيبه يصرف إلى الفقراء

(8/97)


والمساكين؛ لأنه لما جعل الجميع لهم إذا انقرضوا.. وجب أن يكون نصيب كل واحد منهم لهم إذا انقرض.
والثاني- وهو المنصوص في " حرملة " -: (أن نصيبه يكون لمن بقي من الآخرين) . وبه قال مالك.
قال أبو العباس: ولأي معنى صرف إليهما.. يحتمل معنيين:
أحدهما: لأنه لا يمكن دفع نصيبه إلى الفقراء والمساكين؛ لأنه جعل انقراض أهل الوقف شرطًا في استحقاق الفقراء، ولم يوجد انقراضهم، فلا يمكن رده إلى الواقف؛ لأن ملكه قد زال عنه فلم يبق إلا صرفه إلى من بقي منهم؛ لأنه أقرب.
والمعنى الثاني: أنه لما قال: وقفته عليهم، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء والمساكين.. صار كأنه وقفه عليهم وعلى من عاش منهم، وهذا من ضمن كلامه معلوم.

[مسألة وقف مسجدا لفئ]
ة] : إذا وقف مسجدًا على الشفعوية.. فهل يمكن غيرهم من الصلاة فيه؟ حكى الطبري فيه قولين.
وإن وقف مسجدًا في محلة فخربت المحلة، أو وقف دارا فخربت وتعطلت منافعها.. لم يبطل الوقف فيهما.
وقال أحمد: (إذا خربت المحلة.. جاز نقض المسجد وصرف آلته إلى بناء مسجد آخر، وإذا خربت الدار.. جاز بيعها، وصرف ثمنها إلى بناء دار أخرى) .
وقال محمد: يبطل الوقف فيهما، ويكونان ملكًا للواقف.

(8/98)


دلينا: أن ما زال الملك فيه لحق الله.. لا يبطل باختلال الانتفاع به، كما لو أعتق عبدًا ثم زمن، ولأنه قد يصلي فيه أفراد الناس، وقد تعمر المحلة وتعمر الدار.

[فرع وقف نخلة فيبست أو مسجدًا فتلف منه شيء]
وإن وقف نخلة فانقلعت أو يبست، أو وقف مسجدًا فانكسرت خشبة منه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز بيعها، لما ذكرناه في المسجد.
والثاني: يجوز بيعها؛ لأن منفعتها بطلت، فكان بيعها أولى من تركها.
فإذا قلنا بهذا: فهل يجب صرف ثمنها في شراء مثلها لتكون وقفًا مثلها، أو يكون ملكًا للموقوف عليه، ويصرف في سائر مصالح المسجد؟ فيه طريقان، كما قلنا في قيمة الوقف إذا تلف.
قال أبو علي السنجي: وكل ما اشتري للمسجد من الحصير والخشب والآجر والطين. لا يجوز بيع شيء منه؛ لأن ذلك كله في حكم المسجد، فهو كجزء من أجزائه. فإن أشرفت على الهلاك ولا يحتاج المسجد إليها، كالحصيرة البالية والأخشاب العفنة.. فهل يجوز بيعها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنا لو قلنا: لا يجوز بيعها.. لهلكت.
والثاني: لا يجوز، قال: وهو الأصح؛ لأنها في حكم المسجد.
قال الطبري: وما أشرف على الهلاك من أستار الكعبة، ولم يبق فيه جمال ولا منفعة.. فهل يجوز بيعه؟ يحتمل أن يكون على هذين الوجهين.
قال: والصحيح في الكل: لا يجوز بيعه.

(8/99)


[فرع وقف على ثغر فبطل]
وإن وقف أرضًا على ثغر، فبطل الثغر وتعذر القتال فيه.. حفظ انتفاع الوقف. وهو: غلته - ولا يصرف إلى غيره، لجواز أن يعود الثغر كما كان.

[مسألة احتياج الوقف إلى نفقة]
وإذا احتاج الوقف إلى نفقة، بأن كان حيوانًا أو أرضًا تحتاج إلى العمارة:
فإن شرط الواقف أن نفقة ذلك من غلة الوقف.. أنفق عليها من غلتها، وما بقي صرف إلى أهل الوقف.
قال ابن الصباغ: وإن شرط الواقف أن تكون نفقتها من ماله.. حمل على ذلك. وإن أطلق ذلك.. أنفق عليه من غلته؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا بذلك.
فإن بطلت منفعته، بأن كان عبدًا فزمن:
فإن قلنا: إن الملك فيه ينتقل إلى الله تعالى.. أنفق عليه من بيت المال، كالحر المعسر.
وإن قلنا: إن الملك فيه ينتقل إلى الموقوف عليه.. كانت نفقته عليه.
وإن قلنا بالقول المخرج: إن ملك الواقف باق عليه.. وجبت نفقته عليه.

[مسألة النظر في الوقف]
وأما النظر في الوقف: فإن جعل الواقف النظر فيه لنفسه أو لغيره.. حمل على ذلك؛ لما ذكرناه من أخبار الصحابة.

(8/100)


وإن لم نجعله إلى أحد: فإن قلنا: إن الملك فيه ينتقل إلى الله.. كان النظر فيه إلى الحاكم.
وإن قلنا: إنه ينتقل إلى الموقوف عليه.. كان النظر فيه إليه.
وإن قلنا بالقول المخرج: إنه باق على ملك الواقف.. كان النظر فيه إليه.
فإن جعل الواقف النظر فيه إلى اثنين من أهل الوقف، ولم يوجد في أهل الوقف من يصلح للنظر إلا واحد.. ضم إليه الحاكم واحدًا؛ لأن الواقف لم يرض إلا بنظر اثنين.

[مسألة وقف على أولاده أرضًا بأيديهم]
إذا وقف على أولاده أرضًا وهي في أيديهم، فاختلفوا فيها:
فقال الذكور: جعلها للذكر مثل حظ الأنثيين، وقال الإناث: بل جعل الذكور فيها والإناث سواء.
أو قال أهل البطن الأول: هي على الترتيب، وقال أهل البطن الثاني: هي على التشريك بيننا وبينكم: فإن كان هناك بينة.. عمل بها، وإن لم تكن هناك بينة، فإن كان الواقف حيًا.. رجع إليه في بيانه؛ لأنه ثبت بقوله، فرجع إليه. وإن كان ميتًا.. حلفوا، وجعلت بينهم بالسوية؛ لأنه لا مزية لقول بعضهم على بعض، فتحالفوا، كما لو اختلف اثنان في ملك دار.

[فرع أرض بعضها وقف والآخر طلق]
إذا كان هناك أرض بعضها وقف وبعضها طلق، فأراد أهل الطلق أن يقاسموا أهل الوقف، والأرض مما يحتمل القسمة، فإن قلنا: إن القسمة بيع.. لم تصح القسمة؛ لأن الوقف لا يصح بيعه، وإن قلنا: إنها فرز النصيبين، ولم يكن فيها رد.. صحت القسمة، وإن كان فيها رد.. نظرت:
فإن كان صاحب الطلق يرد على أهل الوقف.. لم يصح؛ لأنه يعطي عوضًا عن شيء يأخذه من الوقف، وذلك لا يجوز.

(8/101)


وإن كان أهل الوقف يردون على صاحب الطلق.. صح؛ لأنهم يميزون الوقف، ويبذلون العوض عن شيء يملكونه من حق الشريك، وذلك جائز.
وأما قسمة الوقف بين أربابه: فقال سليم وابن الصباغ: لا يصح قولا واحدًا؛ لأنا وإن قلنا إن القسمة فرز النصيبين، إلا أنه يتعلق بها حق البطن الثاني، فلا يجوز لأهل البطن الأعلى التصرف بحقوقه، ولأن ذلك تغيير للوقف، وهو لا يجوز تغييره.

[مسألة أشياء كانت في الجاهلية]
ذكر أصحابنا في تفسير قول الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة: 103] [المائدة: 103] وهذه أشياء كان يفعلها أهل الجاهلية، فورد الشرع بإبطالها.
فأما (السائبة) : فإن الناقة كانت إذا ولدت عشرة بطون كلها إناث متوالية سيبوها إكرامًا لها، فلا تركب ولا يجز وبرها، ولا يشرب من لبنها أحد إلا أن يطرقهم ضيف ولا لبن عندهم فيحلبونها له، فإذا ماتت: أكلها الرجال دون النساء، وكانوا يستحلون أكل الميتة. وقد سمى الفقهاء العبد يعتق بشرط أن لا ولاء عليه سائبة.
وأما (البحيرة) : فهو ولد السائبة بعد أن تسيب، ويكون حكمه حكم أمه.
وإنما سمي بحيرة؛ لأنهم كانوا يشقون أذنه ليعلم أنه ولد السائبة. و (البحر) : الشق. ومنه سمي البحر بحرًا؛ لأن الله تعالى جعله مشقوقًا في الأرض شقًا.
وقيل (البحيرة) : الناقة إذا ولدت خمسة بطون، فتشق أذنها وتسيب. والأول أصح.
وأما (الوصيلة) : فهي الناقة أو الشاة إذا ولدت سبعة بطون، في ست أنثيان أنثيان، وفي السابعة ذكر وأنثى؛ لأنها وصلت الذكر بالأنثى، فيسيبونها ولا يشرب من لبنها إلا الرجال دون النساء.
وأما (الحام) : فقيل: هو الفحل إذا نتج منه عشرة بطون، قيل: قد حمى ظهره، وسيب.

(8/102)


وقيل: هو الفحل الذي نتج ولد ولده، فيسيب ولا ينتفع به، وكانوا يعتقدون ذلك قربة.
قال الشافعي: (وهذا تأويل ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء بإطلاق الحبس، وهو الحبس الذي كانت تفعله الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ولا يعلم أن أحدًا منهم حبس داره أو أرضه) .
والله أعلم وبالله التوفيق

(8/103)