البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الهبة]

(8/105)


كتاب الهبة الهبة: تمليك العين بغير عوض. وهي مندوب إليها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة: 2] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [البقرة: 177] [البقرة: 177]
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تهادوا تحابوا» .

(8/107)


وأجمع المسلمون على استحبابها.
إذا ثبت هذا: فإن الهبة للأقارب أفضل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177] [البقرة: 177] فبدأ بهم، والعرب تبدأ بالأهم فالأهم.
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها.. وصله الله، ومن قطعها.. قطعه الله» .
و (الشجنة) : تروى بضم الشين وكسرها.
وروي: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يقول الله: أنا الله، وأنا الرحمن، وأنا خلقت الرحم، وشققت لها من اسمي، فمن وصلها.. وصلته، ومن قطعها.. بتته» . يعني: قطعته.

(8/108)


وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقتك على غير ذي رحمك صدقة، وصدقتك على ذي رحمك صدقة وصلة» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصدقة: على ذي الرحم الكاشح» يعني: المعادي؛ لأن الصدقة تقطع العداوة وترفعها.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سره أن ينسأ في أجله، ويوسع في رزقه.. فليصل رحمه» .
وفي الهبة صلة للرحم.
فإذا أراد أن يهب أولاده. فالمستحب أن يعمهم، وأن يساوي بين الذكور والإناث. وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأكثر أهل العلم.
وقال شريح: المستحب أن يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين. وبه قال أحمد وإسحاق.
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلا أحدًا.. لفضلت البنات» .

(8/109)


«وروى النعمان بن بشير: أن أباه بشير بن سعد أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أكل ولدك نحلت مثل هذا؟ " قال: لا. قال: " أيسرك أن يكونوا في البر سواء؟ " قال: نعم، قال: " فارجعه ". وروي: " فاردده» .
و (النحلة) - بضم النون وبكسرها - هي: العطية.
قال الشافعي [في " مختصر المزني " (3/122) ] : (ولأن الأقارب ينفس بعضهم بعضًا ما لا ينفس العدا) .
يعني: أن الأقارب يتنافسون ويتحاسدون أكثر من الأجانب، وربما أدى ذلك إلى قطع الرحم. فـ (العدا) - بكسر العين -: الأجانب والأباعد. و (العدا) - بضم العين -: العداوة.

(8/110)


فإن وهب لبعض أولاده دون بعض، أو فاضل بينهم.. صح ذلك، ولم يأثم به، غير أنه قد فعل مكروها، وخالف السنة. وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال طاووس، وأحمد، وإسحاق: (لا تصح الهبة) .
وقال داود: (تصح، ولكن يجب عليه أن يرجع فيها) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث النعمان بن بشير: " فارجعه ". فلولا أن الهبة قد صحت.. لما أمره بالرجعة.
وفي رواية: «أن النعمان بن بشير قال: يا رسول الله! إن أمه قالت: لا أرضى حتى يشهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما قال له ما قال من أنه لم ينحل جميع ولده مثله.. قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أشهد على هذا غيري» فلو لم تصح الهبة.. لما أمره بأن يشهد عليه غيره، وإنما امتنع من أن يشهد على ذلك، لئلا يصير ذلك سنة.
وروي: أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (نحل عائشة جداد عشرين وسقًا من ماله دون سائر أولاده) .
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهب ابنه عاصمًا دون عبد الله وعبيد الله وزيد) . وكذلك روي عن عبد الرحمن بن عوف. ولا مخالف لهم.

(8/111)


ولا يستنكف أن يهب القليل، ولا أن يتهبه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أهدي إلى ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع.. لأجبت» .

[مسألة قبول الهبة والهدية]
الهبة والهدية وصدقة التطوع حكمها واحد، وكل لفظ من هذه يقوم الألفاظ يقوم مقام الآخر، ولا يصح شيء من هذا كله إلا بالإيجاب والقبول، ويكون القبول فيه عقيب الإيجاب، كما قلنا في البيع.
وقال أبو العباس: يصح أن يكون القبول في ذلك متراخيًا عن الإيجاب، لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى إلى النجاشي وكان في أرض الحبشة» .

(8/112)


والأول أصح؛ لأنه تمليك في حال الحياة، فكان القبول فيه على الفور، كالبيع. هذا نقل البغداديين من أصحابنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\353] : الهدية لا تفتقر إلى القبول.
وقال ابن الصباغ: لا تفتقر الهبة والهدية وصدقة التطوع إلى الإيجاب والقبول، بل إذا وجد منه ما يدل على التمليك.. صح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يهدى إليه، فيقبضه، ويتصرف فيه، ولم ينقل في شيء من ذلك أن الرسول أوجب له، ولا أنه قبل. وكذلك: (أهدى إلى النجاشي وكان في أرض الحبشة) . وما نقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالإيجاب والقبول. وكذلك الناس يدفعون صدقات التطوع فيقبضها المدفوع إليهم، ويتصرفون فيها من غير إيجاب وقبول، ولم ينكر هذا منكر، فدل على أنه إجماع.
فإن قيل: فهذه إباحات مال؟ فالجواب: أن الناس أجمعوا على تسمية ذلك هبة، وهدية، وصدقة، ولأن الإباحة تختص بالمباح له، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا أهدي إليه شيء.. يهديه إلى زوجاته وغيرهن، وقد أهديت له حلة، فأهداها لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والمذهب الأول.

(8/113)


[مسألة لزوم الهبة بالقبض]
ولا تلزم الهبة إلا بالقبض: فإذا وهب لغيره عينا.. فالواهب بالخيار: إن شاء أقبض الموهوب له، وإن شاء لم يقبضه. وبه قال الثوري وأبو حنيفة.
وقال مالك: (تلزم الهبة بالإيجاب والقول من غير قبض، فإن امتنع الواهب من الإقباض.. رفعه الموهوب له إلى الحاكم، ليجبره على الإقباض) ، كما قال في الرهن، وقال: (إذا أعار الرجل داره شهرًا.. فقد لزم المعير ذلك، وليس له أن يرجع في العارية قبل انقضاء الشهر) .
دليلنا: ما روي: (أن أبا بكر نحل عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جداد عشرين وسقًا من ماله، فلما حضرته الوفاة.. قال: يا بنية، ما أحد أحب إلي منك ولا أعز علي فقدًا منك) . وفي رواية: (ما أحد أحب إلي غنى منك، ولا أعز علي فقرًا منك، وإني كنت نحلتك جداد عشرين وسقًا من مالي، ووددت أنك جذذته وحزته وقبضته، وإنما هو اليوم مال الوارث، وإنما هم أخواك وأختاك، فاقتسموه على كتاب الله، فقالت: لو كان كذا وكذا - تعني: أكثر - لتركته، أما أخواي.. فنعم، وأما أختاي.. فما لي إلا واحدة: أسماء، فمن الأخرى؟! فقال: إنه قد ألقي في روعي - وفي رواية: أن روح القدس نفث في روعي - أن في بطن بنت خارجة جارية، وكانت زوجة أبي بكر بنت خارجة حاملًا فولدت جارية) .
قال: و (الروع) ـ بضم الراء ـ: الذهن، وـ بفتحها ـ: الزيادة.
ووجه الدلالة من الخبر: أنه كان وهبها في صحته، وإنما لم يقبضها حتى مرض، والإقباض في مرض الموت كالعطية، والعطية للوارث لا تصح.
وقيل: إن الذي كان نحلها ثمرة نخل.

(8/114)


وروي عن عمر: أنه قال: (لا تتم نحلة حتى يحوزها المنحول) .
وروي ذلك: عن عثمان، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، ومعاذ، وأنس، ولا مخالف لهم، فدل على أنه إجماع، ولأنها هبة لم تقبض، فكانت غير لازمة، كما لو مات الواهب قبل أن يقبض الموهوب، فإن وارث الواهب لا يجبر على الإقباض. وقد وافقنا مالك على ذلك.
إذا ثبت هذا: فإن الموهوب له ليس أن يقبض إلا بإذن الواهب، فإن قبض بغير إذنه.. لم يصح القبض.
وقال أبو حنيفة: (إذا قبضه الموهوب له في مجلس الهبة بغير إذن الواهب.. صح القبض، وإن قاما من المجلس.. لم يكن له أن يقبض بغير إذنه) .
دليلنا: أنه لم يأذن له في القبض، فلم يصح له قبضه، كما لو قاما من المجلس قبل أن يأذن له.

[فرع القبض قبل الإيجاب والقبول]
إذا أذن له بقبض العين الموهوبة قبل الإيجاب والقبول.. لم يصح الإذن، كما لو شرط المتبايعان الخيار قبل العقد.
وإن قال: وهبتك هذه الدار، وأذنت لك في قبضها، فقال الموهوب له: قبلت.. ففيه قولان:
أحدهما ـ وهو قول شيخنا الإمام زيد بن عبد الله اليفاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـ: أنه

(8/115)


لا يصح؛ لأنه أذن في القبض قبل تمام العقد.. فلم يصح، كما لو أذن له في القبض قبل العقد.
ولأنه فصل بين الإيجاب والقبول بالإذن، فلم يصح، كما لو فصل بينهما بكلام.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب في " المنهاج "، والشيخ أبو إسحاق في " التعليقة ": بالخلاف- أي- يصح.
ووجه ذلك عندي: أن الإذن شرط في الهبة، فلم يفصل بين الإيجاب والقبول، كذكر الثمن في البيع.

[فرع رجوع الواهب قبل الإقباض]
إذا وهب له عينًا، وأذن له في قبضها، ثم رجع الواهب عن الإذن قبل القبض.. بطل الإذن؛ لأن الإذن يبطل بالرجوع.
وإن وهبه عينًا، ثم باعها الواهب قبل القبض.. قال ابن الصباغ: فإن اعتقد أن الهبة ما تمت.. صح بيعه، وبطلت الهبة. وإن كان يعتقد أن الهبة قد تمت قبل القبض.. فهل يصح بيعه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح بيعه؛ لأنه عقد وهو متلاعب، وأنه ليس ببيع.
والثاني: يصح؛ لأنه بيع صادف ملكه.
وإذا قبض الموهوب له العين الموهوبة بإذن الواهب.. فقد ملكها، ومتى يملكها؟ فيه وجهان:

(8/116)


[أحدهما] : من أصحابنا من قال: تبين الملك أنه ملك بالعقد، فإن حدث في العين الموهوبة نماء بعد العقد وقبل القبض.. كان ملكًا للموهوب له؛ لأن الشافعي قال: (لو وهب له عبدا قبل أن يهل هلال شوال، وقبضه بعدما أهل.. فإن زكاة الفطر على الموهوب له) .
والثاني- وهو المنصوص -: (أنه ملكه من حين القبض) .
فعلى هذا: يكون النماء الحادث بعد العقد وقبل القبض للواهب؛ لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض، فلا يقع الملك للموهوب قبله، كما لا يملك قبل تمام العقد.
وما حكي عن الشافعي: فإنما فرعه على مذهب مالك. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\354] هذين الوجهين قولين.

[فرع موت الواهب قبل الإقباض]
إذا مات الواهب بعد العقد وقبل القبض.. فهل تبطل الهبة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تبطل الهبة؛ لأنها عقد غير لازم، فبطلت بالموت، كالوكالة.
والثاني- وهو المنصوص -: (أنها لا تبطل) ؛ لأنها عقد يؤول إلى اللزوم، فلم تبطل بالموت، كالبيع بشرط الخيار. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\353] : إذا مات أحدهما بعد العقد وقبل القبض، فإن قلنا: إنها تملك بالقبض.. بطل العقد. وإن قلنا: تبين بالقبض أنه ملك بالعقد.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل العقد؛ لأن القبض ركن في الهبة، كما أن القبول ركن في البيع، ومعلوم أن البيع يبطل بموت أحدهما بعد الإيجاب وقبل القبول، فكذلك هذا مثله.
والثاني: لا يبطل. وهو الأصح؛ لأن العقد قد تم إلا أن إمضاءه موقوف على القبض، فصار كالبيع بشرط الخيار.

(8/117)


[فرع أذن بالقبض ثم مات]
إذا أذن له في القبض، ثم مات الواهب أو الموهوب له قبل القبض، وقلنا: لا تبطل الهبة.. بطل الإذن؛ لأنه جائز، فبطل بالموت.
قال أبو العباس: إذا بعث رجل مع رجل هدية إلى رجل، فمات المهدي قبل أن يقبض المهدى إليه الهدية.. كان ذلك لورثة المهدي.
وكذلك إذا اشترى الحاج هدايا لأهل بيته وأصدقائه، فمات قبل أن يصل.. كان ذلك لورثته؛ لأن ملكه لم يزل عن ذلك كله.

[فرع وهبه وأقبضه ثم نكل]
] : إذا قال: وهبت داري هذه من فلان، وأقبضته إياها، فصدقه المقر له.. قُبِل إقراره، وحكم للموهوب له بملك الدار.
فإن قال الواهب: لم أكن أقبضته، فحلفوه أني أقبضته:
قال الشافعي: (أحلف المقر له، لجواز أنه لم يكن أقبضه) .
وإن قال: وهبت له هذه الدار، وخرجت إليه منها.. قال الشافعي: (لم يكن ذلك إقرارًا منه بالقبض؛ لأن قوله: خرجت إليه منها يحتمل أنه أراد بالهبة) .
وإن قال: وهبت له هذه الدار وملكها.. لم يكن إقرارا منه بالقبض، لجواز أن يعتقد أن القبض ليس بركن في الهبة، وأنه لا يفتقر إليه في لزوم الهبة على مذهب مالك.

[فرع كساه ولم يرد الهبة]
قال الطبري: إذا قال رجل لآخر: كسوتك هذا الثوب، ثم قال: لم أرد الهبة.. قبل قوله. وقال أبو حنيفة: (لا يقبل) .
دليلنا: أن هذا اللفظ يصلح للإعارة والهبة، فهو كما لو قال: حملتك على دابتي، أو أخدمتك جاريتي.

(8/118)


وإن قال: أطعمتك هذا الطعام، فاقبضه، ثم قال: ما أردت به الهبة.. فهل يقبل قوله؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يقبل. وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه لا يطعم إلا ما ملكه.
والثاني: يقبل؛ لأن اللفظ يصلح للإباحة دون التمليك، فهو كما لو قال: أطعمتك أرضي.
وإن قال لرجل: لك هذه الأرض، فاقبضها.. لم يكن صريحًا في الهبة.
وقال أبو حنيفة: (يكون صريحًا فيها) .
دليلنا: أن هذا اللفظ يصح من غير مالك على وجه الخبر، فهو كما لو قال: هذه الدار لك، ولم يقبضها.
وإن قال: منحتك هذه الدار، أو هذا الثوب، وقال: قبلت، وأقبضه.. كان ذلك هبة.
وقال أبو حنيفة: (لا يكون هبة إلا أن يريدها، وتكون عارية) .
دليلنا: أنه لفظ يصلح للتمليك، فكان صريحًا في التمليك، كلفظ الهبة.

[مسألة ما صح هبة كله صح هبة بعضه]
] : كل عين صحت هبتها.. صح هبة جزء منها مشاع. وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (إن كانت مما لا ينقسم كالعبد والدابة والثوب وما أشبهها.. صحت هبة جزء منها مشاع. وإن كانت مما ينقسم كالدار والأرض والطعام.. لم يصح هبة جزء منها مشاع من الشريك ولا من غيره) .
قال: (وإن كان بين رجلين دار فوهباها لرجل بينهما.. صحت الهبة. وإن وهب الرجل داره لرجلين.. لم يصح) .

(8/119)


وقال أبو يوسف ومحمد: يصح هاهنا، وإجارة المشاع عند أبي حنيفة لا تصح من الشريك ولا من غيره، ورهن المشاع عنده لا يصح بحال.
دليلنا: ما روى أبو قتادة قال: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتينا الروحاء، فوجدنا حمار وحش معقورًا، فأردنا أخذه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دعوه، فإنه يوشك أن يجيء صاحبه " فجاء رجل من فهر - وكان هو الذي عقره- فقال: هو لكم يا رسول الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر: " اقسمه بين الناس» . فوجه الدليل من الخبر: أن الرجل وهب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه الحمار مشاعا، فدل على جواز هبة المشاع، ولأنه مشاع يصح بيعه.. فصحت هبته، كالذي لا ينقسم.
إذا ثبت هذا: فإن كان الموهوب مما لا ينقل ولا يحول، كالأرض والدور:
قال الشيخ أبو حامد: فإن القبض فيه أن يخلي بينه وبينه فيحضره إياه، ويقول: خليت بينك وبينه فتسلمه.
وإن كان مما ينقل ويحول.. فإن القبض لا يحصل فيه إلا بالنقل، فإن رضي الشريك الذي لم يهب أن يكون ذلك الشيء في يد الموهوب له.. جاز، فيكون نصفه له ونصفه وديعة. وإن لم يرض الشريك الذي لم يهب بذلك، فإن وكل الموهوب له الشريك ليقبض له.. صح. وإن لم يرض واحد منهما.. نصب الحاكم أمينًا ليقبض ذلك الشيء، وينقله، ويكون في يده أمانة للموهوب والشريك.

[فرع الهبة لرجلين]
وإن وهب رجل لرجلين شيئًا، فقبل أحدهما دون الآخر.. صحت الهبة في نصفه للذي قبل؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين.

(8/120)


[فرع ما لا يصح بيعه لا تصح هبته]
] : وما لا يصح بيعه من المجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملكه عليه.. لا تصح هبته؛ لأنه عقد تمليك في حال الحياة، فلم يصح فيما ذكرناه، كالبيع.
فإن وهبه عينًا مجهولة.. لم تصح الهبة.
وقال مالك: (تصح الهبة) .
دليلنا: أنه تمليك لا يتعلق بخطر، فلم يصح في المجهول، كالبيع. وقوله: (بخطر) احتراز من الوصية.
وإن وهب المغصوب منه العين المغصوبة منه للغاصب.. صحت الهبة. وهل تفتقر إلى الإذن بالقبض؟ على وجهين. مضى ذكرهما في الرهن.
وإن وهبها لغير الغاصب ممن يقدر على انتزاعها من الغاصب.. صحت الهبة، فإذا أذن له في القبض، فقبضه. لزمت الهبة. وإن وكل الغاصب في القبض له، فمضى زمان يمكن فيه القبض.. صارت مقبوضة للموهوب له، وزال الضمان عن الغاصب؛ لأن الملك الذي صار مضمونًا زال، وصار مقبوضًا لمالك آخر بإذنه، بخلاف ما إذا وهبه الغاصب، وأذن له في قبضه.. فإن الضمان لا يزول عنه؛ لأن الملك باق لم يزل.
وإن وهب المعير العين المستعارة منه للمستعير.. صحت الهبة. فإن أذن له في القبض، ومضى زمان الإمكان.. صار مقبوضًا عن الهبة.
وإن وهبها لغير المستعير.. صحت الهبة، فإن وكله في القبض، ومضى زمان الإمكان.. صارت مقبوضة للموهوب له، وبطلت العارية، لزوال ملك المعير.

[فرع هبة العين المؤجرة]
وإن وهب المؤاجر العين المستأجرة لغير المستأجر.. ففيه وجهان، بناء على القولين في جواز بيعها:

(8/121)


فإن قلنا: تصح هبتها.. فهل تصح هبة العين المرهونة بغير إذن المرتهن؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\353] .
أحدهما: يصح، كما تصح هبة المستأجر، ولا يبطل الرهن، بل إذا انفك الرهن.. سلم في الهبة، كما تسلم العين المستأجرة بعد انقضاء الإجارة.
والثاني: لا تصح الهبة؛ لأن الهبة تصرف بإزالة الملك، والراهن ممنوع من التصرف بما يزيل الملك، كما لا يجوز له بيع الرهن.
وهل تصح هبة الأرض المزروعة دون زرعها؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ".

[فرع تعليق الهبة على شرط مستقبل]
ولا يجوز تعليق الهبة على شرط مستقبل، كما قلنا في البيع.
وهل تبطل الهبة بالشروط الفاسدة؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما: تبطل- وهو المشهور - كما قلنا في البيع.
والثاني: تصح الهبة ويبطل الشرط، كما قلنا في العمرى والرقبى. فإذا قلنا بهذا: فوهبه جارية حاملا، واستثنى الواهب حملها.. بقي الحمل للواهب.

[مسألة يقبل الهبة للصبي وليه]
قال الشافعي: (ويقبض للطفل أبوه) .
وجملة ذلك: أنه إذا وهب غير ولي الطفل للطفل هبة: فإن كان له أب أو جد، وكان عدلًا.. قبل له الهبة، وقبض له؛ لأنه هو المتصرف عنه. وإن كان فاسقًا.. لم يصح قبوله ولا قبضه؛ لأنه لا ولاية له عليه مع الفسق.
وإن لم يكن له أب ولا جد، وكان الناظر في ماله الوصي من قبلهما، أو الأمين من قبل الحاكم.. قبل له الهبة، وقبض له؛ لأنه المتصرف عنه.
وإن كان الواهب للطفل هو وليه: فإن كان الولي عليه الوصي، أو الحاكم، أو

(8/122)


أمينه.. لم يصح قبوله له من نفسه ولا قبضه، بل ينصب له الحاكم أمينا ليقبل له الهبة، ويقبض له؛ لأنه لا يصح أن يبيع ماله بماله، فلم يصح قبوله له.
وإن كان وليه أباه أو جده.. صح أن يقبل له الهبة من نفسه؛ لأنه يجوز له أن يبتاع ماله بماله.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\352] : وهل يفتقر إلى أن يتلفظ بالإيجاب والقبول، أو يكفيه أحدهما؟ فيه وجهان، والمشهور: أنه لا بد أن يتلفظ بهما.
وأما القبض:
فإن قلنا: إنه إذا وهب لغيره وديعة في يده لا تحتاج إلى القبض.. صار ذلك مقبوضًا له. وإن قلنا: لا بد من القبض في هبة الوديعة.. فلا بد أن يقول هاهنا: وقبضت له من نفسي.
وإن وهب الرجل لابنه البالغ.. لم يصح حتى يقبل الابن الهبة، أو وكيله. فإن قبل له الأب الهبة.. لم يصح.
وقال ابن أبي ليلى: يصح إذا كان يعوله.
دليلنا: أنه لا ولاية له عليه بعد البلوغ، فلم يصح قبوله له، كما لو كان لا يعوله.

[فرع الهبة للغائب لا يقبضها الوكيل]
] : قال أبو العباس: فإن وهب رجل لرجل غائب هبة، فوكل الواهب رجلًا ليقبل الهبة للغائب منه، ويقبضها منه.. لم يصح؛ لأن الواهب لا ولاية له على الغائب، فلم يصح توكيله عنه.

(8/123)


[مسألة رجوع الأصل في هبته لفرعه]
] : وإذا وهب أحد الأبوين لولده شيئًا.. جاز له الرجوع فيه، سواء أقبضه إياه، أو لم يقبضه.
وكذلك إذا وهب أحد الأجداد، أو الجدات من قبل الأب، أو الأم وإن علا شيئًا لولد الولد وإن سفل، وأقبضه.. فله أن يرجع عليه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا، وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
وحكى الخراسانيون: أن الجدات من قبل الأب والأم، والأجداد من قبل الأم، هل يصح لهم الرجوع فيما وهبوه لولد الولد؟ فيه قولان؛ لأنهم لا يملكون التصرف في مال الولد بأنفسهم، فليس لهم الرجوع في الهبة.
وقال أبو العباس بن سريج: إنما يرجع الأب في هبته لولده إذا قال: إنما قصدت بالهبة ليزيد في بري، أو يترك عقوقي، ولم يفعل. فأما إذا أطلق الهبة. فإنه لا يرجع فيها.
والمشهور من المذهب: هو الأول.
وقال أبو حنيفة والثوري: (إذا وهب الوالد لولده، وأقبضه.. لم يكن له أن يرجع عليه) .
وقال مالك (إذا وهب الوالد لولده هبة، فإن ظهر نفعها للولد، بأن أمنه الناس فبايعوه أو زوجوه.. لم يكن له أن يرجع عليه، وإن لم يظهر نفعها له.. جاز له الرجوع عليه) .
دليلنا: حديث النعمان بن بشير: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: " فارجعه ".
وروى ابن عباس وابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لرجل أن يعطي عطية،

(8/124)


أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما وهب لولده» .
فأما إذا وهب لغير ولده، أو ولد ولده، وإن سفل.. فليس له أن يرجع في هبته له بعد إقباضه له، سواء كان ذا رحم محرم، أو أجنبيًا.
وقال أبو حنيفة: (إذا وهب لذي رحم محرم، بحيث لو كان أحدهما أنثى والآخر ذكرًا.. لم يحل له نكاحها، مثل: أن يهب لأبيه، أو لجده، أو لعمه، أو لخاله.. لم يجز له أن يرجع عليه بعد الإقباض، وهكذا إذا وهب أحد الزوجين للآخر. وإن وهب لغير ذي رحم محرم، مثل أن يهب لابن عمه، أو لابن خاله، أو لابنة عمه، أو كان أجنبيًا منه.. فيجوز له أن يرجع عليه في هبته له بعد الإقباض) ، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (من وهب لذي رحم محرم هبة.. فليس له أن يرجع فيها، ومن وهب لغير ذي رحم محرم.. فله أن يرجع عليه إلا أن يثيبه عليه) .
دليلنا: ما روى ابن عباس، وابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل للرجل أن يعطي عطية، أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما أعطى ولده. ومثل الراجع في هبته كمثل الكلب قاء بعد ما شبع، ثم رجع في قيئه» وهذا أولى من حديث عمر.
وقد روي عن ابن عمر، وابن عباس ما يخالف قول عمر أيضًا.

(8/125)


[فرع الصدقة على الولد]
وإن تصدق على ابنه وأقبضه.. فهل يثبت له الرجوع عليه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يصح رجوعه عليه؛ لأن المقصود بالصدقة القربة إلى الله تعالى، فلم يصح له الرجوع فيها بعد لزومها، كالعتق، والقصد بالهبة صلة الرحم، وإصلاح حال الولد.
والثاني - وهو المنصوص في " حرملة " -: (أن له أن يرجع؛ لأن الصدقة تفتقر إلى ما تفتقر إليه الهبة، من الإيجاب والقبول والإذن بالقبض، والقبض) فكان حكمها حكم الهبة في الرجوع، بخلاف العتق.
وإن تداعى رجلان نسب مولود، ووهبا له قبل أن يلحق بأحدهما.. لم يجز لأحدهما أن يرجع عليه؛ لأن بنوته لم تثبت من أحدهما. فإن لحق بأحدهما.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز له الرجوع عليه؛ لأن بنوته ثبتت منه.
والثاني: لا يجوز له الرجوع عليه؛ لأنه كان لا يجوز له الرجوع عليه في حال العقد.

[فرع وهب الولد فمات فورثه ابنه]
وإن وهب الرجل لولده هبة، وأقبضه إياها، ثم وهبها الولد لولده، أو مات الولد وورثه ولده. فهل يجوز للجد أن يرجع فيها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز له الرجوع فيها؛ لأن للجد أن يرجع على ولد الولد فيما وهب له وهي في ملكه.
والثاني: لا يرجع فيها، وهو الأصح؛ لأن الملك لم ينتقل منه إليه، فهو كما لو وهب لأجنبي، ثم وهبها الأجنبي لابن الواهب.

(8/126)


وإن ابتاعها الولد من والده.. لم يرجع الجد فيها وجهًا واحدًا؛ لأنه إذا لم يثبت الرجوع فيها لمن انتقل منه الملك بها، فلأن لا يثبت لمن انتقل منه بها الملك إلى الواهب أولى.
وإن وهب الرجل لولده شيئًا، وأقبضه إياه فوهبها هذا الولد لأخيه من أبيه.. فينبغي أن لا يثبت للأب فيها الرجوع وجهًا واحدًا؛ لأنه إذا لم يثبت الرجوع لمن انتقل منه الملك، فلأن لا يثبت لمن انتقل منه إلى الواهب أولى.

[فرع وهب لولده فأفلس وحجر عليه]
وإن وهب لولده شيئًا، وأقبضه إياه، فأفلس الولد وحجر عليه.. فهل للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده قبل أن يقسم على الغرماء؟ فيه وجهان.
أحدهما: له أن يرجع فيه؛ لأن حقه أسبق.
والثاني: لا يجوز له الرجوع فيه، وهو الأصح؛ لأن بالحجر تعلقت به حقوق الغرماء، فهو كما لو رهنها الولد.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\354] : فإن ارتد الابن الموهوب له:
فإن قلنا: إن ملكه باق.. فللأب أن يرجع عليه.
وإن قلنا: إن ملكه قد زال بالردة.. فليس للأب الرجوع عليه في حال ردته.
فإن عاد للإسلام.. فهل له الرجوع عليه؟ على الوجهين في الولد إذا أفلس.
وإن قلنا: إن ملكه موقوف، فإن عاد إلى الإسلام.. فللأب الرجوع؛ لأنا تبينا أن ملكه لم يزل.

(8/127)


[فرع زيادة الهبة في يد الولد]
] : وإذا وهب لولده عينًا وأقبضه إياها، فزادت في يد الولد. نظرت:
فإن كانت زيادة غير منفصلة عنها، بأن كان عبدًا فسمن، أو تعلم القرآن، أو كانت جارية فسمنت، أو تعلمت صنعة.. فللوالد أن يرجع في العين وزيادتها.
وحكى الطبري وجها لبعض أصحابنا: أنه لا يملك الرجوع هاهنا، وهو قول محمد بن الحسن.
وقال أبو حنيفة: (لا يرجع إلا أن تكون الزيادة تعلم قرآن، أو إسلامًا، أو قضاء دين، فلا تمنع الرجوع) .
دليلنا: أنها زيادة في الموهوب، فلا تمنع الرجوع، كما لو حدثت قبل القبض.
وإن كانت زيادة منفصلة، بأن وهبه نخلة، فأطلعت في يده وأبرها، ثم رجع الوالد.. كانت الثمرة للولد؛ لأنها زيادة حدثت في ملك الولد، فلم تتبع الأصل، كما قلنا في الرد بالعيب.
فأما إذا وهبه شاة، أو بقرة حاملًا: فإن رجع الوالد قبل الوضع.. رجع في البهيمة وحملها. وإن وضعت في يد الولد:
فإن قلنا: للحمل حكم.. رجع الوالد فيهما.
وإن قلنا: لا حكم للحمل.. رجع في الأم دون الولد.
وإن وهبها وهي حائل فحملت في يد الوالد: فإن ولدت في يد الولد.. رجع الولد في الأم دون الولد؛ لأنه نماء حدث في يد الولد. وإن رجع فيها قبل الوضع:
فإن قلنا: للحمل حكم.. رجع الوالد في الأم دون الولد.
وإن قلنا: لا حكم للحمل.. رجع الوالد فيها.

(8/128)


[فرع وهب ولده عينا فأتلفها]
] : وإن وهب لولده عينا، وأقبضه إياها، فأتلفها الولد، بأن كان طعاما فأتلفه، أو عبدا فقتله.. لم يكن للأب أن يرجع فيها؛ لأن حقه يتعلق بالعين، والعين غير موجودة، ولا يرجع في قيمتها؛ لأن حقه يتعلق بالعين دون القيمة.
وهكذا: لو كانت العين باقية، إلا أنها قد نقصت في يد الولد.. رجع الوالد فيها، ولا يرجع بأرش ما نقصت، كما لا يرجع في قيمتها إذا كانت تالفة.
وهكذا: لو كان في معنى الإتلاف، بأن كان عبدا فأعتقه، أو كانت جارية فاستولدها الولد؛ لأن العين باقية، وإنما تلف الرق.. فليس للوالد أن يرجع في العين ولا في قيمتها.
وإن تصرف الولد في العين تصرفا لم يتلفها به.. نظرت:
فإن كان تصرفا لا يقطع تصرف الابن، بأن كانت أمة فزوجها الابن، أو أجرها، أو دبرها، أو أعتقها بصفة.. فللأب أن يرجع فيها؛ لأن تصرف الابن لم ينقطع فيها، فإذا رجع.. لم يبطل النكاح، ولا الإجارة، ولكن إذا انقطعا.. رجعت المنفعة للأب.
وأما التدبير والعتق بالصفة: فيبطلان؛ لأن ملك الابن قد زال.
وإن كان تصرف الابن قد انقطع عن العين، بأن باع العين، أو وهبها وأقبضها.. لم يكن للأب أن يرجع؛ لأن تصرف الابن يصح فيها، فهي كما لو تلفت.
فإن عادت العين إلى الابن ببيع، أو هبة، أو إرث.. فهل للأب أن يرجع فيها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع؛ لأن العين موجودة في ملك الابن.
والثاني: لا يرجع.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأن ملك الابن لم يكن من جهة الأب.

(8/129)


فإن قلنا بالأول: وكان الابن قد اشتراها بثمن في ذمته، وأفلس، وقلنا: إن الإفلاس لا يمنع الأب من الرجوع، والابن لم يدفع ثمن العين.. فإن بائعها أحق بها من الأب ومن الغرماء؛ لأن حق البائع تعلق بها من جهة البيع.
وإن كان تصرف الابن انقطع عن العين انقطاعا مراعى، بأن كان قد رهنه، أو كان عبدا فكاتبه.. فليس للأب أن يرجع فيه في الحال؛ لأن الابن لا يصح تصرفه فيه في هذه الحالة، فكذلك الأب.
فإن فك الرهن، أو عجز المكاتب ففسخت الكتابة.. كان للأب أن يرجع؛ لأن ملك الابن قد عاد إليه. هذا هو المشهور.
وحكى القاضي أبو الطيب في " المجرد " وجها آخر في المكاتب: أنه إذا عجز ورق.. كان كما لو باعه، ثم رجع إليه؛ لأن الكتابة تقطع تصرفه فيه، كما لو باعه والأول أصح.

[فرع جناية العبد الموهوب في يد الابن]
وإن جنى العبد في ملك الابن فتعلق الأرش برقبته:
قال القاضي أبو الطيب: فليس للأب أن يرجع فيه؛ لأن تعلق الأرش برقبته حق، فهو كما لو رهنه الابن.
قال: فإن بذل الأب فكه ليرجع فيه.. كان له ذلك. ولو كان مرهونا فبذل الأب فكه ليرجع فيه.. لم يكن له.
والفرق بينهما: أن فك الرهن فسخ لعقد الموهوب له، فلم يكن له ذلك، وهاهنا لم يتعلق به حق من جهة العقد.

[فرع ارتجاع الموهوب من الولد]
والرجوع هو أن يقول الأب: ارتجعتها منك، أو رجعت فيما وهبته لك. ولا يفتقر إلى قضاء قاض.

(8/130)


وقال أبو حنيفة: (لا يصح الرجوع إلا بقضاء قاض) .
دليلنا: أنه خيار في فسخ عقد، فلا يفتقر إلى قضاء قاضٍ، كفسخ العقد في خيار الثلاث.
وإن كان الموهوب جارية فوطئها الأب.. فهل يكون رجوعا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكون رجوعا، كما لو وطئ البائع الجارية المبيعة بشرط الخيار، في حال الخيار.
والثاني: لا يكون رجوعا؛ لأن ملك الابن ثابت عليها، فلا يزول إلا بصريح الرجوع، بخلاف المبيع.
فإن باع الأب العين الموهوبة، أو وهبها، وأقبضها.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها المسعودي [في " الإبانة " ق\355] :
أحدها - وهو الأصح -: أن الرجوع والبيع يصحان.
والثاني: أن البيع والهبة لا يصحان، ولا يصح الرجوع.
والثالث: أن الرجوع يصح، ولا يصح البيع والهبة.

[مسألة الواهبون على ثلاثة أضرب]
الواهبون على ثلاثة أضرب:
أحدها: هبة الأعلى للأدنى، مثل: أن يهب السلطان لبعض الرعية، أو يهب الغني للفقير.
قال الشيخ أبو حامد: أو يهب الأستاذ لغلامه، فهذه لا تقتضي الثواب؛ لأن القصد من هذه الهبة القربة إلى الله تعالى، دون المجازاة.
والثاني: هبة النظير للنظير، كهبة السلطان لمثله، أو الغني لمثله، فهذه لا تقتضي الثواب أيضا؛ لأن القصد بهذه الهبة الوصلة والمحبة.
والثالث: هبة الأدنى للأعلى، مثل: أن يهب بعض الرعية للسلطان شيئا، أو يهب الفقير للغني، أو يهب الغلام لأستاذه.. ففيه قولان:

(8/131)


قال في القديم: (يلزمه أن يثيبه) . وبه قال مالك؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (من وهب هبة يرجو ثوابها.. فهي رد على صاحبها ما لم يثب عليها) .
وروي: أن رجلا سأل فضالة بن عبيد، فقال: إني أهديت إلى رجل بازيا فلم يثبني عليه، فقال: إن أثابك وإلا فارجع وخذ بازيك.
ولأن العرف والعادة: أن من وهب لمن أعلى منه، إنما يقصد به الثواب من المال، فصار هذا العرف كالشرط.
وقال في الجديد: (لا يلزمه أن يثيبه) . وبه قال أبو حنيفة، وهو الأصح؛ لأنه تمليك بغير عوض، فلم يقتض ثوابا كهبة الأعلى لمن هو دونه. وما روي عن عمر وفضالة بن عبيد، فقد روي عن ابن عباس وابن عمر خلافه. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: إذا وهب لمن هو في مثل حاله.. فهل يقتضي إطلاق الهبة الثواب؟ فيه قولان.
ومنهم من قال: إذا أطلق الهبة، فإن كان قد نوى الثواب.. استحقه، وإن لم ينو.. فهل يستحقه؟ فيه قولان.
فإن قلنا: لا يستحق إلا مع النية، فاختلفا: هل نوى أم لا؟ ففيه وجهان:
أحدهما: أن القول قول الواهب؛ لأن الأصل أنه لم يرض بزوال ملكه بغير عوض.
والثاني: أن القول قول الموهوب له؛ لأن الأصل عدم النية. والمشهور: طريقة البغداديين.

(8/132)


فإذا قلنا بقوله الجديد، وأن الهبة لا تقتضي الثواب.. نظرت:
فإن وهب لمن هو أعلى منه من غير شرط الثواب، فوهب الموهوب له للواهب هبة.. كان ذلك ابتداء عطية تلزم بالقبض. وإن خرج أحدهما معيبا أو مستحقا.. لم يرجع صاحبها بهبته.
وإن وهبه بشرط الثواب: فإن كان ثوابا مجهولا.. بطلت الهبة؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الهبة، ولأنه شرط ثوابا مجهولا، فلم يصح، كالبيع بثمن مجهول، فإن قبضها الموهوب له.. كان حكمه حكم البيع الفاسد.
وإن شرط ثوابا معلوما.. فهل تصح الهبة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تصح الهبة؛ لأنه شرط ينافي مقتضاها، فلم تصح، كما لو عقد النكاح بلفظ الهبة.
فعلى هذا: إذا قبضه كان حكمه حكم البيع الفاسد.
والثاني: تصح الهبة، ويلزم الموهوب الثواب المشروط؛ لأن الهبة تمليك العين، وقد ثبت أنه لو قال: ملكتك هذه العين، ولم يذكر العوض.. كان هبة. ولو قال: ملكتكها بدينار.. صح وكان بيعا، فكذلك الهبة بالعوض.
فإذا قلنا بهذا: فحكمه حكم البيع الصحيح في خيار المجلس، والثلاث، والرد بالعيب والشفعة. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: هل حكمه على هذا القول حكم البيع أو حكم الهبة؟ فيه قولان:
أحدهما: حكمه حكم البيع اعتبارا بالمعنى؛ لوجود العوض فيه.
والثاني: حكمه حكم الهبة اعتبارا باللفظ.

(8/133)


وإن قال: وهبتك درهما بدرهمين.. لم يصح على الطريقين؛ لأنه ربا.
وإن قلنا بقوله القديم.. نظرت: فإن أطلق ولم يشرط الثواب.. فالموهوب له بالخيار: بين أن يثيبه، وبين أن يرد الموهوب:
فإن اختار أن يثيبه: ففي قدر ما يلزمه ثلاثة أقوال:
أحدها: يلزمه أن يثيبه إلى أن يرضى الواهب؛ لما روى أبو هريرة: «أن أعرابيا أهدى للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناقة، فأعطاه بدلها ثلاثا، فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثا، فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثا، فرضي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دوسي» .
والثاني: يلزمه أن يثيبه بقدر قيمته. وهو قول مالك؛ لأن كل عقد اقتضى العوض إذا لم يسم فيه عوض.. وجبت فيه قيمة المعوض، كالنكاح.
والثالث: يلزمه أن يثيبه ما يكون ثوابا لمثله في العادة؛ لأن هذا الثواب وجب بالعرف، فوجب قدره بالعرف.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\356] وجها آخر: أنه يلزمه أن يثيبه ما يقع عليه الاسم؛ لأنه رضي بزوال ملكه بعوض، وقد يشتري الشيء النفيس بالثمن القليل.

(8/134)


فإن لم يثبه الموهوب.. فللواهب أن يرجع في العين الموهوبة إن كانت باقية؛ لأنه لم يرض بزوال ملكه عنها إلا بعوض، ولم يحصل العوض. فإن كانت زائدة زيادة متصلة.. رجع فيها وبزيادتها. وإن كانت زائدة زيادة منفصلة.. رجع فيها دون الزيادة، كما قلنا في هبة الأب لولده.
وإن كانت العين تالفة.. فهل يرجع عليه بقيمتها؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يرجع عليه بقيمتها؛ لأنها تلفت في ملكه، فهو كما لو وهب الأب لابنه عينا وتلفت في يده.
والثاني: يرجع عليه بقيمتها؛ لأنه ملكها بعوض، فإذا تلفت.. ضمنها بقيمتها. والمذهب الأول.
وإن وجد العين وقد نقصت في يد الموهوب له.. رجع الواهب فيها، وهل يرجع عليه بأرش النقص؟ على الوجهين.
وإن وهبه بشرط الثواب:
فإن كان ثوابا مجهولا، بأن قال: وهبتك على أن تثيبني، فقال: قبلت.. صحت الهبة؛ لأن الهبة تقتضي الثواب، وشرطه تأكيد.
وإن شرط ثوابا معلوما.. فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تصح؛ لأن الهبة تقتضي ثوابا مجهولا، فإذا شرط ثوابا معلوما، فقد شرط ما ينافي مقتضاها، فلم يصح.
والثاني: يصح؛ لأن الهبة إذا صحت بشرط الثواب المجهول.. فلأن تصح مع المعلوم أولى.

(8/135)


[فرع اختلفا على طلب البدل]
] : وإن اختلفا فقال الواهب: وهبتك ببدل، وقال الموهوب له: وهبتني بغير بدل.. ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول الواهب مع يمينه؛ لأنه لم يقر بخروج ملكه إلا ببدل.
والثاني: القول قول الموهوب له؛ لأن الأصل براءة ذمته وعدم شرط البدل.
وإن وهبه جارية هبة تقتضي الثواب، فقبضها الموهوب له، ووطئها، ولم يثب الواهب.. فللواهب أن يرجع في جاريته، ولا مهر على الموهوب له؛ لأنه وطئها في ملكه، فهو كما لو وهب الأب لابنه جارية فوطئها الابن ثم رجع الأب عليه، فإنه لا مهر عليه.
وإن وهب له ذهبا أو فضة هبة تقتضي الثواب، فإن أثابه من جنس الأثمان.. نظرت:
فإن كان قبل التفرق.. صح ذلك، ويعتبر التساوي بينهما إن كانا من جنس واحد، كما قلنا في البيع.
وإن كان بعد التفرق.. بطلت الهبة؛ لأن ذلك معاوضة.
وإن أثابه من غير جنس الأثمان.. جاز، سواء كان قبل التفرق أو بعد التفرق، كالبيع.
والله أعلم وبالله التوفيق

(8/136)


[باب العمرى والرقبى]
العمرى: نوع من الهبة تفتقر إلى الإيجاب والقبول، ولا تلزم إلا بالقبض، ولا يصح القبض فيها إلا بإذن الواهب.
وفي العمرى ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يقول: أعمرتك داري هذه، وجعلتها لك حياتك، أو عمرك، ولعقبك بعدك. فإذا قال الآخر: قبلت، وأذن له في القبض، فقبض.. صح، وكان ذلك هبة. وبه قال أكثر الفقهاء.
ومن الناس من قال: لا تجوز العمرى؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تعمروا ولا ترقبوا» .
وقال مالك: (يكون للمعمر في حياته ولعقبه، فإذا انقضى.. رجعت إلى المعمر) .
ودليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العمرى جائزة» . وروى

(8/137)


جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعمر شيئا له ولعقبه.. فهو للذي يعطاها؛ لا يرجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث» .
يعني: أنه ورث عن المعطي.
وفي رواية أخرى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تعمروا، ولا ترقبوا، فمن أعمر شيئا، أو أرقبه.. فهو سبيل الميراث» .
وأما النهي: فإنما نهى عما كان يفعله أهل الجاهلية، وهو أنهم كانوا يجعلونها للمعمر في حياته، فإذا مات.. رجعت إلى المعمر.
المسألة الثانية: إذا قال: أعمرتك هذه الدار، أو جعلتها لك عمرك، أو ما عشت، أو ما حييت، وأطلق.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في الجديد: (تصح، وتكون للمعمر في حياته، ولورثته من بعده، ولا ترجع إلى المعطي) . وبه قال أبو حنيفة، وهو الأصح؛ لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعمر شيئا.. فهو له ولعقبه» .
وروى جابر: «أن رجلا من الأنصار أعطى أمه حديقة، فماتت، فقال: أنا أحق بها؛ لأني أعطيتها مدة حياتها، فقال إخوته: نحن فيها شركاء، فاختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعلها ميراثا بينهم» .

(8/138)


وأما القول القديم: فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق المروزي: قوله القديم: (إنها تكون للمعمر في حياته، فإذا مات.. رجعت إلى المعطي) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعمر شيئا له ولعقبه.. فهو للذي يعطاها؛ لأ ترجع إلى الذي أعطاها» فدليل خطابه أنه إذا لم يشترط لعقبه.. فإنها ترجع إلى الذي أعطاها.
وقال أكثر أصحابنا: قوله القديم: (إن العطية تكون فاسدة) لأنه تمليك عين وقته، فلم يصح، كما لو قال: أعمرتك هذا شهرا، أو بعتك هذا شهرا.
المسألة الثالثة: إذا قال: أعمرتك هذه الدار، أو جعلتها لك حياتك، أو عمرك، فإذا مت عادت إلي إن كنت حيا، وإلى ورثتي إن كنت ميتا.. فهي كالثانية على قولين:
[الأول] : على القول الجديد: تكون للمعمر في حياته، ولورثته بعده.
و [الثاني] : على ما حكاه أبو إسحاق عن القديم: تكون على ما شرط للمعمر في حياته، فإذا مات.. رجعت إلى المعطي إن كان حيا، وإلى ورثته إن كان ميتا. وعلى ما حكاه غيره عن القديم.. تكون العطية باطلة.
فإن قيل: هلا قلتم تبطل الهبة على القول الجديد؛ لأن العمرى تقتضي التمليك على التأبيد، فإذا قدره بحياة المعمر، فقد شرط شرطا ينافي مقتضى العقد فأبطله، كما لو قال: وهبتك هذه الدار سنة؟
فالجواب: أن هذا الشرط لا يبطل العمرى؛ لأنه ليس بشرط على المعمر، وإنما

(8/139)


هو شرط على ورثته. فإذا لم يكن الشرط على المعقود له.. لم يؤثر في العقد، بخلاف ما لو قال: وهبت لك داري سنة، فإنه لا يصح؛ لأن النقصان دخل في ملك المعقود له، فلم يصح.

[فرع فيمن أعمره داره]
إذا قال رجل لآخر: جعلت لك هذه الدار عمري أو حياتي.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\ 357] :
أحدهما - ولم يذكر الشيخ أبو حامدٍ غيره -: أن الحكم فيها كما لو قال: جعلتها لك عمرك أو حياتك، على ما مضى.
والثاني: لا تصح بحال؛ لأنه إذا جعلها للمعمر مدة حياته.. فكأنه أبد التمليك له؛ لأنه إنما يملك الشيء مدة عمره.
فأما إذا قال: عمري أو حياتي، فلم يجعلها له مؤبدا؛ لأن المعطي قد يموت والمعمر حي، فلم يصح، كما لو قال: أعمرتكما شهرا.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 357] : وهكذا الوجهان إذا قال: أعمرتكها عمر زيد، أو حياته.

[مسألة ما يعطى على سبيل الرقبى]
] : وأما الرقبى: فهو أن يقول: أرقبتك هذه الدار، أو جعلت داري لك رقبى
ومعنى هذا: أنها لك مدة حياتك، فإن مت قبلي.. عادت إلي، وإن مت قبلك.. فهي لك ولورثتك بعدك.

(8/140)


فهي كالمسألة الثانية من العمرى، على القول الجديد، تكون للمرقب في حياته ولورثته بعده.
وأما على القول القديم: فعلى ما حكاه أبو إسحاق تكون للمرقب في حياته، فإن مات والمعطي حي.. رجعت إليه. وإن مات المعطي أولا.. كانت للمرقب في حياته، ولورثته بعده.
وعلى ما حكاه غير أبي إسحاق عن القديم: تكون العطية باطلة.
هذا مذهبنا، وبه قال أبو يوسف.
وقال أبو حنيفة ومحمد: (الرقبى لا تملك، وتكون عارية؛ لأن معناها أنها لآخرنا موتا، فلا يصح التمليك بهذا؛ لأن التمليك معلق بخطر وغرر) .
وقال مجاهد: الرقبى هو: أن يقول: هذه الدار للآخر مني ومنك موتا.
وتعلقوا بما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز العمرى وأبطل الرقبى» .
ودليلنا: ما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا معشر الأنصار: أمسكوا عليكم أموالكم؛ لأ تعمروا، ولا ترقبوا، فمن أعمر شيئا أو أرقبه.. فهو له ولورثته» .
وفي رواية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العمرى جائزة لأهلها، والرقبى جائزة لأهلها» وما رووه غير معروف.

(8/141)


فإن قيل: فقد سويتم بين معنى العمرى والرقبى، واختلاف الأسماء يدل على اختلاف المسميات؟
قلنا: بينهما فرق، وذلك: أن المعمر يملك ما أعمره مدة عمره، فإذا مات.. اقتضى ذلك أن يرجع إلى المعمر، أو إلى ورثته إن لم يكن باقيا.
وأما الرقبى: فاقتضت أنه ملكه إياها، فإن مات.. رجعت إلى المرقب. وإن مات المرقب قبله.. استقرت على ملك المرقب، ولم ترجع بموته إلى ورثة المرقب.

[فرع تعطى العمرى من الثلث]
إذا قال رجل لآخر: إذا مت فهذه الدار لك عمرك، فإذا مت عادت إلى ورثتي، فإذا مات المعطي، وخرجت الدار من الثلث.. كانت على قولين، كما لو قال: هذه الدار لك عمرك، فإذا مت قبلي، عادت إلي إن كنت حيا، وإلى ورثتي إن كنت ميتا.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 357] : إذا قال الشريكان في الدار، هي لآخرنا موتا.. صار نصيب كل واحد منهما رقبى لصاحبه، وقد مضى بيان الرقبى.

[مسألة صحة إبراء صاحب الدين]
] : ومن وجب له على غيره دين.. صح إبراؤه منه. وهل يفتقر إلى قبول البراءة ممن عليه الدين؟ فيه وجهان:
أحدهما: يفتقر إلى قبوله؛ لأن عليه منة في إسقاط الحق عنه.. فافتقر إلى قبوله، كقبول الهبة.

(8/142)


الثاني - وهو الأصح -: أنه لا يفتقر إلى قبوله؛ لأنه إسقاط وليس بتمليك عين، فلم يفتقر إلى القبول، كإسقاط الشفعة والقصاص والعتق، بخلاف الهبة، فإنها تمليك عين.
ولا يصح الإبراء من دين مجهول؛ لأنه إزالة ملك، فلم يصح مع الجهل به، كالهبة. فإن قال: أبرأتك من دينار إلى مائة دينار، وكان يعلم أنه يستحق ذلك عليه.. صحت البراءة. وإن أبرأه من دين وكان من له الدين لا يعلم أنه يستحق ذلك عليه، ثم بان أنه كان يستحقه عليه.. فهل تصح البراءة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تصح البراءة؛ لأنها وافقت وجوب الدين.
والثاني: لا تصح، وهو الأصح؛ لأنه عقد البراءة، وهو متلاعب.
وإن قال: تصدقت عليك بالدين الذي لي عليك.. صح ذلك، وكان براءة بلفظ الصدقة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] [النساء: 92]
وقَوْله تَعَالَى:
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280] [البقرة: 280]
وأراد بالصدقة في الآيتين البراءة.
قال أبو العباس: وهذا يدل على صحة البراءة بلفظ الصدقة، وعلى أن الصدقة تصح على الغني والفقير، وعلى أن صدقة التطوع تصح على بني هاشم، وبني المطلب؛ لأنه لم يفرق في الآيتين.
وإن وهب دينه لمن هو في ذمته.. صحت الهبة وجها واحدا؛ لأن الهبة والصدقة واحد، فإذا صحت الصدقة.. صحت الهبة، وهل يكون حكمها حكم الإبراء؛ لا يفتقر إلى القبول على الأصح، أو حكم الهبة يفتقر إلى القبول، ولا يلزم حتى تمضي مدة يتأتى فيها القبض؟ على وجهين.
فإن وهب من له الدين دينه لغير من هو عليه، أو باعه منه، وكان الدين مستقرا. فهل يصحان؟ فيه وجهان:

(8/143)


أحدهما: لا يصحان؛ لأنه غير مقدور على تسليمه.
والثاني: يصحان، وهو الأصح؛ لأن الذمم تجري مجرى الأعيان، بدليل: أن الرجل يبتاع بعين ماله، ويبتاع بثمن في ذمته. وكذلك يبيع عين ماله، ويبيع ما في ذمته، وما جاز بيعه وابتياعه.. جازت هبته؛ لأنه لا خلاف أن الحوالة تصح، وهي في الحقيقة بيع، فكذلك البيع.
فإذا قلنا بهذا: فهل يفتقر لزوم الهبة إلى الإذن بالقبض، وإلى القبض؟ فيه وجهان:
أحدهما: يفتقر إلى ذلك؛ لأن هذا شرط في لزوم الهبة في العين، فكذلك في الدين.
والثاني: لا يفتقر إلى ذلك، وهو الأصح، كالحوالة لا يعتبر فيها القبض.
والله أعلم وبالله التوفيق.

(8/144)