البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الوصايا]

(8/145)


كتاب الوصايا الوصية: مأخوذة من قولهم: وصيت الشيء أصيه إذا وصلته؛ لأن الموصي يصل ما كان منه في حياته بما بعده من أمر مماته.
والأصل في ثبوت الوصية: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] [النساء: 12] .
وأما السنة: فما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما حق امرئ مسلم عنده شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه» .

(8/147)


وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة.. سأل عن البراء بن معرور، فقالوا له: إنه هلك، وأوصى لك بثلث ماله، فقبله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم رده على ورثته» .
وأما الإجماع: فروي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصى بالخلافة إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) . و: (لما طعن عمر.. أوصى بالخلافة إلى أهل الشورى، وهم ستة: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص) .
وظهر ذلك في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم يخالفهم أحد، بل عمل به.
إذا ثبت هذا: فإن ما يوصي به الإنسان ضربان، وصية بالنظر فيما كان النظر له فيه، ووصية بثلث ماله.

(8/148)


فأما الوصية بالنظر: فإن من ثبت له الخلافة على الأمة.. فله أن يوصي بها إلى رجل توجد فيه شروط الخلافة على ما يأتي بيانه إن شاء الله في موضعه؛ لما ذكرناه من حديث أبي بكر وعمر رضى الله عنهما.
وإن ثبت لرجل النظر في ملك ولده الصغير، ولا جد للصغير من أبيه، ولا أم له.. فللأب أن يوصي بالنظر في ماله إلى من يصلح لذلك، ويكون وصي الأب أولى بالنظر في مال الصغير من الحاكم؛ لما روي: (أنه أوصى إلى الزبير سبعة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمر أولادهم الصغار، منهم: عثمان، والمقداد، وعبد الرحمن، وابن مسعود) .
وإن كان للصغير جد من أبيه يصلح للنظر، فأوصى الأب إلى غير الجد.. كان الجد أولى بالنظر.
وقال أبو حنيفة: (وصي الأب أولى من الجد) وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين، والجويني؛ لأنه لما كان الأب أولى بالنظر من الجد.. كان وصيه أولى من الجد، كما قلنا في وصي الأب مع الحاكم.
وهذا غلط؛ لأنها ولاية يستحقها الجد بالقرابة، فكان مقدما على وصي الأب، كولاية النكاح.
وإن لم يكن للصبي جد، ولكن له أم تصلح للنظر في ماله، وأوصى الأب إلى غيرها:

(8/149)


فإن قلنا بالمذهب: وأن الأم لا ولاية لها بالنظر في مال ولدها.. كان الناظر هو وصي الأب.
وإن قلنا بقول الإصطخري: وأن الأم لها ولاية بالنظر في مال ابنها.. فهل يقدم وصي الأب عليها؟ ينبغي أن يكون على الوجهين في وصي الأب مع الجد.
والصحيح: أن الأم مقدمة على وصي الأب.

[مسألة الناظر لا يزوج]
] : وإن أوصى رجل إلى رجل بالنظر في أمر أولاده، وله بنات.. لم يكن للوصي تزويجهن بلا خلاف.
وإن أوصى إليه بالنظر في مال أولاده الصغار، وتزويج بناته.. لم يكن للوصي تزويجهن، سواء كن البنات صغارا أو كبارا، عين له الزوج أو لم يعينه، بل إن كان للبنات ولي مناسب.. زوجهن، وإلا.. فالحاكم يزوجهن. وبه قال الثوري وأبو حنيفة.
وقال أبو ثور: (الوصي أولى بتزويجهن من الولي المناسب) .
وقال مالك: (إذا أوصى إليه في تزويج بناته مطلقا.. كان الوصي أحق بإنكاحهن من الولي المناسب. فإن كن كبارا.. لم يزوجهن إلا بإذنهن. وإن كن صغارا.. لم يزوجهن الوصي إلا إن عين له الموصي الزوج) .
دليلنا: ما «روى عبد الله بن عمر قال: زوجني خالي قدامة بن مظعون ابنة أخيه عثمان بن مظعون، فمضى المغيرة بن شعبة إلى أمها، فأرغبها في المال، فمالت إليه، فذهبت أمها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: إن ابنتي تكره ذلك. فمضى قدامة بن مظعون إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: أنا عمها ووصي أبيها، وقد زوجتها من عبد الله بن عمر، وما نقموا منه إلا أنه لا مال له، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنها يتيمة، وإنها لا تنكح إلا بإذنها» .

(8/150)


فموضع الدليل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنكح إلا بإذنها» وقد أخبره قدامة أنه وصي أبيها، ولم يسأله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل وصى إليه بإنكاحها، أم لا؟ وهل عين له الزوج، أم لا؟ فلو كان الحكم يختلف بذلك.. لسأله عنه. فقيل: إن المغيرة تزوجها بعد ذلك.
ولأن ولاية النكاح لها تستحق بالشرع، فلم يجز نقلها عنه بالوصية، كالوصية في أمر الصغير مع وجود الجد.

[فرع الوصية بالدين والحج والكفارة]
ومن عليه دين، أو زكاة، أو حج، أو كفارة. أو كان في يده وديعة، أو غصب.. فله أن يوصي إلى من يخرج ذلك من تركته؛ لأنه إذا ملك أن يوصي بالنظر في أمر غيره.. فلأن يملك ذلك في خاصة نفسه أولى.

[مسألة الوصية بالثلث]
] : وأما الوصية بالثلث: فكل من ملك التصرف في ماله بالبيع والهبة. ملك الوصية بثلث ماله بما فيه قربة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] [النساء: 12] .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله أعطاكم ثلث أموالكم في آخر آجالكم زيادة في حسناتكم» .

(8/151)


وروي «عن سعد بن أبي وقاص: أنه قال: مرضت بمكة عام الفتح مرضا أشرفت فيه على الموت، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله: إن لي مالا كثيرا، وإنما يرثني ابنة لي، أفأتصدق بمالي كله؟ قال: " لا ". قلت: أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: " لا ". قلت: فبالشطر؟ قال: " لا ". قلت: فبالثلث؟ قال: " الثلث، والثلث كثير - وروي " كبير " - إنك أن تترك ورثتك أغنياء.. خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس» فلم ينهه عن الثلث، وإنما قال: هو كثير. فدل على جواز التصدق به.
و (العالة) : الفقراء.
قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] [الضحى: 8] .
وقوله: «يتكففون الناس» معناه: يسألون بأكفهم الناس.
فإن كان ورثته فقراء.. فالمستحب له أن لا يوصي بجميع الثلث؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنك أن تترك ورثتك أغنياء.. خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس» .

(8/152)


وإن كانوا أغنياء: استحب له أن يوصي بجميع الثلث؛ لأنه لما كره له استيفاء الثلث إذا كانوا فقراء.. دل على أنه يستحب له أن يستوفي الثلث إذا كانوا أغنياء.
والمستحب لمن رأى المريض يجنف في الوصية أن ينهاه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [النساء: 9] [النساء: 9] .
قال أهل التفسير: المراد بذلك الحاضرون عند الموصي.
والمستحب لمن أراد التصدق: أن يفعل ذلك في صحته؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن أفضل الصدقة، فقال: «أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم.. قلت: لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» .
وإن اختار الوصية.. فالمستحب له أن يقدمها؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما حق امرئ مسلم عنده شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه» .
قال الشافعي: (معناه: ما الحزم، وما الأحوط، أو ما الاحتياط له، إلا هذا) .
وقال غيره: هذا في الرجل عنده أمانات للناس، أو عليه ديون لهم، فتلزمه الوصية بذلك.
إذا ثبت هذا: فالناس الموصى لهم على ثلاثة أضرب:

(8/153)


[إحداها] : ضرب تجوز لهم الوصية ولا تجب، بلا خلاف بين أهل العلم، وهو: من كان أجنبيا من الموصي؛ لأن البراء بن معرور أوصى للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلث ماله فقبلها منه، ولا قرابة بينهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرشي والبراء أنصاري.
والضرب الثاني: تجوز لهم الوصية ولا تجب عندنا، وهم من لا يرث الموصي وبينهما قرابة، كالعمات والخالات، وسائر ذوي الأرحام. أو كان ممن يرثه إلا أن هناك من يحجبه.
وقال الضحاك، والزهري، وأبو مجلز، وداود، وابن جرير: (تجب لهم الوصية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] [البقرة: 180] .
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] .
وفسر ذلك بالوصية، فجعل ذلك إليهم.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه» فعلق الوصية على الإرادة.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنك أن تترك ورثتك أغنياء.. خير من أن تتركهم عالة» . وهذا يدل على أنها لا تجب؛ لأن ترك الوارث غنيا لا يكون خيرا من الواجب.
وروي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دخل على [رجل من بني] هاشم، فقال له: لي ثمانمائة درهم، أفأوصي؟ قال: لا) .
وروي: (أن ابن عباس دخل على مريض، فقال: لي سبعمائة درهم، أفأوصي؟ قال: لا، إنك لا تترك خيرا) . والخبر عنده ثمانمائة درهم. وقيل: ألف.

(8/154)


وكذلك روي عن ابن عمر وعائشة. وأما الآية: فمنسوخة بآية المواريث.
والضرب الثالث: إذا أوصى رجل لوارثه:
قال الشيخ أبو حامد: فلا تصح الوصية له، قولا واحدا؛ لما روى أبو أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» .
وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة» . فإن أجاز سائر الورثة الوصية، فهل تكون إجازتهم لها تنفيذا لما فعله الموصي، أو ابتداء عطية؟ منهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: إنه ابتداء عطية منهم؛ لحديث أبي أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وصية لوارث» ولأنها عطية لا تلزم في حق الوارث، فكانت ابتداء عطية منه، كما لو وهبه الوارث شيئا من مال نفسه.

(8/155)


والثاني: إنه تنفيذ لما فعله الموصي. وهو قول أبي حنيفة، وهو الأصح؛ لحديث ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجوز الوصية للوارث إلا أن يشاء الورثة» فدل على أنهم إذا شاءوا.. جازت الوصية.
وقال الشيخ أبو إسحاق: هل تصح الوصية للوارث؟ على قولين، ووجههما ما ذكرناه.
فإذا قلنا: تصح الوصية له، فلأي.

[مسألة الوصية بأكثر من الثلث]
وإذا أوصى بما زاد على ثلث ماله: فإن لم يكن له وارث متعين.. لم تصح الوصية بما زاد على الثلث. وبه قال مالك، وأهل المدينة.
وقال أبو حنيفة: (تصح) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم» ولم يفرق، ولأن ما زاد على الثلث موقوف على إجازة الورثة، ولا وارث له غير المسلمين، وهم غير معينين، ولا تتأتى الإجازة منهم.
وإن كان له وارث متعين.. فالحكم فيه كالحكم فيمن أوصى لوارثه.
قال الشيخ أبو حامد: لا تصح الوصية بما زاد على الثلث، قولا واحدا.
فإن أجازه الورثة.. فهل يكون ذلك تنفيذا لما فعله الموصي، أو ابتداء عطية من الورثة؟ على قولين.

(8/156)


وقال الشيخ أبو إسحاق: هل تصح الوصية بما زاد على الثلث؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تصح؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى سعدا عن الوصية بما زاد على الثلث» والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
والثاني: تصح؛ لأن الوصية صادفت ملكه، وإنما يتعلق بها حق الوارث فيما بعد، وذلك لا يمنع صحة تصرفه، كما لو اشترى رجل شقصا فيه شفعة، فباع الشقص قبل أن يأخذه الشفيع.
فإن قلنا: إن إجازة الورثة في الوصية للوارث فيما زاد على الثلث تنفيذ لما فعله الموصي.. كفاهم لفظ الإجازة، ولا يحتاج الموصى له إلى قبول الإجازة.
وإن قلنا: إن إجازة الورثة ابتداء عطية منهم.. ففيه وجهان:
[إحداهما] : قال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: لا يصح ذلك إلا بما تصح به الهبة من الإيجاب والقبول، والإذن بالقبض، والقبض.
و [الثاني] : قال القفال، والمسعودي [في " الإبانة " ق\ 410] ، وابن الصباغ: يكفيه لفظ الإجازة على القولين؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في جميع كتبه: (إذا أجاز الورثة ذلك.. كانت عطية) ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة» فعلقها على الإجازة، فدل على أنهم إذا أجازوها بلفظ الإجازة.. صح.
وإن أعتق المريض عبدا لا مال له غيره.. عتق ثلثه عليه، وثبت ولاؤه له.
وأما ثلثاه: فإن لم يجز الورثة العتق.. رق. وإن أجازوه.
فإن قلنا: إن الإجازة تنفيذ لما فعله الميت.. كفاهم لفظ الإجازة، وكان ولاء جميع العبد للمريض.
وإن قلنا: إن الإجازة ابتداء عطية منهم.. فهل تفتقر إلى لفظ العتق، أو يكفي فيه لفظ الإجازة؟ على وجهين.

(8/157)


وهل يكون ولاء ما زاد على الثلث للمريض، ولوارثه إذا قلنا: لا يعتق إلا بإعتاق الوراث؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن ولاءه للوارث؛ لأنه باشر عتقه.
والثاني: أنه للموصي. وهو قول ابن اللبان؛ لأن الوارث وإن باشر عتقه إلا أنه أعتقه عن الميت بإذنه، ومن أعتق عن غيره عبده بإذنه.. فإن ولاءه للمعتق عنه.

[فرع إجازة الورثة الوصية بعد الموت]
وإذا مات الموصي فأجاز ورثته وصيته فيما زاد على الثلث، أو أجازوا وصيته لوارثه.. صحت الإجازة.
وإن أجازوا ذلك قبل موت الموصي.. لم تصح الإجازة، سواء أجازوا ذلك في صحة الموصي، أو في مرض موته. وبه قال ابن مسعود، وشريح، وطاووس، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد.
وقال الحسن، وعطاء، والزهري، وربيعة: تصح الإجازة.
وقال مالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى: (إن أجازوا ذلك في صحة الموصي.. لم تصح. وإن أجازوا ذلك في مرض موته.. صحت إجازتهم) .
دليلنا: أنه لا حق للوارث قبل موت الموصي، فلم تصح إجازته، كما لو عفا الشفيع عن الشفعة قبل البيع.

[فرع اختلفا بعد إجازة الوصية لكثرتها]
وإن أوصى لرجل بثلثي ماله، ومات الموصي، فأجاز الوارث الوصية، ثم قال: أجزته لأنني ظننت أن الذي أجزته يسير وقد بان لي أنه كثير.
فإن كان مع الموصى له بينة أن الوارث يعلم قدر ما أجازه.. لزمته الإجازة في الجميع.
وإن لم يكن معه بينه.. لزم الوارث الإجازة في قدر ما علمه من المال، والقول

(8/158)


قوله مع يمينه فيما لم يعلمه؛ لأن الإجازة كالإسقاط في أحد القولين، وكالهبة في الآخر. والجميع لا يصح مع الجهالة به.
وإن أوصى لرجل بعبد، وقيمته أكثر من ثلث المال، وأجازه الوارث، ثم قال: ظننت أن الزيادة على الثلث يسيرة فأجزته، وقد بان أنه كثير.. ففيه قولان:
أحدهما: أنها كالمسألة قبلها.
والثاني: يلزم الوارث الإجازة في العبد، ولا يقبل قوله أنه لا يعلم قدر ما أجازه؛ لأن الموصى به هاهنا شيء بعينه، وقد أجازه، فلم يقبل قوله، وفي التي قبلها: الوصية في جزء مشاع، فقبل قوله.

[فرع الوصية للوارث بقدر الإرث]
وإن أوصى لأحد ورثته بما كان نصيبه من جهة الميراث بالقيمة إلا أنه عين له عينا، مثل أن يموت رجل وخلف ابنا وابنة، وخلف دارا بألف، وأوصي بها للابن، وعبدا بخمسمائة، وأوصى به للابنة.. فهل تصح الوصية؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\ 436] :
أحدهما: تصح، ولا تفتقر إلى إجازة؛ لأن حقوق الورثة في المقادير لا في الأعيان، فهو كما لو باع الدار من ابنه بألف، وباع العبد من ابنته بخمسمائة في مرض موته.
والثاني: لا تصح الوصية لهما من غير إجازة؛ لأن الوارث قد يكون له غرض في ملك العين، فلا يجوز للموصي إبطال ذلك عليه.

[فرع وقت اعتبار قيمة الثلث]
وفي الوقت الذي يعتبر به المال لإخراج الثلث وجهان:
أحدهما: أن الاعتبار به وقت الوصية؛ لأن الوصية عقد على المال، فكان الاعتبار بقدر المال وقت العقد، كالبيع والنذر.

(8/159)


فعلى هذا: إذا أوصى له بثلث ماله، ولا مال له وقت الوصية.. لم تصح له الوصية، وإن استفاد مالا بعد ذلك.. لم تتعلق به الوصية الأولى.
وإن كان ثلثه عند الوصية ألفا، فصار عند الوفاة ألفين.. لم تصح الوصية إلا بالثلث، وهو عند الوصية ألف.
وإن كان له مال عند الوصية، فهلك ذلك المال واستفاد مالا آخر.. لم تتعلق به الوصية الأولى.
والوجه الثاني - وهو المذهب، وهو قول أهل العراق، قال الشيخ أبو حامد: وأظنه إجماعا -: أن الاعتبار بالمال وقت موت الموصي؛ لأن الوصية وعد في حياة الموصي لا حكم لها، وإنما تجب ويصير لها حكم بوفاته، فاعتبر المال وقت وجوبها، ولأنه لا خلاف أنه لو وصى بثلث ماله، وله مال فباعه، فإن الوصية تتعلق بالثمن، فلو كان الاعتبار بالمال وقت الوصية.. لبطلت هاهنا.
فعلى هذا: إذا وصى بثلث ماله وكان له ألف، فصار عند الوفاة ألفين، أو كان له مال وقت الوصية فهلك واستفاد غيره.. تعلقت الوصية بجميع ماله الموجود عند موته.
وإن وصى لرجل بثلث ماله، ولا مال له.. ففيه وجهان:
أحدهما: تصح الوصية، فإن استفاد مالا بعد ذلك.. تعلقت به الوصية الأولى؛ لما ذكرناه.
والثاني - حكاه ابن اللبان -: لا تصح الوصية حتى يكون له مال وإن قل؛ لتتوجه إليه الوصية. وهذا ليس بشيء.

[مسألة وصية الصغير والسفيه بقربة]
وهل تصح وصية الصبي المميز، والمحجور عليه للسفه، بما فيه قربة؟ فيه قولان:

(8/160)


أحدهما: لا تصح؛ لأنه لا يصح تصرفه في ماله بالبيع والهبة، فلم تصح وصيته كغير المميز.
والثاني: تصح؛ لأنه إنما منع من بيع ماله وهبته خوفا من إضاعته، وبالوصية لا يضيع ماله؛ لأنه إن عاش.. فالمال باق على ملكه، وإن مات.. فله حاجة إلى الثواب، والثواب يحصل له بالوصية.

[مسألة فساد الوصية بما فيه معصية]
ولا تصح الوصية بما لا قربة فيه، كالوصية لمن يرتد عن الدين، ويقطع الطريق. وكالوصية للكنائس، والبيع، والوصية بالسلاح لأهل الحرب؛ لأن ذلك إعانة على المعصية، والوصية إنما جعلت لاكتساب الحسنات.
وإن وصى للحربي بغير السلاح.. فهل تصح وصيته؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تصح. وهو قول أبي حنيفة؛ لأنا مأمورون بقتله، فلا معنى للوصية له.
والثاني: تصح. وهو المذهب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] [النساء: 11] ولم يفرق، ولأن من صح تملكه بالبيع.. صحت الوصية له، كالمسلم.
وتصح الوصية للذمي؛ لـ (أن صفية زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصت لأخيها بثلثها، ثلاثين ألفا، وكان ذميا يهوديا) .

(8/161)


[فرع وصى ببيع فيه محاباة]
وإن وصى ببيع عين من رجل بمحاباة.. صحت الوصية؛ لأن في ذلك نفعا للموصى له.
وإن وصى أن تباع إليه من غير محاباة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تصح الوصية؛ لأنه لا منفعة للموصى له في البيع إليه من غير محاباة.
والثاني: تصح الوصية؛ لأنه قصد تخصيصه بملك المبيع.

[مسألة الوصية للقاتل]
وإن وصى لقاتله.. فهل تصح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تصح. وبه قال أبو حنيفة؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقاد والد بولده، وليس للقاتل شيء» .
وهذا عام، ولأنه مال مستحق بالموت، فلم يستحقه القاتل، كالميراث. وفيه احتراز من الدين الثابت له عليه.

(8/162)


والثاني: تصح الوصية. وبه قال مالك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] [النساء: 12] ولم يفرق، ولأنه تمليك يفتقر إلى القبول، فلم يمنع القتل منه، كالبيع. وفيه احتراز من الميراث.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا وصى رجل لرجل، ثم قتل الموصى له الموصي.
فأما إذا جرح رجل رجلا، ثم أوصى المجروح للجارح، ثم مات المجروح.. فيصح قولا واحدا.
ومنهم من قال: القولان في الحالين، وهو قول الشيخ أبي حامد، وهو المشهور.

[فرع قتل أم ولد مولاها]
وإن قتلت أم ولد مولاها.. عتقت بموته؛ لأن عتقها ليس بوصية.
وإن قتل المدبر مولاه:
فإن قلنا: إن التدبير عتق بصفة.. عتق المدبر.
وإن قلنا: إنه وصية.. كان في عتقه القولان في الوصية للقاتل.
وإن كان لرجل على آخر دين مؤجل، فقتل من له الدين من عليه الدين قبل حلوله.. حل الدين؛ لأن حلوله حظ لمن عليه الدين؛ لإبراء ذمته.

[مسألة الوصية ممن يملك]
] : ولا تصح الوصية لمن لا يملك، فإن وصى لميت.. لم تصح الوصية، سواء ظنه حيا، أو علمه ميتا. وبه قال أبو حنيفة.

(8/163)


وقال مالك: (إن ظنه حيا فبان أنه ميت.. بطلت الوصية. وإن علمه ميتا.. صحت الوصية، وتكون لوارثه) .
دليلنا: أنه تمليك، فلم تصح للميت، كالهبة، ولأنها وصية لميت، فلم تصح، كما لو ظنه حيا.

[فرع الوصية لحمل امرأة]
] : وإن وصى لحمل امرأة وكان موجودا حال الوصية.. صحت؛ لأن الوصية أوسع من الميراث، بدليل: أن كل من ورث المال صحت الوصية له، وقد تصح الوصية لمن لا يرث، وهو العبد. والحمل ممن يرث، فصحت له الوصية، ولأن أكثر ما في الحمل الغرر والجهالة به، وذلك لا يؤثر في الوصية.
إذا ثبت هذا: فإن خرج الحمل ميتا.. لم تصح الوصية؛ لأنا لا نتيقن حياته عند الوصية.
وإن خرج حيا: فإن وضعته لدون ستة أشهر من حين الوصية.. صحت الوصية، سواء كانت فراشا لزوج أو لسيد، أو لم تكن فراشا؛ لأنا نتيقن وجوده حين الوصية.
وإن وضعته لأكثر من أربع سنين من حين الوصية.. لم تصح الوصية، سواء كانت فراشا أو لم تكن؛ لأنا لا نتيقن وجوده عند الوصية
وإن وضعته لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من حين الوصية: فإن كانت فراشا لزوج أو سيد أقر بوطئها.. لم تصح له الوصية؛ لأنا لا نتيقن وجوده عند الوصية، بل يجوز حدوثه بعد الوصية.
وإن كانت غير فراش.. فنقل البغداديون من أصحابنا: أن الوصية تصح له؛ لأنا نحكم بوجوده حال الوصية، بدليل: أنه يلحق بالزوج.
ونقل المسعودي [في " الإبانة "] في ذلك قولين:
أحدهما: تصح الوصية له؛ لما ذكرناه.

(8/164)


والثاني: لا تصح الوصية؛ لأن النسب يثبت بالاحتمال، والوصية لا تثبت بالاحتمال.
وإن وصى لما تحمل هذه المرأة.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: تصح الوصية له وإن كان معدوما حال الوصية. فعلى هذا: إذا حملت بعد الوصية له.. صحت الوصية؛ لأن الموصي لم يعتبر وجوده، بخلاف الأولى.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا تصح الوصية له؛ لأن الوصية لا تصح لمعدوم.
وإن قال: وصيت بثلثي لحمل هذه المرأة من فلان.. لم تصح الوصية له إلا بشرطين:
أحدهما: وجوده حال الوصية على ما مضى
والثاني: ثبوت نسبه من أبيه المذكور.
فإن أتت بولد يلحق ذلك الرجل بالإمكان، ونتيقن وجوده حال الوصية، فنفاه ذلك الرجل باللعان.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: ينتفي عنه، ولا تبطل الوصية له؛ لأن النفي حكم يتعلق بين الولد والوالد، فلم يتعلق به حكم آخر، بدليل: أن المرأة تعتد بوضعه.
والثاني - وهو قول عامة أصحابنا -: أن الوصية لا تصح؛ لأن الوصية له تثبت بشرطين: وجوده حال الوصية، وثبوت نسبه من ذلك الرجل. وباللعان سقط نسبه عنه، فلم تصح له الوصية.

[فرع الوصية للحمل تشمل الجنسين]
وكل موضع صححنا الوصية فيه للحمل: فإن ولدت ذكرا أو أنثى.. أعطي ذلك كله. وإن ولدت ذكرين أو أنثيين أو ذكرا وأنثى.. صرف إليهما بالسوية؛ لأنها عطية فلم يفضل الذكر فيها على الأنثى، كما لو وهب لهما. وهكذا: إن ولدت ذكرا وأنثى

(8/165)


وخنثى.. صرفت الوصية إليهم أثلاثا؛ لما ذكرناه.
وإن قال: إن ولدت هذه المرأة ذكرا فله ألف، وإن ولدت أنثى فلها مائة: فإن ولدت ذكرا.. كان له ألف، وإن ولدت أنثى.. كان لها مائة. وإن ولدت خنثى.. استحق المائة؛ لأنه يقين، ووقف ما زاد على المائة إلى الألف. فإن تبين أنه امرأة.. لم يستحقه، وإن تبين أنه رجل.. استحقه.
وإن ولدت ذكرا وأنثى.. استحق الذكر الألف، والأنثى المائة.
وإن ولدت ذكرين أو أنثيين.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الذكرين يشتركان في الألف، والأنثيين تشتركان في المائة؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.
والثاني: أن الوصي يدفع الألف إلى من شاء من الذكرين، والمائة إلى من شاء من الأنثيين؛ لأنه جعله لأحدهما، ولا مزية لأحدهما على الآخر، فخير بينهما.
والثالث: يوقف الألف بين الذكرين، والمائة بين الأنثيين إلى أن يصطلحا؛ لأنه لا يجوز أن يجعل لأحدهما بعينه؛ لأنه لا يتعين، ولا يجوز أن يجعل بينهما؛ لأن الموصي جعله لأحدهما، ولا يجوز أن يختار الوصي أحدهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فلم يبق إلا أن يوقف بينهما إلى أن يصطلحا.
وإن ولدت ذكرا وأنثى وخنثى:
فإن قلنا في التي قبلها بالاشتراك.. لم يمكن أن يشارك الخنثى الذكر؛ لجواز أن تكون امرأة. ولا يجوز أن يشارك الأنثى؛ لجواز أن يكون رجلا.
قال القاضي أبو الفتوح: فيحتمل أن يقال هاهنا بالوقف، ويحتمل أن يقال: يعطى الذكر الألف والأنثى المائة، ولا يعطى الخنثى شيئا.
وإن قلنا بالتي قبلها: أن الوصي بالخيار.. فلا يمكن أن يعطي الخنثى الألف ولا المائة؛ لأنه لا يتيقن حاله ولكن يدفع الألف إلى الذكر والمائة إلى الأنثى.

(8/166)


وإن قلنا بالتي قبلها بالوقف.. وقف الألف والمائة بينهم إلى أن نتبين حال الخنثى، فإن بان امرأة.. دفع الألف إلى الذكر، ووقف المائة بين الأنثيين إلى أن يصطلحا عليها. وإن بان أنه رجل.. دفعت المائة إلى الأنثى، ووقف الألف بين الذكرين إلى أن يصطلحا عليه.

[فرع قدر الوصية لنوع المولود]
وإن قال لامرأة: إن كان حملك ذكرا.. فله ألف، وإن كان أنثى.. فلها مائة. أو قال: إن كان ما في بطنك ذكرا، أو إن كان الذي في بطنك ذكرا فله ألف، وإن كان أنثى.. فلها مائة: فإن ولدت ذكرا.. كان له ألف. وإن ولدت أنثى.. كان لها مائة. وإن ولدت خنثى.. ففيه وجهان، خرجهما القاضي:
أحدهما: له المائة؛ لأنها يقين.
والثاني: لا شيء له؛ لأنه ليس بذكر ولا أنثى.
وإن ولدت ذكرا وأنثى، أو ذكرين، أو أنثيين، أو ذكرا وخنثى، أو أنثى وخنثى، أو خنثيين.. لم يستحق واحد منهما في هذه المسائل شيئا؛ لأنه شرط أن يكون جميع حملها، أو جميع ما في بطنها ذكرا أو أنثى، ولم يوجد ذلك.

[مسألة الوصية لأحد شخصين]
وإن قال: وصيت بهذا لأحد هذين الرجلين.. لم يصح؛ لأنه تمليك لغير معين.
وإن قال: أعطوا هذا العبد لأحد هذين الرجلين.. صح؛ لأنه ليس بتمليك، وإنما هو وصية بالتمليك. ولهذا لو قال: بعت عبدي هذا من أحد هذين الرجلين.. لم يصح البيع. ولو قال لوكيله: بع عبدي هذا من أحد هذين الرجلين.. صح التوكيل.

(8/167)


[مسألة الوصية لعبد غير وارثه]
] : وإن وصى لعبد غير وارثه.. صحت الوصية؛ لأن ذلك وصية لسيده، إذ العبد لا يملك.
إذا ثبت هذا: فلا يختلف المذهب أن قبول العبد يصح؛ لأن الإيجاب له، والعقد مضاف إليه، فكان القبول إليه، كالوكيل في الشراء.
وهل يصح قبوله بغير إذن سيده؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يصح من غير إذن سيده؛ لأن منافعه مستحقة للسيد بكل حال، فلا يملك التصرف فيها بغير إذن السيد، كالشراء.
والثاني: يصح، وهو المذهب؛ لأنه اكتساب بغير عوض، فصح منه بغير إذن السيد، كالاصطياد.
وإن قبل السيد الوصية.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن الإيجاب للعبد، فلا يصح القبول من غيره، كالبيع.
والثاني: يصح؛ لأن الملك له، فصح القبول منه. ويخالف البيع، فإن القبول فيه لا يصح من غير الموجب له، وفي الوصية يصح القبول من غير الموجب لها، وهو إذا مات الموصى له قبل القبول.. فإن وارثه يقبل الوصية.

[فرع الوصية لعبد وارثه أو مكاتبه أو أم ولده]
وإن وصى لعبد نفسه، أو لعبد وارثه.. فهو كما لو وصى لوارثه؛ لأن الملك لسيده.
وإن وصى لمكاتبه، أو لمكاتب وارثه.. صحت الوصية؛ لأنه يملك المال ولا سبيل للوارث عليه، وإنما يستحق المال في ذمته، وذلك لا يمنع صحة الوصية له، كما لو وصى لرجل في ذمته دين لوارثه.

(8/168)


وإن وصى لأم ولده.. صحت الوصية؛ لأنها وقت وجوب الوصية حرة لا ملك لأحد عليها.
وإن وصى لمدبره.. صحت الوصية، كما قلنا في أم الولد، فإن خرج من الثلث.. عتق كله وملك الوصية. وإن خرج بعض العبد من الثلث.. عتق منه قدر ذلك، وملك من الوصية بقدر ما عتق منه.

[مسألة الوصية]
بالمجهول بالمجهول] :
وتصح الوصية بالمجهول، كالوصية بالحمل في البطن واللبن في الضرع. وتصح إذا كانت غير معينة، كعبد من عبيد، وبما لا يقدر على تسليمه، كالطير في الهواء، والعبد الآبق؛ لأن الموصى له يخلف الميت في ثلث تركته كما يخلفه الوارث في ثلثيها، فلما خلفه الوارث في هذه الأشياء.. خلفه الموصى له فيها.
وتصح الوصية بما ينتفع به من النجاسات، كالكلب والدمن وجلد الميتة؛ لأن الوارث يرث عنه هذه الأشياء، فكذلك الموصى له.
وتصح الوصية بالميتة؛ لأن فيها منفعة مباحة، بأن يطعمها كلابه أو بزاته أو يأكلها عند الضرورة، فصحت الوصية بها، كالدمن.
ولا تصح الوصية بالخمر والخنزير والكلب العقور؛ لأنه لا يحل الانتفاع بها.
وهل تصح الوصية بالمعدوم، كالوصية بمن تحمل هذه الجارية، وبما تحمله هذه الشجرة؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: إن قلنا: إن الاعتبار بالمال وقت الوصية.. لم تصح الوصية بها.
و [الثاني] : المذهب أن الوصية تصح بذلك، وجها واحدا؛ لأن الجهالة لا تؤثر في الوصية.

(8/169)


وأما إذا أوصى له بحمل هذه الجارية.. فإنه يعتبر أن يكون الحمل موجودا وقت الوصية، كما قلنا في الوصية للحمل على ما مضى.

[فرع الوصية بالمنافع]
وتصح الوصية بالمنافع التي تستباح بالإجارة والإباحة، كسكنى الدار وخدمة العبد وثمرة البستان وما أشبهه. وهو قول كافة العلماء.
وقال ابن أبي ليلى: لا يصح.
دليلنا: أن هذه المنافع تصح المعاوضة عليها؛ لأن منافع العبيد والدور تملك بالإجارة، وثمرة الشجرة تملك بالمساقاة عليها. وما ملك بالمعاوضة عليه.. صحت الوصية به، كالأعيان.
وتصح الوصية بالمنفعة لرجل، وبالعين لآخر؛ لأن المنفعة والعين كالعينين، فجاز العقد على كل واحد منهما.
إذا ثبت هذا: فتصح الوصية بمنفعة مقدرة، وبمنفعة مؤبدة؛ لأن الوصية تصح بالمعلوم والمجهول.

[فرع وصى له بشيء من ريع ثم وقف المورد]
وإن وصى رجل لرجل بدينار من غلة داره في كل سنة، وخرجت الدار من الثلث ووقفت الدار.. فلا يجوز للورثة بيعها؛ لأن ذلك يسقط حق الموصى له من غلتها، فلم يجز بيعها، كالمرهون، فيدفع إلى الموصى له من غلتها كل سنة دينار. فإن بقي من غلتها شيء بعد الدينار.. دفع ذلك إلى الورثة. وإن لم يبق لهم شيء.. فلا شيء لهم. وإن لم تف غلة الدار كل سنة بدينار. فلا شيء للموصى له غير ما جاء من غلتها.
وإن كانت الدار تغل كل سنة دنانير كثيرة، فقال الورثة: نحن نبيع منها قدر ما تزيد غلته على الدينار ونبقي منه ما يغل دينارا.. لم يكن لهم ذلك؛ لأنه ربما نقص كراء الباقي عن الدينار.

(8/170)


[مسألة تعليق الموصي على شرط في حياته]
] : يجوز تعليق الوصية على شرط في حياة الموصي، بأن يقول: إن حج فلان في حياتي، أو قدم في حياتي.. فقد أوصيت له بكذا؛ لأن الوصية تصح في المجهول، فصح تعليقها على شرط، كالطلاق والعتاق.
ويصح تعليقها على شرط بعد موت الموصي، بأن يقول: إن حج فلان بعد موتي، أو تعلم القرآن وما أشبهه.. فقد أوصيت له بكذا؛ لأن ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة، فإذا جاز تعليق الوصية، على شرط في حالة الحياة.. جاز بعد الموت.
وإن قال: إذا ملكت عبد فلان.. فقد أوصيت به لفلان، فملكه.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي يعقوب الأبيوردي، وأبي حنيفة -: (أن الوصية صحيحة؛ لأن الجهالة والغرر لا تؤثر في الوصية) .
والثاني - حكاه الطبري في " العدة " -: أنه لا تصح الوصية.

[مسألة إيجاب قول الموصي في الوصية]
ولا تصح الوصية إلا بإيجاب من الموصي.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : والإيجاب كل ما يدل على التمليك والعطية، بأن يقول: أوصيت لفلان بكذا، أو أعطوا فلانا كذا، أو لفلان كذا، وما أشبهه.
وأما القبول: فإن كانت الوصية لغير معين، كالوصية للفقراء والمساكين.. لزمت بالموت؛ لأنه لا يمكن اعتبار القبول منهم. وإن كانت الوصية لمعين، كالوصية لرجل مسمى أو لقوم محصورين.. فلا بد من القبول من الموصى له.

(8/171)


هل القبول شرط في الملك؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: هو شرط في الملك على ما سيأتي بيانه؛ لأنه تمليك لعين، فلم تصح من غير قبول، كالبيع والهبة.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: ينبغي أن يقال: إن القبول في الوصية ليس بشرط في صحة الملك، وإنما يتبين به اختياره للملك حال الموت، فتبين حصول الملك باختياره.
ولا يصح القبول إلا بعد موت الموصي؛ لأن إيجاب الوصية بعد الموت، فكان القبول بعده.
وإذا قبل الموصى له الوصية بعد الموت.. حكم له بالملك. ومتى يملك؟ فيه قولان مشهوران:
أحدهما: أن الملك حصل له بشرطين: الموت والقبول. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه تمليك عين لمعين، فلم يقع الملك فيه قبل القبول، كالهبة.
فقولنا: (تمليك) احتراز من الميراث.
وقولنا: (عين) احتراز من الوقف.
وقولنا: (لمعين) احتراز من الوصية للفقراء والمساكين.
والقول الثاني: أن الملك موقوف. فإن قبل الموصى له.. تبينا أنه ملك بالموت. وإن لم يقبل.. تبينا أنه لم يملك، وأن الملك بعد الموت كان للورثة، وهو الصحيح؛ لأن الموصى به بعد موت الموصي لا يخلو: إما أن يقال: إنه ملك للميت، أو يقال: إنه دخل في ملك الورثة، أو يقال: إنه قد ملكه الموصى له، أو يقال: إنه مراعى، فبطل أن يقال: إنه ملك للميت؛ لأنه جماد لا يملك. وبطل أن يقال: إنه ملك للورثة؛ لأنهم لا يملكون إلا بعد الدين والوصية، ولأنه خلاف الإجماع.
وبطل أن يقال: إنه قد دخل في ملك الموصى له؛ لأنه لو ملكه.. لما صح رده له، كالميراث.

(8/172)


فإذا بطلت هذه الأقسام.. ثبت أنه مراعى.
وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي قولا ثالثا - ليس بمشهور -: (أن الموصى له يملكه بنفس الموت؛ لأنه مال مستحق بالموت، فانتقل إليه بالموت، كالميراث) .

[فرع رد الموصى له الوصية]
وإن رد الموصى له الوصية.. ففيه أربع مسائل:
إحداهن: إذا ردها في حياة الموصي.. فلا يصح هذا الرد؛ لأنه لا حق له في هذه الحال، بدليل أنه لا يصح قبوله للوصية، فلم يصح رده، كالشفيع إذا عفا عن الشفعة قبل البيع.
الثانية: إذا رد بعد موت الموصي، وقبل القبول.. فيصح الرد؛ لأنه وقت القبول، فصح منه الرد، كالشفيع إذا عفا عن الشفعة بعد البيع.
الثالثة: إذا قبل الوصية وقبضها، ثم ردها.. فلا يصح الرد؛ لأنه قد ملك الموصى به، واستقر ملكه عليه. فإن أراد أن يملكه الورثة.. افتقر إلى لفظ التمليك أو الهبة بشروطها.
الرابعة: إذا رد بعد القبول وقبل القبض.. فهل يصح الرد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح الرد؛ لأنه قد ملك الموصى به إما بالقبول أو بالموت، فلم يصح رده؛ كما لو وهبه عينا وقبلها وقبضها بإذنه، ثم ردها.
والثاني: يصح رده، وهو المنصوص عليه؛ لأن ملكه لم يستقر عليها بالقبض، فصح الرد.
وإن كان القبض غير معتبر، كما لو وقف وقفا على رجل.. فإن القبول فيه غير معتبر. ثم لو رد الموقوف عليه الوقف.. لبطل الوقف عليه. فكذلك هذا مثله.

(8/173)


[فرع الرجوع في قبول الوصية]
قال في " الأم ": (إذا رد الموصى له الوصية، ثم بدا له غير ذلك، وقال: أريد أن أرجع فيها؛ لأن الوارث لم يقبضها.. لم يكن للموصى له ذلك؛ لأن الموصى له لما ملك الموصى به وإن لم يقبضه بالوصية.. ملكه الوارث برد الموصى له، وإن لم يقبضه الوارث) .

[فرع رد الوصية إلى وارث]
قال في " الأم ": (إذا أوصى لرجل بوصية، ثم قال الموصى له بعد موت الموصي: رددت الوصية لفلان، وسمى واحدا من الورثة.. رجع إلى الموصى له، وقيل له: ما أردت بقولك: لفلان، فإن قال: أردت أني رددت الوصية إلى جميع الورثة لأجل ذلك المسمى.. عادت إلى جميع الورثة، وكان المسمى كغيره، وإن قال: إني أردت بذلك أني جعلتها للمسمى خاصة.. اختص المسمى بملكها دون سائر الورثة) .
وإن لم يقبل الموصى له الوصية، ولم يرد.. كان للورثة مطالبته بالقبول أو الرد. فإن امتنع من القبول. حكم عليه الحاكم بالرد؛ لأن الملك متردد بينه وبين الورثة، فهو كما لو تحجر مواتا وامتنع عن إحيائه.

[فرع موت الموصي لحمل]
إذا أوصى رجل لحمل امرأة بشيء، فمات الموصي، ثم قبل أبو الحمل الوصية له قبل الانفصال.. فهل يصح هذا القبول؟
اختلف أصحابنا فيه:
فقال القفال: لا يصح القبول قبل الولادة؛ لأنه قبله في وقت لا يدري، هل الحمل موجود أم لا؟
وقد قال ابن سريج: لا يصح الأخذ بالشفعة للحمل إلا بعد الولادة.

(8/174)


وقال الشيخ أبو زيد: فيه وجهان بناء على القولين في الحمل: هل له حكم أم لا؟
فإن قلنا: له حكم.. صح القبول له.
وإن قلنا: لا حكم له.. لم يصح القبول له إلا بعد الوضع.
قال: وكذلك الشفعة له، على هذين الوجهين.

[مسألة موت الموصى له قبل الموصي]
وإن أوصى لرجل بوصية فمات الموصى له قبل موت الموصي.. بطلت الوصية؛ لأنه مات قبل استحقاق الوصية.
وإن مات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول والرد.. فإن وارث الموصى له يقوم مقامه في القبول والرد.
وقال أبو حنيفة: (تبطل الوصية) .
دليلنا: أنه خيار ثابت في تملك المال، فقام الوارث مقامه، كخيار الشفعة.
فقولنا: (ثابت) احتراز من الموصى له إذا رد الوصية قبل موته.
وقولنا: (في تملك المال) احتراز ممن أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن معه، فمات قبل أن يختار.
فإن رد الوارث الوصية.. كانت ملكا لورثة الموصي. وإن قبلها الوارث.. فهل يقضي منها دين الموصى له وينفذ منها وصاياه؟
إن قلنا: نتبين بالقبول أنها ملكت بموت الموصي.. قضي منها دين الموصى له، ونفذت منها وصاياه؟
إن قلنا: لا تملك إلا بالقبول.. ففيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما: لا يقضى منها دين الموصى له، ولا تنفذ منها وصيته؛ لأن الوارث ملكها بقبوله من جهة الموصي.

(8/175)


والثاني: يقضى منها دين الموصى له وتنفذ منها وصيته؛ لأن الوارث ملكها بما ورثه عن الموصى له من القبول، فصار كالمملوك من تركته.

[مسألة وصية مالك الأمة بها لزوجها]
وإذا تزوج حر بأمة لغيره، فأوصى مالك الأمة بها لزوجها، ثم مات الموصي، فإن رد الموصى له الوصية.. بقيت الأمة على ملك ورثة الموصي، والزوجية باقية.. وإن قبل الزوج الوصية.. ملك زوجته، وانفسخ النكاح؛ لأن حكم النكاح والملك يتنافيان، فثبت الأقوى وهو الملك، وسقط الأضعف وهو النكاح.
ومتى يحكم بانفساخ النكاح؟ يبنى ذلك على وقت ملك الموصى له الموصى به بعد القبول. وقد مضى.
ثم ينظر في الجارية: فإن كانت حائلا.. فلا كلام.
وإن كانت حاملا فولدت.. فلا تخلو من ثلاثة أحوال: إما أن تضعه قبل موت الموصي، أو بعد موته وقبل قبول الموصى له، أو بعد موته وبعد قبول الموصى له.
فالحالة الأولى: إذا وضعته في حياة الموصي.. نظرت:
فإن وضعته لستة أشهر فما زاد من حين الوصية.. كان الولد ملكا للموصي ولورثته بعده؛ لأنا لا نحكم بوجوده حال الوصية.
وإن وضعته لدون ستة أشهر من حين الوصية.. فإنا نحكم بوجوده حال الوصية: فإن قلنا: إن الحمل له حكم.. كان الولد موصى به مع الأم، ويملكه الموصى له مع الأم، ويعتق عليه، ولا تصير الجارية أم ولد له.
وإن قلنا: لا حكم له.. كان الولد ملكا لورثة الموصي.
الحالة الثانية: إذا وضعته بعد موت الموصي وقبل قبول الموصى له.. ففي هذا ثلاث مسائل:

(8/176)


إحداهن: أن تكون حملت به بعد موت الموصي، بأن تضعه لستة أشهر فصاعدا من حين موت الموصي:
فإن قلنا: إن الموصى له لا يملك الوصية إلا بالقبول.. فإن الولد هاهنا ملك لورثة الموصي.
وإن قلنا: نتبين بالقبول أنه ملك بموت الموصي، أو قلنا براوية ابن عبد الحكم.. فإن الولد حر الأصل؛ لأنها علقت منه بحر في ملكه ولا ولاء عليه؛ لأنه لم يمسه الرق، والجارية أم ولد له؛ لأنها علقت منه بحر في ملكه.
المسألة الثانية: إذا حملت به قبل موت الموصي وبعد الوصية، مثل: أن تضعه لستة أشهر فصاعدا من حين الوصية، ولأقل من ستة أشهر من حين موت الموصي:
فإن قلنا: للحمل حكم.. فإن الولد غير موصى به، بل كان ملكا للموصي في حياته، ولورثته بعده.
وإن قلنا: لا حكم له، فإن قلنا: إن الموصى له لا يملك إلا بالقبول.. كان الولد ملكا لورثة الموصي. وإن قلنا: نتبين بالقبول أنه ملك بالموت، أو قلنا برواية ابن عبد الحكم.. كان الولد ملكا للزوج، ويعتق عليه، ويثبت له عليه الولاء، ولا تصير الجارية أم ولد له؛ لأنها علقت به وهو مملوك.
المسألة الثالثة: إذا حملت به قبل الوصية، بأن تضعه لدون ستة أشهر من حين الوصية:
فإن قلنا: للحمل حكم.. كان الولد موصى به؛ لأنه مع الأم كعين أخرى موصى بها. فإذا قبل الموصى له الوصية.. ملك الولد، وعتق عليه، وثبت له عليه الولاء، ولا تصير الجارية أم ولد له؛ لأنها علقت منه بمملوك.
وإن قلنا: لا حكم للحمل، فإن قلنا: إن الملك حصل بقبول الموصى له.. فالولد ملك لورثة الموصي. وإن قلنا: نتبين بالقبول أنه ملك بموت الموصي، أو قلنا براوية ابن عبد الحكم.. فقد ملك الزوج الولد، وعتق عليه، وثبت له عليه الولاء، ولا تصير الجارية أم ولد له.

(8/177)


الحالة الثالثة: إذا وضعته بعد موت الموصي، وبعد قبول الموصى له.. ففيه أربع مسائل:
إحداهن: أن تكون حملته بعد القبول، بأن تضعه لستة أشهر فصاعدا من حين القبول.. فإن الولد حر الأصل، ولا ولاء عليه، والأمة أم ولد للزوج؛ لأنها علقت منه بحر في ملكه.
الثانية: إذا حملته بعد موت الموصي وقبل القبول، بأن تضعه لستة أشهر فصاعدا من حين موت الموصي، ولدون ستة أشهر من وقت القبول.
فإن قلنا: إن الملك للموصى له حصل بنفس القبول.. يثبت على القولين في الحمل:
فإن قلنا: له حكم.. كان ذلك ملكا لورثة الموصي. وإن قلنا: لا حكم له.. كان ملكا للموصى له، وعتق عليه، وثبت له عليه الولاء، ولا تصير الجارية أو ولد له.
وإن قلنا: نتبين بالقبول أنه ملك بموت الموصي، أو قلنا برواية ابن عبد الحكم.. انعقد الولد حر الأصل، وصارت الجارية أم ولد للموصى له؛ لأنها علقت منه بحر في ملكه.
الثالثة: إذا حملته بعد الوصية وقبل موت الموصي، مثل: أن تضعه لستة أشهر فصاعدا من وقت الوصية، ولأقل من ستة أشهر من وقت موت الموصي:
فإن قلنا: للحمل حكم.. كان ذلك ملكا للموصي ولورثته بعده.
وإن قلنا: لا حكم للحمل.. ملك الموصى له الولد بملك الأم، وعتق عليه، وثبت له عليه الولاء، ولا تصير الجارية أم ولد له.
الرابعة: إذا حملته قبل الوصية، مثل: أن تضعه لأقل من ستة أشهر من وقت الوصية.. فإن الولد يكون ملكا للموصى له بكل حال، ويعتق عليه، وله عليه الولاء؛ لأنا إن قلنا: للحمل حكم: فقد أوصى له بهما. وإن قلنا: لا حكم له.. اعتبر وقت انفصاله، وقد انفصل في ملكه. ولا تصير الجارية أم ولد له؛ لأنها علقت منه بمملوك.

(8/178)


[فرع موت الموصي ثم الموصى له قبل القبول]
) : فإن كانت المسألة بحالها، فمات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول والرد، وله وارث، إما ابن أو أخ أو غيرهما.. قام مقامه في القبول والرد. فإن رد الوارث الوصية.. كانت الجارية وأولادها ملكا لورثة الموصي.
قال الشافعي: (وكرهت لهم ذلك؛ لأن الأولاد قد يعتقون ويثبت للأمة حكم الاستيلاد، وذلك يبطل برد الوارث) .
وإن قبل الوارث الوصية.. بنيت على وقت ملك الموصى له:
فإن قلنا: إنه يملك بنفس القبول.. ملك الوارث الجارية وأولادها، ولا يعتقون عليه، ولا يرث أولاد الجارية الموصى له؛ لأن وارث الموصى له ملك الجارية وأولادها بالموصى له لا من جهته؛ لأن الموصى له لم يملكهم.
وإن قلنا: نتبين بالقبول أنه ملك بموت الموصي.. تبينا أن الموصى له قد كان ملك الجارية وأولادها قبل موته، فيكون قبول وارث الموصى له كقبوله.
فكل موضع قلنا في التي قبلها على هذا القول: إذا قبل الموصى له الوصية أن الجارية تكون ملكا للزوج وأولادها لورثة الموصي.. كان هاهنا مثله.
وكل موضع قلنا: لو قبل الأب الوصية على هذا، وقلنا يكون أولاد الجارية أحرار الأصل.. فإنهم يكونون أحرار الأصل إذا قبل وارث الموصى له الوصية إلا أن الأولاد يرثون الأب إذا قبل، ويكونون أحرار الأصل.
وأما إذا قبل وارث الموصى له، وحكمنا بأن الأولاد أحرار الأصل.. فهل يرثون الأب؟ اختلف أصحابنا فيهم:
فقال الشيخ أبو حامد: لا يرثون؛ لأنا لو جعلنا أولاد الأمة من جملة الورثة..

(8/179)


لوقف صحة قبول الوصية على جماعتهم، إذ قبول جملة الوصية لا تصح إلا من جميع الورثة، وهم عند القبول مماليك لا يصح قبولهم، فتبطل الوصية. وإذا بطلت الوصية.. سقط عتقهم، فيؤدي إثبات ميراثهم إلى نفيه، فثبت العتق وسقط الميراث.
وقال ابن الصباغ: يرث أولاد الأمة، ويعتبر قبول من هو وارث في حال اعتبار القبول؛ لأن اعتبار القبول في حقهم يؤدي إلى إسقاطهم وإسقاط الميراث، فأسقطنا القبول وأثبتنا الميراث؛ لأنا لو لم نورثهم.. لأدي إلى إثبات ولد بلا ميراث.
وقال القاضي أبو الطيب والمسعودي (في " الإبانة ") : إن كان الوارث القابل ممن يحجبه أولاد الأمة.. لم يرث أولاد الأمة. وإن كان ممن لا يحجبه أولاد الأمة.. فهل يرثون؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرثون؛ لأن توريثهم لا يؤدي إلى حجب الوارث القابل.
والثاني: لا يرثون، وهو اختيار المسعودي (في " الإبانة ") ؛ لأن توريثهم يخرج القابل عن أن يكون جميع الورثة، ولا يصح القبول إلا من جميع الورثة.
وقال الداركي: إن كان القبول ثبت للموصى له وهو مريض.. لم يرثه أولاد الأمة؛ لأن قبول وارث الموصى له يقوم مقام قبوله، ولو قبل هو لكان وصية ولم يرثه أولاد الأمة.
وإن ثبت له القبول وهو صحيح.. ورثه أولاد الأمة؛ لأنه لو قبل الوصية في صحته.. لورثه الأولاد، فكذلك قبول ورثته يقوم مقام قبوله.

[فرع وصى بأمة لمن له ابن منها فماتا]
وإن وصى رجل لرجل بأمة، وللموصى له ابن منها حر يرثه، فمات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول والرد.. فإن ابن الموصى له من الجارية الموصى بها يقوم مقامه في القبول والرد.. فإن ردها.. بقيت على ملك ورثة الموصي. وإن قبلها، فإن احتملها الثلث.. عتقت على الابن؛ لأنا إن قلنا: أن الملك يحصل بالقبول.. فقد

(8/180)


ملكها ابنها بقبوله. وأن قلنا: نتبين بالقبول أنها ملكت بموت الموصي.. فبقبول الابن نتبين أن أباه كان قد ملكها، ثم انتقلت منه إرثا إلى ابنه، فعتقت عليه.
وإن لم يحتملها الثلث، فإن كان الابن معسرا.. عتق منها ما ملكه منها لا غير.
وإن كان موسرا بقيمة باقيها:
فإن قلنا: تملك الوصية بنفس القبول.. قوم باقيها على الابن.
وإن قلنا: نتبين بالقبول أنها ملكت بموت الموصي.. فهل تقوم عليه؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : من أصحابنا من قال: لا تقوم عليه؛ لأنه ملك بعضها بالإرث من أبيه، ومن ملك بالإرث.. لم يقوم عليه، كما لو ورث بعض أمة.
و (الثاني) : قال ابن الحداد: تقوم عليه، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه ملك بعضها باختياره للقبول، فصار كما لو اشترى بعضها، بخلاف الإرث فإنه يدخل في ملكه بغير اختياره.

[فرع الوصية للمبعض]
وإن أوصى رجل لمن نصفه حر ونصفه مملوك لوارثه بثلث ماله:
فإن لم يكن بين العبد وبين سيده مهايأة.. لم تصح الوصية؛ لأن تصحيحها يؤدي إلى أن تصح الوصية للوارث.
وإن كان بينهما مهايأة:
فإن قلنا: إن الأكساب النادرة لا تدخل في المهايأة.. لم تصح الوصية أيضا؛ لما ذكرناه.
وإن قلنا: إنها تدخل:
فإن قلنا: إن الوصية لا تملك إلا بنفس القبول.. نظر في اليوم الذي قبل فيه

(8/181)


الموصى له الوصية، فإن كان يوم نفسه.. صحت الوصية له، وإن كان يوم سيده.. لم تصح الوصية.
وإن قلنا: نتبين بالقبول أن الموصى له ملك الوصية بموت الموصي.. نظر في اليوم الذي مات فيه الموصي، فإن كان يوم الموصى له.. صحت الوصية له، وإن كان يوم سيده.. لم تصح الوصية.
وغلط بعض أصحابنا فقال: يعتبر يوم عقد الوصية، كما يعتبر في اللقطة يوم الوجود. وليس بشيء.
وإن وصى لمن نصفه حر ونصفه مملوك لأجنبي.. صحت الوصية.. فإن لم يكن بينهما مهايأة.. كانت الوصية بينهما. وإن كان بينهما مهايأة.
فإن قلنا: إن الأكساب النادرة لا تدخل في المهايأة.. كانت الوصية بينهما.
وإن قلنا: إنها تدخل.. بني على القولين في وقت ملك الوصية، وكانت لمن كان يومه يوم ملك الوصية.

[فرع الوصية لعبد رجل]
وإن وصى رجل لعبد رجل وصية فعتق العبد.. نظرت:
فإن عتق في حياة الموصي، ثم قبل العبد المعتق الوصية بعد موت الموصي.. فإن الوصية ملك للعبد دون مولاه.
وإن عتق بعد موت الموصي، وبعد القبول.. فإن المال للمولى؛ لا حق للعبد فيه. وإن عتق بعد موت الموصي وقبل القبول، ثم قبل العبد: فإن قلنا: إن الوصية تملك بنفس القبول.. فإن الوصية ملك للعبد دون مولاه. وإن قلنا: نتبين بالقبول أنها ملكت بموت الموصي.. فالوصية ملك للسيد.. فإن امتنع العبد من القبول على هذا.. فهل يجوز للسيد أن يقبل؟ فيه وجهان:
أحدهما: له أن يقبل؛ لأن الملك له.
والثاني: ليس له أن يقبل؛ لأن الإيجاب للعبد.

(8/182)


[فرع الوصية لعبده]
) : وإن أوصى رجل بثلث ماله لعبده.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول ابن الحداد -: أنه يعتق ثلث العبد؛ لأن العبد من جملة ماله، والوصية عامة فيه وفي سائر أمواله، فصار كما لو أوصى له بنفسه. ولا يقوم عليه باقي نفسه؛ لأنه معسر بقيمة باقيه.
و (الثاني) : من أصحابنا من قال: يجمع ثلث التركة في العبد. ويعتق. وإن فضل من الثلث شيء بعد قيمته.. دفع إليه. وإن نقص الثلث عن قدر قيمته.. عتق منه بقدر الثلث ورق باقيه؛ لما روي: «أن رجلا أعتق ستة أعبد في مرضه، فأعتق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهم اثنين وأرق أربعة» فجمع الثلث لتكميل الحرية، فكذلك هذا مثله.
و (الثالث) منهم من قال: لا تصح الوصية؛ لأن الظاهر أن الموصى به غير الموصى له. وإذا لم يدخل العبد في الوصية.. لم تصح الوصية.
والله أعلم

(8/183)


[باب ما يعتبر من الثلث]
العطايا على ضربين: منجزة وغير منجزة
فأما غير المنجزة: فهو ما يوصي به الإنسان أن يخرج من ماله بعد موته، فينظر فيه: فإن وصى بما لم يلزمه في حياته، كالهبة وصدقة التطوع والمحاباة والعتق وما أشبه ذلك.. فإن ذلك يعتبر من ثلث تركته، سواء وقعت الوصية به في الصحة أو في مرض الموت، أو بعضها في الصحة وبعضها في مرض الموت؛ لأن الوصية وعد، بدليل أنه يصح الرجوع فيها، وإنما تلزم بموت الموصي، وكلها متساوية في وقت اللزوم.
وأما ما وجب عليه في حياته، كالدين والزكاة والكفارة والحج: فإن لم يوص بها.. وجب قضاؤها من رأس ماله؛ لأنه إنما منع من الزيادة على الثلث لحق الورثة، وهذه الأشياء مقدمة على الميراث. وإن وصى بها.. نظرت:
فإن وصى أن تؤدى من رأس ماله.. أخرجت من رأس ماله؛ لأنها في الأصل من رأس المال، ووصيته بها تأكيد.
وإن وصى أن تخرج من ثلث تركته.. أخرجت من ثلث تركته، وزاحم أصحاب الوصايا في الثلث؛ لأنه قصد الرفق بالورثة، فإن لم يف ما يخص الواجب من الثلث.. تمم من رأس المال على ما سيأتي بيانه.
وإن وصى أن يفعل عنه، ولم يقل من رأس المال، ولا من الثلث.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يعتبر من الثلث، وهو ظاهر النص؛ لأنه في الأصل من رأس المال فلما وصى به.. علم أنه قصد الرفق بالورثة في أن يخرج من الثلث.
وقال أكثر أصحابنا: يخرج من رأس المال، وهو الأصح؛ لأنه في الأصل من

(8/184)


رأس المال، والوصية به تقتضي التذكارية، والنص محمول عليه إذا صرح بأن يفعل من الثلث.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: إن لم يقرن بوصيته بالواجب وصية أخرى.. كان من رأس المال. وإن قرن بها وصية أخرى يكون من الثلث، بأن قال: اقضوا ديني، وأعتقوا عني رقبة، أو تصدقوا عني تطوعا بكذا.. كان جميع ذلك من الثلث؛ لأنه لما قرن الواجب مع ما يخرج من الثلث.. علم أن الجميع من الثلث.
وأما العطايا المنجزة: فمثل أن يهب ويقبض، أو يبيع ويشتري بمحاباة، فإن كان ذلك في صحته.. اعتبر من رأس ماله وإن تأتى على جميع ماله؛ لأنه لا حق لأحد في ماله، ولا اعتراض عليه. وإن فعل ذلك في مرضه.. فالمرضى على ثلاثة أضرب:
مريض حكمه حكم الصحيح، ومريض حكمه حكم الميت، ومريض يخاف عليه التلف من مرضه ويرجى برؤه.
فأما [الضرب الأول] الذي حكمه حكم الصحيح فهو: أن يكون به مرض ولا يخاف عليه منه التلف، مثل: حمى يوم، ووجع الضرس والصداع ووجع العين وما أشبه ذلك.. فهذا حكم تصرفه حكم الصحيح؛ لأن هذه الأشياء لا يخاف منها التلف غالبا، ولا يخلو الإنسان من مثلها. وإن اتصل الموت بهذه الأشياء.. صار كمن مات فجأة بلا مرض.
وفي هذا المعنى: المرض الذي لا يرجى برؤه، ولكنه يطول بصاحبه، ولا يعاجله الموت منه، كالسل في ابتدائه، والفالج إذا طال به، وما أشبه ذلك مما لا يخاف منه معاجلة الموت، وإن تحقق أنها لا تزول.. فحكمه حكم الصحيح، كتصرف الشيخ الهرم، هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\404] : الاعتبار بالمآل لا بالحال، فلو كان مرضا يسيرا فمات منه.. بان أنا أخطأنا، وأنه مخوف.

(8/185)


وأما (الضرب الثاني) المريض الذي حكمه حكم الميت فهو: الميؤوس من حياته، مثل: أن يكون في النزع وقد شخص بصره وابيضت عيناه، أو يكون قد علاه الماء ولا يحسن العوم، أو كان قد قطع حلقه ومريئه، أو خرجت حشوته أو أبينت، أو قطع بنصفين وهو يتكلم - وحكى أبو على بن أبي هريرة: أن رجلا قطع بنصفين، فجعل يعاتب من فعل به ذلك - فهذا لا حكم لكلامه في وصية ولا عقد ولا إسلام ولا توبة.
قال الشيخ أبو حامد: فإن جنى جناية، أو أتلف مالا.. لم يلزمه ضمانها. وإن قتله قاتل.. لم يجب عليه قود ولا دية ولا كفارة؛ لأنه لم يبق فيه حياة مستقرة، وإنما يتحرك حركة مذبوح، وهذه حالة فرعون التي قال بها: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90] (يونس: 90) فلم يقبل منه. وهي الحالة التي قال الله تعالى فيها: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء: 18] (النساء: 18) .
وأما الضرب الثالث: فهو المرض الذي يخاف منه التلف غالبا، وقد يرجى البرء منه، فهذا إذا وصى فيه.. صحت وصيته. وإن تصرف فيه.. صح تصرفه. وإن أعتق أو وهب وأقبض أو حابى فيه بالبيع والشراء.. صح جميع ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] (البقرة: 180) ولم يرد به الموت نفسه؛ لأنه لا يمكنه معه الوصية، وإنما أراد به: إذا حضر سبب الموت.
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما طعن.. سقاه الطبيب لبنا، فخرج من الجرح، فقال: اعهد إلى الناس، فعهد، وأمضت الصحابة عهده) .
فإن كان فعله ذلك في حالة مخوفة: فإن برئ.. لزم الكل، وإن مات من مرضه ذلك.. اعتبرت تبرعاته فيه مثل العتق والهبة والمحاباة من ثلث تركته؛ لما روى عمران بن الحصين: «أن رجلا أعتق في مرضه الذي مات فيه ستة مملوكين؛ لا مال له غيرهم، فجزأهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة أجزاء، وأقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة» .

(8/186)


وروى: أن النبي صلى الله عليم وسلم قال: «إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم» .
ولأنه في تلك الحالة يتخوف الورود على الله، وقد يحمله ذلك الخوف على أن يتصدق بجميع ماله تقربا إلى الله ويتلفه على الوارث، فيضر به، فلذلك قصر تصرفه على ثلث تركته.
فأما إذا أنفق ماله في لذاته من المطعم والمشرب والملبس.. فإنه يكون من أصل ماله وإن استغرق جميع ماله؛ لأن منفعة نفسه مقدمة على منفعة الورثة.
إذا ثبت هذا: فقد ذكر الشافعي الأمراض المخوفة وغير المخوفة، فبدأ بذكر الحمى، وهي على ضربين: مطبقة وغير مطبقة.
فأما المطبقة: فإنها لا تكون مخوفة في يوم ولا يومين. فإذا أعطى في تلك لحال.. لم يعتبر من الثلث؛ لأن العادة ما جرت بأن الإنسان يضعف بحمى يوم ولا يومين، ولا يخاف منه التلف. فإذا دامت واتصلت.. صارت مخوفة، وما أعطاه في تلك الحال، اعتبر من الثلث؛ لأنه يخاف منها التلف.
وأما غير المطبقة فهي: الغب: التي تجيء يوما وتذهب يوما. والربع: وهي التي تجيء يوما وتذهب يومين، ثم تعود في اليوم الرابع، فهذه الحمى ليست بمخوفة وإن طالت زمانا؛ لأنه وإن ضعف في يوم الحمى، فإنه يقوى في يوم الصحة، فتكون القوة بإزاء الضعف فتتعادلان.
قال الشافعي: (فإن كان معها وجع.. كان مخوفا وذلك مثل البرسام، أو الرعاف الدائم أو ذات الجنب أو الخاصرة أو القولنج) .

(8/187)


وظاهر هذا: أن هذه الأمراض ليست بمخوفة إلا إذا انضافت إلى حمى الغب أو الربع.
قال أصحابنا: وليس هذا على ظاهره، بل هذه الأمراض مخوفة وإن انفردت، وإنما هي مع الحمى أشد خوفا. وقد نص على ذلك في " الأم "؛ لأن (البرسام) : بخار من الحمى يرتقي إلى الرأس أو الصدر فيختلط معه العقل فيهذي، فيكون مخوفا. وأما (الرعاف) : فإن كان يسيرا لحظة أو ساعة.. فليس بمخوف. وإن كان متصلا دائما.. فهو مخوف؛ لأنه ينزف دمه، فهو كما لو افتصد ولم يسده.
وأما (ذات الجنب) : فهو داء يقع في الجنب، فيرم وينتفخ وينفذ، ويكون ذلك بقرب القلب، يؤلم ألما شديدا، وربما انفتح إلى قلبه فمات عقيبه.
وكذلك (ذات الخاصرة) : جرح يقع في الخاصرة.. فهو مخوف. وكذلك قروح الصدر والرئة مخوفة؛ لأنه يصعب علاج قروح الصدر، والرئة لا تقبل العلاج؛ لأنها تضطرب أبدا وتتحرك فلا تقبل العلاج.
(والقولنج) : هو أن يستمسك طبعه فيحمي جسمه، ويرتفع إلى رأسه بخارات نخمية، فيختلط معها العقل، فيهلك.
وأما (القيام) : فهو إسهال البطن، فإن كان مسترسلا بحيث لا يقدر على حبسه، بل يخرج منه بغير اختياره.. فهو مخوف وإن كان قليلا؛ لأن هذا لا يكون إلا بسقوط القوة، ويخشى منه معاجلة الموت.
وإن كان غير مسترسل، ويمكنه إمساك نفسه فيه، فإن كان ذلك يوما أو يومين وليس معه دم.. فليس بمخوف؛ لأنه لا يخاف منه التلف إذ قد يكون من غير علة، وقد يكون من امتلاء فيدفع الطبيعة، فتحل محل الدواء.
وإذا كان محتملا.. لم يجعل مخوفا. وإن جاوز يومين.. صار مخوفا؛ لأنه ينشف الرطوبة الغريزية، فتغلب اليبوسة عليه، فيؤدي إلى التلف.

(8/188)


فإن انضاف إلى القيام زحير أو تقطيع.. كان مخوفا بكل حال. فالزحير: أن يخرج منه الشيء بشدة ومشقة وذلك يهده. والتقطيع: أن يخرج منه الشيء بعد الشيء متقطعا بشدة.
وأما إذا كان في إسهال يوم أو يومين دم.. فقد نقل المزني: (أنه لا يكون مخوفا) ، ونقل الربيع: (أنه يكون مخوفا) .
واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: الصحيح ما نقله الربيع؛ لأن الدم يخرج من الأعضاء الشريفة، كالكبد والطحال ونحو ذلك، وذلك مخوف.
ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين:
فالذي نقله الربيع: أراد: إذا كان خروج الدم من الكبد والطحال ونحوهما؛ لأن ذلك عن قروح بها.
والذي نقله المزني: أراد: إذا كان خروج الدم من المقعدة - وهو: البواسير - فلا يكون مخوفا ما لم يتطاول؛ لأنه لا يخاف منه التلف.

[فرع غلبة خروج الدم والبلغم ونحوهما]
) : قال الشافعي: (ومن ساوره الدم حتى تغير عقله أو المرار، أو البلغم.. كان مخوفا) وهذا كما قال: إذا ساوره الدم، أي غلبه وهاج عليه: وهو أن ينصب الدم إلى طرف من بدنه من يد أو رجل أو فخذ أو غيره، فينتفخ ويرم ويحمر.. فهو مخوف.
قال الشافعي: (تغير عقله أو لم يتغير؛ لأنه لا يكون من فرط الحمى؛ لأنه يذهب بالرطوبة الغريزية، فيهلك) .

(8/189)


وكذلك إذا ساوره المرار - أي: وأتته، وهي الصفراء إذا انصبت إلى موضع من بدنه؛ لأنه يكون من فضل الحمى - فيخاف عليه.
وإن غلب عليه البلغم - وهو من الرطوبة وابتداء الفالج - فهو مخوف أيضا؛ لأنه أول ما يثور يستمسك لسانه وتسقط قوته، فربما أطفأ الحرارة الغريزية، فيهلك. فإذا استقر وانطلق لسانه.. صار فالجا، ولم يكن مخوفا؛ لأنه لا يخشى منه معاجلة الموت.
وكذلك السل: لا يخاف منه معاجلة الموت وإن كان يتحقق أنه لا يبرأ منه، كما أن الإنسان إذا كبر وهرم يتحقق أنه لا يعود شابا، وأنه يموت عن كبره، وليس بمخوف.

[فرع الطاعون مرض مخوف]
) : قال الشافعي: (الطاعون مخوف حتى يذهب) .
قال الشيخ أبو حامد: أراد: إذا كان بالمرء طاعون.. فإنه مخوف حتى يذهب عنه؛ لأنه من غلبة الدم والحمى على جميع بدنه.
وقال المسعودي (في " الإبانة " ق\405) : إذا حصل ببلد طاعون، فمن كان بذلك البلد.. فأمره مخوف، وإن لم يطعن بعد.
وإن أشكل شيء من الأمراض: هل هو مخوف أو غير مخوف؟ رجع فيه إلى أهل الصنعة من أهل الطب، كما يرجع فيما أشكل من الشرع إلى أهل الفقه، ولا يقبل فيه أقل من طبيبين؛ لأن ذلك يحل محل الشهادة. ولا يقبل فيه إلا قول مسلمين عدلين، كما قلنا في الشهادة.
قال المسعودي (في " الإبانة " ق\405) : ولا يقبل فيه قول رجل وامرأتين؛ لأن

(8/190)


المقصود إثبات المرض لا إثبات المال، وإنما يثبت المال بشهادة رجل وامرأتين.
وأما المجروح: فينظر فيه:
فإن كان الجرح نافذا إلى الدماغ أو البطن.. فهو مخوف؛ لما روى: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما طعن، سقاه الطبيب لبنا، فخرج من جوفه، فقال له: اعهد إلى الناس) ولأن الهواء يدخله، وتهب فيه الريح فتنشف رطوبته.
وإن لم يكن نافذا.. فحكمه وحكم من ضرب بعصا أو خشبة أو حجر واحد، فينظر فيه، فإن آلمه وحصل منه ورم وجمع مدة.. فهو مخوف؛ لأنه قد يسري. وإن لم يجمع مدة، وليس فيه ورم ولا ألم.. فليس بمخوف. فإن أخذت الجراحة في البرء.. قال الشيخ أبو حامد: فقد خرج عن أن يكون مخوفا.

[فرع حمل المرأة ليس بمخوف]
) : وأما الحمل في المرأة: فليس بمخوف قبل الطلق.
وقال مالك: (إذا بلغت المرأة ستة أشهر.. صارت مخوفا عليها، فيكون تصرفها في ثلث تركتها) .
وقال ابن المسيب: الحمل مخوف من ابتدائه.
دليلنا: أن الحمل ليس بحال خوف، وإنما هو يقرب إلى حال الخوف، فهو كالصحة.
فأما إذا ضرب الحامل الطلق - وهو وجع الولادة - فهو مخوف على المنصوص عليه. وفيه قول آخر: (أنه غير مخوف) ؛ لأن السلامة منه أكثر، والأول أصح؛ لأن وجع الولادة أشد من المرض المخوف؛ لأن الولد يخرج من الرحم الذي ضيق رأسه كالإحليل، وربما كان سببا لتلفها.

(8/191)


قال الشافعي: (وكذلك طلق الإسقاط) .
قال أصحابنا: إن أسقطته لستة أشهر فأكثر.. كان مخوفا؛ لأن ولادته أشق من ولادة الحي؛ لأن الحي يسهل خروجه للحرارة التي فيه، وهي الحياة. وإذا كان ميتا.. برد وثقل، فعسر خروجه. وإن ولدته لدون ستة أشهر.. فليس بمخوف؛ لأنه مضغة أو شيء لم يتخلق، فهو كقطعة لحم، فلا يشق خروجه.
قال الشافعي: (فإن انفصل الولد وخرج.. فليس ما بعده بمخوف إلا أن يكون هناك جرح وألم وضربان.. فيكون مخوفا) .

[فرع صفة الحرب المخوفة]
) : وإن وقع القتال بين طائفتين مسلمتين، أو مسلمة وكافرة، أو كافرتين: فإن كانوا يترامون من بعد.. قال الشيخ أبو حامد: فليس بمخوف؛ لأنه قد يصيب الرمي وقد يخطئ، وليست إصابته بأولى من خطئه.
وإن التحم القتال، واختلط الفريقان: فإن كانت إحدى الطائفتين أكثر عددا من الأخرى بزيادة كثيرة.. فالقليلة مخوف عليها. وإن كانتا متساويتين.. فنقل المزني: (أنه مخوف عليهما) .
وقال في " الإملاء ": (تعتبر العطايا من رأس المال) . فالمسألة على قولين:
أحدهما: أنه مخوف عليهما؛ لأنه سبب يخاف منه التلف، فهو كالمرض المخوف.
والثاني: أنه ليس بمخوف عليهما؛ لأنه لم يحدث في الجسم شيء، فهو كالصحيح.

(8/192)


وإن وقع رجل في أسر الكفار: فإن كانوا قوما لا يرون قتل الأسرى - كالروم - فالأسر معهم ليس بمخوف؛ لأن عادتهم أنهم يحبسون الأسرى ولا يقتلونهم.
وإن كانوا قوما يرون قتل الأسرى.. فنقل المزني: (أنه مخوف) .
وقال في " الإملاء ": (ليس بمخوف) . فالمسألة على قولين وتعليلهما ما مضى.
وإن ركب في البحر، فهبت الرياح وارتفعت الأمواج والتطمت - وإن لم تنكسر السفينة - ففيه قولان، وتعليلهما ما ذكرناه.
وإن كان لمسلم على مسلم قتل قصاص وقدم لقتل القصاص. فنقل المزني: (أنه غير مخوف ما لم يجرح) .
واختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو إسحاق: هي على قولين كالمسائل الثلاث.
ومنهم من قال: ليس بمخوف قولا واحدا؛ لأن الله خلق الرحمة والرأفة في قلب المؤمن، وقد يرق لأخيه المسلم إذا قدر عليه، ويعفو عن القصاص، ولا رحمة في قلب الكافر على المسلم فيرجى منه ترك القتل. وكذلك في حال التحام القتال وارتفاع الأمواج لا يوجد هذا المعني.

[مسألة تبرعات الثلث المنجزة والمؤخرة]
وإن عجز الثلث عن التبرعات.. فلا تخلو التبرعات: إما أن تكون منجزة أو مؤخرة، أو بعضها منجزا وبعضها مؤخرا.
فإن كانت منجزة، مثل: أن باع وحابى أو وهب وأقبض أو أعتق عتقا نافذا.. نظرت: فإن كانت تبرعاته وقعت في جنس واحد من التصرفات، مثل: المحاباة أو

(8/193)


الهبة أو العتق، فإن فعل ذلك متفرقا، مثل: أن أعتق عبدا ثم أعتق عبدا، أو حابى ثم حابى.. فإنه يبدأ بالأول فالأول. فإن استوفى الثلث بالأول.. لزم، وكان ما بعده موقوفا على إجازة الورثة. وإن بقي من الثلث شيء بعد الأول.. لزم من الثاني بقدر ما بقي من الثلث، وما زاد على الثلث موقوف على إجازة الورثة؛ لأن المريض لا ينفذ تبرعه إلا في ثلث التركة، وقد سبق الأول، فقد لسبقه، فلزم في حق الورثة.
وإن وقعت تبرعاته في حالة واحدة.. نظرت: فإن كانت عتقا، بأن قال لجماعة عبيد: أعتقتكم.. أقرع بينهم، ويعتق منهم قدر ثلث التركة؛ لما روى عمران بن الحصين: «أن رجلا أعتق في مرض موته ستة مملوكين له، فأقرع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم بعد موته، فأعتق اثنين وأرق أربعة» .
وإن كانت تبرعاته محاباة أو هبة، بأن باع جماعة بكلمة واحدة وحاباهم، أو وهبهم وأقبضهم في حالة واحدة، أو وكل من فعل ذلك عنه، ووقع ذلك في حالة واحدة.. قسط الثلث بينهم على قدر محاباتهم.
والفرق بين العتق وغيره من التبرعات: أن القصد من العتق تكميل الأحكام، ولا يحصل ذلك إلا بعتق جميع الرقبة، والقصد من غير العتق الملك للموصى له، وذلك يحصل وإن ملك الموصى له بعض ما وصي له به.
وإن كانت تبرعاته في أجناس من التصرفات، مثل أن أعتق وباع وحابى ووهب وأقبض: فإن وقع ذلك في حالة واحدة، مثل أن وكل من يبيع من رجل بيعا فيه محاباة، ووكل آخر يهب من رجل عينا ويقبضه، وأعتق هو أو وكيله عبدا، أو وقعت هذه التصرفات في حالة واحدة، ولم يحتمل الثلث جميعها.. قسط الثلث بين الجميع على التساوي إن تساوت عطاياهم، وعلى التفاضل إن تفاضلت؛ لأنه لا مزية لبعضهم على بعض في السبق. وإن وقعت هذه التصرفات متفرقة.. قدم الأول فالأول على ما ذكرناه في الجنس الواحد.
وقال أبو حنيفة: (إن حابى أولا ثم أعتق.. قدمت المحاباة. وإن أعتق أولا ثم حابى.. سوى بينهما؛ لأن العتق حق لله تعالى، والمحاباة حق للآدمي، فلم يقدم حق الله، كما لو أعتق المريض عبدا ثم أقر بدين لآدمي، فإن الدين مقدم) .

(8/194)


ودليلنا أنهما عطيتان منجزتان، لو انفردت كل واحدة.. للزمت. فإذا اجتمعتا ولم يحتملهما الثلث.. قدمت الأولى منهما، كما لو حابى أولا، ثم أعتق.
فقولنا: (منجزتان) احتراز مما لو كانتا مؤخرتين، أو إحداهما منجزة والأخرى مؤخرة.
وقولنا: (لو انفردت كل واحدة للزمت) احتراز من البيع الفاسد. وما ذكروه من الإقرار بالدين بعد العتق، فإن الدين لم يجب بالإقرار، وإنما وجوبه متقدم على العتق، فلذلك قدم على العتق.
وإن كانت التبرعات مؤخرة - وهو: ما يوصي أن يفعله عنه بعد موته، من عتق وكتابة ومحاباة وهبة وصدقة وما أشبه ذلك - نظرت:
فإن كانت وصاياه بجنس واحد، ولم يحتملها الثلث، فإن كانت عتقا.. أقرع بين الجميع؛ لأن القصد تكميل الأحكام بالعتق، وذلك لا يحصل إلا بعتق جميع الرقبة. وإن كانت محاباة أو هبة أو صدقة.. قسم الثلث بين الجميع، سواء وقعت متفرقة أو في وقت واحد؛ لتساوي الجميع في وقت اللزوم، وهو عند الموت.
وإن كانت وصاياه بأجناس، فإن لم يكن معها عتق.. قسم الثلث بين الجميع؛ لما ذكرناه. وإن كان معها عتق، بأن أوصى بمحاباة وهبة وعتق.. ففيه قولان:
أحدهما: يقسط الثلث بين الجميع بالحصص؛ لتساوي الجميع في وقت اللزوم.
والثاني: يقدم العتق على غيره؛ لأن له مزية في السراية.
وإن أوصى بمحاباة وهبة وتفرقة شيء من ماله على المساكين، وعجز الثلث عن جميع ذلك:
فقال البغداديون من أصحابنا: يقسط الثلث بين الجميع على الحصص قولا واحدا؛ لأنه لا مزية لبعضها على بعض.

(8/195)


وقال المسعودي (في " الإبانة " ق\406) : وهل تقدم الوصية للمساكين على غيرهما؟ فيه قولان، كالعتق مع غيره، والأول أصح؛ لأن العتق له مزية بالسراية، وهذا لا يوجد في الوصية للمساكين.
وإن كانت الوصية بمحاباة وهبة وكتابة.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هل تقدم الكتابة على غيرها؟ فيه قولان؛ لما في الكتابة من العتق.
ومنهم من قال: لا تقدم الكتابة قولا واحدا؛ لأنه لا سراية للكتابة.
وإن كان بعض التبرعات منجزة وبعضها مؤخرة.. قدمت المنجزة، سواء تقدمت أو تأخرت، عتقا كانت أو غيره؛ لأنها أقوى، بدليل أن الكل يلزم في حق المتصرف ولو لم يمت في مرضه ذلك، والمؤخرة لا تلزم في حياته بحال.
وقال أبو حنيفة: (إذا أعتق عبدا في مرضه، ثم أوصى بعتق آخر، ولم يحتملهما الثلث.. سوى بينهما) .
دليلنا: أنهما عطيتان، إحداهما منجزة والأخرى مؤخرة، فقدمت المنجزة، كما لو باع وحابى، ثم أوصى بعتق عبد.

[فرع ينفذ تعليق عتق مشروط إن احتمله الثلث]
إذا كان له عبدان - سالم وغانم - فقال في مرض موته: إذا أعتقت سالما.. فغانم حر، فأعتق سالما، فإن احتملهما الثلث.. عتق سالم بالمباشرة، وعتق غانم بالصفة. وإن لم يحتملهما الثلث.. عتق سالم؛ لأنه سابق، ولم يعتق غانم؛ لأن عتقه متأخر.
وإن قال: إذا أعتقت سالما.. فغانم حر حال عتق سالم، فأعتق سالما واحتملهما الثلث.. فاختلف أصحابنا فيها:
فقال القاضي أبو الطيب: يعتق سالم ولا يعتق غانم؛ لأن إعتاق سالم شرط لإعتاق غانم، والمشروط لا يصح وقوعه مع الشرط ولا قبله.

(8/196)


وقال أكثر أصحابنا: يعتقان معا؛ لأنه جعل حال عتق سالم صفة لعتق غانم وتأخر حرف من لفظ عتق سالم يعلم بوجود الشرط، فوقع المشروط.
فإذا قلنا بهذا: ولم يحتملهما الثلث.. ففيه وجهان:
(أحدهما) : قال أبو العباس ابن سريج، والشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: يعتق سالم ولا يعتق غانم؛ لأن عتقهما وقع في حالة واحدة، ولا يمكن الإقراع بينهما؛ لأنا لو أقرعنا بينهما.. لم يؤمن أن تخرج قرعة العتق على غانم فيرق سالم. وإذا رق سالم.. لم يعتق غانم، فيؤدي إثبات عتق غانم إلى نفيه. وما أدى إثباته إلى نفيه.. سقط إثباته.
(والثاني) : قال الشيخ أبو إسحاق: لا يعتق واحد منهما؛ لأن الإقراع بينهما لا يمكن؛ لما ذكرناه، ولا يمكن تقديم عتق سالم؛ لأن عتقهما وقع في حالة واحدة، ولا مزية لأحدهما على الآخر، فسقط عتقهما.
قال الشيخ أبو حامد: وإن قال لغانم: إذا أعتقت سالما.. فأنت حر قبله، ثم أعتق سالما في مرض موته، فإن خرجا من الثلث.. عتقا، وتبينا أن عتق غانم قبل سالم. وإن لم يحتملهما الثلث.. عتق سالم دون غانم؛ لما ذكرناه.
قلت: وعلى قول الشيخ أبي إسحاق في التي قبلها: لا يعتق هاهنا واحد منهما؛ لأن عتق سالم شرط لعتق غانم، فإذا لم يعتق عبده في الأولى - وعتقه وعتق غانم يقع في حالة واحدة - فلأن لا يعتق عبده هاهنا - وعتق غانم قبله - أولى. وكذلك على قول القاضي أبي الطيب في التي قبلها: لا يعتق غانم وإن احتملهما الثلث؛ لأن المشروط لا يتقدم على الشرط. والأول هو المشهور.
فإن كان له ثلاثة أعبد - سالم وغانم وفائق - فقال في مرض موته: إذا أعتقت سالما.. فغانم وفائق حران، ثم أعتق سالما، فإن احتمل الثلث عتق جميعهم.. عتقوا. وإن احتمل الثلث عتق أحدهم لا غير.. عتق سالم؛ لأنه عتقه سابق. وإن احتمل الثلث عتق سالم وعتق أحد الآخرين.. عتق سالم، وأقرع بين غانم وفائق؛ لأن عتقهما وقع في حالة واحدة.

(8/197)


وإن قال لغانم وفائق في مرض موته: أنتما حران حال عتق سالم، ثم أعتق سالما، واحتمل الثلث عتق جميعهم.. فعلى قول القاضي أبي الطيب في التي قبلها: يعتق سالم ولا يعتق غانم وفائق. وعلى قول عامة أصحابنا: يعتق جميعهم.
فإذا قلنا بهذا: ولم يحتمل الثلث إلا عتق واحد.. فعلى قول الشيخ أبي إسحاق في التي قبلها: لا يعتق واحد من الثلاثة. وعلى قول عامة أصحابنا: يعتق سالم ولا يعتق غانم وفائق.
فإذا قلنا بهذا: واحتمل الثلث عتق اثنين.. عتق سالم؛ لأن عتقه متقدم، وأقرع بين غانم وفائق؛ لأن عتقهما في حالة واحدة.

[فرع تعلق العتق بمرض الموت على صفة]
قال أبو العباس: إذا قال الرجل لعبده في مرض موته: إذا تزوجت.. فأنت حر، فتزوج امرأة بمهر مثلها.. اعتبر المهر من رأس المال، وعتق العبد من الثلث لوجود الصفة. وإن تزوجها بأكثر من مهر مثلها.. كان قدر مهر مثلها من رأس المال.
وأما الزيادة على مهر مثلها، فإن كانت وارثة له.. لم تستحقها؛ لأن المحاباة وصية، والوصية لا تصح للوارث. ويعتق العبد من الثلث.
وإن كانت غير وارثة، بأن كانت ذمية وهو مسلم، أو أبانها قبل موته، وقلنا: لا ترثه.. صحت لها المحاباة من الثلث. فإن احتمل الثلث المحاباة وعتق العبد.. نفذا. وإن لم يحتملهما الثلث.. قدمت المحاباة؛ لأنها سابقة؛ لأنها تثبت بنفس العقد، والعتق يقع بعد العقد.
وإن قال لعبده في مرض موته: إذا تزوجت.. فأنت حر حال تزويجي، ثم تزوج امرأة بمهر مثلها.. اعتبر مهر المثل من رأس المال وعتق العبد من الثلث.
وإن تزوجها بأكثر من مهر مثلها، فإن كانت وارثة.. لم تستحق الزيادة، وعتق العبد من الثلث. وإن كانت غير وارثة.. استحقت المحاباة، فإن احتمل الثلث المحاباة والعتق.. نفذ الجميع. وإن لم يحتملهما.. قسم الثلث بين المحاباة والعتق على قدرهما؛ لأنهما وقعا في حالة واحدة.

(8/198)


والفرق بين هذه وبين العتق: أن الصفة هاهنا هو التزويج، والتزويج لا يبطل بانتقاض المحاباة.

[فرع علق في مرض موته عتق عبده على شراء]
) : قال أبو العباس: إذا قال في مرض موته لعبده غانم: إذا اشتريت سالما.. فأنت حر في حال شرائي له، ثم اشتراه وحابى فيه، ولم يحتمل الثلث المحاباة والعتق قسم الثلث بين المحاباة والعتق على قدرهما؛ لأن الشراء يتم في جميع سالم وإن لم يتم لبائعه جميع المحاباة، فصفة العتق توجد.
وإن قال لغانم في مرض موته: إذا بعت سالما.. فأنت حر في حال بيعي له، فباع سالما وحابى فيه، ولم يحتملهما الثلث.. قدمت المحاباة؛ لأن البيع لا يتم في جميع سالم إلا بأن تحصل جميع المحاباة للمشتري. وإذا لم يتم البيع في جميع سالم.. لم توجد صفة عتق غانم، وهذا ظاهر كلام الشافعي، وبه قال ابن الحداد.
وقال ابن القاص وابن اللبان: تقدم المحاباة فيهما؛ لأن الثمن يقابل جميع العبد، فإذا سقط بعض الثمن.. بطل البيع فيما يقابله من العبد، فلا توجد صفة العتق، وقد مضى ذلك في البيوع.

[فرع وصى بقضاء دينه أو أن يحج عنه من الثلث]
) : إذا أوصى أن يقضى دينه أو يحج عنه حجة الإسلام من الثلث، وأوصى بتبرعات ولم يحتملها الثلث.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقدم الدين أو الحج في الثلث، فإن فضل من الثلث شيء بعد ذلك.. صرف إلى وصايا التبرعات. وإن لم يفضل شيء.. سقطت الوصايا بالتبرعات؛ لأن الدين أو الوصية بحجة الإسلام فرض، والتبرعات تطوع، والفرض آكد، فقدم.
والوجه الثاني: يقسط الثلث على قدر الدين وقدر الوصية بالتبرع، أو على قدر أجرة المثل وقدر الوصية بالتبرع، ثم يتمم الدين أو أجرة المثل من رأس المال؛ لأن

(8/199)


الدين وأجرة المثل على حجة الإسلام من رأس المال، فإذا جعلهما من الثلث. فقد قصد الرفق بالورثة، فقسط الثلث على الجميع، وتمم الواجب من رأس المال؛ لأنه لا بد من تمامه.
فعلى هذا: إذا كان عليه أربعون درهما دينا، وأوصى أن يقضى ذلك من ثلثه، وأوصى لآخر بثلث ماله، ومات، وخلف مائة وعشرين درهما، ولم يجز الورثة.. فالعمل فيه: أنك تعزل أربعين درهما لصاحب الدين، فله منها سهم وصية، والباقي تمام دينه من رأس المال، ويبقى للورثة وللموصى له بالثلث ثمانون درهما، للموصى له منها سهم وصية، وللورثة أربعة أسهم مثلا السهمين الموصى بهما. فإذا قسمت الثمانين على الخمسة الأسهم.. أصاب كل سهم ستة عشر، فيعلم أن سهم الوصية من الأربعين ستة عشر، فتضم إلى الثمانين، فيكون الجميع ستة وتسعين، ثلث ذلك اثنان وثلاثون: لصاحب الدين ستة عشر، وللموصى له ستة عشر، وما زاد على ستة وتسعين - وهو: أربعة وعشرون ـ تمام الدين.
فإذا كانت المسألة بحالها، وأوصى لرجل بثلث ماله، وعليه دين أربعون درهما، وأوصى أن يقضى ذلك من ثلثه، وأوصى أن يحج عنه حجة الإسلام من ثلثه، ولم يوجد من يحج عنه من الميقات إلا بأربعين، ولم يجز الورثة ما زاد على الثلث.. فإنك تعزل لصاحب الدين أربعين: له منها سهم وصية، والباقي تمام دينه من رأس المال. وتعزل للحج أربعين: يخرج منها سهم وصية، والباقي منها تمام أجرة المثل من راس المال. ويبقى للورثة وللموصى له بالثلث أربعون: للموصى له منها سهم وصية، وللورثة ستة أسهم مثلا أسهم الوصية. فإذا قسمت الأربعين على سبعة أسهم.. أصاب كل سهم خمسة دراهم وخمسة أسباع درهم، فيعلم أن السهم الموصى به من الأربعين التي للدين مثل ذلك، ومن الأربعين التي للحج مثل ذلك، وما زاد على السهمين تمام للدين والأجرة. فإذا أضفت السهمين إلى الأربعين التي للموصى له وللورثة.. كان جميع ذلك أحدا وخمسين درهما وثلاثة أسباع درهم، الثلث من ذلك سبعة عشر

(8/200)


درهما وسبع درهم بينهم أثلاثا؛ لتساوي وصاياهم، فيحصل لكل واحد خمسة دراهم وخمسة أسباع درهم. والثلثان أربعة وثلاثون درهما وسبعا درهم، وما زاد على أحد وخمسين وثلاثة أسباع درهم تمام الدين، والأجرة بينهما نصفان؛ لتساوي حقيهما. وإن تفاضلت الحقوق.. كانت القسمة على التفاضل على هذا العمل.

[مسألة الوصية بثلث عين من المال]
إذا أوصى لرجل بثلث عين من ماله من دار أو أرض أو عبد، ثم مات الموصي، فاستحق ثلثا العين الموصى بها، أو هلك ثلثاها وبقي ثلثها، وللموصي مال آخر يخرج ذلك الثلث منه.. استحق الموصى له الثلث الباقي من العين الموصى بها. وبه قال كافة العلماء.
وقال أبو ثور، وزفر، وأبو العباس ابن سريج: لا يستحق الموصى له إلا ثلث ما بقي من العين الموصى بها، كما لو أوصى له بثلث ماله فاستحق ثلثاه، ولأنه لم يوص له بثلث معين، وإنما أوصى له بثلث مشاع، فإذا استحق ثلثاه، أو هلك.. فقد هلك ثلثا الوصية.
والمذهب الأول؛ لأنه أوصى له بملكه الذي يخرج من ثلثه، فصح، كما لو أوصى له بعبد كامل، فاستحق ثلثاه، وله مال يخرج الثلث الباقي منه. ولأن الوصية إنما تنصرف إلى ما يملكه من العبد، كما لو كان عبد بين شريكين نصفين، فقال أحدهما للآخر: بعتك نصف هذا العبد.. فإنه ينصرف إلى ما يملكه منه.
قال ابن اللبان: وعلى هذين الوجهين الوصية بالنوع الواحد، مما يقسم كيلا أو وزنا، كالحبوب والدراهم والدنانير. أو مما يجمع في القسم من النوع الواحد، كالإبل والبقر والغنم والعبيد والثياب، قال: فإن أوصى لرجل بسدس ماله، ثم مات وخلف مائة شاة، أو مائة ثوب مروية، فاستحق نصفها أو تلف.. كان للموصى له سدس ما بقي في أحد الوجهين معا.

(8/201)


وإن وصى له بسدس الغنم، أو بسدس الثياب، ثم مات فاستحق نصفها، أو تلف.. كان له سدس ما بقي في أحد الوجهين، وله سدس جميع الغنم أو الثياب، وهو: ثلث الباقي في الثاني.

[مسألة وصى بثلث ماله وهو حاضر وغائب]
إذا أوصى لرجل بثلث ماله، فمات وخلف مالا حاضرا ومالا غائبا، وخلف عينا ودينا.. استحق الموصى له ثلث الحاضر، وثلث الغائب، وثلث العين، وثلث الدين. واستحق الوارث الثلثين من ذلك. ويدفع إلى الموصى له ثلث الحاضر وثلث العين. وكلما حضر من الغائب شيء، أو نض من الدين شيء.. دفع إليه ثلثه، وإلى الوارث ثلثاه؛ لأنه شريك للوارث في جميع ذلك.
وإن وصى له بعبد يساوي مائة درهم، وخلف مائتين غائبتين، أو دينا، ولا يملك غير ذلك.. لم يجب دفع العبد إلى الموصى له؛ لأنه لا يجوز أن يتنجز للموصى له شيء إلا ويحصل للوارث مثلاه.
فإن وصل من المائتين شيء، أو نض من الدين شيء.. دفع إلى الموصى له مثل نصف ما حصل منهما أو نض. فإن حصل جميع المائتين.. دفع جميع العبد إلى الموصى له فإن طلب الموصى له أن يدفع إليه ثلث العبد ليتصرف فيه قبل أن يحصل شيء من المائتين.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب دفعه إليه؛ لأنه يستحق ذلك بكل حال.
والثاني: لا يجب دفعه إليه، وهو المذهب؛ لأنه لا يتنجز للموصى له شيء إلا ويتنجز للوارث مثلاه، وهذا مذهبنا.
وقال مالك: (الوارث بالخيار: بين أن يسلم العبد إلى الموصى له قبل حضور المائتين، وبين أن يبطل الوصية في ثلثي العبد وتجعل وصيته في ثلث جميع المال مشاعا) .

(8/202)


دليلنا: أن الموصي قصد تخصيص الموصى له بملك عين معينة من ماله، فلم يجز للوارث نقل ذلك إلى غيره، كما لو كان المال كله حاضرا.
وإذا ثبت هذا: فإن كسب هذا العبد مالا بعد موت الموصي، وبعد قبول الموصى له الوصية، وقبل حضور المال الغائب.. كان للموصى له ثلث كسبه، وللوارث الثلثان.
فإن لم يحضر المال الغائب.. فلا كلام. وإن حضر المال الغائب.. فهل يجب على الوارث رد ما أخذه من كسبه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب؛ لأنه أخذه في وقت يجوز له أخذه، فهو كالمستأجر.
والثاني: يجب عليه رده وهو الأصح؛ لأنه بان أنه لا ملك له في العبد ذلك الوقت.

[فرع له ستون درهما وأوصى بثلث العين منها]
إذا كان لرجل ثلاثون درهما عينا، وثلاثون درهما دينا على معسر، فأوصى بثلث العين لرجل، وأوصى بالدين لمن عليه ومات، ولم يجز الورثة.. فإن الثلث يقسم بين الموصى لهما على أربعة أسهم، لمن عليه الدين ثلاثة، وللآخر سهم. ويسقط ممن عليه الدين خمسة عشر درهما، ويضم سهم الموصى له بثلث العين إلى سهام الورثة ـ وهي: ثمانية، مثلا سهام الوصية ـ فتقسم الثلاثون ـ التي هي عين ـ على تسعة، للموصى له سهم ـ وهو: ثلاثة دراهم وثلث درهم ـ وللورثة ستة وعشرون درهما وثلثا درهم. وكلما نض من الخمسة عشر التي بقيت على الغريم شيء.. كان للموصى له بثلث العين قدر تسعه يأخذه من الثلاثين التي كانت عينا ـ إن كانت باقية ـ أو من بدلها ـ إن كانت تالفة ـ وللورثة ثمانية أتساعه. فإذا نضت الخمسة عشر كلها.. كان للموصى له بثلث العين قدر تسعها ـ وهو درهم وثلثا درهم ـ يأخذه من العين، أو من بدلها.
فإن أوصى لرجل بثلث الدين، ولمن عليه الدين بجميع ما عليه، ولم يجز

(8/203)


الورثة.. كانت الثلاثون ـ التي هي عين ـ للورثة، ويقسم الثلث على أربعة أسهم: لمن عليه الدين ثلاثة أسهم ـ وهو: خمسة عشر درهما ـ تسقط عن ذمته، ويبقى عليه خمسة عشر، وكلما نض منها شيء.. اقتسمه الورثة والموصى له بالثلث على ثلاثة أسهم: للورثة سهمان، وللموصى له سهم.
فإن أوصى لرجل بثلث ماله، وللغريم بما عليه، ومات، ولم يجز الورثة.. قسم الثلث على خمسة، للغريم ثلاثة أخماسه ـ وهو: اثنا عشر درهما ـ فيسقط عنه، وللموصى له بالثلث سهمان يضمهما إلى سهام الورثة ـ وهي: عشرة ـ فيقسم الثلاثون ـ التي هي عين ـ على اثني عشر: للورثة عشرة، وللموصى له سهمان، وكلما نض من الثمانية عشر الباقية على الغريم شيء.. قسم بين الورثة والموصى له بالثلث على اثني عشر.

[فرع وصى بالثلث وترك عشرة عينا وعشرة دينا وابنا]
] : وإذا كان لرجل عشرة دراهم عينا، وعشرة دراهم دينا على ابنه، ولا وارث له غيره، ولا يملك غير ذلك، وأوصى بثلث ماله لرجل، ومات والابن معسر.. فللموصى له ثلثا العشرة العين: ثلثها بالوصية وثلثها قضاء ما له على الابن.
فإن كان الابن قد حجر عليه لغرمائه.. ففيه وجهان، حكاهما ابن اللبان:
أحدهما: أن الموصى له أحق بثلثي العشرة، كالأولى.
والثاني: أنه يأخذ ثلث العشرة بالوصية، ويقسم ثلثاها بينه وبين غرماء الابن على قدر ديونهم. فإن كان الوصية بثلثي العين.. كان للموصى له ثلثا العشرة العين، وللابن ثلثها ويبرأ مما عليه؛ لأنه كالقابض لثلثي المال.
فإن كان محجورا عليه لغرمائه.. لم يحاصوا الموصى له في ثلثي العشرة وجها واحدا؛ لأنه يأخذ ذلك بحق الوصية.
وإن ترك ابنين، وعشرة عينا وعشرة دينا على أحدهما، وهو معسر.. أخذ الابن الآخر العشرة العين، نصفها ميراثا له ونصفها اقتضاء عن ما له على أخيه.

(8/204)


وإن كان من عليه الدين محجورا عليه لدين عليه.. فهل يختص الأخ بهذه العشرة، أو يقاسم غرماء أخيه في نصفها؟ على الوجهين.
وإن كان الأب قد وصى بثلث ماله لرجل.. قسمت العشرة العين بين الابن الذي لا دين عليه وبين الموصى له نصفين؛ لأن الابن الذي لا دين عليه يملك ثلثها بالإرث، والموصى له يملك ثلثها بالوصية، ومن عليه الدين يملك ثلثها بالإرث، ثم الابن الذي لا دين عليه والموصى له يملك كل واحد منهما في ذمة الابن الذي عليه الدين ثلث العشرة في ذمته، وقد وجدا له ثلث هذه العشرة وحقاهما متساويان، فاقتسما ذلك بينهما.

[مسألة اعتبار الثلث فيمن أوصى بمنفعة عبده أو داره]
] : إذا أوصى له بمنفعة عبده أو داره على التأبيد.. اعتبر خروج ذلك من الثلث. وفي كيفية اعتبار خروجها من الثلث ثلاثة أوجه:
أحدها: تقوم المنفعة في حق الموصى له، والرقبة مسلوبة المنفعة في حق الورثة؛ لأن الموصى به هو المنفعة، فاعتبرت قيمتها في حق الموصى له، والرقبة ملك الورثة.. فاعتبرت قيمتها في ثلثي التركة.
وكيفية ذلك أن يقال: كم قيمة هذه الرقبة بمنافعها؟ فإن قيل: مائة.. قيل: فكم قيمة الرقبة مسلوبة المنفعة على التأبيد؟ فإن قيل: عشرة.. علمنا أن قيمة المنفعة تسعون، فتعتبر من الثلث، وعلمنا أن قيمة الرقبة عشرة، فتضاف إلى ثلثي التركة.
والوجه الثاني: أن المنفعة تقوم على الموصى له، ولا تحتسب قيمة الرقبة على الموصى له؛ لأنه لا يملكها، ولا على الوارث؛ لأنه لا منفعة له بها.
والثالث ـ وهو المنصوص ـ: (أن الرقبة تقوم بمنافعها في حق الموصى له؛ لأن المقصود بالعبيد والدور هو منفعتها دون أعيانها) .
وإن وصى له بمنفعة عبده أو داره أو أرضه مدة معلومة.. فإن الرقبة تقوم في حق

(8/205)


الورثة لا في حق الموصى له، وجها واحدا؛ لأن لهم فيها منفعة، وهو أنهم يملكون منفعتها بعد انقضاء المدة. وتقوم المنفعة في حق الموصى له، وفي كيفية تقويمها في حقه وجهان:
أحدهما: تقوم الرقبة كاملة المنفعة، ثم تقوم مسلوبة المنفعة مدة الوصية، ويكون ما بينهما قيمة المنفعة.
والثاني: تقوم المنفعة مدة الوصية، فتعتبر من الثلث، ولا تقوم الرقبة على الموصى له؛ لأنها غير موصى بها.
وإن وصى بالمنفعة لرجل وبالرقبة لآخر.. فإن المنفعة تقوم في حق الموصى له بها، والرقبة تقوم في حق الموصى له بها، بلا خلاف بين أصحابنا؛ لأن كل واحد منهما يستفيد بالوصية ملك ما وصى له به.
قال الشيخ أبو حامد: واتفاقهم في هذه يدل على صحة تقويم الرقبة بمنفعتها في حق الموصى له بالمنفعة لا غير.

[فرع الوصية بثمرة البستان]
وإن وصى له بثمرة بستانه: فإن كانت موجودة.. قومت الثمرة يوم موت الموصي، واعتبر خروجها من الثلث.
وإن كانت غير موجودة:
أحدهما: يقوم البستان بكماله في حق الموصى له؛ لأن المقصود به منفعته.
والثاني: تقوم المنفعة في حق الموصى له، والرقبة في حق الورثة، وهو أن يقال: كم قيمته كامل المنفعة؟ فإن قيل مائة.. قيل: كم قيمته مسلوب المنفعة؟ فإن قيل: عشرة.. علم أن التسعين قيمة المنفعة فتحتسب من الثلث، وعلم أن العشرة قيمة الرقبة، فتحتسب بها في ثلثي التركة على الورثة.
ويسقط الوجه الثالث في العبد هاهنا، وهو أن الرقبة لا تقوم في حق أحدهما؛ لأن

(8/206)


البستان قد يجف فتبطل الوصية بالمنفعة بثمره، ويمكن الوارث الانتفاع بأخشابه، بخلاف الرقبة.
وإن كانت الوصية بمنفعته مدة معلومة.. قومت الرقبة في حق الوارث، والمنفعة في حق الموصى له وجها واحدا. وكل موضع احتمل خروج منفعة جميع البستان من الثلث.. فإن الثمرة تكون للموصى له، ما دام البستان باقيا، ورقبة النخيل والشجر للوارث، ولا يلزم أحدهما سقي النخل والشجر؛ لأن السقي تنتفع به الثمرة والشجرة، فلا يلزم أحدهما سقي ملك صاحبه، بخلاف ما لو باع ثمرة بعد بدو صلاحها، فإن عليه سقيها؛ لأن عليه تسليمها، وذلك من تمام تسلميها.
وإن لم يخرج من الثلث إلا بعض المنفعة.. كان للموصى له من ثمرة كل عام قدر ما احتمله المنفعة، والباقي للورثة اعتبارا بما خرج من الثلث.

[فرع أوصى له بلبن شاة وصوفها]
إذا أوصى له بلبن شاة وصوفها.. جاز، كما تجوز الوصية بثمرة الشجرة. وإن وصى له بلبنها لا غير.. جاز.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يقوم هاهنا الموصى به دون العين؛ لأنه لم يوص له بجميع منافعها.

[مسألة اعتق في مرضه أمة حاملا]
إذا اعتق في مرض موته أمة حاملا بمملوك له.. فإنها تعتق بالمباشرة ويعتق الحمل بالسراية، ومتى تقوم الأمة؟ قال أبو العباس: فيه قولان:
أحدهما: تقوم حاملا، ولا يفرد الحمل بالتقويم؛ لأنه كأعضائها.
فعلى هذا: إن خرجت قيمتها من الثلث.. عتقت وعتق ولدها، وإن خرج نصفها.. عتق نصفها.

(8/207)


والثاني: أن الولد يقوم عند الانفصال؛ لأنه يمكن تقويمه، وتقوم الأم حاملا دون حملها؛ لأن قيمتها حاملا أقل من قيمتها حائلا، وأصلها القولان: هل للحمل حكم، أم لا؟
فعلى هذا: إن خرجت قيمتها من الثلث.. عتقا، وإن لم يخرجا، ولم يجز الورثة، فإن كانت قيمتهما سواء، بأن كانت قيمة الأم مائة وقيمة الولد مائة والثلث مائة.. عتق من كل واحد منهما نصفه. وإن كانت قيمة الأم مائة وقيمة الولد خمسين.. عتق من كل واحد منهما ثلثاه؛ لأن الولد تابع للأم فوجب أن يعتق منه بقدر ما يعتق منها.
فإن قال في مرض موته: حملك حر وأنت حرة، فإن خرجا من الثلث.. عتقا. وإن لم يخرجا من الثلث.. قدم عتق الحمل؛ لأنه سابق. فإن كان الحمل جماعة، ولم يخرجوا من الثلث.. أقرع بينهم. وإن بقي من الثلث شيء بعد عتق الحمل.. عتق من الأم بقدره.
فإن قال في مرض موته: إذا أعتقت نصف حملك.. فأنت حرة؛ ثم قال في مرض موته: نصف حملك حر.. عتق نصف حملها بالمباشرة، واقتضى ذلك سراية إلى عتق نصف حملها، وعتق الأم بالصفة.
فإن خرجت قيمة جميع الحمل وقيمة الأم من الثلث.. عتقا. وإن لم يخرج من الثلث غير نصف الحمل.. عتق نصف الولد، ورق باقيه، ورقت الأم.
وإن بقي من الثلث شيء بعد عتق نصف الولد، بأن كانت قيمة الولد مائة، وقيمة الأم خمسين، والثلث مائة، فقد بقي من الثلث خمسون. فيقرع بين نصف الولد والأم؛ لأن عتقهما وقع في حالة واحدة. فإن خرجت قرعة العتق على نصف الولد.. عتق جميعه. ورقت الأم؛ لأن عتق الولد لا يسري إليها. وإن خرجت قرعة العتق على الأم.. لم يمكن أن يصرف ما بقي من الثلث في عتق الأم وحدها، ولكن يسوى بينها وبين باقي حملها في العتق لتساوي قيمتهما.. فيعتق من الأم نصفها بخمسة وعشرين، ويعتق من الولد ربعه بخمسة وعشرين.

(8/208)


وإنما جعل ربعه تابعا لنصف الأم وإن كان القياس يقتضي التسوية بين الجزأين؛ لأنه لا يمكن التسوية بينهما.
وإن كانت قيمة الولد مائة وقيمة الأم مائة والثلث مائة فقد بقي بعد عتق نصف الولد من الثلث خمسون.. فيقرع بين نصف الولد والأم، فإن خرجت القرعة على نصف الولد.. عتق جميعه، ورقت الأم. وإن خرجت على الأم.. عتق ثلثها وثلث نصف الحمل لتساويهما في القيمة.

[فرع أوصى بجارية حبلى]
) : قال ابن اللبان: فإن أوصى لرجل بجارية حبلى، قيمتها يوم مات سيدها مائة، فقبل الموصى له، وولدت بعد موت سيدها ولدا قيمته ستون درهما، وخلف الموصي مائتي درهم، فإن قلنا: لا يفرد بالتقويم.. كانت الجارية وولدها للموصى له، ولا تزيد التركة بقيمة الولد.
وإن قلنا: يفرد الولد بعد الانفصال بالتقويم.. زادت التركة بقيمة الولد، فتصير التركة ثلاثمائة وستين، الثلث: مائة وعشرون، وقيمة الجارية وولدها: مائة وستون. فالثلث: ثلاثة أرباع قيمتها، فيكون للموصى له ثلاثة أرباع الجارية، وثلاثة أرباع ولدها. وربعهما مع المائتين للورثة.
وإن ترك الميت مائتين وستين درهما.. كانت التركة أربعمائة وعشرين، الثلث منها مائة وأربعون، وقيمة الجارية وولدها: مائة وستون. فالثلث من قيمتهما سبعة أثمانهما، فيكون للموصى له سبعة أثمانهما.

[فرع أوصى بحمل جارية]
) : وإن وصى رجل لرجل بحمل جارية مملوك له، وأوصى لآخر بالجارية، ومات الموصي، وقبلا الوصية، ثم إن الموصى له بالجارية أعتقها، ثم ولدت ولدا لأقل من ستة أشهر من وقت إعتاق الجارية. عتقت الجارية دون ولدها، موسرا كان المعتق أو

(8/209)


معسرا؛ لأن الولد إنما يتبع الأم في العتق إذا كانا في ملك المعتق، فأما إذا كانت في غير ملكه.. لم يتبعها، كما إذا باع داره وفي حائطه ساجة مغصوبة أو مستعارة.. فإنها لا تدخل في البيع، وهذه حرة حامل بمملوك ولا نظير لها.

[فرع قال إذا مت فأنت حرة أو ما في بطنك]
قال القاضي أبو الطيب: إذا قال رجل لأمة له حامل بمملوك له: إذا مت.. فأنت حرة أو ما في بطنك حر، ومات، ثم ولدت ولدا يعلم وجوده وقت الإعتاق.. أقرع بين الأم والولد، فإن خرجت قرعة العتق على الأم وخرجت من الثلث.. عتقت وعتق ولدها تبعا لها، ولا تحتسب قيمة الولد من الثلث؛ لأنه يعتق بالشرع، فهو بمنزلة التالف. وإن خرج بعض الأم من الثلث.. عتق ما خرج منها من الثلث، وتبعها من الولد مثل الذي عتق منها.
وإن خرجت قرعة العتق على الولد، وخرج من الثلث.. عتق الولد ورقت الأم. وإن خرج بعضه.. عتق منه ما خرج من الثلث، ورق باقيه ورقت الأم؛ لأن الأم لا تتبع الولد في العتق.
ويقوم الولد وقت الانفصال؛ لأنه أول وقت يمكن تقويمه فيه، وتقوم الجارية وقت موت الموصي؛ لأنه يمكن تقويمها وهي حالة استحقاقها للعتق.
قال القاضي أبو الطيب: وإن كان له أمتان حاملان بمملوكين له، فقال لهما: إذا مت.. فأنتما حرتان، أو ما في بطنيكما حران، ومات، ثم ولدت كل واحدة منهما ولدا لوقت يعلم وجوده وقت الإعتاق.. أقرع بين الأمتين والولدين، فإن خرجت قرعة العتق على الأمتين، وخرجتا من الثلث.. عتقا من الثلث، وعتق ولداهما تبعا لهما من غير الثلث؛ لأنهما تالفان من طريق الشرع. وإن لم تخرج الأمتان من الثلث.. أعيدت القرعة بينهما، فأيتهما خرجت عليها قرعة العتق.. عتقت وعتق ولدها، ورقت الأخرى وولدها. وإن خرجت إحداهما من الثلث، وبعض الأخرى.. عتقت من خرجت عليها قرعة العتق، وعتق ولدها، وعتق من الأخرى تمام الثلث، وعتق من ولدها قدر ما عتق منها، ورق باقيها.

(8/210)


وإن خرجت قرعة العتق على الولدين، فإن خرجا من الثلث.. عتقا ورقت الأمتان. وإن لم يحتملهما الثلث.. أعيدت القرعة بين الولدين، فمن خرجت عليه قرعة العتق.. عتق جميعه ورق الآخر والأمتان. وإن احتمل الثلث أحدهما وبعض الآخر.. أقرع بينهما، فمن خرجت عليه قرعة العتق.. عتق جميعه، وعتق من الآخر تمام الثلث، ورق باقيه والأمتان.

[فرع أعتق في مرض موته عبدا قيمته مائة وله مائتان غائبتان]
) : قال ابن اللبان: إذا أعتق في مرض موته عبدا قيمته مائة درهم، وله مائتا درهم غائبتان أو دين، ولا مال له غير ذلك.. عتق ثلثه في الحال، وسلم ثلثاه إلى الورثة؛ لأنه لا يتنجز للموصى له شيء إلا ويحصل للورثة مثلاه.
ولا يملك الورثة بيعه؛ لأن تنجز عتق باقيه موقوف على قضاء الدين أو حصول المال الغائب، والبيع لا يجوز وقفه.
فإن كسب العبد مالا قبل اقتضاء الدين.. كان للعبد ثلث كسبه، وللورثة ثلثاه. فإذا نض جميع الدين. نفذ عتق جميعه؛ لأنه حصل للورثة مثلا قيمته.
وهل يرجع العبد على الورثة بما أخذوا من كسبه وأجرة ما خدمهم؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع عليهم؛ لأنهم أخذوه في حالة أباح لهم الشرع أخذه.
والثاني - وهو المنصوص عليه -: (أنه يرجع عليهم) ؛ لأنه بان أنه كان حرا ذلك الوقت.
ولا يرجع الورثة عليه بما أنفقوه على ثلثيه وجها واحدا؛ لأنهم أنفقوه عليه لحظهم واختيارهم، إذ لو شاؤوا.. لأجازوا عتقه.
وإن مات للعبد من يرثه قبل أن ينض الدين.. فهل يوقف ميراثه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يوقف ميراثه منه؛ لأنه لا يؤمن أن يكون حرا، والظاهر من الدين أنه يقضى، وإن أعسر الغريم أو تلف المال الغائب.. رد الموقوف على ورثة مناسب العبد المعتق.

(8/211)


والثاني: أنه لا يوقف، بل يدفع ذلك إلى ورثة مناسب العبد؛ لأنا لا نتيقنه وارثا فلا نمنع الورثة ميراثهم لجواز أن ينض الدين، كما لم يمنع ورثة المعتق من استخدام ثلثي العبد المعتق.
فإن مات العبد المعتق قبل أن ينض الدين أو يحصل المال الغائب.. كان لورثة العبد ثلث كسبه ولورثة سيده ثلثاه على القول الجديد، وعلى القديم: يكون جميع كسبه لورثة سيده.
وإن نض الدين أو حضر الغائب بعد موت العبد.. رد ورثة السيد على ورثة العبد المعتق ما أخذوه من كسبه في أصح الوجهين.
وإن مات بعد موت العبد ابن للعبد من حرة معتقة لقوم، وترك مولى أمه ومولى أبيه.. أعطي مولى الأب من ماله قدر ما حكم بعتقه من العبد بجزء الولاء، وباقي مال ابن العبد لمولى أمه.
فإن نض الدين أو حضر الغائب بعد ذلك.. تبينا أن الأب قد كان مات حرا، وأنه حر ولاء ولده من مولى أمه إلى مولى أبيه، فيرد ورثة السيد ما أخذوا من كسب العبد على ورثة العبد المعتق في أصح الوجهين، ويرد مولى أم ابن العبد ما أخذ من مال الابن على مولى العبد.
ولو سلم لورثة المعتق من المائتين مائة، وثوى الباقي أو تلف.. تبينا أنه كان عتق ثلثا العبد، ورق ثلثه وحر ثلثي ولاء ولده فيرد ورثة السيد على الابن ما أخذوا من كسب أبيه تمام الثلثين في أصح الوجهين، فيضاف إلى ما خلفه الابن، ويجعل ثلثاه لمولى أبيه، وثلثه لمولى أمه، ويحتسب على مولى الأم بما أخذه من ميراث الابن. وإن أنكر الغريم الدين، ولا بينة، ونكل عن اليمين، ولم يحلف ورثة السيد.. فهل يحلف العبد؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يحلف؛ لأنه لا يستحق ما يحلف عليه.

(8/212)


والثاني: يحلف؛ لأنه يستحق العتق بثبوت المال الذي يحلف عليه.
وإن دفع الغريم الدين إلى الوارث، فقال الوارث: لا دين لمورثي عليك، فإن كان المعتق قد ادعى الدين.. عتق العبد ولم يقبل إقرار الوارث أنه لا دين للمعتق؛ لأن المعتق قد ادعاه وصدقه الغريم، وفي تكذيب الورثة إبطال لحق العبد من العتق، فلم يقبل.
وهكذا: لو صدق العبد الورثة أنه لا دين للمعتق.. لم يحكم ببطلان العتق؛ لأن العتق حق لله تعالى، فلا يقبل قوله فيما يسقطه.
وإن كان المعتق لم يدع الدين.. لم يقبل إقرار الغريم - سواء ادعاه العبد أو لم يدعه - إذا لم يدعه الوارث؛ لأن في ذلك إثبات المال لمن يدعيه وإبطالا لحق الورثة من رق العبد.
وإن ادعى الورثة دينا للميت على رجل، فأنكر وحلف، ثم أقر المدعى عليه بعد ذلك بالدين، وكذبه الورثة بإقراره.. لم يقبل تكذيبهم، سواء صدقهم العبد على التكذيب أو كذبهم؛ لأن إقرارهم قد سبق بأنه مال للميت، ولزمهم بذلك حق العتق، فلم يقبل إقرارهم بعد ذلك بما يسقطه.

[فرع أعتق عبدا لا مال له غيره]
) : إذا أعتق في مرض موته عبدا لا مال له غيره، وعليه دين يستغرق قيمته، وطالبه الغرماء به.. بطل العتق، وقيل للورثة: إن شئتم أن تقضوا الدين من مالكم وتملكوا العبد.. كنتم أحق به. وإن لم يختاروا ذلك، وطلب الغرماء أن يأخذوا العبد بقيمته عن دينهم.. قال ابن اللبان: كانوا أحق بشرائه من الأجنبي؛ لأنه أحظ للميت؛ لأنه يبرأ من الدين يقينا، ويأمن عهدة الثمن.
فلو كسب العبد مالا بعد موت سيده.. كان ملكا لورثة السيد على قول الشافعي، وعلى قول الإصطخري: يقضى من كسبه الدين. ولو أبرأ الغرماء الميت من الدين.. عتق ثلث العبد، ورق ثلثاه.

(8/213)


[مسألة نكاح الرجل في مرض الموت]
إذا نكح الرجل في مرض موته.. صح النكاح وورثته.
وأما الصداق: فإن أصدقها مهر مثلها.. استحقت ذلك من رأس المال.
وإن أصدقها أكثر من مهر مثلها: فإن ورثته.. كان ما زاد على مهر مثلها وصية لوارث على ما مضى. وإن لم ترثه، بأن كانت ذمية أو مملوكة، أو قتلته، أو ماتت قبله، أو أبانها، وقلنا: لا ترثه.. كان ما زاد على مهر مثلها وصية تعتبر من الثلث. وبه قال الشعبي، والنخعي، والأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، وإسحاق.
وقال مالك: (لا يصح نكاحه) .
وقال الزهري: يصح نكاحه ولا ترثه الزوجة.
وقال ربيعة: يصح، ولكن تستحق المهر في الثلث وإن لم يزد على مهر مثلها.
دليلنا على مالك: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] (النساء: 3)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أحب فطرتي.. فليستن بسنتي، ومن سنتي: النكاح» .

(8/214)


ولم يفرق بين الصحيح والمريض.
وروي عن معاذ: أنه مرض، فقال: (زوجوني، زوجوني؛ لا ألقى الله عزبا) .
وقال ابن مسعود: (لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لا أحب أن أكون بغير زوجة) .
وروي: (أن الزبير دخل على قدامة بن مظعون يعوده وهو مريض، فبشر الزبير ببنت وهو عنده، فقال له قدامة: زوجنيها، فقال له الزبير: ما تصنع بها وأنت على هذه الحالة؟! فقال قدامة: إن عشت.. فابنة الزبير، وإن مت.. فهي أحق من ورثني) ولا يعرف لهم مخالف.
ودليلنا على الزهري: أنه معنى يورث به، فامستوى فيه الصحيح والمريض، كالإقرار بالنسب.
ودليلنا على ربيعة: أنه عقد معاوضة، فاعتبر عوض المثل فيه من رأس المال، كالابتياع.
إذا ثبت هذا: فإن تزوج مسلم ذمية في مرض موته بأكثر من مهر مثلها، فأسلمت قبل موته.. صارت وارثة له، وكان ما زاد على مهر مثلها وصية لوارث؛ لأن الاعتبار عند الموت لا عند العقد.
وإن تزوج حر أمة لغير وارثه بأكثر من مهر مثلها في مرض موته، فأعتقت قبل

(8/215)


موته.. ورثته، وكان ما زاد على مهر مثلها وصية تلزم من الثلث لمولاها، ولا يجتمع الميراث والوصية لشخص.

[فرع أعتق في مرضه المخوف أمة]
إذا أعتق في مرض موته المخوف أمة له، وله مال تخرج من ثلثه.. فهل يصح لوليها الحر أن يزوجها بإذنها قبل موت السيد من مرضه ذلك، أو برئه منه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس بن سريج، وأكثر أصحابنا: يصح نكاحها؛ لأن في ملك المريض مالا تخرج الجارية من ثلثه والظاهر بقاؤه، فنفذ عتقها في الحال، وصح تصرفها في بضعها، كما لو مات السيد وهي تخرج من ثلثه ولم يظهر عليه دين.. فإن لها أن تتصرف في بضعها.
و [الثاني] : قال ابن الحداد، وابن اللبان، والقاضي أبو الطيب: لا يصح نكاحها؛ لأن عتقها موقوف على ما تبين في ثاني الحال.
فإن برئ المريض من مرضه، أو مات، وخرجت من ثلثه.. نفذ عتقها. وإن لم تخرج من ثلثه ولم يجز الورثة.. لم ينفذ العتق في جميعها. وربما ظهر عليه دين يستغرق جميع التركة، فلا ينفذ العتق في شيء منها.
وإذا كان كذلك.. لم يصح عقد النكاح على امرأة مشكوك في حريتها، كما لو أسلم وثني وتخلفت امرأته في الشرك.. لم يجز له أن يعقد النكاح على أختها قبل انقضاء عدتها.
قال القاضي أبو الطيب وابن اللبان: وعلى هذا لو شهدت.. لم تقبل شهادتها، ولو جنت أو جني عليها.. لوقف ذلك، وإن قذفت غيرها.. لم تحد حد حرة، وإن قذفها قاذف.. لم يحد حد القذف، وأن مات لها من ترثه.. وقف ميراثها منه على ما نتبين من أمر المعتق. قالا: وكذلك لو وهب في مرضه المخوف لغيره جارية تخرج من ثلثه، وقبضها الموهوب له.. لم يجز له وطؤها قبل موت الواهب أو برئه من مرضه؛ لأن هبتها موقوفة على ما تبين من حاله، فلا يباح له وطء امرأة يشك في ملكها.

(8/216)


[فرع أعتق أمته في مرضه المخوف وتزوجها قبل برئه]
) : وإن أعتق في مرضه المخوف أمة له تخرج من ثلثه، فتزوجها قبل برئه من مرضه:
قال القاضي أبو الطيب: فعلى قول ابن الحداد في المسألة قبلها لا يصح نكاحه لها. وبه قال ابن اللبان؛ لما ذكرناه في التي قبلها.
وقال أبو العباس بن سريج، والشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: يصح النكاح. وقد حكاه القاضي أبو الطيب في " شرح المولدات " في موضع آخر عن ابن الحداد: أنه يصح.
فإذا قلنا بهذا - وهو المشهور - ومات.. فإنها لا ترثه؛ لأن إثبات ميراثها يؤدي إلى نفيه؛ لأن عتقها في مرض الموت وصية لها، والوصية لا تصح للوارث، فلو ورثناها منه.. لبطل عتقها، وإذا بطل عتقها.. بطل ميراثها، وما أدى إثباته إلى نفيه.. بطل إثباته.
قال الشيخ أبو حامد: وليس على مذهب الشافعي حرة مسلمة لا ترث زوجها إلا هذه.
فعلى هذا: إذا تزوجها بمهر مثلها ولا ينقص مهرها ثلثه.. استحقت ذلك. وإن تزوجها على أكثر من مهر مثلها، والزيادة تخرج من ثلثه.. استحقت ذلك كله؛ لأنها ليست بوارثة له.
وإن كان مهرها ينقص ثلثه، بأن كانت قيمتها مائة درهم، وله مائتا درهم عين، فتزوجها على مائتين أو بعضهما.. لم تستحق مهرا؛ لأنها لو استحقت ذلك.. لم يحصل للورثة مثلا قيمتها، فيرق بعضها، وإذا رق بعضها.. بطل نكاحها، وإذا بطل النكاح.. بطل المهر، وما أدى إثباته إلى نفيه بطل إثباته. وهذه حرة سليمة لا تستحق مهرها ولا نظير لها.

(8/217)


فإن أعتق المريض أمة قيمتها مائة لا مال له غيرها، وتزوجها في مرضه، ومات فإن قلنا بقول القاضي أبي الطيب، وابن اللبان.. فالنكاح باطل.
وإن قلنا بقول أبي العباس، وعامة أصحابنا: فإن أجاز الورثة العتق بعد الموت، فإن قلنا: الإجازة تنفيذ لما فعله الموصي.. حكم بصحة النكاح، وعليها عدة الوفاة، ولا مهر لها سواء دخل بها أو لم يدخل؛ لأن إثباته يؤدي إلى إسقاطه على ما مضى. وإن قلنا: إن الإجازة ابتداء عتق من الورثة، أو لم يجيزوا.. كان النكاح باطلا. فإن كان السيد لم يطأها قبل موته.. فلا كلام. وإن كان قد وطئها بعد العتق، ومهر مثلها خمسون.. كان لها من مهر مثلها بقدر ما فيها من الحرية. فإن أبرأت منه. عتق ثلثها، ورق ثلثاها. وإن لم تبرئ منه.. دخلها الدور، فنقول:
يعتق من الأمة شيء من الثلث، ولها من مهر مثلها نصف شيء من رأس المال، فبقي في يد الورثة جارية قيمتها مائة إلا شيئا ونصف شيء يعدل مثلي الشيء الخارج بالوصية، وذلك شيئان، فإذا جبرت المائة بالشيء والنصف، وزدت ذلك على الشيئين المعادلين.. عدلت المحنة إلى ثلاثة أشياء ونصف، فالشيء الواحد سبعا الجارية، فيعتق منها سبعاها، وتستحق سبعي مهرها، وهو مثل سبع رقبتها، فيقال للورثة:
إن اخترتم أن تبيعوا سبع رقبتها، وتسلموا ثمنه إليها.. بقي معكم أربعة أسباع رقبتها، وذلك مثلا ما عتق منها.
وإن اخترتم أن تعطوها سبعي مهرها من خاص أموالكم.. ملكتم خمسة أسباعها. وإن اختارت الأمة أن تأخذ سبع رقبتها بمهرها:
قال ابن اللبان: كانت أحق به من الأجنبي. هذا هو المذهب.
وفيها وجهان آخران، خرجهما أبو العباس:
أحدهما: أن الذي غرمه السيد من مهرها يكون من الثلث؛ لأن ذلك خرج منه بسبب عتقه، ولا يخرج منه بالعتق وسببه أكثر من الثلث.
وعلى هذا نقول: عتق منها شيء، ولها من مهرها نصف شيء، وبقي في يد الورثة جارية قيمتها مائة إلا شيئا ونصف شيء يعدل ثلاثة أشياء، فإذا جبرت.. عدلت

(8/218)


المائة أربعة أشياء ونصف، فالشيء تسعا الجارية فيعتق تسعاها، ولها تسعا مهرها، وهو مثل تسع رقبتها، فيباع في المهر ويسلم إليها، ويبقى مع الورثة ثلثاها.
والوجه الثاني: يجعل مهرها هدرا، كما لو وطئها السيد ثم أعتقها.
فعلى هذا: يعتق ثلثها ويرق ثلثاها، فإن أحبلها السيد.. ففيه وجهان:
أحدهما: تعتق بموته بالإحبال لا بالإعتاق؛ لأن الميت لا ثلث له.
والثاني: تعتق من حين أعتقها؛ لأنها لم تبق على ملك الميت حتى تجري فيها المواريث والوصية، وصار عتق الميت غير مانع للورثة من أن يرثوها.. فتكون كعتق الصحيح، ويجب لها المهر في ذمته.
قال ابن اللبان: والأول أشبه بمذهب الشافعي.
فإن ترك السيد معها مائة درهم.. فإنك تقول: عتق منها شيء بالوصية، ولها نصف شيء بالمهر تأخذه من المائة، ويعتق باقيها بالإحبال من رأس المال، فبقي في يد الورثة مائة إلا نصف شيء يعدل مثلي ما عتق منها، وذلك شيئان، فإذا جبرت المائة بما نقص منها وزدته على الشيئين.. عدلت المائة شيئين، ونصفا الشيء خمسا المائة وهو أربعون، فيعلم أن الذي عتق منها خمساها وقيمته أربعون، فتستحق خمسي مهرها وهو عشرون من المائة، ويبقى في يد الورثة ثمانون وهو مثلا ما عتق من الجارية.
وعلى الوجه الذي يجعل ما غرمه السيد من المهر من ثلث يعدل المائة إلا نصف شيء ثلاثة أشياء فإذا جبرتها عدلت ثلاثة أشياء، ونصف الشيء سبعاها، فإذا استحقت سبعي مهرها - وهو سبع المائة - بقي في يد الورثة ستة أسباع المائة، وهو: مثلا ما عتق منها وأخذته بالمهر.
وعلى الوجه الذي يجعل المهر هدرا: يعتق نصفها بالإعتاق، ونصفها بالإحبال، ويبقى في يد الورثة مائة، مثلا ما عتق منها بالإعتاق.
وهكذا: إن أبرأت من مهرها، وقلنا: يجب عتق نصفها بالإعتاق، ونصفها بالإحبال.

(8/219)


[فرع أعتق أم ولده في مرض موته ثم تزوجها بمهر مثلها]
وإن أعتق أم ولده في مرض موته، ثم تزوجها قبل موته بمهر مثلها.. صح النكاح وجها واحدا، وورثته؛ لأن عتقها لا يعتبر من ثلث التركة؛ لأنها مستحقة للعتق بموته.
فإن أصدقها أكثر من مهر مثلها.. كان ما زاد على مهر مثلها وصية لوارث على ما مضى؛ لأنها ترثه، فيثبت الميراث ولا تثبت الوصية؛ لأنهما لا يجتمعان.. وإنما أثبتنا الميراث؛ لأنه أقوى من الوصية؛ لأنه يثبت بغير اختياره، والوصية لا تثبت له إلا باختياره.

[فرع أعتق في مرض موته جارية على أن تتزوج به]
وإن أعتق في مرض موته جارية له على أن تتزوج به، ويكون عتقها صداقها، ورضيت به، فتزوجها قبل موته.. فإن عتقها يصح، ولا يلزمها أن تتزوج به؛ لأنه سلف في عقد، ويلزمها قيمتها لسيدها؛ لأنه ما رضي بزوال ملكه عنها إلا بعوض ولم تسلمه له، فيثبت له قيمتها، كما لو كاتبها على محرم وسلمته إليه.
فإذا نكحها: صح نكاحه لها وجها واحدا؛ لأنها لا تعتق من ثلثه؛ لأنها تعتق عليه بعوض وترثه؛ لأن توريثها لا يؤدي إلى إبطال عتقها، فإن أصدقها مهر المثل.. استحقته. وإن أصدقها أكثر من مهر مثلها.. لم تستحق الزيادة من غير إجازة الورثة لأنها وارثة له.

[فرع أعتقت في مرض موتها عبدها ثم تزوجته]
] : وإن أعتقت امرأة عبدا لها في مرضها المخوف، ثم تزوجت به ولها مال يخرج العبد من ثلثه:

(8/220)


فعلى قول القاضي أبي الطيب، وابن الحداد، وابن اللبان: النكاح باطل؛ لأن عتقه موقوف على ما يتبين من أمرها، ولا يجوز أن يقع عقد النكاح موقوفا.
وعلى قول أبي العباس، وعامة أصحابنا: يصح النكاح، وإذا ماتت.. لم يرثها؛ لأن توريته منها يؤدي إلى إبطاله، على ما مضى في الأمة.

[فرع تزوج في مرض موته بأكثر من مهر المثل]
وإن تزوج امرأة في مرض موته بمائة درهم، ومهر مثلها خمسون، فماتت قبله، وورثها، ولا مال لهما غيرها.. فحسابه أن نقول: لها مهر مثلها خمسون، ولها مما بقي شيء وصية؛ لأنها لم ترثه، فلما ماتت قبله.. ورث عنها النصف - وهو: خمسة وعشرون - ونصف شيء، فصار في يد ورثة الزوج خمسة وسبعون إلا نصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرتها.. عدلت شيئين، ونصفا الشيء خمسا ذلك - وهو: ثلاثون، وهو الذي صح لها بالمحاباة مع مهر مثلها - فذلك ثمانون، وبقي في يد الزوج عشرون، فلما ماتت قبله.. ورث عنها نصف ما بيدها أربعين - وهو: نصف مهر مثلها - ونصف شيء، فصار معه ستون، مثلا المحاباة.
فلو ترك الزوج سوى الصداق خمسين، أو تركت الزوجة مائة: تمت المحاباة للزوجة. فإن ترك الزوج سوى الصداق عشرين، وتركت الزوجة أيضا ثلاثين.. فحسابه أن يقول:
لها مهر مثلها خمسون، ولها مما بقي شيء محاباة مع الثلاثين التي لها.. فتكون تركتها ثمانين وشيئا، ويرث الزوج نصفها، يضمه إلى باقي المائة في يد الزوج، وإلى العشرين، فيصير في يده مائة وعشرة إلا نصف شيء يعدل شيئين. فإذا جبرتها.. عدلت شيئين، ونصفا الشيء خمسا ذلك - وهو: أربعة وأربعون - فتأخذ الزوجة ذلك مع مهر مثلها، وتضمه إلى الثلاثين.. فيكون جميع تركتها مائة وأربعة وعشرين، فيرث الزوج نصف ذلك - وهو: اثنان وستون - وقد بقي في يده من المائة ستة والعشرون الأخرى، فذلك كله ثمانية وثمانون مثلا المحاباة.

(8/221)


وإن كان على كل واحد عشرون دينا، ولا مال لهما غير المائة.. فحسابه أن تقول: لها مهر مثلها خمسون، ولها شيء محاباة، يخرج منها عشرون دينها، بقي لها ثلاثون وشيء يرث الزوج نصف ذلك - وهو: خمسة عشر - ونصف شيء يضمه إلى ما بقي معه، فيصير خمسة وستين إلا نصف شيء، يخرج دينه عشرون، فيبقى لورثته خمسة وأربعون إلا نصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين، ونصفا الشيء خمسا ذلك - وهو: ثمانية عشر - فيصح لها ذلك مع مهر مثلها، فيصير ثمانية وستين، فإذا خرج لدينها عشرون، بقي ثمانية وأربعون.. فيرث الزوج أربعة وعشرين مع اثنين وثلاثين يبقى معه من المائة، فذلك ستة وخمسون، فإذا خرج لدينه عشرون.. بقي لورثته ستة وثلاثون، وهو مثلا ما صح لها بالمحاباة.

[مسألة شراء وبيع من في مرض الموت]
] : وإذا اشترى شيئا في مرض موته، أو باعه بثمن المثل.. صح ذلك ولم يعتبر من الثلث؛ لأن ما رجع إليه مثل ما خرج منه.
وإن اشترى شيئا في مرض موته أو باعه، وحابى في ذلك.. اعتبرت المحاباة من ثلث التركة.
وقال ابن اللبان: القياس يقتضي أن يبطل بيع المريض وشراؤه إذا كان فيهما محاباة؛ لأنه لا يجوز أن يقع العقد موقوفا، على ما تبين في باقي الحال.
والمشهور هو الأول، وعليه التفريع، وقد مضى ذلك في البيوع.

[فرع شراء من يعتق عليه في مرض موته]
وإن اشترى ابنه أو أباه في مرض موته.. عتق من ثلثه ولا يرثه؛ لأن عتقه وصية، ولا يجتمع له الميراث والوصية.

(8/222)


وإن اشتراه بمحاباة، واحتمل الثلث عتقه والمحاباة.. عتق، ولزمت المحاباة للبائع. وإن لم يحتملهما الثلث.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدهما - وهو المشهور - أن المحاباة تقدم في الثلث؛ لأن البائع ملك الثمن في حال ما ملك المشتري المبيع، ثم يعتق عليه بعد ذلك من الثلث. فإذا استغرقت المحاباة الثلث.. لم يعتق عليه، وورث عنه.
والثاني - وهو قول أبي العباس ابن سريج -: أن البيع لا يصح؛ لأن تصحيحه يؤدي إلى أن يملك الإنسان أباه أو ابنه، ولا يعتق عليه، وذلك يخالف مقتضى العقد، فلم يصح.
والثالث: وهو قول ابن اللبان: أن الثلث يقسم بين العتق والمحاباة على قدرهما؛ لأن في تقديم أحدهما إبطالا للآخر، وليس أحدهما بأولى من الآخر.
وإن اشتراه في مرض موته بثمن مثله، وعليه دين يستغرق ماله. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس ابن سريج: لا يصح الشراء؛ لأن تصحيحه يؤدي إلى أن يملك أباه أو ابنه، ولا يعتق عليه، فلم يصح، كما لا يصح شراء الكافر للعبد المسلم.
والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا -: يصح الشراء، ولا يعتق عليه، ويباع في الدين، وهو الأصح؛ لأن موجب الشراء الملك، والدين لا يمنع منه، فلم يمنع صحة الشراء.. وعتقه معتبر من الثلث، والدين يمنع منه كما يمنع الدين العتق بالإعتاق. ويخالف شراء الكافر للمسلم، فإن الكفر يمنع الملك للعبد المسلم.
وإن كان ماله مائتي درهم وأمة تساوي مائة درهم ولا يملك غير ذلك، فأعتق الأمة في مرض موته، ثم اشترى أباه أو ابنه.. قدم عتق الأمة.
وعلى قول أبي العباس: لا يصح الشراء؛ لأنه لا يملكه، وهو لا يعتق عليه. وعلى قول سائر أصحابنا: يصح الشراء، ولا يعتق عليه، بل يورث عنه، فإن كان في ورثته من يعتق عليه إذا ملكه.. عتق عليه نصيبه دون الباقي. وإن كانوا ممن لا يعتق عليه.. استقر ملكهم عليه.

(8/223)


وهكذا: لو أبرأ البائع المشتري من الثمن، أو برئ من مرضه.. عتق عليه.

[فرع ورث من يعتق عليه]
بالملك في مرض موته بالملك في مرض موته] : وإن ورث من يعتق عليه بالملك في مرض موته، ولا دين على الوارث.. ففيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب.
أحدهما: أنه يعتق عليه من ثلثه؛ لأنه ملكه في مرض موته وعتق عليه، فهو كما لو اشتراه.
والثاني - وهو الأصح -: أنه يعتق عليه من رأس ماله؛ لأنه دخل في ملكه بغير اختياره، وعتق عليه بغير اختياره، فهو كما لو تلف شيء من ماله في مرض موته، بخلاف ما لو اشتراه.
وإن وهب له فقبله وقبضه في مرض موته، أو وصى له به فقبله في مرض موته، ولا دين عليه.
فإن قلنا: إنه إذا ورثه في مرض موته يعتق عليه من ثلثه.. فهاهنا أولى.
وإن قلنا في الميراث: يعتق عليه من رأس ماله.. ففي الهبة والوصية وجهان:
أحدهما: أنه يعتق عليه من رأس ماله؛ لأنه دخل في ملكه بغير عوض.
والثاني - وهو الأصح: أنه يعتق عليه من ثلثه؛ لأنه دخل في ملكه باختياره للقبول، فعتق من ثلثه، كما لو اشتراه.
فكل موضع قلنا: إنه يعتق من رأس المال.. فإنه يرث من معتقه؛ لأن عتقه ليس بوصية.
وكل موضع قلنا: إنه يعتق من الثلث.. فإنه لا يرث من المعتق؛ لأن عتقه وصية، ولا يجتمع له الميراث والوصية.

(8/224)


وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يرث بحال، وليس بشيء؛ لأنه إذا لم يكن عتقه وصية.. لم يناف الميراث.
وأما إذا ورثه، أو قبل وصيته، أو قبضه في هبة في مرض موته، وعليه دين يستغرق تركته:
فإن قلنا: إنه يعتق إذا لم يكن عليه دين من رأس المال.. عتق هاهنا، ولا يباع في الدين.
وإن قلنا هناك: إنه يعتق من الثلث.. فهاهنا وجهان:
أحدهما - وهو الأصح -: أنه يملكه ويباع في الدين؛ لأن العتق من الثلث لا يكون إلا بعد الدين.
والثاني - وهو قول أبي العباس -: أنه لا يصح قبوله في الهبة أو الوصية، بل يكون على ملك الواهب، أو ورثة الموصى؛ لئلا يملكه ولا يعتق عليه.

[فرع وهب له من يعتق عليه في مرض موته]
إذا وهب له من يعتق عليه في مرض موته، أو وصى له به فقبله، ثم أعتق الموهوب عبدا له آخر، فإن احتملهما الثلث.. عتقا. وإن احتمل الثلث أحدهما لا غير:
فإن قلنا: إن عتق الموهوب أو الموصى به من رأس المال.. عتقا جميعا.
وإن قلنا: إن عتق الموهوب أو الموصى به من الثلث.. قدم عتق الموهوب أو الموصى به في الثلث، ووقف عتق الآخر على إجازة الورثة.
وإن بدأ فأعتق عبدا له قيمته جميع ثلثه في مرض موته، ثم وهبه له من يعتق عليه أو وصى له به فقبل:
فإن قلنا: يعتق الموهوب أو الموصى به من رأس المال.. عتقا جميعا.

(8/225)


وإن قلنا: يعتق الموهوب أو الموصى به من الثلث.. قدم عتق الأول في الثلث، وفي الموهوب أو الموصى به وجهان:
أحدهما: لا يعتق ويرثه ورثة الموهوب.
والثاني: لا تصح هبته ولا الوصية له به.
والله أعلم.

(8/226)


[باب جامع الوصايا]
إذا أوصى لجيرانه.. فإنه يصرف إلى أربعين دارا من كل جانب
وقال أبو حنيفة: (يكون ذلك للجار الذي يلاصقه)
وقال أبو يوسف: (هو لأهل الدرب) .
قال أحمد: (هو لأهل المسجد والجماعة ممن يسمع النداء والإقامة) .
دليلنا: ما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن حد الجوار؟ فقال: " أربعون دارا، هكذا، وهكذا، وهكذا، وهكذا، يمينا وشمالا وقداما وخلفا ". وبعضهم يرويه: أربعون ذراعا» .

(8/227)


[مسألة أوصى لقراء القرآن]
وإن وصى لقراء القرآن.. كان ذلك لمن يحفظ جميع القرآن. وهل يدخل فيه من يحفظ بعضه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يدخل فيه؛ لعموم قوله.
والثاني: لا يدخل فيه؛ لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف إلا على من يحفظ جميعه.
وإن وصى للفقهاء.. صرف إلى الفقهاء دون الأصوليين والنحاة، وأهل اللغة والطب. ولا يدخل فيه من يسمع الحديث ولا يعرف طرقه؛ لأنه لا يطلق اسم الفقيه إلا على الفقهاء.
وإن وصى إلى العلماء.. صرف إلى كل عالم بأصول الشريعة وفروعها دون غيرهم.

[فرع أوصى لأعقل الناس]
وإن وصى لأعقل الناس.. قال الشافعي: (صرف ذلك إلى أورع الناس وأزهدهم؛ لأن العقل: المنع، وأعقل الناس: أمنعهم عن المحارم) .
قال أصحابنا: وعلى هذا القياس إذا وصى لأجهل الناس وأسفلهم.. صرف ذلك إلى من يسب الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وإلى أهل الذمة؛ لأنهم أجهل الناس لمخالفتهم الدلائل الواضحة.

[فرع أوصى لمسجد أو سقاية]
وإن وصى بثلثه لمسجد أو لسقاية، أو لبناء مسجد أو بناء سقاية، أو أوصى بأن يوقف ذلك عليه.. قال الشيخ أبو حامد: صح ذلك؛ لأنه وصية في طاعة.

(8/228)


وإن وصى بثلثه لمفاداة أسارى المشركين من أيدي المسلمين:
قال ابن الصباغ: صحت الوصية؛ لأن المفاداة جائزة فصحت الوصية له.
قال الشافعي: (وإن وصى بمصحف لذمي.. فالوصية باطلة) .
قال أصحابنا: هذا على أحد القولين، إذا قلنا: لا يصح شراؤه له.

[مسألة أوصى للأيتام]
وإن أوصى للأيتام.. صرف إلى الصغار الفقراء ممن لا أب له؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد الحلم» .
ولأن اليتم في بني آدم: فقد الأب، وفي البهائم: فقد الأم.
وهل يدخل فيه من كان صغيرا غنيا لا أب له؟ فيه وجهان:
أحدهما: يدخل فيه؛ لأنه يتيم بفقد الأب.
والثاني: لا يدخل فيه؛ لأن هذا الاسم لا يطلق في العادة إلا على الفقير الصغير الذي لا أب له.

[فرع أوصى للأرامل]
وإن وصى للأرامل.. دخل فيه كل امرأة فقيرة لا زوج لها.
وهل يدخل فيه من لا زوج لها إذا كانت غنية؟ على الوجهين في الصغير الغني.
وهل يدخل فيه من لا زوجة له من الرجال؟ فيه وجهان:

(8/229)


أحدهما: لا يدخل؛ لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف على الرجال.
والثاني: يدخل فيه؛ لأنه قد يسمى من لا زوجة له من الرجال أرمل.

[مسألة أوصى للشيوخ]
قال الشيخ أبو إسحاق: وإن وصى للشيوخ.. أعطي من جاوز الأربعين سنة. وإن وصى للفتيان والشباب.. أعطي من جاوز البلوغ إلى الثلاثين. وإن وصى للغلمان والصبيان.. أعطي من لم يبلغ؛ لأن هذه الأسماء لا تطلق إلا على من ذكرناه.

[مسألة أوصى للفقراء والمساكين]
الفقراء والمساكين صنفان: فالفقير أمس حاجة من المسكين.
و (الفقير) هو الذي: الذي لا شيء له، أو له شيء لا يقع موقعا من كفايته، مثل أن كان يحتاج في كل يوم إلى عشرة دراهم، ولا يجد إلا درهما أو درهمين.
و (المسكين) هو: الذي لا يجد ما يكفيه ويجد ما يقع موقعا من كفايته، بأن كان يجد في كل يوم ثمانية دراهم، وهو يحتاج إلى عشرة.
فإذا أوصى بثلثه للمساكين.. جاز أن يصرف إلى المساكين والفقراء. وإن وصى. للفقراء.. جاز أن يصرف إلى الفقراء والمساكين؛ لأن معناه أنه للمحتاجين، والفقراء والمساكين محتاجون.
وحكى أبو إسحاق المروزي: أن الشافعي قال: (إذا أوصى للفقراء.. لم يجز أن

(8/230)


يدفع منه شيء على المساكين؛ لأن الفقراء أمس حاجة من المساكين) . والمشهور هو الأول.
وإن وصى للفقراء والمساكين.. وجب أن يصرف النصف إلى الفقراء، والنصف إلى المساكين؛ لأن الجمع بينهما في الوصية يقتضي الجمع بينهما في العطية.
ويصرف ذلك إلى فقراء بلد الموصي ومساكينه؛ لأن كلام الآدمي يحمل على المعهود في الشرع، فلما كانت صدقة المال تختص بفقراء البلد ومساكينه، فكذلك الوصية لهم. فإن نقل عنهم إلى بلد آخر.. كان على الخلاف في نقل الصدقة.
قال الشافعي: (وإن فضل شيء من الثلث عن فقراء بلده.. نقل إلى أقرب البلدان إليه) .
وأقل ما يجزئ: أن يدفع إلى ثلاثة من كل صنف، غير أن المستحب أن يعم من في البلد من الصنف الموصى له إن أمكنه، كما قلنا في الزكاة.

[فرع أوصى لغير الفقراء والمساكين ممن يستحق الزكاة]
وإن وصى للمؤلفة قلوبهم أو للرقاب أو للغارمين أو لسبيل الله أو لابن السبيل.. صرف إلى من يصرف إليه الزكاة منهم على ما بيناه في قسم الزكاة؛ لأنه قد ثبت لهذه الأسماء عرف في الشرع، فحمل مطلق كلام الآدمي عليه.

[فرع أوصى لمعين من الفقراء]
وإن أوصى بثلثه لزيد وللفقراء.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (هو كأحدهم) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال بظاهره، وأن المستحب أن يعم فقراء البلد، ويعطي زيدا كأحدهم. وأقل ما يجزئ أن يدفع إلى ثلاثة من الفقراء. وأفاد ما ذكره هاهنا: أنه لا يجوز الإخلال به.

(8/231)


وهل يشترط على هذا أن يكون زيد فقيرا؟ فيه وجهان.
فمنهم من قال: يجب أن يصرف إلى زيد نصف الثلث، وإلى الفقراء النصف؛ لأنه أضاف الثلث إلى زيد وإلى الفقراء، فصار كما لو قال: هذه الدار لزيد وللفقراء.
ومنهم من قال: يجب أن يصرف إلى زيد ربع الثلث، وإلى الفقراء ثلاثة أرباعه؛ لأن أقل ما يجزئ أن يدفع إلى ثلاثة من الفقراء، فكأنه أوصى لأربعة فقراء.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: إن قال: أعطوا زيدا الفقير والفقراء، أو زيدا المسكين والمساكين.. كان على الأوجه الثلاثة.
وإن قال: أعطوا زيدا والفقراء.. كان في قدر ما يعطى زيد وجهان:
أحدهما: النصف.
والثاني: الربع.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: تبطل الوصية لزيد؛ لأنه جعله كأحدهم، فإذا لم يعلم عددهم وتعذر حصرهم.. صار ما يخصه مجهولا، فبطل.

[فرع وصى لزيد بدينار]
وإن وصى لزيد بدينار وبثلاثة للفقراء، وزيد فقير.. لم يعط غير الدينار؛ لأنه قطع اجتهاد الوصي فيه بتقدير حقه بالدينار.
وإن وصى بثلاثة لزيد وعمرو، فرد عمرو وصيته، وقبل زيد وصيته.. لم يتوفر الثلاثة على زيد، بل يكون لزيد نصف الثلاثة؛ لأنه وصى لكل واحد منهما بنصف الثلاثة، فإذا رد أحدهما وصيته.. كان ذلك للورثة.

(8/232)


[مسألة الوصية لقبيلة]
وإن وصى لقبيلة لا ينحصر عددهم، كبني بكر وبني تميم.. ففيه قولان:
أحدهما: تصح الوصية، ويجوز أن يصرف إلى ثلاثة منهم فما زاد، كما قلنا في الوصية للفقراء.
والثاني: لا تصح الوصية لهم؛ لأنه لا يمكن حصرهم ولا عرف لما يعطى منهم في الشرع، بخلاف الفقراء.
وإن وصى لزيد ولبني تميم، فإن قلنا: إن الوصية لبني تميم تصح.. ففي قدر ما يستحقه زيد معهم الأوجه التي ذكرناها في الوصية لزيد وللفقراء.
ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: إنه كأحدهم.. بطلت الوصية له هاهنا؛ لأنه لا يعرف عددهم الذين يضم إليهم، فلا يعرف قدر نصيبه، وليس بشيء؛ لأنه يعلم أنه أوصى له بشيء في الجملة. وإن لم يعرف.. فهو كما لو أوصى له بشيء من ماله.
وإن قلنا: لا تصح الوصية لبني تميم.. ففي قدر ما يستحقه زيد الأوجه في الوصية له وللفقراء، وما زاد على ذلك يرجع إلى الورثة.

[فرع الوصية بالثلث دون تعيين]
وإن قال: أوصيت بثلث مالي، وأطلق.. صح ذلك، وصرف إلى الفقراء والمساكين؛ لأن المعهود في الشرع أن الصدقات لهم، فحمل مطلق كلام الآدمي عليه.

[مسألة ضع ثلثي فيما أراك الله]
قال الشافعي في " الأم ": (إذا قال للوصي: ضع ثلثي فيمن يريك الله، أو حيث ترى، أو فيما يقربني إلى الله، أو في جهة البر وجهة الثواب.. صرف ذلك إلى الفقراء والمساكين؛ لأن ذلك جهة البر والثواب) . ويستحب أن يقدم في ذلك من لا يرث

(8/233)


الموصي من أقاربه، وذوي رحمه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقتك على ذي رحمك: صدقة وصلة» .
فإن لم يكن له ذو رحم من النسب.. فمن الرضاع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .
فإن لم يكن له ذلك.. فإلى جيران الموصي؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى خشيت أنه سيورثه» .
ولو دفعه الوصي إلى من يرث الموصي.. لم يصح؛ لأن الوصية للوارث لا تصح.
ولا يجوز للوصي أن يضعه في نفسه، كما لو وكله في البيع.. لم يجز أن يبيع من نفسه.

[مسألة وصى لزيد وملك]
وإن وصى لزيد ولجبريل بثلث ماله.. كان لزيد نصف الثلث، وتبطل الوصية لجبريل.
وإن وصى لزيد وللرياح بثلث ماله.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن لزيد نصف الثلث، وتبطل الوصية في النصف، كما قلنا في التي قبلها.

(8/234)


والثاني: أن جميع الثلث لزيد، وذكر الرياح لغو. هذا ترتيب الشيخ أبي إسحاق
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا أوصى بثلثه لزيد وللملائكة، أو للرياح.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أن لزيد نصف الثلث، وتبطل في النصف الآخر، كما لو أوصى بثلثه لوارثه ولأجنبي.
والثاني: أن جميع الثلث لزيد.
والثالث: أن لزيد منه ما يقع عليه اسم شيء تخريجا من نص الشافعي: إذا أوصى لزيد ولمن لا يحصى.
وإن وصى بثلثه لحي ولميت.. فللحي نصف الثلث، وتبطل الوصية للميت. وقال أبو حنيفة: (الثلث كله للحي) .
وحكاه المسعودي [في " الإبانة "] قولا آخر لنا، وليس بمشهور.
وإن قال: ثلثي لله ولزيد.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن جميع الثلث لزيد، واسم الله للتبرك.
والثاني: أن لزيد نصف الثلث، ونصفه للفقراء والمساكين؛ لأن عامة ما يجب لله يصرف إلى الفقراء والمساكين، فصار كما لو قال: ثلثي لزيد وللفقراء.

[فرع أوصى لعقب زيد]
إذا أوصى لعقب زيد، فمات الموصي وزيد حي، ثم مات زيد.. كانت الوصية لولده.
وإن وصى لأولاد زيد.. صرف إلى أولاده الموجودين يوم عقد الوصية، دون من يولد بعده.
وقال أبو حنيفة: (يصرف إلى الموجودين يوم موت الموصي) .
وقبل: إنه قول لنا.

(8/235)


[فرع الوصية لدابة فلان]
قال في " العدة ": إذا قال: أوصيت لدابة فلان.. سئل:
فإن قال: أردت أن الدابة تملك ذلك.. لم يكن شيئا؛ لاستحالة أنها تملك.
وإن قال: أردت به أنها تعلف به.. فهل يشترط قبول مالكها؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يشترط قبوله؛ لأن نفقتها على مالكها، فهو في الحقيقة وصية له كما لو وصى لعمارة دار فلان.. فالقبول إليه.
والثاني: أنه لا يشترط قبوله، كما لو وصى بعمارة مسجد أو قنطرة.
فإذا قلنا بالأول: كان الموصى به لمالك الدابة، إن شاء أنفقه على الدابة، وإن شاء أمسكه على نفسه وأنفق عليها من حيث شاء.
ومن قال بالثاني، قال: ينفق الوصي ذلك على الدابة، فإن لم يكن وصي.. أنفقه رب الدابة عليها؛ لأن الوصي قصد ذلك، ولعله علم أن رب الدابة لا ينفق عليها وأراد إحياء نفسها، وفي ذلك قربة وطاعة.
وإن مات الموصي قبل أن يبين.. رجع إلى ورثته:
فإن قالوا: أرد أن تعلف به الدابة.. صحت الوصية.
وإن قالوا: أراد تمليكها.. حلفوا على ذلك، وبطلت الوصية؛ لأن الدابة لا تملك.
وإن قالوا: لا ندري ما أراد.. كان كما لو قال: أوصيت لها، ولا نية له.. فتبطل الوصية؛ لأن الدابة لا تملك.
قال أبو علي السنجي: فعلى هذا: إذا قال: وقفت أرضي هذه على المسجد أو على الكعبة، سئل، فإذا قال: أردت على عمارتها.. صح وإن قال: أردت أن تكون المنافع ملكا للمسجد أو للكعبة، أو قال: لا نية لي.. لم يصح؛ لأن المسجد والكعبة لا يملكان.
وإن مات قبل أن يبين.. رجع إلى ورثته، وإذا صحت الوصية للكعبة.. صرف إلى عمارتها.

(8/236)


وقال أبو حنيفة: (تصرف إلى مساكين مكة) وهو وجه لبعض أصحابنا الخراسانيين.

[مسألة أوصى لرجل بقسط من ماله]
إذا أوصى رجل لرجل بنصيب من ماله، أو بحظ أو بقسط أو بجزء أو بقليل أو كثير.. فإن شيئا من هذه الألفاظ لا يقدر بشيء مملوك، بل أي شيء أعطاه الوارث جاز؛ لأنه ليس له حد معلوم في اللغة ولا في الشرع، وهذا لا خلاف فيه.
وأما إذا أوصى له بسهم من ماله: فعندنا لا يتقدر ذلك بشيء معلوم، بل أي شيء أعطاه الوارث قبل منه.
وقال أبو يوسف ومحمد: يدفع إليه مثل نصيب أقل ورثته نصيبا، ما لم يكن نصيب أقل ورثته أقل من الثلث، فإن كان أقل من الثلث.. أعطي الثلث.
وعن أبي حنيفة روايتان:
إحداهما: (أن له مثل أخس ورثته نصيبا، ما لم يكن أقل من السدس، فإن كان أقل من السدس.. أعطي السدس) .
والثانية: (أن له مثل أخس ورثته نصيبا، ما لم يزد على السدس، فإن زاد على السدس.. كان له السدس) .
دليلنا: أن السهم لا يتقدر في اللغة ولا في الشرع بشيء معلوم.
ولهذا يقال: له في هذه الدار سهم، وقد يكون قليلا، وقد يكون كثيرا، فهو كما لو أوصى له بحظ أو نصيب من ماله.

[مسألة أوصى لرجل بمثل نصيب وريثه الوحيد]
إذا كان لرجل ابن لا غير فأوصى لرجل بمثل نصيب ابنه.. كانت الوصية بنصف المال، فتلزم الوصية بالثلث، وتوقف الوصية بالسدس على إجازة الوارث. وبه قال أبو حنيفة.

(8/237)


وقال مالك: (تكون الوصية بجميع المال، فيلزم في الثلث ويوقف في الثلثين على إجازة الوارث) .
دليلنا: أن قوله: أوصيت بمثل نصيب ابني، يحتمل أنه أراد: بمثل نصيب ابني لو لم أوص، فتكون الوصية بجميع المال.
ويحتمل أنه أراد: بمثل نصيب ابني لو كان معه وارثا، فتكون الوصية بالنصف، فإذا احتمل هذين.. كانت الوصية بالنصف؛ لأنه يقين، ولأنه قد جعل لابنه نصيبا، وهذا يقتضي اشتراكهما.
وإن كان له ابنان، فقال: أوصيت لفلان بمثل نصيب ابني، أو أحد ابني.. كانت الوصية بالثلث؛ لأن معناه مع دخول الموصى له مع ولديه ووجوب حقه في تركته فصار المال بينهم أثلاثا.

[فرع أوصى بمثل نصيب ابنته الوحيدة]
وإن كان له ابنة واحدة، فقال أوصيت لفلان بمثل نصيب ابنتي.. كانت الوصية بالثلث؛ لأن تقدير هذا: أنه يجعل الموصى له كأنه ابنة له أخرى، ولو كان هناك ابنة أخرى.. لكان لهما ثلثا المال ولبيت المال الثلث، فكذلك هاهنا مثله.
فإن كان له ولد خنثى لا غير، فقال: أوصيت لفلان بمثل نصيب ولدي.. أعطي الموصى له الثلث، والخنثى الثلث، ووقف الباقي:
فإن بان الخنثى امرأة.. فقد استوفى الخنثى حقه والموصى له حقه.
وإن بان الخنثى رجلا.. علمنا أن الوصية وقعت في النصف، فتعتبر إجازة الابن في السدس.

(8/238)


[فرع وصى بنصيب ابنين]
وإن قال: أوصيت له بنصيب ابني.. فقد قال أبو حنيفة: (الوصية باطلة) .
وقال مالك: (هو كما لو قال: أوصيت له بمثل نصيب ابني) فتكون الوصية عنده بجميع المال.
وليس للشافعي فيها نص.
واختلف أصحابنا فيها:
فقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: هو كما قال أبو حنيفة؛ لأنه أوصى له بنصيب ابنه، ونصيبه ما استحقه بوفاة أبيه، فلا تصح الوصية به، كما لو وصى بمال لابنه من غير الميراث. ويفارق إذا أوصى له بمثل نصيب ابنه؛ لأنه أوصى له بقدر نصيب ابنه.
ومنهم من قال: هو كما لو أوصى له بمثل نصيب ابنه، فيكون موصيا له بالنصف؛ لأن معناه يؤول إلى معنى مثل نصيب ابنه، كما يقال للزوجة: لها مهر مثلها، ولا يكون ذلك لها، وإنما يكون لها مثل مهر مثلها.
وإن أوصى له بمثل نصيب ابنه وليس له إلا ابن قاتل له، أو مملوك.. فالوصية باطلة؛ لأنه أوصى بمثل نصيب من لا نصيب له، فهو كما لو أوصى بمثل نصيب أخيه وله ابن.

[فرع أوصى بمثل نصيب أحد أبنائه]
وإن كان له أولاد ذكور ونساء، فأوصى لآخر بمثل نصيب أحد أولاده.. فإنه يدفع إليه مثل نصيب بنت؛ لأنها أحد أولاده.
فإن كان له ابنان وبنت.. كان فريضتهم من خمسة، ويزاد للموصى له سهم سادس.
وهكذا لو قال: أوصيت له بمثل نصيب أحد ورثتي.. أعطي الموصى له مثل نصيب أقل الورثة نصيبا، من زوجة أو غيره؛ لأنه اليقين.

(8/239)


[مسألة أوصى له بضعف نصيب أحد الورثة]
وإن أوصى له بضعف نصيب أحد ورثته.. أعطي الموصى له مثلي نصيب أقل الورثة نصيبا.
فإن خلف بنتا وبنت ابن وأختا لأب وأم.. كان لابنة الابن السدس، سهم من ستة، فيزاد للموصى له مثلا نصيبها - وهو سهمان - فتقسم التركة على ثمانية: للابنة ثلاثة، وللأخت سهمان، ولابنة الابن سهم، وللموصى له سهمان.
وهذا قول كافة العلماء إلا أبا عبيد القاسم بن سلام فإنه قال: الضعف عبارة عن مثل الشيء مرة؛ لقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] [الأحزاب: 30] :
فلما ثبت بالإجماع أنه أراد بذلك حدين.. علم أن الضعفين عبارة عن مثلي الشيء، وأن الضعف عبارة عن مثل الشيء.
ودليلنا: ما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أضعف الصدقة على نصارى بني تغلب - أي أخذ منهم مثلي ما يأخذ من المسلمين) فعلم أن الضعف عبارة عن الشيء ومثله.
وأما الآية: فظاهرها أنه كان يجب عليهن ثلاثة حدود، وإنما ترك ذلك بدليل وهو قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] [الأحزاب: 31] :
فلما جعل ثوابهن مثلي ثواب غيرهن.. لم يجز أن يكون عذابهن أكثر من مثلي عذاب غيرهن؛ لأن جزاء السيئة لا يجوز أن يكون أكثر من جزاء الحسنة؛ لأن الله أخبر أنه يجازي بالحسنة عشر أمثالها، ويجازي بالسيئة مثلها.

(8/240)


وإن قال: وصيت له بضعفي نصيب أحد ورثتي.. كان له ثلاثة أمثال نصيب أقل ورثته نصيبا.
وقال أبو ثور: (الضعفان عبارة عن أربعة أمثال نصيب أقلهم) وهذا غلط؛ لأن الضعف لما كان عبارة عن الشيء ومثله.. كان الضعفان عبارة عن الشيء ومثليه.

[فرع الوصية لجماعة بوصايا مختلفة]
إذا أوصى لجماعة بوصايا مختلفة، ثم قال: أوصيت لفلان بمثل ما أوصيت به لأحد الناس.. أعطي مثل أقلهم وصية؛ لأنه يقين، وما زاد فهو مشكوك فيه.

[مسألة وصى لرجل بنصف ماله ولأخر بثلثه]
إذا أوصى لرجل بنصف ماله، ولآخر بثلث ماله، فإن أجاز الورثة.. قسمت التركة على ستة أسهم، للموصى له بالنصف ثلاثة أسهم، وللموصى له بالثلث سهمان، وللورثة سهم.
وإن لم يجيزوا.. قسموا المال على خمسة عشر سهما، للورثة عشرة ولصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث سهمان. وبه قال الحسن، والنخعي، ومالك، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة: (من أوصى له بزيادة على الثلث.. سقطت الزيادة على الثلث، وصارت بالثلث؛ لا غير) . وعلى هذا يكون الثلث بينهما نصفين.
دليلنا: أنها وصايا لو كانت بالثلث فما دون وقسمت.. لقسمت على التفضيل. فإذا كانت أكثر من الثلث.. قسمت على التفضيل، كالوصايا المرسلة، وهو إذا وصى لرجل بألف درهم، ولآخر بألف، ولآخر بخمسمائة، وكان ماله ألفين.. فإن أبا حنيفة وافقنا إذا لم يجز الورثة أن الثلث يقسم بينهم على التفضيل.

(8/241)


[فرع وصى لرجل بنصف ولآخر بثلث ولآخربربع]
فرع: [وصى لرجل بنصف ولآخر بثلث ولآخر بربع] :
وإذا أوصى لرجل بنصف ماله، ولآخر بثلث ماله، ولآخر بربع ماله: فإن أجاز الورثة الوصايا.. قسمت التركة على ثلاثة عشر سهما، للموصى له بالنصف: ستة أسهم، ولصاحب الثلث: أربعة، ولصاحب الربع: ثلاثة؛ لأن الوصايا ليست بآكد من المواريث ثم التركة إذا ضاقت أعيلت بالسهم الزائد، فالوصايا بذلك أولى.
وإن لم يجيزوا.. قسم الثلث على ثلاثة عشر سهما على ما مضى. وعند أبي حنيفة: (لا يضارب الموصى له بالنصف إلا بالثلث) فتقسم التركة على أحد عشر سهما، للموصى له بالنصف: أربعة، وللموصى له بالثلث: أربعة، وللموصى له بالربع: ثلاثة. وقد مض الدليل عليه.
وإن وصى لرجل بجميع ماله، ولآخر بثلث ماله: فإن أجاز الوارث.. قسم المال على أربعة أسهم، للموصى له بجميع المال: ثلاثة، وللموصى له بالثلث: سهم وإن لم يجز الورثة.. قسم الثلث على أربعة.
وعند أبي حنيفة روايتان عند الإجازة: إحداهما: كقولنا، رواها عنه محمد وأبو يوسف.
والأخرى - رواها عنه الحسن بن زياد -: (أن المال بينهما عند الإجازة على ستة أسهم، للموصى له بالجميع: خمسة، وللموصى له بالثلث: سهم) .
دليلنا: أن أقل مال له: ثلث ثلاثة، وثلثه: سهم فقسم على أربعة.

[فرع أوصى بمثل نصيب ابنه ثم لآخر بمثل نصيبه]
فإن كان لرجل ابن واحد لا غير، فأوصى لرجل بمثل نصيب ابنه، ثم أوصى لآخر بمثل نصيبه أيضا:

(8/242)


فإن أجاز الابن لهما.. قسم المال بينهما أثلاثا.
وإن لم يجز لواحد منهم.. قسم الثلث بين الموصى لهما نصفين.
وإن أجاز لأحدهما لا غير.. أعطي من لم يجز له سدس المال، وقسم الباقي بين الابن والموصى له نصفين. ويصح من اثني عشر سهما، للذي لم يجز له: سهمان، وللابن: خمسة، وللذي أجاز له: خمسة.
فإن أجاز الابن للثاني بعد ذلك: ضم السهمان اللذان في يد الموصى له إلى الخمسة التي بيد الابن فتصير سبعة، وتقسم بين الابن والذي أجاز له ثانيا نصفين. وتصح المسألة من أربعة وعشرين، للذي أجاز له أولا: عشرة، وللابن: سبعة، وللذي أجاز له آخرا: سبعة.

[فرع أوصى بثلث ماله لأجنبي ولوارث]
إذا أوصى بثلث ماله لأجنبي ولوارث له: فإن أجاز باقي الورثة وصية الوارث. قسم الثلث بينهما نصفين. وإن ردوا وصية الوارث.. كان للأجنبي نصف الثلث؛ لأن الورثة لما أبطلوا وصية الوارث.. صار كأنه لم يوص إلا بالسدس للأجنبي.
فإن كان له ابنان، فأوصى لأحدهما بثلث ماله، ولأجنبي بثلث ماله: فإن أجاز الابن الآخر الوصيتين.. كان للأجنبي الثلث، وللابن الموصى له الثلث بالوصية، وفي الثلث الباقي وجهان:
الصحيح: أنه بين الابن الموصى له وبين الثاني نصفين.
والثاني: أنه للابن الذي لم يوص له.
وإن رد الابن الوصية في أحد الثلثين، وأجاز الآخر.. كان الثلث الباقي بين الأجنبي والابن الموصى له نصفين؛ لأنه إذا أوصى لكل واحد منهما بثلث ماله.. لم تقل: إن كل واحد من الثلثين موصى به لأحدهما، بل كل ثلث من الثلثين موصى به لهما. فإذا لم تصح الوصية في غير ذلك الثلث كان بينهما نصفين؛ لأنه موصى به لهما.

(8/243)


فإن رد الابن أحد الثلثين ونصف الآخر في حق الابن الآخر.. بطلت الوصية فيه، وبقي للأجنبي السدس لا غير.
هكذا ذكرها الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي في " المجموع ".
وإن رد الابن الوصية في الثلث الذي للابن.. فكم يستحق الأجنبي؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما ـ وهو قول القاضي أبي الطيب ـ أنه لا يستحق إلا السدس فقط؛ لأن الابن الموصى له يزاحمه عند الإجازة، فيكون له السدس، وللأجنبي السدس، فإذا رد الابن وصية أخيه.. بقي للأجنبي السدس.
والثاني ـ وهو قول أبي العباس ابن سريج، ولم يذكر في " الإبانة " و " العدة " غيره -: أن له الثلث.
قال الشيخ أبو حامد: كنت أجد أن له السدس، ثم رأيت ظاهر كلام الشافعي أن له الثلث؛ لأن الموصي لم يرض بإخراج دون الثلث، فلا يملك الوارث إسقاط حقه من الثلث، ولأن المزاحمة بالباطل لا تمكن، وما للأجنبي وحده لم يجاوز الثلث، فتم له ذلك.
فإن أوصى لأجنبي بثلث ماله، ولكل واحد من ابنيه بثلث ماله، وأجاز كل واحد منهما لصاحبه، ولم يجيزا للأجنبي.. فالصحيح أن للأجنبي ثلث ماله، ولا معنى لقولهما: لا نجيز.
وفيه وجه آخر: أن الأجنبي ليس له إلا ثلث الثلث؛ لأن الثلث كان بينهم أثلاثا. وإن أوصى لأجنبي بنصف ماله، ولأحد ابنيه بالنصف، فأجاز الابنان الوصية للأجنبي، وأجاز الابن الذي لم يوص له لأخيه.. ففيه وجهان، حكاهما القفال:
أحدهما: أن للأجنبي النصف، وللابن الموصى له الثلث ونصف السدس ـ وهما: خمسة من اثني عشر ـ ويبقى للابن الذي لم يوص له نصف السدس، وهو:

(8/244)


سهم من اثني عشر ـ لأنه لم يوص إلا للأجنبي.. لاستحق الثلث بغير إجازة منهما، واستحق كل واحد من الاثنين الثلث، فلما وصى للأجنبي بالنصف، وللابن بالنصف.. علمنا أنه وصى للأجنبي بسدس لا يستحقه إلا بالإجازة من حق الابنين الموصى له وغير الموصى له، فاستحقه الأجنبي بإجازتهما له ذلك. وعلمنا أنه وصى لابنه بسدس زائد على ثلثه المستحق له بالإرث من حق أخيه، وقد أجازه، فإذا أجاز للأجنبي نصف السدس.. ولأخيه السدس.. بقي له نصف السدس.
والوجه الثاني: ـ ولم يذكر ابن اللبان غيره ـ: أن النصف للأجنبي، وللابن الموصى له النصف، ولا شيء للابن المجيز، كما لو لم يكن له إلا ابن واحد وأوصى لأجنبيين، لكل واحد منهما بنصف ماله، وأجاز الابن الوصيتين.
قال القفال: وأصل هذين الوجهين إنما هما إذا قلنا: تجوز الوصية للوارث. فلأي معنى جازت؟ فيه وجهان:
أحدهما: لأنه ألحقها بالأجنبي.
والثاني: لأنه قصد تفضيله على سائر الورثة.
فإذا قلنا: لأنه ألحقه بالأجنبي.. استحق الابن الموصى له هاهنا النصف، والأجنبي النصف.
وإذا قلنا: لأنه قصد تفضيله.. استحق هاهنا ثلثا ونصف سدس، واستحق الذي لم يوص له نصف سدس، وقد حصل له التفضيل بالثلث.
قال القفال: وهكذا لو أوصى لأحد ابنيه بنصف ماله، وأجاز له أخوه:
فإن قلنا: لأنه ألحقه بالأجنبي.. كان النصف له بالوصية، والنصف الآخر بينه وبين أخيه.
وإن قلنا: لأنه قصد تفضيله.. فلا فائدة له في هذه الوصية.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : بل يجب أن يقاسمه بالنصف الباقي هاهنا على المعنيين؛ لأنه لا يحصل التفضيل إلا بذلك.

(8/245)


وإن أوصى لأحد ابنيه بثلثي ماله، وأجاز له الآخر:
فإن قلنا: لأنه ألحقه بالأجنبي.. استحق الثلثين بالوصية، وقاسم أخاه بالثلث الباقي.
وإن قلنا: لأنه قصد تفضيله.. لم يقاسم أخاه في الثلث الباقي؛ لأن التفضيل قد حصل.
وإن كان له ابن وابنة، فأوصى لابنته بنصف ماله، وأجاز الابن الوصية لها:
فإن قلنا: لأنه ألحقها بالأجنبي.. استحقت النصف بالوصية، وقاسمت أخاها في النصف الثاني، فيحصل لها ثلثا المال.
وإن قلنا: لأنه قصد تفضيلها.. لم تقاسم أخاها في النصف الثاني.
قال ابن اللبان: فإن أوصى لأحد ابنيه بالنصف، ولأجنبي بالنصف، فأجاز الابن الذي لم يوص له الوصيتين، ولم يجز الابن الموصى له للأجنبي.. كان للأجنبي ثلث المال بغير إجازة، وله نصف السدس بإجازة الابن المجيز له، وللابن الموصى له بالنصف النصف بالوصية، ونصف سدس من النصف الموصى به للأجنبي من حقه، فيصير له سبعة من أثنى عشر. وهذا بناء على أصله.
قال ابن اللبان: ولو أوصى للأجنبي بثلث ماله، ولوارث بجميع ماله، فأجاز الورثة.. فللأجنبي الثلث كاملا؛ لأنه أحق به، ولوارث الموصى له الثلثان.
وإن لم يجز الورثة ما جاوز الثلث.. فالثلث كله للأجنبي، ولا شيء للوارث الموصى له.
قال: وإن أوصى لأجنبي بنصف ماله، ولوارث بجميع ماله، فأجاز الورثة.. فللأجنبي الثلث؛ لأنه أحق به من الوارث، ويبقى من وصيته السدس يضرب به في الثلثين، ويضرب الموصى له في الثلثين بنصيبه - وهو: ستة أسهم - فيقتسمان الثلثين على سبعة أسهم، للوارث: ستة أسباع الثلثين، وللأجنبي سبع الثلثين. وتصح الفريضة من أحد وعشرين.

(8/246)


قال: فإن أوصى لأحد ابنيه بنصف ماله، ولأجنبي بنصف ماله، ولأجنبي آخر بثلث ماله، وأجاز الابنان.. فإن ثلث التركة للأجنبيين لا يضاربهما فيه الوارث، ويبقى من وصيتهما النصف، وللابن الموصى له مثل ما بقي لهما، فيضاربهما الابن الموصى له في ثلثي التركة نصفين، فيحصل للابن الموصى له ثلث، وللأجنبيين ثلث، فيضمانه إلى الثلث الأول، فيحصل لهما الثلثان، ويقتسمان ذلك على قدر وصيتهما - وهي: خمسة أسهم - للموصى له بالنصف: ثلاثة أسهم، وللموصى له بالثلث: سهمان. وتصح المسألة من خمسة عشر، للابن الموصى له: خمسة، وللموصى له بالنصف: ستة، وللموصى له بالثلث: أربعة.

[مسألة أوصى لفلان برقيق]
إذا قال: أوصيت لفلان برأس من رقيقي، أو قال: أعطوه رأسا من رقيقي - وله رقيق - أعطاه الوارث ما شاء منهم صغيرا كان أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، سليما أو معيبا؛ لأن اسم الرقيق يقع عليه.
وهل يجوز أن يدفع إليه خنثى مشكلا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن اسم الرقيق يقع عليه.
والثاني: لا يجوز؛ لأن إطلاق اسم الرقيق لا ينصرف إليه.
فإن أراد الوارث أن يشتري له رأسا من الرقيق، ويدفعه إليه، ويتملك ما خلفه الموصي.. لم يكن له ذلك؛ لأن الوصية تعينت في رقيق الموصي.
فإن مات رقيق الموصي إلا واحدا منهم.. لزم الوارث دفعه إلى الموصى له وإن كان أنفس الرقيق؛ لأنه تعين للوصية.
وإن ماتوا كلهم قبل موت الموصي أو بعد موته من غير تفريط من الوارث.. بطلت الوصية؛ لأنهم إذا ماتوا قبل موت الموصي.. فقد جاء وقت لزوم الوصية ولا رقيق له، وإذا ماتوا بعد موته.. فقد تلفوا على الوارث وعلى الموصى له بغير تفريط من أحد، فهو كالمال بين الشريكين.

(8/247)


وإن قتلوا كلهم: فإن كان قبل موت الموصي.. بطلت الوصية؛ لأنه جاء وقت لزوم الوصية ولا رقيق له. وإن كان بعد موت الموصي.. لم تبطل الوصية، وكان للوارث أن يعين له قيمة أيهم شاء وإن كان أقلهم قيمة؛ لأن القيمة تقوم مقامهم.
وإن قتلوا إلا واحدا منهم قبل موت الموصي.. قال أبو إسحاق: لزم الوارث تسليمه إلى الموصى له وإن كان أفضلهم؛ لأنه تعين للوصية، فهو كما لو ماتوا إلا واحدا منهم.
فإن قتلوا بعد موت الموصي إلا واحدا منهم، فقال الوارث: أنا أعطيه قيمة واحد منهم ولا أسلم الباقي منهم.. لم يكن له ذلك؛ لأن الموصي إنما أوصى له برأس من رقيقة، فما دام هناك واحد منهم.. فاسم الرقيق موجود فيه، فلا يجوز العدول عنه إلى القيمة.
وإن قال: أعطوه رأسا من رقيقي، فمات ولا رقيق له، أو قال: أعطوه عبدي الحبشي، وليس له عبد حبشي.. لم تصح الوصية؛ لأنه أوصى له بما لا يملكه.
وإن قال: أعطوه رأسا من الرقيق، أو من مالي، فمات ولا رقيق له.. اشتري له رأس من الرقيق؛ لأنه لم يضف ذلك إلى رقيقه، وإنما أضافه إلى ماله، وما اشترى من ثلثه.. فهو من ماله.

[مسألة وصى بعتق أحد رقيقه]
إذا قال: أعتقوا عني أحد رقيقي، وله رقيق. أعتق عنه الوارث ما شاء منهم، وإن كان أقلهم قيمة.
وإن قال: أعتقوا عني عبدا.. اشترى له من ثلثه عبد وأعتق عنه، صغيرا كان أو كبيرا، مسلما أو كافرا. ولا يجوز عتق أمة ولا خنثى مشكل؛ لأنه لا يقع عليهما اسم العبد.

(8/248)


وإن كان هناك خنثى مشكل زال إشكاله، وبان أنه رجل.. فهل يجزئ عتقه عن الوصية؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئ؛ لأنه عبد.
والثاني: لا يجزئ؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم العبيد.
وهل يجزئ إطلاق عبد معيب لا يجزئ في الكفارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجزئ؛ لأن العتق في الشرع له عرف، وهو: السليم، فحمل مطلق كلام الآدمي عليه.
والثاني: يجزئ، وهو المشهور؛ لأنه يقع عليه اسم العبد، فهو كالوصية بالعبد لرجل.

[فرع أوصى بعبد قيمته مائة ولا مال له غيره]
) : وإن كان له عبد قيمته مائة، لا مال له غيره، فأعتقه في مرض موته، أو أوصى أن يعتق عنه.. لزم العتق في ثلثه، فإن أجاز الورثة العتق في ثلثيه.. عتق جميعه.
فإن قلنا: إن إجازة الورثة تنفيذ لما فعله مورثهم.. كان ولاء جميع العبد للموروث.
وإن قلنا: إن إجازتهم ابتداء عطية منهم.. كان ولاء ثلث العبد للموروث، وولاء ثلثيه للورثة. هذا قول عامة أصحابنا.
وقال ابن اللبان: يحتمل أن يكون ولاء جميع العبد للموروث على القولين؛ لأنا وإن قلنا: إنه ابتداء عطية من الورثة، فإنهم أعتقوه عن الميت بإذنه، ومن أعتق عبدا عن غيره بإذنه.. كان ولاؤه للمعتق عنه. فإن ظهر بعد ذلك على الميت مائة دين عليه.. قال الشيخ أبو حامد: بطل العتق في جميع العبد؛ لأن الوصية إنما تنفذ في ثلث ما يفضل بعد الدين، فيرق العبد ويباع في الدين.

(8/249)


وإن ظهر على الميت خمسون دين.. بطل العتق في نصف العبد لأجل الدين ولزم العتق في نصفه؛ لأن الوارث قد أجازه.
وإن لم يجز الورثة العتق في ثلثيه.. عتق ثلثه، ورق ثلثاه للورثة. فإن ظهر على الميت من الدين مائة.. بطل العتق في ثلثه، وبيع في الدين. وإن ظهر عليه من الدين خمسون.. بيع نصفه في الدين، وعتق سدسه، ورق للورثة ثلثه.

[فرع أوصى بشراء عبد وعتقه بماله ثم وجد دين مستغرق]
وإن كان له مائة درهم لا يملك غيرها، فأوصى أن يشترى له عبد بمائة ويعتق، وأجاز الورثة الوصية، فأشترى الوصي له عبدا بمائة وأعتقه عنه، ثم ظهر على الميت مائة دين، فإن كان الوصي قد اشترى العبد بعين الدراهم.. بطل الشراء؛ لأنه اشترى لغيره ما لا يقع له فوقع لنفسه؛ لأنه اشتراه بمال تعلق به حق الغرماء، ولم يصح العتق؛ لأنه على ملك البائع.
وإن اشتراه الوصي بمائة في ذمته، ونقد المائة التي خلفها الموصي في ثمن العبد.. صح الشراء؛ لأنه اشتراه في ذمته، ووقع العتق عن الميت؛ لأنه أعتقه عنه بإذنه ويضمن الوصي المائة التي نقدها من مال الميت؛ لأنه نقدها، وحق الغرماء متعلق بها فضمنها للغرماء.

[فرع أوصى بعتق رقاب]
إذا أوصى أن يعتق عنه رقاب.. أعتق عنه ثلاث؛ لأن الرقاب اسم جمع، وأقل الجمع ثلاثة. فإن لم يحتمل الثلث عتق ثلاث رقاب، واحتمل عتق رقبتين لا غير، أو أقل.. أعتق عنه ما احتمله الثلث. وإن بقي من الثلث شيء بعد الرقبتين: فإن لم يمكن أن يشتري بما بقي بعض الثالثة.. زيد في ثمن الرقبتين. وإن أمكن أن يشترى بما بقي بعض الثالثة.. ففيه وجهان.
(أحدهما) : قال أبو إسحاق: يشتري به جزءا من رقبة ثالثة؛ لأنه أقرب إلى العدد الموصى به.

(8/250)


(والثاني) : قال أبو العباس وأكثر أصحابنا: بل يزاد ذلك في ثمن الرقبتين، وهو المذهب؛ لما روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن أفضل الرقاب؟ فقال: " أكثرها ثمنا، وأنفسها عند أهلها» .
فإذا قلنا بهذا: فأشترى أنفس رقبتين بثمن، وبقي من الثلث بقية لا تبلغ ثمن الثالثة:
قال المسعودي (في " الإبانة ") : بطلت الوصية في البقية، وردت إلى الورثة.
إذا ثبت هذا: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (قال لي قائل: الاسترخاص مع الاستكثار أحب إليك، أم الاستغلاء مع الاستقلال؟ قلت: الاسترخاص مع الاستكثار) .
ومعناه: أنه إذا أمكنه أن يشتري خمسة أوساط بثمن ثلاثة جياد.. كان الخمس أولى؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعتق رقبة مؤمنة.. أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار حتى فرجه بفرجه» ومعلوم أنه إذا أعتق خمس مرات من النار.. كان خيرا مما دونها.

(8/251)


[مسألة كاتب أو أوصى بالمكاتبة عند موته]
وإن كاتب عبدا له في مرض موته، أو أوصى أن يكاتب.. اعتبرت قيمة العبد من الثلث؛ لأن ما يأخذه منه من العوض من كسب عبده، فهو كما لو اعتقه، أو أوصى بعتقه بغير عوض.
إذا ثبت هذا: فإن وصى أن يكاتب عبد.. لم تكاتب أمة، ولا خنثى مشكل. وإن وصى أن تكاتب أمة.. لم يكاتب عبد، ولا خنثى مشكل. وإن أوصى أن يكاتب أحد رقيقه.. جاز أن يكاتب عبدا أو أمة من رقيقه.. وهل يجوز أن يكاتب خنثى مشكلا؟ قال المزني: يجوز
وقال الربيع: لا يجوز
فمن أصحابنا من قال: الصحيح ما قاله المزني؛ لأن الخنثى يقع عليه اسم الرقيق. ومنهم من قال: الصحيح ما قاله الربيع؛ لأن الخنثى لا تدخل في إطلاق اسم الرقيق.
فإن أوصى أن يكاتب عبد من عبيده وفيهم خنثى قد زال إشكاله، وبان أنه رجل.. فهل تجوز كتابته؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.

[مسألة أوصى بشاة لرجل]
إذا قال: أوصيت لفلان بشاة من مالي، أو قال: أعطوا فلانا شاة من مالي.. أعطاه الوارث شاة، صغيرة كانت أو كبيرة، ضائنة كانت أو ماعزة، سليمة أو معيبة لأن اسم الشاة يقع عليها.
قال الشافعي: (ولا يعطي كبشا ولا تيسا؛ لأن اسم الشاة إنما يعرف للإناث دون الذكور) .
ومن أصحابنا من قال: يجوز؛ لأن هذا الاسم للجنس يقع على الذكر

(8/252)


والأنثى، كالإنسان يقع على الرجل والمرأة.
قال الشافعي: (ولا يعطى ظبيا؛ لأنه وإن وقع عليه اسم الشاة إلا أن الإطلاق لا ينصرف إليه) .
إذا ثبت هذا: فإن كان للموصي غنم.. فإن الوصية لا تنصرف إلى غنمه، بل الوارث بالخيار: بين أن يعطي من غنمه، وبين أن يشتري له شاة؛ لأنه اعتبر خروجها من ماله، وإذا اشتري له من ثلثه.. فقد أخرجها من ماله.
وإن قال: أعطوه شاة من غنمي، وله غنم.. أعطي واحدة منها، وليس للوارث أن يمتنع عن دفع واحدة منها ويشتري له؛ لأنه أضاف ذلك إلى غنمه. فإن كانت غنمه كلها إناثا، أو كلها ذكورا.. أعطاه واحدة منها. وإن كانت ذكورا وإناثا.. فعلى قول الشافعي لا يعطي إلا أنثى، وعلى قول من خالفه من أصحابنا يجوز أن يعطى ذكرا منها.
وإن لم يكن له غنم، أو كانت فماتت قبل موت الموصي، أو بعد موته، من غير تفريط من الورثة.. بطلت الوصية، كما قلنا في الرقيق.
وإن قال: أوصيت له بشاة من شياهي وله ظباء مملوكة.. أعطاه الوارث واحدا منها؛ لأنه لا شياه له إلا الظباء، وهي مما يقع عليها اسم الشاة.

[فرع أوصى بذكر فلا يعطى أنثى ولا عكسه]
وإن وصى له بجمل.. لم يعط ناقة. وإن وصى له بثور.. لم يعط بقرة. وإن وصى له بناقة أو بقرة.. لم يعط جملا ولا ثورا. وإن وصى له ببعير.. فالمنصوص: (أنه يعطى جملا ولا يعطى ناقة؛ لأن البعير إنما ينصرف إلى الذكر دون الأنثى) .
ومن أصحابنا من قال: يجوز أن يدفع إليه ناقة؛ لأن البعير يقه على الذكر

(8/253)


والأنثى، كالإنسان يقع على الرجل والمرأة. ولهذا يقول الإنسان: حلبت بعيري، وشربت لبن بعيري.
وإن قال: أوصيت له بعشرة من الإبل، أو بعشر من الإبل.. فللورثة أن يعطوه ما شاؤوا من نوق أو جمال؛ لأن المزني نقل: (بعشرة) بثبوت الهاء، ونقل الربيع: (بعشر من الإبل) بغير هاء؛ لأن للوارث أن يعطيه ما شاء وإن كان ثبوت الهاء في عدد العشر وما دونها يدل على التذكير، وسقوطها يدل على التأنيث. إلا أن الشافعي لم يعتبر فرق العربية مع ذكر الجنس - وهو: الإبل - لأن اسم الجنس يقع على الذكور والإناث، وكذلك اسم البقر يقع على الذكور والإناث، وإنما يتخصص البقر إذا كانت فيها هاء بواحدة أنثى.
وإن قال: أعطوه عشر أينق، أو عشر بقرات.. لم يعط ذكرا. وإن قال أعطوه رأسا من الغنم، أو رأسا من الإبل، أو رأسا من البقر.. جاز أن يدفع إليه الوارث ما شاء من ذكر أو أنثى؛ لأن ذلك يعم الجنس.

[مسألة أوصى بدابة]
قال الشافعي: (وإن قال: أعطوه دابة من مالي.. فمن الخيل أو البغال أو الحمير) .
واختلف أصحابنا في ذلك: فقال أبو العباس: إنما قال الشافعي هذا على عادة أهل مصر؛ لأنهم يطلقون اسم الدابة على الأجناس الثلاثة. فأما أهل العراق وغيرهم: فلا يطلقون اسم الدابة إلا على الخيل.
فعلى هذا: إن كان الموصي بـ مصر.. أعطي الموصى له واحدا من الأجناس الثلاثة. وإن كان بغيرها من البلاد.. لم يعط إلا من الخيل.
وقال أبو إسحاق، وأبو علي بن أبي هريرة: بل يعطى الموصى له واحدا من الثلاثة في جميع البلاد؛ لأن اسم الدابة ينصرف إطلاقه إلى جميع هذه الأجناس، ولأن

(8/254)


ما ثبت له عرف في بلد. ثبت له ذلك العرف في جميع البلاد، ولا خلاف أنه لا يحمل على غير هذه الأجناس الثلاثة من الغنم والإبل والبقر وإن كان الدابة اسما لكل ما دب على الأرض حقيقة، بل يصرف إلى ما يتعارفه الناس فقط.
وإن قال: أعطوه دابة من دوابي، وله الأجناس الثلاثة، أو كان عنده جنسان وأحدهما من الخيل:
فعلى قول أبي إسحاق: يعطيه الوارث ما شاء، وعلى قول أبي العباس: إن كان الموصي بـ مصر.. أعطاه الوارث مما شاء من الثلاثة، وإن كان بغيرها.. لم يعط إلا من الخيل.
وإن لم يكن عنده إلا واحد من الأجناس الثلاثة.. أعطاه الوارث مما عنده واحدا؛ لأنه أضافه إلى دوابه، وليس عنده إلا ذلك.
قال أبو إسحاق: وإنما نخير الوارث بين الثلاثة الأجناس إذا لم يكن في كلام الموصي ما يدل أنه أراد أحد الأجناس. فأما إذا قال: دابة ليقاتل عليها، أو لينتفع بدرها وظهرها.. لم يعط إلا الخيل. وإن قال لينتفع بظهرها ونسلها.. لم يعط إلا الخيل والحمير، دون البغال.
قال في " المهذب ": وإن قال: ليحمل عليها.. أعطي بغلا أو حمارا، ولا يعطي فرسا.

[فرع أوصى له بدابة وعنده غنم وبقر]
وإبل] :
وإن قال: أعطوه دابة من دوابي، وليس عنده أحد الأجناس الثلاثة - الخيل والبغال والحمير - وإنما عنده الغنم والإبل والبقر.. فلا أعلم نصا فيها، والذي يقتضيه القياس: أن الوارث يعطيه واحدا منها؛ لأنه يقع عليها اسم الدابة، وقد أضاف الوصية إلى دوابه، وليس دوابه إلا ذلك، كما قال أصحابنا إذا قال: أعطوه شاة من شياهي، وليس عنده إلا الظباء.. أعطاه الوارث واحدا، منها، فكذلك هذا مثله.

(8/255)


[مسألة أوصى له بكلب]
إذا قال: أعطوه كلبا من مالي، أو وصى له بكلب، ولا كلاب له.. لم تصح الوصية؛ لأنه لا يصح أن يشتري له كلبا.
وإن قال أعطوه كلبا من كلابي، وله كلاب.. نظرت: فإن كانت كلابا لا ينتفع بها بصيد ولا حرث ولا ماشية، بل هي كلاب الهراش.. فالوصية باطلة؛ لأنه لا ينتفع بها، ولا تقر اليد عليها. وإن كانت كلابا ينتفع بها بشيء مما ذكرناه.. صحت الوصية، وأعطاه الوارث ما شاء منها إلا أن يقرن الموصي به بصيد، أو حرث، أو ماشية، وهو عنده.. أعطي ذلك دون غيره.
قال الشيخ أبو حامد: وإن قال: أوصيت له بكلب من مالي، وله كلاب ينتفع بها.. صحت الوصية؛ لأن الكلاب وإن لم تكن مالا فإن قوله من مالي يحمل على المجاز، ومعناه: مما لي، وفي يدي.

[فرع أوصى له بأحد كلابه]
وإن كان له ثلاثة أكلب ينتفع بها، فوصى بها لرجل، ولا مال له، ولم يجز الورثة.. ففيه أربعة أوجه:
أحدهما: يأخذ الموصى له من كل كلب ثلثه، كسائر الأعيان.
والثاني: يعطيه الوارث واحدا منها بالقرعة؛ لأنه ليس بعضها بأولى من البعض
والثالث: يعطيه الوارث واحدا منها باختياره.
والرابع: تقدر لو كانت متقومة كم كانت قيمة كل واحد منها؛ لأنه لما لم يمكن تقويمها بأنفسها.. اعتبرت بما يتقوم.

(8/256)


وإن كان له مال- وإن قل - فوصى بالأكلب الثلاثة لرجل، أو كان له كلب واحد ومال، فوصى بالكلب لرجل.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس للموصى له إلا ثلث ما أوصى له به من الكلاب أو الكلب؛ لأنه لا يحصل للموصى له شيء إلا ويحصل للورثة مثلاه، والكلاب لا يمكن اعتبارها من المال؛ لأنه لا قيمة لها، فاعتبرت بأنفسها.
والثاني: أن الكلاب أو الكلب للموصى له؛ لأن أقل جزء من المال خير من كلب.
وإن وصى لرجل بكلب له، ولا مال للموصي، ولم يجز الورثة.. أعطي الموصى له ثلث الكلب، وللورثة ثلثاه، كغيره من الأعيان.

[مسألة أوصى بطبل]
وإن قال: أعطوه طبلاً من طبولي: فإن كان له طبل الحرب.. صحت الوصية؛ لأن استعماله مباح، وهو آلة للحرب فهو كالسلاح.
قال الشافعي: (فإن كان لا يسمى طبلاً إلا بجلد.. ألزم الوارث أن يسلمه بجلده، وإن كان يسمى طبلاً بلا جلد.. كان للوارث أن يعطيه إياه بلا جلد) .
وإن لم يكن له إلا طبل اللهو- قال الشيخ أبو حامد - مثل طبول المخنثين- فإن كان يصلح لمنفعة مباحة وهي على تلك الهيئة من غير نقص.. صحت الوصية بها؛ لأنه يمكن الانتفاع بها. وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة إلا بعد تفصيلها وخروجها عن كونها طبولاً.. لم تصح الوصية بها؛ لأنها حال ما تسمى طبولاً.. لا تصلح لمنفعة مباحة، وحال ما تصلح لمنفعة مباحة.. لا يقع عليها اسم الطبول.
وإن كان له طبل الحرب، وطبل اللهو: فإن كان طبل اللهو لا يصلح لمنفعة مباحة.. أعطاه الوارث طبل الحرب، وإن كان طبل اللهو يصلح لمنفعة مباحة مع كونه يسمى طبلاً.. أعطاه الوارث ما شاء منهما. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\414] : الطبول ثلاثة، طبل الحرب، وطبل

(8/257)


اللهو وطبل العطر: وهو سفط من خيرزان يضع فيه العطار العطر.
فإن كان في ملكه طبل الحرب وطبل العطر.. أعطاه الوارث ما شاء منهما. وإن كان عنده الطبول الثلاثة، وكان طبل اللهو يصلح لمنفعة مباحة مع كونه يسمى طبلاً.. أعطاه الوارث أي الطبول الثلاثة شاء.
وإن قال: أعطوه طبلاً من مالي.. اشتروا له طبلاً تصح الوصية به على ما ذكرناه.

[فرع الوصية بدف]
وإن قال: أوصيت له بدف من دفوفي وله دفوف، أو بدف من مالي.. صحت الوصية؛ لأن ضرب الدف في النكاح والختان جائز، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف» .

[مسألة أوصى له بعود]
وإن وصى له بعود من عيدانه: " فاسم العود يقع على عود اللهو الذي يضرب به، وعلى العود الذي يصلح للقوس وعلى العود الذي يصلح للبناء- وهي: الأخشاب- فإن كانت عنده هذه العيدان الثلاثة.. نظرت: فإن كان عود اللهو يصلح لمنفعة مباحة وهو على هيئته يقع عليه اسم العود.. انصرفت الوصية إلى عود اللهو؛ لأن إطلاق اسم العود إليه أسبق. وللوارث أن يعطيه عود اللهو بلا مضراب، ولا وتر، ولا ملاو؛ لأن هذه الأشياء لا تصلح على العود إلا للهو، ولأنه يسمى عوداً وإن أمسكت عنه. هذا نقل البغداديين.

(8/258)


وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\415] : يعطيه الوارث أي العيدان شاء.
فإن كان عود اللهو لا يصلح لمنفعة مباحة مع كونه يسمى عوداً.. لم تصح الوصية به؛ لأنه لا يصلح لمنفعة مباحة.
قال الشيخ أبو حامد: ويعطيه الوارث ما شاء من عود القوس، أو عود البناء وجها واحداً؛ لأن الوصية تمليك، فإذا لم تصح بما يطلق الاسم عليه.. انصرف الإطلاق إلى ما يصح أن يملك، كما قلنا في الطبل.
وذكر في " المهذب " فيها وجهين:
أحدهما: هذا، والثاني: أن الوصية باطلة، وهو المذهب؛ لأن العود لا يطلق إلا على عود اللهو فإذا كان لا يصلح لمنفعة مباحة.. كان وصية بمحرم، بخلاف الطبل فإنه يقع على طبل الحرب وطبل اللهو.
قال في " المهذب ": وإن وصى له بعود من عيدانه وليس عنده إلا عود القوس، وعود البناء.. أعطي منها؛ لأنه أضافه إلى ما عنده، وليس عنده سواه.
قال: وهذا يدل على صحة ما ذكره الشيخ أبو حامد في التي قبلها.

[فرع الوصية بمزمار]
] : وإن قال: أوصيت لفلان بمزمار من مزاميري: فإن كان المزمار يصلح لمنفعة مباحة على هيئته.. صحت الوصية به.
قال الشافعي: (ويدفع إليه الوارث المزمار دون المجمع) الذي يترك في الفم عند الزمر؛ لأن المجمع لا يصلح إلا للهو، ولأنه يسمى مزماراً وإن لم يكن فيه مجمع.
وإن كان المزمار لا يصلح لمنفعة مباحة على هيئته، وإذا صلح لمنفعة مباحة لم يقع عليه اسم المزمار.. لم تصح الوصية؛ لأنها وصية بمحرم.

(8/259)


[مسألة أوصى بقوس من قسيه]
وإن وصى له بقوس من قسيه: فالقسي خمسة أجناس:
القسي العربية: التي يرمي عنها بالنبل.
والقسي العجمية: التي يرمي عنها النشاب.
وقسي الحسبان: قال الشيخ أبو حامد: وهي خشبة فيها حفيرة طولاً، أو قصبة يوضع فيها سهم، ثم يرمى بالسهم عنها.
وقوس الجلاهق: وهي قسي يرمى عنها الطير ببنادق الطين.
وقوس الندف.
فإذا أوصى له بقوس من قسيه وعنده هذه الأجناس الخمسة.. أعطاه الوارث ما شاء من الأجناس الثلاثة الأولى دون قوس الجلاهق والندف؛ لأن اسم القوس إليها أسبق، ولا يعطيه إلا قوساً قد نحتت؛ لأنها لا تصلح للرمي إلا بعد النحت.
وهل يلزم الوارث أن يعطيه معها الوتر؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن اسم القوس يقع عليها من غير وتر، وإنما الوتر للتمكن من الانتفاع، فلم يجب دفعه، كسرج الدابة.
والثاني: يلزمه؛ لأن القوس يراد للرمي، ولا يمكن الرمي عنه إلا بالوتر.
وإن قال: أعطوه قوساً ليندف بها القطن، أو الصوف.. لم يعط إلا قوس الندف. وإن قال: ليرمي بها الطير.. لم يعط إلا قوس الجلاهق؛ لأن القرينة تدل عليه.
وإن قال: أعطوه قوساً من قسيي، وليس عنده إلا قوس الندف والجلاهق.. فاختلف الشيخان فيه:

(8/260)


فقال الشيخ أبو إسحاق: يعطى قوس الجلاهق؛ لأن الاسم إليه أسبق.
وقال الشيخ أبو حامد: يعطيه الوارث ما شاء منهما؛ لأنه أضافه إلى ما عنده، وليس إحداهما بأولى من الأخرى.

[مسألة إبراء المكاتب في مرض مخوف]
وإذا أبرأ مكاتبه من مال الكتابة، أو أعتقه في مرض مخوف: فإن برئ من مرضه.. عتق المكاتب. وإن مات من مرضه ذلك.. اعتبر من الثلث.
فإن كان مال الكتابة وقيمة العبد يخرج كل واحد منهما من الثلث.. عتق. وإن خرج أحدهما دون الآخر.. اعتبر الأقل من قيمته أو من مال الكتابة، فأيهما خرج من الثلث.. عتق، مثل أن يكون قيمة العبد مائة ومال الكتابة مائة وخمسين والثلث مائة، فتعتبر القيمة هاهنا.
وإن كانت قيمته مائة وخمسين، ومال الكتابة مائة، والثلث مائة.. اعتبر مال الكتابة هاهنا.
وإنما اعتبرنا الأقل منهما؛ لأن القيمة إن كانت هي الأقل.. اعتبرت؛ لأنها قيمة من أعتقه؛ لأن مال الكتابة ما استقر ملكه عليه؛ لأن للمكاتب أن يسقطه بتعجيز نفسه.
وإن كان مال الكتابة هو الأقل.. اعتبر؛ لأن الكتابة لازمة من جهة السيد ولا يستحق على العبد غيره.
وإن لم يخرج من الثلث أقلهما، وإنما احتمل الثلث النصف من أقلهما، مثل أن يكون الثلث خمسين وقيمة العبد أو مال الكتابة مائة.. عتق نصفه، وكان نصفه باقياً على الكتابة، فإن أدى نصف مال الكتابة.. عتق باقيه.. وإن عجز.. رق نصفه للورثة.
فإن قيل: أليس لو أبرأه السيد في صحته عن نصف مال الكتابة، أو أدى نصف مال كتابته.. لم يعتق شيء منه، فلم أعتقتم نصفه هاهنا، وقد بقي عليه شيء من الكتابة؟

(8/261)


قلنا: الفرق بينهما أن هناك لم تحصل الصفة التي علق عليها العتق- وهو: أداء المال- وهاهنا قد حكمنا ببراءته من الذي خرج من الثلث. وإنما رددنا العتق في بعضه لحق الورثة.
وإن لم يخرج شيء منهما من الثلث، بأن كان على السيد دين يستغرق ماله.. لم يعتق شيء منه، وأخذ المكاتب بأداء ما عليه، فإن أداه.. عتق، وتعلق حق الغرماء بما أداه. وإن عجز.. رق وبيع بحق الغرماء.
وإن لم يكن له مال غير العبد، ولا دين عليه، ولم يجز الورثة:
فإن كان قد حل عليه مال الكتابة.. عتق ثلثه في الحال، فإن أدى ما بقي عليه من مال الكتابة.. عتق ثلثاه، وإن عجز رق ثلثاه للورثة.
وإن لم يحل عليه مال الكتابة.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يتعجل عتق شيء منه؛ لأنه لا يتنجز للموصى له شيء إلا ويحصل للورثة مثلاه.
والثاني - وهو المنصوص عليه -: (أنه يعتق ثلثه في الحال) لأن حق الورثة في مثلي ثلثه متيقن، إما بالأداء أو بالعجز.
وإن أوصى بعتقه، أو بالإبراء مما عليه.. فحكمه حكم ما لو أعتقه في مرض موته، أو أبرأه مما عليه إلا أن في هذه يوقف العتق على إعتاق الوصي أو إبرائه، وفي التي قبلها لا يحتاج إلى عتق، ولا إلى إبراء من الوصي.

[مسألة الوصية بحط أكثر مال الكتابة]
إذا قال: ضعوا عن مكاتبي أكثر ما عليه من مال الكتابة.. وضع عنه نصف ما عليه وزيادة على النصف. وتقدير الزيادة إلى اختيارهم؛ لأن ذلك أكثر ما عليه.

(8/262)


وإن قال: ضعوا عنه أكثر ما عليه ونصفه.. وضع عنه ثلاثة أرباع ما عليه وزيادة، وتقدير الزيادة إليهم.
وإن قال: ضعوا عنه أكثر ما عليه ومثله.. فقد وصى له بأكثر مما عليه؛ لأن قوله: (أكثر ما عليه) يقتضي النصف وزيادة.
وقوله: (مثله) يقتضي نصفا آخر وزيادة، فيوضع عنه جميع مال الكتابة، وتسقط الوصية بالزيادة؛ لأنه لم يبق لها محل.

[فرع أوصى بأن يوضع عنه شيء ما]
] : روى المزني: (لو قال: ضعوا عنه ما شاء، فشاءها كلها.. لم يكن له إلا أن يبقي شيئا) .
وروى الربيع: (إذا قال: ضعوا عنه ما شاء من الكتابة.. لم يجز أن يوضع عنه الكل حتى يبقى شيء منه) .
واختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو علي بن أبي هريرة: الصحيح ما نقله الربيع؛ لأن قوله: (من مال الكتابة) يقتضي البعض، فلا بد أن يبقى شيء. والذي نقله المزني غلط، بل يجوز أن يوضع عنه جميع مال الكتابة إذا شاء ذلك؛ لأن قوله: (ما شاء) الكل داخل فيه.
وقال أبو إسحاق والقاضي أبو الطيب: ما نقله الربيع صحيح، وما نقله المزني أيضا صحيح، ولا بد أن يبقى شيء فيهما؛ لأن قوله: (ما شاء) يقتضي البعض؛ لأنه لو أراد الجميع.. لقال: ضعوا عنه مال الكتابة.
وإن قال: ضعوا عنه بعض كتابته، أو بعض ما عليه، أو ضعوا عنه ما قل أو ما كثر، أو ضعوا عنه ما يثقل أو ما يخف.. وضع عنه الوارث ما شاء من قليل أو كثير؛ لأن شيئا من ذلك لا يقتضي شيئا مقدراً.
وإن قال: ضعوا عنه نجماً من نجومه.. وضع عنه الوارث أي نجم شاء وإن كان أقلها مالاً. وإن قال: ضعوا عنه أي نجم شاء.. وضع عنه أي نجم شاء المكاتب وإن

(8/263)


كان أكثرها مالاً. وإن قال: ضعوا عنه أوسط نجومه.. فقد يكون الأوسط من ثلاث جهات:
أوسط من جهة العدد: بأن كان يكاتبه على ثلاثة نجوم، فالأوسط هو الثاني.
وإن كاتبه على أربعة نجوم.. فالأوسط هو الثاني والثالث. وإن كاتبه على خمسة.. فالأوسط هو الثالث.
وأوسط من جهة الأجل: بأن يكاتبه على ثلاثة نجوم، نجم إلى شهر، ونجم إلى شهرين، ونجم إلى ثلاثة أشهر، فالأوسط من جهة الأجل هو النجم إلى شهرين.
وأوسط من جهة القدر: بأن يكاتبه على ثلاثة نجوم، نجم بعشرة، ونجم بعشرين، ونجم بثلاثين، فالأوسط من جهة القدر هو النجم بعشرين.
فإن اجتمعت هذه الجهات.. وضع عنه الوارث ما شاء منها. وإن لم تجتمع إلا جهتان.. وضع عنه الوارث أيهما شاء.
وإن قال: ضعوا عنه أكثر نجومه أو أكبر نجومه.. قال ابن الصباغ: انصرف ذلك إلى الأكثر من جهة القدر لا من جهة العدد والأجل.

[مسألة كاتبه ثم أوصى بعتقه]
وإن كاتب عبده كتابة صحيحة، ثم أوصى برقبته.. لم تصح الوصية؛ لأنه لا يملك بيعه، فلا يملك الوصية به. فإن عجز ورق.. لم تصح الوصية به؛ لأنها وقعت فاسدة.
وإن أوصى لرجل بمال الكتابة.. صحت الوصية، فإن أدى المال.. كان للموصى له به، وعتق، وكان الولاء للورثة. وإن عجز.. بطلت الوصية بمال الكتابة، واسترقه الورثة.
فإن حل نجم الكتابة، وعجز عنه، فأراد الورثة تعجيزه ليملكوه، وأراد الموصى له بالمال إنظاره به.. كان للورثة تعجيزه؛ لأن حق الورثة متعلق بعينه، وحق الموصى له متعلق بما في ذمته، فكان حق الورثة آكد.

(8/264)


قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأن الحق للموصى له، بدليل: أنه إذا أبرأه.. عتق ولا حق لصاحب الرقبة.

[فرع أوصى بمال الكتابة لرجل وبرقبته إن عجز لآخر]
وإن أوصى بمال الكتابة لرجل، وبرقبة المكاتب إن عجز لآخر.. صح.
فإن أدى المال.. أخذه الموصى له بالمال، وعتق، وبطلت الوصية بالرقبة. وإن عجز.. رق، وكان للموصى له بالرقبة، وبطلت الوصية بالمال.
وإن قال: أوصيت لفلان بما يعجله المكاتب، فإن عجل المكاتب شيئاً قبل حلول النجم.. استحقه الموصى له. وإن لم يعجل حتى حل النجم فأداه.. لم يستحقه الموصى له؛ لأن الوصية معلقة بشرط، فلا يستحقه الموصى له مع فقد الشرط.

[فرع كاتبه كتابة فاسدة]
وإن كاتب عبده كتابة فاسدة، فأوصى لآخر بما في ذمته.. لم تصح الوصية؛ لأنه لا شيء له في ذمته.
وإن قال: إذا قبضت من المكاتب مالاً فقد أوصيت به لفلان.. فقد قال أبو إسحاق المروزي: تصح الوصية؛ لأنه وإن كان لا يملك في الحال شيئاً في ذمته لكنه إذا قبضه ملكه، فلما أضاف الوصية إلى حال تملك الموصى به.. صح، كما لو أوصى برقبته إذا عجز.
قال الشيخ أبو إسحاق: وفي هذا عندي نظر؛ لأنه لا يملكه بالقبض، وإنما يعتق بحكم الصفة، كما يعتق بقبض الخمر إذا كاتبه عليه، ثم لا يملكه.
وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يملكه إذا لم يزد على قدر قيمة العبد؛ لأنهما يتراجعان فيها.
وإن وصى برقبته لرجل، فإن لم يعلم بفساد الكتابة.. فهل تصح الوصية؟ فيه قولان:

(8/265)


أحدهما: تصح. وهو اختيار المزني؛ لأن ملكه لم يزل عن رقبته، فصحت الوصية بها.
والثاني: لا تصح، قال المحاملي: وهو الأشبه؛ لأنه إذا لم يعتقد أنه ملكه كان متلاعباً بالوصية.
وهكذا القولان فيمن باع مال مورثه وهو يعتقد أنه حي فبان أنه كان ميتاً حال البيع.
وإن كان يعلم بفساد الكتابة حال الوصية.. صحت الوصية، قولا واحداً، كما لو باعه من رجل بيعاً فاسداً، ثم باعه من آخر وهو يعلم فساد الأول.
ومن أصحابنا من قال: فيها قولان. وليس بشيء.

[مسألة يحرم بالحج الواجب الوصية من الميقات]
إذا مات وعليه حجة واجبة - إما حجة الإسلام، أو القضاء، أو النذر - فإن لم يوص بها أو أوصى بها من رأسماله.. وجب أن يستأجر عليها من رأس المال من يحرم عنه من الميقات؛ لأنه كان لا يجب عليه أن يحرم بالحج في حياته إلا من الميقات، فكذلك بعد موته.
ويجوز أن يكون الأجير من الورثة؛ لأنه معاوضة لا محاباة فيها.
وإن أوصى بحجة الإسلام من ثلثه، أو أوصى بها مطلقاً، ولم يقل: من رأس المال، ولا من الثلث، وقلنا: إن الوصية بها يجب إخراجها من الثلث.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يجب أن يستأجر على أدائها من يحرم بها من بلده، وتكون جميع الأجرة من الثلث؛ لأن ميقات الإحرام في أصل الوجوب من دويرة أهله، بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] فقال عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (إتمامهما: أن تحرم بهما من دويرة أهلك) ثم رخص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قطع

(8/266)


المسافة إلى الميقات بغير إحرام بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يستمتع الرجل بأهله من بنيانه حتى يأتي الميقات» .
فإن أوصى الرجل بالحج.. عاد إلى الأصل دون الرخصة.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يجب الإحرام إلا من الميقات؛ لأن الموصي كان لا يجب عليه الإحرام إلا من الميقات بالشرع، فكذلك الأجير.
وإن قال: حجوا عني حجة الإسلام وأطلق، وقلنا: إن الوصية به لا توجب كون جميع الأجرة من الثلث، فمن أين يجب الإحرام هاهنا؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يجب الإحرام من دويرة أهله إلا أن القدر الذي يحتاج إليه من الأجرة من بلده إلى الميقات يكون من الثلث، وما بعد ذلك إلى آخر النسك يكون من رأس المال؛ لأن قوله: (حجوا عني) لا يفيد إلا وجوب الإحرام عنه من بلده، فكانت أجرته من الثلث، إذ لو لم يوص به.. لكان يجب الإحرام عنه من الميقات.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يجب الإحرام عنه به إلا من الميقات، وتكون جميع الأجرة من رأس المال؛ لأن الحج لا يجب بالشرع إلا من الميقات، فكانت الوصية به تأكيداً.
وإن وصى أن يجعل جميع الثلث في حجة الإسلام.. حج به عنه من حيث أمكن من بلده إلى الميقات. فإن عجز الثلث عن حجه من الميقات.. تمم من رأس المال؛ لأن الحج من الميقات مستحق من رأس المال، فإن كان الثلث قدر أجرة المثل من البلد،

(8/267)


أو ما دونه إلى الميقات.. جاز أن يستأجر به الوارث والأجنبي؛ لأن ذلك معاوضة لا محاباة فيها. وإن كان الثلث يزيد على أجرة المثل من البلد، أو ما دونه إلى الميقات.. لم يستأجر به الوارث؛ لأن الزيادة محاباة ووصية، فلا تصح للوارث هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال القفال: إذا قال أحجوا عني رجلاً بألف، وأجرة المثل أقل، ولم يعين الأجير.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يحج عنه إلا بقدر أجرة المثل، والزيادة للوارث.
والثاني: أن الزيادة وصية لشخص موصوف بصفة، وهو حج ذلك الشخص. قال: وحدثت حادثة بـ (مرو) اختلفت فيها فتوى مشايخنا وهي:
أن رجلاً أوصى أن يشترى له عشرة أقفزة حنطة بمائة درهم فيتصدق بها عنه، فأخذ من أجود الحنطة عشرة أقفزة بثمانين درهماً، فماذا يصنع بالعشرين الباقية من المائة؟ فمنهم من أفتى بأنها ترد إلى الوارث، ومنهم من قال: إنها وصية لبائع لحنطة، ومنهم من قال: يشترى بها حنطة بهذا السعر ويتصدق بها عنه.. وهذا الوجه لا يتصور في الحج

[فرع أوصى بحجة ولم يعين الأجرة والأجير]
إذا أوصى بحجة الإسلام ولم يقدر الأجرة، ولا عين الأجير.. فإنه يستأجر بأقل ما يوجد، سواء كان الأجير أجنبياً أو وارثاً؛ لأن ذلك معاوضة لا محاباة فيها.
وإن عين الأجرة ولم يعين الأجير. فإن كان ما عينه من الأجرة قدر أجرة المثل.. جاز أن يستأجر بها الوارث والأجنبي.

(8/268)


وإن كان أكثر من أجرة المثل.. لم يجز أن يستأجر بها الوارث إلا بإجازة الورثة معه.
وهل يستأجر بها الأجنبي؟ إن كانت الزيادة على أجرة المثل لا تخرج من الثلث لم تلزم الزيادة إلا بإجازة الورثة.. وإن كانت تخرج من الثلث.. لزم الاستئجار بها على طريقة أصحابنا البغداديين. وعلى طريقة القفال.. على وجهين.
وإن عين الأجير، ولم يقدر له الأجرة.. وجب استئجاره، وهل يجب استئجاره بأقل ما يؤخذ أو بأجرة مثله من نظرائه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزم استئجاره إلا بأقل ما يؤخذ ممن يحج؛ لأنه لا فائدة في أن يستأجر بأكثر من ذلك.
والثاني: أنه يلزم أن يستأجر بأجرة مثله من نظرائه؛ لأن الموصي لما عينه فكأنه إنما قصده لعلمه بورعه وعلمه، فاعتبرت أجرة مثله بنفسه. ولا فرق على الوجهين بين أن يكون الأجير المعين وارثاً أو أجنبياً. فإن امتنع هذا الأجير المعين من الحج، أو مات قبل أن يحج.. لم تسقط الوصية بالحج، واستؤجر غيره بأقل ما يؤخذ؛ لأن الحج واجب، فلزمه أداؤه.
وإن عين الأجير، وقدر الأجرة، بأن قال: استأجروا فلانا يحج عني بمائة:
فإن كانت الأجرة المقدرة قدر أجرة مثله.. وجب استئجاره بها، وارثاً كان أو أجنبياً.
وإن كانت أكثر من أجرة مثله.. كان قدر أجرة مثله من رأس المال. وأما الزيادة: فمعتبرة من الثلث: فإن خرجت من الثلث وكان الأجير أجنبياً فهي وصية له تلزم إذا حج. وإن لم يحتملها الثلث، أو كان الأجير المعين وارثاً.. وقف ذلك على إجازة الورثة.

(8/269)


وإن قال الأجير المعين: أحجوا غيري بأجرة المثل، وأعطوني ما زاد عليها؛ لأنه وصية لي وهي تخرج من الثلث.. لم يكن له ذلك؛ لأنه إنما وصى له بذلك بشرط- وهو أن يحج عنه- فإذا لم يحج.. لم يستحق.

[فرع وجب الحج عليه فأوصى لمن يحج عنه بمائة دينار]
إذا كانت عليه حجة واجبة، فقال من حج عني بعد موتي أولاً.. فله مائة دينار: فحج عنه أولاً أجنبي: فإن كانت المائة أجرة المثل.. فلا كلام. وإن كانت أكثر من أجرة المثل.. كان ما زاد معتبرا من الثلث.
وإن حج عنه أولاً وارث.. قال الشافعي: (فله من المائة أقل ما يؤخذ به أحد يحج عنه) .
واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: أراد به أجرة المثل.
ومنهم من قال: أراد أقل ما يؤخذ به من يحج عنه، ويكون ما زاد موقوفاً على إجازة الورثة، خرج من الثلث أو لم يخرج.

[مسألة أوصى بحج تطوع]
إذا أوصى بحج تطوع، فإن قلنا: لا تدخله النيابة.. لم تصح الوصية به.
وإن قلنا: تدخله النيابة.. فإن جميع الأجرة معتبرة من الثلث.
فإن قال: أحجوا عني، ولم يقدر الأجرة، ولا عين الأجير.. قال الشيخ أبو حامد: فعلى قول أبي إسحاق: يستأجر من يحج عنه من بلده بأقل ما يؤخذ، فإن لم يحتمله الثلث.. حج عنه بالثلث من حيث أمكن من بلده إلى الميقات. وعلى قول

(8/270)


سائر أصحابنا: يستأجر من يحج عنه بأقل ما يؤخذ من الميقات. فإن عجز الثلث عن حجه من الميقات.. بطلت الوصية فيه، ورجع ملكاً للورثة، كما لو قال: اشتروا عبيدا وأعتقوهم، فاشتري عبدان، وفضل من الثلث مال يمكن أن يشترى به بعض الثالث.. فإنه يكون للورثة.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\419] : وفيه قول آخر في الموضعين: أنه يتصدق بالبقية، وهذا ليس بمشهور.
وإن قال: أحجوا عني بمائة من ثلثي في حج التطوع.. حج عنه بها من حيث أمكن من بلده إلى الميقات، فإن لم يوجد من يحج بها عنه من الميقات.. بطلت الوصية، وكانت للورثة.
وإن قال: أحجوا عني بثلثي.. صرف الثلث فيما أمكن من عدد الحجج، وهل يكون من البلد أو من الميقات؟ على وجهين:
[أحدهما] : على قول أبي إسحاق: يكون من بلده.
و [الثاني] : على قول سائر أصحابنا: يكون من الميقات.
فإن اتسع الثلث لحجة أو حجتين، وبقي منه بقية لا يمكن أن يستأجر به من يحج من الميقات.. بطلت الوصية بها وردت إلى الورثة، ولا تصرف إلى العمرة؛ لأن الموصى به الحج دون العمرة.
وإن قال: أحجوا عني فلاناً، ولم يقدر له أجرة.. فهل يجب استئجاره بأجرة مثله، أو بأقل ما يؤخذ؟ على الوجهين في المسألة قبلها.
وإن قال: أحجوا عني فلانا بمائة.. اعتبر جميعها من الثلث؛ لأنها تطوع، فإن امتنع الأجير المعين عن الحج.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الوصية بالحج تبطل، ولا يستأجر غيره؛ لأنه قصد إرفاق هذا الأجير. وإذا رد الوصية.. بطلت، كما لو وصى له بشيء فرده.
والثاني: لا تبطل بل يستأجر غيره بأقل ما يؤخذ، وهو الأصح؛ لأنها وصية تتضمن قربة، فإذا ردها الموصى له.. لم تبطل القربة، كما لو وصى أن يباع له ثوب

(8/271)


من رجل بمحاباة، ويتصدق بثمنه، فامتنع الموصى له بالشراء عن الشراء.. فإن الثوب يباع من غيره ويتصدق بثمنه.

[فرع وصى بثلثه للحجيج]
وإن أوصى بثلثه للحجيج.. قال الشافعي: (أحببت أن يدفع إلى فقراء الحجيج؛ لأنهم أحوج إليه، فإن دفع إلى أغنيائهم.. جاز) ؛ لأن اسم الحجيج يجمعهم.

[مسألة وصى بمائة لحج تطوع]
وإن أوصى بأن يحج عنه رجل بمائة حجة تطوع، وأوصى بما بقي من ثلثه بعد المائة لآخر، وأوصى بثلث ماله لثالث، فإن كان ثلثه مائة فما دونها.. فلا وصية للموصى له بالبقية بعد المائة, فإن أجاز الورثة الوصيتين: أعطي كل واحد من الموصى لهما ثلث ماله. وإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث.. قسم الثلث بينهما نصفين.
وإن كان ثلثه أكثر من مائة، بأن كان ماله أربعمائة وخمسين، وأجاز الورثة الوصيتين.. دفع إلى الموصى له بالمائة مائة، وإلى الموصى له بالبقية خمسون، وإلى الموصى له بالثلث مائة وخمسون. وإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث.. رد الوصيتان إلى الثلث- وهو: مائة وخمسون- فيعاد الموصى له بالمائة الموصى له بالثلث بالموصى له بالبقية معه، فيقسم الثلث بينهما نصفين، فيأخذ الموصى له بالثلث نصفه- وهو: خمسة وسبعون - وفي النصف الآخر وجهان:
أحدهما: أنه يأخذه الموصى له بالمائة؛ لأن الموصى له بالبقية إنما حقه فيما زاد على المائة، ولم يزد على المائة شيء.
والثاني: أن الموصى له بالمائة، والموصى له بالبقية يقتسمان هذا النصف بينهما،

(8/272)


كما كانا يقتسمان جميع الثلث عند الإجازة، فيقتسمان هاهنا الخمسة والسبعين على ثلاثة، للموصى له بالمائة: سهمان، وللموصى له بالبقية: سهم. وإن كان الثلث مائتين.. فإنهما يقتسمان المائة عند الرد بينهما نصفين؛ لأن الوصية بالثلث زاحمتهما معاً في حقيهما فأدخلت الضرر عليهما، كأصحاب الفروض في المواريث، والأول هو المذهب؛ لأن الموصى له بالبقية إنما وقعت وصيته بشرط، ولم يوجد الشرط بخلاف أصحاب الفروض، فإن أولئك تساوت حقوقهم.
فأما إذا أوصى لرجل بثلث ماله، وأوصى أن يحج عنه رجل بمائة من ثلثه حجة التطوع، وأوصى لثالث بما بقي من ثلثه بعد المائة.. ففد اختلف أصحابنا فيها:
فذهب أكثرهم إلى: أن الحكم فيها كالحكم في التي قبلها؛ لأنها وصية بثلثي ماله. ومنهم من قال: لا تصح الوصية للموصى له بالبقية بعد المائة؛ لأنه لما أوصى للأول بثلث ماله.. علم أنه لا يبقى بعد المائة شيء.
فعلى هذا: إن أجاز الورثة الوصيتين.. دفع إلى الموصى له بالثلث الثلث، وإلى الموصى له بالمائة مائة. وإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث.. قسم الثلث بينهما على قدر حقيهما عند الإجازة، فإن كان الثلث مائة.. اقتسماها نصفين. وإن كان الثلث مائتين.. اقتسماها على ثلاثة: للموصى له بالثلث سهمان، وللموصى له بالمائة سهم، وإن كان الثلث ألفا.. اقتسماه على أحد عشر سهما، للموصى له بالثلث عشرة أسهم، وللموصى له بالمائة سهم، والأول أصح؛ لأنه لما أوصى بالمائة بعد الثلث علم أنه أراد منه الثلث الثاني، فكانت كالأولى.

[مسألة أوصى بعبد ولآخر بما بقي من الثلث]
وإن أوصى لرجل بعبد، ولآخر بما بقي من ثلثه.. ففيه أربع مسائل:
إحداهن: أن يموت الموصي والعبد باق بحالة سليمة: فإن العبد يقوم مع باقي التركة، وينظر: كم قدر ثلثها؟ فيدفع العبد إلى الموصى له به، فإن بقي من الثلث

(8/273)


شيء.. دفع إلى الموصى له بالبقية تمام الثلث. وإن استغرقت قيمة العبد الثلث.. فلا شيء للموصى له بالبقية؛ لأنه لم يبق له شيء.
الثانية: أن يصيب العبد عيب بعد موت الموصي: فإن العبد يقوم يوم مات سيده سليماً، وتحسب قيمته سليماً في التركة، وينظر: ما بقي من ثلث التركة بعد قيمته سليماً، فيدفع ذلك إلى الموصى له بالبقية، ويدفع العبد معيباً إلى الموصى له به؛ لأنه كان سليماً وقت استحقاق الوصية. وإنما نقص بعد ذلك بغير تفريط من أحد.
الثالثة: إذا مات العبد بعد موت سيده، وقبل قبول الوصية فيه.. فقد بطلت الوصية به لفواته، إلا أنه محسوب في التركة، فينظر: كم قدر ثلث التركة؟ وتسقط قيمته من الثلث. فإن بقي شيء بعد قيمته.. دفع ذلك إلى الموصى له بالبقية. الرابعة: إذا مات العبد قبل موت سيده.. فإن العبد غير محسوب في التركة؛ لأنه لم يخلفه السيد، فتقوم التركة، وينظر: كم قدر الثلث؟ ويقوم العبد يوم مات، ويسقط ذلك من الثلث، ويدفع إلى الموصى له بالبقية ما بقي بعد ذلك، ولا تبطل الوصية لصاحب البقية بموت العبد؛ لأنهما وصيتان فلا تبطل إحداهما ببطلان الأخرى، كما لو وصى لرجلين فرد أحدهما وقبل الآخر.

[مسألة أوصى بمنفعة عبد]
] : إذا أوصى له بمنفعة عبد، فمات الموصي، وقبل الموصى له، وخرج العبد من الثلث.. ملك الموصى له منافعه وأكسابه وله أن ينتفع به بنفسه، ويؤاجره، ويعيره، ويوصي به، وهل له أن يسافر به؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\418] : المشهور: أن له ذلك كعبده الذي يملكه.
وإن التقط هذا العبد لقطة، أو وهب له مال.. قال في " الإفصاح ": احتمل وجهين بناء على القولين أن ذلك يدخل في المهايأة:
فإن قلنا: إنه يدخل في المهايأة في العبد بين الشريكين.. كان ذلك للموصى له. وإن قلنا: لا يدخل في المهايأة.. كان ذلك ملكاً لمالك الرقبة.

(8/274)


وإن مات الموصى له والعبد باق.. فهل يرث ورثته المنفعة؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإفصاح "، و " الإبانة ": أحدهما: لا تورث عنه، بل تكون لمالك الرقبة. وبه قال أبو حنيفة؛ لأن الميراث لا يجري في المنافع.
والثاني - وهو الأصح -: أنها تورث عنه كسائر أمواله، ولا يسلم: أن الميراث لا يجري في المنافع؛ لأنه لو استأجر عينا ومات قبل استيفاء المنفعة.. ورثها ورثته، وعلى من تجب نفقة هذا العبد؟ حكى الشيخ أبو حامد فيه وجهين:
أحدهما: تجب على مالك الرقبة؛ لأن النفقة للرقبة، فكانت على مالكها.
والثاني: أنها في كسبه؛ لأنه لا يمكن إيجابها على مالك المنفعة؛ لأنه لا يملك الرقبة، ولا يمكن إيجابها على مالك الرقبة؛ لأنه لا يملك المنفعة، فكانت في كسبه، فإن لم يكن في كسبة وفاء أو لا كسب له.. كانت في بيت المال.
وحكى الشيخ أبو إسحاق فيها وجها ثالثاً: أنها تجب على الموصى له بالمنفعة؛ لأن الكسب له.
وإن قتل هذا العبد حر أو قتله عبد خطأ.. وجبت قيمته، وماذا يصنع بها؟ فيه وجهان:
أحدهما: تكون ملكاً لمالك الرقبة؛ لأنها بدلها، فكانت لمالكها.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه يشترى بها عبد تكون منفعته للموصى له، ورقبته لورثة الموصي؛ لأن لكل واحد منهما حقا فيما قام مقام الأصل، فلم يجز إبطاله.
وإن قتله عبد عمداً.. فمن يستوفي القصاص؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\418] :
أحدهما: يستوفيه مالك الرقبة. والثاني - وهو قول أبي حنيفة -: (أن الاستيفاء للموصى له) .

(8/275)


فإن قطع رجل طرفه.. وجب عليه الأرش، ولمن يكون؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لمالك الرقبة؛ لأنه بدلها.
والثاني: أن ما قابل من الأرش ما نقص من قيمة الرقبة يكون لمالك الرقبة، وما قابل منه ما نقص من المنفعة يكون للموصى له.
ومن أصحابنا من قال: إن كان المتلف مما ينقص منفعة العبد كاليد والرجل.. أخذ أرشه واشتري به عبد أو جزء من عبد تكون منفعته للموصى له، ورقبته لوارث الموصي. وإن كان المتلف مما لا ينقص المنفعة كالذكر ونحوه.. كان أرشه لمالك الرقبة وحده.
وإن جنى هذا العبد على غيره، فإن اتفقا على فديته.. فدياه، وكان باقيا ما كان عليه. وإن فداه أحدهما دون الآخر.. كان متطوعاً. وإن امتنعا من الفدية.. بيع عليهما.

[فرع وصى بمنفعة جارية]
وإن كان الموصى بمنفعته جارية، فأتت بولد من زواج أو زنا.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الولد للموصى له بالمنفعة، كما قلنا في كسبها.
والثاني: أنه يكون كأمه، منفعته للموصى له، ورقبته للوارث؛ لأنه كجزء منها.
ويجوز تزويجها، وفيمن يملك عقد النكاح عليها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن ذلك إلى الموصى له بالمنفعة؛ لأن مهرها له.
والثاني: أنه لمالك الرقبة؛ لأن ملك الرقبة له.
والثالث: لا يصح إلا باجتماعهما لأن لكل واحد منهما فيها حقا، فلم ينفرد أحدهما بالعقد عليها، كالجارية بين الشريكين.
وإن أراد أحدهما وطأها.. لم يكن له؛ لأن كل واحد منهما لا يملكها ملكا تاماً،

(8/276)


والوطء لا يجوز إلا في ملك تام، كالجارية بين الشريكين، هذه طريقة أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 407] : يجوز وطؤها لمالك الرقبة. والأول أصح، وعليه التفريع.
إذا ثبت هذا: فإن وطئها الموصى له بالمنفعة.. فلا حد عليه؛ لأن له فيها شبهة، ولا مهر عليه؛ لأن المهر له.
وإن أتت منه بولد.. فالولد حر للشبهة:
فإن قلنا: إن الولد الذي تأتي به من الزنا أو النكاح يكون مملوكا للموصى له.. لم يجب عليه هاهنا قيمته.
وإن قلنا: إن الولد الذي تأتي به من الزنا أو النكاح يكون كأمه.. أخذت منه قيمته، وماذا يصنع بها؟ فيه وجهان، كما لو قتلت الأم:
أحدهما: يكون الملك لمالك الرقبة.
والثاني: يشترى بها عبد تقوم مقامه منفعته للموصى له، ورقبته لورثة الموصي.
وإن وطئها وارث الموصي.. فلا حد عليه للشبهة، ويجب عليه المهر للموصى له. وإن أتت منه بولد.. كان حرا؛ لأن له فيها شبهة ملك.
وأما قيمة الولد، فإن قلنا: لو كان مملوكاً كان للموصى له.. لزم وارث الموصي دفع قيمته إلى الموصى له، وإن قلنا: يكون موقوفا كأمه.. فقد أتلف الوارث رقه.
فإن قلنا: لو قتل تكون قيمته لمالك الرقبة.. لم يجب عليه قيمته؛ لأنها لو وجبت عليه.. لكانت له.
وإن قلنا: يشترى بها ما يقوم مقامه.. أخذت منه القيمة، واشتري بها ولد تكون منفعته للموصى له، ورقبته لورثة الموصي.

(8/277)


[فرع بيع مالك الرقبة مع أنه قد بذل المنفعة لغيره]
] : إذا أراد مالك الرقبة بيع الرقبة.. فهل يصح بيعه لها؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يصح؛ لأنه بيع صادف ملكاً له، فهو كما لو لم يكن موصى بمنفعتها.
والثاني: لا يصح بيعه؛ لأنه بيع ما لا منفعة فيه، فهو كبيع الجعلان والخنافس.
والثالث: إن باعها من الموصى له بالمنفعة.. صح بيعه؛ لأنه يحصل له الرقبة والمنفعة، فتكون بيع ما فيه منفعة. وإن باعها من غيره.. لم يصح؛ لأنه لا ينتفع بالرقبة من غير منفعة.
فإن أعتقها مالك الرقبة.. صح عتقه؛ لأن العتق صادف ملكه، وللموصى له أن يستوفي منفعته؛ لأنه ملكها قبل العتق، فهو كما لو استأجر رجل عبداً ثم أعتقه مالكه.
ولا يرجع المعتق على الذي أعتقه بشيء، بخلاف العبد إذا أجره سيده ثم أعتقه قبل انقضاء الإجارة. فإنه يرجع عليه بأجرته بعد العتق في أضعف القولين.
والفرق بينهما: أن السيد هناك ملك عوض منفعته، وهاهنا: الوارث لم يملك عوض منفعته، فلذلك لم يرجع عليه بشيء.

[فرع طلب مضاربة المال بعد الموت والربح نصفين]
إذا دفع رجل إلى رجل مالاً، وقال: إذا مت.. فتصرف فيه بالبيع والشراء، وما حصل فيه من الربح فلك نصفه، فمات.. فلا يجوز له أن يتصرف فيه.
واختلف أصحابنا في علته:
فقال ابن الحداد: لأن المال قد انتقل إلى ملك وارث الموصي.
ومنهم من قال: هذه العلة غير صحيحة؛ لأنه لو أوصى لرجل بمنفعة داره أو عبده.. صح وإن كان قد انتقل إلى ملك وارثة، وإنما العلة: أنه لم يوص له بعين ولا

(8/278)


منفعة عين مع بقائها، فلم يصح، كما لو أوصى أن يقرض فلان كذا وكذا من ماله.
وقال القاضي أبو الطيب: إنما لم يصح لأنه عقد مضاربة على شرط مستقبل، فلم يصح، كما لو قال: قارضتك على هذا المال إذا قدم الحاج.

[فرع أوصى بعطاء لجماعة]
إذا قال: أعطوا زيداً عشرة من ثلثي، وعبد الله عشرة من ثلثي، وخالدا خمسة من ثلثي، وقدموا خالداًً على عبد الله، وكان ثلثه عشرين.. أعطي زيد ثمانية، وخالد خمسة، وعبد الله سبعة؛ لأن الوصية تزيد على الثلث بالخمس. فلو لم يقل: قدموا خالداً على عبد الله.. لوجب أن ينقص كل واحد منهم خمس ما وصى له به، فلما قال: قدموا خالداً على عبد الله.. اقتضى ذلك توفير حصة عبد الله على خالد، ويجعل نقصان حقه من حق عبد الله.
ولو قال: قدموا خالداً على زيد.. لأعطي زيد سبعة، وعبد الله ثمانية، وخالد خمسة.
مسائل من الدور في الهبة: لو أن مريضاً وهب لرجل عبداً يساوي مائة، فقبضه الموهوب له بإذنه، ثم إن الموهوب له مرض، فوهب ذلك العبد من الذي وهبه منه وأقبضه إياه، ولا مال لهما غيره، وماتا من مرضهما ذلك، ولم يجز ورثتهما، فإن قلنا: إن الاعتبار بالتركة حال الوصية.. فلا دور في هذه المسألة وأشباهها، بل تصح هبة الأول في ثلث العبد، ثم يرجع إليه من ذلك الثلث ثلثه- وهو: التسع-.
وإن قلنا بالمذهب، وأن الاعتبار بالتركة حال موت الموصي.. وقع الدور؛ لأن الموهوب لما وهب للواهب.. ازدادت تركته، فتصح هبته في أكثر من ثلث العبد، ثم

(8/279)


تصح هبة الثاني في ثلث ما صح له من العبد، فاحتيج إلى قطع الدور فنقول: صحت هبه الأول في شيء من العبد، فلما وهبه الموهوب من الواهب.. رجع إلى الواهب ثلث ذلك الشيء، فمات الواهب الأول وفي يد ورثته عبد يساوي مائة إلا ثلثي شيء تعدل شيئين، فاجبر المائة بثلثي الشيء الذي نقصت به المائة، ورد ذلك على الشيئين المعادلين لها، فتصير مائة تعدل شيئين وثلثي شيء، فأقسط الشيئين أثلاثاً، وضم إليه ثلثي الشيء فيصير ثمانية أجزاء، فالشيء الكامل ثلاثة أجزاء من ثمانية- وهو الذي صحت به هبة الأول- ثم يرجع إلى الأول من هبة الثاني جزء من الثلاثة، فيصير مع ورثته ستة أثمان العبد- وهو مثلا ما صحت الهبة منه فيه- ويبقى مع ورثة الثاني جزءان من ثمانية - وهو مثلا ما صحت الهبة منه فيه.
فلو أن الواهب الأول أعتق هذا العبد بعد أن اتهبه من الثاني.. فإن أبا العباس بن سريج قال: يدخل عتقه في تمام الثلث- وهو سهمان من أربعة وعشرين - فيكون لورثة الموهوب له الأول أربعة أسهم، ويعتق منه سهمان، ويبقى لورثة الواهب الأول ستة عشر سهما مثلا ما خرج منه بالهبة والعتق.
وقال ابن اللبان: هذا خطأ، بل لا يعتق منه شيء؛ لأنه بدأ بالهبة قبل العتق ولم يحتمل الثلث للهبة أكثر من ثلاثة أثمانه، فكيف يصح العتق بعده؟ ولأن هبة الأول قد صحت في تسعة أسهم من أربعة وعشرين، ثم يصح عتقه في سهمين، فيؤدي إلى أن تصح وصيته في أحد عشر من أربعة وعشرين، ويبقى مع ورثته ثلاثة عشر وذلك أقل من مثلي ما خرج منه بالوصية.. وذلك لا يجوز.

(8/280)


فإن لم يعتقه الأول ولكن خلف الواهب الثاني ستين درهماً.. فإنك تقول: تصح هبة الأول في شيء من العبد، وتصح هبة الثاني في ثلث ذلك الشيء وفي قدر ثلث الدراهم التي تركها، فيكون مع ورثة الأول مائة وعشرون درهماً إلا ثلثي شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين وثلثي شيء، الشيء الواحد ثلاثة أثمان مائة وعشرين- وهو خمسة وأربعون- وهو الذي صحت فيه هبة الأول- وهو ربع العبد وخمسه-فإذا انضم ذلك إلى تركة الواهب الثاني.. كانت تركته مائة وخمسة، فتصح هبته في قدر ثلث ذلك- وهو خمسة وثلاثون- وهو ثلث شيء وعشرون درهماً، فإذا ضممت ذلك إلى خمسة وخمسين من قيمة العبد بعد الهبة الأولى.. صار ذلك تسعين-وهو مثلا ما صحت فيه هبة الأول- ويبقى لورثة الواهب الثاني عشر العبد، وقيمته عشرة وستون درهما- وهو مثلا ما صحت فيه هبته-

[فرع وهب أخاه في مرض موته فمات قبله]
وإن وهب رجل مريض لأخيه مائة درهم، وأقبضه إياها، فمات الأخ الموهوب له أولاً، وخلف بنتاً وأخاه الواهب له، ثم مات الواهب من مرضه ذلك، ولا مال لهما غير هذه المائة.. فإنك تقول: صحت الهبة في شيء من المائة، فلما مات الموهوب له.. ورث الواهب نصف ذلك الشيء، فبقي في يد ورثته مائة إلا نصف شيء تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت المائة شيئين ونصف شيء، فالشيء خمسا المائة- وهو أربعون درهماً - وهو الذي صحت فيه الهبة، فلما مات الموهوب له.. ورث الواهب منه عشرين، فيصير مع ورثته ثمانون، وهو مثلا هبته.
فإن ترك الموهوب له مائة غير المائة الموهوبة.. فإنك تقول: صحت الهبة في شيء من المائة الموهوبة، ثم يرث الواهب نصف ذلك الشيء ونصف المائة التي تركها الموهوب له، فيبقى في يد ورثة الواهب مائة وخمسون إلا نصف شيء يعدل شيئين،

(8/281)


فإذا جبرت.. عدلت شيئين ونصف شيء، والشيء الكامل خمسا ذلك - وهو ستون درهماً - فتصح الهبة في ستين درهماً من المائة، ويبقى منها أربعون، فيصير مع الموهوب له مائة وستون، فيرث الواهب نصف ذلك - وهو ثمانون - مع الأربعين التي بقيت من المائة فيصير مع ورثته مائة وعشرون، وهو مثلا هبته.
وهكذا: الحكم فيمن وهب زوجته في مرض موته مائة، وماتت الزوجة قبله ولم تخلف ولداً، وورثها الزوج.
فإن ماتت الزوجة ولا مال لهما غير المائة التي وهبها الزوج، وعليها دين عشرة.. فحسابه أن نقول: تصح الهبة للزوجة في شيء من المائة، يخرج من ذلك الشيء عشرة دينها، ثم يرث الزوج نصف ما بقي بعد الدين، وهو نصف شيء إلا خمسة، فيحصل لورثة الزوج خمسة وتسعون درهما إلا نصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين ونصفاً، فالشيء خمسا خمسة وتسعين - وهو ثمانية وثلاثون- وهو الذي صحت فيه الهبة، فيخرج منه دين المرأة- عشرة - فيبقى ثمانية وعشرون، فيرث الزوج نصف ذلك- وهو أربعة عشر- وهو نصف شيء إلا خمسة دراهم، فإذا أضيفت الأربعة عشر إلى اثنين وستين - الذي بقي من المائة - صار ذلك ستة وسبعين، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة.
وإن كان الزوجان مريضين، ولكل واحد منهما مائة لا مال له غيرها، فوهب كل واحد منهما مائته لصاحبه وأقبضه، ثم ماتا من مرضهما ذلك، ولا ولد لواحد منهما:
فإن ماتت الزوجة أولا.. بطلت هبتها للزوج؛ لأنه وارثها فتصح الهبة من الزوج لها في شيء، ويرث الزوج نصفه ونصف المائة التي خلفتها، فيصح مع ورثة الزوج مائة وخمسون إلا نصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين ونصف شيء،

(8/282)


والشيء خمسا ذلك - وهو ستون درهماً- فيضم ذلك إلى مائة الزوجة، فيرث الزوج نصف ذلك - وهو ثمانون- مع الأربعين التي بقيت من مائة الزوج، فذلك مائة وعشرون، وهو مثلا هبته لها.
وإن مات الزوج أولاً.. بطلت هبته لها؛ لأنها وارثته، ويصح للزوج من هبتها شيء، ثم ترث الزوجة ربعه وربع المائة التي خلفها الزوج، فيجتمع لورثتها مائة وخمسة وعشرون درهماً إلا ثلاثة أرباع شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين وثلاثة أرباع شيء، فإذا قسطت الشيئين أرباعا مع ثلاثة أرباع شيء.. كان ذلك أحد عشر جزءاً، الشيء الكامل: أربعة أجزاء من أحد عشر جزءاً من مائة وخمسة وعشرين، وذلك خمسة أجزاء من أحد عشر جزءا ًمن مائة الزوجة فتضم هذه الأجزاء إلى مائة الزوج -وهي أحد عشر جزءا- فيكون له ستة عشر جزءاً، ترث الزوجة منه أربعة أجزاء، فتضمه إلى ستة أجزاء بقيت من مائة الزوجة.. فذلك عشرة أجزاء، وهو مثلا ما صحت فيه هبتها:
فإن غرقا ولم يعلم أيهما مات أولاً.. لم يرث أحدهما صاحبه، وصحت الوصية لكل واحد منهما من صاحبه، فنقول:
يكون للمرأة بهبة الزوج شيء تضمه إلى المائة التي لها، فيجوز للزوج من ذلك وصية فيبقى لورثتها مائة درهم وشيء إلا وصية تعدل وصيتين، فإذا جبرت.. صارت المائة والشيء يعدلان ثلاث وصايا، الوصية الواحدة ثلاثة وثلاثون درهما وثلث درهم وثلث شيء، فإذا ضممت ذلك إلى تركة الزوج.. صارت تركته مائة وثلاثة وثلاثين درهما وثلث درهم إلا ثلثي شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين وثلثي شيء، الشيء الكامل ثلاثة أثمان مائة وثلاثة وثلاثين وثلث درهم وهو خمسون

(8/283)


درهماً. وهو الجائز بهبة الزوج فيخرج منه للزوج وصية وقد كانت قيمة الوصية ثلث شيء وثلاثة وثلاثين درهماً وثلث درهم، فإذا ضممت ذلك.. كان خمسين درهماً، فيصح مع ورثة الزوج مائة مثلا ما صحت فيه هبته، وتصح مع ورثة الزوجة مائة مثلا ما صحت هبتها فيه. وإنما يفيد ذلك في قدر انتقال الملك لك واحد منهما من مائة صاحبه.

[مسألة وهب جارية فأتت بزيادة من مهر أو كسب أو ولد]
إذا وهب في مرض موته لغيره جارية قيمتها مائة، لا مال له غيرها، وأقبضه إياها، فوطئها رجل بشبهة قبل موت سيدها، ومهر مثلها خمسون درهماً، أو كسبت هذه الجارية بعد الهبة والقبض وقبل موت سيدها خمسين درهماً:
فإن قلنا: تصح هبة المريض فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة تنفيذ لما فعله مورثهم.. فإن جميع المهر والكسب للموهوب له؛ لأنه حدث في ملكه، وإنما يرجع إلى الورثة ثلثاها إذا لم يجيزوا. ولا دور في هذا.
وإن قلنا: لا تصح هبة المريض فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة لفعله ابتداء عطية منهم.. فقد زادت تركة الميت هاهنا قبل موته:
فإن قلنا: الاعتبار بالتركة حال الوصية.. فلا دور هاهنا أيضاً، فتصح الهبة في ثلث الجارية، وتبطل في ثلثيها، فيكون لورثة الواهب ثلثا الجارية، وثلثا المهر والكسب، وللموهوب له ثلثها، وثلث مهرها، وثلث كسبها.
وإن قلنا بالمذهب: إن الاعتبار بالتركة عند موت الموصي وعليه التفريع.. كان هاهنا دور، فنقول: تصح الهبة في شيء من الجارية، فللموهوب له من المهر والكسب نصف شيء، وللواهب خمسون إلا نصف شيء، فيكون مع ورثته مائة وخمسون درهماً إلا شيئاً ونصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء ونصف شيء، الشيء الكامل سبعاً مائة وخمسين درهماً , وهو ثلاثة أسباع الجارية , فتصح الهبة في ثلاثة أسباعها , وتبطل في أربعة أسباعها , فيكون للواهب أربعة أسباع مهرها وهو مهر ما بطلت فيه الهبة - وذلك قدر سبعي رقبتها - فيجتمع لورثة الواهب

(8/284)


أربعة أسباع رقبتها ومثل سبعي رقبتها من المهر وذلك مثلاً ما صحت فيه الهبة ويكون للموهوب له على الواطئ ثلاثة أسباع مهرها بقدر ما صحت فيه الهبة يأخذه بغير وصية.
فإن حبلت من هذا الوطء وولدت قبل موت سيدها ولداً قيمته خمسون درهماً يوم ولد ... ازدادت تركة الموصى به أيضاً كالمهر، وحسابه: أن الهبة تصح في شيء من الجارية، ويلزم الواطئ المهر خمسون، للموهوب له منه نصف شيء بغير وصية، ويلزم الواطئ قيمة الولد خمسون، للموهوب له منها نصف شيء أيضاً بغير وصية، والباقي من المهر والقيمة للواهب.. فيجتمع لورثة الواهب مائتا درهم إلا شيئين، تعدل شيئين مثلي الوصية، فإذا جبرت.. عدلت المائتان أربعة أشياء الشيء الواحد ربع ذلك - وهو خمسون - وهو نصف الجارية، وتصح الهبة في نصف الجارية وقيمته خمسون، وتبطل في نصفها وقيمته خمسون، فيلزم الواهب نصف المهر خمسة وعشرون، ونصف قيمة الولد خمسة وعشرون، فذلك كله مائة مثلاً ما صحت فيه هبته، وللموهوب له نصف المهر وقيمة نصف الولد بغير وصية.
فإن ولدت الجارية من هذا الوطء بعد موت سيدها.. فهل يكون الولد زائداً في التركة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن اللبان.
أحدهما: لا يكون زائداً في التركة؛ لأن الولد حدث بعد موته فيكون حادثاً في ملك الورثة والموهوب له فيكون الحساب كما لو لم يكن هناك وارث.
والثاني: أنه يكون زائداً في التركة؛ لأن الولد قد كان موجوداً في ملك السيد، وإنما تأخر التقويم إلى الوضع، فيكون الحساب كما لو ولدت قبل موت سيدها.

(8/285)


[فرع وهب جارية عند موته لا مال له غيرها ثم وطئها]
وإن وهب رجل في مرضه المخوف لغيره جارية قيمتها مائة، لا مال له غيرها، وأقبضه إياها، ثم وطئها الواهب، ثم مات من مرضه، ومهر مثلها خمسون، ولم يجز ورثته الهبة:
فإن قلنا: تصح هبته فيما زاد على الثلث، وإجازة الورثة تنفيذ لما فعله.. لزم الواهب جميع مهرها للموهوب له، فإن طالب بالمهر.. بيع له نصفها بالمهر، وكان له ثلث ما بقي، وهو سدسها بالهبة. وإن اختار الموهوب له أن يملك نصفها بالمهر.. كان أحق به من الأجنبي، فيكون له بمهره وهبته ثلثاها.
وإن قلنا: لا تصح هبة المريض فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة لذلك ابتداء هبة منهم.. وجب على الواهب مهر ما صحت فيه الهبة من رأس المال، فإن أبرأه الموهوب له مما وجب له من المهر.. صحت له الهبة في ثلث الجارية، وبطلت في ثلثيها. وإن طالب بما وجب له من المهر.. فحسابه أن يقول:
تصح الهبة في شيء من الجارية، وعلى الواهب مهر ما صحت فيه الهبة، وهو نصف شيء بغير وصية، فيبقى في يد ورثة الواهب جارية قيمتها مائة إلا شيئاً ونصف شيء تعدل مثلي الوصية- وهو شيئان - فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء ونصف شيء، والشيء الكامل سهمان من سبعة، فتصح الهبة في سبعي الجارية، وتبطل في خمسة أسباعها، فيلزم الواهب سبعا المهر، وهو قدر سبع رقبتها يباع في المهر، ويبقى في يد ورثة الواهب أربعة أسباع الجارية، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة. هذا هو المذهب.
وحكى ابن سريج في المهر وجهين آخرين:
أحدهما: أن ما لزم الواهب من المهر يكون من الثلث.
فعلى هذا: تصح الهبة في تسعي الجارية، ويلزمه تسعا مهرها، وهو مثل تسع رقبتها، ويبقى في يد ورثته ستة أتساعها.

(8/286)


والثاني: أن المهر هدر. وقد مضى ذكرهما.
وإن ولدت من وطء السيد ولدا قيمته خمسون درهماً.
فإن قلنا: تصح هبة المريض فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة تنفيذ لما فعله الميت.. لزم الواهب جميع المهر وجميع قيمة الولد، وبيعت الجارية بهما للموهوب له.
وإن قلنا: لا تصح هبته فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة ابتداء عطية منهم.. بطلت الهبة، وعتقت بالإحبال من رأس المال؛ لأنه لا ثلث له فتصح الوصية.
فإن ترك الواهب مائتي درهم: صحت الهبة في شيء من الجارية، وعليه نصف شيء من مهرها، وعليه نصف شيء من قيمة ولدها، ولا يقوم عليه ما صحت فيه الهبة من الجارية؛ لأنه كالمعسر في هذه الحال؛ لأن الهبة قد استغرقت الثلث، فصار كمن أعتق بعد أن وهب ثلث ماله، فلا يصح عتقه، ولا يعتق باقي الأمة بالإحبال من رأس المال، ويبقى في يد الورثة مائتاً درهم إلا شيئاً تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء، فإذا قسمت المائتان على الأشياء الثلاثة.. أصاب كل شيء ثلثاً مائة - وهو ثلثا الجارية - وهو ما صحت فيه الهبة، ويلزم الواهب ثلثا مهرها وثلثاً قيمة ولدها من المائتين - وهو ثلثاً مائة - فيبقى مائة وثلاثة وثلاثون وثلث درهم، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة.
فإن لم يطأها الواهب ولكن وطئها الموهوب له بعد أن قبضها وقبل موت الواهب.. وجب عليه مهر ما بطلت فيه الهبة، وازدادت التركة والهبة، وحسابه: تصح الهبة في شيء من الجارية، ويجب على الموهوب له من المهر خمسون درهما إلا نصف شيء، فيحصل للورثة مائة وخمسون إلا شيئا ونصف شيء تعدل شيئين، فإذا

(8/287)


جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء ونصف شيء ـ والشيء سبعا ذلك ـ وهو ثلاثة أسباع الجارية، فتصح الهبة في ثلاثة أسباعها، وتبطل في أربعة أسباعها، ويلزم الموهوب له أربعة أسباع مهرها ـ وهو مثل سبعي رقبتها ـ فإذا ضممت ذلك إلى ما بطلت فيه الهبة.. كان ستة أسباعها، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة.
وإن حبلت من هذا الوطء، وولدت منه قبل موت سيدها ولداً قيمته خمسون درهماً.. ففيه قولان:
أحدهما: تصير أم ولد له، ولا يلزم الموهوب له من قيمة الولد شيء؛ لأنها تضعه في ملكه.
فعلى هذا: يلزمه قيمة ما بطلت فيه الهبة ـ وهو أربعة أسباعها ـ ويلزمه أربعة أسباع مهرها.
والثاني: يلزمه من قيمة الولد قدر ما بطلت فيه الهبة؛ لأنها علقت به وهو لا يملك جميعها.
فعلى هذا: تزداد التركة.. فتصح الهبة في شيء، ويلزم الموهوب له من المهر خمسون إلا نصف شيء، ومن قيمة الولد خمسون إلا نصف شيء، فيبقى في يد الورثة مائتان إلا شيئين تعدل شيئين، فإذا جبرتا.. عدلتا أربعة أشياء، الشيء ربع المائتين، وذلك نصف الجارية، فتصح الهبة في نصفها، ويلزمه قيمة نصفها ونصف مهرها ونصف قيمة ولدها، وذلك كله مثلا ما صحت فيه الهبة.
وعلى القول الذي يقول: تصح هبة المريض فيما زاد على الثلث، وإجازة الورثة إنما هي تنفيذ لما فعله الميت.. لا يلزمه المهر ولا قيمة الولد، وتصح الهبة في ثلثها، وعليه ثلثا قيمتها للورثة، وهو ما لهم أن يردوا الهبة فيه.
وإن ولدت بعد موت سيدها:
فإن قلنا: لا يلزمه شيء من قيمته.. فلا كلام.

(8/288)


وإن قلنا: يلزمه من قيمته بقدر ما بطلت فيه الهبة.. فهل تزداد التركة به هاهنا؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
وإن وطئها الواهب والموهوب له في طهر واحد، وأتت بولد.. عرض على القافة، فإن ألحقوه بالواهب ولا مال له غير الجارية.. جازت الهبة في شيء منها، وعلى الواهب مهر ذلك الشيء ـ وهو نصف شيء ـ وعليه من قيمة الولد بقدر ما صحت فيه الهبة من الجارية ـ وهو نصف شيء ـ ويعتق باقي الأمة بالإحبال، ولا يقوم عليه ما صحت فيه الهبة؛ لأنه كالمعسر به، وعلى الموهوب له مهر ما بطلت فيه الهبة ـ وهو خمسون درهماً إلا نصف شيء ـ فيسقط من ذلك عنه ما وجب له على الواهب من المهر وقيمة الولد ـ وذلك شيء ـ فيبقى عليه خمسون درهماً إلا شيئاً ونصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرته.. عدل ثلاثة أشياء ونصفاً، فإذا قسمت الخمسين على ذلك؛ لأنه لا مال للواهب إلا ذلك.. كان الشيء الكامل سبعي الخمسين، وذلك الذي صحت فيه الهبة ـ وهو سبع رقبة الجارية ـ ويعتق باقيها بالإحبال، فيلزم الموهوب له ستة أسباع مهرها ـ وهو اثنان وأربعون درهماً وستة أسباع درهم ـ فيسقط من ذلك ما وجب له على الواهب، وهو سبع مهرها وسبع قيمة الولد ـ وهو أربعة عشر درهماً وسبعا درهم ـ فيبقى على الموهوب له ثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة من رقبتها، وسواء وطئها الواهب أولاً أو الموهوب له. هذا إذا قلنا: إن هبته لا تصح فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة ابتداء عطية.
وأما إذا قلنا: تصح الهبة فيما زاد على الثلث وإجازة الورثة تنفيذ لما فعله الموصي.. فلا مهر على الموهوب له؛ لأنه وطئها وهي في ملكه.
قال ابن اللبان: وعلى الواهب جميع مهرها للموهوب له وجميع قيمة ولدها، فتفسخ الهبة في الجارية وتباع ويسلم إلى الموهوب له مهرها وقيمة ولدها مائة.
وإن ألحقت القافة الولد بالموهوب له:
فإن قلنا: لا تصح هبة المريض فيما زاد على الثلث، فإن كان وطء الواهب لها قبل وطء الموهوب له.. فحسابه: أن تصح الهبة في شيء من الجارية، وتبطل في

(8/289)


باقيها، فيلزم الواهب مهر ذلك الشيء ـ وهو نصف شيء ـ وعلى الموهوب له قيمة ما بطلت فيه الهبة من الجارية ـ وهو مائة درهم إلا شيئاً ـ وعليه مهر ما بطلت فيه الهبة ـ وهو خمسون درهماً إلا نصف شيء ـ وقيمة الولد ـ وهو خمسون درهماً إلا نصف شيء ـ فجميع ما يجب عليه مائتان إلا شيئين، فيسقط عنه من ذلك ما وجب له على الواهب ـ وهو نصف شيء ـ فيبقى عليه مائتان إلا شيئين ونصفاً تعدل شيئين، فإذا جبرتهما.. عدلتا أربعة أشياء ونصف شيء، الشيء تسعا المائتين ـ وهو أربعة أتساع الجارية، وهو الذي صحت فيه الهبة ـ وقيمته أربعة وأربعون درهماً وأربعة أتساع درهم، ويلزم الموهوب له قيمة خمسة أتساع الجارية وخمسة أتساع مهرها وخمسة أتساع قيمة ولدها؛ وذلك مائة درهم وأحد عشر درهماً وتسع درهم. فإذا سقط عنه ما وجب له على الواهب ـ وهو أربعة أتساع مهرها ـ ومبلغه اثنان وعشرون درهماً وتسعا درهم.. بقي عليه ثمانية وثمانون درهما وثمانية أتساع درهم، وذلك مثلا ما صحت فيه الهبة.
وإذا قلنا: لا يلزم الموهوب له قيمة الولد.. فإنه يؤدي مائة وخمسين درهماً إلاً شيئاً ونصفا، ويسقط عنه ما على الواهب له ـ وهو نصف شيء ـ فيبقى عليه مائة وخمسون درهماً إلا شيئين تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت أربعة أشياء، الشيء ربع مائة وخمسين وهو ثلاثة أثمان الجارية، فتصح فيه الهبة، وقيمته سبعة وثلاثون درهماً ونصف درهم، ويلزم الموهوب له قيمة خمسة أثمانها وخمسة أثمان مهرها، ويسقط عنه ثلاثة أثمان مهرها الذي على الواهب، فيبقى عليه خمسة وسبعون درهماً، وهو مثلا الهبة.
وأما إذا قلنا: إن المريض تصح هبته فيما زاد على ثلث التركة وإجازة الوارث تنفيذ لما فعله الميت.. فلا مهر على الموهوب له، ولا قيمة ولد؛ لأنها ملكه يوم الوطء، وعلى الواهب جميع مهرها للموهوب له ـ وهو خمسون درهماً ـ وذلك نصف قيمة الجارية، وتصح الهبة في ثلث باقيها ـ وهو سدسها ـ وعلى الموهوب له قيمة خمسة أسداسها، فيقاص بقيمة نصفها من المهر له ويبقى عليه ثلاثة وثلاثون درهماً وثلث

(8/290)


درهم مثلا الهبة، وسواء وطئها الواهب أولاً أو الموهوب له على هذا القول.
وإن وطئها الواهب بعد وطء الموهوب له، وقلنا: لا تصح هبة المريض فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة ابتداء عطية منهم، فإن قلنا: لا تعتق حصة الشريك إلا بعد أداء القيمة.. كان الجواب فيها كما لو وطئها الواهب قبل الموهوب.
وإن قلنا: تعتق حصة الشريك قبل أداء القيمة.. كان جميعها أم ولد للموهوب له، ويكون على الواهب جميع مهرها وهو خمسون درهماً؛ لأنه وطئها بعد أن صارت أم ولد للموهوب له، فيلزم الموهوب له قيمة ما بطلت فيه الهبة ـ وهو مائة إلا شيئاً ـ ومهر ذلك ـ وهو خمسون درهما إلا نصف شيء ـ يسقط منها ما وجب له على الواهب ـ وهو خمسون درهماً ـ يبقى على الموهوب له مائة درهم إلا شيئاً ونصف شيء يعدل شيئين فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء ونصف شيء، الشيء سبعا المائة، فتصح الهبة في سبعي الجارية، ويلزم الموهوب له قيمة خمسة أسباعها وخمسة أسباع مهرها، فإذا سقط منه خمسون درهماً.. بقي عليه سبعة وخمسون درهماً وسبع درهم، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة.

[مسألة وهب جارية في مرض موته]
ولو وهب زيد في مرض موته جارية له عمراً، وأقبضه إياها، فوطئها عمرو، ثم وهبها عمرو في مرض موته زيداً، وأقبضه إياها، وماتا من مرضهما، وقيمة الجارية مائة، ومهر مثلها خمسون، ولا مال لهما غير الجارية، وقلنا: لا تصح هبة المريض فيما زاد على الثلث من تركته، واعتبار التركة يوم الموت.. فحسابه:
تجوز الهبة لعمرو في شيء من الجارية، وتبطل في جارية إلا شيئاً، فيؤدي عمرو من الشيء مهر ما بطلت فيه الهبة، وهو خمسون درهماً إلا نصف شيء.
وكيفية ذلك: أن تجبر الخمسين الدرهم بنصف الشيء الذي نقص منها، ويرتد ذلك على الشيء المستثنى منه، ثم نستثني من الشيء ومما زيد عليه خمسين فنقول

(8/291)


بقي مع عمرو شيء ونصف شيء إلا خمسين درهماً، فتصح هبته لزيد في ثلث ذلك ـ وهو نصف شيء إلا ستة عشر درهماً وثلثي درهم ـ ويبقى مع ورثة عمرو شيء إلا ثلاثة وثلاثين درهماً وثلث درهم، ويكون مع ورثة زيد مائة درهم وثلاثة وثلاثون درهماً وثلث درهم إلا شيئا يعدل شيئين، ويكون مع ورثة زيد مائة درهم وثلاثة وثلاثون درهماً وثلث درهم إلا شيئاً يعدل شيئين. فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء، الشيء الواحد ثلث ذلك ـ وهو أربعة أتساع الجارية ـ فتصح الهبة في أربعة أتساع الجارية، وتبطل في خمسة أتساعها، فيلزم عمراً خمسة أتساع مهرها، وهو قدر تسعي رقبتها ونصف تسعها. فإذا خرج ذلك من أربعة أتساعها.. بقي معه تسعها ونصف تسعها، فتصح هبته لزيد في نصف تسعها ـ وهو نصف شيء إلا ستة عشر درهماً وثلثي درهم ـ فيجتمع لزيد ثمانية أتساعها، وهو مثلا ما صحت فيه هبته لعمرو.
فإن وهبها زيد لعمرو وأقبضه إياها، ثم وطئها زيد، ثم وهبها عمرو من زيد.. صحت هبة زيد لعمرو في شيء من الجارية، فلما وطئها زيد.. وجب عليه مهر ذلك الشيء ـ وهو نصف شيء ـ فيجتمع لعمرو شيء ونصف شيء، فتصح هبته لزيد في ثلث ما بيده ـ وهو نصف شيء ـ فيكون مع زيد جارية قيمتها مائة إلا شيئاً يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء، الشيء ثلثها، فتصح هبة زيد لعمرو في ثلث الجارية، ويجب على زيد لعمرو ثلث مهرها وهو مثل سدسها، فلما وهبها عمرو من زيد ... صحت هبته في سدسها، فاجتمع لورثة زيد ثلثا الجارية ـ وهو مثلا هبته لعمرو ـ وبقي لورثة عمرو ثلث الجارية ـ مثلا هبته لزيد ـ.
وإن وطئها زيد بعد أن وهبها منه عمرو وأقبضه إياها.. فحسابه أن نقول: تصح هبة زيد لعمرو في شيء من الجارية، فلما وهبها عمرو من زيد.. صحت هبته له وصية، وبقي مع عمرو شيء إلا وصية، فلما وطئها زيد.. وجب عليه مهر ما بقي في يد عمرو، وقدر ذلك المهر نصف شيء إلا نصف وصية، فيجتمع لعمرو شيء ونصف شيء إلا وصية ونصف وصية تعدل وصيتين. فإذا جبرت.. صار شيء ونصف شيء يعدل ثلاث وصايا ونصف وصية، الوصية سبعا ذلك، وهي ثلاثة أسباع شيء، فتصح

(8/292)


هبة عمرو لزيد في ثلاثة أسباع شيء، وتبطل في أربعة أسباع شيء، ويجب على زيد مهر أربعة أسباع شيء وذلك قدر سبعي شيء، فيجتمع لورثة عمرو ستة أسباع شيء ـ وهو مثلا ما صحت فيه هبته ـ ويجتمع لورثة زيد جارية قيمتها مائة درهم إلا ستة أسباع شيء تعدل شيئين. فإذا جبرت.. عدلت شيئين وستة أسباع شيء فإذا قسطت الشيئين أسباعاً وضممت إليها الستة الأسباع.. كان ذلك عشرين، فالشيء الكامل سبعة أسهم من عشرين، وهو الجائز بهبة زيد لعمرو، ثم يرجع إلى زيد بهبة عمرو ثلاثة أجزاء من هذه السبعة، فيبقى مع عمرو أربعة أجزاء، ثم يغرم له زيد بالمهر جزأين، فيكون معه ستة أجزاء ـ وهو مثلا هبته ـ ويبقى مع زيد أربعة عشر جزءاً، وذلك مثلا هبته لعمرو.
وإن وهبها زيد لعمرو وأقبضه إياها، ثم وهبها عمرو لزيد وأقبضه إياها، ثم وطئها عمرو.. فإنه يصح لعمرو بهبة زيد شيء من الجارية، وتصح لزيد من عمرو من الشيء وصية، فيبقى مع عمرو شيء إلا وصية، ومع زيد مائة درهم ووصية إلا شيئاً، فلما وطئها عمرو.. وجب عليه مهر ما في ملك زيد فيها، وقدر ما عليه من المهر نصف وصية وخمسون درهماً إلا نصف شيء، يخرج ذلك مما في يده فيبقى معه شيء ونصف شيء إلا وصية ونصف وصية، وإلا خمسين درهماً تعدل وصيتين. فإذا جبرت.. صار ذلك شيئاً ونصف شيء إلا خمسين درهماً تعدل ثلاث وصايا ونصف وصية، الوصية سبعا ذلك، وهو ثلاثة أسباع شيء إلا أربعة عشر درهماً وسبعي درهم. فإذا جمعت ما بيد زيد من الذي لم تصح فيه الهبة منه ومن هبة عمرو له ومن المهر على عمرو.. كان معه مائة وخمسون درهماً ووصية ونصف وصية إلا شيئاًَ ونصف شيء، فاجعل مكان الوصية ونصف الوصية قيمتها ـ وذلك أربعة أسباع شيء ونصف سبع شيء إلا أحداً وعشرين درهماً وثلاثة أسباع درهم ـ فيصير معه مائة درهم وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم إلا ستة أسباع شيء تعدل شيئين. فإذا جبرت..

(8/293)


عدلت شيئين وستة أسباع شيء فابسط الشيئين أسباعاً، وضم إليها الستة الأسباع، فتصير عشرين سهماً. والدراهم الزائدة على المائة، سبعا المائة فابسط المائة أسباعاً، وضم إليها سبعي المائة، فذلك تسعة أسهم، فالشيء تسعة أجزاء من عشرين جزءاً من الجارية، وهو ربعها وخمسها، وهو الجائز بهبة زيد لعمرو: فلما وهب عمرو لزيد.. صح له من هبته وصية، والوصية ثلاثة أسباع شيء إلا أربعة عشر درهماً وسبعي درهم، وذلك سهم من التسعة، فيبقى مع عمرو ثمانية أجزاء ومع زيد اثنا عشر جزءاً، فلما وطئها عمرو.. وجب عليه لزيد بالمهر نصف ما بيد زيد من الجارية؛ لأن المهر نصف قيمتها، وذلك ستة أجزاء.. فيصير مع زيد ثمانية عشر جزءاً ـ وهو مثلا هبته لعمرو ـ ويبقى مع ورثة عمرو جزآن ـ وهو مثلا هبته لزيد ـ.
فأما إذا وهبها زيد لعمرو وأقبضه إياها، ثم وطئها عمرو، ثم وهبها عمرو لزيد وأقبضه إياها، ثم وطئها زيد، وقيمتها ثلاثمائة ومهر مثلها مائة ولا مال لهما غيرها.. فحسابه أن نقول: تصح هبة زيد لعمرو في شيء من الجارية، فلما وطئها عمرو.. وجب عليه لزيد مهر ما لم تصح فيه الهبة وقدر ذلك المهر مائة درهم إلا ثلث شيء، ثم لما وهبها عمرو من زيد.. صح من هبته له وصية، وبقي في يد عمرو شيء إلا وصية، فلما وطئها زيد.. وجب عليه مهر ما بيد عمرو منها، وقدر المهر على زيد ثلث شيء إلا ثلث الوصية. فإذا جمعت ما بيد زيد مما لم تصح فيه هبته، والمهر الذي على عمرو، وهبة عمرو له.. كان جميع ذلك وصية وأربعمائة درهم إلا شيئاًَ وثلث شيء، فأسقط من ذلك ما وجب عليه لعمرو بالمهر ـ وذلك ثلث شيء إلا ثلث وصية ـ فأكمل ثلث الشيء بثلث الوصية الناقصة، ثم رد ثلث الوصية إلى الوصية مع الدراهم الأربعمائة، ثم استثن ثلث الشيء مما في يد زيد، فيبقى معه وصية وثلث وصية وأربعمائة درهم إلا شيئاً وثلثي شيء، ثم اجمع ما بيد عمرو من هبة زيد له ومما غرم له زيد بالمهر، وذلك شيء وثلث شيء، إلا ثلث وصية وقد غرم من ذلك مائة درهم إلا ثلث شيء ووهب وصية لزيد، فإذا أردت إخراج ذلك مما بيده.. أكملت المائة بثلث الشيء

(8/294)


الناقص منها، وزدت ذلك الثلث على الشيء وثلث الشيء إلا ثلث وصية، ثم استثن من ذلك مائة درهم ووصية، فنقول: بقي مع عمرو شيء وثلثا شيء إلا وصية وثلث وصية وإلا مائة درهم ـ وهذا الذي بيد عمرو ـ يعدل وصيتين، فاجبر شيئاًَ وثلثي شيء إلا مائة درهم وإلا وصية وثلث وصية بالوصية وثلث الوصية الناقص، ورد ذلك على الوصيتين، فتصير شيئاً وثلثي شيء إلا مائة درهم تعدل ثلاث وصايا وثلث وصية، فاضرب الثلاث الوصايا في ثلاثة، وضم إليها ثلث الوصية، فتصير عشرة، فاقسم شيئاً وثلثي شيء إلا مائة درهم على عشرة، واجمع ما يخص ثلاثة أجزاء ـ لأنها أجزاء الوصية ـ فيخص الوصية الكاملة ثلاثة أعشار شيء وثلثي شيء إلا ثلاثين درهماً ـ وذلك نصف شيء إلا ثلاثين درهماً ـ فنعلم أن هذه قيمة الوصية، ثم ارجع إلى ما بيد زيد، وهو أربعمائة درهم ووصية وثلث وصية إلا شيئاً وثلثي شيء، فانظر قيمة وصية وثلث وصية.. تجد ذلك ثلثي شيء إلا أربعين درهماً، فاجعلها مكان الوصية وثلث الوصية، فيحصل في يد زيد ثلاثمائة درهم وستون درهماً إلا شيئاً يعدل شيئين، فإذا جبرت.. صارت ثلاثمائة وستين تعدل ثلاثة أشياء، الشيء ثلث ذلك ـ وهو مائة وعشرون درهماً ـ فهذا الذي صحت فيه هبة زيد لعمرو، وذلك خمسا الجارية، وتبطل الهبة في ثلاثة أخماسها، فيجب له على عمرو ثلاثة أخماس مهرها ـ وهو ستون درهماً ـ وذلك مائة درهم إلا ثلث شيء، ويخرج منه وصية، وذلك نصف شيء إلا ثلاثين درهما ـ وهو ثلاثون درهماً ـ فبقي معه ثلاثون درهماً، ثم يرجع إلى عمرو ما وجب له على زيد من المهر، وهو ثلاثون درهماً ـ ثلاثة أعشار المهر ـ وذلك ثلث شيء إلا ثلث وصية، فيجتمع لعمرو ستون درهماً مثلا الوصية التي خرجت منه، ويجتمع لورثة زيد مائتان وأربعون مثلا هبته لعمرو.
والله أعلم

(8/295)


باب الرجوع في الوصية يجوز للموصي أن يرجع فيما أوصى به؛ لأن الوصية لا تلزم إلا بعد موته، فجاز له الرجوع فيها، كما لو وهب لغيره شيئاً، ثم رجع الواهب قبل قبول الموهوب له.
و (الرجوع) : هو أن يقول: رجعت في الوصية لفلان، أو أبطلتها أو رددتها أو فسختها أو ما أشبه ذلك: فإن قال: حرام على فلان ما أوصيت له به.. كان رجوعاً؛ لأنه لا يجوز أن يكون له وهو حرام عليه.
وإن قال: هو لورثتي.. كان رجوعاً؛ لأن ذلك ينافي الوصية.
وإن قال: هو تركتي.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه رجوع؛ لأن التركة للورثة.
والثاني: ليس برجوع؛ لأن الموصى به من التركة.

[مسألة أوصى لرجل بثلث ونحوه ثم لآخر مثله]
وإن أوصى لرجل بثلث ماله، أو بعين من ماله، ثم أوصى بثلث ماله، أو بتلك العين لرجل آخر ولم يتعرض للوصية الأولى.. فليس برجوع في الأولى، فإن أجاز الورثة وصيته في الثلثين.. استحق كل واحد من الموصى لهما ثلث ماله. وإن لم يجيزوا وصيته في الثلثين، أو كانت وصيته في العين.. قسم ذلك بينهما إذا احتمل الثلث العين الموصى بها. وبه قال ربيعة، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال الحسن، وعطاء، وطاووس، وداود: (يكون هذا رجوعاً في الوصية الأولى) .

(8/296)


ودليلنا: أن كل واحد من الموصى لهما قد ساوى صاحبه وقت الوجوب، فقسم بينهما، كما لو أوصى لهما بثلث ماله أو بعين من ماله في حالة واحدة.
وإن أوصى لأحدهما بثلث ماله، ثم أوصى لآخر بثلث ماله، فرد أحدهما وصيته.. توفر جميع الثلث على الذي لم يرد؛ لأنه قد أوصى له بثلث ماله، وليس هاهنا من يزاحمه فهو كما لو لم يوص إلا له.

[فرع وصى لرجل بشيء ثم قال هو لآخر]
وإن وصى لرجل بشيء، ثم قال: ما أوصيت به لفلان فقد أوصيت به لفلان.. فهو رجوع عن وصيته الأولى؛ لأنه قد نقل الوصية من الأول إلى الثاني، وصرح بذلك.
وحكى الشيخ أبو إسحاق وجها آخر: أنه يكون بينهما، والأول أصح.

[مسألة أوصى بعبد ثم باعه]
وإن وصى لرجل بعبد، ثم باعه، أو وهبه وأقبضه، أو أعتقه، أو كاتبه، أو أوصى للعبد بشيء من ذلك.. كان رجوعاً في الوصية الأولى؛ لأن هذه الأشياء تنافي مقتضى الوصية؛ لأن الوصية تمليك بعد الوفاة، فينبغي أن يكون الموصى به على ملكه حتى يقع تملكه بعده.
وإن عرضه للبيع، أو وهبه لآخر فلم يقبل، أو رهنه.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك رجوع في الوصية؛ لأنه عرضة لزوال الملك.
والثاني: ليس برجوع؛ لأن ملكه لم يزل عنه، والأول أصح.
وإن وصى بثلث ماله، ثم باع ماله.. لم يكن رجوعاً في الوصية؛ لأن ماله معتبر عند الموت.

(8/297)


[فرع أوصى بعبد ثم دبره]
] : وإن أوصى لرجل بعبد، ثم دبره، فإن قلنا: إن التدبير تعليق عتق بصفة.. كان رجوعاً في الوصية؛ لأنه عرضة لزوال الملك.
وإن قلنا: إن التدبير وصية، فإن قلنا: العتق يقدم على سائر الوصايا.. كان ذلك رجوعاً في الوصية. وإن قلنا: لا يقدم العتق.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: أنه ليس برجوع في الوصية.. فيكون نصفه موصى به، ونصفه مدبراً، كما لو أوصى به لرجل ثم أوصى به لآخر.
والثاني ـ ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه رجوع؛ لأن التدبير أقوى؛ لأنه يتنجز من غير قبول، والوصية لا تتم إلا بالقبول.

[مسألة زيادة الموصى به]
وإن أجر الموصى به، أو علمه صنعة أو زوجه، أو ختنه، أو استخدمه، أو أنفق عليه.. لم يكن رجوعاً في الوصية؛ لأن ذلك لا ينافيها.
وإن وصى لرجل بجارية فوطئها الموصي: فإن عزل عنها.. لم يكن رجوعاً؛ لأن ذلك استيفاء منفعة، فهو كالاستخدام. وإن لم يعزل عنها.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه ليس برجوع، كما لو عزل عنها.
والثاني: وهو قول ابن الحداد، والمسعودي [في " الإبانة " ق\ 438] ، والقاضي أبي الطيب ـ: أنه رجوع، كما قال الشافعي: (إذا حلف لا يتسرى بجارية فوطئها ولم يعزل عنها.. كان حانثاً في يمينه) ولأنه عرضها للإحبال وزوال الملك، فهو كما لو عرضها للبيع.

(8/298)


[مسألة خلط الموصي الطعام]
] : وإن وصى له بطعام متميز فخلطه بغيره.. كان رجوعاً سواء خلطه بمثله أو بأجود منه، أو بأردأ منه؛ لأنه لا يمكن تسليم الطعام الموصى به.
وإن أوصى له بصاع من صبرة، ثم خلط الصبرة بمثلها.. لم يكن رجوعاً؛ لأن الموصى به مختلط بغيره، فلا يضر خلط الصبرة بمثلها.
وإن خلط الصبرة بأجود منها.. كان رجوعاً؛ لأنه أحدث بالخلط زيادة لم يرض بتمليكها.
وإن خلط الصبرة بأردأ منها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما ـ ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه ليس برجوع، كما لو خلطها بمثلها. وما حدث من النقص لا يقتضي الرجوع، كما لو أتلف بعضها.
والثاني: أنه رجوع؛ لأنه يتغير بما دونه كما يتغير بما هو أجود منه.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 439] : لا يكون رجوعاً، سواء زادت أو نقصت؛ لأن الاسم باق عليها.
وإن نقل الطعام إلى بلد أبعد من بلد الموصى له.. ففي ذلك وجهان:
أحدهما: أنه رجوع؛ لأنه لو لم يرد الرجوع.. لما نقله عنه.
والثاني: ليس برجوع؛ لأنه باق على صفته.

[فرع تصنيع الموصى به]
وإن وصى له بطعام فطحنه أو جعله سويقاً، أو بدقيق فعجنه، أو بعجين فخبزه.. كان رجوعاً؛ لأنه أزال عنه الاسم.

(8/299)


وإن وصى له بخبز فجعله فتيتاً.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه رجوع؛ لأنه أزال عنه الاسم.
والثاني: ليس برجوع؛ لأنه يقال: خبز مدقوق.
وإن وصى له برطب فجعله تمراً، أو بلحم فطبخه أو شواه.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه رجوع؛ لأنه أزال عنه الاسم.
والثاني: ليس برجوع؛ لأنه أبقى له.
وإن وصى له بقطن فغزله، أو بغزل فنسجه.. كان رجوعاً؛ لأنه أزال عنه الاسم. وإن وصى له بقطن فحشا به فراشاً.. ففيه وجهان.
أحدهما: أنه ليس برجوع؛ لأن اسم القطن باق عليه.
والثاني: أنه رجوع؛ لأنه جعله للاستهلاك.
وإن وصى له بشاة فذبحها.. كان رجوعاً؛ لأنه أزال عنها الاسم.
وإن وصى له بثوب فغسله.. لم يكن رجوعاً؛ لأنه باق. وإن قطعه قميصاً، أو وصى له بخشبة فشقها باباًَ.. ففيه وجهان.
أحدهما: أنه رجوع؛ لأنه أزال عنهما اسم الثوب والخشبة.
والثاني: ليس برجوع؛ لأن الاسم باق عليهما.

[فرع إزالة اسم العين الموصى بها]
وإن وصى له بدار فهدمها الموصي.. بطلت الوصية فيها؛ لأنه تصرف أزال به الاسم، فكان رجوعاً، كما لو أوصى له بحنطة فطحنها.
وإن انهدمت في حياة الموصي، فإن لم يزل عنها اسم الدار.. لم تبطل الوصية فيما لم ينفصل عنها. وأما ما انفصل عنها من أحجار وآجر وأخشاب.. فالمنصوص: [أنه لورثة الموصي] ؛ لأنه جاء وقت لزوم الوصية وهو منفصل.
ومن أصحابنا من قال: إنه للموصى له؛ لأن الوصية تناولته. وليس بشيء.

(8/300)


وإن زال عنها اسم الدار، بأن صارت براحاً، فإن قلنا: إن الآلة التي انفصلت عنها في الأولى للموصى له.. لم تبطل الوصية هاهنا في الآلة والعرصة.
وإن قلنا بالمنصوص.. فإن الآلة لورثة الموصي، وفي العرصة وجهان:
أحدهما: أنها للموصى له؛ لأنها ثبوت الدار.
والثاني ـ وهو المذهب: - أن الوصية تبطل بها أيضاً؛ لأنه لا يقع عليها اسم الدار.
وإن انهدمت بعد موت الموصي وقبل قبول الموصى له، ثم قبل.. فإن الدار وما انفصل عنها للموصى له؛ لأنه جاء وقت لزوم الوصية وهي متصلة بالدار.
ومن أصحابنا من قال: إن قلنا: إن الموصى له ملك بالموت.. كان الجميع له. وإن قلنا: إنه ملك بنفس القبول.. كان ما انفصل عنها لورثة الموصي.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا ضعيف؛ لأنه يلزم على هذا: إذا خربت الدار كلها بعد الموت وقبل القبول، وقلنا: إن ملكه بالقبول.. أن الوصية تبطل وتكون لورثة الموصي! وما قال هذا أحد من أصحابنا.
وإن وصى له بدار، ثم بنى عليها بيتاًَ آخر، فإن قلنا: إن المنفصل عنها في حياة الموصي لورثة الموصي.. كان البيت الملحق بالدار لهم. وإن قلنا: إن المنفصل للموصى له.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 438] : كان البيت الملحق للموصى له أيضاًَ.

[فرع استعمال الموصى به]
وإن وصى له بأرض فزرعها.. لم يكن رجوعاً، كما لو وصى له بدار فسكنها. وإن غرسها أو بنى فيها.. ففيه وجهان:

(8/301)


أحدهما: أنه ليس برجوع، كزراعتها.
والثاني: أنه رجوع؛ لأنهما يرادان للبقاء.
فإذا قلنا بالأول.. ففي موضع الغراس وقرار البناء وجهان:
أحدهما: أن ذلك ليس برجوع فيه، كالبياض الذي بين ذلك.
والثاني: أنه رجوع فيه؛ لأنه تابع لما عليها.

[فرع وصى بمنفعة دار سنة ثم أجرها]
قال الشيخ أبو إسحاق: وإن أوصى له بمنفعة داره سنة، ثم أجرها دون السنة.. لم يكن رجوعاً؛ لأن الإجارة قد تنقضي قبل موت الموصي، فإن مات قبل انقضاء الإجارة.. ففيه وجهان:
أحدهما: تبطل الوصية فيما بقي من مدة الإجارة.
والثاني: لا تبطل، بل يسكن الموصى له سنة بعد انقضاء مدة الإجارة.
والله أعلم

(8/302)


باب الأوصياء لا تصح الوصية إلا إلى بالغ عاقل مسلم عدل، حر؛ لأن الوصية تقتضي ولاية وأمانة، وذلك لا يصح إلا ممن جمع هذه الشرائط.
أما (الولاية) : فلأن الوصي يلي أموال الأطفال وتفرقة ثلث الميت.
وأما (الأمانة) : فلأن المال يكون عنده.
فإذا اختل شرط من هذه الشروط.. لم يكن من أهل الولاية والأمانة. فإن أوصى إلى صبي أو مجنون.. لم تصح الوصية؛ لأنه مولى عليهما، فلا يملكان الولاية على غيرهما وهذا إجماع.
وإن أوصى إلى مسلم فاسق.. لم يصح.
وقال أبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: أن الوصية تقتضي ولاية وأمانة كما ذكرناه، والفاسق ليس من أهل الولاية والأمانة.
وإن وصى مسلم إلى كافر.. لم تصح الوصية؛ لأن الفسق ينافي الوصية، فالكفر أولى، وهو إجماع أيضاً.
وإن وصى كافر إلى كافر: فإن كان الكافر غير رشيد في دينه.. لم تصح الوصية إليه، كالوصية إلى المسلم الفاسق. وإن كان الوصي رشيداً في دينه.. ففيه وجهان:

(8/303)


أحدهما: يصح؛ لأنه يجوز أن يكون ولياً له، فجاز أن يكون وصياً له.
والثاني: لا يصح، كما لا يكون شاهداً له.
أما الوصية إلى العبد: فاختلف الناس فيها على أربعة مذاهب:
فـ[الأول] : ذهب الشافعي إلى: أن الوصية لا تصح إليه بحال، سواء أوصى إلى عبد نفسه أو إلى عبد غيره، بإذن سيده أو بغير إذنه، وسواء كان ورثته كباراً أو صغاراً، أو بعضهم كباراً وبعضهم صغاراً. وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وأبو ثور.
و [الثاني] : ذهب مالك: إلى أن الوصية تصح إلى عبده وإلى عبد غيره إذا أذن له سيده.
و [الثالث] : ذهب الأوزاعي، وابن شبرمة إلى أنه: إن أوصى إلى عبد نفسه.. صح. وإن أوصى إلى عبد غيره.. لم يصح بحال.
و [الرابع] : قال أبو حنيفة: (إن أوصى إلى عبد غيره.. لم يصح. وإن أوصى إلى عبد نفسه.. نظرت: فإن كان في ورثته كبير يلي.. لم يصح. وإن كانوا كلهم صغاراً.. صح) .
دليلنا: أنه مولى عليه فلم تصح الوصية إليه، كالمجنون.
قال الشافعي: (ولا تصح الوصية إلى المدبر، ولا إلى المكاتب، وأم الولد، والمعتق بصفة، ولا إلى المعتق بعضه؛ لأن بعض الرق حاصل فيهم، فهم بمنزلة العبد) .

[فرع: وصاية المرأة]
وإذا جمعت المرأة الشرائط الخمس.. جازت الوصية إليها، وهو قول كافة العلماء إلا عطاء، فإنه قال: لا يجوز.

(8/304)


دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» .
فجوز لها أن تنفق على أولادها الصغار.
وروي: (أن عمر أوصى إلى ابنته حفصة) ، ولا مخالف له.
وإن جمع الأعمى الشرائط الخمس.. فهل تصح الوصية له؟ فيه وجهان:
أحدهما: تصح؛ لأنه من أهل الشهادة.
والثاني: لا تصح؛ لأن الوصي يراد للنظر، والأعمى لا يصلح للنظر.

[مسألة شرائط الوصي تعتبر عند الموت]
ومتى يعتبر وجود الشرائط الخمس في الوصي؟ فيه ثلاثة أوجه:
[أحدها] : من أصحابنا من قال: يعتبر وجودها عند موت الموصي دون ما قبله؛ لأن الوصي إنما يستحق النظر في تلك الحال دون ما قبله، فاعتبر حاله فيه كما يعتبر كون الشخص وارثاً عند موت المورث دون ما قبله.

(8/305)


و [الثاني] : منهم من قال: يعتبر وجود الشرائط في الوصي عند عقد الوصية، وعند موت الموصي دون ما بينهما؛ لأن وقت الوصية حال الإيجاب، ووقت الموت حال القبول.
و [الثالث] : منهم من قال: تعتبر وجود الشرائط في الوصي من حين الوصية إلى أن يموت الموصي؛ لأن كل وقت من ذلك يجوز أن يموت فيه الموصي فيستحق الوصي فيه النظر.
قال الشيخ أبو حامد: والأول أصح. قيل له: فكيف يكون الأول أصح وقد قال الشافعي: (لا تصح الوصية إلى المدبر، ولا إلى أم الولد) ، وكل واحد منهما يعتق بوفاته فتكمل فيه الشرائط؟ فقال: يحمل قوله هذا على أنه أراد: مدبر غيره، وأم ولد غيره.
فإن أوصى إلى من جمع الشرائط، ثم تغيرت حال الوصي بعد موت الموصي، فإن تغير لضعف عن الحساب أو الحفظ.. لم ينعزل بذلك، بل يضم إليه الحاكم أميناً يعاونه؛ لأن الضعف لا ينافي الولاية، بدليل: أن الأب والجد يليان مال ولدهما وإن كان فيهما ضعف.
ولو كان الحاكم هو الذي نصب الأمين فضعف. فله عزله؛ لأنه نصبه.
وإن فسق الوصي أو جن.. انعزل عن الوصية؛ لأن الفسق والجنون ينافيان الولاية، بدليل: أن الأب والجد والحاكم إذا فسق واحد منهم أو جن.. بطلت ولايته.

[مسألة الوصية إلى اثنين]
فإذا أوصى إلى اثنين.. صح، كالوكالة. فإن وصى إليهما، وإلى كل واحد منهما، مثل أن يقول: أوصيت إليكما، وإلى كل واحد منكما، أو لكل واحد منكما أن يتصرف على الانفراد.. صح. فإن اجتمعا على التصرف.. صح. وإن انفرد أحدهما بالتصرف.. صح أيضا؛ لأن كل واحد منهما كالوصي المنفرد.

(8/306)


وإن مات أحدهما أو فسق أو جن.. لم يضم الحاكم إلى الآخر غيره؛ لأن الموصي رضي بنظر كل واحد منهما.
وإن قال: أوصيت إليكما على أن لا ينفرد أحدكما بالنظر والتصرف.. لم يجز لأحدهما أن ينفرد بالتصرف؛ لأن الموصي لم يرض بنظره وحده. فإن اجتمعا على التصرف.. صح. وإن انفرد أحدهما بالتصرف.. نظرت: فإن كان في رد وديعة أو مغصوب.. وقع موقعه؛ لأن للمودع والمغصوب أن يأخذ ماله بغير واسطة.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 439] : وهكذا لو كان ما انفرد به قضاء دين من جنسه، أو وصية بشيء معين.. فلا ضمان على المنفرد بذلك منهما. وإن كان ما انفرد به مما يفتقر إلى الاجتهاد، كتفرقة الثلث على الفقراء وما أشبهه.. لم يصح، وكان على المنفرد بذلك الضمان؛ لأن ذلك يفتقر إلى الاجتهاد، ولم يرض الموصي باجتهاده وحده.
فإن قال: أوصيت إليكما في كذا وأطلق، ولم يأذن لكل واحد منهما في التصرف على الانفراد ولا منع كل واحد منهما عن التصرف على الانفراد.. فحكمه عندنا حكم ما لو منع كل واحد منهما عن التصرف على الانفراد.
وقال أبو يوسف: لكل واحد منهما أن ينفرد بالتصرف.

(8/307)


وقال أبو حنيفة ومحمد: (إن اجتمعا على التصرف.. صح. وإن انفرد أحدهما في التصرف.. لم يصح إلا في ستة أشياء: [الأول] : في شراء كفن الموصي، و [الثاني] : تفرقة ثلثه، و [الثالث] : قضاء ديونه، و [الرابع] : رد الودائع، و [الخامس] : الغصوب، و [السادس] : إطعام اليتيم وكسوته.. فأما ما عدا ذلك من شراء العقار لليتيم وسائر العقود.. فلا يصح) .
دليلنا: أنه مشترك بينهما، فلم يكن لأحدهما أن ينفرد به، كما لو وكل وكيلين في شراء شيء أو بيعه، ولأن الجهة التي ملك بها الوصي النظر في الستة الأشياء هي الجهة التي ملك بها النظر في غيرها، فإذا لم يملك النظر فيما عدا الستة الأشياء.. لم يملك النظر في الأشياء الستة.
إذا ثبت هذا: فإن اجتمع الوصيان معا على التصرف.. جاز. وإن تشاحا، فقال كل واحد منهما: أنا أنظر أو أفعل، أو قال: لا أفعل أنا.. قال الشيخ أبو حامد: وقف الأمر ليتفقا ما لم يطل تشاحهما فإن طال.. أقام الحاكم عدلين لينظرا؛ لأن هذا موضع ضرورة.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 440] : فإذا استناب أحدهما آخر عن نفسه ليتصرف مع الآخر.. جاز؛ لأن رأي الاثنين حاصل.
فإن مات أحدهما، أو فسق، أو جن.. لم يكن للآخر أن ينفرد بالتصرف؛ لأن الموصي لم يرض بنظره وحده، بل يرفع الأمر إلى الحاكم ليقيم آخر مع الباقي منهما.
فإن أراد الحاكم أن يفوض النظر إلى الباقي منهما، أو ماتا، أو فسقا فأراد الحاكم تفويض النظر إلى عدل واحد.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن النظر قد صار إلى الحاكم، فجاز أن يكون الباقي أميناً من قبل الحاكم ووصياً من الموصي.
والثاني: لا يصح؛ لأن الموصي لم يرض إلا بنظر اثنين.

(8/308)


إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (إذا اختلفا.. قسم بينهما ما كان ينقسم، وجعل في أيديهما نصفين، وأمرا بالاحتفاظ بما لم ينقسم) .
واختلف أصحابنا في تأويل هذا:
فقال أبو إسحاق: إنما عطف الشافعي بهذا على الأولى، وهي: إذا أوصى إليهما وإلى كل واحد منهما، فاختلفا في النظر والتصرف، فقال كل واحد منهما: أنا أنظر وحدي، فإن كان الشيء مما ينقسم.. قسم بينهما ودفع إلى كل واحد منهما نصفه لينظر فيه ويتصرف به؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.
قال: ولا يقسم بينهما كقسمة الأملاك ولكن على جهة التقريب والتعديل، بأن يقوم ويدفع إلى كل واحد منهما شيء بقيمته؛ لأنه ليس بإقرار ملك وإنما هو للنظر. فأما إذا أوصى إليهما معاً أو أوصى إليهما وأطلق.. فلا يقسم بينهما؛ لأن الموصي لم يرض أحدهما، ولكنهما يجتمعان على النظر.
ومن أصحابنا من قال: هذه المسألة معطوفة على ما إذا أوصى إليهما معاً ومنع أحدهما عن الانفراد في التصرف، أو وصى إليهما وأطلق، وتشاحا في الحفظ لا في النظر، فقال كل واحد منهما: أنا أحفظه إلى وقت النظر، فإن كان بحيث لا ينقسم.. كان تحت أيديهما معاً. وإن كان مما ينقسم.. قسم بينهما نصفين؛ لأنه يتعذر اجتماعهما على حفظه. وهذا اختيار الشيخ أبي إسحاق والمسعودي [في " الإبانة " ق\440] .

[فرع توقيت مدة الوصاية]
] : إذا أوصى إليه في شيء مدة.. لم يصر وصياً بعد انقضاء المدة.
وإن وصى إليه في جهة من التصرف.. لم يصر بها وصياً له في غيرها من الجهات. وبه قال أبو يوسف ومحمد.

(8/309)


وقال أبو حنيفة: (إذا أوصى إليه في جهة.. كان وصياً فيها وفي غيرها من الجهات، مثل أن يوصي إليه في تفرقة ثلثه، فإنه يكون وصياً في ذلك وفي قضاء ديونه ورد ودائعه، وكذلك إذا أوصى إليه في نفقة أولاده الصغار.. صار وصياً بالنفقة عليهم، وبحفظ أموالهم، والعقد عليها وغير ذلك) .
دليلنا: أنه ينظر بتوليه، فلم يجاوز نظره إلى غير ما ولي فيه، كالوكيل، وعكسه الأب والجد.

[مسألة توكيل الوصي]
إذا أوصى إليه بشيء.. فللوصي أن يوكل غيره في كل ما لم تجر العادة أن يتولاه بنفسه، كما قلنا في الوكيل.
وإن وصى إليه بشيء يقدر عليه بنفسه.. فهل له أن يوكل غيره فيه؟ حكى الشيخ أبو حامد فيه وجهين:
أحدهما: لا يجوز، كما قلنا في الوكيل.
والثاني: يجوز، وهو المذهب؛ لأن تصرف الوصي بولاية؛ لأنه يتصرف فيما لم ينص له عليه، فجاز له التوكيل فيما يقدر عليه، كالأب والجد والحاكم، بخلاف الوكيل.

[فرع عدم الإذن للوصي بأن يوصي]
إن أوصى إلى رجل ولم يأذن الموصي للوصي أن يوصي.. فللوصي أن يتصرف ما عاش، وليس له أن يوصي إلى غيره به. وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق.
وقال الثوري، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه) للوصي أن يوصي) .
دليلنا: أنه ينظر بتوليه، فلم يملك الإيصاء، كالوكيل، وفيه احتراز من الأب والجد.
وإن قال: أوصيت إليك، فإن حدث بك حادث من فسق، أو جنون، أو موت

(8/310)


فقد أوصيت إلى فلان.. صح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث جيشاً وقال: " أميركم فلان، فإن أصيب.. ففلان، فإن أصيب.. ففلان» .
وإذا ثبت ذلك في الولاية.. ثبت في الوصية.
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أوصى إلى ابنته حفصة، فإذا ماتت.. فإلى ذوي الرأي من أهلها) .
و: (أوصت فاطمة إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فإذا مات.. فإلى ابنيهما - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -) .
وإن أوصى إلى رجل وأذن للوصي أن يوصي عن الموصي.. قال ابن الصباغ: صح ذلك قولا واحداً.
وإن وصى إليه أن يوصي عن نفسه.. ففيه قولان.
وذكر الشيخ أبو حامد: أنه إذا قال: أوصيت إليك، أو أذنت لك إن حدث بك موت أن توصي إلى من شئت، أو قال: إن حدث بك موت فمن أوصيت إليه فهو وصيي، أو قال: من أوصيت إليه فقد أوصيت إليه.. فالحكم في الجميع واحد.
قال الشافعي في موضع: (يجوز) ، وقال في موضع آخر: (لا يجوز) .
واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يجوز ذلك قولا واحداً، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي؛ لأن الموصي يملك التصرف بنفسه، ويملك أن يملك غيره التصرف بعد موته وهو الوصي، فلما كان للموصي أن يملك غيره التصرف.. ملك أن يملك غيره التولية؛ لأن الوصية آكد من الوكالة، فلما كان للوكيل أن يوكل بإذن

(8/311)


الموكل.. كان للوصي أن يوصي إلى غيره بإذن الموصي.
ومنهم من قال: فيه قولان، وهو اختيار الشيخ أبي حامد:
أحدهما: يجوز. وبه قال أبو حنيفة والثوري؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يجوز. واختاره الشيخ أبو حامد؛ لأن الوصي يعقد الوصية عن الميت بإذنه ولا إذن للميت في حال لا ولاية للميت - لأنه ليس من أهل الولاية، فلم يصح.
وإن قال: أوصيت إليك، فإن حدث بك حادث، فأوص إلى فلان، فإن قلنا في التي قبلها: يصح قولاً واحداً.. فهاهنا أولى أن يصح.
وإن قلنا في التي قبلها: إنها على قولين.. ففي هذه طريقان:
أحدهما: أنها على قولين؛ لأنا إنما منعنا الوصية؛ لأن الوصي يعقد الوصية لآخر عن إذن من لا إذن له في حال العقد، وهذا المعنى موجود هاهنا.
ومنهم من قال: يصح هاهنا قولاً واحداً؛ لأن الموصي قطع اجتهاده بالتعيين. قال الشيخ أبو حامد: والأول أصح.

[فرع يشترط قبول الوصي]
] : وإذا أوصى إليه.. لم يملك الوصي التصرف إلا بالقبول، كما لو وصى له. فإن قبل بعد موت الموصي.. صح، كالوصية له. وإن قبل قبل موت الموصي. فهل يصح قبوله؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، كالوصية له.
والثاني: يصح؛ لأنه إذن في التصرف فجاز القبول فيه بعد الإيجاب، كالوكالة.
فإذا قلنا بهذا: فللوصي أن يعزل نفسه في حياة الموصي. فإذا عزل نفسه.. انعزل ولم تعد الوصية إليه إلا بوصية أخرى، وسواء عزل نفسه بحضرة الموصي أو بغيبته.

(8/312)


وقال أبو حنيفة: (إذا عزل نفسه في حياه الموصي.. لم ينعزل حتى يرده في وجهه) يعني: بحضرته.
دليلنا: أنه قطع عقد لا يفتقر إلى رضاه، فلم يفتقر إلى حضوره، كالوكالة والطلاق.
وإن قلنا: لا يصح قبوله إلا بعد موت الموصي.. فلا حكم بعزله نفسه في حياة الموصي.. فإن قبل الوصية بعد موت الموصي ثم عزل نفسه.. انعزل ورفع الأمر إلى الحاكم، ليقيم غيره مقامه.
وقال أبو حنيفة: (إذا مات الموصي وقبل الوصي الوصية.. لزمت الوصية إليه، فلا يملك عزل نفسه، ولا يملك الحاكم عزله إلا بأن يعجز أو يقر بالعجز، فيقيم الحاكم مقامه) .
دليلنا: أنه ينظر بتوليه، فملك عزل نفسه كالوكيل. وللموصي أن يعزل الوصي؛ لأنه أذن له في التصرف، فجاز له عزله، كالموكل.

[مسألة ما يقوم به الوصي]
] : قال الشافعي: (ويخرج الوصي من مال اليتيم كل ما لزمه من زكاة ماله، وجنايته وما لا غنى به عنه) .
وجملة ذلك: أن الوصي يخرج من مال الصغير زكاة ماله، وزكاة فطره، ومماليكه، لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه كان في يده مال ليتيم، فلما بلغ.. رده إليه، فوجده ناقصاً، فسأله عن ذلك، فقال: احسبوا قدر الزكاة، فحسبوا، فإذا هو قدر النقصان، فقال علي: (أفتراني ألي مالاً لا أخرج الزكاة منه) . ولأن ذلك حق واجب، فكان على الولي إخراجه.

(8/313)


وإن قتل الصغير آدمياً عمداً أو خطأ.. وجب عليه الكفارة، وأخرجها الولي من ماله، ويخرج عنه ما وجب عليه بأرش الجناية وإتلاف المال؛ لأن ذلك واجب عليه، فهو كالزكاة. وإنما يخرج الولي الأرش وبدل المتلف من ماله إذا قامت البينة على إتلافه.. فأما بإقراره.. فلا يتصور ذلك؛ لأنه غير مكلف، فلا حكم لإقراره.
وإن أقر الوصي عليه.. لم يلتفت إلى إقراره؛ لأنه أقر عليه بما فيه ضرر عليه، فلم يقبل، وينفق عليه الوصي ويكسوه بالمعروف؛ لأن ماله مرصد لمصالحه، ونفقته وكسوته منها. فإن أنفق عليه أو كساه أكثر من المعروف.. لزم الوصي ضمان الزيادة؛ لأنه مفرط فيها.
فإن بلغ الصبي رشيداً.. سلم إليه ماله.
وإن اختلف هو والوصي في قدر ما أنفق عليه الوصي، فإن كان ما يدعيه الوصي أكثر من النفقة بالمعروف.. لزم الوصي ضمان الزيادة. وإن كان ما يدعيه النفقة بالمعروف.. فالقول قول الوصي مع يمينه؛ لأنه أمين فقبل قوله فيه.
وإن اختلفا في قدر مدة الإنفاق عليه، بأن قال الوصي: مات أبوك من عشر سنين وأنفقت عليك فيها، وقال: بل مات أبي من ثماني سنين.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما- وهو قول أبي سعيد الإصطخري ـ: أن القول قول الوصي، كما لو اختلفا في قدر النفقة.
والثاني ـ وهو قول أكثر أصحابنا، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أن القول قول الموصى عليه؛ لأن الأصل حياة الأب، ويمكن الوصي إقامة البينة على ذلك بخلاف قدر النفقة.
وإن ادعى الوصي أنه دفع إليه ماله بعد البلوغ وأنكر الموصى عليه.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (أن القول قول الموصى عليه؛ لأنه لم يأتمنه على المال، فلم يقبل قوله عليه، كالمودع إذا ادعى دفع الوديعة إلى وارث المودع، والملتقط إذا ادعى دفع اللقطة إلى مالكها) .

(8/314)


والثاني: أن القول قول الوصي، كما قلنا في النفقة.
وإن بلغ الصبي غير رشيد.. استديم عليه الحجر ولم يسلم إليه ماله، بل ينفق عليه ويكسوه ويخرج ما وجب عليه من ماله كما كان قبل البلوغ.
قال الشافعي: (فإن كان متلفاً يبذر ما يعطى من نفقة أسبوع.. أعطاه نفقة يوم فيوم. وإن كان يتلف ما يعطيه من نفقة يوم.. فإن الوصي يجلسه عنده ويحضر الطعام ويأكله وهو بين يديه) .
فإن كان يخرق الثياب، أو كان مجنوناً كثير الخرق.. قال الشافعي: (قرعه الولي وهدده فإن تهيب وارتدع وإلا.. فإن الولي يجلسه في البيت عرياناً بمئزر يستر عورته ويصلي فيه، فإذا أخرجه إلى الناس.. كساه، فإذا رده.. نزع عنه ذلك) .
وإن احتاج إلى خادم، ومثله يخدم.. قال الشافعي: (اشترى له خادماً) .
وأما إنكاحه: فإن لم يكن محتاجاً إليه.. لم يزوجه؛ لأنه لا حاجة به إليه؛ لأنه يلزمه المهر، والنفقة، والكسوة. وإن احتاج إلى النكاح.. زوجه الوصي؛ لئلا يقدم على الزنا، فيكون فيه رجمه أو حده. وصيانة نفسه أولى من صيانة ماله.
قال الشيخ أبو حامد: ولا يزيد على واحدة؛ لأن الكفاية تقع بها، بخلاف الأب والجد، فإنه يجوز أن يزوج الصغير بأربع؛ لأنه غير متهم في ذلك.

[مسألة ما يلحق الميت بعد الوفاة]
] : قال الشافعي في " الإملاء ": (يلحق الميت من فعل غيره وعمله حج يؤدى عنه، أو مال يتصدق به، أو دين يقضى، أو دعاء) .
وجملة ذلك: أنه إذا مات وعليه حج فرض إما حجة الإسلام، أو القضاء أو

(8/315)


النذر، فإن كان له مال.. وجب قضاؤه من ماله. وإن لم يكن له مال ففعله الوارث أو الأجنبي عنه.. صح؛ لما روي: «أن امرأة من خثعم استأذنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحج عن أبيها فأذن لها، قالت: أينفعه ذلك؟ قال: نعم كما لو كان على أبيك دين.. فقضيته، نفعه» .
وإن لم يكن عليه حج فرض، فأراد إنسان أن يتطوع بالحج عنه بغير إذنه.. لم يجز، ولم يلحقه ثوابه؛ لأن تطوعه لا يلحق غيره. وإن أوصى به.. فيه قولان، وقد مضى ذلك في الحج.
وأما الصدقة: فيجوز للوارث وللأجنبي أن يتصدق عن الميت، ويلحق الميت ثوابها؛ لما روي: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها، ولولا ذلك لوهبت وتصدقت، أأتصدق عنها؟ قال: "نعم" قال: فإن لي مخرفاً فأشهدك أني قد تصدقت به عنها» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وواسع في فضل الله أن يثيب المتصدق أيضاً) .
وأما الدين: فيجوز للوارث والأجنبي أن يقضيه عن الميت؛ لما ذكرناه في حديث الخثعمية.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتي بجنازة ليصلي عليها، فقال: "هل على صاحبكم دين؟ قالوا: نعم، ديناران. فتحملهما أبو قتادة، فصلى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما قضاهما أبو قتادة.. قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الآن بردت عليه جلده» .
وأما الدعاء: فيلحق الميت؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] [الحشر: 10] .

(8/316)


فلولا أن الدعاء يلحقهم.. لما أثنى عليهم بالدعاء لإخوانهم.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مات الإنسان.. انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له» .
فمعنى (الصدقة الجارية) : الوقف.
ومعنى (العلم المنتفع به) : إما كتب علم وقفها، أو علم غيره.
فأما ما سوى ذلك من القرب، كالصلاة والقراءة والذكر.. فلا يلحق الميت ثوابها بفعل الغير لها عنه، قال أصحابنا: إلا أنه إذا قرئ القرآن عند القبر أو الميت.. فإن ثواب القراءة للقارئ، ولكن الرحمة تنزل حيث يقرأ القرآن، فيرجى أن تعم الرحمة الميت؛ لأنه كالجالس بينهم. هذا مذهبنا.
وحكي عن أحمد بن حنبل: أنه قال: (يلحق الميت ثواب ما يفعل عنه من الصلاة، والقراءة، والذكر) .
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] [النجم: 39] وهذا عموم إلا فيما خصه الدليل.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا مات الإنسان.. انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له» وهذا ليس بواحد منها.
وإن أعتق عن الميت رقبة، فإن لم يكن في ذمته رقبة من كفارة متحتمة بالعتق أو بالنذر، ولا أوصى بها.. لم يقع ذلك العتق عن الميت؛ لما ذكرناه. وإن كان في ذمته عتق رقبة متحتمة من نذر أو كفارة قتل أو ظهار، فأعتق عنه الوارث أو الوصي.. صح ذلك عن الميت وإن كان بغير إذنه؛ لأنه واجب عليه وهم يقومان مقامه في أداء الواجب عليه.

(8/317)


وإن كان عليه كفارة يمين فأعتق عنه رقبة بعد موته بغير إذنه.. فهل تقع عنه؟ فيه وجهان:
أحدهما: تقع عن الميت: لأنه لو كفر بها في حياته.. لصح، فإذا أعتقها عنه غيره بعد موته.. وقعت عنه، ككفارة الظهار.
والثاني: لا تقع عنه، بل تقع عن المعتق؛ لأن العتق كان غير محتم عليه، بل كان مخيراً: بين الإطعام والكسوة والعتق، فصار كما لو تطوع عنه بالعتق.

[فرع اختلاف الورثة والموصى له]
) : إذا قال: إن مت من مرضي هذا.. فلزيد كذا، فمات، فادعى الموصى له أنه مات من ذلك المرض، وقال الورثة: بل برئ منه، ثم مات.. فالقول قول الورثة مع أيمانهم؛ لأن الأصل انتقال الملك إليهم إلا أن يثبت ما يصرفه عنهم، ولم يثبت.
والله أعلم وهو ولي التوفيق

(8/318)