البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب عتق أمهات الأولاد]

(8/517)


كتاب عتق أمهات الأولاد إذا علقت الأمة من سيدها بحر في ملكه.. ثبت لها حكم الاستيلاد.
وقال المزني: قطع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في خمسة عشر كتابا بعتق أمهات الأولاد، ووقف في غيرها.
فقال البغداديون من أصحابنا: لا يختلف مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يجوز بيع أم الولد ولا هبتها، ولا تورث عنه، بل تعتق بموته من رأس المال) . وبه قال عمر وعثمان وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وهو قول عامة الفقهاء.
وأما توقف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عن بيعها.. فإنما ذلك لينبه على أن في بيعها خلافا.
وروي عن على، وابن عباس، وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (يجوز بيعها) . وبه قال داود والشيعة.

(8/519)


وحكى الخراسانيون من أصحابنا: أن ذلك قول آخر للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وليس بمشهور.
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما أمة ولدت من سيدها.. فهي حرة عن دبر منه» .
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في أم الولد: "لا تباع، ولا توهب، ولا تورث يستمتع بها مدة حياته، فإذا مات عتقت» .
إذا ثبت هذا: فلا يصح هبتها ولا رهنها، وهل تصح كتابتها؟ فيه وجهان:
قال ابن القاص: لا يصح؛ لأنه عقد على رقبتها، فأشبه البيع والرهن والهبة.
وقال أكثر أصحابنا: يصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نص على: (أنه إذا استولد المكاتبة.. صارت أم ولد، والكتابة بحالها) ، ولأنه يملك كسبها، فإذا اعتقها على بعضه.. جاز.
إذا تقرر ما ذكرناه ... ففي الاستيلاد ثلاث مسائل:
إحداهن: إذا علقت الأمة بحر من سيدها في ملكه.. فإنها تصير أم ولد له في الحال إلا في مسألة واحدة وهي: إذا أحبل الراهن الجارية المرهونة بغير إذن المرتهن.. فإنها في أحد القولين تباع لحق المرتهن وإن كانت قد علقت بحر من سيدها في ملكه.

(8/520)


الثانية: إذا علقت بولد ممولك. فإنها لا تصير أم ولد إلا في مسألة واحدة وهي:
إذا وطئ المكاتب أمته، فحبلت منه، فهل تصير أم ولد له؟ فيه قولان:
أحدهما: تصير أم ولد ولا يجوز له بيعها، بل تكون موقوفة على عتقه، فإن عتق بالأداء.. عتقت بموته، وإن رق.. رقت؛ لأنها أتت منه بولد في ملكه وهذا الولد موقوف على حريته، فكذلك الأم.
والثاني: لا تصير أم ولد له؛ لأنها أتت منه بولد مملوك.
وإن تزوج أمة فأحبلها واشتراها وهي حامل منه فوضعت عنده.. عتق الولد، ولا تصير أم ولد له. وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (تصير أم ولد له) .
وقال مالك: (إن اشتراها حاملًا ووضعت عنده.. صارت أم ولد له، وإن اشتراها بعدما ولدت.. لم تصر أم ولد له) .
دليلنا: أنها علقت منه بمملوك، فلا يثبت لها حكم الاستيلاد، كما لو زنى بها.
المسألة الثالثة: إذا علقت منه بحر في غير ملك، مثل: أن يطأها بشبهة.. فإنها لا تصير أم ولد له في الحال؛ لأنها ليست بمملوكة له، فإن ملكها بعد ذلك، فهل تصير أم ولد له؟ فيه قولان:
أحدهما: تصير أم ولد له؛ لأنها علقت بحر منه فهو كما لو علقت منه في ملكه.
والثاني: لا تصير أم ولد له؛ لأنها علقت منه في غير ملكه، فهو كما لو علقت منه في زوجية أو زنى بها.

[مسألة ما يصيرالأمة أم ولد]
مسألة: (ما يصير الأمة أم ولد) : وأما الكلام في بيان ما تصير به أم ولد: فإنها إن ولدت ولدًا مصورًا حيًا أو ميتًا.. فإنها تصير أم ولد، ويحب به الغرة على الضارب إذا أسقطته من ضربه، وتجب به الكفارة، وتنقضي به العدة. وإن وضعته وهو غير مصور تام إلا أنه بان فيه صورة الآدمي، كظفر أو شعر.. كان حكمه حكم الولد التام الخلقة، فتتعلق به الأحكام الأربعة.

(8/521)


وإن وضعت جسدًا ليس فيه تخطيط ظاهر، ولكن عرض على أربع نساء ثقات من القوابل فشهدن أن فيه تخطيطًا باطنًا لا يشاهده إلا أهل الصنعة.. فحكمه حكم الولد، فتتعلق به الأحكام الأربعة؛ لأنهن من أهل المعرفة بذلك، فهو كما لو كان فيه تخطيط ظاهر.
وإن وضعت جسدًا ليس فيه تخطيط ظاهر، ولا شهدت القوابل أن فيه تخطيطًا باطنا، لكن شهدن أن هذا لو بقي لتخطط وأنه مبتدأ خلق آدمي.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " المختصر " ما يدل على أنها لا تصير به أم ولد؛ لأنه قال:
(إذا ولدت ما يتبين أنه من خلق الآدمي عينًا أو ظفرًا أو إصبعًا.. فهي أم ولد) .
وقال في كتاب (العدد) : (تنقضي به العدة) . واختلف أصحابنا فيه على طريقين: فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: حكمه حكم الولد، فيتعلق به الأحكام الأربعة؛ لأن القوابل قد شهدن أنه مبتدأ خلق آدمي، فأشبه إذا شهدن أنه تخطط.
والثاني: لا يتعلق به شيء من أحكام الولد؛ لأنه لم يتبين فيه صورة الآدمي، فأشبه الدم والماء.
ومنهم من قال: لا تصير به أم ولد، ولا تجب به الغرة ولا الكفارة، ولكن تنقضي به العدة؛ لأن القصد معرفة براءة رحم المعتدة، وذلك يحصل به. وسائر الأحكام إنما تثبت لحرمة الولد ولا حرمة لابتدائه.
وتعتق أم الولد بموت سيدها من رأس المال، سواء استولدها في صحته أو في مرض موته؛ لأن الإحبال إتلاف فيما طريقه الالتذاذ.. فاعتبر ذلك من رأس المال، كما لو أتلف شيئًا من ماله في مأكوله وملبوسه.

(8/522)


[مسألة حكم أم الولد كالقنة]
) : ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أنها لا تخالف الأمة، غير أنها لا تخرج من ملكه) .
وجملة ذلك: أن حكم أم الولد حكم الأمة القنة.. فيجوز للسيد وطؤها واستخدامها وإجارتها.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يجوز له إجارتها) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عمر، ولأنه يملك استخدمها، فملك إجارتها، كالمدبرة.
وهل يجوز تزويجها؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: (يجوز) وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني، وهو الصحيح؛ لأنها أمة يملك الاستمتاع بها، فملك تزويجها، كالمدبرة، فعلى هذا: له إجبارها على النكاح.
والثاني: يصح تزويجها برضاها، ولا يصح بغير رضاها؛ لأنها أمة ثبتت لها الحرية بسبب لا يملك المولى إبطاله فهي كالمكاتبة وفيه احتراز من المدبرة.
والثالث: لا يصح تزويجها بحال؛ لأنها ملك السيد قد ضعف في حقها وهي لم تكمل، فلم يكن له تزويجها، كالأخ لا يزوج أخته الصغيرة لضعف ولايته؛ لأنها لم تكمل.
فإذا قلنا بهذا: فهل يجوز للحاكم تزويجها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، وهو قول أبي إسحاق، وأبي سعيد الإصطخري؛ لأن تزويجها من طريق الحكم، والحاكم يملك بالحكم ما لا يملكه الولي، بدليل: أن الحاكم يجوز له تزويج الذمية، ولا يجوز للمسلم تزويد الذمية بولاية القرابة.
فعلى هذا: لا يصح إلا برضا المكاتب؛ لأنه يملك الاستمتاع بها، وبتزويجها

(8/523)


يحرم عليه استمتاعها، ويجب لها المهر ورضاها؛ لأن الاستمتاع لها.
والثاني ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أنه لا يصح؛ لأن الحاكم ينوب عنهما وهما لا يملكان النكاح بأنفسهما، فلم يجز أن ينوب الحاكم عنهما. والأول أصح.

[مسألة منزلة ولد أم الولد بمنزلتها]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولد أم الولد بمنزلتها، يعتقون بعتقها) .
وجملة ذلك: أن أم الولد إذا أتت بولد من نكاح أو زنى.. ثبت له ما لها من حرمه الاستيلاد، فإن مات السيد.. عتقت وعتق ولدها؛ لأن الولد يتبع أمه في رقها وحريتها حال ولادتها، فيتبعها أيضا في حكم الاستيلاد؛ لأنه سبب مستقر للحرية، فجرى مجرى الحرية.
فإن ماتت الأم قبل موت سيدها.. ماتت رقيقة؛ لأنها إنما تعتق بموت سيدها، فإذا ماتت قبله.. ماتت رقيقة، كالمدبرة، ولا يبطل ما ثبت للولد من حرمة الاستيلاد، بل يعتق بموت سيده؛ لأنه ثبت له حق مستقر بحياة الأم، فلا يسقط بموتها، كالحرية.

[فرع ملك الرحم المحرمة لا يحل وطأها]
) : وإذا ملك الرجل أخته من النسب أو الرضاع، أو عمته أو خالته، أو ملك المسلم أمة مجوسية.. فلا يحل له وطؤها.
فإن خالف ووطئها وأحبلها.. فلا خلاف أن الولد ينعقد حرًا ويلحقه نسبه، وتصير الجارية أم ولد له وتعتق بموته؛ لأنها مملوكته. وإنما حرم عليه وطؤها، للقرابة أو لكونها مجوسية، فهو كما لو وطئ أمته الحائض. فإن كان جاهلًا بالتحريم.. فلا حد عليه ولا تعزير، وإن كان عالمًا بالتحريم.. فهل يجب عليه الحد؟ فيه قولان:

(8/524)


أحدهما: لا يجب عليه؛ لأن وطأه صادف ملكه، فهو كما لو وطئ أمته وهي حائض. فعلى هذا: يعزر.
والثاني: يجب عليه الحد؛ لأنه وطئ امرأة لا يحل له وطؤها بحال مع العلم بتحريمها، فهو كما لو وطئ أجنبية منه، وإن ملك الكافر أمة كافرة فأسلمت، فوطئها قبل أن يزال ملكه عنها وأحبلها.. فحكمه حكم المسلم إذا وطئ أخته وهي في ملكه، على ما مضى.
فإذا صارت أم ولد له.. فرق بينه وبينها، وتركت على يد امرأة ثقة، وأمر بالإنفاق عليها إلى أن يموت فتعتق.
وإن كان لليهودي أو النصراني أمة يحل له وطؤها، فاستولدها.. ثبت لها حرمة الاستيلاد وهي مقرة تحت يده، كأم ولد المسلم. فإن أسلمت قبل موته.. لم تقر تحت يده؛ لأنه لا يحل له وطؤها، ولا يؤمر بإزالة ملكه عنها؛ لأنه قد ثبت لها حكم الحرية بالاستيلاد، فلا يجوز إبطال ذلك عليها.
فعلى هذا: تترك على يد امرأة ثقة، فإن كان لها صنعة.. أمرت بها، وما كسبت.. أنفق عليها منه، وما بقي من كسبها.. يكون لسيدها. وإن لم يف كسبها بنفقتها أو لم يكن لها كسب.. وجب على المولى نفقتها؛ لأنها في ملكه. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (تستسعي في قيمتها) . وعن مالك روايتان:
إحداهما: (تعتق ولا شيء عليها) .
والثانية: (تباع) .
فأما الدليل على إبطال الاستسعاء: فقد مضى في العتق.
وأما الدليل على مالك: فلأنه إسلام من الأمة، فلا يوجب عتقها، كأمة الكافر إذا دبرها.

(8/525)


[مسألة جناية أم الولد قبل موت السيد]
) : إذا جنت أم الولد على غيرها قبل موت سيدها، فإن كانت جناية توجب القصاص.. فالمجني عليه بالخيار: بين أن يقتص وبين أن يعفو، كما قلنا في غيرها.
وإن كانت الجناية خطأ أو عمدًا وعفا على مال.. لزم المولى أن يفديها؛ لأنه منع من بيعها، ولم يبلغ بها حالة يتعلق الأرش بذمتها، فلزمه الضمان، كما لو جنى العبد على غيره ثم قتله قاتل، ولكن لا يلزمه إلا أقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمتها قولًا واحدًا؛ لأنه لا يمكن بيعها، بخلاف العبد القن في أحد القولين.
فإن جنت، ففداها السيد، ثم جنت ثانيًا.. ففيه قولان:
أحدهما: يلزم المولى أن يفدي الجناية الثانية بأقل الأمرين من أرشها أو قيمة الجارية، وهو اختيار المزني؛ لأنه مانع بالإحبال من بيعها عند الجناية الثانية، كما أنه مانع من بيعها عند الأولى، فلزمه الفداء للثانية، كالأولى.
فعلى هذا: يلزمه الفداء لكل جناية جنتها.
والثاني لا يلزمه إلا أقل الأمرين من قيمتها أو أروش الجنايات كلها؛ لأنه منع من بيعها بالإحبال، والإحبال إنما وجد منه دفعة واحدة، فلم يلزمه إلا فديه واحدة للجنايات كلها، كما لو جنى العبد جنايات، ثم قتله آخر.
فعلى هذا: إن كان المولى قد دفع جميع القيمة إلى المجني عليه الأول.. فإن المجني عليه الثاني والثالث يشاركان المجني عليه الأول فيما أخذ منه من القيمة على قدر جناياتهم؛ لأنه لا يلزم المولى أكثر من القيمة، وقد دفعها.
فإن كان المولى لم يدفع جميع القيمة إلى المجني عليه الأول، فإن كان أرش الثاني مثل البقية التي بقيت على المولى من قيمة الجارية.. دفع المولى ما بقي عليه من القيمة إلى الثاني. وإن كان أرش الجناية الثانية أكثر من بقية القيمة على المولى.. ضمت بقية

(8/526)


القيمة على المولى إلى ما أخذه المجني عليه الأول من القيمة، وقسمت القيمة على المجني عليهما على قدر أرشهما.

[مسألة ملك الولد الأمة يحرم على الأب وطأها]
) : إذا ملك الرجل أمة.. لم يحل لأبيه وطؤها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج: 29] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30] (المعارج: 29 ـ 30) .
وأمة الابن ليست بزوجة للأب ولا ملكًا له، فإن خالف الأب ووطئها.. فقد فعل فعلًا محرمًا، فإن لم يحبلها.. فالكلام في ثلاثة مواضع، في الحد، والمهر، والقيمة:
فأما (الحد) : فإن كان الابن لم يطأها.. لم يجب على الأب الحد؛ لأن له في مال الابن شبهة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» .

(8/527)


وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أولادكم من كسبكم، فكلوا من أطيب كسبكم» .
وإذا كان له شبهة في مال الابن.. لم يجب عليه الحد بوطء جاريته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرءوا الحدود ما استطعتم» .
فإن كان الابن قد وطئها قبل ذلك.. فهل يجب الحد على الأب؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه الحد؛ لما ذكرناه.
والثاني: يجب عليه الحد؛ لأنها صارت محرمة على الأب بوطء الابن على التأبيد، فوجب عليه الحد بوطئها، كما لو وطئ امرأة ابنه.
قال الشيخ أبو حامد: ويشبه أن يكون هذان الوجهان مبنيين على القولين فيمن ملك أخته فوطئها.

(8/528)


وأما (المهر) : فكل موضع قلنا: لا يجب على الأب الحد، فإن كان الابن لم يطأها أو كان قد وطئها وقلنا: لا حد على الأب بوطئها.. وجب على الأب المهر بوطئها؛ لأنه وطء يسقط فيه الحد عن الموطوءة، فوجب فيه المهر، كالوطء في النكاح الفاسد.
وكل موضع قلنا: يجب الحد على الأب.. نظرت: فإن كان أكرهها على الوطء.. وجب عليه المهر. وإن طاوعته على الوطء.. فهل يجب المهر على الأب؟
حكى أصحابنا البغداديون فيه وجهين:
المنصوص: (أنه لا يجب) ؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مهر البغي» (والبغي) : الزانية. قال الله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] (مريم: 28) .
ومن أصحابنا من قال: يجب عليه المهر؛ لأن المهر للسيد، فلم يسقط ببذل الأمة.
وأصحابنا الخراسانيون: يحكونهما قولين:
وأما (قيمة الجارية) : فإنها لا تجب على الأب؛ لأنه لم يتلفها.
فإن قيل: فقد صارت محرمة بالوطء على الابن.. قلنا: إذا لم يحصل نقص في عينها ولا في قيمتها.. لم يجب ضمانها: لأنها تحل لغيره.
وأما إذا أحبلها الأب.. فالكلام في الحد والمهر على ما مضى، والولد حر ثابت النسب من الأب.
وهل تصير الجارية أم ولد له؟

(8/529)


قال القفال: لا تصير أم ولد له قولًا واحدًا.
وقال الشيخ أبو حامد: هل تصير الجارية أم ولد له؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تصير أم لد له، وهو اختيار المزني؛ لأنها علقت منه في غير ملكه، فهو كما لو وطئ أمة بالنكاح فولدت منه.
والثاني: أنها تصير أم ولد له.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأنها علقت منه بحر بحق الملك، فثبت لها حرمة الاستيلاد، كما لو كانت في ملكه.
فإذا قلنا: لا تصير أم ولد له.. فلا يجوز للابن بيعها ولا هبتها ما دامت حاملًا؛ لأنها حامل بحر.
وللابن أن يطالب الأب بقيمة الجارية؛ لأنه حال بينه وبين جاريته، فهو كما لو غصب منه جارية وأبقت منه، فإذا وضعت.. رد الابن القيمة التي أخذ من الأب إليه؛ لأن الحيلولة قد زالت.
وحكى الطبري في " العدة ": أن من أصحابنا من قال: ليس له مطالبته بالقيمة، لأن الابن يقدر على الانتفاع بها بالاستخدام والإجارة.
والأول هو المشهور.
فإذا وضعت الجارية الولد.. وجب على الأب للابن قيمة الولد يوم الوضع؛ لأنه كان في سبيله أن يكون مملوكًا، وقد حال الأب بين الابن وبين رقه.
فإن ملك الأب الجارية بعد ذلك.. فهل تصير أم ولد؟ فيه قولان، كما لو وطئ جارية غيره بشبهة فحملت منه، ثم ملكها.
وإذا قلنا بالقول الآخر: وأنها تصير أم ولد للأب.. لزمه أن يغرم للابن قيمة الجارية في الحال، سواء كان الأب موسرًا أو معسرًا. بخلاف الشريك في الجارية إذا استولدها، فإنه لا يلزمه قيمة نصيب شريكه فيها إذا كان معسرًا؛ لأنا نجعل الجارية أم

(8/530)


ولد للشريك نظرًا للشريك، ولا نظر له عند إعسار الشريك، وهاهنا نجعلها أم ولد له نظرًا للأبوة، والأبوة موجود في الحالين، ولا يلزم الأب قيمة الولد؛ لأنها تضعه في ملكه.

[فرع ملك الأب الأمة يحرمها على ولده]
) : إذا ملك الرجل جارية.. لم يحل لولده وطؤها؛ لأنها ليست بزوجة له ولا ملك.
فإن خالف الابن ووطئها، فإن كان عالمًا بالتحريم.. فعليه الحد بوطئها. فإن أكرهها على الوطء، فعليه المهر للأب. وإن طاوعته على الوطء.. فهل يجب عليه المهر؟ فيه وجهان:
المنصوص: (أنه لا يجب) فإن أتت منه بولد.. لم يلحقه نسبه؛ لأنه زان، والزاني لا يلحقه النسب، ويكون الولد مملوكًا للأب.
وإن كان الابن جاهلًا بالتحريم، بأن كان قريب العهد بالإسلام أو نشأ في بادية.. لم يجب عليه الحد؛ لأن ذلك شبهة توجب سقوط الحد، ويجب عليه المهر.
قال الشيخ أبو حامد: ويكون الولد مملوكًا للجد؛ لأنها علقت به في غير ملك ولا شبهة ملك، ويعتق على الجد؛ لأنه ابن ابنه، ولا يجب على الابن قيمته؛ لأنه إنما عتق على الأب بملكه له لا بفعل الابن، فلم يلزمه قيمته، ولا تصير الجارية أم ولد للابن بلا خلاف؛ لأنه لا ملك له فيها ولا شبهة ملك.
وبالله التوفيق

(8/531)


[باب الولاء]
الأصل في ثبوت الولاء: قَوْله تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] (الأحزاب: 5) .
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع، ولا يوهب» .
فإذا أعتق الرجل عبدا أو أمة عتقًا منجزًا، أو علق عتقه بصفة فوجدت الصفة، أو دبره، أو كاتبه فعتق عليه.. ثبت له عليه الولاء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» .

(8/532)


وكذلك إذا استولد الرجل جارية فمات قبلها.. عتقت عليه وثبت له عليها الولاء؛ لأنها عتقت عليه بالاستيلاد، فهو كما لو باشر عتقها.

[مسألة الولاء لسائل العتق عنه]
) : إذا قال الرجل لغيره: أعتق عبدك عني على مائة درهم، فأعتقه عنه.. عتق عن السائل، وكانت عليه المائة، وثبت الولاء للسائل؛ لأنه عتق عنه بعوض، فهو كما لو اشتراه وأعتقه.
وإن قال: أعتق عبدك عني، فأعتقه المولى عنه.. عتق عن السائل، وكان الولاء للسائل، كما لو اتهبه وأعتقه.
وإن قال: أعتق عبدك على مائة ولم يقل: عني، فقال المولى: هو حر.. عتق العبد، واستحق مولاه المائة على السائل. وفي ولاء العبد وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما: أنه للسائل؛ لأنه أعتقه بعوض بذله عن العبد المعتق، فوجب أن يكون العتق عمن عليه العوض والولاء له، كما لو قال: أعتق عبدك عني.
والثاني: يكون الولاء للمعتق دون السائل؛ لأنه لم يطلب العتق عن نفسه، فهو كما لو قال له: أعتق عبدك ولم يبذل له عوضًا، ويكون بذل العوض هاهنا لافتداء العبد دون استحقاق الولاء، كما لو قال: طلق امرأتك على مائة.
وإن قال: أعتق أم ولدك هذه على مائة درهم، فقال المولى: هي حرة.. عتقت، واستحق مولاها المائة على الباذل لها، وكان ولاؤها للمعتق، ولا يختلف أصحابنا في ذلك؛ لأن نقل الملك فيها لا يصح، وإعتاقها تعجيل للعتق المستحق بالإحبال، وبذل المائة لافتدائها.
وإن قال: أعتق أم ولدك عني على مائة درهم، أو لك مائة، فقال: هي حرة.. عتقت، ولم يستحق المولى المائة على الباذل؛ لأنه بذلها ليكون العتق عنه، والعتق هاهنا عن المعتوق والولاء له، فلا يستحق عليه عوضًِا.

(8/533)


قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن قال رجل لعبده: أنت حر عن فلان، ولم يأمره بالحرية، وقبل المعتق عنه ذلك بعد العتق أو لو لم يقبله.. فسواء، وهو حر عن نفسه لا عن الذي أعتقه عنه، وولاؤه له؛ لأنه أعتقه) .

[فرع لمن الولاء لو كان المشتري العبد نفسه]
) : وإن باع الرجل عبده من نفسه، وقلنا: يصح.. فإنه يعتق عليه، وفي ولائه وجهان:
أحدهما: أن الولاء يكون لسيده الذي باعه؛ لأنه لم يثبت عليه رق غيره.
والثاني: لا ولاء عليه لأحد؛ لأنه لم يعتق عليه في ملكه، والعبد لا يملك الولاء على نفسه، فلم يكن له عليه ولاء.
وإذا ملك الحر أحد والديه أو مولوديه.. عتق عليه، وثبت له عليه الولاء؛ لأنه عتق عليه فثبت له الولاء عليه، كما لو باشر عتقه.

[مسألة الولاء للمسلم في عتقه الكافر]
) : وإن أعتق مسلم عبدًا كافرًا.. ثبت له الولاء عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» . فشبه الولاء بالنسب، والنسب يثبت مع اختلاف الدين، فكذلك الولاء، ولكن لا يرثه المولى. وقال الثوري: يرثه.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتوارث أهل ملتين» .

(8/534)


وإن أعتق كافر عبدًا مسلمًا.. ثبت له عليه الولاء ولا يرثه.
وقال مالك: (لا يثبت له عليه الولاء) .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» ولم يفرق.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» والنسب يثبت مع اختلاف الدين، فكذلك الولاء.

[فرع يبقى ولاء العتق ولو صار حربيًا]
) : وإن أعتق المسلم عبدا نصرانيًا، فلحق النصراني بدار الحرب، فسبي.. لم يجز استرقاقه؛ لأن في ذلك إبطال ما ثبت للمسلم من الولاء عليه.
فإن أعتق ذمي عبدًا ذميًا، فلحق العبد المعتق بدار الحرب ثم سبي.. فهل يجوز استرقاقه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن في ذلك إبطال ما ثبت لمولاه من الولاء، وقد أمرنا بحفظ أموالهم كأموالنا.
والثاني: يجوز استرقاقه؛ لأن السيد لحق بدار الحرب.. لجاز استرقاقه، فكذلك عبده.

[فرع عتق حربي لحربي يثبت له الولاء]
وإن أعتق حربي عبدًا حربيًا.. صح عتقه، وثبت له عليه الولاء.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح عتقه، ولا ولاية له عليه، وله أن يوالي من شاء) .
دليلنا: أن كل من صح عتقه في عبده المسلم.. صح عتقه في عبده الكافر، كالمسلم. وإذا صح عتقه.. ثبت له عليه الولاء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» وهذا معتق.

(8/535)


[مسألة الولاء للمعتق]
ولا يثبت الولاء لغير المعتق، فإن أسلم رجل على يد رجل.. لم يثبت له عليه الولاء.
وقال إسحاق بن راهويه: يثبت له عليه الولاء.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» فدل على أنه لا ولاء لغير المعتق.
وإن التقط رجل لقيطًا.. لم يثبت له عليه الولاء.
وحكى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال للذي التقط لقيطًا: (لك ولاؤه، وعلينا رضاعه) .
دليلنا: ما ذكرناه من الخبر، وما روي عن عمر.. فيحتمل أنه أراد بذلك ولاء حضانته.

[فرع أعتق سائبة فله ولاؤه]
) : وإن أعتق عبدًا سائبة.. عتق، وكان ولاؤه له. وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (يعتق، ولا يكون له ولا عليه ولاؤه، وإنما نكون ولاؤه للمسلمين) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ} [المائدة: 103] (المائدة: 103) .
وقيل: إن المراد به: ما كانوا يعتقونه من السوائب.
ولأن عتقه صادف ملكه، فكان الولاء له، كما لو أطلق.

(8/536)


إذا ثبت هذا: فإذا قال لعبده: أنت سائبة.. كان ذلك كناية في العتق، فإن نوى به العتق.. عتق، وإن لم ينو به العتق.. لم يعتق.

[فرع لا يباع الولاء يوهب]
ولا يصح بيع الولاء ولا هبته؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب» .
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الولاء وعن هبته» .
ولأن الولاء كالنسب، والنسب لا يصح بيعه ولا هبته، فكذلك الولاء.

[مسألة ثبوت الميراث للمولى المعتق]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن لم يكن له عصبة برحم ترث.. فالمولى المعتق) .
وجملة ذلك: أن الولاء يورث به؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الولاء لحمة كلحمة النسب» فشبه الولاء بالنسب، والنسب يورث به، فكذلك الولاء.
وروى واثلة بن الأسقع: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه» .

(8/537)


فنص: على أن المرأة عتيقها لينبه بها على الرجل؛ لأن الرجل قد يرث بجهة ولا ترث بها المرأة؛ فإذا كانت المرأة ترث عتيقها.. فالرجل بذلك أولى.
وأما قوله: (ولقيطها) فيحتمل أنه أراد أنها تحوز ميراثها منه إذا ادعت نسبه.
إذا ثبت هذا: فإن الولاء مؤخر عن النسب.
فإذا أعتق الرجل عبدًا ثم مات العبد، فإن كان له عصبة من النسب.. كان أحق بميراثه. وإن لم يكن له عصبة.. ورثه المولى المعتق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» فشبه الولاء بالنسب، والمشبه بالشيء أضعف من المشبه به، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وتحريم النسب المشبه به أقوى وآكد.
قال القاضي أبو الطيب: ولأن المسلمين أجمعوا على تقديم الإرث بالنسب، لا نعلم بينهم خلافًا في ذلك.
وإن خلف المعتق من له فرض يستغرق جميع تركته.. قدموا على المولى؛ لأنهم إذا قدموا على العصبة الذين يقدمون على المولى.. فلأن يقدموا على المولى أولى.
وإن خلف من له فرض لا يستغرق جميع التركة، بأن مات وخلف ابنة أو أختًا.. فإن صاحب الفرض يأخذ فرضه والباقي للمولى؛ لما روي: «أن ابنة حمزة أعتقت

(8/538)


مملوكًا لها فمات وخلف ابنته وابنة حمزة، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابنته النصف، ولابنة حمزة النصف» .

[فرع انتقال الولاء لعصبات المولى]
) : فإن مات العبد المعتق وقد مات مولاه الذي أعتقه.. فإن ولاءه ينتقل إلى عصبة مولاه، فيكون الميراث لهم؛ لأن المولى عصبة، فجاز أن ترث عصباته، كالأخ لما كان عصبة.. ورث عصباته، وهو ابن الأخ، كذلك المولى.
إذا ثبت هذا: فإن الولاء يكون لعصبة المولى دون سائر ورثته؛ لأن الولاء يورث به ولا يورث؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب، ولا يورث» .
فإذا مات العبد المعتق وخلف ابن مولاه وابنة مولاه، أو أخا مولاه وأخت مولاه.. فإن الميراث يكون لابن المولى دون ابنة المولى، أو لأخ المولى دون أخت المولى. وبه قال كافة أهل العلم إلا شريحًا وطاووسًا فإنهما قالا: لا ميراث بين ابن المولى وابنة المولى، أو بين أخ المولى وأخت المولى.
دليلنا: أن الإرث بالولاء إرث بالتعصيب المجرد دون الرحم، والتعصيب لابن المولى وأخيه دون ابنته وأخته، فإذا اجتمع مع أخته.. لم يعصبها؛ لأن الذكر ـ الابن والأخ ـ إنما يعصب أخته ما دام النسب على قرب، فإذا بعد.. لم يعصبها، ولأن

(8/539)


الابن والأخ يعصب أخته في النسب لقربه، وابن الأخ والعم وابن العم لا يعصب أخته لبعده، وابنة المولى وأخته أبعد من ابنة الأخ وابنة العم، فلذلك لم ترث.
وإن اجتمع ابن مولى وابن مولى.. فإن الميراث لابن المولى دون ابن ابن المولى. وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال شريح وطاووس: يكون المال بينهما نصفين.
دليلنا: ما روى عن عمر وعثمان وعلى وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (الولاء للكبر) . و (الكبر) الأقرب.
ولأن الولاء يستحق بالتعصيب ويستفاد به، ثم الابن يقدم على ابن الابن في الميراث بالنسب، فكذلك في الميراث بالولاء.
فإن لم يكن له ابن مولى.. فابن ابن المولى وإن سفل.
وإن اجتمع ابن مولى وأبو مولى.. فاختلف الناس فيه على ثلاثة مذاهب:
فـ (الأول) : مذهبنا: أن الميراث كله لابن المولى دون أبي المولى. وبه قال مالك وأبو حنيفة.
و (الثاني) : ذهب النخعي والشعبي وأبو يوسف وأحمد وإسحاق إلى: (أن لأبي المولى السدس، والباقي لابن المولى) .
و (الثالث) : ذهب الثوري إلى: أن المال بينهما نصفين.

(8/540)


دليلنا: ما روي: (أن عليًا والزبير اختصما إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في مثل هذه القضية، فحكم عمر أن الميراث لابن المولى دون أبي المولى) . وروي ذلك عن زيد بن ثابت.
ولأن الولاء إنما يورث بالتعصيب المحض، بدليل: أن ابنة المولى وأخته لا يرثان بالولاء، ومعلوم أن الابن والأب إذا اجتمعا.. سقط تعصيب الأب بتعصيب الابن، وإنما يبقى له حق الرحم، والولاء لا يورث به بالرحم.
إذا ثبت هذا: فإنه إذا بقي أحد من البنين وإن سفل.. فإنه مقدم على الأب، كما قلنا في الميراث بالنسب.
وإن لم يكن هناك أحد من بني المولى وهناك أبو المولى.. كان الولاء له؛ لأنه ليس هناك أحد من العصبات أقرب منه؛ لأن باقي العصبات ـ غير البنين ـ يدلون بالأب، فكان مقدمًا عليهم.
فإن لم يكن أبو المولى.. نظرت:
فإن لم يكن هناك أحد من إخوة المولى ولا من بينهم، وهناك جد مولى.. قدم على عم المولى؛ لأنه أقرب منه؛ لأن العم يدلي بالجد والمدلى به أقرب ممن يدلي به، ثم أبو جد المولى، ثم جد جد المولى. ويقدم الجد على أعمام المولى وبنيهم.
وإن لم يكن هناك جد المولى ولا أحد من آبائه، وهناك أخو المولى لأبيه وأمه، أو لأبيه.. فإن الولاء له دون عم المولى؛ لأن الأخ أقرب من العم؛ لأنه يدلي بالأب، والعم يدلي بالجد.
فإن اجتمع أخو مولى لأب وأم، وأخو مولى لأب.. فالمشهور من المذهب: أن أخا المولى لأبيه وأمه مقدم على أخي المولى لأبيه، كما قلنا في الميراث في النسب.
ومن أصحابنا من قال فيه قولان:

(8/541)


أحدهما: هذا.
والثاني: أنهما سواء؛ لأن الأم لا ترث بالولاء، فلا يرجح بها.
وإن اجتمع أخو مولى لأب وابن أخي مولى لأب وأم ... فأخو المولى للأب أولى؛ لأنه أقرب.
وإن اجتمع ابن أخي مولى لأب وأم وابن أخي مولى لأب، فإن قلنا: إن أخا المولى للأب والأم مقدم على أخي المولى للأب.. قدم ابن أخي المولى للأب والأم على ابن أخي المولى للأب.
وإن قلنا: إن الأخوين سواء.. كان ابناهما سواء أيضاً. وأما أخو المولى لأمه: فلا ولاء له: لأن الولاء يستحق بالتعصيب، ولا تعصيب له.
وإن اجتمع جد مولى وأخو مولى.. ففيه قولان:
أحدهما: أنهما سواء. وبه قال الأوزاعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق؛ لأن هذا كميراث المال، ثم ثبت أنهما في ميراث المال سواء، فكذلك في الميراث بالولاء.
والثاني: أن الأخ يقدم على الجد.
قال القاضي أبو الطيب: وهو المشهور من المذهب؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (القياس يقتضي: أن الأخ أولى بالميراث من الجد وتعصيبه أقوى؛ لأنه ابن أبي الميت والجد أبو أبي الميت، وتعصيب البنوة أقوى من تعصيب الأبوة) غير أن الصحابة أجمعت في الميراث بالنسب على أن الأخ لا يقدم، بل منهم، بل منهم من قال: الجد أولى. ومنهم من جعلهما سواء، فتركنا القياس لهذا الإجماع.
وأما الولاء: فلا إجماع فيه عن الصحابة، فاستعملنا القياس فيه، فإذا قلنا: إنهما سواء فاجتمع جد وإخوة.. قاسموه على عدد رءوسهم.

(8/542)


وإن اجتمع جد مولى، وأخو مولى لأب وأم، وأخو مولى لأب، وقلنا: إن الأخ للأب والأم، يقدم على الأخ للأب إذا اجتمعا.. فإن المال يكون بين جد المولى وأخي المولى لأبيه وأمه، ولا يعاد الجد بالأخ للأب.
وقال أبو العباس ابن سريج: فيه نظر.
وإن اجتمع جد مولى وابن أخي مولى، فإن قلنا: إن جد المولى وأخا المولى يقتسمان المال.. قدم جد المولى على ابن أخي المولى؛ لأنه أقرب منه. وإن قلنا: إن أخا المولى يقدم على جد المولى. قدم ابن أخي المولى على جد المولى.
وإن اجتمع جد مولى وعم مولى.. قدم الجد قولاً واحداً؛ لأن العم يدلي بالجد، فكان أقرب منه.
فإن اجتمع جد أبي مولى وعم مولى.. فعلى القولين في الجد والأخ، فإن قلنا: إن أخا المولى أولى من جد المولى.. قدم عم المولى وبنوه على جد أبي المولى. وإن قلنا: إن جد المولى وأخا المولى سواء.. كان جد أبي المولى وعم المولى سواء.
فإن لم يكن هناك أحد من إخوة المولى ولا من أجداد المولى، وهناك أحد من أعمام المولى.. كان الولاء له، ثم ينتقل إلى بنى أعمام المولى، الأقرب فالأقرب.
فإن لم يكن هناك مولى ولا عصبة مولى، وهناك مولى مولى.. كان الولاء له، ذكرا كان أو أنثى؛ لأن النعمة متصلة به؛ لأنه: لولا النعمة على الأول بالعتق.. لم يحصل منه النعمة على غيره.
فإن كان مولى المولى قد مات.. كان الولاء لعصبة مولى المولى، يقدم الأقرب فالأقرب منهم، كما قلنا في عصبة المولى.
فإن لم يكن للميت مولى مولى ولا عصبة مولى مولى، ولكن كان هناك مولى لمولى المولى.. كان الولاء له؛ لما ذكرناه في مولى المولى، ثم ينتقل الولاء بعد موت مولى مولى المولى إلى عصبته، الأقرب فالأقرب.
وإن لم يكن للميت عصبة ولا له مولى باشر عتقه، ولكن هناك مولى لعصبة هذا الميت.. نظرت:

(8/543)


فإن كان مولى لمن هو في درجته من عصبته كمولى أخيه، أو مولى من هو أسفل منه كمولى ابنه أو ابن ابنه.. لم يرث المولى هذا الميت.
وإن كان مولى أبيه أو مولى جده.. ورثه؛ لأن المنعم على أبيه وجده منعم عليه، وليس من أنعم على أخيه أو ابنه منعما عليه.
وهكذا: إن لم يكن للميت عصبة، ولا مولى عصبة، ولا مولى مولى، ولكن خلف مولى لعصبة مولى، أو مولى عصبة مولى مولى، فإن كان ذلك العصبة الذي له المولى أبا أو جداً لمولاه.. ورث ذلك المولى، وإن كان ذلك العصبة ابنه أو ابن ابنه أو أخاه.. لم يرث ذلك المولى؛ لما ذكرناه من الفرق.
فإن أعتق رجل عبداً، أو أعتق آخر أباه وأعتق آخر جده، ثم مات المعتق الأسفل.. ورثه عصبته من مناسبيه، فإن لم يكن له عصبة.. فميراثه لمولاه الذي أعتقه، ثم لعصبة مولاه، ثم لمولى مولاه، ثم لعصبة مولى مولاه، فإن انقرضوا.. قال القاضي أبو الطيب: فإن ماله ينتقل إلي بيت المال، ولا ينتقل إلى مولى أبيه ولا إلى مولى جده؛ لأنه إذا كان عليه ولاء لمعتق باشر عتقه.. لم يثبت عليه ولاء لموالي أبيه ولا لموالي جده، وإنما يثبت عليه الولاء لموالي أبيه.. إذا لم يكن عليه ولاء في نفسه لمن باشر عتقه.

[فرع الولاء ينقسم على العصبات]
) : قد ذكرنا أن الولاء للكبر من العصبة، وهو الأقرب.
قال أبو العباس: فإن أعتق رجل عبداً، ثم مات السيد وخلف ثلاثة بنين، ثم مات أحد البنين الثلاثة وخلف ابناً، ثم مات الثاني وخلف أربعة بنين، ومات الثالث وخلف خمسة بنين، ثم مات العبد المعتق ولا مناسب له.. كان ماله بين العشرة، لكل واحد العشر منه.

(8/544)


ولو ظهر لجدهم مال لم يقتسمه أولاده الثلاثة.. كان للذي هو ابن وحده: الثلث، وللأربعة: الثلث، وللخمسة: الثلث.
والفرق بينهما: أنهم يتلقون الإرث بالولاء عن جدهم وهم متساوون في الإدلاء إليه، ويتلقون الإرث بالنسب عن آبائهم، وقد كان كل واحد من الثلاثة الأولاد ملك ثلث مال المعتق، فانتقل ما ملكه كل واحد منهم إلى أولاده.

[فرع يمنع الأسفل الأعلى]
المولى من أسفل لا يرث المولى من أعلى. وبه قال كافة أهل العلم.
وروي عن طاووس وشريح: أنهما قالا: إذا لم يكن للميت عصبة ولا مولى من أعلى ولا عصبة مولى.. ورثه المولى من أسفل.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» فجعل الولاء للمنعم لا للمنعم عليه.

[مسألة الولاء لمولى الأم المعتقة]
) : إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولد منها ولداً.. فإن الولد ينعقد حراً تبعاً لحرية أمه، ويكون ولاء هذا الولد لمولى أمه ما دام الأب مملوكاً؛ لأنه إنما صار حراً لحرية أمه وقد عتقت بإعتاق سيدها لها، فكان إنعامه عليها إنعاماً منه على ولدها.
فإن أعتق الأب والولد حي.. فإن ولاء الولد ينجر عن مولى أمه إلى مولى أبيه.
قال القاضي أبو الطيب: وقول السلف في هذا: (ينجر الولاء) مجاز؛ لأن الولاء لا ينجر، وإنما يبطل الولاء الذي عليه لمولى الأم، ويثبت عليه الولاء لمولى الأب بإعتاقه الأب. وبهذا قال عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن الزبير، ومن الفقهاء: الأوزاعي ومالك وأبو حنيفة وأصحابه والثوري وأحمد وإسحاق.
وذهب عكرمة ومجاهد والزهري: إلى أن الولاء لا ينجر عن مولى الأم بحال.
والدليل على ما قلناه: إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -

(8/545)


فروي عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: (يجر الأب ولاء ولده إلى مولى نفسه) .
وروى عبد الرحمن بن حاطب: (أن الزبير قدم خيبر فرأى فتية لعساً، فأعجبه ظرفهم وجمالهم، فسأل عنهم، فقيل له: إنهم موال لرافع بن خديج، وأبوهم مملوك لفلان، فمضى واشترى أباهم وأعتقه، ثم قال لهم: انتسبوا إلي فإني مولاكم، فقال رافع بن خديج: هم موالي؛ لأنهم بعتق أمهم عتقوا، فاختصما إلى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقضى بولائهم للزبير، ولم يخالفه أحد) .
والظاهر: أن هذا انتشر في الصحابة ولم ينكره أحد، ولا أظهر رافع بن خديج الخلاف في ذلك، بل سكت، فدل على أنه رجع، وأنه إجماع.
ولأن الولد إنما يتبع الأم في الولاء ما دام الأب مملوكاًً؛ لأنه ليس من أهل الولاية والولاء لكونه رقيقاً، فصار كالولد الذي يأتي به من الزنا.
فإذا أعتق الأب.. تبع الولد الأب؛ لأن الولد يتبع الوالد في النسب دون الأم، بدليل: أن ولد الهاشمي من العامية هاشمي، وولد العامي من الهاشمية عامي.
فإن مات الولد قبل أن يعتق الأب، فإن كان له ورثة من جهة النسب.. ورثوه، وإن لم يكن له ورثة من جهة النسب.. ورثه مولى أمه. فإن أعتق الأب بعد ذلك.. لم

(8/546)


يجر ولاء الولد الميت؛ لأن مولى الأم قد ملك ذلك المال، فلا ينتقل عنه؛ لأن الأب إنما يتبعه الأحياء من ولده دون الأموات.

[فرع تزوج معتق معتقة لآخر]
) : فإن تزوج معتق لرجل بمعتقة لرجل آخر فأولده ولداً.. فإن الولد ينعقد حراً وولاءه لمولى أبيه؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.
فإن نفى الأب نسب هذا الولد باللعان.. صار ولاؤه لمولى أمه؛ لأنه إنما يتبع الأب إذا كان مخلوقاً من مائه، وباللعان أثبت أنه ليس بمخلوق من مائه، فإن أكذب الأب نفسه بعد ذلك.. تبعه الولد، وكان ولاؤه لمولى أبيه؛ لأنه إذا أكذب نفسه.. تبعه الولد، فصار كما لو لم يلاعن.
وإن تزوج معتق لرجل بمعتقة لآخر، فأولدها ولدين، فنفاهما الأب باللعان، ثم قتل أحد الابنين أخاه الآخر ولا عصبة للمقتول.. كان لأمه الثلث، وما بقي من ماله لمولى أمه. فإن أكذب الأب نفسه بعد ذلك.. قبل قوله، ولحقه النسب، واسترجع ما أخذه مولى الأم من تركة المقتول؛ لأن نسب المقتول لحقه بإكذابه نفسه. فإن قيل: لا يقبل رجوعه في استحقاقه للمال؛ لأنه متهم.. قلنا: لما قبل قوله في ثبوت النسب منه.. استحق المال، كما لو أكذب نفسه وكان فقيراً محتاجاً، فإنه يلحقه نسب الولد، ويجب على الابن نفقته، ولا يقال: لا يقبل قوله في استحقاقه النفقة لأنه متهم.

[فرع تزوج بمعتقة لآخر فأولدها ففقد ثم عتق]
) : وإن تزوج عبد لرجل بمعتقه لآخر فأولدها ولداً، ثم فقد الأب، ثم أعتقه السيد.. ففيه وجهان خرجهما ابن اللبان:

(8/547)


أحدهما: أنه لا يجر ولاء ولده إلى مولى نفسه؛ لأنا لا نعلم أن العتق لحقه.
والثاني: أن ولاء الولد يكون موقوفاً، فإن بان أن الأب كان حياً يوم أعتق.. جر ولاء ولده. وإن بان أنه كان ميتاً، أو مضت مدة لا يعيش مثله إليها قبل العتق.. ثبت ولاء الولد المولى أمه؛ لأنا قد حكمنا بموت الأب قبل العتق.

[فرع تزوج عتيقة لآخر وأبوه مملوك]
] : وإن تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولدها ولداً، ولهذا الزوج أب مملوك.. فإن الولد حر تبعاً لأمه، وولاؤه لمولى أمه، فإن أعتق أبو الزوج - وهو جد هذا الولد ـ فهل يجر ولاء ولد ولده؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال القاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق: فيه ثلاثة أوجه:
أحدها ـ وهو اختيار القاضيين: أبي حامد، وأبي الطيب ـ: أنه يجر ولاء ولد ولده ما دام الأب مملوكاً، سواء كان الأب حياً أو ميتاً؛ لأنه ينسب إليه كما ينسب إلى الأب، فجر ولاءه كالأب.
فإذا قلنا بهذا: فأعتق الأب بعد ذلك.. جر ولاء الولد عن مولى الجد إلى مولى الأب؛ لأنه أقوى من الجد في نسب الولد وأحكامه.
والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، وأبي علي الطبري ـ: أن الجد لا يجر ولاء ولد ولده، سواء كان الأب حياً أو ميتاً؛ لأنه يدلي إليه بواسطة، فلا يجر ولاءه، كالأخ والعم.
والثالث ـ وهو اختيار ابن اللبان ـ: إن كان الأب حياً.. لم يجر الجد ولاء ولد ولده. وإن كان الأب ميتاً.. جر الجد ولاء ولد ولده؛ لأنه إذا كان الأب ميتاً.. استقر جر الجد، وإذا كان حياً.. لم يستقر جر الجد، ولا يجوز أن ينجر الولاء إلى من لا يستقر له عليه.
وقال الشيخ أبو حامد: إن كان الأب ميتاً.. جر الجد ولاء ولد ولده وجهاً واحداً. وإن كان الأب حياً مملوكاً.. فهل يجر الجد ولاء ولد ولده؟ فيه وجهان:

(8/548)


أحدهما ـ وهو قول مالك ـ: (أنه يجر) .
والثاني ـ وهو قول أبي حنيفة، وهو الأشبه ـ: (أنه لا يجر) ووجههما ما ذكرناه.
وقال القفال: إن كان الأب حياً.. فإن الجد لا يجر ولاء ولد ولده وجهاً واحداً. وإن كان الأب ميتاً.. فهل يجر الجد ولاء ولد ولده؟ فيه وجهان.

[مسألة تزوج بأمة لآخر فأولدها]
] : إذا تزوج عبد لرجل بأمة لآخر فأولدها ولداً.. فإن الولد يكون مملوكاً لمالك الأم، فإن أعتق مولى الأمة هذه الأمة وولدها.. ثبت له عليهما الولاء.
فإن أعتق مولى العبد عبده بعد ذلك.. لم يجر ولاء ولده إلى مولاه؛ لأن الأب إنما يجر ولاء ولده إلى سيد نفسه إذا لم يكن قد مس الولدَ الرقُّ بل خلق حراً، وهاهنا قد مسه الرق وأنعم عليه بالعتق مولاه الذي باشر عتقه، فكان مولاه الذي أنعم عليه أحق بولائه ممن أنعم على أبيه.

[فرع تزوج عبد بأمة آخر فعتقت]
وإن تزوج عبد الرجل بأمة لآخر، فأعتق مولى الأمة أمته ولم تختر فراق الزوج، ثم أعتق مولى العبد عبده، ثم أتت الجارية بولد.. فإنه يكون حراً؛ لأنه إن كان موجوداً وقت العتق.. فقد ناله العتق، وإن حدث بعد العتق.. فهو ولد حرة، فكان حراً.
ولمن يكون ولاؤه؟ ينظر فيه:
فإن ولدته لدون ستة أشهر من يوم أعتقت الأم.. كان ولاؤه لمولى أمه؛ لأنا نعلم أنه كان موجودا وقت العتق، وقد ناله العتق من مولى أمه، فهو كما لو أعتقه مولى الأم بعد الانفصال.
فإن ولدته لستة أشهر فصاعداً من يوم عتق الأم وكان الزوج غير ممنوع من وطئها.. فولاؤه لمولى أبيه؛ لأنا لا نعلم أنه كان موجوداً يوم أعتقت الأمة، ويجوز أن يكون العبد حدث بعد ذلك.

(8/549)


وإن اختارت فراقه ساعة أعتقت، أو أبانها زوجها، ثم أعتقها سيدها، ثم أعتق الأب، ثم أتت بولد.. فإن الولد يكون حراً؛ لأنه إما أن يكون موجوداً وقت العتق فعتق بالمباشرة، أو حدث بعد العتق من حرة فكان حراً.
إذا ثبت هذا: فإن ولاءه يكون لمولى أمه دون موالي أبيه؛ لأنها إن أتت به لأربع سنين فما دونها من وقت البينونة.. فإنا نلحقه بالزوج ويحكم بوجوده وقت العتق، وإن أتت به لأكثر من أربع سنين من وقت البينونة.. فإنا لا نلحقه بالزوج، وإذا لم يكن ابنا له.. لم يجر ولاؤه إلى مواليه.

[فرع تزوج بمعتقة لآخر فأولدها ثم عتق]
] : إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولدها ولداً ثم أعتق الأب.. فقد ذكرنا أن ولاء الولد يكون لمولى أبيه، ثم لعصبة المولى. فإن عدم مولى الأب ومن يرث بسببه من العصبات والموالي.. فإن مال الميت ينتقل إلى بيت المال ولا ينتقل إلى مولى أمه.
وحكي عن ابن عباس: أنه قال: (يكون ذلك لمولى أمه) .
دليلنا: هو أنه لا خلاف إذا كان هناك عصبة للميت مناسبين أو عصبة لموالي أبيه.. لم يرث مولى الأم شيئاً. فإذا لم يكن له عصبة مناسبون ولا مولى ولا عصبة مولى.. فالمسلمون عصبته وعصبة مواليه، فكانوا أحق بميراثه من مولى الأم.

[مسألة تزوج من لا ولاء له بمعتقة]
] : وإذا تزوج حر لا ولاء عليه بمعتقة لقوم وأولدها ولداً.. فإن الولد حر لا ولاء عليه لأحد، سواء كان الأب عربي الأصل. أو أعجمي الأصل وبه قال أبو يوسف.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الأب عربي الأصل.. فلا ولاء على الولد، وإن كان أعجمي الأصل.. ثبت الولاء على الولد لمولى أمه) .
دليلنا: أن استدامة الشيء آكد من ابتدائه، بدليل: أن الردة والعدة ينافيان ابتداء النكاح لضعفه، ولا ينافيان استدامته لقوته، ثم ثبت أن ابتداء حرية الأب تسقط الولاء

(8/550)


الثابت لمولى الأم.. فكانت استدامة حريته أولى بأن تمنع الولاء لمولى الأم.
وإن تزوج رجل مجهول النسب، إلا أنه محكوم بحريته في الظاهر بمعتقة لرجل فأولدها ولداً، فهل يكون على هذا الولد ولاء لمولى أمه؟ فيه وجهان:
قال أبو العباس ابن سريج: لا ولاء عليه كالعربي المعروف النسب.
وقال ابن اللبان: ثبت عليه الولاء لمولى أمه؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (أرأيتم المولاة المعتقة تلد من مملوك أو ممن لا يعرف، أليس يكون ولاء ولدها تبعاً لولائها؟) .
ولو أن حراً حربياً معروف النسب كان تحته حرة معتقه فأولدها ولداً.. فلا ولاء على هذا الولد لمولى أمه؛ لأن أباه حر لا ولاء عليه في الحال، وإن كان يجوز أن يسترق ويعتق.. فيثبت عليه الولاء، إلا أنه في الحال معروف النسب لا ولاء عليه، وكما يجوز أن يسترق.. يجوز أن يموت على كفره قبل الاسترقاق، ويجوز أن يسلم فتستقر حريته.

[فرع تزوج بحرة فأتت بولد فلا ولاء عليه]
] : وإن تزوج عبد لرجل بحرة الأصل فأتت منه بولد. فالولد حر لا ولاء عليه.
فإن عتق الأب بعد ذلك: قال البندنيجي: فإن معتق الأب يكون لهذا الولد مولى عصبة، فيرثه عند عدم ورثته من النسب.
وإن تزوج مولى قوم بحرة الأصل فأتت منه بولد.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يثبت على الولد الولاء لمولى أبيه؛ لأن أحد أبويه حر الأصل، فلم يثبت عليه الولاء، كما لو كان الأب حر الأصل والأم معتقة.
والثاني: أن عليه الولاء لمولى أبيه وهو المنصوص في (البويطي) ؛ لأن الولد يتبع الأب في النسب دون الأم، كما لو تزوج العامي بهاشمية ... فإن الولد عامي تبعاً لأبيه، فكذلك هذا مثله.
فإن تزوج عبد بحرة معتقة وحرة أصلية، فأولد من الحرة المعتقة ولداً، ثم مات

(8/551)


هذا الولد ولا وارث له غير أمه ومولاها.. كان لأمه الثلث ولمولى أمه الثلثان.
فإن ولدت الحرة الأصلية ولداً بعد ذلك، فإن وضعته لدون ستة أشهر من حين موت الولد الأول.. كان هذا الولد أحق بالثلثين اللذين أخذهما مولى الأم فيسترجع من مولى الأم؛ لأنه عصبة مناسب. وإن وضعته لأكثر من ستة أشهر من حين موت الأول.. لم يسترجع ذلك من مولى الأم؛ لأنه يحتمل أن يكون الثاني موجوداً وقت موت الأول، ويحتمل أنه حدث بعد ذلك، والأصل عدمه.

[فرع ثبوت الولاء لموالي الأم]
] : قال القاضي أبو الطيب: فإن كان رجل حراً لم يعتق، وأبوه وجده حرين لم يعتقا، وأمه معتقة، وأم أبيه معتقة، وأم جده معتقة، وأبو جده مملوكاً.. فإن الولاء لمولى أم جده؛ لأن الجد إذا كان أبوه مملوكاً وأمه معتقة.. ثبت عليه الولاء لمولى أمه، وإذا ثبت الولاء على الجد لمولى أمه.. ثبت على أولاده.
فلا يثبت لمولى أم أبيه على أبيه ولاء؛ لأنه تابع لأبيه وهو الجد فيما عليه من الولاء وعلى أولاده.
ولو كان أبو الجد حراً عربياً.. لم يثبت عليه الولاء لمولى أمه، ولا على أولاده وإن سفلوا.
وإن كان حراً مجهول النسب.. كان في ثبوت الولاء عليه لمولى أمه وجهان، مضى توجيههما.

[فرع ثبوت الولاء لمولى الأم]
] : قال القاضي أبو الطيب: وإذا كان رجل حراً لم يعتق، وأبوه مملوك وأمه حرة لم تعتق، وأبوا الأم حران معتقان.. كان الولاء عليه لمولى أبي الأم؛ لأن الأم إذا كان

(8/552)


على أحد طرفيها ولاء.. يجب أن يكون عليها ولاء مولى أبيها دون ولاء مولى أمها، وإذا ثبت عليها ولاء مولى أبيها.. ثبت ذلك على أولادها وإن سفلوا ما لم يقع فيه حر بإعتاق الأب.
وإن مات رجل حر لم يعتق، وأبوه مملوك وأمه حرة لم تعتق، وأم الأم حرة معتقة، وأبو الأم حر لم يعتق، وأم أبي الأم حرة معتقة، وأبو أبي الأم مملوك.. ثبت الولاء على الميت لمولى أم أبي أمه؛ لأن أبا الأم إذا ثبت عليه الولاء لمولى أمه.. ثبت ذلك له على أولاده وإن سفلوا. فإذا مات هذا الرجل.. كان ميراثه لمولى أبي أمه دون مولى أم أمه.
ولو كان أبو أبي أمه عربياً.. لم يثبت الولاء عليه لموالي أم أبي أمه.
ولو كان حراً مجهول النسب.. فهل يثبت الولاء على ولده؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.

[فرع تزوج بمعتقة لآخر فأولدها فولده حر]
] : وإن تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولدها ولداً.. فإن هذا الولد حر، ويكون عليه الولاء لمولى أمه.
فإن بلغ هذا الابن ثم اشترى أباه.. عتق عليه، ومن حكم الأب إذا عتق أن يجر ولاء ولده عن مولى أمه إلى مولى نفسه، واختلف أصحابنا في هذه [على قولين] :
فـ[الأول] : منهم من قال: إن الأب لا يجر ولاء ولده هاهنا إلى مولاه عن مولى أمه، بل يبقى ولاء مولى أمه عليه، وهو المنصوص؛ لأن الأب لو جر ولاء ولده إلى مولاه.. لجره إلى ولده؛ لأنه مولاه، والإنسان لا يملك الولاء على نفسه، فبقي ولاء مولى الأم كما كان.
والثاني - وهو قول أبي العباس -: أن الأب يجر ولاء الولد عن مولى أمه ويسقط؛ لأن عتق الأب يسقط الولاء عن مولى الأم.

(8/553)


فعلى قول أبي العباس: يكون هذا الولد حراً لا ولاء عليه، وأبواه عليهما الولاء. ويتصور مثل هذا في موضعين:
أحدهما: إذا كان الإنسان كافراً فأسلم بعد بلوغه وله أبوان كافران، فسبيا واسترقا، ثم أعتقا.
والثاني: إذا تزوج عبد بأمة لآخر، وغره وكيل سيدها بحريتها، فأتت منه بولد قبل أن يعلم برقها.. فإنه يكون حراً، ثم أعتق العبد والأمة، فإن هذا الولد يكون حراً لا ولاء عليه، وأبواه موليين.
قال القاضي أبو الفتوح: وهذه المسائل الثلاث لا توجد رابعة في معناهن.
فإن قيل لك: رجلان كل واحد منهما مولى لصاحبه من فوق.. قال أصحابنا: فيتصور ذلك: بأن يعتق الذمي عبداً ثم يلحق السيد بدار الحرب فيسبى، فيملكه عتيقه ويعتقه فيثبت لكل واحد منهما على صاحبه الولاء وأيهما مات.. ورثه الآخر.
ويتصور أيضاً: إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولدها ولداً.. فإن الولد حر، وولاؤه لمولى أمه.
فإن اشترى هذا الولد عبداً فأعتقه.. ثبت له عليه الولاء؛ لأنه أعتقه. فإن اشترى هذا العبد المعتق أبا سيده فأعتقه.. ثبت له عليه الولاء، وجر الأب ولاء ولده عن مولى أمه إلى مولى نفسه، ومولى الأب هو عتيق ولده، فيكون كل واحد منهما مولى لصاحبه من أعلى، فإن مات العبد المعتق.. فماله للابن. وإن مات الأب ثم مات الابن.. فماله لمعتق أبيه وهو مولاه.
فإن مات معتق الأب بعد ذلك، فإن قلنا بقول أبي العباس: إن الولد الذي إذا اشترى أباه أسقط ولاء مولى أمه عن نفسه.. فمال معتق الأب لبيت المال ولا يرثه مولى أم الابن؛ لأن ولاءه قد انتقل عنه.
وإن قلنا بالمنصوص، وأن الولد إذا اشترى أباه لا يسقط ولاء مولى أمه عن

(8/554)


نفسه.. فإن مال معتق الأب هاهنا لمولى أم الابن؛ لأن الأب يجر ولاء ابنه إلى معتقه ثم إلى عصبته بعده، فإذا لم تكن عصبة.. كان الابن هو وارثه لو كان حياً؛ لأنه معتقه. فإذا كان ميتاً.. ورثه مولى أمه.

[فرع تزوج بمعتقة فأتت ببنت ثم تزوجها آخر]
] : إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأتت منه ببنت، ثم تزوج هذه البنت عبد لآخر فأولدها ولداً، ثم مات هذا الولد.. ورثت منه الأم ميراثها، والباقي لمولاه، ومولاه هو مولى أمه، وهو مولى جدته أم أمه؛ لأن من أعتق جارية.. فله ولاؤها وولاء ولدها وولد ولدها وإن سفلوا ما لم يعتق الأب، وأبو هذا الولد مملوك لم يعتق.
فإن لم يمت هذا الولد حتى أعتق جده أبو أمه، ثم مات الولد قبل أن يعتق أبوه.. انتقل ولاء أمه إلى مولى أبيها عن مولى أمها.
قال ابن الحداد: وانتقل ولاء الولد إلى مولى أمه تبعاً لأمه؛ لأنه إذا كان تابعاً لها.. وجب أن ينتقل بانتقاله.
قال القاضي أبو الطيب: ولا يختلف أصحابنا أن أبا الأم إذا أعتق أنه ينتقل ولاء ولد ابنته إلى مواليه تبعاً لأمه، وهذا يدلي في الجد أبي الأب.. أن الصحيح: أنه يجر ولاء ولد ابنه إلى مواليه.

[فرع كان مملوكاً لرجل وابنه لآخر فتزوج الأب معتقة الآخر]
] : إذا كان الرجل مملوكاً لرجل وله ابن مملوك لآخر وابن ابن مملوك لآخر، فتزوج ابن الابن معتقة لآخر وأولدها ولداً.. فإن هذا الولد حر، وولاؤه لمولى أمه.
فإن أعتق بعد ذلك أبو هذا الولد وجده وجد أبيه.. انجر ولاء الولد عن مولى أمه إلى مولى أبيه دون مولى جده وجد أبيه.

(8/555)


فإن مات الولد ولا مناسب له.. كان ماله لمولى أبيه أو لعصبة مولى أبيه، فإن عدم مولى أبيه ومن يدلي به من عصبة أو مولى.. فماله لبيت المال، ولا يرثه مولى جده ولا مولى جد أبيه.
وقال الحسن البصري: يرثه مولى جده، وهذا غلط؛ لأنه لو كان عصباته أو عصبة مولى أبيه موجودين.. لم يرث مولى جده، فإذا عدموا.. كان المسلمون عصباته وعصبة مولى أبيه، فكانوا أحق بميراثه من مولى جده.

[فرع اشترتا أباهما فعتق]
] : ابنتان اشترتا أباهما فعتق عليهما: فإن مات الأب.. كان لابنتيه الثلثان بالنسب، والباقي لهما بالولاء.
فإن ماتت إحداهما بعد ذلك.. كان لأختها نصف مالها بالنسب، والنصف الباقي لمولى أبيها، ومولى أبيها هي هذه الابنة الباقية، فتأخذ نصفه، فيكون لها ثلاثة أرباع مالها.
وأما الرابع الباقي، فإن لم يكن عليهما ولاء لمولى أمهما.. كان لبيت المال، وإن كان عليهما ولاء لمولى أمهما.. فعلى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يكون لمولى أمهما.
وعلى قول أبي العباس: يكون لبيت المال.
فإن ماتت إحداهما قبل أبيها.. كان مالها لأبيها، وإن مات الأب بعد ذلك.. كان لابنته الباقية سبعة أثمان المال، والثمن لبيت المال؛ لأن لها النصف بحق النسب- وهو كونها بنتاً- ولها نصف الباقي بحق ولائها على الأب.
والربع الباقي: كان يكون للميتة بحق ولائها على الأب، وقد جر الأب إلى ابنته الحية بنصف الولاء الذي لها عليه نصف ولاء الميتة، فاستحقت به نصف ما كان لها- وهو: الثمن- فيحصل لها سبعة أثمان المال، والثمن لبيت المال.
وإن تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولدها ابنتين، ثم اشتريا أباهما.. فإنه يعتق

(8/556)


عليهما. فإن مات الأب.. كان ماله لابنتيه: الثلثان بالنسب والباقي بالولاء. فإن ماتت إحدى الابنتين بعد ذلك.. فنقل المزني أنه: (يكون للباقية ثلاثة أرباع مالها، والربع لمولى أمها) .
ونقل الربيع والبويطي: (أن لها سبعة أثمان المال) ، واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: الصحيح ما نقله المزني: أن لها ثلاثة أرباع المال، والربع لمولى الأم. وما نقله الربيع فغلط في صورة المسألة وتابعه البويطي على ذلك.
والمسألة التي يستحق فيها سبعة أثمان المال هي: إذا ماتت إحدى الابنتين أولاً، ثم مات الأب بعد ذلك.. فإن للبنت الباقية سبعة أثمان المال، وأما إذا مات الأب أولاً، ثم ماتت إحدى الابنتين بعده.. فإن للباقية ثلاثة أرباع مالها، والربع لمولى أمها؛ لأن لها نصف مالها بكونها أختاً، ولها الربع بما جره إليها الأب من ولاء الميتة؛ لأن ولاء مولى الأم كان ثابتا عليهما، فلما عتق الأب عليهما.. جر إلى كل واحد منهما نصف ولاء أختها، ويبقى لمولى الأم الربع بما لم يجره الأب عن ولاء الميتة.
ومنهم من قال: فيها قولان:
أحدهما: ترث الابنة الباقية ثلاثة أرباع مال الميتة، والربع لمولى الأم؛ لما ذكرناه.
والثاني: ترث الباقية سبعة أثمان مال الميتة؛ لأنها ترث نصف مالها بكونها أختاً، وترث نصف الباقي- وهو: الربع- بما جر الأب إليها من ولاء أختها، وترث نصف الباقي- وهو: الثمن- لأنها مولاة العصبة الميتة، وهو الأب.
فيحصل الخلاف بين هذا القول والقول الذي قبله، في أنها هل ترث لكونها مولى العصبة، أم لا؟ فعلى الأول: لا ترث. وعلى الثاني: ترث به.
وعلى قول أبي العباس: أن الأب يجرعن مولى الأم جميع ولاء الابنتين، فالقدر الذي جعلناه على القولين الأولين لمولى الأم يكون لبيت المال.

(8/557)


[فرع شقيقتان اشترت إحداهما الأب والأخرى الأم]
] : قال القاضي أبو الطيب: ولو أن أختين لأب وأم لا ولاء عليهما، اشترت إحداهما أباهما، واشترت الأخرى أمهما.. يعتق على كل واحدة منهما ما اشترت.
فإن مات الأب وورثت ابنتاه بالنسب الثلثين، والباقي للتي أعتقته منهما. فإن كانت أمهما زوجة له.. ورثت معهما الثمن، وإن لم تكن زوجة له.. فلا ميراث لها معهما.
وإن ماتت الأم بعد ذلك.. كان لابنتيها الثلثان بالنسب، والباقي للتي أعتقتها.
فإن ماتت بعد ذلك البنت التي أعتقت الأم.. كان للباقية النصف بالنسب، والباقي لها ميراثاً بالولاء على أبيها؛ لأن ثبوت الولاء الذي لها على أبيها، يثبت على ولده.
وإن كانت الميتة معتقة الأب.. كان لمعتقة الأم النصف لكونها أختاً، والباقي لها أيضاً؛ لأنها معتقة أمها، ومولاة أمها مولاتها إذا لم يكن عليها ولاء من جهة معتقها.
وعلى قول أبي العباس: أن ولاء مولى الأم يبطل، فيكون الباقي لبيت المال.

[فرع تزوج معتقة لآخر فأتت بولد فهو حر]
] : إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأتت منه بولد.. فإن الولد يكون حراً وولاءه لمولى أمه.
فإن كاتب السيد عبده، ثم اختلف مولى المكاتب ومولى الولد، فقال مولى المكاتب: قد أدى إلى كتابته فعتق وجر إلى ولاء ولده، وقال مولى الأم: لم يؤد إليك، ولم يعتق فولاء الولد باق لي، فإن كان هذا الاختلاف في حياة المكاتب وقبل موت الولد.. حكم بحرية المكاتب بإقرار سيده، ولا يفتقر إلى بينة ولا يمين.

(8/558)


وإن كان هذا الاختلاف بعد موت المكاتب أو بعد موت الولد، فإن كان مع مولى المكاتب بينة على الأداء قبل الموت.. حكم له بولاء الولد، ويقبل في ذلك شاهد وامرأتان، وشاهد ويمين؛ لأنه بينة على المال.
وإن لم يكن معه بينة.. فالقول قول مولى الولد مع يمينه؛ لأنا تيقنا رق المكاتب وثبوت الولاء على الولد لمولى أمه.. فلا ينتقل عنه إلا بيقين.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أن مولى الأم يحلف أنه لا يعلم أن المكاتب قد أدى جميع مال الكتابة؛ لأنها يمين على نفي فعل الغير، فكانت على نفي العلم.
والله أعلم بالصواب، وبالله التوفيق

(8/559)