البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب المكاتب]

(8/407)


كتاب المكاتب الكتابة هي: العتق على مال يؤديه المكاتب في نجمين أو نجوم.
قال ابن الصباغ: وأصلها مشتق من الكَتْبِ، و (الكَتْبُ) هو: الضم والجمع، يقال: كتبت القربة: إذا ضممت رأسها.
وسميت الكتيبة بذلك لانضمام بعض الجيش إلى بعض. وسمي الخط كتابة؛ لضم بعض الحروف إلى بعض.
وسمي هذا العقد كتابة؛ لضم بعض النجوم إلى بعض. و (النجوم) هي: الأوقات التي يحل بها مال الكتابة. وإنما سميت نجوما؛ لأن العرب كانت لا تعرف الحساب، وإنما تعرف الأوقات بطلوع النجوم، فسميت الأوقات نجومًا.
والأصل في جواز الكتابة: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] (النور: 33) .
ومن السنة ما روى سهل بن حنيف: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعان غارمًا أو

(8/409)


غازيًا أو مكاتبًا في كتابته.. أظله الله يوم لا ظل إلا ظله» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم من الكتابة» .
وروت أم سلمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان عنده ما يؤدي.. فلتحتجب عنه» .
قال الشافعي - رحمة الله -: (إنما أمرهن بالاحتجاب عنه قبل الأداء تعظيمًا لشأنهن، كما أمرهن الله أن يحتجبن ممن جعلهن أمهات لهم وحرمهن عليهم، وهم جماعة المسلمين. ويحتمل أن يكون أمرهن بذلك لقرب عتقهم بالأداء، كما استحب الاحتجاب من المراهق لقرب بلوغه) .
وأجمعت الأمة على جواز الكتابة.

(8/410)


إذا ثبت هذا: فإن الكتابة لا تصح إلا من جائز التصرف في المال. فإن كاتب صبي أو مجنون عبده.. لم تصح الكتابة.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (تصح كتابة الصبي المميز لعبده) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» .
ولأنه غير مكلف، فلم تصح كتابته، كالمجنون.
وإن كاتب رجل عبده الصغير أو المجنون.. لم تصح الكتابة؛ لأنها معاوضة، فلم تصح مع الصبي والمجنون، كالبيع.

[مسألة يشترط في المكاتب الاكتساب والأمانة]
) : قال الشافعي: (وأظهر معاني الخير في العبد بدلالة الكتاب: الاكتساب والأمانة) .
وجملة ذلك: أن العلماء اختلفوا في الخير المراد بقوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] (النور:33) .
فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن المراد بالخير هاهنا هو: الاكتساب والأمانة، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، وعمرو بن دينار.
وحكي عن ابن عباس، وابن عمر، وعطاء، ومجاهد: (أن الخير هاهنا هو الاكتساب لا غير) .
وحكي عن الحسن البصري، والثوري: أنهما قالا: هو الأمانة والدين خاصة.

(8/411)


دليلنا: أن الله تعالى ذكر الخير في مواضع من كتابه وأراد به المال، وهو قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] (البقرة: 180) وأراد به: إن ترك مالًا.
وكذلك قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] (العاديات: 8) وأراد به: المال.
وذكر في مواضع أخر الخير وأراد به الدين، وهو قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] (الزلزلة: 7) يعني: عملًا صالحًا.
فإذا كان الخير يقع عليهما.. حملناه هاهنا عليهما؛ لأن المقصود بالكتابة لا يحصل إلا باجتماعهما.
فإذا اجتمع في العبد الكسب والأمانة، وسأل سيده أن يكاتبه.. استحب له أن يكاتبه؛ للآية، ولا يجب عليه ذلك. وبه قال كافة العلماء.
وحكي عن عمرو بن دينار، وعطاء، والضحاك، وداود: أنهم قالوا: (يجب عليه ذلك) .
دليلنا: أنه عتق لم يتقدم وجوبه، فلا يجب بطلب العبد، كالعتق في غير الكتابة.
وإن طلب السيد أن يكاتب العبد فكره العبد.. لم يجبر العبد على الكتابة؛ لأنه عتق على مال، فلم يجبر العبد عليه، كما لو قال له: إن أديت إلي ألفًا فأنت حر.. فإنه لا يجبر على أدائه.
وإن عدم الكسب والأمانة في العبد.. لم تستحب كتابته؛ لأنه لا يحصل المقصود بالكتابة مع فقدهما، ولا تكره كتابته.
وقال أحمد وإسحاق: (تكره كتابته إذا لم يكن له كسب، كما تكره مخارجة الأمة التي لا كسب لها) .
دليلنا: أنه تعليق عتق بصفة، فلا يكره، كما لو كان له كسب. ويخالف الأمة، فإن ذلك ربما دعاها إلى الزنا، ولأن المخارجة ليس فيها تحصيل العتق، وهاهنا ربما

(8/412)


حصل له مال الكتابة مما يخصه من الزكاة، فافترقا.
وإن كانت له أمانة بلا كسب.. فهل تستحب كتابته؟ فيه وجهان:
أحدهما: تستحب؛ لأنه ربما حصل مال الكتابة من الصدقات.
والثاني: لا تستحب، وهو الأصح؛ لأن الله تعالى قال: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) (النور:33) وقد دللنا على أن الخير هاهنا: هو الكسب والأمانة، وقد فقد أحدهما.
فعلى هذا أيضًا: لا تكره كتابته.

[فرع لا يكاتب من لا يكتسب]
) : ولا يجوز أن يكاتب عبدًا أجيرًا؛ لأنه لا يمكنه الاكتساب. ولا تصح كتابة العبد الموقوف؛ لأنه لا يعتق بالمباشرة، فلا يعتق بالمكاتبة. ولا تصح كتابة العبد المرهون؛ لأنه معرض للبيع في الرهن. وتصح كتابة العبد المعار؛ لأنه في ملك المعير.
وتصح كتابة المدبر كما يجوز عتقه، فإن أدى المال قبل موت السيد.. عتق بالكتابة. وإن مات السيد قبل الأداء وخرج من الثلث.. عتق بالتدبير، وإن لم يخرج من الثلث.. عتق منه ما احتمله الثلث وبقي الباقي على الكتابة.
وتصح كتابة أم الولد كما يصح عتقها، فإن أدت المال قبل موت السيد.. عتقت بالكتابة، وإن مات السيد قبل الأداء.. عتقت بالاستيلاد.

[مسألة اشتراط قول السيد إن أديت فأنت حر]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يعتق حتى يقول في الكتابة: فإذا أديت فأنت حر، أو يقول بعد ذلك: إن قولي: كاتبتك كان معقودًا على أنك إذا أديت، فأنت حر) .

(8/413)


وجملة ذلك: أن الكتابة تشتمل على معاوضة وصفة، (فالمعاوضة) قوله: كاتبتك على كذا. و (الصفة) قوله: فإذا أديت فأنت حر.
فإذا قال ذلك، أو قال: كاتبتك على كذا، ونوى به العتق.. كان صريحًا.
وإن قال: كاتبتك على كذا، ولم يقل: فإذا أديت فأنت حر، ولا نوى ذلك.. فقد نص هاهنا: (أنه لا يعتق) ، ونص في المدبر: أنه إذا قال: دبرتك، ولم يقل: إذا مت فأنت حر ولا نواه.. أنه يصير مدبرًا) .
واختلف أصحابنا فيهما على طريقين، مضى ذكرهما في التدبير.

[مسألة مكاتبة أحد الشريكين]
) : إذا كان عبد بين شريكين، فكاتبه أحدهما في نصيبه منه بغير إذن شريكه.. لم تصح الكتابة.
وقال الحكم، وابن أبي ليلى، والعنبري، والحسن بن صالح، وأحمد: (يصح)
دليلنا: أن الكتابة تقتضي إطلاقه في الكسب والسفر لأجل الكسب، وملك نصفه يمنع عن ذلك، ويمنع عن أن يأخذ شيئًا من الزكاة؛ لأن جميع ما يكتسبه يكون لسيده نصفه فلا يدفع إلى سيده الزكاة، ولأنه يضر شريكه بذلك؛ لأن قيمة نصيبه تنقص، فلم يصح.
وإن كاتبه بإذن شريكه.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يصح. وهو اختيار المزني؛ لما ذكرناه فيه إذا كاتبه بغير إذن شريكه.
والثاني: يصح. وبه قال أبو حنيفة إلا أنه قال: (إذنه في ذلك يقتضي أن يؤدي العبد مال الكتابة من جميع كسبه، ولا يرجع الآذن بشيء) ، وعندنا يؤدي مال الكتابة مما يخص نصيب سيده الذي كاتبه من كسبه؛ لأن المنع من كتابته لحق شريكه، وقد زال ذلك بإذنه.

(8/414)


وقال أبو يوسف ومحمد: إذا أذن له.. صار جميعه مكاتبًا.
دليلنا: أن الكتابة عقد معاوضة، فلا تسري، كسائر العقود.

[فرع مكاتبة من بعضه حر]
) : وإن كان يملك بعض عبد، وباقيه حر، فكاتبه على ما فيه من الرق.. صح؛ لأنه عقد الكتابة على جميع ما فيه من الرق، فهو كما لو كاتبه على جميعه وهو رقيق، ولأن حرية باقية لا تمنع شيئًا من مقصود الكتابة، فلم تمنع صحتها.
وإن كان العبد له فكاتبه على بعضه.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يصح) .
فمن أصحابنا من قال: إذا قلنا: إنه يصح أن يكاتب نصيبه في العبد المشترك بإذن شريكه.. صح هاهنا أيضًا؛ لأن اتفاقهما على كتابة بعضه كاتفاق الشريكين.
وقال أكثر أصحابنا: لا يصح هاهنا قولًا واحدًا؛ لأنه إذا كاتبه على نصفه.. لم يعتق حتى يؤدي ضعف مال الكتابة؛ لأنه يحتاج أن يؤدي إليه النصف بحكم النصف الرقيق، ولأنه إذا أدى مال الكتابة.. عتق جميعه؛ لأن العتق يسري في الملك ولا يتبعض، فيؤدي كتابة نصفه ويعتق جميعه، وذلك خلاف مقتضى العقد، فلم يصح العقد.

[فرع وصى بمكاتبة عبده]
) : وإن أوصى بكتابه عبده.. صحت الوصية؛ لأن الكتابة عقد يتعلق بها حق الله - تعالى - وحق الآدمي. وتعتبر قيمة العبد من الثلث. فإن كان قد قدر المال الذي يكاتب عليه.. كوتب عليه، سواء كان أقل من قيمته أو أكثر. وإن لم يقدر ذلك.. كوتب على ما جرى العرف بكتابة مثله؛ لأن العرف أن العبد يكاتب على أكثر من قيمته. فإن لم يختر العبد ذلك.. لم يجبر عليه، كما أنه لا يجبر على قبول الوصية، فإن طلب بعد ذلك.. لم يجب إليها؛ لأن الموصى له إذا رد الوصية.. سقطت في حقه ويوفر الثلث على باقي أهل الوصايا.

(8/415)


وإن لم يحتمل الثلث جميع قيمة العبد.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه يكاتب منه القدر الذي يحتمله الثلث) .
واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: في هذا قولان، كما لو كاتب نصيبه من العبد المشترك بإذن شريكه. فنص هاهنا على أحدهما.
وقال أكثرهم: يصح هاهنا قولًا واحدًا.
والفرق بينهما: أنا إنما منعنا المكاتبة في بعض المشترك لما يلحق الشريك من الضرر، وهاهنا لا ضرر على الورثة؛ لأنهم ملكوه وقد لزمتهم مكاتبته، ولأن الكتابة في العبد المشترك غير مستحقة، والوصية في الكتابة استحقت، فإذا تعذرت في جميعه.. بقي الاستحقاق في ببعضه.
فإذا قلنا بهذا: وأوصى أن يكاتب عبده على مائة وقيمته مائة ولا مال له غيره، أو كاتبه في مرض موته على مائة وقيمته مائة ولا مال له غيره.. صحت الكتابة في ثلثه بحصته من مال الكتابة.
وهل تزداد التركة إذا أدى المكاتب مال الكتابة؟ حكى المحاملي في " التجريد " فيه قولان:
أحدهما ـ وهو المشهور ـ: أن التركة لا تزداد بذلك؛ لأن التركة ما يخلفها الميت، ومال الكتابة حصل للورثة بعد موت السيد من ملكهم، فهو كثمرة البستان وولد الجارية بعد الموت.
والثاني ـ وهو اختيار المحاملي ـ أن التركة تزداد بذلك؛ لأن هذا المال إنما استفيد بعقد الكتابة، وعقد الكتابة وجب تنفيذه بوصية الميت، فكان كالمال الذي استفيد بسبب من جهة الميت.
فإذا قلنا بهذا: دخله الدور، وهو: أنه إذا كاتبه على مائة في مرض موته وقيمته مائة.. قيل للمكاتب: إن عجلت مال الكتابة.. جازت الكتابة في نصفك بنجمين، فحصل للورثة نصف الرقبة ونصف مال الكتابة، وذلك مثلا ما صحت فيه الكتابة.
وحسابه: تجوز الكتابة في شيء من الرقبة، وتبطل في رقبة إلا شيئًا، ويؤدي

(8/416)


المكاتب عما صحت فيه الكتابة شيئًا؛ لأن مال الكتابة مثل قيمته، فيحصل للورثة من الرقبة ومال الكتابة مائة درهم وذلك يعدل شيئين ـ الشيء نصف المائة ـ وذلك الجائز بالكتابة.
وإن لم يعجل مال الكتابة.. صحت الكتابة في الحال في ثلثه بثلث مال الكتابة، ويسلم إلى الورثة ثلثاه، فكلما أدى شيئًا زاد في الكتابة بقدر نصف ما أدى حتى يؤدي نصف الكتابة فيستوفي وصيته.
وهل يرد الورثة ما أخذوا من كسب سدسه؟ فيه وجهان:
الصحيح: أنهم يردونه.
وإن كاتبه على مائة وخمسين، فإن قلنا: لا تزداد التركة بأداء مال الكتابة.. صحت الكتابة في ثلثه بخمسين.
وإن قلنا: تزداد التركة بأداء مال الكتابة، فإن عجل المكاتب ما عليه.. جازت الكتابة في شيء منه بشيء ونصف شيء، فيحصل للورثة من الرقبة والكتابة مائة درهم ونصف شيء ـ وذلك يعدل شيئين ـ فأسقط نصف الشيء الزائد على المائة، وأسقط بإزائه نصف شيء من الشيئين المقابلين له.. فيبقى مائة تعدل شيئًا ونصف شيء، الشيء ثلثا المائة ـ وذلك ثلثا العبد ـ وهو الجائز في الكتابة بثلثي مال الكتابة ـ وهو مائة ـ فيبقى للورثة ثلث الرقبة، وقيمته ثلاثة وثلاثون وثلث، ومن مال الكتابة مائة، وذلك مثلا ما صحت فيه الكتابة.
والصحيح: أن التركة لا تزداد بأداء مال الكتابة؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في آخر المسألة: (فإذا أدى.. عتق ثلثه ورق ثلثاه) فلو ازدادت التركة بذلك.. لكان العتق أكثر من ثلثه.

[مسألة الكتابة على مال مؤجل بنجمين أو أكثر]
) : ولا تصح الكتابة إلا بعوض مؤجل، وأقل تأجيله نجمان. وبه قال أحمد. وقال مالك وأبو حنيفة: (تصح الكتابة بعوض حال) .
دليلنا: ما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه غضب على عبد له، فقال:

(8/417)


لأعاقبنك ولأكاتبنك على نجمين) فقصد التضييق عليه بذلك، ولو كانت الكتابة تصح على أقل من ذلك.. لكاتبه عليه.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (الكتابة على نجمين، والإيتاء من الثاني) وهذا يقتضي أقل ما يجوز عليه الكتابة؛ لأن الكتابة على أكثر من نجمين معلوم بالإجماع.
وروي: أن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عقدوا الكتابة، وما روي عن أحد منهم أنه عقدها حالة، فدل على أن ذلك إجماع منهم.
ولأنه إذا كاتبه على عوض حال، توجهت المطالبة للسيد عليه به وهو معسر به؛ لأنه لا يملك شيئًا، فيفسخ السيد الكتابة، فيبطل المقصود بالكتابة.
قال أبو العباس: ولأن الكتابة مشتقة من ضم نجم إلى نجم، وأقل ذلك نجمان.
ألا ترى أن الكتابة بالخط لا تكون الكلمة فيها أقل من حرفين.
إذا ثبت هذا: فمن شرط مال الكتابة أن يكون معلومًا. ومن شرط النجوم أن تكون معلومة، وما يؤدي من المال في كل نجم معلومًا، كما نقول في المسلم فيه.

[فرع المكاتبة على عمل]
) : ويجوز أن يكاتبه على العمل في ذمته، كما يجوز أن يستأجره على عمل في ذمته. فإن كاتبه على عملين في ذمته.. صح، كما يجوز أن يستأجره على ذلك.

(8/418)


[فرع المكاتبة على خدمة شهر ومال بعده]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا بأس أن يكاتبه على خدمة شهر ودينار بعد انقضاء الشهر) .
وهذا ينظر فيه: فإن كاتبه على خدمة شهر ودينار بعد انقضاء الشهر بيوم أو يومين.. صح، ومن شرط الشهر أن يكون متصلًا بالعقد، كما قلنا في الإجارة.
فإن قيل: فالعوض في الكتابة لا يكون حالًا.. فكيف جاز هاهنا أن يكون الشهر متصلًا بالعقد؟
قلنا: إنما لم يجز في العوض أن يكون حالًا؛ لأنه يتحقق عجزه عنه، وأما الخدمة: فهو قادر عليها، فلهذا جازت الكتابة عليها حالة.
وإن كتابه على خدمة شهر ودينار بعد انقضاء الشهر من غير فصل بينهما.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
قال أبو إسحاق: لا يصح؛ لأنه يكون كتابة على نجم واحد، فلم تصح.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: يصح، وهو المذهب؛ لأن الكتابة إنما لم تصح على نجم واحد؛ لأنه لا يقدر على تحصيله، وهاهنا يقدر على خدمة شهر ودينار بعده، فصحت الكتابة.
وهكذا: لو كاتبه على خدمة شهر ودينار في أثناء الشهر.. صح ذلك؛ لأن الشافعي قال في " الأم " (7/374) : (إذ شرط الدينار بعد الشهر أو معه.. كان جائزًا، وإن كاتبه على دينار وخدمة شهر بعد الدينار.. لم يصح) .
وقال أصحاب أحمد: يصح.
دليلنا: أن من شرط الشهر أن يكون متصلا بالعقد، ومن شرط العوض أن يكون متراخيًا عن العقد بالأجل، فإذا شرط حلول الدينار وتأجيل الشهر.. لم يصح.
قال ابن الصباغ: وإطلاق الخدمة يكفي؛ لأنها معلومة بالعرف، ويلزمه خدمة مثله.

(8/419)


ولو قال: على منفعة شهر.. لم يصح؛ لأنها تختلف.
وإن كاتبه على خدمة شهرين.. لم يصح؛ لأنه نجم واحد.

[فرع كاتبه على دينار بعد شهر ودينارين بعد شهرين]
) : وإن كاتبه على دينار إلى شهر، ودينارين إلى شهرين، على أنه إذا أدى الدينار الأول، عتق، وإذا أدى الدينارين، فهو حر.. فحكى أبو العباس فيها قولين:
فـ (أحدهما) : من أصحابنا من قال: هذا عقد جمع بين شيئين مختلفي الأحكام؛ لأنها صفقة جمعت كتابة وعتقًا بصفة، فكان فيها قولان، كما لو جمع بين الكتابة والبيع.
و (الثاني) : منهم من قال: فيها قولان مختصان بها:
أحدهما: لا تصح الكتابة؛ لأنه شرط فيها ما ينافيها؛ لأن مقتضى الكتابة أن يعتق بعد أداء جميع مالها، فإذا شرط أن يعتق بأداء بعضه.. لم يصح.
والثاني: يصح؛ لأنه لو كاتبه كتابة مطلقة فأدى بعض مال الكتابة، فأعتقه على أن يؤدي الباقي بعد عتقه.. صح. فإذا شرط ذلك في الابتداء.. وجب أن يصح.

[مسألة كاتب عبدين أو ثلاثة على مائة درهم]
) : وإن كاتب رجل عبدين أو ثلاثة أعبد له بمائة درهم، في نجمين أو أكثر، بعقد واحد.. فنص الشافعي: (أن الكتابة صحيحة، وتقسم المائة بينهم على قدر قيمتهم) .
ونص: (أنه لو تزوج أربع نسوة بعقد واحد على عوض واحد.. صح النكاح، وفي المهر قولان. وإن خالع أربع نسوة بعوض واحد.. صح الخلع، وفي العوض قولان) .

(8/420)


قال أصحابنا: وهكذا القولان في الكتابة:
أحدهما: تصح الكتابة ويقسم العوض المسمى عليهم على قدر قيمتهم. وبه قال مالك وأبو حنيفة؛ لأن جملة العوض معلوم، وإنما يجهل ما يقابل كل واحد منهم، فلم يؤثر، كما لو باع رجل ثلاثة أعبد له من رجل بعوض.
والثاني: لا تصح الكتابة.
قال المحاملي: وهو الأشبه؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين، وعقد الواحد مع الثلاثة بمنزلة ثلاثة عقود.
ولو كاتب كل واحد منهم بعقد منفرد مع الجهل بالعوض.. لكان باطلًا، فكذلك هذا مثله. ويخالف البيع، فإنه إذا باع رجل من رجل ثلاثة أعبد له بعوض واحد.. صح؛ لأنه عقد واحد وصفقة واحدة.
وهكذا: إذا باع ثلاثة أنفس ثلاثة أعبد لهم مشاعة بينهم، من رجل بعقد واحد بثمن واحد.. صح البيع قولًا واحدًا؛ لأن نصيب كل واحد منهم يقع بثلث الثمن مشاعًا.
وهكذا إن باع رجل ثلاثة عبيد له من ثلاثة أنفس بعقد واحد.. صح قولا واحدًا، ويملك كل واحد منهم ثلث العبيد مشاعًا.
وإن باع رجل ثلاثة عبيد له، من ثلاثة أنفس بعقد واحد، من كل واحد عبدًا، بثمن واحد، بأن يقول: بعتك يا زيد هذا العبد، وبعتك يا عمرو هذا الآخر، وبعتك يا خالد هذا الآخر بألف.. ففيه طريقان:
(أحدهما) : قال أبو العباس: في البيع قولان كالكتابة.
و (الثاني) : قال أبو إسحاق وأبو سعيد الإصطخري: يبطل البيع قولًا واحدً، وقد مضى ذكرها في (البيع) .
فإذا قلنا: تصح الكتابة.. قسم المال المسمى على قيمتهم وقت عقد الكتابة.

(8/421)


[مسألة الشريكان في العبد يكاتبانه على قدر نصيبهما]
) : وإن كان عبد بين شريكين.. لم يجز لهما أن يكاتباه إلا على قدر ملكهما، ولا يجوز لهما التفاضل في المال مع تساوي الملكين، ولا التساوي في المال مع تفاضل الملكين.
وقال أبو حنيفة: (يجوز) .
ودليلنا: أن ذلك يؤدي إلى أن ينتفع أحدهما بمال الآخر؛ لأنه إذا دفع إلى أحدهما أكثر من قدر ملكه، ثم عجز.. رجع الآخر عليه بذلك.
وإن فعل أحدهما ذلك بإذن شريكه.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كما لو كاتبه أحدهما دون الآخر بإذن شريكه، وهو ظاهر النص.
ومنهم من قال: لا يصح هذا قولًا واحدًا؛ لأن هاهنا يؤدي إلى أن ينتفع أحدهما بنصيب شريكه، وإذا كاتبه أحدهما بإذن شريكه.. لم يؤد إلى أن ينتفع أحدهما بنصيب شريكه، فافترقا.

[فرع الكتابة على شرط فاسد أو مستقبل]
) : ولا تصح الكتابة إلى شرط فاسد، ولا تعليقها على شرط مستقبل؛ لأنها معاوضة، فلا تصح على شرط فاسد ولا تعليقها على شرط، كالبيع.

[مسألة لزوم الكتابة من جهة السيد]
) : وإذا صحت الكتابة.. لزمت من جهة السيد، فلا يجوز له فسخها قبل عجز المكاتب؛ لأنه أسقط حقه منه بالعوض، فهو كما لو باعه.
ولا تلزم الكتابة من جهة العبد، بل يجوز له أن يمتنع من أداء الكتابة، ولا يجبر على أدائها وإن كان موسرًا بها؛ لأن كل ما لا يجبر على فعله إذا لم يجعل شرطًا في

(8/422)


عتقه، لم يجبر على فعله وإن جعل شرطًُا في عتقه، كالسنن في الصلاة وسائر التطوعات.
وللسيد أن يفسخ الكتابة بنفسه إذا عجز العبد أو امتنع من الأداء، إلا أنه إنما أسقط حقه منه بالعوض، فإذا تعذر العوض.. كان له أن يرجع إلى عين ماله، كما لو باع من رجل عينًا وأفلس المشتري بالثمن.
وهل يجوز للعبد أن يفسخ الكتابة؟ فيه وجهان:
أحدهما: له أن يفسخ؛ لأنه عقد لحظه، فملك فسخه، كالمرتهن.
والثاني: ليس له أن يفسخ، ولم يذكر المحاملي غيره؛ لأنه لا ضرر عليه في البقاء على العقد، ولا فائدة له في الفسخ.
والأول أقيس؛ لأنه يستفيد بالفسخ وجوب نفقته على المولى.
فإن تراضيا على الفسخ وفسخا.. صح؛ لأنه عقد يلحقه الفسخ بحال فجاز لهما فسخه بالتراضي، كالبيع. وفيه احتراز من الخلع.

[فرع موت السيد لا يبطل الكتابة]
) : وإذا مات المولى قبل الأداء ... لم تبطل الكتابة؛ لأنه لازم من جهته، فلم تبطل بموته، كسائر العقود اللازمة.
فإن مات العبد وقد بقي عليه شيء من مال الكتابة ... مات رقيقًا، وكان جميع ما خلفه للمولى، سواء خلف وفاء بما عليه أو لم يخلف.
وقال أبو حنيفة ومالك: (إن خلف وفاء عليه.. لم تنفسخ الكتابة) .
إلا أن أبا حنيفة يقول: (إذا خلف وفاء.. أدى عنه مال الكتابة، وعتق في آخر جزء من أجزاء حياته. وإن لم يخلف وفاء.. حكم الحاكم بعجزه، وانفسخت الكتابة) .

(8/423)


ومالك يقول: (إن كان له ولد حر.. انفسخت الكتابة. وإن كان مملوكًا للمكاتب.. أجبر على دفع المال إن كان له مال، وإن لم يكن له مال.. أجبر على الاكتساب والأداء) .
دليلنا: أنه مات قبل أداء مال الكتابة، فانفسخت الكتابة، كما لو لم يخلف وفاء.
فإن قيل: إذا لم يبق على المكاتب من مال الكتابة إلا قدر يسير بقدر الإيتاء الذي يجب على السيد.. فهلا قلتم إنه يعتق؛ لأنه يجب على السيد الإيتاء؟
قلنا: إنما لم يعتق؛ لأن على السيد أن يفعله، فلا يقع بنفسه، كما لو وصى بأن يعتق عنه عبد، فمات السيد، ثم مات العبد قبل أن يعتق.

[مسألة مكاتبة الذمي عبده الكافر]
) : وإذا كاتب الذمي عبده الكافر.. صحت الكتابة؛ لأن الكتابة تشتمل على معاوضة وصفة، وهما يصحان من الذمي كالمسلم. فإن ترافعا إلى الحاكم.. نظر في الكتابة:
فإن كانت صحيحة في شرعنا.. حكم الحاكم بصحتها، سواء ترافعا إلى الحاكم قبل الإسلام أو بعده.
وإن كانت فاسدة في شرعنا، بأن كاتبه على خمر أو خنزير وما أشبهه، فإن تقابضا في حال الشرك، ثم ترافعا إلى الحاكم قبل الإسلام أو بعده.. لم يتعرض الحاكم لنقضها ولا لصحتها، بل يحكم بعتق العبد بأداء ما وقعت عليه الكتابة؛ لأن ما فعلاه في حال الشرك قد لزم بالقبض.
وإن أقبضه ذلك بعد الإسلام، ثم ترافعا إلى الحاكم.. حكم بعتق العبد بحكم الصفة، وثبت التراجع بينهما، كالكتابة الفاسدة بين المسلمين.
وإن أقبضه بعض العوض في حال الشرك، ثم ترافعا بعد الإسلام.. فإن الحاكم يحكم بفساد هذه الكتابة؛ لأن الكتابة الفاسدة لا يعتق العبد فيها بقبض بعض العوض.

(8/424)


إذا ثبت هذا: فلا فرق بين أن يسلما، أو يسلم أحدهما فيما ذكرناه؛ لأن التغلب لحكم الإسلام.
وقال أبو حنيفة: (إذا كاتبه على خمر ثم أسلم.. لم يبطل العقد، ويؤدي إليه قيمة الخمر) .
دليلنا: أن هذا العقد لو عقداه بخمر أو خنزير.. كان فاسدًا، فإذا أسلم أحدهما قبل التقابض.. حكم بفساده، كالبيع.

[مسألة مكاتبة الحربي عبده]
) : إذا كاتب الحربي عبده.. صحت الكتابة؛ لأن له ملكًا تامًا. وقال مالك: (لا يملك) . وقال أبو حنيفة: (ملكه ناقص؛ لأنه يجوز للمسلم تملكه عليه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} [الأحزاب: 27] (الأحزاب: 27) وهذه إضافة إليهم تقتضي ملكهم.
إذا ثبت هذا: فإن دخلا دار الإسلام مستأمنين.. لم يتعرض الحاكم لهما. فإن ترافعا إليه، فإن كانت كتابة صحيحة.. ألزمهما الحاكم حكمها. وإن كانت فاسدة.. بين لهما فسادها.
فإن جاءا وقد قهر أحدهما الآخر في دار الشرك.. فقد بطلت الكتابة؛ لأن العبد إن قهر سيده.. فقد ملك نفسه، وبطلت الكتابة. وإن قهر السيد العبد على إبطال الكتابة.. فقد عاد رقيقًا؛ لأن دار الكفر دار القهر والإباحة.
ولهذا: لو قهر حر حرًا على نفسه.. ملكه. وإن قهر أحدهما الآخر في دار الإسلام ... لم يصح قهره، وكانا على ما كانا عليه قبل القهر؛ لأن دار الإسلام دار حظر لا يؤثر فيها القهر إلا بالحق.

(8/425)


[فرع مكاتبة المسلم عبده الكافر]
) : وإن كاتب المسلم عبده الكافر.. صح؛ لأن ملكه صحيح عليه، فإذا أدى إليه مال الكتابة.. عتق، وقيل له: إن أسلمت.. فلا كلام، وإن اخترت المقام على الكفر، فإن أردت المقام في دار الإسلام.. فاعقد الذمة والتزم بالجزية إن كنت ممن يجوز له عقد الذمة، وإلا.. فالحق بدار الحرب. فإن اختار الرجوع إلى دار الحرب.. صار حربًا لنا، فإن وقع في الأسر.. كان الإمام مخيرًا فيه بين القتل والمن والفداء.
ولا يجوز استرقاقه؛ لأن في ذلك إبطال ولاء سيده الذي ثبت له عليه بالعتق.

[مسألة مكاتبة المرتد عبده]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لو كاتب المرتد عبده قبل أن يقف الحاكم ماله.. كان جائزًا) .
وقال في (المدبر) : (إذا دبر عبده.. ففيه ثلاثة أقوال: أحدهما: يصح. والثاني: لا يصح. والثالث: أنه موقوف) .
واختلف أصحابنا في الكتابة:
فمنهم من قال: فيها ثلاثة أقوال كالتدبير؛ لأنه عتق بصفة كالتدبير.
ومنهم من قال: في الكتابة قولان:
أحدهما: يصح.
والثاني: لا يصح.
ولا يجيء القول بالوقف؛ لأن الكتابة عقد معارضة، وعقود المعارضات لا تقع موقوفة عندنا.
والأول أصح.

(8/426)


إذا ثبت هذا: فإن أدى المكاتب مال الكتابة إلى سيده المرتد، فإن كان قبل أن يقف الحاكم ماله ويحجر عليه.. ففي صحة الأداء ثلاثة أقوال بناء على الكتابة:
فإن قلنا: إن الكتابة صحيحة.. صح الأداء وعتق العبد.
وإن قلنا: إن الكتابة باطلة.. لم يصح الأداء ولم يعتق العبد؛ لأن عدم الصحة لعدم الملك، وذلك مانع من صحة العتق، فهو كما لو كاتب الصبي عبده.
وإن قلنا: إنها موقوفة.. وقف الأداء. فإن عاد إلى الإسلام صح الأداء وعتق العبد. وإن مات أو قتل على الردة.. لم يصح الأداء ولم يعتق العبد.
وإنٍ كان الأداء بعد أن وقف الحاكم ماله وحجر عليه، فإن قلنا: إن الكتابة صحيحة.. فالأداء غير صحيح لأجل الحجر، فإن كان المال باقيا في يد السيد ... استرجعه منه ورفعه إلى الحاكم وعتق. وإن كان تالفًا.. لم يرجع المكاتب على سيده بشيء؛ لأنه فرط بالدفع إليه، وطالب الحاكم المكاتب بمال الكتابة، فإن أداه.. عتق. وإن عجز.. عاد رقيقًا. فإن أسلم السيد قبل أن يعتق العبد.. احتسب للعبد بما كان دفعه إليه في حال الردة.
فإن قيل: أليس لو دفع إلى المحجور عليه لسفه مالًا فأتلفه، لم يضمن، وإذا زال الحجر، لم يحتسب عليه به؟
قلنا: الفرق بينهما: أن السفيه حجر عليه لحفظ ماله، فلو احتسب عليه بما قبضه في حال الحجر.. سقطت فائدة الحجر، والمرتد حجر عليه لحق المسلمين في ماله، فإذا عاد إلى الإسلام.. سقط حقهم من ماله.
وإن قلنا: إن الكتابة فاسدة.. لم يعتق العبد بالأداء.
وإن قلنا: إن الكتابة موقوفة.. فإن الأداء لا يصح، كما إذا قلنا: إنها صحيحة.
ويسترجعه الحاكم إن كان صحيحًا باقيًا.

(8/427)


[فرع ارتداد العبد وقت مكاتبته]
) : وإن ارتد العبد بمكاتبة سيده.. صحت كتابته؛ لأنه يصح بيعه له وعتقه، ثم ينظر فيه، فإن أسلم.. كان حكمه حكم المكاتب المسلم. وإن لم يسلم.. نظرت:
فإن أدى مال الكتابة.. عتق وطولب بالإسلام، فإن لم يسلم.. قتل، وكان ما بقي في يده فيئًا، كالحر المرتد.
وإن لم يؤد مال الكتابة وقتل أو مات على الردة.. كان ما بيده لسيده؛ لأن بقتله أو بموته انفسخت الكتابة، فكان ما بيده لسيده.
وبالله التوفيق

(8/428)


[باب ما يملكه المكاتب وما لا يملكه]
والمكاتب في البيع والشراء والأخذ بالشفعة وسائر جهات التجارة كالحر؛ لأنه عقد الكتابة ليحصل له العتق، ولا يحصل له إلا بالأداء، ولا يمكنه الأداء إلا بالاكتساب بالبيع والشراء وسائر جهات التجارة.
ويجوز له أن يشتري من سيده، ويبيع منه، ويأخذ منه بالشفعة، كما يجوز ذلك من الأجنبي؛ لأنه صار بعقد الكتابة كالخارج من ملكه، وإنما له مال في ذمته، فهو كرجل له دين عليه.
ويصح إقراره بالبيع والشراء؛ لأنه يصح ذلك منه، فصح إقراره به كالحر.

[مسألة مال المكاتب محجور عليه]
) : والمكاتب محجور عليه في ماله فليس له استهلاكه ولا هبته ولا المحاباة به بغير إذن السيد؛ لأن حق السيد لم ينقطع عنه؛ لأنه قد يعجز فيعود إليه؛ لأن القصد بالكتابة تحصيل العتق بالأداء، فإذا وهب ماله.. أدى إلى فوات المقصود.
وإن وهب المكاتب شيئًا من ماله بإذن سيده.. فنص الشافعي في " الأم " (7/34) و" المختصر ": (أنه يصح) .
وقال الربيع: وفيه قول آخر: (أنه لا يصح) . وقال في " الجامع ": (إذا اختلعت المكاتبة نفسها بعوض بإذن سيدها ... لم يصح الخلع) .
والمكاتبة في بذل العوض كالواهبة؛ لأنها تبذل العوض فيما لا فائدة لها فيه.
واختلف أصحابنا في المسألة على طريقين:
فمنهم من قال: في المسألة قولان:

(8/429)


أحدهما: لا تصح الهبة والخلع. وبه قال أبو حنيفة؛ لأن المكاتب ناقص الملك، والسيد لا يملك ما بيده، فلم يصح ذلك باجتماعهما، كالأخ إذا زوج أخته الصغيرة بإذنها.
والثاني: تصح؛ لأن المال لا يخرج من بين المكاتب والسيد، فإذا اتفقا على هبته.. صح كالراهن والمرتهن في الرهن.
ومنهم من قال: تصح الهبة قولًا واحدًا على ما نص عليه في " الأم " و " المختصر "، وما ذكره الربيع تخريج منه، وما ذكره في الخلع على ظاهره.
والفرق بينهما: أن المكاتب إذا وهب، حصل له الثواب عاجلا في الدنيا أو آجلًا في الآخرة، وليس كذلك بذل العوض في الخلع، فإنه لا يحصل لها فيه ثواب عاجل ولا آجل، بل عليها ضرر في سقوط نفقتها.
والطريق الأول أصح.

[فرع ليس للمكاتب أن يكفر بالمال]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يكفر المكاتب في شيء من الكفارات إلا بالصوم) .
وجملة ذلك: أن المكاتب إذا لزمته كفارة في قتل أو جماع أو ظهار أو يمين.. فلا يجوز له أن يكفر بالمال من غير إذن سيده؛ لأن ملكه غير تام.
وإن أذن له أن يكفر بالمال، فإن إذن له أن يكفر بالعتق.. لم يصح؛ لأنه يتضمن الولاء، ولا يثبت له الولاء. وإن أذن له أن يكفر بالإطعام، فإن قلنا: إن العبد لا يملك المال، لم يصح تكفيره به؛ لأنه لا يملك ذلك المال، فلم يصح التكفير به.
وإن قلنا: إنه يملك المال.. صح تكفيره به؛ لأنه قد ملك ذلك وأذن له السيد بالتكفير به.

(8/430)


[فرع المكاتب لا يبيع نسيئة]
) : وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجوز أن يبيع بدين) .
وجملة ذلك: أنه ممنوع من البيع بالدين المؤجل؛ لأن فيه غررًا وهو ممنوع من التغرير بالمال، وسواء باع بما يساوي أو بأكثر مما يساوي؛ لأن الغرر حاصل بالأجل إلا أن يبيعه بأكثر مما يساوي، فتكون الزيادة على ثمنه مؤجلة؛ لأنه لا تغرير في ذلك.
فإن ابتاع المكاتب بثمن مؤجل.. صح؛ لأن الغرر على البائع دون المكاتب، فإن دفع به رهنًا.. لم يصح الرهن؛ لأن في ذلك تغريرًا بالمال المرهون؛ لأنه أمانة وقد يتلف في يد المرتهن، فيكون من ضمان الراهن.
ويجوز أن يستسلف في ذمته إلى أجل؛ لأن الحظ له في ذلك؛ لأنه يأخذ الثمن فينتفع به إلى أن يحل عليه المسلم فيه.
ولا يجوز أن يرهن بما في ذمته؛ لما ذكرناه.

[فرع المكاتب يأخذ للقراض والقرض ولا عكس]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجوز أن يدفع شيئًا من المال الذي في يده قراضًا؛ لأن فيه غررًا؛ لأنه يخرج المال من يده، فربما يعود إليه وربما لا يعود، ويجوز أن يأخذ المال قراضًا؛ لأنه من أنواع الكسب.
وليس له أن يقرض؛ لأن ذلك تبرع، وله أن يقترض؛ لأنه ينتفع بذلك) .

[فرع لا تصح هبة المكاتب ولو بزيادة منفعة]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يهب بشرط الثواب) .
وجملة ذلك: أنه إذا وهب لغيره شيئًا بشرط الثواب، فإن قلنا: لا يصح ذلك من غيره.. لم يصح من المكاتب.

(8/431)


وإن قلنا: إنه يصح من غير المكاتب، فإن كان ذلك بغير إذن السيد.. لم يصح؛ لأن عوضها متأخر، ولأن المقصود بالهبة الوصلة والمحبة دون الثواب، فيصير كالهبة بغير ثواب. فإن كان ذلك بإذن السيد.. كان على الطريقين في الهبة بغير ثواب.

[فرع شراء المكاتب من يعتق عليه]
) : وليس للمكاتب أن يشتري من يعتق عليه ـ كوالده أو ولده ـ بغير إذن سيده.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (يجوز له شراؤهما ولا يجوز له بيعهما) .
وقال فيمن عداهما ممن يعتق عليه برحم: (يجوز له بيعهم) .
دليلنا: أنه تصرف بما يؤدي إلى إتلاف ماله، فلم يصح منه بغير إذن سيده، كالهبة.
وإن اشترى ذلك بإذن سيده، فإن قلنا: لو وهب لغيره بإذن سيده، صح قولًا واحدًا.. صح هاهنا أيضًا قولًا واحدًا.
وإن قلنا: في الهبة قولان.. فاختلف أصحابنا في هذا:
فمنهم من قال: فيه قولان كالهبة.
وقال أبو إسحاق: يصح قولًا واحدًا؛ لأن الهبة لا منفعة للمكاتب فيها، وهاهنا يحصل له به جمال، ويحصل كسب العبد له وأرش الجناية عليه له.
فإذا قلنا: يصح الشراء.. لم يكن له بيعه، وكان موقوفًا على كتابته، وينفق عليه بحكم الملك دون النسب.
وإن وصى له بوالده أو ولده، فإن كان غير مكتسب.. لم يجز له قبول الوصية فيه بغير إذن سيده؛ لأنه يستضر بوجوب نفقته عليه.
وإن كان مكتسبًا يمكن الإنفاق عليه من كسبه.. جاز له قبول الوصية؛ لأنه يحصل له بذلك جمال ومنفعة من غير ضرر.

(8/432)


فإن كان كسبه وفق نفقته.. فلا كلام. وإن كان كسبه أكثر من نفقته.. كان الفضل للمكاتب. وإن كان أقل من نفقته.. وجب على المكاتب تمام نفقته بحكم الملك، ويكون عتقه موقوفًا على أداء المكاتب.
فإن جنى والد المكاتب أو ولده.. لم يكن له أن يفديه من غير إذن سيده؛ لأن في ذلك إتلافًا لماله. فإن أذن له سيده في ذلك.. فهو كالهبة.

[فرع المكاتب لا يعتق ولا يكاتب]
) : ولا يجوز للمكاتب أن يعتق ولا يكاتب بغير إذن سيده.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يكاتب ولا يعتق) .
دليلنا: أنه لا يجوز له العتق، فلا يجوز له الكتابة، كالعبد المأذون له في التجارة، فإن أذن له سيده في ذلك.. فهو كالهبة.
فإن قلنا: لا تصح كتابته ولا عتقه.. لم يعتق العبد بالأداء.
وإن قلنا: يصح عتقه وكتابته، فأعتق أو كاتب عبدًا، فأدى إليه ما كاتبه عليه قبل أن يؤدي هو كتابته.. ففي ولاء معتقه قولان:
أحدهما: (أنه للسيد) وبه قال أبو حنيفة؛ لأن العتق لا ينفك عن الولاء، والمكاتب ليس من أهل الولاء.
والثاني: أنه يكون موقوفًا على أداء المكاتب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» ، والسيد لم يعتق.
فعلى هذا إن أدى المكاتب المال.. كان ولاء هذا المعتق له. وإن عجز ورق.. كان ولاؤه لسيده. وإن مات هذا المعتق قبل أداء المكاتب.. ففي ماله قولان:
أحدهما: أنه يكون موقوفًا كالولاء.
والثاني: أنه يكون للسيد؛ لأن الولاء يجوز أن يكون لشخص ثم ينتقل عنه، والميراث لا يجوز أن يكون لشخص ثم ينتقل عنه.
والصحيح: أن الميراث موقوف على هذا القول أيضًا.

(8/433)


[فرع بة المكاتب أو محاباته لسيده]
فرع: (هبة المكاتب أو محاباته لسيده) : وإن وهب المكاتب لسيده أو حاباه.. فهل يصح؟ فيه طريقان، كما لو فعل ذلك مع غير السيد بإذن السيد؛ لأن قبوله لذلك كالإذن له في ذلك.
فإن قلنا: يصح.. فلا كلام.
وإن قلنا: لا يصح.. فله أن يسترجع ذلك منه قبل أن يعتق.
فإن لم يسترجع ذلك منه حتى عتق.. فهل يجوز له استرجاعه؟ فيه وجهان:
أحدهما: له أن يسترجعه؛ لأنه وقع فاسدًا، فلا يملكه السيد إلا بعقد آخر.
والثاني: ليس له أن يسترجعه؛ لأنه إنما لم يصح لنقصانه، وقد زال ذلك.

[فرع لا يتزوج المكاتب إلا بإذن سيده]
] : ولا يجوز للمكاتب أن يتزوج بغير إذن سيده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما عبد تزوج بغير إذن سيده.. فهو عاهر» . و (العاهر) : الزاني.
والمكاتب هو عبد قبل الأداء، فإن إذن له سيده في النكاح.. صح قولًا واحدًا؛ للخبر، ولأن الحاجة تدعو إليه.
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، كالهبة. والأول أصح.
ولا يجوز له أن يطأ جاريته بغير إذن سيده؛ لأنه ربما أحبلها فتتلف.
فإن أذن له سيده في ذلك، فإن قلنا: إن العبد لا يملك.. لم يجز له وطؤها.
وإن قلنا: إنه يملك إذا ملك.. فاختلف أصحابنا فيه:

(8/434)


فمنهم من قال: هو كالهبة، وفيه قولان.
ومنهم من قال: يصح قولًا واحدًا، كالنكاح.
وإن أولد منها ولدًا.. كان ابنا له ومملوكًا له، ولا يعتق عليه، بل يكون موقوفًا على عتقه، ويلزمه أن ينفق عليه بحكم الملك لا بحكم النسب.

[فرع سفر المكاتب بالمال]
) : وإن أراد المكاتب أن يسافر بالمال بغير إذن المولى فقد قال الشافعي في موضع: (يجوز) ، وقال في موضع: (لا يجوز) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن في ذلك تغريرًا بالمال.
والثاني: يجوز؛ لأن فيه تنمية المال.
ومنهم من قال: إن كان السفر طويلًا.. لم يجز، وإن كان قصيرًا.. جاز. والأول أصح.

[مسألة حرمة وطء المكاتبة]
) : إذا كاتب الرجل أمة له.. حرم عليه وطؤها؛ لأن ملكه على رقبتها قد ضعف وزال ملكه عن منفعتها. ولهذا لو وطئها غيره بشبهة.. وجب عليه المهر لها.
فإن خالف السيد ووطئها.. فلا حد عليه، سواء علم بالتحريم أو لم يعلم. وبه قال جماعة الفقهاء إلا الحسن البصري، فإنه قال: يجب عليه الحد إذا علم تحريم وطئها.

(8/435)


دليلنا: أن له فيها ملكًا بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» .
ومن وطئ ملكه.. لم يحد.
إذا ثبت هذا: فإن كانا عالمين بالتحريم ... عزرا. وإن كانا جاهلين بالتحريم.. لم يعزرا ونهيا عن العود. وإن كان أحدهما عالمًا والآخر جاهلًا.. عزر العالم، ولم يعزر الجاهل ونهي عن العود.
وأما المهر، فنقل المزني: (أنه إذا أكرهها.. وجب المهر) .
فمن أصحابنا من حمله على ظاهره، وقال: إذا طاوعته على ذلك.. لم يجب لها المهر؛ لأنها بذلت نفسها بغير عوض، فهي كالزانية.
ومنهم من قال: يجب لها المهر، سواء طاوعته أو أكرهها. وهو الصحيح، وقد نص الشافعي على هذا في " الأم " (7/388) لأن الحد يسقط عنها بشبهة الملك، وهذه الشبهة توجب لها المهر؛ لأنها ثابتة في حقها.
وقال مالك: (لا يجب لها المهر؛ لأن بضعها ملكه، ولهذا لا تتزوج إلا بإذنه) .
ودليلنا: أن المكاتبة في يد نفسها ومنافعها لها، ولهذا لو وطئها أجنبي بشبهة.. وجب لها عليه المهر.
إذا ثبت هذا: فإنه لا يجب لها إلا مهر واحد، سواء وطئها مرة واحدة أو وطئها مرارًا، كما قلنا في النكاح الفاسد، إلا أن يطأها ويدفع إليها المهر، ثم يطأها، فيلزمه المهر ثانيًا؛ لأن الوطء الأول قد استقر حكمه.
ويجب لها المهر من غالب نقد البلد، فإن لم يحل عليها نجم.. كان لها المطالبة بما وجب لها عليه من المهر.
وإن حل عليها نجم، فإن كان مال الكتابة من غير جنس نقد البلد.. كان لها المطالبة بالمهر. وإن كان من نقد البلد.. فهل يتقاصان فيما استويا فيه؟ فيه أربعة أقوال يأتي ذكرها.

(8/436)


وإن أذهب بكارتها.. لزمه أرشها، كما لو قطع عضوًا منها.
وإن أحبلها ... صارت مكاتبة له وأم ولد، وقد مضى بيانها.

[فرع كاتب أمة وشرط وطئها]
) : وإن كاتب أمة وشرط في عقد الكتابة أن يطأها.. كان الشرط والعقد فاسدين.
وقال مالك: (يصح العقد، ويبطل الشرط) .
وقال أحمد: (يصح العقد والشرط) .
دليلنا: أنه لا يملك وطئها مع إطلاق العقد، فلا يملكه بالشرط، كما لو زوجها واشترط لنفسه الوطء.

[مسألة لا يطأ الشريكان مكاتبتهما]
) : وإذا كانت أمة بين رجلين نصفين فكاتباها.. لم يحل لواحد منهما وطؤها؛ لأنه لا يحل لواحد منهما وطؤها قبل الكتابة، فلأن لا يحل بعد الكتابة ـ وقد ضعف ملكهما ـ أولى.
فإن خالف أحدهما ووطئها.. فلا حد عليه لشبهة الملك.
فإن كانا عالمين بالتحريم.. عزرًا، وإن كانا جاهلين.. لم يعزرًا، وإن كان أحدهما جاهلًا والآخر عالمًا.. عزر العالم دون الجاهل.
ويلزم الواطئ جميع مهرها للمكاتبة؛ لأنه بمنزلة كسبها، فإن لم يحل عليها نجم من الكتابة.. أخذت منه المهر وتصرفت فيه. وإن كان قد حل عليها نجم وكان مال الكتابة من نقد البلد، فإن كان في يدها ما تدفع إلى سيدها الذي لم يطأها بقدر مهرها.. دفعت إليه مما في يدها، واحتسب على الواطئ بالمهر الذي عليه من النجم الذي حل له عليها. وإن لم يكن بيدها ما تدفعه إلى الذي لم يطأها.. أخذت من الواطئ نصف مهرها، وسلمته إلى الذي لم يطأها، واحتسب على الواطئ بنصفه من النجم الذي حل له.

(8/437)


فإذا أدت ما بقي من مال الكتابة.. عتقت، وإن عجزت.. عادت رقيقة لهما.
فإن كانت قد قبضت من الواطئ مهرها.. فقد برئت ذمته منه؛ لأنها قبضته في وقت تستحق قبضه.
فإذا كان باقيًا في يدها.. أخذ كل واحد منهما نصفه، وإن كان تالفًا.. سقط حكمه فيه؛ لأنها تصرفت في ملكها في حال نفوذ تصرفها.
وإن لم تكن قبضت المهر، فإن كان في يدها شيء من كسبها بقدر مهرها.. دفعته إلى الذي لم يطأها، واحتسب على الواطئ بمهرها عليه من كسبها.
وإن لم يكن في يدها شيء.. رجع سيدها الذي لم يطأها على الواطئ بنصف مهرها، وبرئت ذمته من نصفه.
وإن أحبلها الواطئ.. فالحكم في الحد والتعزير والمهر على ما مضى.
وأما الولد، فإن ادعى الواطئ أنه استبرأها وحلف على أنه استبرأها، وأتت بولد بعد الاستبراء لستة أشهر.. لم يلحقه ولدها، وكان كولدها من زوج أو زنًا على ما يأتي بيانه.
وإن لم يدع الواطئ أنه استبرأها.. صار نصيبه من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له.
فإن كان معسرًا.. لم يسر الإحبال إلى نصيب شريكه من الجارية، كما لو أعتق شركًا له من عبد وهو معسر، وفي الولد وجهان:
(أحدهما) : قال أبو علي بن أبي هريرة: ينعقد جميعه حرًا، ويثبت في ذمة الواطئ نصف قيمته لشريكه؛ لأنه يستحيل أن ينعقد نصفه حرًا ونصفه مملوكًا.
و (الثاني) : قال أبو إسحاق: يكون نصفه حرًا ونصفه مملوكا، كولدها الذي تأتى به من زوج أو زنا على ما يأتي بيانه، وهو الأصح؛ لأنه إذا لم يسر الاستيلاد لإعساره، فكذلك حرية الولد لا تسري لإعساره. وقول الأول يبطل بالمرأة إذا كان نصفها حرًا ونصفها مملوكًا فأتت بولد من زوج أو زنا، فإن نصفه حر ونصفه مملوكًا.
وإن كان الواطئ موسرا.. قوم عليه نصيب شريكه من الجارية، فيصير جميعها أم ولد له ونصفها مكاتبًا له؛ لأن الإحبال كالعتق.

(8/438)


ولو أعتق نصيبه منها وهو موسر.. قوم عليه نصيب شريكه من الجارية، فكذلك إذا أحبلها، فإذا قومت عليه.. انفسخت الكتابة في نصيب الشريك وبقي نصفها مكاتبًا للواطئ، فإن أدت إليه نصف مال الكتابة.. عتق نصفها بالكتابة ويسري العتق إلى باقيها. وإن مات الواطئ قبل الأداء.. عتق جميعها عليه بالاستيلاد. ومتى تقوم عليه؟ فيه طريقان:
(الأول) : قال أبو إسحاق: فيها قولان، كما لو أعتقه:
أحدهما: تقوم في الحال ولا ينتظر العجز، كما لو أحبل جارية بينه وبين شريكه وهي غير مكاتبة، أو أعتقها.
والثاني: لا تقوم عليه إلا بعد العجز؛ لأنه قد ثبت لشريكه فيها حق الولاء بعقد الكتابة، فلا يجوز إبطال ذلك عليه بالتقويم.
و (الطريق الثاني) : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا تقوم إلا بعد عجزها قولًا واحدًا، وإنما القولان إذا أعتقها؛ لأن الحظ يحصل لها بالتقويم بالعتق؛ لأن عتقها يتنجز، والحظ لها هاهنا في أن لا تقوم؛ لأنها ربما أدت مال الكتابة، فتعجل عتقها بالكتابة.
والصحيح هو الأول؛ لأن الإحبال أقوى من العتق، بدليل أنه يصح من المجنون والسفيه، والعتق لا يصح منهما، ولأن الحظ لها بالتقويم بالإحبال أكثر من انتظار عجزها؛ لأنها إذا قومت على الواطئ.. بقي نصفها مكاتبًا للواطئ، فإذا أدت إليه نصف مال الكتابة.. عتق جميعها، وذلك أخف من أن يبقى جميعها مكاتبًا فلا تعتق إلا بأداء جميع مال الكتابة.
وإذا قومت على الواطئ.... سرى الإحبال إلى باقيها. ومتى وقعت السراية؟ فيه ثلاثة أقوال، كالعتق:
أحدهما: في الحال.
والثاني: بدفع القيمة.

(8/439)


والثالث: أنه موقوف، فإن أدى القيمة ... بان أن السراية وقعت بالإحبال. وإن لم يدفع القيمة.. تبينا أن السرية لم تقع.
وأما قيمة نصف الولد، فإن قلنا: إنها تقوم في الحال، وقلنا: إن الإحبال يسري إلى نصيب الشريك في الحال.. لم يلزمه قيمة نصف الولد؛ لأنها تضعه في ملكه.
وإن قلنا: إنها لا تقوم إلا بعد العجز، وقلنا: إن الإحبال لا يسري إلا بعد دفع القيمة، فوضعت الولد قبل العجز أو قبل دفع القيمة.. لزمه نصف قيمة الولد لشريكه؛ لأنه كان من سبيله أن يكون نصفه مملوكًا لشريكه، وقد أتلف رقه عليه.

[فرع كاتبا جارية ثم جامعاها]
) : وإن كاتبا جارية بينهما نصفين، ثم وطئها كل واحد منهما.. فالكلام في التحريم والحد والتعزير على ما مضى، ويجب على كل واحد منهما مهر مثلها.
فإن لم يحل عليها نجم ... كان لها مطالبة كل واحد منهما بالمهر الذي وجب عليه لتتصرف فيه. وإن كان قد حل عليها نجم، وكان مال الكتابة من جنس المهر.. فهل يسقط عن كل واحد منهما قدر ما وجب له عليها مما عليه لها من المهر؟ على الأقوال في المقاصة.
وإن فضل لها فضل عليهما أو على أحدهما من المهر.. طالبته به، وإن عجزت نفسها ... رقت لهما.
فإن كانت قد قبضت المهرين.. فقد برئت ذمتهما، ويقتسمان ما كان في يدها.
وإن كانت لم تقبض المهرين.. برئت ذمة كل واحد منهما من نصف المهر الذي وجب عليه؛ لأن نصفها عاد رقيقًا له فيسقط عنه ما يقابل ملكه منها، ويبقى عليه نصف المهر لأجل حق شريكه.
فإن كان المهران متساويين.. فهل يسقط ذلك عنهما؟ على الأقوال في المقاصة.
وإن كان أحد المهرين أكثر من الآخر: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (بأن يطأها أحدهما وهي بكر، ويطأها الآخر وهي ثيب، أو يطأها أحدهما وهي صحيحة،

(8/440)


ويطأها الآخر وهي مريضة أو معيبة.. تقاصا فيما استويا فيه، ومن بقي له فضل طالب شريكه به، وإن أفضاها أحدهما.. وجب عليه للآخر نصف قيمتها مع المهر. وكذلك إن افتضها أحدهما.. لزمه لشريكه نصف أرش الافتضاض مع المهر.
فإن ادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه أفضاها أو افتضها.. حلف كل واحد منهما لشريكه، وسقط حكم الإفضاء والافتضاض) .
وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، فحلف عليه شريكه.. لزم الناكل نصف قيمتها للإفضاء، ونصف الأرش للافتضاض.
فإن أتت بولد.. نظرت:
فإن ادعيا أنهما استبرآها وحلفا وأتت بولد لستة أشهر بعد الاستبراء.. انتفى الولد عنهما، وكان كالولد الذي تأتي به من زوج أو زنا.
وإن لم يدعيا الاستبراء.. فلا يخلو من أربعة أحوال: إما أن لا يمكن أن يكون من واحد منهما، أو يمكن أن يكون من الواطئ الأول ولا يمكن أن يكون من الثاني، أو يمكن أن يكون من الثاني ولا يمكن أن يكون من الأول، أو يمكن أن يكون من كل واحد منهما.
فإن لم يمكن أن يكون من كل واحد منهما، مثل: أن تأتي به لأكثر من أربع سنين من وطء كل واحد منهما، أو لدون ستة أشهر من وطء كل واحد منهما.. انتفى عنهما، فكان كولدها الذي تأتي به من زوج أو زنا.
وإن أمكن أن يكون من الأول دون الثاني، بأن تأتي به لدون أربع سنين من وطء الأول، أو لستة أشهر فما زاد من وطئه، ولدون ستة أشهر من وطء الثاني.. لحق الولد بالأول. فإن كان معسرًا.. صار نصيبه من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له، ولا يسري الإحبال إلى نصيب شريكه من الجارية. وفي الولد وجهان:
(أحدهما) : على قول أبي علي بن أبي هريرة: ينعقد جميعه حرًا، ويثبت في ذمته نصف قيمته لشريكه.
و (الثاني) : على قول أبي إسحاق: يكون نصفه حرًا ونصفه الآخر كولدها من زوج

(8/441)


أو زنا، وتستحق الجارية على كل واحد منهما جميع مهرها.
وإن كان المحبل موسرًا.. صار نصيبه من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له، ويقوم عليه نصيب شريكه فيها. وهل يقوم عليه في الحال أو بعد العجز؟ على الطريقين في المسألة قبلها.
وهل يلزمه نصف قيمة الولد؟
إن قلنا: يقوم في الحال ويسري الإحبال قبل دفع القيمة.. لم يلزمه نصف قيمة الولد؛ لأنها تضعه في ملكه.
وإن قلنا: لا يقوم إلا بعد العجز، أو قلنا: لا يسري الإحبال إلا بعد دفع القيمة، فإن وضعت بعد العجز والتقويم ودفع القيمة.. لم يلزمه نصف قيمته؛ لأنها وضعته في ملكه. وإن وضعته قبل ذلك.. لزمه نصف قيمته.
ويجب على الواطئ المحبل جميع مهرها؛ لأنه وطئها وجميعها مكاتب، فيكون للجارية نصف المهر لأجل النصف الذي بقي على الكاتبة، ونصف المهر لسيدها الذي لم يحبل؛ لأن نصيبه قد انفسخت الكتابة فيه إما بالتقويم أو بالعجز، وكان ما يخص نصيبه من كسبها له.
وأما ما يجب على الثاني من المهر، فإن قلنا: إن الإحبال يسري في الحال فقد وطئها الثاني ولا ملك له فيها.. فيلزمه جميع المهر، ويكون للأول نصفه لأجل النصف الذي قوم عليه، وصارت أم ولد له. وأما النصف الثاني من المهر، فإن كانت قد عجزت نفسها عن كتابة نصيب الذي استولدها.. كان له أيضًا.
وإن كانت لم تعجز نفسها.. كان للجارية؛ لأنه كسب لنصفها الذي بقي على الكتابة.

(8/442)


وإن قلنا: إن الإحبال لا يسري إلا بدفع القيمة، فإن وطئها قبل دفع القيمة.. سقط عن الثاني نصف مهرها لأجل نصفها الذي له؛ لأنه عاد رقيقا له بالتقويم، وهل يجب عليه نصف مهرها لأجل نصفها الذي هو للمحبل؟
فإن كانت قد عجزت نفسها عن الكتابة.. استحق المحبل نصف مهرها على الثاني. وإن لم تعجز نفسها.. كان ذلك النصف للجارية؛ لأن نصفها باق على الكتابة.
وإن وطئها الثاني بعد أن أخذ نصف قيمتها.. وجب عليه كمال مهرها، فيكون للمحبل نصفه لأجل النصف الذي قوم عليه. وأما النصف الثاني من المهر، فإن كانت قد عجزت نفسها عن أداء كتابة نصفها الباقي.. كان للمحبل أيضًا. وإن لم تعجز نفسها.. كان لها.
وإن أمكن أن يكون الولد من الثاني دون الأول، بأن تأتي به لأكثر من أربع سنين من وطء الأول، ولدون أربع سنين ولستة أشهر فما زاد من وطء الثاني.. لحق الولد بالثاني، وانتفى عن الأول، فصار نصيب الثاني من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له.
وإن كان معسرًا.. لم يسر الإحبال إلى نصيب الأول منهما.
وأما الولد: فعلى قول أبي علي: ينعقد جميعه حرًا، ويثبت في ذمة الثاني نصف قيمته للأول.
وعلى قول أبي إسحاق: يكون نصفه حرًا ونصفه ليس بحر، بل يكون كولدها الذي تأتي به من زوج أو زنا، ويلزم كل واحد منهما جميع المهر لها فتقبضه منهما إن لم يحل عليها نجم، وإن حل عليها نجم.. كان كما لو لم تلد.
وإن كان الثاني موسرًا.. صار نصيبه من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له، ويسري الإحبال إلى نصيب شريكه منها، ويقوم عليه. ومتى يقوم؟ على الطريقين.

(8/443)


والكلام في قيمة الولد كما ذكرناه في التي قبلها.
ويلزم الثاني جميع مهرها: نصفه للمكاتبة لأجل نصفها الذي بقي على الكتابة، ونصفه للواطئ الأول الذي لم يحبلها لأجل نصفها الذي انفسخت فيه الكتابة بالتقويم.
وأما الأول: فإنه يسقط عنه نصف مهرها لأجل نصفها الذي انفسخت فيه الكتابة، وعاد رقيقًا له بالتقويم، ويجب عليه نصف المهر لأجل نصفها الذي للمحبل.
فإن كانت قد عجزت نفسها عن أداء كتابة نصفها الذي للثاني.. كان ذلك النصف من مهرها للثاني. وإن لم تعجز نفسها.. كان ذلك للمكاتبة.
وإن أمكن أن يكون الولد من كل واحد منهما، بأن تأتي به لأكثر من ستة أشهر ولدون أربع سنين من وطء كل واحد منهما.. عرض الولد على القافة، فإن ألحقته بالأول.. لحق به وانتفى عن الثاني، وكان الحكم كما لو أمكن أن يكون من الأول دون الثاني على ما مضى. وإن ألحقته بالثاني.. كان الحكم فيه كما لو أمكن أن يكون من الثاني دون الأول على ما مضى. وإن ألحقته القافة بهما، أو نفته عنهما، أو أشكل عليها أمرهما، أو لم توجد قافة.. يترك الولد حتى يبلغ وينتسب إلى أحدهما، وينفقان عليه، فإذا بلغ، وانتسب إلى أحدهما.. لحق به، وكان الحكم فيه كما لو لحقه بالإمكان، ويلزمه أن يغرم للآخر ما أنفقه على ولده؛ لأنه بان أنه ولده.

[فرع كاتبا أمة ثم وطئاها وأتت بولدين]
) : وإن كانت أمة بينهما نصفين فكاتباها، ثم وطئها كل واحد منهما، وأتت من كل واحد منهما بولد اعترف به واعترفا بالسابق منهما، وأظهرت العجز، وفسخ السيدان الكتابة.. فلا يخلو حالهما: إما أن يكونا موسرين، أو يكون الأول موسرا والثاني معسرا، أو يكون الأول معسرا والثاني موسرا، أو يكونا معسرين.

(8/444)


فإن كانا موسرين.. فإن الأول يجب عليه نصف المهر لشريكه؛ لأنها بانفساخ الكتابة عادت بمعناها قبل الكتابة، فوجب عليه نصف المهر لأجل نصف شريكه، ويسقط عنه نصف المهر لأجل نصفه الذي عاد رقيقًا له، ويكون الولد حرًا، ونصيبه من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له، ويسري الإحبال إلى نصيب شريكه، ومتى يسري الإحبال؟ على الأقوال الثلاثة في وقت سراية العتق.
وأما قيمة نصف الولد: فمبني على القولين في وقت السراية، فإن قلنا: إن السراية تقع في الحال.. لم يجب عليه قيمة نصف الولد؛ لأنها تضعه في ملكه. وإن قلنا: لا تقع السراية إلا بعد دفع القيمة، فإن ولدت قبل دفع القيمة.. فإنه يلزمه نصف قيمة الولد لشريكه. وإن دفع القيمة، ثم ولدت.. لم يلزمه نصف قيمة الولد.
وأما ما يجب على الثاني: فإن قلنا: إن السراية تقع في الحال، فقد وطئها الثاني وأحبلها بعد أن صارت أم ولد للأول.. فيلزم الثاني للأول جميع مهرها، ويكون ولده حرًا للشبهة، ويلزمه جميع قيمته للأول.
وإن قلنا: لا تقع السراية إلا بعد دفع القيمة، وكان وطؤه قبل دفع القيمة.. وجب على الثاني نصف مهرها للأول لأجل نصفه منها، ويسقط عنه نصف مهرها لأجل نصفه الذي انفسخت الكتابة فيه له، ويصير الولد حرًا للشبهة، ويلزمه للأول نصف قيمته، ويسقط عنه النصف، ولا تصير الجارية أم ولد للثاني؛ لأنه قد استحق تقويمها على الأول بحكم الاستيلاد ولا ينفذ استيلاد الثاني فيها، فيتقاصان فيما استويا فيه، ويرجع من له فضل شيء على صاحبه بما بقي له، والحكم في الحد والتعذير على ما مضى.
وإن كان الأول موسرًا والثاني معسرًُا.. فالحكم في الأول على ما مضى.
وأما الثاني: فإن قلنا: إن إحبال الأول يسري في الحال فقد وطئها الثاني وأحبلها بعد أن صارت أم ولد للأول.. فيجب عليه للأول جميع مهرها. قال أبو إسحاق: ويكون الولد مملوكًا للأول.
وقال ابن أبي هريرة: يكون حرًا وتثبت قيمته في ذمة الثاني.
وإن قلنا: إن إحبال الأول لا يسري إلا بعد دفع القيمة فوطئها الثاني قبل دفع

(8/445)


القيمة.. لزم الثاني للأول نصف المهر ويسقط عنه النصف.
وعلى قول أبي إسحاق: يكون نصف ولد الثاني حرًا ونصفه مملوكًا للأول.
وعلى قول أبي علي: يكون جميعه حرًا ويكون في ذمة الثاني نصف قيمته للأول، ولا يصير نصيب الثاني من الجارية أم ولد له؛ لأنه قد استحق تقويمه على الأول.
وإن كان الأول معسرًا والثاني موسرًا.. فإن نصيب الأول من الجارية صار أم ولد له، ولا يسري إلى نصيب الثاني من الجارية. وفي ولد الأول وجهان:
(أحدهما) : قال أبو إسحاق: يكون نصفه حرًا ونصفه مملوكًا للثاني.
و (الثاني) : قال أبو علي بن أبي هريرة: يكون جميعه حرًا، ويثبت في ذمته نصف قيمته للثاني، ويجب على الأول نصف المهر في ذمته للثاني.
وأما الثاني: فيجب عليه للأول نصف مهرها، ويسقط عنه النصف، ويصير نصيبه من الجارية أم ولد له، ولا يسري إلى نصيب الأول من الجارية؛ لأنه قد صار أم ولد للأول.
وأما ولد الثاني: فيكون حرًا وجهًا واحدًا، ويلزمه نصف قيمته للأول.
وإن كانا معسرين.. فعلى كل واحد منهما لصاحبه نصف المهر، ويصير نصيب كل واحد منهما من الجارية أم ولد له، ولا يسري إلى نصيب شريكه.
وأما الولدان: فعلى قول أبي إسحاق: يكون نصف ولد كل واحد منهما حرًا، ونصفه مملوكًا لصاحبه.
وعلى قول أبي علي: يكونان حرين، ويثبت في ذمة كل واحد منهما نصف قيمة ولده لصاحبه. وإن اختلفا في السابق منهما، وكل واحد منهما يقول: أنا الأول.. فلا يخلو: إما أن يكونا موسرين، أو معسرين، أو أحدهما موسرًا والآخر معسرًا.
فإن كانا موسرين، فكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف قيمة الجارية؛ لأنه يقول: أن أحبلتها أولا، ويسري الإحبال إلى نصيبك، ويقر له بنصف المهر؛ لأنه

(8/446)


يقر أنه وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره، ويقر له بنصف قيمة الولد على القول الذي يقول: إن السراية لا تقع إلا بدفع القيمة.
وعلى القول الذي يقول: إن السراية تقع في الحال.. يقول: لا شيء علي من قيمة الولد، ويدعي كل واحد منهما على صاحبه بجميع المهر وجميع قيمة الولد في أحد القولين ـ وهو إذا قلنا: إن السراية تقع في الحال ـ وبنصف المهر ونصف قيمة الولد في القول الآخر ـ وهو إذا قلنا: إن السراية لا تقع إلا بعد دفع القيمة ـ فيسقط إقرار كل واحد منهما لصاحبه بنصف قيمة الجارية؛ لأن كل واحد منهما يكذب إقرار صاحبه له بذلك.
وأما المهر: فكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصفه والمقر له يدعي جميعه في أحد القولين، وهو إذا قلنا: إن السراية تقع في الحال، فيجب على كل واحد منهما لصاحبه نصف المهر الذي اتفقا عليه، ويحلف كل واحد منهما لصاحبه على النصف الذي يدعيه وينكره صاحبه.
وأما على القول الذي يقول: لا يسري الإحبال إلا بدفع القيمة.. فإن كل واحد منهما لا يدعي على صاحبه إلا نصف المهر، فكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف المهر، فلا يمين على أحدهما للآخر؛ لأن كل واحد منهما يقر لصاحبه بما يدعيه عليه.
وأما قيمة الولدين: فإن كل واحد منهما يحلف لصاحبه بما يدعيه عليه من ذلك؛ لأنا إذا قلنا: إن الإحبال يسري في الحال.. فإن كل واحد منهما يقول: أنا أحبلتها أولًا ويسري إحبالي، ووضعته في ملكي، فلا يلزمني قيمة ولدي، وأنت أحبلتها بعدى وقد صارت أم لولدي، فيلزمك جميع قيمة ولدك، فيحلف كل واحد منهما لصاحبه ـ على هذا ـ أنه لا يستحق جميع قيمة الولد التي يدعيها ولا بعضها.

(8/447)


وعلى هذا القول الذي يقول: إن الإحبال لا يسري إلا بدفع القيمة.. فكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف قيمة ولده ويدعي على صاحبه بنصف قيمة ولده، فإن كانت قيمة الولدين متساوية، وقلنا: يسقط ما على أحدهما بمثل ما له على الآخر.. فلا يمين على أحدهما. وإن كانت قيمة أحدهما أكثر.. حلف من كثرت قيمة ولده؛ لأن الأصل براءة ذمة كل واحد منهما مما يدعيه الآخر.
إذا ثبت هذا: فإن هذه الجارية توقف ولا تصير أم ولد لواحد منهما؛ لأن قول أحدهما ليس بأولى من قول الآخر. ويؤخذان بنفقتهما، فِإن مات أحدهما.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أكثر أصحابنا، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه لا يعتق شيء من الجارية لاحتمال ِأن تكون أم ولد للثاني منهما خاصة، ولا يقع العتق بالشك.
والثاني ـ حكاه ابن الصباغ عن أبي علي بن أبي هريرة، وأبي علي الطبري، واختاره القاضي أبو الطيب ـ: أنه يعتق نصفها؛ لأن الميت كان قد أقر بأن نصفها أم ولد له وهي في يده، فلزم ذلك في حق ورثته. ويكون ولاء هذا النصف موقوفًا، بخلاف العتق؛ لأنه يبنى على التغليب والسراية.
وإن ماتا جميعًا.. حكم بعتقها بلا خلاف؛ لأن موت سيدها الذي صارت أم ولد له منهما متيقن، ويكون ولاؤها موقوفًا إلى أن يتبين الحال.
فإن ماتت الجارية بعد ذلك، فإن كان لها وارث من جهة النسب يحوز ميراثها.. ورثها ولا كلام. وإن كان وارثها هو مولاها.. وقف ميراثها إلى أن يصطلح عليه ورثة السيدين.
وإن كانا معسرين.. فكل واحد منهما يقر أن نصيبه من الجارية أم ولد له والآخر يصدقه؛ لأن الاستيلاد مع الإعسار لا يسري، وكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف

(8/448)


المهر ويصدقه المقر له على ذلك، فإن كانا سواء.. تقاصًا، ولا يمين بينهما، وإن كان على أحدهما فضل.. دفع الفضل لصاحبه.
وأما الولدان: فعلى قول أبي إسحاق: نصف ولد كل واحد منهما حر، ونصفه الآخر مملوك لصاحبه.
وعلى قول أبي علي: الولدان حران، وعلى كل واحد منهما لصاحبه نصف قيمة ولده، فيتقاصان فيما استويا، ويتراجعان في الفضل، ولا يمين هاهنا.
فإن مات أحدهما.. عتق نصف الجارية، ويكون ولاؤه لورثته.
ونقل الربيع في " الأم " (انظر: 7/412) : أنهما إذا ماتا.. كان الولاء موقوفًا، سواء كانا موسرين أو معسرين) .
فمن أصحابنا من قال: هذا خطأ في النقل؛ لأن الولاء إنما يوقف إذا كانا موسرين، فأما إذا كانا معسرين.. فلا يوقف، كما بيناه.
ومنهم من اعتذر له، وقال: أراد به إذا كانا معسرين حال الموت، وقد كانا موسرين حال الإحبال.
وأما إذا كان أحدهما موسرًا والآخر معسرًا.. فإن الموسر يقر للمعسر بنصف قيمة الجارية ونصف مهرها. ويقر له بنصف قيمة الولد إذا قلنا: لا يسري الإحبال إلا بدفع القيمة. ولا يقر بشيء من قيمة الولد إذا قلنا: يسري الإحبال في الحال. ويدعي على المقر بجميع المهر إذا قلنا: يسري الإحبال في الحال. ويملك الولد على قول أبي إسحاق، وبقيمته على قول أبي علي بن أبي هريرة وعلى هذا القول. ولا يدعي إلا بنصف المهر إذا قلنا: لا يسري الإحبال إلا بدفع القيمة. وفي الولد على هذا القول وجهان. فالمعسر يقول: أنا وطئت أولًا، فعلي نصف المهر، ونصيبي من الجارية أم ولد لي، وفي ولدي وجهان. وأنت أيها الموسر وطئتها بعدي، فعليك لي نصف المهر ونصيبك أم ولدك وولدك حر وعليك لي نصف قيمته، فيسقط إقرار الموسر بنصف قيمة الجارية للمعسر؛ لأنه يكذبه في ذلك، وكل واحد منهما مقر لصاحبه بنصف المهر، ويصادقه المقر له به فيتقاصان فيما استويا فيه من ذلك، ويحلف

(8/449)


المعسر للموسر عن النصف الباقي من المهر؛ لأنه قد يدعي عليه جميع المهر ـ في أحد القولين ـ والمعسر لا يقر له إلا بالنصف.
وأما ولد المعسر: فقد تصادقا على ملك نصفه للموسر في أحد الوجهين ونصف قيمته في الآخر، فلا يمين على المعسر في ذلك، إلا أن الموسر يدعي ملك جميعه أو جميع قيمته في أحد القولين، فيحلف المعسر له على ذلك.
وأما ولد الموسر: فإن قلنا: إن الإحبال لا يسري إلا بعد دفع القيمة.. لزمه أن يدفع نصف قيمة ولده إلى المعسر؛ لأنه يقر له بذلك وهو يدعيه.
وإن قلنا: إن الإحبال يسري في الحال.. فإنه لا يقر له بشيء من قيمة الولد، والمعسر يدعي عليه بقيمة نصفه، فيحلف الموسر له على ذلك.
وأما الجارية: فإن نصيب الموسر فيها أم ولد له بلا منازعة، فيكون كسبه له ونفقته عليه. وأما نصيب المعسر منها: فإنهما يتنازعان فيه، فيكون نفقته عليهما وكسبه لهما.
فإن مات الموسر.. عتق نصيبه وولاؤه لورثته. فإن مات المعسر أولًا.. لم يعتق نصيبه قبل موت الموسر؛ لأنهما يتنازعان فيه. وإن ماتا.. عتقت الجارية، وكان ولاء نصيب الموسر لورثته؛ لأنهم لا ينازعهم غيرهم فيه.
وأما ولاء نصيب المعسر: فإنه يكون موقوفًا بين ورثة الموسر وورثة المعسر. ونقل المزني في هذه المسألة: (أنهما إذا ماتا.. كان الولاء موقوفًا) .
قال أصحابنا: أراد بذلك ولاء نصيب المعسر دون نصيب الموسر لما بيناه.

[مسألة لا يتبع ولد المكاتبة أمه]
) : إذا كاتب أمة ثم حملت بعد الكتابة بولد من زوج أو زنا.. فإن الولد يكون مملوكًا ولا يتبع الأم في الكتابة.
وقال أبو حنيفة: (يتبع الأم في الكتابة) .
دليلنا: أن الكتابة عقد يفتقر إلى القبول، فلم يتبع الولد فيه الأم، كالبيع. وفيه احتراز من التدبير.

(8/450)


إذا ثبت هذا: فما حكم الولد؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه مملوك للمولى، وهو الأصح؛ لأنه عقد يلحقه الفسخ، فلم يسر حكمه إلى الولد، كالرهن.
فعلى هذا: يكون كسبه للمولى، وله أن يتصرف فيه بسائر التصرفات التي يتصرف بها في سائر عبيده من البيع والاستخدام والوطء.
والثاني: أنه موقوف على حكم الأم، فإن رقت الأم.. رق معها. وإن عتقت.. عتق؛ لأن الكتابة سبب يستحق به العتق، فتبع الولد الأم في ذلك، كالاستيلاد.
فإذا قلنا بهذا: فالكلام في قيمته إذا قتل، وفي كسبه، وفي نفقته، وفي عتقه.
فأما قيمته: فإنه إذا قتل.. وجبت قيمته على القاتل؛ لأنه مملوك يضمن بالقيمة، ولمن تكون هذه القيمة؟ فيه قولان:
أحدهما: أنها للمولى؛ لأنه تابع لأمه، ولو قتلت أمه.. لكانت قيمتها لمولاها، فكذلك قيمة ولدها.
والثاني: أنها تصرف إلى المكاتبة لتستعين بها على كتابتها؛ لأن السيد كان لا يستحق التصرف في رقبته مع كونه قنًا، فلا يستحق قيمته، فإذا لم يستحقها السيد.. كانت للأم؛ لأنه لا فائدة في إيقاف القيمة.
وأما كسبه: فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه على قولين:
(أحدهما: أنه للمكاتبة، تستعين به على كتابتها؛ لأن الولد تابع لها وجزء منها.
والثاني: أنه يكون موقوفًا كالولد، فإن رقت الأم.. رق الولد، وكان الكسب للسيد. وإن عتقت الأم.. عتق الولد وكان كسبه له؛ لأنه لما كانت ذاته موقوفة.. وجب أن يكون كسبه موقوفًا) .
ومن أصحابنا من خرج في الكسب قولًا ثالثًا: أنه يكون للسيد؛ لأن كسب ولد أم الولد للسيد، فكذلك كسب ولد المكاتبة.

(8/451)


ومنهم من قال: هي على القولين الأولين المنصوص عليهما.
والفرق بين ولد أم الولد المكاتبة أن كسب أم الولد للسيد، فكان كسب ولدها له، وكسب المكاتبة لا يملكه السيد، فلم يكن له كسب ولدها.
قال ابن الصباغ: وإن جني على أعضاء هذا الولد.. وجب الأرش على الجاني، وكان ككسب الولد على ما ذكرناه.
وإن قلنا: إن الكسب موقوف فمات الولد قبل عتق الأم أو عجزها.. كان كسبه كقيمته إذا قتل، على ما مضى من القولين.
وإن أشرفت الأم على العجز، وقلنا: إن كسب الولد موقوف.. فهل للأم أن تأخذه لتؤديه للمولى فتعتق به؟ فيه قولان:
أحدهما: لها ذلك؛ لأن في ذلك حظًا للولد؛ لأنها إذا عتقت.. عتق الولد.
والثاني: ليس لها أن تأخذه؛ لأن الكسب ليس بمملوك لها، وإنما هو موقوف على السيد أو الولد.
وأما نفقه الولد: فإن قلنا: إن كسبه للسيد.. كانت نفقته عليه.
وإن قلنا: إن كسبه موقوف.. كانت نفقته في كسبه. وإن لم يف كسبه بنفقته.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب تمامها على السيد؛ لأن المغلب في ذلك حظه؛ لأنه موقوف عليه ليتملكه.
والثاني: يجب تمامها في بيت المال؛ لأن السيد لا يملكه، فلا يلزمه الإنفاق عليه، فيكون محتاجًا ليس له من ينفق عليه، فوجبت نفقته في ببيت المال.
وأما عتقه: فإن السيد إذا أعتق هذا الولد قبل عجز الأم أو عتقها، فإن قلنا: إن كسبه وقيمته للسيد، أو قلنا: إنه موقوف وليس لها أن تستعين به إذا عجزت.. نفذ

(8/452)


عتقه؛ لأنه ليس في ذلك إضرار بغيره. وإن قلنا: إن كسبه وقيمته للأم.. لم ينفذ عتقه؛ لأن في ذلك إسقاط حقها من الكسب والقيمة.

[فرع ولد المكاتبة جارية]
) : وإن كان ولد المكاتبة جارية، قلنا: إن ولد المكاتبة موقوف.. فلا يجوز للسيد وطؤها، كما لا يجوز له وطء أمها، فإن خالف ووطئها.. فلا حد عليه، كما لو وطئ أمها.
فإن كانا عالمين بالتحريم.. عزرًا. وإن كانا جاهلين.. لم يعزرًا.
وإن كان أحدهما عالمًا والآخر جاهلًا.. عزر العالم منهما دون الجاهل. وأما المهر: فإن قلنا: إن الكسب للسيد.. فلا مهر عليه.
وإن قلنا: إن الكسب للأم.. وجب عليه المهر للمكاتبة.
وإن قلنا: إنه موقوف.. أخذ منه المهر ووقف.
وإن افتضها أو أفضاها.. كان أرش الافتضاض وقيمتها للإفضاء ككسبها على ما مضى.
وإن أحبلها.. كان ولده منها حرًا، ويلحقه نسبه، وتصير أم ولد له؛ لأنها حملت منه بحر في ملكه.
وأما قيمتها: فقال أكثر أصحابنا: لا يجب عليه قيمتها؛ لأن القيمة تجب لمن يملكها، والأم لا تملكها.
وقال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون في قيمتها قولان هاهنا، كما لو أتلفت. ولا يجب عليه قيمة ولدها؛ لأنها تضعه في ملكه.
وإن كان للمكاتبة أمة.. لم يجز للسيد وطؤها؛ لأنها ملك للمكاتبة.
فإن خالف ووطئها.. فلا حد عليه لشبهة الملك؛ لأنه يملك مالكها، ويجب عليه المهر، ويدفعه إلى المكاتبة؛ لأن كسب جاريتها لها.

(8/453)


وإن أحبلها.. صار ولده منها حرًا، ولحقه نسبه، وصارت أم ولد له، ويجب عليه قيمتها للمكاتبة، ولا يجب عليه لها قيمة ولدها؛ لأنها تضعه في ملكه.

[فرع ولد ولد المكاتبة]
) : وأما ولد ولد المكاتبة: فإن الشافعي قال: (وولد البنات كالبنات، وولد البنين كالأمهات) يريد: أن ولد بنت المكاتبة حكمه حكم أمه، وولد ابن المكاتبة حكمه حكم أمه دون أبيه.
وقال أبو يوسف ومحمد: ولد البنت يكون داخلًا في كتابة جدته.
وقال أبو حنيفة: (يدخل في كتابة أمه دون جدته) .
ودليلنا: أن الولد من كسب أمه، والأم تابعة للمكاتبة، فكذلك ولدها، كسائر أكسابها. ونحن نريد بذلك في حكم الكتابة لا في الكتابة.

[مسألة حبس المكاتب ومنعه عن التصرف]
) : وإذا كاتب الرجل عبدا له على مال معلوم إلى أجل، ثم إن السيد حبس المكاتب ومنعه عن التصرف مدة.. ففيه قولان منصوصان في " الأم ":
(أحدهما: يلزمه أن يخليه مثل تلك المدة التي حبسه فيها ليكتسب فيها؛ لأنه دخل معه في عقد على أن يمكنه من التصرف تلك المدة التي شرطها، فلزمه الوفاء بذلك) .
والثاني: يلزمه أجرة مثله في مثل تلك المدة التي شرطها، فلزمه الوفاء بذلك.
وهو الأصح؛ لأن المنافع تضمن بالأجرة ولا تضمن بالمثل، فهو كما لو غصب من رجل مالًا: دارًا أو عبدًا.

[فرع أخذ الأعداء المكاتب لا يمنع الملك]
) : وإن كاتب مسلم عبدًا له، ثم ظهر المشركون على الدار وأخذوا المكاتب..فإنهم لا يملكونه بالأخذ.

(8/454)


فإن حبسوه مدة، ثم خلص من أيديهم.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يلزم السيد أن يخليه مثل تلك المدة التي حبسه المشركون فيها.
والثاني: لا يلزمه تخليته؛ لما ذكرناه في التي قبلها. فأما الأجرة: فإنها لا تجب على السيد؛ لأنه لم يحبسه بنفسه.
ومنهم من قال: لا يلزمه تخليته للاكتساب هاهنا قولًا واحدًا.
والفرق بين هذه والتي قبلها: أن السيد هناك حبس المكاتب وهاهنا لم يحبسه، ولا له في حبسه فعل.
فإن قلنا: لا يلزمه تخليته، فإن لم يحل عليه نجم.. فليس له مطالبته. وإن كان قد حل عليه نجم، فإن كان معه مال وأداه.. عتق. وإن لم يكن معه مال.. فللسيد أن يعجزه ويفسخ الكتابة.
وإن قلنا: يلزمه تخليته، ففعل، واكتسب مالًا وأداه.. عتق.
وإن انقضت المدة ولا مال معه.. فللسيد أن يفسخ الكتابة.

[مسألة إيتاء السيد شيئًا للمكاتب]
) : قال الشافعي: (ويجبر السيد على أن يضع من كتابته شيئًا) . وجملة ذلك: أن الإيتاء في الكتابة واجب عندنا، وهو: أن يحط عنه السيد شيئًا من مال الكتابة، أو يدفع إليه ما يستعين به في أداء مال الكتابة. وبه قال أحمد.

(8/455)


وقال مالك وأبو حنيفة: (الإيتاء مستحب غير واجب) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] (النور: 33) وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال في هذه الآية: (ضعوا عنه ربع مال الكتابة) .
وعن ابن عباس في هذه الآية: أنه قال: (ضعوا عنهم من مكاتبتهم شيئًا) .
وعن ابن عمر: (أنه كاتب عبدا له بخمسة وثلاثين ألفًا، فأخذ منه ثلاثين ألفًا، وترك خمسة آلاف) .
إذا ثبت هذا: فالكلام في الإيتاء في أربعة مواضع:

(8/456)


أحدها: في وقت جوازه.
والثاني: في وقت وجوبه.
والثالث: في قدره.
والرابع في جنسه.
فأما وقت جوازه: فمن بعد عقد الكتابة إلى حين أداء مال الكتابة؛ لعموم الآية، ولأن القصد إعانته على الأداء، وذلك يحصل كل وقت من هذه الأوقات.
وأما وقت وجوبه: ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب إلا بعد؛ لأنه مشبه بالمتعة في الطلاق، والمتعة لا تجب إلا بعد الطلاق.
والثاني ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه يتعين وجوبه إذا أدى أكثر مال الكتبابة وبقي عليه قدر الإيتاء؛ لأنه إذا آتاه وقد بقي عليه أكثر من قدر الإيتاء ربما عجز نفسه بعد ذلك، فلا يحصل المقصود بالإيتاء. وأما قدره: ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ أن الإيتاء يختلف باختلاف مال الكتابة، فإن كثر مال الكتابة.. كثر الإيتاء. وإن قل مال الكتابة.. قل الإيتاء.
هكذا حكاه الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق عن أبي إسحاق، وحكاه ابن الصباغ عنه: أن الإيتاء يختلف بيسار المكاتب وإعساره.
فإن تراضيا على قدر الإيتاء.. فلا كلام، وإلا.. رفعاه إلى الحاكم؛ ليقدره باجتهاده، كما قلنا في المتعة.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه يجزئ السيد من ذلك ما يقع عليه الاسم من قليل أو كثير) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] (النور: 33) وهذا عموم يقع على القليل والكثير.

(8/457)


وأما جنسه: فإن حط عنه بعض مال الكتابة.. أجزأه. وإن أخذ منه مال الكتابة ثم دفع إليه بعض ما أخذ منه.. جاز؛ لأن الله أمر بالإيتاء، وحقيقة الإيتاء تقع على الدفع، والحط أولى من الدفع؛ لأن فيه معنى الإيتاء وزيادة، ولأنه أنفع له من الدفع؛ لأنه لم يتكلف المشقة في تحصيله، ولأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فسروا الإيتاء بالحط على ما تقدم.
فإن كاتبه على دراهم فأعطاه السيد دنانير، أو كاتبه على دنانير فأعطاه السيد دراهم.. لم يجبر العبد على قبوله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] وهذا آتاه من غير المال الذي آتاه.
وإن كاتبه على دراهم فأعطاه السيد دراهم من غير المال الذي أعطاه المكتاب.. فهل يلزم العبد المكاتب قبولها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه قبولها، كما لو أخرج الزكاة من غير المال الذي وجبت فيه الزكاة، إلا أنه من جنسه.
والثاني: لا يلزم قبوله، وهو المذهب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] وفسرته الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: بحط بعض مال الكتابة، فدل على أن الإيتاء يختص بنفس مال الكتابة.

[فرع أداء مال الكتابة قبل حلول الأجل]
) : وإن أدى المكاتب جميع مال الكتابة قبل الإيتاء.. عتق ولزم المولى إن يدفع إليه؛ لأن لكل واحد منهما على صاحبه حقًا، فلا يسقط حقه بأداء ما عليه، كما لو كان لكل واحد منهما على الآخر دين فقضى أحدهما صاحبه دينه.
وإن مات المولى قبل الإيتاء.. لم يسقط الإيتاء؛ لأنه حق واجب لآدمي، فلم يسقط بموته، كالدين.
فإن كان ماله يفي يدين ـ إن كان عليه ـ وبالإيتاء.. استوفي ذلك من تركته.
وإن كان عليه دين وأوصى بوصايا، فإن كان ماله يفي بالدين والوصايا والإيتاء.

(8/458)


استوفي ذلك كله من تركته. وإن كان ماله لا يفي بذلك كله.. فنقل المزني: (أن المكاتب يحاص أهل الدين والوصايا) واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من ذهب إلى ظاهر ما نقله المزني، وأن المكاتب يحاص أصحاب الوصايا؛ لأن الإيتاء غير مقدر وضعف أمره وإن كان واجبًا، فساوى أصحاب الوصايا.
ومنهم من قال: يقال الإيتاء على الوصايا، وهو الصحيح؛ لأنه دين، والدين مقدم على الوصايا. تأولوا ما نقله المزني ثلاث تأويلات:
أحدهما: أنه أراد أن الإيتاء مقدم على الميراث، كما يقدم الدين والوصايا عليه؛ لأنه أراد أن الإيتاء يسوي بينه وبين الوصايا.
والثاني: أنه أراد بذلك إذا كان قد ثبت عليه دين بالبينة ودين بالوصية، فإن المكاتب يساوي أصحاب الدين الذين ثبت دينهم بالوصية، كما يساوي أصحاب الدين الذين ثبت دينهم بالبينة.
والثالث: أنه أراد بذلك: إذا كان قد أوصى للمكاتب بزيادة على قدر الواجب له من الإيتاء.. فإنه يحاص بالقدر الواجب من غير الوصية أهل الدين، ويحاص بما زاد عليه أهل الوصايا؛ لأنه وجب له بالوصية.

[فرع قول السيد رقيقي أحرار]
) : إذا قال: مماليكي، أو رقيقي أحرار.. عتق كل عبد له ومدبر وأم ولد.
وإن كان له مكاتب.. فنقل المزني: (أنه لا يعتق) .
وقال الربيع: سماعي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه يعتق) .
فمن أصحابنا من قال: لا يعتق قولا واحدا، وما قاله الربيع من تخريجه.
ومنهم من قال: فيه قولان؛ لأنه أخبر أنه سماعه: أحدهما: أنه يعتق عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» ، ولأنه مملوك، فكان مملوكا لسيده.

(8/459)


والثاني: لا يعتق؛ لأنه كالخارج عن ملك سيده، فلا يتصرف في رقبته ولا في منفعته، ولا يستحق كل واحد منهما حقا على صاحبه، فلم يدخل في اسم ممالكيه ولا رقيقه، كالحر. ومن قال بهذا.. قال: المكاتب مملوك لا مالك له، كستارة الكعبة.
ومن أصحابنا من يقول: هو مملوك لنفسه ولا يعتق عليه؛ لأنه لم يكمل ملكه، كما إذا اشترى عبدا.. فإنه يملكه ولا ينفذ عتقه فيه.
وبالله التوفيق

(8/460)


[باب الأداء والعجز]
ولا يعتق المكاتب ولا شيء منه بالكتابة حتى يؤدي جميع مال الكتابة، وبه قال عمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وعائشة، وأم سلمة، وابن المسيب، والحسن البصري، والزهري، ومالك، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال ابن مسعود: (إذا أدى قدر قيمته.. عتق، وكان زعيما بالباقي بعد عتقه) .
وروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روايتان:
إحداهما: (أنه إذا أدى نصف ما عليه.. عتق كله، وطولب بالباقي) .
والثانية: (أنه يعتق منه بقدر ما يؤدي)
وقال ابن سريج: إذا أدى ثلث ما عليه.. عتق كله وأدى الباقي في حال حريته.
ودليلنا: ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم من مكاتبته» .

(8/461)


ولأنه علق عتقه على دفع مال، فلم يعتق قبل أداء جميعه، كما لو قال لعبده: إن أديت إلي ألفا.. فأنت حر.

[مسألة إبراء أحد المكاتبين]
) : وإن كاتب رجلان عبدا بينهما كتابة صحيحة، ثم أبرأه أحدهما مما عليه، أو أعتق نصيبه منه.. عتق عليه، كما لو كاتب عبدا فأبرأه من مال الكتابة أو أعتقه. وهل يقوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا؟
قال الشيخ أبو حامد: يقوم عليه قولا واحدا، كغير المكاتب.
وقال الشيخ أبو إسحاق: يجب أن يكون التقويم على قولين، كما قلنا في الشريكين إذا دبرا عبدا بينهما، ثم أعتق أحدهما نصيبه.
فإذا قلنا: يقوم عليه.. فمتى يقوم عليه؟ فيه قولان:
أحدهما: يقوم عليه في الحال؛ لأن التقويم لحظ العبد، والحظ له التقويم في الحال لتتعجل له الحرية، فتقوم في الحال، كغير المكاتب.
والثاني: يؤخر التقويم إلى أن يعجز العبد؛ لأن التقويم في الحال يسقط ما ثبت للآخر من ولاء نصفه، فتأخر التقويم.
فعلى هذا: إن أدى ما بقي عليه من المال الكتابة.. عتق نصيب السيد الذي لم يعتق عليه، وكان الولاء بينهما. وإن عجز.. قوم نصيب الشريك الذي لم يعتق على المعتق، وعتق عليه، وكان له ولاء جميعه.

[فرع لا تنفسخ الكتابة بموت السيد]
) : وإن كاتب رجل عبدا، ومات السيد قبل الأداء وخلف ابنين فإن الكتابة لا تنفسخ بموت السيد؛ لأنها لازمة من جهته. فإن أدى مال الكتابة إليهما.. عتق؛ لأنهما قائمان مقام الأب فيعتق بالأداء إليهما، كما يعتق بالأداء إلى الأب. ويكون الولاء لأبيهما؛ لأنه عتق بسبب منه وينتقل إليهما، فإن عجز فسخا الكتابة وعاد

(8/462)


رقيقا لهما. وإن أراد أن يؤدي مال الكتابة إلى أحدهما دون الآخر.. لم يجز؛ لأن الحق لهما، فلا يجوز أن يفرد أحدهما بالأداء.
فإن خالف وأدى مال الكتابة إلى أحدهما.. فهل يعتق نصيبه؟
قال ابن الصباغ: فيه قولان.
وإن أعتق أحدهما نصيبه منه، أو أبرأه مما له عليه.. برئ مما له عليه، وعتق نصيبه منه. وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يعتق إلا بأداء جميع مال الكتابة) .
دليلنا: أنه أبرأه من جميع ما له عليه، فعتق نصيبه منه، كما لو كاتب عبدا له وأبرأه من مال الكتابة.
وهل يقوم عليه نصيب أخيه إن كان موسرا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يقوم عليه؛ لأنه إذا أبرأه.. عتق بحكم الكتابة، والكتابة إنما كانت من الميت، بدليل أن الولاء له فيه، فلا يجوز أن يقوم على الابن.
والثاني: يقوم عليه نصيب أخيه، وهو الأصح؛ لأن الحرية تعجلت له بإعتاق الابن أو إبرائه، فقوم عليه، كما لو كان عبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه فيه وهو موسر.
وما ذكره الأول لا يدل على عدم التقويم؛ لأنه قد يقع العتق والولاء لشخص ويكون التقويم على غيره، ألا ترى أن رجلا لو قال لأحد الشريكين في العبد: أعتق نصيبك عني على ألف، فأعتقه عنه.. فإنه يعتق عن السائل نصيب المعتق، ويكون الولاء له به، ويسري فيه العتق إلى نصيب الشريك، ويجب تقويمه على الشريك المباشر للعتق؟
فإذا قلنا: لا يقوم عليه.. عتق نصيب المعتق وبقي نصيب أخيه على الكتابة، فإن أدى إليه ما يخصه من مال الكتابة.. عتق، وكان ولاء جميعه للميت، وينتقل إلى عصباته. وإن عجز.. كان للأخ الذي لم يعتق فسخ الكتابة في نصفه، فيعود رقيقا له ويكون نصفه حرا، ولمن يكون ولاء ذلك النصف؟ فيه وجهان:

(8/463)


أحدهما: يكون بين الاثنين نصفين؛ لأنه عتق بالكتابة على الأب، فانتقل إليهما.
والثاني: يكون للابن الذي أعتقه أو أبرأه؛ لأنه الذي يجر العتق له.
وإذا قلنا: إنه يقوم عليه نصيب أخيه.. فمتى يقوم عليه؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: فيه قولان:
أحدهما: يقوم في الحال.
والثاني: لا يقوم إلا بعد العجز، كالتي قبلها.
وقال أبو إسحاق المروزي: يؤخر التقويم إلى أن يعجز قولا واحدا.
والفرق بينهما: أن في هذه قد ثبت الولاء للميت بحق الكتابة، فإذا قوم على الابن عاجلا.. انتقل الولاء عن الميت إليه، والملك لا ينتقل فيه، فلم يجز نقل الولاء عنه بغير ضرورة. وفي التي قبلها إذا قوم العبد على أحد الشريكين.. انتقل الملك إليه في نصيب شريكه، فانتقل إليه الولاء.
فإذا قلنا: يقوم في الحال.. دفع إلى أخيه قيمة نصف العبد، وعتق هذا النصف على الذي يقوم عليه، وكان ولاء هذا النصف له، وفي ولاء النصف الذي عتق بالإعتاق أو الإبراء الوجهان الأولان:
أحدهما: أنه بين الابنين.
والثاني: أنه للذي أعتقه منهما أو أبرأه.
وإذا قلنا: لا يقوم إلا بعد العجز.. نظرت:
فإن أدى المال الذي بقي عليه من مال الكتابة.. قال ابن الصباغ: عتق ويكون الولاء بينهما.
وقال المحاملي: يكون ولاء هذا النصف الذي عتق بالأداء للميت، وينتقل إلى عصباته.
وفي ولاء هذا النصف الذي عتق بالإعتاق أو الإبراء الوجهان:

(8/464)


أحدهما: أنه بين الابنين.
والثاني: ينفرد به الابن الذي أعتقه.
وإن عجز عن أداء ما بقي عليه.. فسخت الكتابة في النصف الذي للأخ الذي لم يعتق، وقوم ذلك على أخيه، وعتق عليه، وكان ولاء هذا النصف للمقوم عليه. وفي ولاء النصف الذي عتق بالإبراء الوجهان.

[فرع يدفع المكاتب للسيدين معا]
فرع: (يدفع المكاتب للسيدين) : وان كاتب رجلان عبدًا بينهما نصفين كتابة صحيحة.. فلا يجوز للمكاتب أن يدفع إلى أحدهما شيئا من مال الكتابة حتى يدفع إلى الآخر مثله. فإن دفع إلى أحدهما شيئا من مال الكتابة، ولم يدفع إلى الآخر مثله، فإن كان ذلك بغير إذن المولى الذي لم يدفع إليه.. لم يصح قبض الذي قبض، وكان للآخر أن يأخذ من القابض نصف ما قبض. وإن كان ذلك بإذن الذي لم يقبض.. فهل صح القبض؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح. وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني؛ لأن حق الإذن إنما هو في ذمة المكاتب، وما في يد المكاتب ملك للمكاتب، فلا ينفذ فيه إذن السيد، فيكون كما لو دفع إليه من غير إذن، ولأنه لو كان مع المكاتب ألف فوزن لأحدهما خمسمائة برضا الآخر، ثم هلكت الخمسمائة التي بقيت في يد المكاتب قبل أن يقبضها الآذان.. لكان للآذن أن يرجع على القابض بنصف الخمسمائة التي قبض، ولو صح الإذن.. لم يرجع عليه بشيء.
والثاني: يصح القبض. قال المحاملي: وهو الأشبه؛ لأن للسيد على المكاتب حقين؛ حقا في ذمته وحقا في ماله وهو حق الحجر؛ لأن له منعه أن يخص شريكه بشيء منه فإذا أذن له في دفعه، فقد أسقط حقه من الحجر وبقي حقه الذي في ذمته، فصار كرجل له في ذمة رجل دين وله رهن فأسقط حقه من الرهن، فإنه يبقى حقه من الدين.
فإذا قلنا: لا يصح القبض.. قيل للمكاتب: إن كان معك من المال مثل الذي

(8/465)


دفعت إلى القابض.. فادفعه إلى الآخر، فإذا دفعه وكان تمام المال الكتابة.. عتق عليهما. وإن لم يكن معه مال غير ما قد قبضه السيد الأول.. كان للسيد الآذن أن يرجع على القابض بنصف ما قبضه.
فإن أدى إليهما تمام مال الكتابة.. عتق عليهما. وإن عجز.. فسخا الكتابة ورق لهما.
وإن قلنا: يصح القبض. عتق نصيب القابض؛ لأنه استوفى جميع ما له عليه.
وهل يقوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا؟
قال الشيخ أبو إسحاق: فيه قولان:
أحدهما: لا يقوم عليه؛ لتقدم سببه الذي اشتركا فيه.
والثاني: يقوم عليه؛ لأنه عتق نصيبه بسبب منه.
وقال أكثر أصحابنا: يقوم عليه قولا واحدا.
فإذا قلنا: يقوم عليه.. فمتى يقوم عليه؟ فيه قولان:
أحدهما: يقوم عليه في الحال.
والثاني: لا يقوم في الحال، بل يؤخر إلى أن يعجز فيرق، أو ما يؤدي ما عليه للأخر، وقد مضى توجيههما.
فإذا قلنا: يقوم في الحال.. فإن الكتابة تنفسخ في النصف المتقوم، فيعتق جميعه على القابض، ويكون ولاء جميعه للقابض.
فإن كان في يده ما كسبه قبل العتق.. قال ابن الصباغ: كان للذي لم يقبض أن يأخذ منه بقدر ما قبضه شريكه؛ لأن كسبه قبل عتقه كان بينهما.
فإن فضل من الكسب شيء بعد ذلك.. كان بين السيد الذي لم يقبض وبين المكاتب نصفين؛ لأن الكسب كان في ملكهما، فما خص ملك القابض، انتقل إلى العبد بعتق نصفه، وما خص ملك الذي لم يقبض.. كان له أخذه؛ لأن حصته منه قد عاد رقيقا بالتقويم.

(8/466)


وإن قلنا: لا يقوم إلا بعد العجز.. نظرت: فإن أدى ما عليه للذي لم يقبض.. عتق عليه نصفه وعلى القابض نصفه، وكان ولاؤه بينهما، وما فضل في يد المكاتب من الكسب للمكاتب.
وإن عجز.. قوم نصفه على القابض، وعتق عليه جميعه، وكان ولاؤه له، وكان للذي لم يقبض نصف ما كسبه العبد من حين عتق نصفه الأول إلى حين أن يعتق نصفه الثاني.
فإن مات المكاتب قبل الأداء والتقويم.. مات ونصفه حر ونصفه مكاتب، فيكون لسيده الذي لم يقبض نصف ما خلفه، وفي النصف الآخر قولان:
قال في القديم: (يكون لورثته) .
وقال في الجديد: (يكون لمالك نصفه) ويأتي بيانهما في الفرائض إن شاء الله.

[مسألة قبض السيد مال المكاتبة قبل الحلول]
) : إذا جاء المكاتب بمال الكتابة إلى السيد قبل حلول النجم، فإن قبله السيد منه.. صح القبض وبرئ منه المكاتب.
وإن امتنع السيد من قبضه.. نظر فيه:
فإن كان مما يخاف عليه التلف أو التغير إلى وقت حلول النجم، كالأشياء الرطبة وما أشبه.. ذلك لم يلزمه قبوله؛ لأنه ربما يتلف قبل المحل ففاته المقصود.
وإن كان مما لا يتلف بنفسه ولكن عليه مؤونة في حفظه إلى وقت حلول النجم، كالطعام الكثير والثياب والأخشاب وما أشبهها.. لم يجبر على قبوله؛ لأن عليه ضررا في مؤونة حفظه إلى وقت حلول النجم.
وإن كان حيوانا لم يجبر على قبوله أيضا؛ لأنه يخاف عليه التلف ويلزمه مؤونة في حفظه.
وإن كان مما لا يخاف التلف بنفسه، ولا عليه مؤونة في حفظه، كالدراهم والدنانير والرصاص والصفر والنحاس، فإن كان البلد خائفا ويخاف عليه الأخذ،

(8/467)


وكان البلد وقت عقد الكتابة آمنا.. لم يلزمه قبوله؛ لأنه ربما يتلف إلى وقت حلول النجم.
وإن كان البلد عند وقت عقد الكتابة خائفا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه قبوله؛ لأن حالة العقد وحالة القبض سواء فأشبه إذا كانا آمنين.
والثاني: لا يلزمه قبوله، وهو الأصح؛ لأن الاعتبار بحال حلول النجم وربما زال الخوف ذلك الوقت.
وكل موضع قلنا: يلزمه قبوله، فإن قبله.. فلا كلام، وإن لم يقبله.. وإلا دفعه المكاتب إلى الحاكم وبرئ؛ لما روى سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه: (أن امرأة اشترته وكاتبته على أربعين ألفا، فأدى عامة المال، ثم أتاها ببقيته، فقالتِ: لا والله حتى يأتي به سنة بعد سنة وشهرا بعد شهر، فأتى بالمال إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخبره بذلك، فقال: ضعه في بيت المال، ثم أرسل إليها عمر: أنه أخذ المال وجعله في بيت المال، وقال لها: قد عتق أبو سعيد، فإن اخترت أخذه شهرا بعد شهر أو سنة بعد سنة.. فافعلي. فأرسلت، فأخذت المال) .
ولأن الأجل حق لمن عليه الدين، فإذا عجل الدين.. فقد رضي بإسقاط حقه من الأجل، فأجبر من له الدين على أخذه.

[فرع كاتبه على مال في بلد]
) : قال في " الأم ": (وإن كاتب رجل عبدا له على مال ببلد، ثم لقيه ببلد آخر، فأعطاه العبد إياه: فإن كان مما لحمله مؤونة، كالحبوب والحديد والرصاص والثياب.. لم يجبر على قبوله؛ لأن عليه ضررا بمؤونة حمله. وإن كان مما ليس بحمله مؤونة كالدراهم والدنانير، فإن كان الطريق مخوفا.. لم يلزمه قبوله؛ لأنه يخاف عليه التلف. وإن كان الطريق آمنا.. لزمه قبوله؛ لأنه لا غرض له في تأخيره) .

(8/468)


[فرع كاتبه على ألف في نجمين فعجل أحدهما]
) : وإن كاتبه على ألف في نجمين إلى أجلين، فجاءه بخمسمائة قبل المحل، ثم قال له: خذ هذه على أن تبرئني من الخمسمائة الأخرى، ففعل، أو قال له السيد: عجل لي خمسمائة حتى أبرئك من الباقي، أو صالحني على خمسمائة معجلة.. لم يصح القبض ولا الصلح ولا الإبراء ولا يعتق العبد بذلك. وبه قال أبو يوسف وزفر.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجوز استحسانا) وبه قال أحمد.
دليلنا: أن هذا يضارع ربا الجاهلية، فإن الرجل منهم كان إذا حل دينه يقول لمن عليه الدين: تقضي أو نزيد؟ فإن قضاه، وإلا.. زاده في الدين، وزاده في الأجل. وهذا مشبه بذلك؛ لأنه ينقصه من الحق لينقصه من الأجل، فلم يصح.
وإن لم يشترط عليه الإبراء ولكن عجل له خمسمائة وسأله إبراءه من الباقي؟ فأبرأه.. صح؛ لأن الإبراء لم يكن عوضا عن التعجيل.
إذا ثبت هذا: فإن المزني قال: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وضع وتعجيل لا يجوز) ، وقال في موضع آخر: (وضع وتعجيل يجوز) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على حالين: فالموضع الذي قال: (لا يجوز) أراد: إذا كان بشرط البراءة.
والموضع الذي قال: (يجوز) أراد: إذا عجل بغير شرط البراءة.

[مسألة لا يطالب المكاتب قبل الأجل]
) : وليس للسيد مطالبة المكاتب بمال الكتابة قبل حلول النجم؛ لأن الأجل جعل رفقا بالمكاتب، فلو جوزنا له مطالبته به قبل حلول النجم.. سقطت فائدة الأجل.
فإذا حل أجل نجم.. كان للسيد مطالبته بالنجم الذي حل، فإن دفعه إليه.. فلا كلام. وإن كان عاجزا عن أداء النجم الذي حل عليه.. كان المولى بالخيار بين أن يصبر عليه ويتركه على الكتابة، وبين أن يفسخ الكتابة ويرده إلى الرق. وبه قال أبو حنيفة.

(8/469)


وقال أبو يوسف: لا يرده إلى الرق حتى يتوالى عليه نجمان.
دليلنا: ما روي: (أن ابن عمر كاتب عبدا له على ثلاثين ألفا، فقال له: أنا عاجز. فقال له: امح كتابك. فقال: امح أنت كتابك) . ولأنه عجز عن أداء ما حل عليه، فكان للسيد أن يعجزه، كما لو توالى عليه نجمان.
فإن كان مع المكاتب ما يؤديه فامتنع من أدائه.. جاز للمولى تعجيزه ورده إلى الرق.
وقال أبو حنيفة: (ليس له تعجيزه، بل يجبره الحاكم على الأداء) .
دليلنا: أنه تعذر الأداء بالامتناع من الأداء، فجاز له تعجيزه ورده إلى الرق، كما لو لم يكن قادرا على الأداء.
وإن عجز عن أداء بعض النجم، أو امتنع من دفع بعضه.. جاز للمولى تعجيزه؛ لأن العتق لا يتبعض، فكان تعذر البعض كتعذر الجميع.
وللمولى أن يعجزه بنفسه ويرده إلى الرق من غير حاكم إذا كان المكاتب حاضرا.
وقال ابن أبي ليلى: لا يكون عجزه إلا عند السلطان.
دليلنا: أنه فسخ مجمع عليه، فلم يفتقر إلى الحاكم كفسخ البيع للعيب.

[فرع إنظار السيد للمكاتب]
) : وإذا حل على المكاتب نجم فعجز عن أدائه، فقال السيد: قد أنظرته.. جاز؛ لأن الحق في الفسخ للسيد، فجاز له تركه.
فإن بدا للسيد أن ينظره وطالبه به.. جاز، وله أن يعجزه؛ لأن الدين الحال لا يتأجل عندنا بالتأجيل.

(8/470)


فإن كان مع المكاتب مال من غير جنس مال الكتابة فاستنظر لبيعه بجنس مال الكتابة.. وجب على السيد إنظاره؛ لأنه قادر على أداء مال الكتابة، ولا يلزمه أن ينظره أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن ما زاد على الثلاث كثير.
وإن طلب أن ينظره إلى أن يصل إليه ماله، فإن كان ماله منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. وجب إنظاره؛ لأن ذلك قريب ولا ضرر على المولى فيه. وإن كان منه على مسافة تقتصر فيها الصلاة.. لم يجب إنظاره؛ لأن على المولى ضررا في ذلك.
قال الشيخ أبو إسحاق: فإن طلب الإنظار إلى أن يقتضي دينا له على غيره، فإن كان حالا على مليء.. وجب إنظاره؛ لأنه كالمال الذي أودعه. وإن كان مؤجلا، أو على معسر.. لم يجب إنظاره؛ لأن على المولى ضررا في ذلك.

[فرع حلول أجل المال والمكاتب غائب]
) : وإن حل عليه نجم الكتابة وهو غائب.. قال ابن الصباغ: فإن كان يسافر بغير إذن سيده.. كان له أن يفسخ الكتابة. وإن سافر بإذنه.. لم يكن له أن يفسخ، ولكن يرفع الأمر إلى الحاكم، ويثبت عنده حلول مال الكتابة، ويحلف أنه ما قبض؛ ليكتب إلى الحاكم الذي في بلده المكاتب فيعلمه بما ثبت عنده، فإذا وصل الكتاب إلى الحاكم الذي في بلده المكاتب.. استدعى المكاتب وأخبره بما كتب إليه، فإن كان المكاتب عاجزا.. كتب الحاكم المكتوب إليه إلى الحاكم الكاتب إليه بعجز المكاتب ليخبر السيد بذلك، فيكون السيد بالخيار: بين أن يصبر وبين أن يفسخ الكتابة.
وإن كان المكاتب قادرا على الأداء.. قال له الحاكم: إما أن تخرج إلى البلد الذي فيه السيد فتؤدي إليه مال الكتابة، أو توكل من يحمل إليه المال، فإن فعل ذلك في أول حال الإمكان عند خروج القافلة ـ إن كان لا يخرج إلا معها ـ فلا كلام. وإن أخر ذلك عن حالة الإمكان ومضى زمان المسير.. ثبت للسيد الخيار في الفسخ.
وإن وكل السيد في بلد المكاتب من يقبض منه المال. لزم المكاتب الدافع إليه، فإن امتنع المكاتب من الدفع إليه.. ثبت للسيد الخيار في فسخ الكتابة. وإن أمر

(8/471)


الوكيل بالفسخ عند تعذر القبض.. جاز للوكيل الفسخ.
إذا ثبت هذا: فنقل المزني: (أن السيد ليس له أن يفسخ حتى تمضي مدة السير، وسواء كان وكل أو لم يوكل) .
ونقل الربيع: (أنه إذا كان للسيد وكيل.. لم تعتبر مدة المسير) .
قال أصحابنا: المذهب ما نقله الربيع، وما نقله المزني في هذا خطأ. هكذا ذكر أكثر أصحابنا.
وحكى الشيخ أبو إسحاق وجها آخر: أن نجم الكتابة إذا حل والكاتب غائب.. كان للسيد أن يفسخ الكتابة من غير أن يكتب إلى الحاكم الذي في بلده المكاتب؛ لأنه تعذر عليه المال فجاز له الفسخ.

[فرع أسر المكاتب]
) : وإن كاتب عبده ثم أسر المشركون العبد وحبسوه مدة وتخلص من أيديهم وحل عليه نجم الكتابة، فإن قلنا: لا يجب على السيد تخليته في مثل تلك المدة التي حبسه فيها المشركون.. فله مطالبته بما حل عليه، فإن كان عاجزا عن أدائه.. كان له تعجيزه.
وإن قلنا: يجب عليه تخليته مثل تلك المدة.. فليس له مطالبته حتى تمضي عليه مثل تلك المدة التي حبس فيها بعد حلول النجم، ثم له مطالبته بعد ذلك بما حل عليه، فإن كان عاجزا.. كان له تعجيزه.
وإن كان العبد حل عليه النجم وهو في أيدي المشركين، فإن قلنا: يلزمه تخليته بعد أن يتخلص منهم مثل المدة التي حبس فيها.. فليس للسيد هاهنا تعجيزه؛ لأنه يلزمه تخليته مثل المدة بعد أن يتخلص منهم.
وإن قلنا: لا يلزمه تخليته بعد التخلص.. فله أن يعجزه ويفسخ الكتابة؛ لأنه قد تعذر الأداء من جهته , وهل له أن يفسخ؟ فيه وجهان:
أحدهما: له أن يفسخ الكتابة بنفسه. كما لو كان في دار الإسلام وتعذر الأداء من جهته.

(8/472)


والثاني: لا يجوز له ذلك بنفسه حتى يرفع الأمر إلى الحاكم؛ لينظر الحاكم هل له مال أم لا؛ لأن العبد إذا كان في دار الإسلام وعجز.. فقد عرف العجز من جهته. فكان للسيد أن يفسخ.
وإذا كان في دار الشرك.. لم يعلم العجز من جهته، وإنما يعلم من طريق الظاهر وقد يجوز أن يكون له مال في الباطن، فلم يجز له الفسخ قبل البحث عنه.
فإن قلنا: يجوز له الفسخ بنفسه، ففسخ، أو قلنا: لا يجوز له إلا عند الحاكم، فبحث الحاكم عن ماله فلم يجد له مالا، فأذن له ففسخ، ثم تخلص العبد وأظهر له مالا.. حكم ببطلان الفسخ؛ لأنا إنما جوزنا له الفسخ ظنا منا أنه لا مال له، فإذا بان أن له مالا.. لم يصح الفسخ.

[فرع جنون المكاتب]
) : وإن كاتب عبدا ثم جن العبد.. لم تنفسخ الكتابة بجنونه؛ لأنها لازمة من أحد الطرفين، فلم تنفسخ بالجنون كالرهن، وإنما ينفسخ بالجنون ما كان جائزا من أحد الطرفين، كالوكالة والشركة وما أشبههما، ولأنه عتق معلق بصفة، فلم يبطل بالجنون، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت حر.
إذا ثبت هذا: فإن حل عليه النجم قبل الإفاقة.. كان للسيد أن يثبت عند الحاكم الكتابة بالبينة، ويحلف مع بينته أنه لم يقبض مال الكتابة، فإذا أقام البينة وحلف معها، بحث الحاكم عن مال المكاتب، فإن وجد له مالا.. سلمه إلى المولى وعتق عليه.
وإن سلم المجنون المال إلى السيد.. عتق؛ لأنه قبض ما يستحقه. فبرئت به ذمته.
وإن لم يجد الحاكم للمكاتب مالا.. مكن المولى من فسخ الكتابة، فإذا فسخ الكتابة.. عاد رقيقا له ولزمه الإنفاق عليه؛ لأنه عاد قنا له.
فإن بان للمكاتب بعد ذلك مال يفي بمال الكتابة.. بطل فسخ السيد؛ لأنه بان أن

(8/473)


الباطن بخلاف ما حكم به، فهو كما لو حكم الحاكم بالاجتهاد ثم بان أن النص بخلافه. ويجب عليه أن يرد على السيد ما أنفقه عليه بعد الفسخ؛ لأنه بان أنه لم يكن مستحقا للنفقة عليه.
وإن أفاق المكاتب ثم أقام البينة أنه كان قد أدى إلى السيد مال الكتابة.. بطل الفسخ، ولا يرد على السيد ما أنفقه عليه بعد الفسخ؛ لأنه أنفق عليه مع علمه بحريته، فالظاهر أنه متطوع به.

[فرع كاتبه على دنانير فلا يكفي دراهم]
) : قال في " الأم ": (وإن كاتبه على دنانير فأعطاه دراهم، أو كاتبه على دراهم فأعطاه دنانير.. لم يجبر على أخذها.
وإن كاتبه على دراهم فأعطاه دراهم خيرا منها.. لزمه قبولها إلا أن يكون الذي كاتبه عليه ينفق في بلده ولا ينفق فيه الذي أعطاه إياها، فلا يلزمه قبولها وإن كانت خيرا مما سمى) .

[فرع قبول قول السيد في رفضه مال النجم بالبينة]
) : وإن حمل المكاتب إلى السيد شيئا من مال الكتابة فقال السيد: لا آخذه؛ لأنه حرام أو غصبته، أو سرقته من فلان وأنكر المكاتب ذلك، فإن أقام السيد بينة بما قال.. سمعت البينة، ولم يلزمه الأخذ؛ لأن للسيد حقا في ذلك في أن لا يقبض دينه من الحرام، فلذلك سمعت البينة منه.
قال المحاملي: فإن أقام شاهدا واحدا بأن المال حرام.. لم تقبل شهادته؛ لأن التهمة تلحق السيد في أنه أراد تعجيزه ورده إلى ملكه.

(8/474)


وإن لم يكن مع السيد بينة.. فالقول قول المكاتب مع يمينه؛ لأن الظاهر مما في يده أنه ملكه، ولأن السيد متهم في ذلك، فإن لم يحلف المكاتب.. حلف المولى، ولم يلزمه قبضه.
وإن حلف المكاتب.. حكم بأن المال ملك للمكاتب، فيقال للسيد: إما أن تقبضه أو تبرئه من قدره من مال الكتابة. فإن قبضه المولى.. برئ المكاتب من قدره، فإن كان تمام الكتابة.. عتق.
فإن كان المولى قد أقر أنه غصب أو سرق من رجل معين.. لزمه رده إليه؛ لأنه قد تقدم منه الإقرار له بذلك، فقبل: كما لو أقر رجل بحرية عبد غيره ثم اشتراه.
وإذا كان المولى لم يقر به لرجل معين، بل قال: هو حرام أو مغصوب.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال ابن الصباغ: لا يمنع منه، بل يمسكه لنفسه؛ لأنه لم يقر به لأحد.
وقال المحاملي: لا يمسكه لنفسه، وإنما يقال له: امسكه حتى تعلم مالكه فتدفعه إليه.
وإن اختار المولى أن يبرئه من قدره من مال الكتابة فأبرأه.. صح وأقر ذلك في يد المكاتب.
وإن امتنع المولى من قبضه أو الإبراء عن قدره.. رفع المكاتب ذلك الأمر إلى الحاكم، فيحلفه الحاكم أنه ملكه إن لم يكن قد حلفه المولى، ويقبضه الحاكم للمولى ويعتق المكاتب، كما قلنا في المكاتب إذا عجل مال الكتابة.
فإن كان المولى قد أقر به لرجل معين.. فالذي يقتضي المذهب: أن الحاكم يسلمه إلى المقر له به وإن ادعاه؛ لأن قبضه له كقبض المولى في براءة المكاتب منه، فكان كقبضه في ذلك أيضا.

(8/475)


[مسألة ظهور عيب بالمال بعد الحكم بالعتق]
) : وإن دفع المكاتب إلى المولى المال وحكم بعتقه، ثم بان أن المال معيب.. نظرت: فإن بان أن المال الذي دفعه من غير جنس مال الكتابة، بأن كاتبه على دراهم فدفع إليه دراهم وبان أنها رصاص أو نحاس.. حكمنا ببطلان القبض وأن العبد باق على الكتابة. وإن بان أنها مضطربة السكة، أو كان مال الكتابة عرضا فبان أنه معيب.. ثبت للمولى الخيار: بين الإمساك والرد، فإن اختار إمساكه.. استقر العتق، ومتى وقع العتق؟ فيه وجهان حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما: حين القبض.
والثاني: حين الرضا بالعيب.
فإن قيل: إذا أعطاه معيبا.. فلم يعطه جميع ما وقع عليه العقد، فكان ينبغي أن لا يعتق، كما لو كاتبه على عشرة فأعطاه تسعة؟
قلنا: إذا أمسك المعيب فقد رضي بإسقاط حقه منه، فجرى مجرى ما لو أبرأه مما بقي من مال الكتابة.
وإن اختار رده، فرده.. كان له ذلك، وبطل ما كنا حكمنا به من العتق.
وقال أحمد: (لا يبطل العتق) .
دليلنا: أن الكتابة عقد معاوضة يلحقه الفسخ، فوجب أن يفسخ بوجود العيب، كالبيع. وفيه احتراز من الخلع؛ لأنه لا يلحقه الفسخ.
وإن وجد العيب وقد تلف العوض عنده، أو حدث عنده عيب آخر.. ثبت له الأرش؛ لأنه قد تعذر رد العوض الذي قبضه. فإن دفع المكاتب الأرش.. استقر العتق. وإن لم يدفعه.. ارتفع العتق، وثبت للمولى الخيار في فسخ الكتابة.

(8/476)


وإذا أراد الرجوع بالأرش وكان العوض ثوبا فوجد به عيبا ينقص عشر قيمته وقد تلف الثوب عنده.. قال الطبري: اختلف أصحابنا في كيفية الرجوع بالأرش:
فقال أبو حامد: يرجع بعشر قيمة الثوب.
وقال القفال: هذا غلط، بل يرجع بما يقابله من عوضه، وعوضه رقبته وهي فائته بالعتق، فيرجع بعشر قيمة الرقبة، كما لو اطلع على عيب في المسلم فيه بعد فواته وكان ينقص عشر قيمته.. فإنه يرجع بعشر رأس مال السلم.

[فرع المكاتبة على خدمة مدة ومال]
) : وإن كاتب عبده على خدمة شهر ودينار، فمرض العبد في الشهر أو في بعضه.. فنص الشافعي في " الأم ": (أن الكتابة تبطل) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هي على طريقين، كما لو اشترى.. فتلف أحدهما قبل القبض.
أحد الطريقين: أنها على قولين:
أحدهما: تبطل.
والثاني: لا تبطل.
والطريق الثاني: لا تبطل قولا واحدا.
وقال القاضي أبو الطيب: تبطل الكتابة هاهنا قولا واحدا على ما نص عليه؛ لأن عقد الكتابة لا يقع على بعض العبد، فإذا انفسخ العقد في بعضه.. انفسخ في جميعه.

[فرع كاتبه على عوض موصوف]
) : وإن كاتب عبده على عوض موصوف، فدفع المكاتب للسيد العوض بصفته وحكم بعتقه، ثم خرج العوض الذي دفعه إليه مستحقا.. حكمنا ببطلان العتق وعاد مكاتبا؛ لأن العتق وقع بالأداء، وقد بان أنه لم يؤد.

(8/477)


فإن كان السيد قال له بعد الأداء: أنت حر، أو هذا حر.. لم يلزم المولى حريته؛ لأن الظاهر أن المولى لم يرد استئناف الحرية، وإنما أراد الإخبار عن الحرية بذلك، وهي التي وقعت بالأداء.
فإن ادعى المكاتب أنه أراد إيقاع الحرية بذلك وأنكر السيد.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأنه أعلم بما أراد.
فإن قال له السيد قبل الأداء أو بعد أن علم استحقاق العوض: أنت حر.. حكم عليه بالحرية؛ لأن الظاهر أنه أراد إيقاع الحرية بهذا القول.
فإن استحق العوض بعد موت المكاتب.. بان أن المكاتب مات رقيقا، فيكون ما في يده لسيده.

[فرع بيع النجوم مفسوخ]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وبيع نجومه مفسوخ. فإن أدى إلى المشتري كتابته بإذن سيده.. عتق، كما يؤدي إلى وكيله فيعتق) .
وجملة ذلك: أن السيد إذا باع مال الكتابة في ذمة المكاتب.. فهل يصح بيعه؟ فيه طريقان مضى ذكرهما في البيوع.
فإذا قلنا: لا يصح البيع.. فليس للمشتري أن يطالبه بالأداء، ولا للمكاتب أن يؤدي إليه؛ لأنه لا يملك ذلك المال.
فإن خالف ودفع المال للمشتري فهل يعتق؟
نص الشافعي في موضع: (أنه يعتق) ، ونص في موضع آخر: (أنه لا يعتق) واختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو إسحاق: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (يعتق) أراد: إذا كان السيد قد أذن للمشتري بقبض المال بصريح الإذن.. إلا ترى أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال هاهنا: (فإن أدى إلى المشتري كتابته بإذن سيده.. عتق؛ لأنه يصير وكيلا له في القبض) ؟

(8/478)


وحيث قال: (لا يعتق) أراد: إذا لم يصرح له بالإذن، وإنما قبضه بمقتضى العقد، والعقد فاسد.. ففسد مقتضاه.
قال المحاملي: وهذه طريقة صالحة.
وقال أبو العباس وغيره: هي على قولين، وهو اختيار ابن الصباغ:
أحدهما: يعتق؛ لأن بيعها منه يتضمن الإذن له في القبض، فأشبه وكيله.
والثاني: لا يعتق، وهو الأصح؛ لأن المشتري قبض المال لنفسه لا للسيد، وإنما قبضه بمقتضى البيع، والبيع فاسد، فكان القبض فاسدا.
فإن قلنا: إنه يعتق.. فقد برئ المكاتب من المال وليس للسيد مطالبته بالمال، وإنما يطالب السيد المشتري؛ لأنه كالوكيل له، وللمشتري أن يطالبه بالثمن إن كان قد دفعه إليه.
فإن قلنا: إن المكاتب لا يعتق وهو باق على الكتابة.. فللمولى أن يرجع على المكاتب بمال الكتابة، وللمكاتب أن يرجع على المشتري بما قبض منه، وللمشتري أن يرجع على المولى بما دفع إليه من الثمن.

[مسألة جناية المكاتب على طرف سيده]
) : وإن جنى المكاتب على طرف سيده، فإن كانت عمدا.. فله أن يقتص منه، كما يقتص من عبده القن. فإذا اقتص منه.. بقي مكاتبا كما كان، وإن عفا عنه على مال أو كانت الجناية خطأ.. وجب له عليه الأرش في ذمته؛ لأن السيد يثبت له المال في ذمة مكاتبه بالبيع، فكذلك في الجناية.
وإن جنى على نفسه، فإن كانت عمدا.. جاز للوارث أن يقتص منه، وإن كانت خطأ أو عمدا وعفا عنه على مال.. ثبت له المال عليه، فإن كان في يد المكاتب مال

(8/479)


يفي بمال الكتابة وبالأرش.. كان له أن يفدي نفسه بدفع الأرش مما في يده؛ لأن له صرف ماله في مصلحته، وهذا من أعظم المصالح.
وبكم يفدي نفسه في الجناية على سيده؟ فيه قولان:
أحدهما: بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية.
والثاني: بأرش الجناية بالغا ما بلغت، كالقولين في العبد القن إذا جنى على الأجنبي واختار السيد أن يفديه؛ لأنه يمكن تعجيزه وبيعه في الجناية، كما يمكن بيع العبد القن.
فإذا قلنا: ليس له أن يفدي نفسه إلا بأقل الأمرين.. دفع أقل الأمرين من الأرش أو قيمته، وكان باقيا على كتابته.
فإن قلنا: له أن يفدي نفسه بأرش الجناية بالغا ما بلغ، فإن كان الأرش أقل من قيمته.. دفعه ولا كلام. وإن كان الأرش أكثر من قيمته.. قال الشيخ أبو حامد: فدى نفسه بأرش الجناية بالغا ما بلغ.
وقال القاضي أبو الطيب: إذا قلنا بهذا: فهل له أن يدفع ما زاد على قيمته إلى سيده؟ يبنى على هبته لسيده:
فإن قلنا: تصح.. كان له ذلك.
وإن قلنا: لا تصح.. لم يكن له ذلك.
قال ابن الصباغ: وقول القاضي يقتضي أن للسيد أن يمتنع من قبول ذلك؛ لأنه لا يلزمه قبول الهبة منه. قال: وعندي أنه يلزمه قبول ذلك؛ لأنه لا يمكنه أن يفدي نفسه إلا بذلك. فإذا أمكنه أن يؤدي ذلك ويؤدي ما عليه من مال الكتابة.. لم يكن للسيد أن يمتنع؛ لأنه يخلص نفسه وإن كان بأكثر من قيمته. فإن كان ما في يده لا يفي بمال الكتابة وأرش الجناية.. فللسيد تعجيزه ورده إلى الرق؛ لأنه إذا كان له تعجيزه عند عجزه عن أداء مال الكتابة، فلأن يكون له تعجيزه عند عجزه عن مال الكتابة وأرش الجناية أولى. فإذا عجز.. عاد رقيقا وسقط عنه مال الكتابة وأرش الجناية؛ لأن المولى لا يثبت له على عبده مال.

(8/480)


فإن أعتقه سيده قبل التعجيز، فإن لم يكن في يد المكاتب مال.. سقط أرش الجناية؛ لأن أرش الجناية تلف باختيار سيده.
وإن كان معه مال.. ففيه وجهان:
أحدهما: يسقط الأرش؛ لأن الأرش متعلق بالرقبة وقد أتلفها، فسقط الأرش، كما لو لم يكن في يده مال.
والثاني: يستوفيه مما في يده؛ لأن حقه كان متعلقا برقبته وبما في يده، فإذا تلفت الرقبة.. بقي متعلقا بالمال الذي في يده فاستوفى منه.
ويخالف إذا لم يكن في يده شيء؛ لأن محله فات.
فإن قطع يد سيده خطأ أو عمدا وعفا عنه على مال.. وحب له الأرش عليه، وفي قدر ما يفدي به نفسه القولان.
وهل للسيد أن يستوفيه منه قبل الاندمال؟ فيه قولان، كالحر إذا قطع يد الحر، ويأتي بيانهما في (الجنايات) .
فإن قلنا: له أن يستوفي ذلك قبل الاندمال.. استوفاه. فإن بقي معه ما يؤدي في الكتابة.. استوفى منه مال الكتابة. وإن لم يبق معه ما يؤدي في الكتابة.. كان للسيد تعجيزه.
وإن قلنا: ليس له أن يستوفيه قبل الاندمال، فإن اندمل قبل أن يؤدي مال الكتابة.. فالحكم فيه كما لو قلنا: له استيفاؤه قبل الاندمال.
وإن أدى مال الكتابة، وعتق قبل الاندمال.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لزمه أرش الطرف، وهو نصف الدية) .
قال ابن الصباغ: ويجيء فيه قول آخر: أنه يلزمه أقل الأمرين من قيمته أو أرش

(8/481)


الجناية بالغا ما بلغ؛ لأن ذلك قد لزمه قبل العتق، فلا يسقط العتق بما تقدم وجوبه.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : له أن يطالبه بجميع الأرش بالغا ما بلغ قولا واحدا؛ لأنه وجب له في ذمته دون رقبته، فأشبه مال الكتابة.
وإن أعتقه سيده قبل الاندمال أو قبل الأداء، فإن لم يكن معه مال.. سقط عنه الأرش. وإن كان معه مال.. ففيه وجهان مضى ذكرهما.

[مسألة جناية المكاتب على أجنبي]
) : وإن جنى المكاتب على أجنبي، فإن كانت جناية توجب القصاص.. فله أن يقتص منه. وإن كانت توجب المال أو كانت عمدا فعفا عنه على مال.. ثبت له المال في رقبته، فإن كان في يده مال.. فله أن يفدي نفسه؛ لأن ذلك من مصلحته. وبكم يفدي نفسه؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: ليس له أن يفدي نفسه من الأجنبي إلا بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية قولا واحدا؛ لأنه إن كان الأرش أقل.. لم يستحق المجني عليه أكثر منه. وإن كان الأرش أكثر من قيمته.. فما زاد عليها يجري مجرى الهبة، والمكاتب لا يملك الهبة من الأجنبي بغير إذن سيده.
ويخالف سيده حيث قلنا: يفدي نفسه منه بأرش الجناية بالغا ما بلغ في أحد القولين؛ لأنه يملك الهبة منه.
وقال ابن الصباغ: فيما يفدي به نفسه من الأجنبي قولان:
أحدهما: بأقل الأمرين.
والثاني: بأرش الجناية بالغا ما بلغ.
فإذا قلنا: يفدي نفسه بأقل الأمرين.. كان له ذلك بغير إذن السيد.
وإن قلنا: يفدي به بأرش الجناية بالغا ما بلغ، فإن كان الأرش أقل من قيمته.. كان له ذلك بغير إذن سيده، وإن كان الأرش أكثر من قيمته.. لم يكن له ذلك بغير إذن

(8/482)


السيد؛ لأنه باع نفسه بأكثر من قيمتها، فإذا أذن له سيده في ذلك.. فهو كما لو وهب لأجنبي مالا بإذن سيده على ما مضى.
فإن فدى نفسه.. بقي على الكتابة، وإن لم يكن معه مال يفدي به نفسه، أو كان معه مال وامتنع من فدية نفسه.. كان للأجنبي المجني عليه أن يرفعه إلى الحاكم ليعجزه ويرده إلى الرق، ويباع في أرش جنايته.
وإن اختار السيد أن يفديه من ماله ليبقى على الكتابة.. جاز، وفيما يلزمه أن يفديه به قولان:
أحدهما: بأقل الأمرين.
والثاني: بأرش الجناية بالغا ما بلغ.
قال الطبري: فإن قال السيد: ضمنت فداءه.. ففيما يلزمه قولان:
أحدهما: أقل الأمرين.
والثاني: يلزمه أرش الجناية بالغا ما بلغ.
وإن قال: ضمنت أرش الجناية.. لزمه أرش الجناية بالغا ما بلغ قولا واحدا.
وإن اختار السيد الفداء، ثم رجع.. نظر فيه:
فإن كان العبد باقيا.. فله الرجوع، ويباع في الجناية. وإن مات العبد بعد اختيار الفداء.. لم يصح رجوع السيد. وإن أعتقه السيد قبل الأداء.. لزمه أن يفدي العبد؛ لأنه أتلف رقه بالإعتاق، فلزمه ضمانه، كما لو قتله. ولكن لا يلزمه إلا أقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمته قولا واحدا؛ لأنه لا يمكنه بيعه.
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يلزمه أقل الأمرين.
والثاني: يلزمه الأرش بالغا ما بلغ. وليس بشيء.
وإن أدى إلى السيد مال الكتابة قبل الأرش.. عتق العبد بالأداء ولا شيء على المولى؛ لأنه مجبور على القبض، وعلى المكاتب بعد الإعتاق ضمان أرش الجناية

(8/483)


غير أنه لا يلزمه إلا أقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمته قولا واحدا؛ لأن محل أرش الجناية على الأجنبي رقبته لا ذمته، فلم يستحق المجني عليه أكثر من هذا، بخلاف جنايته على سيده، فإنه إذا عتق لزمه الأرش بالغا ما بلغ في أحد القولين؛ لأن محل أرشه ذمته لا رقبتة.
إذا ثبت هذا: فإن جنى المكاتب جنايات كثيرة فأدى مال الكتابة قبل أرو ش الجنايات.. عتق بالأداء، ولزمه أن يفدي نفسه من المجني عليهم. وفي قدر ما يلزمه لهم قولان:
أحدهما: يلزمه أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته على كل واحد منهم؛ لأن كل واحدة من الجنايات اقتضت أن يفديها بأقل الأمرين من قيمته أو أرشها، وقد منع نفسه منها بأدائه وعتقه، فضمن ذلك، كما لو انفردت.
فعلى هذا: قد يلزمه عشرون قيمة، بأن يجني على عشرين نفسا.
والقول الثاني: لا يلزمه إلا أقل الأمرين من قيمته أو جميع الأروش، وهو اختيار المزني. وهو الأصح؛ لأن أرو ش الجنايات كلها تعلقت برقبته، وقد أتلفها بالعتق في الأداء، فلم يلزمه أكثر من قدر قيمة، كما لو منع مانع من بيعه بقتله.
فعلى هذا: لا يلزمه إلا قيمة واحدة، فإن كانت الأروش أكثر منها.. تحاصوا فيها على قدر حقوقهم.
وإن جنى جنايات كثيرة فبادر سيده وأعتقه قبل الأداء.. عتق، ولزم السيد أن يفديه؛ لأنه أتلف محل الأرش. وفي قدر ما يلزمه القولان في المكاتب إذا عتق بالأداء:
أحدهما: أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته على كل واحد منهم.
والثاني: أقل الأمرين من قيمته أو أرش الجنايات كلها.

(8/484)


وإن عجزه أصحاب الجنايات أو عجزه السيد بمال الكتابة وفسخ الكتابة.. عاد قنا، ووجب تسليمه للبيع. فإن أراد السيد أن يفديه.. ففيه قولان:
أحدهما: يفديه بأقل الأمرين من قيمته أو أروش الجنايات كلها.
والثاني: بأروش الجنايات بالغة ما بلغت.
وإن جنى المكاتب جنايات، وأقام على الكتابة، ولم يعجز نفسه، وأراد أن يفدي نفسه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يفدي نفسه بالأقل من قيمته أو أرش كل جناية) .
فقال أبو إسحاق: الأشبه عندي أن تكون هذه على قولين:
أحدهما: يفدي بالأقل من أرش كل جناية أو القيمة.
والثاني: أنه يفدي بالأقل من أروش الجنايات كلها أو القيمة،، كما لو أدى وعتق؛ لأنه منع نفسه من البيع بعدم العجز، كما منع منه بالعتق بالأداء. ونص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أحد القولين.
ومنهم من قال: يفدي نفسه بالأقل من أرش كل جناية أو قيمته قولا واحدا.
والفرق بينهما: أنه إذا أدى وعتق.. فهو متلف لرقبته، فلا يضمن إلا قيمتها. وإذا كان مكاتبا.. فالرقبة قائمة يمكن تسليمها للبيع، فإذا منع ذلك.. ضمن لكل واحد منهم أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته.
قال ابن الصباغ: وهذا الفرق يبطل به إذا عجز وفسخت الكتابة واختار السيد الفداء، فإنه مانع من بيعه مع بقاء الرقبة ولا يضمن لكل واحد منهم إلا أقل الأمرين.

[فرع إقرار المكاتب بجناية]
) : وإن أقر المكاتب بجناية موجبة للقصاص.. قبل إقراره؛ لأنه لا يتهم في ذلك.
وإن أقر بجناية موجبة للمال.. ففيه قولان، ومنهم من يحكيهما وجهين:

(8/485)


أحدهما: يقبل، وهو الأصح؛ لأنه لا يهتم، ولأنه إقرار بمال فقبل إقراره، كما لو أقره بدين معاملة.
والثاني: لا يقبل؛ لأنه مملوك فلا يقبل إقراره بجناية موجبة للمال، كالعبد القن.
فإذا قلنا: يقبل، فأقر بجناية أرشها ألف، ثم عجز ورق، فادعى السيد أن الأرش خمسمائة.. فهل يقبل من السيد؟ فيه قولان حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما: لا يقبل؛ لأنا قبلنا إقرار المكاتب بالألف.
والثاني: يقبل؛ لأنه قد عاد قنا.

[فرع جناية عبد المكاتب]
) : إذا كان للمكاتب عبد يملك بيعه فجنى على مولى المكاتب أو على أجنبي، فإن كانت الجناية عمدا.. فللمجني عليه أن يقتص منه. وإن كانت خطأ، أو عمدا وعفي عنه على مال.. تعلق الأرش برقبة العبد الجاني، وللمكاتب أن يفديه؛ لأن ذلك من مصلحة ماله. فإن اختار أن يفديه.. ففيه قولان:
أحدهما: يفديه بأقل الأمرين من قيمة الجاني أو أرش جنايته.
والثاني: يفديه بأقل الأمرين.. كان له ذلك بغير إذن السيد.
وإن قلنا: يفديه بأرش الجناية بالغا ما بلغ، فإن كان الأرش بقدر القيمة أو أقل.. كان له ذلك بغير إذن سيده. وإن كان الأرش أكثر من قيمته.. لم يكن له ذلك بغير إذن سيده، فإن إذن له سيده في ذلك.. فهو كما لو أذن له في الهبة لغيره.
إذا ثبت هذا: فإن قيمة العبد الجاني تعتبر يوم جنايته، نص عليه الشافعي.

(8/486)


وقال القفال: بل يجب أن تعتبر قيمته يوم الفداء؛ لأن استدامة ملكه إنما تقع في هذا اليوم، والنص محمول عليه إذا تقدم من السيد منع من البيع.
فإن كان للمكاتب عبد لا يملك بيعه ـ كوالده أو ولده ـ فجنى جناية توجب المال.. لم يكن له أن يفديه بشيء من ماله من غير إذن سيده؛ لأنه لا يملك بيعه فلم يكن له أن يخرج مالا يملك التصرف فيه بمال لا يملك التصرف فيه. فإن كان لهذا العبد كسب.. دفع الأرش من كسبه. وإن لم يكن له كسب.. فالمنصوص: (أنه يباع في الأرش) . فإن استغرق الأرش قيمته.. بيع جميعه. وإن لم يستغرق الأرش قيمته.. بيع منه بقدر الأرش، وبقي الباقي على ملك المكاتب. وإن لم يمكن أن يباع منه بقدر الأرش إلا ببيع جميعه.. بيع جميعه، ويصرف قدر الأرش إلى المجني عليه، وما بقي من ثمنه يكون للمكاتب.
وحكى الطبري في " العدة ": أن من أصحابنا من قال: لا يتعلق الأرش برقبته، ولا يباع في الأرش؛ لأن الشرع منع من بيع الوالدين والمولودين.

[مسألة اجتماع حقوق على المكاتب]
) : إذا اجتمع على المكاتب دين الكتابة، وأرش الجناية، ودين المعاملة، وعوض القرض، فإن كان في يده مال يفي بها.. فليس للحاكم أن يحجز عليه؛ لأن ماله يفي بدينه.
فإن كانت الديون كلها حالة.. فللمكاتب أن يقضي من شاء منهم أولا، كالحر. وإن كان بعضها حالا وبعضها مؤجلا، فإن قضى الحال منها.. صح، وإن أراد أن يعجل المؤجل، فإن كان المؤجل لغير السيد.. لم يصح قضاؤه قبل حلوله بغير إذن سيده؛ لأن ذلك تبرع، فإن أذن له سيده في تعجيله.. فهو كما لو وهب بإذنه. وإن كان المؤجل لسيده وأراد تعجيله له.. فهو كما لو وهب لسيده مالا، على ما مضى.
فإذا قضى دين المعاملة وعوض القرض.. بقي مال الكتابة وأرش الجناية، وإن قضى دين الكتابة أولا.. عتق بالأداء، وبقي دين المعاملة وأرش الجناية في ذمته.

(8/487)


فإن قيل: هلا قلتم: إنه لا يعتق بالأداء قبل أن يؤدي أرش الجناية، كما قلتم في عتق الجاني في أحد القولين؟
قلنا: فالجواب: أن العتق هاهنا وقع بالصفة السابقة للجناية، فلم تكن الجناية مانعة منه، ألا ترى أنه لو قال لعبده: إذا دخلت الدار فأنت حر، ثم جنى، ثم دخل الدار.. فإنه يعتق بالصفة السابقة ولا يمنع منه أرش الجناية المتعلق برقبته؟ فكذلك هذا مثله.
وإن كان ماله لا يفي بديونه، وسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه.. نظرت:
فإن سأله المولى أن يحجر عليه لأجل مال الكتابة.. لم يحجر عليه بسؤاله؛ لأن دينه غير مستقر؛ لأن للعبد أن يسقطه بالعجز.
وإن سأله من له دين معاملة أو عوض قرض أو أرش جناية أن يحجر عليه لأجل ديونهم.. حجر عليه؛ لأنه ليس بأولى من الحر، فإذا جاز الحجر على الحر لما عليه من الدين.. فالمكاتب أولى. فإذا حجر عليه وكانت ديونهم كلها حالة أو بعضها مؤجلا، وقلنا يحل المؤجل بالحجر.. فنقل المزني: (أن الحاكم إذا أوقف ماله.. أدى إلى سيده وإلى الناس ديونهم شرعا) . يريد: سواء.
واختلف أصحابنا في ذلك: فحمل أبو إسحاق المروزي كلام الشافعي على ظاهره. وقال: يساوى بين السيد وبين سائر الغرماء ويقسط ماله بينهم على قدر ديونهم؛ لأن الحر إذا حجر عليه.. قسم ماله بين غرمائه على قدر ديونهم، فكذلك المكاتب.
وقال سائر أصحابنا: لا يساوى بينهم، وهو الصحيح، بل يقدم دين المعاملة وبدل القرض على أرش الجناية ومال الكتابة؛ لأن دينهما يختص بما في يده، والمجني عليه والسيد يرجعان إلى الرقبة. فإن لم يف ماله بدين المعاملة وبدل القرض.. قسم بينهما على قدرهما، وإن بقي من ماله شيء بعدهما.. قدم أرش الجناية على مال

(8/488)


الكتابة؛ لأنه مستقر ودين الكتابة غير مستقر. وتأولوا كلام الشافعي تأويلين:
أحدهما: أنه أراد: إذا كان ماله يفي بدينه، وإنما حجر عليه الحاكم؛ لأنه خاف إفلاسه، فيسوي بينهم حينئذ في القسمة.
والثاني: أنه أراد: إذا وصى غرماؤه بأن يسوى بينهم في القسمة، فإن مات المكاتب قبل قسمة ماله؛ سقط عنه مال الكتابة؛ لأنها انفسخت بموته، وسقط أرش الجناية؛ لأنه تعلق برقبته وقد فاتت، ولأنه تعلق بماله بحكم الكتابة وقد انفسخت الكتابة، فلم يبق لها محل، ويبقى دين المعاملة وبدل القرض فيتقاصان ما كان في يده، فإن وفى ماله بهما.. فلا كلام، وإن لم يف ماله بهما.. قسط ماله بينهما على قدرهما، وإن بقي من ماله شيء بعدها.. كان لسيده بحكم الملك لا بحكم الكتابة. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي (في " الإبانة ") : فيه وجهان:
أحدهما: يقدم دين المعاملة والقرض على أرش الجناية بعد موته؛ لما ذكرناه.
والثاني: يسوى بين الجميع؛ لأنه لا محل للجناية بعد موته إلا بماله.
وأما إذا لم يكن في يد المكاتب مال، فإن اختار أصحاب الديون إنظاره إلى أن يكتسب.. جاز، وإن لم يختاروا إنظاره وأرادوا تعجيزه.. نظرت:
فإن طلب من له دين المعاملة وبدل القرض تعجيزه ورده إلى الرق.. لم يكن لهما ذلك؛ لأنه لا فائدة لهما في ذلك؛ لأن حقهما متعلق بما في يده لا في رقبته، بل الحظ لهما في تركه على الكتابة؛ لجواز أن يكتسب مالا، فيقضي دينهما منه.
وإن أراد المولى تعجيزه ورده إلى الرق لما عليه له من مال الكتابة.. كان له ذلك، فإن عجزه.. انفسخت الكتابة وسقط دين المعاملة وبدل القرض، وتعلق برقبته أرش

(8/489)


الجناية. فإن اختار السيد تسليمه للبيع.. بيع في الجناية، وإن اختار أن يفديه.. كان له ذلك. وبكم يفديه؟ على قولين:
أحدهما: بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية.
والثاني: بأرش الجناية بالغا ما بلغ.
وإن أراد المجني عليه تعجيزه.. كان له ذلك، ولكن ليس له أن يفسخ الكتابة بنفسه، بل يرفع الأمر إلى الحاكم ليفسخ الكتابة ويبيعه بأرش الجناية، إلا أن يختار السيد أن يبقيه على الكتابة ويفديه، فله ذلك. وبكم يفديه؟ على القولين.
قال الشيخ أبو إسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا عجزه المجني عليه، فإن كان الأرش يحيط بالثمن.. بيع جميعه وقضي حق المجني عليه، وإن كان الأرش دون الثمن.. بيع منه بقدر ما يقضي به الأرش، وبقي الباقي على الكتابة، فإذا أدى كتابة باقيه.. عتق. وهل يقوم الباقي على المولى إن كان موسرا؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقوم؛ لأنه وجد بسبب العتق قبل التبعيض.
والثاني: يقوم عليه؛ لأن اختياره للإنظار كابتداء العتق.

[مسألة الجناية على المكاتب]
) : وإذا جني على المكاتب، فإن كانت على نفسه.. انفسخت الكتابة.
فإن كان الذي جنى عليه أجنبيا.. وجبت عليه قيمته لسيده، وإن كان الذي جنى عليه سيده.. لم يجب عليه شيء وكان له أخذ كسبه.
فإن قيل: أليس القاتل لا يستحق تركة المقتول؟
قلنا: إنما لا يستحقه بالإرث، وهذا ليس بإرث، وإنما هو لحق الملك.
وإن كانت الجناية على طرفه، فإن كانت الجناية عمدا، وكان الجاني ممن يستحق عليه المكاتب القصاص.. فله أن يستوفي القصاص.
وحكى الربيع قولا آخر: أن للسيد منعه من القصاص.

(8/490)


قال أصحابنا: وهذا لا يعرف للشافعي، بل هو من تخريج الربيع؛ لأن القصاص للتشفي ودرك الغيظ، والمكاتب كغيره في ذلك.
وإن كانت الجناية خطأ أو عمدا على من لا يستحق عليه المكاتب القصاص، أو عفا عن القصاص على مال.. كان الأرش للمكاتب؛ لأنه ككسبه.
وإن كان للمكاتب عبد يملك بيعه فجنى على المكاتب.. كان للمكاتب أن يقتص منه إن كانت الجناية يجب فيها القصاص، وإن كانت خطأ.. لم يثبت له عليه أرش؛ لأن المولى لا يثبت له المال على عبده.
وإن ملك المكاتب والده أو ولده فجنى على المكاتب جناية توجب المال.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: أنه يبيعه؛ لأنه يستفيد بالبيع أرش الجناية، ويخالف غيرهما؛ لأنه لا يستفيد بالبيع شيئا؛ لأنه يملك بيعه من غير جناية.
والثاني: لا يجوز له بيعه؛ لأنه مملوك، فلا يجب له عليه مال.
وما ذكره الأول.. يبطل بالعبد المرهون، إذا جنى على الراهن.
وإن جنى بعض عبيد المكاتب على بعض جناية توجب القصاص.. فله أن يقتص من الجاني؛ لأنه من مصلحة ماله؛ لأنه إذا لم يستوف القصاص.. كان ذلك ذريعة إلى إقدام بعضهم على بعض. وإن كانت خطأ أو عمدا وعفا عنه على مال.. لم يثبت له المال؛ لأن السيد لا يثبت له المال على عبده.
وبالله التوفيق

(8/491)


[باب الكتابة الفاسدة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى: (ولو كاتب عبده كتابة فاسدة فأدى.. عتق، ورجع عليه السيد بقيمته يوم عتق) .
وجملة ذلك: أن العتق المعلق بالصفات على ثلاثة أضرب:
عتق معلق بصفة محضة لا مدخل للعوض فيها.
وعتق معلق بصفة فيها معاوضة والمغلب فيها حكم المعاوضة.
وعتق معلق بصفة فيها معاوضة والمغلب فيها حكم الصفة.
فأما (الضرب الأول: وهو) العتق المعلق بصفة لا عوض فيها، فمثل قوله: إن دخلت الدار فأنت حر، وإن كلمت فلانا فأنت حر، فهذه صفة لازمة من جهة السيد والعبد، فمتى وجدت الصفة.. عتق العبد.
وفي معنى هذا: إذا قال: إن أعطيتني ألفا فأنت حر، فهذا وإن تضمن عطية الألف.. فليس هو على وجه العوض، وإنما العطية صفة في وقوع العتق، فليس للسيد ولا للعبد فسخ هذه الصفة.
وإن أبرأ السيد العبد من الألف.. لم يعتق؛ لأن العتق يقع بوجود الصفة، وهي العطية، والإبراء ليس بعطية. وإن مات السيد.. بطلت الصفة. وإن كسب العبد مالا قبل وجود العطية.. كان لسيده. وإن دفع الألف إلى السيد.. ملكه السيد، وكان للسيد ما بقي في يد العبد، ولا تراجع بين السيد والعبد، هذا هو المذهب.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: حكمه حكم الكتابة الفاسدة؛ لأنه في الحقيقة كتابة على نجم واحد.
وأما الضرب الثاني: وهو العتق المعلق بصفة والمغلب فيه حكم العوض: فهو العتق في الكتابة الصحيحة، وقد مضى بيانه.

(8/492)


وأما الضرب الثالث: وهو العتق المعلق بصفة فيها معاوضة والمغلب فيه حكم الصفة: فهو الكتابة الفاسدة، بأن يكاتب عبده على خمر أو خنزير أو شرط فاسد، فإن المعاوضة فيها يبطل حكمها؛ لفساد العقد، وتبقى الصفة وهذه صفة جائزة من الطرفين.
فإن امتنع العبد من الأداء.. لم يجبر عليه؛ لأنه إذا لم يجبر على الأداء في الكتابة الصحيحة.. فلأن لا يجبر على الأداء في الكتابة الفاسدة أولى. وللسيد أيضا أن يبطل الصفة؛ لأن السيد إنما دخل في العقد ورضي بالصفة.. ليسلم له العوض الذي شرطه، ولم يسلم له، فكان له الرجوع فيها.
وكيفية الرجوع: هو أن يقول: قد رجعت في الصفة وأبطلتها.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويُشهد على ذلك) .
قال أصحابنا: لم يرد بهذا: أن الإشهاد شرط في صحة الرجوع، وإنما هو ليثبت أنه قد رجع فيها وأبطلها. وللسيد أن يبطل الصفة بنفسه من غير حاكم؛ لأنه مجمع عليه، فهو كفسخ البيع للعيب.
فإن جن المولى، أو أغمي عليه، أو حجر عليه لسفه قبل الأداء.. بطلت الصفة، ولم يعتق العبد بأداء العوض بعد ذلك؛ لأنه عقد جائز، فبطل بالجنون والإغماء، كالوكالة والشركة.
ولو علق عتق عبده على دخول الدار، فجن المولى أو أغمي عليه.. لم تبطل الصفة؛ لأن المولى لا يملك إبطال الصفة المجردة، بل هي لازمة مع بقاء الملك. هذا هو المنصوص.
وحكى المحاملي: أن الشيخ أبا حامد قال: عندي أن الصفة في الكتابة الفاسدة لا تبطل بجنون المولى، كما لا يبطل العتق المعلق بدخول الدار، وحمل النص على أن السيد إذا قبض في حال جنونه.. لم يعتق العبد؛ لأنه قبض غير صحيح، فلا يقع به العتق.

(8/493)


وإن مات المولى قبل أداء المال إليه.. بطلت الصفة، ولم يعتق العبد بالأداء إلى ورثته.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (لا يبطل، وإذا أدى إلى ورثته.. عتق) .
دليلنا: أنه عقد جائز من الطرفين لا يؤول إلى اللزوم فبطل بالموت، كالوكالة والشركة.
وإن جن العبد أو أغمي عليه.. لم تبطل الصفة؛ لأن العبد محجور عليه بالرق قبل الجنون، فلا يتجدد له بالجنون الحجر، ولأن العبد لا يملك إبطال الصفة، وإنما له أن يعجز نفسه، فلا ينفسخ بجنونه.
وإن مات العبد قبل الأداء.. بطلت الصفة؛ لأن العتق لا يلحقه بعد الموت.
وإن أدى العبد إلى سيده العوض الذي كاتبه عليه قبل بطلان الصفة بشيء مما ذكرناه.. عتق العبد؛ لأن العقد اشتمل على معاوضة وصفة، فإذا بطلت المعاوضة.. بقيت الصفة، فعتق بها.
وإن أبرأه السيد من المال الذي كاتبه عليه.. لم يعتق؛ لأنه إنما يعتق هاهنا بالصفة، وهي قوله: فإذا أديته فأنت حر، والصفة لا توجد في البراءة، بخلاف الكتابة الصحيحة، فإنه إذا أبرأه من مال الكتابة.. عتق؛ لأن المغلب فيه حكم المعاوضة. فإذا أبرأه من المال.. صار كأنه أداه وعتق، وإذا عتق العبد في الكتابة الفاسدة بالأداء.. كان له ما كسبه بعد الكتابة.
وإن كاتب جارية، وأتت بولد بعد الكتابة، وقلنا: يتبعها في الكتابة الصحيحة.. تبعها في الكتابة الفاسدة أيضا؛ لأن الفاسدة لما كانت كالصحيحة في العتق بالأداء.. كانت كالصحيحة أيضا في ملك الكسب وفي الولد.
وإن أعتقه السيد قبل الأداء.. لم يتبعه كسبه، ولا يتبع الجارية ولدها؛ لأن الكتابة الفاسدة للسيد فسخها، فجعل عتقه فسخا. وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أن السيد لو أعتقه عن الكفارة.. أجزأه، ولو وقع عتقه بحكم الكتابة.. لمَا أجزأه في الكفارة) .

(8/494)


ويرجع العبد على مولاه بالعوض الذي دفعه إليه؛ لأنه دفعه إليه عما عليه له فإذا لم يكن له عليه شيء.. رجع عليه به.
ويرجع المولى على العبد بقيمته من غالب نقد البلد؛ لأنه إنما أزال ملكه عنه بشرط أن يسلم له العوض الذي شرطه، فإذا لم يسلم له وتعذر الرجوع إلى رقبته.. رجع عليه بقيمته، كما لو باع سلعة بشرط فاسد وتلفت السلعة في يد المشتري.
وتعتبر قيمة العبد حال العتق؛ لأنها حالة الإتلاف، فإن كان أحد العوضين من غير جنس الآخر.. طالب كل واحد منهما بحقه الذي له عند صاحبه. وإن كان العوض الذي له دفعه العبد إلى السيد من جنس نقد البلد وعلى صفته.. فالحكم فيه ـ وفي كل دينين من الأثمان أحدهما من جنس الآخر وعلى صفته ـ واحد، وهو: أنه هل يصير أحدهما قصاصا عن الآخر؟ فيه أربعة أقوال:
أحدهما: يسقط أحدهما بالآخر وإن لم يتراضيا ولا رضي أحدهما؛ لأنه لا فائدة في قبض كل واحد منهما لحقه، ولأنه يجب عليه دفعه أو مثله.
والثاني: أنه لا يسقط أحدهما بالآخر إلا بأن يرضى أحدهما بذلك؛ لأنه إذا رضي أحدهما.. فقد رضي أن يقضي الدين الذي عليه من الدين الذي له، وله أن يقضي ما عليه من أي ماله شاء، ولم يكن للآخر الامتناع.
والثالث: أنه لا يسقط أحدهما بالآخر إلا برضاهما جميعا؛ لأنه إبدال ذمة بذمة، فلم تصح إلا برضاهما، كالحوالة.
والرابع: أنه لا يسقط أحدهما بالآخر وإن تراضيا؛ لأنه بيع دين بدين، فلم يصح.
وكل موضع قلنا: يسقط أحدهما بالآخر، فإن كانا متماثلين.. سقط أحدهما بالآخر، وإن كان أحدهما أكثر من الآخر.. سقط الأقل، وسقط من الأكثر بقدر الأقل، ودفع ما بقي عليه.
قال ابن الصباغ: وإن كان الحقان من غير جنس الأثمان.. فلا يسقط أحدهما بالآخر.

(8/495)


والفرق بينهما: أن ما عدا الأثمان تطلب فيه المغابنة؛ لوجود الاختلاف فيها، وقلما يتساويان، والأثمان به متساوية لا تطلب فيها المغابنة.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن الحقين إذا كانا من ذوات الأمثال.. فهي كالأثمان على الأربعة أقوال.
وإن أخذ المكاتب كتابة فاسدة من سهم الرقاب من الزكاة شيئا، فإن لم يكن فيه وفاء بما كوتب عليه.. استرجع منه. وإن كان فيه وفاء.. فالمنصوص: (أنه يسترجع منه) ؛ لأن بفساد الكتابة خرج عن أن يكون من الرقاب.
ومن أصحابنا من قال: لا يسترجع منه؛ لأنه كالكتابة الصحيحة في العتق والكسب، فكان كالصحيحة في الأخذ من سهم الرقاب.

[مسألة يعتق المخبول ونحوه بأداء الكتابة]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو كان العبد مخبولا.. عتق بأداء الكتابة، ولا يرجع أحدهما على الآخر بشيء) وفي هذا ثلاث مسائل:
إحداهن: إذا كاتب عبده وهو عاقل كتابة صحيحة، ثم جن العبد وأدى مال الكتابة في حال جنونه.. فإنه يعتق بالأداء؛ لأن السيد إذا قبض منه.. فقد استوفى منه حقه الذي كاتبه عليه، ولو أخذ حقه من يده.. يعتق العبد بحكم العقد.
الثانية: إذا كاتبه ـ وهو عاقل ـ كتابة فاسدة، ثم جن العبد فأدى المال في حال جنونه.. فيعتق العبد بحكم الصفة، ويثبت بينهما التراجع إلا أن الحاكم هاهنا ينصب وكيلا على العبد يراجع عنه؛ لأن المجنون لا تصح مراجعته.
الثالثة: إذا كاتب عبده المجنون كتابة فاسدة، فأدى العبد المال في حال جنونه.. فنقل المزني: (أنه يعتق بأداء مال الكتابة، ولا يرجع أحدهما على الآخر بشيء) .

(8/496)


ونقل الربيع في " الأم " (7/379) : (أنه يعتق، ويتراجعان) .
واختلف أصحابنا في المسألة على أربع طرق:
فقال أبو العباس: الصحيح: ما نقله الربيع في " الأم " وأنهما يتراجعان؛ لأن السيد لم يسلم له ما شرط من المسمى، وقد وقع العتق، فيتراجعان، ككتابة الصحيح، وما نقله المزني فيه زيادة: (لا) .
وقال أبو إسحاق: الصحيح: ما نقله المزني وأنه لا يرجع بشيء؛ لأن العبد إذا كان مجنونا.. فليس هو من أهل العقود ولا من أهل الضمان، فإذا عقد معه العقد.. فلم يلتزم ضمانا بالعقد، وإنما يعتق بوجود الصفة، فلم يثبت بينهما التراجع. وما نقله الربيع أسقط منه: (لا) .
وقال القاضي أبو الطيب: في المسألة قولان، ووجههما: ما ذكرناه لأبي العباس وأبي إسحاق.
وقال الشيخ أبو حامد: يحتمل أن تكون المسألة على اختلاف حالين:
فالذي نقله المزني: (أنه لا يرجع أحدهما بشيء) أراد به: إذا كاتبه وهو مجنون.. فلا يثبت بينهما تراجع؛ لأن المجنون ليس من أهل العقود والضمان.
والذي نقل الربيع: (أنهما يتراجعان) أراد به: إذا كاتبه كتابة فاسدة وهو عاقل، ثم جن وأدى المال في حال جنونه.. فإنه يعتق ويتراجعان؛ لأنه حال العقد من أهل العقد والضمان.
وإن كاتب عبدا صغيرا فأدى إليه ما كاتبه عليه.. عتق، وهل يثبت بينهما التراجع؟ على الطرق الأولى الثلاث في المجنون.

[مسألة إبطال السيد المكاتبة إذا جزأها]
) : وإن كاتب نصف عبده وقلنا: لا يصح.. فللسيد إبطال هذه الصفة والرجوع فيها. فإن لم يبطلها حتى أدى العبد ما كاتبه عليه.. عتق النصف الذي كاتبه منه بالصفة،

(8/497)


وسرى العتق إلى باقيه؛ لأن النصف الأول عتق برضا السيد واختياره، فسرى العتق إلى باقيه، كما لو قال لعبده: إن دخلت الدار فنصفك حر، فدخل الدار، فإن نصفه يعتق بالصفة والثاني بالسراية.
إذا ثبت هذا: فإن للعبد أن يرجع على السيد بما دفع إليه من العوض، وللسيد أن يرجع على العبد بقيمة نصفه الذي كاتبه عليه؛ لأن السيد لم يرض بزوال ملكه عنه إلا بعوض، ولم يسلم له ذلك، ولا يرجع عليه بقيمة نصفه الذي عتق بالسراية؛ لأن العبد لم يلتزم لسيده بعتق ذلك النصف عوضا.

[فرع: مكاتبة الشريك دون إذن شريكه]
) : وإن كاتب شركا له في عبده من غير إذن شريكه، فالكتابة فاسدة، وللسيد أن يبطل الصفة ويرجع فيها، فإن لم يبطل الصفة حتى أدى إليه العبد ما كاتبه عليه.. نظرت:
فإن أدى إليه ذلك من حصة نصيبه من كسبه، وأدى إلى شريكه حصة نصيبه من كسبه.. عتق نصيب السيد الذي كاتبه بالصفة، ورجع العبد على سيده الذي كاتبه بما دفع إليه من العوض، ورجع المولى عليه بقيمة نصيبه منه.
فإن كان السيد الذي كاتبه موسرا بقيمة حصة شريكه منه.. عتق عليه بالسراية، وغرم لشريكه قيمة نصيبه، ولا يرجع السيد على العبد بقيمة ما غرمه لشريكه؛ لأن العبد لم يلتزم لسيده الذي كاتبه عوضا عن عتق نصيب شريكه.
وإن دفع العبد المكاتب جميع كتابته إلى الذي كاتبه.. فهل يعتق؟ فيه وجهان:
أحدهما: يعتق؛ لأن العتق في الكتابة الفاسدة يقع بالصفة، وقد وجدت الصفة، فعتق، كما لو قال لامرأته: إن أعطيتني هذا العبد فأنت طالق، فغصبته وأعطته إياه.

(8/498)


والثاني: لا يعتق، وهو الصحيح؛ لأن قوله: فإذا أديت إلي كذا فأنت حر يقتضي أن يؤدي إليه مما يملك، وما أداه إليه لا يملكه، فهو كما لو لم يؤد إليه، ويخالف العبد في الطلاق؛ لأنه قد عينه، فوزانه من الطلاق أن يقول: إذا أعطيتني عبدا فأنت طالق، فغصبت عبدا وأعطته إياه.. فإنها لا تطلق.
فإذا قلنا: إنه يعتق.. فللشريك الذي لم يكاتب أن يرجع على شريكه بحصة نصيبه مما قبضه من العبد؛ لأنه ملكه، ويرجع المولى على العبد بقيمة نصيبه، ويرجع العبد عليه بما بقي من كسبه.
وإن كان السيد الذي كاتبه موسرا بقيمة نصيب شريكه.. قوم عليه وعتق عليه، ولا يرجع على العبد بما غرمه لشريكه من الكسب والقيمة.
وإن قلنا: إنه لا يعتق.. فللشريك الذي لم يكاتب أن يرجع على شريكه بنصف ما قبضه من كسب العبد، فإن أدى إليه العبد تمام ما كاتبه عليه من نصف كسبه.. عتق وحكم التراجع بينهما والتقويم على ما مضى.
وإن كاتبه بإذن شريكه، فإن قلنا: لا يصح.. فهو كما لو كاتبه بغير إذنه، على ما مضى. وإن قلنا: إنه يصح، فإن دفع نصف كسبه إلى الذي كاتبه ونصفه إلى الذي لم يكاتبه.. عتق بالأداء ولم يثبت بين السيد والعبد تراجع؛ لأن الكتابة صحيحة.
فإن كان الذي كاتبه موسرا بقيمة نصيب شريكه.. قوم عليه وعتق ولا شيء على المكاتب مما دفعه السيد بالتقويم. فإن كان معسرا.. لم يقوم عليه.
وإن دفع جميع كسبع إلى الذي كاتبه.. فهل يعتق نصيب الذي كاتبه؟ من أصحابنا من قال: فيه وجهان، كالوجهين في الكتابة الفاسدة.
وقال أكثرهم: لا يعتق وجها واحدا، وهو المذهب؛ لأن الكتابة الصحيحة: المغلب فيها حكم العوض ـ ولم يحصل له دفع العوض ـ والكتابة الفاسدة: المغلب فيها الصفة.

(8/499)


[مسألة مكاتبة عبيد بعقد واحد]
) : إذا كاتب عبيدا له على مال بعقد واحد، فإن قلنا: يصح العقد، بأن أدى كل واحد منهم ما يخصه من مال الكتابة.. عتقوا، وإن أدى واحد منهم ما يخصه.. عتق.
فإن قيل: هلا قلتم: لا يعتق المؤدي قبل أداء أصحابه؛ لأن السيد قال: فإذا أديتم.. فأنتم أحرار، فلا يعتق واحد منهم حتى يؤدوا كلهم، كما لو قال لعبيده: إذا أديتم إلي كذا.. فأنتم أحرار، فإنه لا يعتق واحد منهم إلا بأداء الجميع؟ فالجواب: أن الكتابة إذا كانت صحيحة.. فالمغلب فيها حكم المعاوضة دون الصفة، بدليل: أنه لو أبرأ السيد واحدا منهم.. عتق.
وإن قلنا: إن الكتابة فاسدة فللسيد إبطال الصفة، فإن لم يبطلها حتى أدوا المال الذي كوتبوا عليه.. عتقوا بالصفة، ورجع السيد على كل واحد منهم بقيمته، ورجعوا عليه بالمال الذي دفعوه إليه.
وإن أدى أحدهم ما يخصه من مال الكتابة.. فهل يعتق بالصفة، ويثبت التراجع بينه وبين السيد؟
قال الشافعي في " الإملاء ": (يعتق ويتراجع هو والسيد؛ لأن الكتابة الفاسدة محمولة على الصحيحة في العتق، وفي الصحيحة: إذا أدى بعض العبيد.. عتق ـ فكذلك في الكتابة الفاسدة) .
ومن أصحابنا من قال: لا يعتق.
قال أصحابنا: وهو الأقيس؛ لأن العتق بالكتابة الفاسدة يقع بالصفة، والصفة لا توجد بأداء بعضهم.

(8/500)


[فرع يؤدي من عتق عن جماعة المكاتبين]
) . وإن كاتب جماعة عبيد.. فإنه لا يجب أن يؤدي بعضهم عن بعض مال كتابته.
فإن أدى واحد منهم عن صاحبه مال كتابته، فإن كان بعد أن أدى المؤدي كتابة نفسه وعتق.. صح. فإن كان بغير إذن المؤدي عنه.. لم يرجع عليه بشيء؛ لأنه متطوع عنه، وإن كان بإذنه.. رجع عليه وكان دينا على المؤدى عنه. وإن أدى عن غيره قبل أن يؤدي هو عن نفسه كتابة نفسه، فإن لم يعلم المولى أنه يؤدي ذلك عن غيره، كأن اعتقد أنه يؤدي ذلك من كسب المؤدى عنه.. لم يصح الأداء عن المؤدى عنه؛ لأنه إن كان بغير إذن المؤدى عنه.. فهو هبة منه له. وإن كان بإذنه.. فهو قرض له، والقرض والهبة لا يصحان من مال المكاتب بغير إذن سيده.
وإن كان ذلك بعلم السيد، بأن قال لسيده: هذا من كسبي أؤديه عن صاحبي، فقبضه المولى..فهل يصح ذلك عن المؤدى عنه؟
إن قلنا: تصح هبته بإذن المولى.. صح هاهنا، وإن قلنا: لا تصح هبته بإذن المولى.. لم يصح الأداء عن المؤدى عنه.
فعلى هذا: إن كان قد حل على المؤدى عنه نجم.. قاصه به، وإن لم يحل عليه نجم.. قال ابن الصباغ: فإن شاء قاصه به، وإن شاء طالبه به وأخذه.
وقال غيره من أصحابنا: لا تصح المقاصة إلا باتفاق الدينين بالحلول أو التأجيل.
فعلى هذا: فإنه يأخذه منه ليتصرف فيه إلى أن يحل عليه نجم.
فإن لم يأخذه من السيد حتى أدى المؤدي عن نفسه وعتق.. فهل يقع ذلك عن المؤدى عنه؟
ظاهر ما قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أنه يقع عن المؤدى عنه؛ لأنه إنما منع من الأداء لرقه، وقد زال رقه.. فوقع عن المؤدى عنه.

(8/501)


ومن أصحابنا من قال: لا يقع عنه؛ لأنه وقع الأداء فاسدا.. فلا يصح حتى يبتدئ إذنا صحيحا.
وكل موضع وقع الأداء عن صاحبه: فإن كان بإذن المؤدى عنه.. كان دينا عليه له، وحكمه حكم دين القرض إذا اجتمع مع دين الكتابة، وقد مضى.
قال الطبري في " العدة ": ولو كاتب جماعة عبيد له وشرطوا عليه أن يكون كل واحد منهم ضامنا عن صاحبه.. كانت الكتابة فاسدة قولا واحدا.
وبالله التوفيق

(8/502)


[باب اختلاف المولى والمكاتب]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن اختلف السيد والمكاتب.. تحالفا وترادا) . وجملة ذلك: أن السيد والمكاتب إذا اختلفا.. نظرت:
فإن اختلفا في أصل الكتابة، وادعى العبد على مولاه أنه كاتبه وأنكر السيد، فإن أقام العبد شاهدين ذكرين على الكتابة.. ثبتت الكتابة، ولا يقبل فيه شاهد وامرأتان، ولا شاهد ويمين؛ لأن المقصود إثبات العتق، وذلك لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين.
وإن لم يكن معه بينة.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» ، ولأن الأصل عدم الكتابة، فكان القول قول من ينفيها.
وإن اتفقا على الكتابة ولكن اختلفا في قدر المال، بأن قال السيد: كاتبتك على ألفين إلى نجمين، فقال المكاتب: بل كاتبتني على ألف إلى نجمين، أو اختلفا في مقدار الأجل، بأن قال السيد: كاتبتك على ألف في نجمين كل نجم إلى سنة، فقال المكاتب: بل كاتبتني على ألف في نجمين كل نجم إلى سنتين، أو اختلفا في قدر النجوم، بأن قال السيد: كاتبتك على ألف في نجمين كل نجم إلى كذا، وقال المكاتب: بل كاتبتني على ألف في أربعة نجوم، ولا بينة لواحد منهما.. فإنهما يتحالفان على النفي والإثبات، كتحالف المتبايعين في قدر الثمن. وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (القول قول المكاتب) .
وعن أحمد ثلاث روايات:
إحداهن: كقولنا.
والثانية: كقول أبي حنيفة.

(8/503)


والثالثة: (القول قول السيد) . دليلنا: أنهما اختلفا في عوض العتق القائم بينهما أو في صفته وليس مع أحدهما بينة، فوجب أن يتحالفا كالمتبايعين. فإذا تحالفا ... نظرت:
فإن تحالفا قبل العتق، فإن قلنا: إن المتبايعين إذا تحالفا انفسخ البيع بنفس التحالف.. انفسخت الكتابة بنفس التحالف، ولا يعتق بعد ذلك بالأداء.
وإن قلنا: لا ينفسخ البيع بنفس التحالف، فإن تراضى السيد والمكاتب على أحد العوضين.. لم تنفسخ الكتابة، وإن لم يتراضيا على شيء.. فسخت الكتابة، ومن يتولى فسخها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تنفسخ إلا بالحكم.
والثاني: لكل واحد منهما أن يفسخها، كما قلنا في المتبايعين.
وإن كان التحالف بعد العتق، بأن دفع المكاتب إلى السيد ألفين، فقال العبد: مال الكتابة من ذلك ألف، وألف أودعتكه، وقال السيد: بل الألفان مال الكتابة.. فإنهما يتحالفان ويعتق العبد لاتفاقهما على العتق ولا يرتفع العتق؛ لأنه إذا وقع.. لم يرتفع ولكن يثبت للسيد الرجوع على العبد بقيمته، ويثبت للعبد على السيد الرجوع بما دفع إليه. والكلام في المقاصة إذا أدى الجميع من نقد البلد على الأقوال الأربعة.

[مسألة قبول قول السيد بيمينه على عدم أهليته عند المكاتبة]
) : وإن قال السيد: كاتبتك وأنا مغلوب على عقلي أو محجور علي، وأنكر العبد، فإن كان قد عرف للسيد جنون أو حجر.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الأصل بقاؤه على الجنون والحجر. وإن لم يعرف له ذلك.. فالقول قول العبد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الجنون والحجر.

(8/504)


[فرع ثبوت المكاتبة بشاهدين]
) : وإن مات رجل وخلف عبدا وابنين فادعى العبد أن سيده قد كان كاتبه، فإن صادقه الاثنان أو كذباه أو أحدهما، وأقام العبد شاهدين ذكرين على الكتابة.. ثبتت الكتابة.
وإن أنكراه ولا بينة للعبد.. فالقول قول الابنين مع أيمانهما؛ لأن الأصل عدم الكتابة، ويحلف كل واحد منهما يمينا بالله: أنه لا يعلم أن أباه كاتبه؛ لأنهما يمين على نفي فعل الغير.
وإن صدقه أحدهما أن أباه كاتبه وأنكر الآخر، فإن شهد المصدق له على الكتابة وكان عدلا وشهد معه شاهد ذكر.. حكم للعبد بالكتابة في جميعه. وإن لم يكن المصدق عدلا أو لم يشهد معه غيره.. فالقول قول المنكر مع يمينه: أنه لا يعلم أن أباه كاتبه، فإذا حلف له.. صار نصفه مملوكا للمنكر، ونصفه مكاتبا للمصدق، فإن قيل: أليس لو كاتب أحد الشريكين العبد في نصيبه بغير إذن شريكه.. لم تصح الكتابة، وبإذنه على قولين، فكيف صحت الكتابة هاهنا في نصفه؟
فالجواب: أنه إذا كاتبه في نصيبه ابتداء.. فقد قصد الإضرار بشريكه، فلذلك لم يصح، وهاهنا لم يقصد الإضرار بشريكه، وإنما أخبر أن أباه كاتبه، فقبل خبره.
إذا ثبت هذا: فإن الكسب يكون بين المكاتب وبين المكذب نصفين، فإن اتفقا على المهايأة ويكون لكل واحد منهما كسب يوم، أو على ترك المهايأة ثم يقتسمان ما حصل من كسب.. جاز. وإن دعا أحدهما إلى المهايأة وامتنع الآخر.. لم يجبر الممتنع منهما.
وقال أبو حنيفة: (يجبر) . دليلنا: أن المهايأة تؤدي إلى تأخير الحق عن حالة استحقاقه.. فلم يجبر الممتنع منهما، كما لو كان له دين حال على رجل ... فإنه لا يجبر على تأخيره.

(8/505)


فإذا قسم الكسب بينهما: إما مهايأة أو مناصفة، فإن عجز المكاتب عن حق المصدق من مال الكتابة.. كان للمصدق تعجيزه، فإذا عجزه.. عاد نصفه المكاتب رقيقا له، وأخذ ما بقي في يده من كسبه بعد الكتابة؛ لأن المكذب قد أخذ حقه من الكسب.
فأما ما اكتسبه قبل الكتابة.. فإنه بين الابنين نصفان؛ لأنه كان مملوكا لأبيهما، وانتقل إليهما بالإرث.
فإن اختلفا في شيء من الكسب، فقال المكذب: هذا كسبه قبل الكتابة فهو بيننا، وانتقل إليهما بالإرث.
فإن اختلفا في شيء من الكسب، فقال المكذب: هذا كسبه قبل الكتابة فهو بيننا، وقال المصدق: بل كسبه بعد الكتابة وقد أخذت حقك منه وباقيه لي.. فالقول قول المصدق مع يمينه؛ لأن المكذب يدعي أنه كان موجودا قبل الكتابة، والأصل عدم وجوده في ذلك الوقت، ولأن السيد لو اختلف هو والمكاتب في ذلك.. لكان القول قول المكاتب مع يمينه؛ والمصدق هاهنا قائم مقام المكاتب.
وإن أدى إلى المصدق نصف مال الكتابة.. عتق نصفه، وكان نصفه مملوكا للمنكر، ولا يقوم نصيب المنكر على المصدق وإن كان موسرا؛ لأن التقويم إنما يكون على من باشر العتق أو وجد منه سبب العتق، والمصدق لم يباشر العتق ولا وجد منه سببه وإنما أخبر بكتابة أبيه، ولمن يكون ولاء هذا النصف؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكون بين الاثنين نصفين؛ لأنه عتق بسبب كان من أبيهما، ويثبت له عليه الولاء، فانتقل إليهما.
والثاني: يكون للابن المصدق وحده؛ لأن المنكر أسقط حقه من الولاء بإنكاره فهو كما لو شهد شاهد لأبيهما بدين على رجل فحلف أحدهما معه دون الثاني فإن للحالف نصف الدين.

(8/506)


[مسألة ادعاء المكاتب دفع مال الكتابة أو الإبراء]
) : وإن ادعى المكاتب أنه دفع مال الكتابة إلى السيد، أو ادعى أن سيده أبرأه من مال الكتابة، فأنكر السيد القبض، أو البراءة، أو قال المكاتب: وضعت عني النجم الأول، فقال السيد: بل وضعت النجم الأخير، فإن كان مع المكاتب بينة بما ادعاه.. حكم له بما ادعاه؛ لأن البينة أقوى من اليمين ويقبل في ذلك شاهدان، وشاهد وامرأتان، وشاهد ويمين؛ لأنه بينة على المال.
وإن لم يكن مع المكاتب بينة.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم ما ادعاه المكاتب واشتغال ذمته بمال الكتابة.

[فرع كاتبه على دنانير وأبرأه من دراهم]
) : وإن كاتبه على ألف دينار، فأبرأه عن ألف درهم.. لم تصح البراءة؛ لأنه أبرأه عما لا يستحقه عليه، فصار وجود هذا الإبراء كعدمه.
فإن قال السيد: أردت عن قيمة ألف درهم من الدنانير التي عليه.. صح وبرئت ذمته عن قيمة ألف درهم من الدنانير؛ لأنه فسر إبراءه بما يحتمله، فقبل منه.
فإن اختلفا، فقال المكاتب: أبرأتني من ألف درهم وأردت عن قيمتها من الدنانير، وقال السيد: لم أرد ذلك.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأنه أعلم بما أراد. فإن نكل عن اليمين.. حلف المكاتب أنه أراد ذلك.
وإن اختلف المكاتب وورثة السيد فيما أراد السيد من ذلك.. حلف الورثة أنهم لا يعلمون أن مورثهم أراد ذلك.

[مسألة علق إقراره بالقبض بالمشيئة]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو قال: قد استوفيت آخر كتابتك إن شاء الله أو إن شاء فلان.. لم يجز؛ لأنه استثناء) .
وجملة ذلك: أن السيد إذا قال: فقد استوفيت آخر نجومك أو جميع مال الكتابة إن

(8/507)


شاء الله أو إن شاء فلان.. لم يكن إقرارا؛ لأن الاستثناء يمنع الإقرار كما يمنع الطلاق والعتاق؛ لأنه يحتمل أن يريد بذلك: سأستوفي إن شاء الله؛ لأن الاستثناء يدخل في الأفعال المستقبلة دون الماضية.
وإن قال: قبضت مال الكتابة إن شاء زيد.. لم يصح الإقرار؛ لأنه علقه بشرط، والقبض لا يصح تعليقه بشرط، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن شاء الله أو إن شاء فلان) .. لم يجز؛ لأنه استثناء يرجع إلى مشيئة الله تعالى، وأما مشيئة فلان فهي صفة.
وإن قال السيد: استوفيت، أو قال المكاتب: أليس قد استوفيت أو وفيتك، فقال السيد: بلى، ثم اختلفا فادعى المكاتب أنه استوفى جميع مال الكتابة، وقال السيد: بل استوفيت البعض.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الاستيفاء لا يقتضي الجميع.
وإن قال السيد: استوفيت آخر كتابتك.. فليس هذا إقرارا باستيفاء جميع مال الكتابة؛ لأنه يحتمل ذلك، ويحتمل أنه يريد: استوفيت آخر ما حل عليك دون ما قبله، فيرجع في تفسير ذلك إلى السيد، فإن ادعى المكاتب أنه أراد بذلك جميع مال الكتابة، وقال السيد: بل أردت النجم الأخير دون ما قبله.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأنه أعلم بما أراد.

[مسألة يوقف ولد المكاتبة حتى يعرف وقت ولادته]
) : وإن كان مع المكاتبة ولد، فقالت: ولدته بعد الكتابة فهو موقوف معي ـ إذا قلنا: ولدها موقوف معها ـ وقال السيد: بل ولدته قبل الكتابة فهو ملك لي.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن هذا اختلاف في وقت الكتابة، فالسيد يقول: كان العقد بعد الولادة، والمكاتبة تقول: بل كان العقد قبل الولادة، ولو اختلفا في أصل العقد.. لكان القول قول السيد فكذلك إذا اختلفا في وقته.

(8/508)


[فرع شراء المكاتب زوجته الأمة]
) : وإن كاتب رجل عبدا له ثم زوجه بأمته، ثم باع السيد الأمة من المكاتب.. فإن النكاح ينفسخ.
وقال أبو حنيفة: (لا ينفسخ؛ لأنه لا يملكها، بدليل: أنه إذا اشترى أمة.. لم يملك وطأها) .
دليلنا: أن المكاتب يملك ما اشتراه، بدليل: أنه إذا اشترى شقصًا من دار، ثم اشترى السيد شقصًا فيه.. ثبت للمكاتب الشفعة فيما اشتراه مولاه، فانفسخ نكاحه، كالحر إذا ملك زوجته.
وأما منع المكاتب من وطئها: فلا يدل على أنه لا يملكها، بدليل: أن الراهن يمنع من وطء أمته المرهونة وإن كان مالكها.
إذا ثبت هذا: فإن أتت هذه الجارية بولد، فاختلف السيد والمكاتب فيه، فقال السيد: أتت به قبل أن أبيعها منك فهو ملك لي، وقال المكاتب: بل أتت به بعد ما اشتريتها فهو ملك لي.. فالقول قول المكاتب مع يمينه؛ لأنهما اختلفا في ملكه، ويد المكاتب عليه، فكان القول قوله، كسائر الأملاك. ويفارق المكاتبة، فإنها لا تدعي ملك ولدها.

[مسألة إقرار السيد استيفاء ما على أحد مكاتبته]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو قال السيد: قد استوفيت ما على أحد مكاتبي.. أقرع بينهما) .
وجملة ذلك: أنه إذا كاتب عبدين له بعقدين أو بعقد ـ وقلنا: إنه يصح ـ ثم أقر السيد أن أحدهما قد أدى إليه جميع مال الكتابة، أو أنه قد أبرأه من جميع مال الكتابة،

(8/509)


وقال: لا أعلم عينه منهما.. فما دام حيا لا يقرع بينهما، ولكن يقال له: تذكر الذي أدى منهما أو الذي أبرأته منهما؛ لأن ذلك أقوى من القرعة، فإن تذكر وقال: هذا الذي أدى إلي مال الكتابة، أو هذا الذي أبرأته.. حكم بعتقه.
فإن صدق الآخر السيد أنه لم يؤد أو أنه لم يبرئه.. كان باقيا على كتابته.
وإن قال الآخر: أنا الذي أدى مال كتابته، أو أنا الذي أبرأته، فإن صدقه السيد.. حكم بعتقه أيضا مع الأول، وإن كذبه ولا بينة للثاني.. فالقول قول السيد مع يمينه: أنه لم يؤد إليه أو أنه لم يبرئه؛ لأن الأصل بقاء المال في ذمته. فإذا حلف له السيد.. بقي على كتابته، وإن نكل السيد.. حلف المكاتب وعتق أيضا.
وإن مات المولى قبل أن يبين.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " المختصر ": (يقرع بينهما) وقال في موضع آخر: (لا يقرع بينهما) فحصل فيها قولان:
أحدهما: يقرع بينهما، فمن خرج له سهم الحرية.. عتق؛ لأن الحرية تعينت لأحدهما وأشكل عينه ولا يمكن التمييز إلا بالقرعة. قال المحاملي: فعلى هذا: إن ادعى الآخر على الورثة أنه هو الذي أدى مال كتابته أو أبرأه السيد.. حلف الورثة: أنهم لا يعلمون أنه قد أدى مال كتابته، أو أن مورثهم أبرأه.
والقول الثاني: أنه لا يقرع بينهما؛ لأنه لا يؤمن أن يخرج سهم الحرية للذي لم يؤد فيرق المعتق، ولكن يرجع إلى بيان الوارث، فيقال للوارث: أتعلم الذي أدى أو أبرئ؟ فإن قال: نعم.. قيل له: عينه، فإذا عين أحدهما.. حكم بعتقه.
فإن قال الآخر: بل أنا الذي أدى مال كتابته أو أبرأه السيد.. حلف الوارث أنه لا يعلم أنه الذي أدى أو أبرئ.. وبقي على الكتابة. وإن قال الوارث: لا أعلم عين المؤدي أو المبرأ، فإن صدقه المكاتبان أنه لا يعلم.. بقيا على الكتابة، وإن كذباه وادعيا علمه بالمؤدي منهما أو بالمبرأ.. حلف لكل واحد منهما يمينا وبقيا على الكتابة.

(8/510)


قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: ويؤدي كل واحد منهما جميع مال كتابته؛ لأنه لم يثبت أداء أحدهما. قال: وعندي: أنهما إذا قالا: نؤدي ما على أحدنا إن كانت كتابتهما سواء، أو كانت كتابة أحدهما أكثر من الآخر فقالا: نؤدي كتابة أكثرنا كتابة لنعتق.. كان لهما ذلك؛ لأنهما إذا أديا ذلك.. فقد أديا جميع ما عليهما بيقين.

[مسألة مكاتبة ثلاثة بعقد على مائة]
) : وإن كاتب رجل ثلاثة أعبد له على مائة درهم بعقد واحد، وقيمة أحدهم مائة وقيمة كل واحد من الآخرين خمسون، فإن قلنا: إن الكتابة باطلة.. فلا كلام. وإن قلنا: إنها صحيحة.. قسمت المائة المسماة عليهم على قدر قيمتهم، فيكون على من قيمته مائة: خمسون، وعلى كل واحد من الآخرين: خمسة وعشرون.
فعلى هذا: إن أدى العبيد الثلاثة مائة من أيديهم إلى السيد، ثم اختلفوا، فقال كل واحد من العبدين اللذين قيمتهما مائة: أديناها أثلاثا بيننا، فأديت أنت ثلاثة وثلاثين وثلثا وبقي عليك باقي كتابتك فلم تعتق، وأدى كل واحد منا ثلاثة وثلاثين وثلثا، وعلى كل واحد منا خمسة وعشرون.. فقد عتقنا نحن، وبقي ما زاد لكل واحد منا وديعة عند السيد، أو أدينا ذلك عنك بإذنك فهو دين عليك لنا. وقال من كثرت قيمته: بل أديناها على قدر ما علينا من مال الكتابة، فأديت أنا خمسين وعتقت، وأدى كل واحد منكما خمسة وعشرين وعتق:
فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (القول قول من قلت قيمته) .
وقال في موضع من " الأم ": (إذا أدوا ستين دينارا، ثم اختلفوا، فقال من قلت قيمته: أديناها على العدد أثلاثا، وقال من كثرت قيمته: أديناها على قدر ما علينا من مال الكتابة.. فالقول قول من كثرت قيمته) .

(8/511)


واختلف أصحابنا فيها على طريقين:
فمنهم من قال: فيها قولان:
أحدهما: القول قول قلت قيمته، وهو الأصح؛ لأن أيديهم على المال، فالظاهر أن أملاكهم متساوية فيه.
والثاني: أن القول قول من كثرت قيمته؛ لأن الظاهر من حال من عليه دين أنه لا يؤدي أكثر مما عليه، ومن قلت قيمته يدعي أنه أدى أكثر مما عليه، وهذا مخالف للظاهر.
ومنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال: (القول قول من قلت قيمته) أراد به: إذا أدوا أقل مما عليهم من مال الكتابة، مثل: أن يؤدوا ستين وعليهم مائة؛ لأن من قلت قيمته.. لم يؤد أكثر مما عليه، فلا تخالف دعواه الظاهر، ويد كل واحد منهم على ثلث المال، فكان القول قوله.
والموضع الذي قال: (القول قول من كثرت قيمته) أراد به: أدوا جميع مال الكتابة؛ لأن من قلت قيمته هاهنا.. يدعي أنه أدى أكثر مما عليه، فكانت دعواه تخالف الظاهر، فلم تقبل.

[مسألة ادعاء المكاتب تأدية الكتابة لسيديه]
) : وإن كان عبد بين رجلين نصفين فكاتباه كتابة صحيحة، ثم ادعى المكاتب أنه أدى إليهما مال الكتابة.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: إذا كاتباه على ألف، فادعى المكاتب أنه أدى إلى كل واحد منهما خمسمائة، فإن صدقاه.. عتق، وإن كذباه ولا بينة للمكاتب.. حلف له كل واحد منهما يمينا وبقي على الكتابة، وإن صدقه أحدهما وكذبه الآخر.. عتق نصيب المصدق.
ولا تقبل شهادة المصدق على المنكر؛ لأنه يدفع بهذه الشهادة عن نفسه غرما، فإن لم يكن مع المكاتب بينة.. حلف له المنكر: أنه لم يقبض منه نصيبه من الكتابة،

(8/512)


وبقي نصيبه على الكتابة، ويكون المنكر بالخيار: بين أن يطالب المكاتب بخمسمائة؛ لأنه قد ثبت أنه ما قبض شيئا منها، وبين أن يرجع على شريكه المصدق بمائتين وخمسين ـ وهو نصف ما قبض ـ لأن كسب المكاتب مشترك بين سيديه، فلا يجوز أن يخص أحدهما بشيء منه، ويرجع على المكاتب بمائتين وخمسين؛ لأنه لم يثبت أنه قبض منه شيئا من الكتابة.
فإذا حصل للمنكر الخمسمائة، إما من المكاتب وإما من المكاتب ومن المصدق.. عتق نصيبه، ولا يرجع المكاتب على المصدق بما أخذه منه المنكر، وكذلك لا يرجع المصدق على المكاتب بما أخذه منه المنكر؛ لأن كل واحد منهما يقر أن الذي ظلمه هو المنكر، فلا يرجع على غير من ظلمه.
فإن قيل: فالمكذب منكر لقبض المصدق نصيبه.. فكيف يرجع عليه؟
قلنا: إقرار المصدق يوجب له الرجوع عليه، وإنكاره لا يمنعه من الرجوع؛ لجواز أن يكون المصدق قبض بغير علم المنكر.
فإن عجز المكاتب عما لزمه أداؤه إلى المنكر.. كان له تعجيزه فإذا عجزه.. عاد نصفه رقيقا له، ونصفه قد عتق بإقرار المصدق، ويكون ما بقي في يد المكاتب من الكسب بينه وبين المنكر نصفين.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يقوم نصيب المنكر هاهنا على المصدق؛ لأن التقويم لحظ العبد لتكميل أحكامه، والعبد يزعم أنه حر، وإنما استرق المنكر نصفه ظلما) .
المسألة الثانية: إذا قال المكاتب لأحد الشريكين: دفعت إليك جميع الألف لتأخذ نصفها لك وتدفع إلى شريكك نصفها، فقال الذي ادعى عليه المكاتب: لم تدفع إلي جميع الألف، وإنما دفعت إلي نصف الألف وإلى شريكي نصف الألف، فقال الشريك: ما دفع إلي شيئا.. فيعتق نصيب الذي أقر أنه قبض نصف الألف، ويحلف للمكاتب: أنه ما قبض منه إلا خمسمائة، ولا تقبل شهادته على شريكه؛ لأن المكاتب لا يدعي عليه أنه قبض، ولأنه يدفع بهذه الشهادة عن نفسه غرما، ولا يمين

(8/513)


على الشريك الذي لم يدع عليه المكاتب، للمكاتب؛ لأنه لا يدعي أنه أقبضه شيئا، فبقي نصيبه على الكتابة: ويكون بالخيار: بين أن يرجع على المكاتب بخمسمائة، وبين أن يرجع عليه بمائتين وخمسين وعلى شريكه المقر بمائتين وخمسين؛ لأن الخمس المائة التي أقر بقبضها من كسب العبد وكسبه بينهما.
قال ابن الصباغ: وللمصدق أن يحلف المنكر: أنه لم يقبض من المكاتب خمسمائة؛ لجواز أن يخاف، فيقر، فيسقط رجوعه عليه.
فإذا رجع المنكر على المكاتب أو على المصدق.. لم يرجع أحدهما على الآخر بذلك؛ لأن المصدق يعترف: أن المنكر ظالم له، فلا يرجع على غير من ظلمه، والمكاتب ما ثبت أنه دفع إلى المصدق شيئا، فيرجع عليه.
فإذا حصل للمنكر خمسمائة من المكاتب أو منهما.. عتق نصيبه.
وإن عجز المكاتب عما لزمه أداؤه إلى المنكر.. كان له تعجيزه، فإذا عجزه.. عاد نصفه رقيقا له، ونصفه قد عتق على المصدق.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويقوم على المقر نصيب المنكر؛ لأن المكاتب يقول: أنا أستحق التقويم؛ لأن نصفي مملوك) .
ومن أصحابنا من نقل جواب الأولى إلى هذه وجواب هذه إلى الأولى، وجعل فيهما قولين، وليس بشيء.
المسألة الثالثة: إذا قال المكاتب لأحد الشريكين: قد دفعت إليك الألف كلها لتأخذ نصفها وتدفع إلى شريكك نصفها، فقال هذا الذي ادعى عليه المكاتب: نعم، قد قبضت الألف ودفعت إلى شريكي نصفها، فقال الشريك: ما دفعت إلي شيئا.. عتق نصيب المقر؛ لأنه أقر أنه استوفى مال كتابته، فإن لم تكن بينة على المنكر.. فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف.. بقي حقه مكاتبا، ويكون بالخيار.. بين أن يطالب المكاتب بخمسمائة؛ لأن حقه في الأصل عليه، وبين أن يطالب المقر بخمسمائة؛ لأنه أقر بقبضها. فإذا أخذ حقه من أيهما كان.. عتق نصيبه، ثم ينظر:

(8/514)


فإن رجع المنكر على المكاتب بخمسمائة.. كان للمكاتب الرجوع على المقر بخمسمائة، سواء صدقه على الدفع إلى شريكه أو كذبه؛ لأنه يقول: كان من الواجب عليك أن تدفع إليه وتشهد ليكون دفعا مبرئا، فإذا لم تشهد.. فقد فرطت.
وإن رجع المنكر على المقر.. لم يرجع المقر على المكاتب؛ لأنه يقر أن شريكه ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه. وإن عجز المكاتب عن الأداء.. قال أصحابنا: وهذا بعيد؛ لأن له أن يأخذ من المقر خمسمائة ويؤديها في مال الكتابة، ولكنه إن لم يختر ذلك.. لم يجبره المنكر على مطالبة المقر، وللمنكر أن يعجزه، فإذا عجزه.. عاد نصفه رقيقا له، ويرجع المنكر على المقر بخمسمائة، وهو نصف ما أقر بقبضه؛ لأنه من كسب المكاتب.
قال عامة أصحابنا: ويقوم نصيب المنكر على المقر.
وقال القاضي أبو الطيب: إن كان المكاتب لم يصدق المقر في دفع خمسمائة إلى المنكر.. قوم عليه؛ لأنه يقر أن نصفه مملوك، وإن صدقه أنه دفع إليه خمسمائة.. لم يقوم عليه؛ لأنه يعترف أنه حر وأن أحكامه كملت، وأن المنكر مسترق لنصفه ظلما.

[فرع تزويج السيد ابنته من مكاتبه]
) : إذا زوج الرجل ابنته من مكاتبه برضاها.. صح النكاح، وإنما اعتبر رضاها؛ لأنه ليس بكفء لها.
فإن مات السيد قبل أن يعتق المكاتب، فإن كانت غير وارثة لأبيها، بأن كانت قاتلة أو ذمية.. فإن النكاح بحاله، وإن ورثت أباها.. انفسخ نكاحها. وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا ينفسخ النكاح) .
دليلنا: أن المكاتب عبد قبل الأداء وقد ملكت شيئا منه.. فانفسخ نكاحها، كما لو كان زوجها غير مكاتب، فملكته أو ملكت شيئا منه.

(8/515)


[فرع تدفع الكتابة لورثة السيد أو للوصي]
) : وإن كاتب الرجل عبدا له ومات السيد قبل أن يؤدي المكاتب، فإن كان وارث السيد واحدا رشيدا.. دفع المكاتب المال إليه، وإن كان وارثه اثنين رشيدين.. لم يعتق المكاتب حتى يدفع إلى كل واحد منهما نصيبه.
وإن ورث السيد من ليس برشيد.. لم يعتق المكاتب حتى يدفع مال الكتابة إلى الناظر في أمر الوارث، من جد أو وصي أو حاكم أو أمين الحاكم.
وإن أوصى السيد بمال الكتابة لرجل معين أو لقوم معينين.. قال المحاملي: جاز للمكاتب أن يدفع مال الكتابة للموصى له المعين، ويجوز أن يدفعه إلى وصي الميت أو إلى وارثه؛ لأن للوارث والوصي أن يتوليا إيصال الوصايا إلى مستحقيها.
وإن وصى به المولى لقوم موصوفين غير معينين، كالفقراء والمساكين.. لم يبرأ المكاتب بدفعه إليهم، بل يدفعه إلى الوصي ليتولى تفرقته.
وإن أوصى المولى أن يقضى دينه من مال الكتابة، فإن كان الدين لرجل معين.. فالأولى أن يدفعه إليه. وإن دفعه إلى الوصي أو إلى الوارث.. جاز. وإن لم يوص به، بل كان عليه دين يحيط بماله.. فلا يجوز للمكاتب أن يدفع إليه المال إلا بحضرة الوارث والوصي. فإن دفعه إلى أحدهما.. لم يبرأ؛ لأن لكل واحد منهما فيه حقا، فحق الوارث: أن يأخذه ويقضي الدين من عنده، وللوصي حق، وهو: منع الورثة من التصرف في التركة حتى يقضي الدين.
والله أعلم بالصواب، وبالله التوفيق

(8/516)