البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الظهار]

(10/329)


كتاب الظهار الظهار مشتق من الظهر، وإنما خصوا الظهر من بين أعضاء البدن؛ لأن كل مركوب يسمى ظهرا؛ لحصول الركوب على ظهره، فشبهت الزوجة به.
وقد كان الظهار في الجاهلية طلاقا، ثم نقل في الشرع إلى التحريم والكفارة.
وقيل: إنه كان طلاقا في أول الإسلام. والأول أصح. والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] الآية [المجادلة: 2] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] .
وروي «أن خولة بنت مالك بن ثعلبة - وقيل: اسمها خويلة - قالت: (ظاهر مني

(10/331)


زوجي أوس بن الصامت، فجئت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشكو إليه، فذكرت أمورا، وقلت: قدمت منه صحبتي، ونثرت له كنانتي، ولي منه صبية؛ إن ضمهم إليه.. ضاعوا، وإن ضممتهم إلي.. جاعوا. أشكو إلى الله عجزي وكبري، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجادلني فيه، ويقول: " اتقي الله، فإنه ابن عمك "، فما برحت حتى نزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] الآيات [المجادلة: 1] ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يعتق رقبة "، قلت: لا يجد، قال: " فيصوم شهرين متتابعين ". قلت: يا رسول الله، شيخ كبير ما به من صيام! قال: " فليطعم ستين مسكينا ". قلت: ما عنده شيء يتصدق به، قال: " فأتي ساعتئذ بعرق من تمر "، قلت: يا رسول الله، وأنا أعينه بعرق آخر، قال: " أحسنت، اذهبي فأطعمي عنه ستين مسكينا، وارجعي إلى ابن عمك» . قال الأصمعي: العرق - بفتح العين والراء -: ما يشق من خوص، كالزنبيل الكبير.
وروى سليمان بن يسار، «عن سلمة بن صخر، قال: كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان.. خشيت أن أصيب من امرأتي شيئا يتابع بي حتى أصبح، فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينما هي تحدثني ذات

(10/332)


ليلة، إذ انكشف لي شيء منها، فلم ألبث أن نزوت عليها، فلما أصبحت.. خرجت إلى قومي، فأخبرتهم الخبر، وقلت: امضوا معي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالوا: لا والله، فانطلقت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته الخبر، فقال: " حرر رقبة "، قلت: والذي بعثك بالحق نبيا! ما أملك رقبة غيرها - وضربت صفحة رقبتي - فقال: " فصم شهرين متتابعين "، قلت: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟! قال: " فأطعم وسقا من تمر ستين مسكينا "، قلت: والذي بعثك بالحق نبيا! لقد بتنا ما لنا طعام، قال: " فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق، فليدفعها إليك، فأطعم ستين مسكينا وسقا من التمر، وكل أنت وعيالك بقيتها "، فرجعت إلى قومي، فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السعة وحسن الرأي، وقد أمر لي بصدقتكم» .
إذا ثبت هذا: فالظهار محرم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] [المجادلة: 2] . ومعنى هذا: أن الزوجة لا تكون محرمة كالأم.

(10/333)


[مسألة: يلزم الظهار ممن يصح طلاقه]
] : ويصح الظهار من كل زوج يصح طلاقه، حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو كافرا.
وقال بعض الناس: لا يصح ظهار العبد.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح ظهار الذمي) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] الآية [المجادلة: 3] . ولم يفرق بين الحر والعبد، والمسلم والذمي.
فإن قيل: في الآية ما يدل على أن العبد والذمي غير داخلين في الآية؛ لأن العبد ليس من أهل الإعتاق، والذمي ليس من أهل الصيام؟
قلنا: الآية عامة في الجميع، فإذا دل الدليل على أن العبد لا يعتق، والذمي لا يصح منه الصوم.. خرج ذلك بدليل، وبقي الباقي في الظهار على عمومه.
ولأنه زوج يصح طلاقه.. فيصح ظهاره، كالحر المسلم.

[فرع: ظهار السيد من أمته]
فرع: [صحة ظهار السيد من أمته] : ولا يصح ظهار السيد من أمته، وبه قال من الصحابة: ابن عمر، ومن الفقهاء: الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد.
وقال الثوري ومالك: (يصح) , وبه قال علي.
دليلنا: أن الظهار لفظ يوجب التحريم في الزوجية، فلم يتعلق بالإماء، كالطلاق.
ولأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية، فنقل حكمه وبقي محله، كالإيلاء.
ويصح الظهار من كل زوجة، صغيرة كانت أو كبيرة، عاقلة كانت أو مجنونة، يمكن جماعها أو لا يمكن، مدخولا بها أو غير مدخول بها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . وهذا عام لجميع النساء.
ولأنه كان طلاقا في الجاهلية، فنقل في الإسلام إلى التحريم وإيجاب الكفارة، وكل من صح منه الأصل.. صح ما نقل إليه.

(10/334)


[مسألة: ألفاظ الظهار]
] : والظهار هو: أن يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي؛ لما روي: «أن خولة بنت مالك قالت: يا رسول الله، إن زوجي أوس بن الصامت قال لي: أنت علي كظهر أمي» .. فنزلت الآية في شأنها.
فإن قال: هي معه كظهر أمه، أو هي عنده، أو هي منه، أو هي عليه مثل ظهر أمه.. كان ظهارا؛ لأنه بمعنى: هي عليه كظهر أمه.
فإن قال: هي كظهر أمي.. فقد قال الداركي: لا يكون ظهارا؛ لأنه ليس فيه ما يدل على أن ذلك في حقه، بخلاف قوله: أنت طالق؛ لأن الطلاق هو من جنس الزوجية، والجنس له دون غيره.
وإن قال: هي عليه كبدن أمه.. فهو ظهار؛ لأن الظهر من جملة البدن.
وإن قال: هي عليه كروح أمه.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول الداركي -: أنه ظهار، نوى به الظهار أم لم ينوه؛ لأن البدن لا يقوم إلا بالروح، ولا يستمتع بالبدن إلا مع الروح، فهو كما لو شبهها ببدن أمه.
والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه ليس بظهار، وإن نوى به الظهار؛ لأن الروح لا توصف بالتحريم؛ لأنه ليس بعين.
والثالث - وهو قول المسعودي، [في " الإبانة "]-: إن نوى به الظهار.. فهو ظهار، وإن لم ينو به الظهار.. لم يكن ظهارا؛ لأنه يحتمل أنها كالروح في الكرامة، ويحتمل أنه كبدن أمه في التحريم، فلم يكن ظهارا من غير نية.

[فرع: كنايات الظهار]
] : وإن قال: هي عليه كأمه، أو مثل أمه، أو هي أمه.. فهو كناية، فإن أراد بها كأمه في الكرامة والتوقير.. فليس بظهار، وإن أراد في التحريم.. فهو ظهار، وإن لم يكن له نية فليس بظهار، وبه قال أبو حنيفة.

(10/335)


وقال مالك وأحمد ومحمد بن الحسن: (يكون ظهارا) .
دليلنا: أنه يحتمل أنها كأمه في الإعزاز والكرامة، ويحتمل أنها كأمه في التحريم.. فلم يكن ظهارا من غير نية، كقوله: أنت خلية.

[فرع: فيما يلحق بظهر الأم]
] : وإن شبه امرأته بظهر جدته.. فهو ظهار، سواء كانت من قبل الأم أو من قبل الأب؛ لأن اسم الأم يقع عليها مجازا.
وإن قال: أنت علي كظهر أبي أو جدي.. لم يكن ظهارا.
وقال أبو القاسم: إذا شبهها بالمحرمين من الرجال.. كان ظهارا.
دليلنا: أن الظهار: أن يشبه زوجته بمن في جنسها استمتاع، والأب لا استمتاع في جنسه، فهو كما لو قال: أنت علي كظهر بهيمتي، بخلاف الأم؛ فإن في جنسها استمتاعا.
ولأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية، فنقل حكمه، ولم ينقل محله، والطلاق لا يتعلق بجنس الأب، بخلاف الأم.
فإن شبهها بظهر امرأة من ذوات محارمه غير الأم والجدة؛ بأن قال: أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو عمتي أو خالتي أو ابنة أخي.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يكون ظهارا) ؛ لأن الظهار الذي ورد به القرآن أن يشبهها بظهر أمه، وللأم من الحرمة ما ليس لغيرها؛ بدليل: أنه إذا ملك أمه.. عتقت عليه، وهذا المعنى لا يوجد في غير الأم، فلم يكن بالتشبيه بها مظاهرا.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يكون ظهارا) . وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] [المجادلة: 2] . فأخبر: أن الظهار منكر من القول وزور. ولأنه يشبه زوجته بمن ليست كهي، وهذا المعنى موجود فيما إذا شبهها بذوات المحارم.
وإن شبهها بمحرمة عليه برضاع، أو مصاهرة.. نظرت:

(10/336)


فإن شبهها بمن حلت له ثم حرمت عليه، كأم امرأته، ومن تزوجها أبوه بعد ولادته، وأخته من الرضاع بعد ولادته، أو بمحرمة عليه تحل له في الثاني، كأخت زوجته، وخالتها، وعمتها.. لم يكن ظهارا.
وقال مالك وأحمد: (يكون ظهارا) .
دليلنا: أنه لم يشبهها بالأم، ولا بمن يشبهها في التحريم، فلم يصر بذلك مظاهرا، كما لو شبهها ببهيمة.
وإن شبهها بمن تحرم عليه على التأبيد ولم تحل له قط؛ بأن شبهها بامرأة تزوجها أبوه قبل أن يولد، أو بأخت له من الرضاعة أرضعتها أمه قبل ولادته.. فهي كالأخت والعمة على القولين.
وإن شبهها بأجنبية ليست بمحرمة على التأبيد.. لم يكن مظاهرا.
وقال أصحاب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إن شبهها بظهرها.. كان مظاهرا.
وإن شبهها بغيره، فمنهم من قال: هو ظهار. ومنهم من قال: هو طلاق.
دليلنا: أن هذه ليست بمحرمة عليه على التأبيد، فلا يكون بالتشبيه بها مظاهرا، كما لو شبهها بالمحرمة أو الصائمة من نسائه.

[فرع: التشبيه بعضو غير الظهر]
] : وإن شبه امرأته بعضو من أعضاء أمه غير ظهرها، بأن قال: أنت علي كرأس أمي، أو كيدها أو كرجلها أو كفرجها، أو شبه عضوا من زوجته بظهر أمه؛ بأن قال: يدك أو رجلك أو فرجك علي كظهر أمي.. فالمنصوص: (أنه ظهار) ، وبه قال مالك.
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو شبه امرأته بأخته أو عمته. وليس بشيء؛ لأن غير الأم ليست كالأم، وغير الظهر كالظهر في التحريم.

(10/337)


وقال أبو حنيفة: (إذا شبه زوجته بعضو من أعضاء أمه يحرم نظره إليه، كفرجها، أو فخذها.. فهو ظهار.
وإن شبهها بعضو لا يحرم نظره إليه كرأسها أو يدها أو رجلها.. لم يكن ظهارا) .
دليلنا: أنه شبه زوجته بعضو من أعضاء أمه، فكان ظهارا، كما لو شبهها بفخذها أو فرجها.

[فرع: الظهار يمين]
] : وتنعقد يمين الزوج بالظهار، مثل أن يقول: إن كلمت زيدا.. فأنت علي كظهر أمي، كما يصح أن يقول: إن كلمت زيدا.. فأنت طالق.
ويصح أن يعلقه بصفة، مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر.. فأنت علي كظهر أمي؛ لأن أصله كان طلاقا، فإذا جاز تعليق أصله بالصفة.. فكذلك هو.
وإذا قال لأجنبية: إذا نكحتك فأنت علي كظهر أمي فتزوجها.. لم يصر مظاهرا منها.
وقال مالك وأبو حنيفة: (يصير مظاهرا منها) . كما قالا في الطلاق، وقد مضى الدليل عليهما في الطلاق.

[مسألة: طلق بنية الظهار]
] : وإن قال لامرأته: أنت طالق، ونوى به الظهار.. فهو طلاق.
وإن قال: أنت علي كظهر أمي، ونوى به الطلاق.. كان ظهارا؛ لأن كل واحد منهما صريح في حكمه في الزوجية، فلا ينصرف إلى غير موجبه في الزوجية بالنية.
وإن قال: أنت طالق كظهر أمي.. وقع عليها الطلاق بقوله: أنت طالق، وسئل ما نوى بقوله: كظهر أمي؟

(10/338)


فإن قال: لم أنو به شيئا.. لم يتعلق به حكم؛ لأنه لم يقرن به لفظا يعلقه عليه، كقوله: أنت علي أو مني، ولا نوى به الظهار. فيحتمل أنه أراد به: أنت علي كظهر أمي، أو أنت على غيري، فصار كناية في الظهار، فلم يقع به الظهار من غير نية.
وإن قال: أردت أنها تحرم بالطلاق كما تحرم بالظهار.. كان ذلك تأكيدا في الطلاق، ولم يعد حكما.
وإن قال: أردت بقولي: (أنت طالق) الظهار.. كان طلاقا ولم يكن ظهارا؛ لأن الطلاق صريح في حكم الزوجية، فلم يصر كناية في حكم آخر من الزوجية، ولا ينتقص بكونه كناية في العتق؛ لأنا قد قلنا في الزوجية: وإن قال: أردت بقولي: (أنت طالق) الطلاق، وأردت بقولي: (كظهر أمي) الظهار، فإن كان الطلاق بائنا.. لم يلحقها الظهار، وإن كان رجعيا.. لحقها الظهار؛ لأنه كناية في الظهار، فوقع به الظهار مع النية، والرجعية يصح فيها الظهار.

(10/339)


[مسألة: لفظ أنت علي كظهر أمي]
] : وإن قال لها: أنت علي حرام كظهر أمي.. ففيه خمس مسائل:
إحداهن: أن يطلق ذلك ولا نية له.. فيكون ظهارا؛ لأن قوله: (أنت علي حرام) كناية تصلح للطلاق والظهار، فإن اقترن به نية الظهار.. كان ظهارا، وإن اقترن به لفظ الظهار.. كان أقوى من النية.
ولأن قوله: (أنت علي كظهر أمي) صريح في الظهار، وقوله: (أنت علي حرام) تأكيد في التحريم؛ بدليل: أنه لو اقتصر على قوله: أنت علي كظهر أمي.. كان ظهارا.
الثانية: إذا قال: أردت به الظهار.. فهو ظهار؛ لأن قوله: (أنت علي كظهر أمي) صريح في الظهار، وقوله: (حرام) تأكيد.
الثالثة: إذا قال: نويت به الطلاق.. فروى الربيع: (أنه طلاق) . وكذلك في أكثر نسخ المزني، وفي بعض نسخ المزني: (أنه ظهار) . ومن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: أنه ظهار، وليس بطلاق، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن قوله: (أنت علي حرام) كناية تصلح للطلاق والظهار، وقد اقترن به قرينتان، إحداهما لفظ، والأخرى نية، فكان صريح اللفظ أقوى.
ولأن قوله: (أنت علي كظهر أمي) صريح في الظهار؛ بدليل: أنه لو لم يقل: حرام، أو لم ينو شيئا.. لكان ظهارا، فقدم وإن نوى به الطلاق، كما لو قال: أنت علي كظهر أمي، ونوى به الطلاق.
والثاني: أنه طلاق؛ لأن قوله: (أنت علي حرام) كناية في الطلاق، فإذا نوى به الطلاق.. كان طلاقا، كما لو قال: أنت طالق كظهر أمي.

(10/340)


ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: إن نوى الطلاق بقوله: أنت علي حرام.. كان طلاقا، وإن نواه بمجموع اللفظتين.. كان ظهارا، ولم يكن طلاقا.
وقال أكثر أصحابنا: هو طلاق، قولا واحدا؛ لما ذكرناه في الثاني. وما وقع في بعض النسخ.. فهو غلط. وما ذكره الأول.. لا يصح؛ لأن نية الطلاق قارنت لفظ التحريم، وهو سابق بصريح لفظ الظهار، فكان الحكم فيه كقوله: أنت طالق كظهر أمي.
والرابعة: إذا قال: نويت الطلاق بقولي: أنت حرام، والظهار بقولي: أنت كظهر أمي، فإن كان الطلاق رجعيا.. صح الطلاق والظهار، وإن كان بائنا.. لم يصح الظهار. هذا على قول أكثر أصحابنا. وعلى قول من قال من أصحابنا: لا يكون طلاقا، فإن نواه.. فإنه لا يقع الطلاق، ويقع الظهار.
الخامسة: إذا قال: نويت تحريم عينها بقولي: أنت علي حرام.. فهل يقبل منه؟
قال الشيخ أبو حامد: المذهب: أنه لا يقبل منه؛ لأن هذا صريح في الظهار؛ لأنه لو لم ينو شيئا.. لكان ظهارا، والظهار تجب به الكفارة العظمى، فإذا أخبر عن نيته: أنه أراد به تحريم عينها.. فقد أخبر بما ينقل الكفارة العظمى إلى الصغرى، فلم يقبل.
ومن أصحابنا من قال: يقبل منه؛ لأن اللفظ يصلح له. قال: وليس بشيء.
وأما الشيخ أبو إسحاق فقال: تجب عليه كفارة يمين. وعلى قول من قال: اللفظ أولى من النية هو مظاهر، والذي يقتضي القياس عندي: أنه إن قال: أردت بقولي: (أنت علي حرام) تحريم عينها، وبقولي: (كظهر أمي) الظهار.. لزمه كفارة يمين لتحريمه عينها، وصار مظاهرا؛ لأن لفظه يصلح لذلك، كما لو قال: أردت الطلاق والظهار، وكان الطلاق رجعيا.

(10/341)


[فرع: نية الطلاق بصريح لفظ الظهار]
قال في " البويطي ": (لو قال لها: أنت علي كظهر أمي حرام، ويريد به الطلاق.. كان ظهارا) ؛ لأنه صريح به.

[فرع: أراد طلاقا وظهارا بلفظ كناية]
] : إذا قال لامرأته: أنت علي حرام، ثم قال: أردت به الطلاق والظهار.. فقد قال ابن الحداد: كلمة واحدة لا يكون طلاقا وظهارا، فاختر أيهما شئت.
ومن أصحابنا من خالفه، وقال: يكون طلاقا؛ لأنه بدأ بالإقرار به، فلزمه حكمه، وقوله بعد ذلك: (والظهار) رجوع عن الإقرار بالطلاق إلى الظهار، فلم يقبل رجوعه.
قال القاضي أبو الطيب: والصحيح هو الأول؛ وذلك أنه إذا أرادهما معا.. صحت إرادته لأحدهما بغير عينه؛ لأنه لا يصح إرادته لهما معا، فإذا صحت إرادته لأحدهما بغير عينه.. لزمه تعيين أحدهما، كما لو طلق إحدى امرأتيه بغير عينها.

[مسألة: توقيت الظهار]
] : إذا وقت الظهار؛ بأن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي يوما، أو شهرا، أو سنة.. فهل يصح ظهاره؟ فيه قولان.
أحدهما: لا يصح ظهارا، وبه قال ابن أبي ليلى والليث؛ لأن الظهار هو أن يشبه زوجته على التأبيد بمن تحرم عليه على التأبيد، فإذا ظاهر منها ظهارا مؤقتا.. لم يصر مظاهرا، كما لو شبهها بمن لا تحرم عليه على التأبيد، وإنما تحرم عليه إلى وقت؛ وهي مطلقته ثلاثا.
والثاني: يصح الظهار، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] الآية [المجادلة: 2] . ولم يفرق بين المطلق والمؤقت.

(10/342)


ولأن الله تعالى نبه على معنى الظهار بأنه منكر وزور، وهذا المعنى موجود في المؤقت. ولحديث سلمة بن صخر في أول الباب، فإنه ظاهر من امرأته شهر رمضان، فلما وطئها فيه.. أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالكفارة.
وقال مالك: (يصح الظهار، ويسقط التوقيت) . كما لو قال: أنت طالق يوما أو شهرا.
دليلنا: أن تحريم الظهار يرتفع بالتكفير، فارتفع بالتوقيت، بخلاف الطلاق.

[مسألة: علق الظهار بمشيئة الله أو رجل]
] : وإن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي إن شاء زيد.. تعلق ذلك بمشيئته.
وإن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي إن شاء الله.. لم يكن ظهارا.
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد حكى: أن الشافعي ذكر في القديم في ذلك قولين، أحدهما: (يكون مظاهرا) . قال: وهذا لا يجيء على أصله.
وإن كان له امرأتان، فقال لإحداهما: إن تظاهرت من ضرتك، فأنت علي كظهر أمي، ثم ظاهر من الضرة.. كان مظاهرا منهما، إحداهما بالمباشرة، والأخرى بالصفة.
فإن ظاهر من إحدى امرأتيه، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، أو أنت شريكتها، أو أنت كهي، أو أنت مثلها، فإن نوى الظهار.. كان مظاهرا منها، وإن لم ينو به الظهار.. لم يكن مظاهرا منها.
وقال مالك وأحمد: (يكون مظاهرا منها وإن لم ينو به الظهار) .
دليلنا: أنه يحتمل أن يريد: أنت شريكتها في الظهار، ويحتمل من النكاح، ويحتمل في الحب، أو في البغض، أو في سوء الأخلاق، فلم يتخصص بالظهار من غير نية، كالكنايات في الطلاق.

(10/343)


وإن قال لامرأتيه: أنتما علي كظهر أمي.. صار مظاهرا منهما، كما لو قال لهما: أنتما طالقتان.

[مسألة: إن ظاهر من أجنبية فهي كأمه]
] : وإن قال لامرأته: إن تظاهرت من فلانة الأجنبية فأنت علي كظهر أمي.. سئل عما أراد:
فإن قال: أردت أني إذا تلفظت بظهارها فأنت علي كظهر أمي.. فمتى قال لهذه الأجنبية: أنت علي كظهر أمي.. صار مظاهرا من زوجته؛ لأنه علق ظهار زوجته بالشرط، فإذا وجد الشرط.. وقع الظهار.
وإن قال: أردت به الظهار الشرعي، إذا قال للأجنبية قبل أن يتزوجها: أنت علي كظهر أمي.. لم يصر مظاهرا منها؛ لأن الأجنبية لا يصح الظهار منها، ولا يصير مظاهرا من زوجته؛ لأنه لم يوجد الشرط.
وإن قال: قلت ذلك، ولم أنو شيئا.. فإن إطلاق ذلك يقتضي ظهارا شرعيا، فإذا قال لأجنبية قبل أن يتزوجها: أنت علي كظهر أمي.. لم يصر مظاهرا منها؛ لأن الأجنبية لا يصح الظهار منها، ولا يكون مظاهرا من امرأته؛ لأن الشرط لم يوجد، كما لو قال لامرأته: إذا طلقت فلانة الأجنبية.. فأنت طالق، ثم قال للأجنبية: أنت طالق.
فإن تزوج الأجنبية، ثم ظاهر منها. إذا أطلق، وقال: لم أنو شيئا، وإن قال: أردت بقولي: (إذا تظاهرت من فلانة الأجنبية) الظهار الشرعي.. فإنه يصير مظاهرا منها، وهل يصير مظاهرا من زوجته الأولى؟ فيه وجهان:

(10/344)


أحدهما: لا يصير مظاهرا منها؛ لأنه جعل صفة الظهار عن الأجنبية، وهذه ليست بأجنبية منه بعد النكاح.. فلم يوجد الشرط.
والثاني: يصير مظاهرا منها؛ لأنه عين الأجنبية ووصفها، فكان الحكم للتعيين لا للصفة، كما لو قال: والله لا دخلت دار زيد هذه، فباع زيد داره، ثم دخلها.. فإنه يحنث. والأول أصح. وقيل: هذان الوجهان إذا حلف: لا يأكل بسرة، فأكلها بعدما صارت رطبة، أو لا أكلت لحم هذا الحمل، فأكله بعد أن صار كبشا، أو لا كلمت هذا الصبي، فكلمه بعد أن صار شيخا. ويأتي ذلك في الأيمان.
وإن قال لامرأته: إن تظاهرت من فلانة فأنت علي كظهر أمي، ولم يقل: الأجنبية، ولكنها أجنبية، فإن قال للأجنبية: أنت علي كظهر أمي.. لم يصر مظاهرا منها؛ لأن الظهار عن الأجنبية لا يصح، ولا يصير مظاهرا من زوجته؛ لأنه لم يوجد شرط ظهاره منها. وإن تزوج الأجنبية، فظاهر منها.. صار مظاهرا منها ومن زوجته الأولى، وجها واحدا؛ لأنه إنما علق ظهاره على امرأته بشرط؛ وهو ظهاره من فلانة، ولم يعلقه بغير ذلك، فإذا تزوجها، وظاهر منها.. فقد وجد الشرط، بخلاف الأولى؛ فإنه وصفها بأنها أجنبية، وبعد أن تزوجها فليست بأجنبية.
وإن قال لامرأته: إن تظاهرت من فلانة أجنبية، فأنت علي كظهر أمي، فإن قال للأجنبية: أنت علي كظهر أمي.. لم يصر مظاهرا منها؛ لأن الأجنبية لا يصح الظهار منها، ولا يصير مظاهرا من زوجته؛ لأن الصفة في ظهارها لم توجد، ولأن إطلاق الظهار يقتضي الظهار الشرعي. فإن تزوج الأجنبية، وظاهر منها.. صح ظهاره منها، ولم يصر مظاهرا من زوجته الأولى، وجها واحدا.
والفرق بين هذه وبين قوله: (فلانة الأجنبية) - حيث قلنا: يقع الظهار في أحد الوجهين -: أنه علق ظهار زوجته في الأولى بأن يتظاهر من فلانة بعينها، ووصفها بأنها أجنبية، ولم يجعل ذلك شرطا، والصفة تسقط مع التعيين، وهاهنا جعل كون فلانة

(10/345)


أجنبية شرطا في ظهار امرأته؛ لأن قوله: (أجنبية) حال، فاقتضى أن يتظاهر منها في حال كونها أجنبية، فإذا تظاهر منها.. لم يوجد الشرط.

[مسألة: قولها أنت علي كأبي]
] : إذا قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أبي، أو أنا عليك كظهر أمك.. لم يلزمها شيء.
قال الحسن البصري والنخعي: إذا قالت لزوجها: أنت علي كظهر أبي.. صارت مظاهرة، ولزمها الكفارة.
وقال الأوزاعي: (إذا قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أبي.. لم تكن مظاهرة، وإن قالت ذلك لأجنبي، ثم تزوجها.. صارت مظاهرة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . وهذا خطاب للذكور دون الإناث.
ولأنه قول يوجب تحريما في الزوجة يملك الزوج رفعه.. فاختص بالزوج، كالطلاق.

(10/346)


فقولنا: (قول يوجب تحريما في الزوجة) احتراز من اليمين؛ فإنها لو حلفت لا وطئها الزوج.. انعقدت يمينها وإن لم يكن إيلاء.
وقولنا: (يملك الزوج رفعه) احتراز من فسخ النكاح بالعيوب، ومن الخلع، فإنه يصح منهما.

[مسألة: وجود العود في المولي يوجب الكفارة]
] : وإذا ظاهر الرجل من امرأته ووجد العود.. وجبت الكفارة، وبه قال الحسن البصري وطاوس والزهري ومالك وأحمد وداود.
وقال مجاهد والثوري: تجب الكفارة بمجرد الظهار دون العود.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب الكفارة بالظهار، ولا بالظهار والعود، وإنما تجب على المظاهر إذا أراد أن يطأ) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] .
فموضع الدليل منها على مجاهد والثوري: أن الله أوجب الكفارة بالظهار والعود، فمن قال: إنها تجب بأحدهما.. فقد خالف مقتضى الآية.
وعلى أبي حنيفة: أن الله أوجب الكفارة، ولم يفرق بين أن يريد أن يطأ أو لا يريد.
وحديث خولة بنت مالك في أول الباب، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب على زوجها الكفارة، ولم يفرق بين أن يريد الوطء وبين أن لا يريد.
إذا ثبت هذا: فـ (العود) عندنا: هو أن يمسكها بعد الظهار زوجة زمانا يمكنه أن يطلقها فيه فلا يطلق.

(10/347)


وقال مالك وأحمد: (العود: هو العزم على وطئها بعد الظهار وإن لم يطأها) .
وقال داود وشعبة: (العود: هو إعادة لفظ الظهار) .
وقال الحسن البصري وطاوس والزهري: العود: هو وطؤها. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وهو قول مالك.
وقيل: هو قول الشافعي في القديم، وإحدى الروايتين لأبي حنيفة. والمشهور عنهم الأول.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] الآية [المجادلة: 3] . فإذا أمسكها زوجة.. فقد عاد فيما قال؛ لأن تشبيهها بأمه يقتضي إبانتها وإزالة نكاحها، فإذا أمسكها زوجة.. فقد عاد فيما قال، ولم يفرق بين أن يعزم على وطئها وبين أن لا يعزم.
وموضع الدليل على داود: قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . ولم يقل: إلى ما قالوا؛ فالآية لا تقتضي العود إليه، وإنما تقتضي العود فيه، ولو احتملهما.. لكان ما قلناه أولى؛ لأنه أسبق.
وموضع الدليل منها على الحسن البصري ومن تابعه: قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . وهذا نص في إبطال قولهم.
وحديث «خولة بنت مالك، حيث قالت: يا رسول الله، ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت» .. الخبر إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يعتق رقبة» . ولم يسأل: هل عزم على وطئها، أو هل أعاد لفظ الظهار، أو هل وطئها، أم لا؟ فلو كان الحكم يتعلق بذلك.. لسأل عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإن قال لها: أنت علي كظهر أمي، ثم مات عقيبه، أو ماتت قبل أن يتمكن من

(10/348)


طلاقها، أو طلقها عقيب الظهار.. لم تجب الكفارة؛ لأن العود: هو أن يمسكها على الزوجية، ولم يمسكها.
وإن ظاهر من الرجعية.. صح ظهاره، كما يصح طلاقه، ولا يكون عائدا قبل الرجعة؛ لأنها جارية إلى البينونة، فلا يوجد الإمساك منه.
فإن راجعها، أو قال: أنت علي كظهر أمي، أنت طالق، ثم راجعها قبل انقضاء عدتها.. ففيه قولان:
أحدهما: أن يكون عائدا بنفس الرجعة؛ لأن العود: هو الإمساك على الزوجية، وقد سمى الله تعالى الرجعة إمساكا، فقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] . يعني: الرجعة. ولأن استدامة الإمساك على الزوجية عود، فلأن تكون الرجعة - التي هي عقد أقوى من الاستدامة - عودا أولى.
فعلى هذا: تجب عليه الكفارة، سواء طلقها عقيب الرجعة أو لم يطلقها.
والقول الثاني: أن العود لا يحصل بنفس الرجعة، وإنما يحصل بأن يمسكها بعد الرجعة على الزوجية زمانا يمكنه أن يطلقها فيه، فلا يطلق؛ لأن الرجعة رد إلى النكاح، والعود: هو أن يمسكها زوجة، وذلك لا يوجد إلا بعد الرجعة.
فعلى هذا: إن طلقت عقيب الرجعة.. لم تجب الكفارة.
وإن ظاهر من الرجعية ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم تزوجها، أو قال لها: أنت علي كظهر أمي أنت طالق ثلاثا، ثم نكحها بعد زوج، أو طلقها عقيب الظهار طلاقا رجعيا، ثم لم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم تزوجها.. فهل يعود حكم الظهار؟ فيه ثلاثة أقوال، كما قلنا في عود صفة الطلاق:
أحدها: يعود.
والثاني: لا يعود.
والثالث: إن عادت إليه بدون الثلاث.. عاد، وإن عادت إليه بعد الثلاث.. لم يعد.

(10/349)


فإن قلنا: يعود.. فهل يصير عائدا بنفس العقد، أو بإمساكها بعد العقد زمانا يمكنه فيه الطلاق، فلا يطلق؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الرجعة.

[فرع: مظاهرة الكافر]
] : وإن ظاهر الكافر من امرأته.. فقد ذكرنا: أنه يصح ظهاره، فإن أسلمت الزوجة عقيب ظهاره، فإن كان قبل الدخول.. لم تجب الكفارة؛ لأنها تبين منه بإسلامها قبل الدخول، وإن كان بعد الدخول.. لم يصر عائدا قبل إسلامها؛ لأنها جارية إلى بينونة.
فإن لم يسلم الزوج حتى انقضت عدتها.. لم يجب عليها الكفارة؛ لأنهما لم يجتمعا على النكاح. وإن أسلم قبل انقضاء العدة.. فهل يكون إسلامه عودا، أو لا يحصل العود إلا بأن يمسكها بعد الإسلام؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الرجعة.
وإن ظاهر الكافر من امرأته، ثم أسلم عقيب الظهار، فإن كانت ممن يقر المسلم على نكاحها، بأن كانت يهودية أو نصرانية.. لم يؤثر إسلامه في النكاح، فيجب عليه الكفارة. وإن كانت ممن لا يقر على نكاحها؛ بأن كانت مجوسية أو وثنية، فإن كان ذلك قبل الدخول.. انفسخ النكاح بإسلامه، ولم تجب عليه الكفارة؛ لأنه لم يمسكها بعد الظهار على الزوجية. وإن كان بعد الدخول.. وقف النكاح على انقضاء العدة، فإن لم تسلم الزوجة حتى انقضت عدتها.. بانت منه وقت إسلامه، ولم تجب عليه الكفارة، وإن أسلمت قبل انقضاء عدتها فقد اجتمعا على النكاح، ولا يكون إسلامها عودا، قولا واحدا؛ لأن العود بفعل الزوج لا بفعل الزوجة. فإن أمسكها الزوج بعد إسلامها زمانا يمكنه فيه الطلاق، فلم يطلق.. وجبت عليه الكفارة. وإن طلقها عقيب إسلامها، أو مات أحدهما.. لم تجب عليه الكفارة.

(10/350)


[فرع: ظاهرها ثم ارتدا]
] : وإن ظاهر المسلم من امرأته المسلمة، فارتدا أو أحدهما عقيب الظهار، فإن كان قبل الدخول.. لم تجب الكفارة؛ لأن النكاح ينفسخ بالردة قبل الدخول. وإن كان بعد الدخول.. وقف النكاح على انقضاء العدة، فإن انقضت العدة قبل أن يسلم المرتد منهما.. لم تجب الكفارة، وإن أسلم المرتد منهما قبل انقضاء العدة.. فقد اجتمعا على النكاح.
فإن كان المرتد هو الزوج.. فهل يكون إسلامه عودا، أو لا يحصل العود إلا بإمساكه لها بعد الإسلام زمانا يمكنه فيه الطلاق، فلم يطلق؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الرجعة.
وإن كان المرتد منهما أو المسلم هي الزوجة.. فإن العود لا يحصل بإسلامها، وجها واحدا؛ لأن العود يحصل بفعله لا بفعلها، فإن أمسكها بعد إسلامها زمانا يمكنه فيه طلاقها، فلم يفعل.. كان عائدا.

[فرع: تزوج أمة وظاهر منها]
] : وإن تزوج أمة لغيره، ثم ظاهر منها.. صح ظهاره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] الآية [المجادلة: 3] ولم يفرق.
فإن اشتراها الزوج أو اتهبها.. نظرت:
فإن كان ذلك بعد أن تمكن من طلاقها بعد الظهار، ولم يطلقها.. فقد وجبت عليه الكفارة، ولا تسقط عنه بملكها.
وإن اشتراها عقيب الظهار؛ بأن قال: أنت علي كظهر أمي، بعني إياها بكذا، فقال سيدها: بعتك. أو قال: أنت علي كظهر أمي، فقال سيدها: بعتكها بكذا، فقال الزوج: قبلت.. فقد ملكها، وانفسخ نكاحها، وهل يكون عائدا؟

(10/351)


فيه وجهان:
أحدهما: يكون عائدا، وتجب عليه الكفارة؛ لأنه لم يحرمها على نفسه عقيب الظهار، وإنما أمسكها على الاستباحة، فهو كما لو لم يشترها.
والثاني وهو قول أبي إسحاق: أنه لا يصير عائدا، ولا تجب عليه الكفارة، وهو الأصح؛ لأن (العود) : هو أن يمسكها بعد الظهار على الزوجية زمانا يمكنه أن يطلق فيه، فلم يطلق، وهذا لم يمسكها على الزوجية؛ لأن الشراء يوجب فسخ النكاح.
فإذا قلنا بهذا: فأعتقها، ثم تزوجها، أو باعها من آخر، ثم تزوجها منه.. فهل يعود حكم الظهار؟ بينى على الوجهين في الفسخ، هل هو بمنزلة البينونة بما دون الثلاث، أو بالثلاث؟
فإن قلنا: إنه كالبينونة بما دون الثلاث.. عاد حكم الظهار على القول القديم، قولا واحدا، وهل يعود على القول الجديد؟ على قولين.
وإن قلنا: إنه كالبينونة بالثلاث.. لم يعد حكم الظهار على القول الجديد، قولا واحدا، وهل يعود على القديم؟ فيه قولان.
فإذا قلنا: يعود.. فهل يحصل العود بنفس النكاح، أو لا يحصل إلا بأن يمسكها بعد النكاح زمانا يمكن فيه الطلاق، فلم يطلق؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الرجعة.

[فرع: قوله أنت علي كظهر أمي يا زانية]
] : إذا قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي يا زانية.. فالمشهور من المذهب: أنه يكون عائدا؛ لأن القذف لا تحصل به البينونة.
قال ابن الصباغ: وحكى المزني في " الجامع الكبير ": (أنه لو ظاهر منها، ثم أتبع الظهار قذفا.. لم يكن عودا) .

(10/352)


قال أبو العباس: لا يعرف هذا للشافعي، ولا وجه له.
قال ابن الحداد: فإذا قال لها: أنت علي كظهر أمي يا زانية، أنت طالق.. وجبت عليه الكفارة. وهذا على المشهور من المذهب. وأما إذا قلنا بما حكاه المزني في " الجامع الكبير ": فلا يكون عائدا.

[مسألة: ظاهر فلاعن فسقط الظهار ولا يكون عائدا]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو تظاهر منها، ثم لاعنها مكانه بلا فصل.. سقط الظهار) .
وجملة ذلك: أنه إذا قذف امرأته ولاعنها، فأتى من اللعان بلفظ الشهادة، وبقي لفظ اللعن، فقال لها: أنت علي كظهر أمي، ثم أتى عقيبه بلفظ اللعن.. فإنه لا يكون عائد؛ لأن الفرقة تقع باللفظة الخامسة من لعانه، فهو كما لو طلقها. وإن قذفها، ثم ظاهر منها، ثم ابتدأ عقيب الظهار باللعان.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون عائدا؛ لأن باشتغاله بألفاظ اللعان قد أمسكها زوجة زمانا أمكنه فيه أن يطلقها، ولم يطلقها. وحمل هذا القائل كلام الشافعي على الأولى.
والثاني: لا يكون عائدا، وهو ظاهر كلام الشافعي؛ لأنه اشتغل عقيب الظهار باللعان، وهو سبب الفرقة؛ لأن الفسخ يحصل بجميع ألفاظ اللعان، فصار كما لو قال لها عقيب الظهار: أنت طالق، وأطال لفظ الطلاق، أو كما قال لها عقيب الظهار: فلانة بنت فلان طالق، أو فلانة وفلانة وفلانة طوالق.

[مسألة: علق ظهاره على مدة شهر]
] : إذا قال لها: أنت علي كظهر أمي يوما، أو شهرا، أو سنة، وقلنا: يصح ظهاره، فمتى يصير عائدا؟ فيه وجهان:

(10/353)


[أحدهما] : قال المزني، وبعض أصحابنا: إذا أمسكها بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلقها فيه، فلم يطلقها.. صار عائدا، كما قلنا في الظهار المطلق.
و [الثاني] : قال أبو العباس، وأبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: لا يصير عائدا بالإمساك، وإنما يصير عائدا إذا وطئها في اليوم، أو الشهر، أو السنة.
فإن لم يطأها حتى انقضت مدة الظهار.. لم تلزمه الكفارة؛ لأن إمساكه لها بعد الظهار يحتمل أن يكون أمسكها زوجة، فيكون قد رجع عن التحريم وعاد، فلزمته الكفارة. ويحتمل أن يكون أمسكها إلى أن تنقضي المدة، ويرتفع التحريم، وتصير مباحة له بالأمر الأول.. فلم تجب الكفارة بالشك.
فإذا وطئها قبل انقضاء مدة الظهار.. تحققنا عوده، فلزمته الكفارة.

[مسألة: ظاهر من أربع بكلمة ثم عاد]
لزمه أربع كفارات] : إذا كان له أربع زوجات، فظاهر من كل واحدة منهن بكلمة، ووجد العود.. لزمه أربع كفارات.
وإن ظاهر منهن بكلمة واحدة؛ بأن قال: أنتن علي كظهر أمي، ووجد العود.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يلزمه كفارة واحدة) . وبه قال مالك، وأحمد. وروي ذلك عن عمر؛ لأن الظهار يمين، بدليل «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأوس بن

(10/354)


الصامت: " كفر عن يمينك» . فلزمه بمخالفتها كفارة واحدة، كالإيلاء.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تجب عليه أربع كفارات) . وهو الأصح؛ لأن كل واحدة منهن محرمة عليه قبل التكفير، فلا يرتفع التحريم بكفارة واحدة، كما لو أفرد كل واحدة بكلمة. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (لا تجب عليه إلا كفارة واحدة، سواء ظاهر منهن بكلمة أو كلمات) .
دليلنا: أن الظهار يمين، فإذا وجد منه إفراد كل واحدة بكلمة واحدة.. وجب عليه لكل واحدة كفارة، كما لو آلى من كل واحدة منهن بكلمة، وحنث.

[فرع: كرر الظهار فعلى أيها الكفارة]
وإن كرر لفظ الظهار.. نظرت:
فإن أتى به متواليا، مثل أن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي، أنت علي كظهر أمي، أنت علي كظهر أمي.. فقد صار عائدا في كل ظهار من ذلك، فيلزمه في الظهار الأول كفارة، وأما الثاني والثالث: فإن نوى بهما تأكيد الأول.. لم تلزمه إلا كفارة واحدة، وإن نوى بهما استئناف الظهار.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (تلزمه كفارة واحدة) . وبه قال أحمد؛ لأن الثاني والثالث لم يؤثرا في التحريم، فلم تجب بهما كفارة.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تجب لكل واحد منهما كفارة) . وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وهو الأصح؛ لأنه لفظ يتعلق به تحريم الزوجة، فإذا كرره وقصد به الاستئناف.. تعلق بكل واحد حكمه، كالطلاق.
وإذا أطلق ذلك، ولم ينو بهما التأكيد ولا الاستئناف.. ففيه وجهان، بناء على

(10/355)


القولين فيمن كرر لفظ الطلاق، ولم ينو التأكيد ولا الاستئناف:
أحدهما: حكمه حكم ما لو قصد التأكيد، فتلزمه كفارة واحدة.
والثاني: حكمه حكم ما لو قصد الاستئناف.
فعلى هذا: هل تلزمه كفارة، أو كفارات؟ على قولين.
وإن كرر ذلك في أوقات متراخية.. نظرت:
فإن أتى بالثاني بعد أن كفر عن الأول.. لزمه للثاني كفارة. وكذلك: إذا كفر عن الثاني، ثم أتى بالثالث.. كفر عن الثالث.
وإن أتى بالثاني قبل أن يكفر عن الأول.. فهل تلزمه كفارة، أو كفارات؟ على القولين، كما لو أتى به متواليا، ونوى بالثاني الاستئناف، ولا يقبل قوله: إنه أتى بما بعد الأول للتأكيد؛ لأن التأكيد لا يكون إلا بعدم الانفصال عن الأول بزمان. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال القفال: هل يصدق أنه أتى بما بعد الأول للتأكيد؟ فيه وجهان.
وإن كان له امرأتان، فقال لإحداهما: إن تظاهرت منك فضرتك علي كظهر أمي، فتظاهر من الأولى.. صار مظاهرا منهما. فإذا وجد العود فيهما.. لزمه كفارتان، قولا واحدا؛ لأنهما ظهاران وجد العود فيهما، إلا أن أحدهما بالمباشرة، والآخر بالصفة.

[مسألة: حرمة وطء المظاهر منها قبل الكفارة]
] : وإذا ظاهر من امرأته، ووجد العود.. حرم عليه وطؤها قبل أن يكفر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3] {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] [المجادلة: 3 - 4] . فنص على تحريم الوطء قبل العتق

(10/356)


والصيام، وقسنا عليهما الإطعام؛ لأنه في معناهما. وهل تحرم عليه مباشرتها بشهوة قبل التكفير؟ فيه قولان، ومنهم من يحكيهما وجهين.
أحدهما: تحرم؛ لقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . و (المس) : يقع على الجماع، وعلى المس باليد، والقبلة. ولأنه قول يؤثر في تحريم الوطء، فحرم ما دونه من المباشرة، كالطلاق.
والثاني: لا تحرم، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . وإطلاق المس في النساء إنما ينصرف إلى الجماع.
ولأنه تحريم وطء لا يتعلق به مال، فوجب أن لا يحرم دواعي الوطء، كالحيض، وفيه احتراز من وطء المطلقة؛ فإنه يتعلق بتحريمه المال، وهو المهر.
فإن خالف، ووطئها قبل التكفير وهو عالم بالتحريم.. فقد أثم بذلك، ولا تسقط الكفارة بالوطء، بل يلزمه إخراج الكفارة، ويكون إخراجها قضاء؛ لأن وقت أدائها من حين الظهار إلى أن يطأ.
فإذا وطئ قبل التكفير.. فقد فات وقت الأداء، وصار قاضيا، ولا يلزمه بهذا الوطء كفارة أخرى. هذا مذهبنا.
وقال بعض الناس: تسقط الكفارة بالوطء.
وقال مجاهد: تلزمه كفارة ثانية للوطء.
دليلنا: ما روى عكرمة، عن ابن عباس: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إني تظاهرت من امرأتي، وواقعتها قبل أن أكفر؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لم فعلت ذلك، يرحمك الله؟ " قال: رأيت بياض ساقها في ضوء القمر، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقربها حتى تكفر» . وروي: «لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله» . فلم يسقط

(10/357)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكفارة بالوطء، ولم يأمره بكفارة ثانية للوطء.
ويحرم عليه وطؤها بعد الوطء الأول إلى أن يكفر؛ لما ذكرناه في الخبر.

[فرع: ظاهر من أمة ثم اشتراها لا يعود حتى يكفر]
] : وإن ظاهر من امرأته الأمة، ووجد العود، ثم اشتراها قبل أن يكفر.. حرم عليه وطؤها إلى أن يكفر. نص عليه الشافعي؛ لأن الفرج كان حراما عليه إلا بعد التكفير، وهذا التحريم باق لم يزل.
ولم يختلف أصحابنا في هذه، وإن اختلفوا في المطلقة ثلاثا إذا ملكها زوجها قبل زوج، والنص هاهنا يدل على صحة أحد الوجهين هناك.
وإن ظاهر من امرأته، وعاد، ووجبت عليه الكفارة، فأخر وطأها والتكفير حتى مضت أربعة أشهر.. لم يصر موليا منها، غير أنه إن قصد بتأخير التكفير والوطء الإضرار بها.. أثم بذلك، وإن لم يقصد ذلك.. لم يأثم.
وقال مالك: (يصير موليا، فيطالب بالفيئة أو بالطلاق) .
دليلنا: أن لفظ الظهار يوقع التحريم في الزوجية، فلم يصر به موليا، كالطلاق.
والله أعلم بالصواب.

(10/358)


[باب كفارة الظهار]
وكفارة الظهار على الترتيب؛ فيجب عتق رقبة لمن وجد، فإن لم يجد.. فعليه الصيام، فإن لم يستطع.. فعليه الإطعام.
والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] الآية [المجادلة: 3] .
ولما ذكرناه من حديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر.
إذا ثبت هذا: وجب عليه الكفارة في الظهار، فإن كانت معه رقبة تجزئ في الكفارة فاضلة عن كفايته على الدوام، وهو لا يحتاج إلى خدمتها.. كان فرضه العتق، ولم يجزئه الصيام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3] {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] [المجادلة: 3 - 4] . وهذا واجد.
وإن لم يكن معه رقبة تجزئ في الكفارة، إلا أنه واجد لثمنها، وكان ذلك فاضلا عن كفايته على الدوام.. لزمه أن يشتري رقبة ويعتقها؛ لأن كل حق تعلق بالذمة فإن قدرته على ثمنه وشرائه كالقدرة عليه، كما قلنا فيمن في ذمته دين من ذهب وعنده فضة.
وإنما قلنا: (تعلق بالذمة) ؛ كيلا ينتقض بمن وجبت عليه ابنة مخاض في الزكاة

(10/359)


وليست في إبله، ولكنه قادر على ثمنها وشرائها، وعنده ابن لبون.. فإنه لا يجب عليه شراء ابنة مخاض، بل له أن يخرج ابن لبون.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن كان واجدا لثمن رقبة، وهي معدومة.. فعليه أن يصبر إلى أن يجدها.
وإن وجد رقبة تباع نسيئة، وله مال في بلد آخر.. لزمه الشراء.
وإن كان معه رقبة وهو محتاج إلى خدمتها، وهو ممن لا يخدم نفسه؛ بأن كان يضعف عن خدمة نفسه، أو كان ممن يقدر على خدمة نفسه، إلا أنه ممن لا يخدم نفسه في العادة؛ كذوي الهيئات من الناس، ولا يجد ما يشتري به خادما يخدمه فاضلا عن كفايته.. لم يلزمه العتق، بل فرضه الصوم.
وكذلك إذا لم يكن معه رقبة، ومعه مال لا يفضل عن كفايته وكفاية من تلزمه نفقته على الدوام.. فلا يلزمه شراء الرقبة، بل له أن ينتقل إلى الصيام. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إذا وجد ثمن الرقبة وهو محتاج إليها في نفقته وكفايته على الدوام.. لم يلزمه العتق - كما قلنا - وإن كان واجدا للرقبة في ملكه.. لزمه إعتاقها وإن كان محتاجا إلى خدمتها) .
وقال مالك والأوزاعي: (إذا وجد الرقبة في ملكه، أو ما يشتري به الرقبة.. لزمه العتق وإن كان محتاجا إلى الرقبة، أو إلى ما في يده من المال) .
دليلنا: ما روي «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إني تظاهرت من امرأتي، ثم واقعتها، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعتق رقبة "، فضرب على صفحة عنقه، وقال: ما أجد غير هذه الرقبة، قال: " صم شهرين متتابعين "، قال: لا أستطيع، فقال: " أطعم ستين مسكينا "، قال: لا أجد، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتمر، فأتي به، فقال: " خذ هذا، فتصدق به "، فقال: فهل أفقر مني ومن أهل بيتي؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كله أنت وأهل بيتك» .

(10/360)


فموضع الدليل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ملكه التمر، وأمره أن يتصدق به عن كفارته، ثم أخبره الرجل أنه محتاج إليه، فأباح له أكله ولم يلزمه إخراجه مع وجوده، فدل على أن ما تستغرقه حاجته.. لا يلزمه إخراجه؛ لأنه وجد ما تستغرقه حاجته، فكان كالعادم له في جواز الانتقال إلى بدله، كما لو وجد ماء وهو محتاج إليه لعطشه.
وإن كان معه رقبة، وهو يقدر على خدمة نفسه في العادة، كمن يخرج إلى الأسواق ويبيع ويشتري.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه إعتاقها؛ لأنه يمكنه أن يخدم نفسه، وأكثر الناس لا خادم له.
والثاني: لا يلزمه إعتاقها، بل له أن يصوم؛ لأنه ما من أحد إلا ويحتاج إلى من يخدمه؛ ليترفه، ولأنه يشق على الإنسان خدمة نفسه في جميع الأشياء.
وإن كان له رقبة تخدمه وهو محتاج إلى خادم، ويمكنه أن يبيعها ويشتري بثمنها رقبتين، تخدمه إحداهما، ويعتق الأخرى.. لزمه العتق.
وإن كان له دار يسكنها، أو ضيعة يأتي له منها قدر كفايته، أو له بضاعة يتجر فيها ويحصل له من ربحها قدر كفايته.. لم يلزمه بيع ذلك وصرفه في العتق.
وإن كانت الدار تزيد على ما يحتاج إليه، أو كانت الضيعة تكفيه غلة بعضها، أو كان يمكنه أن يتجر ببعض تلك البضاعة، ويحصل منها قدر كفايته.. لزمه بيع ما زاد على قدر حاجته من ذلك لشراء الرقبة.
وإن وجبت عليه الكفارة وهو معسر بها في موضعه وله مال غائب عن موضعه يمكنه أن يشتري به رقبة، فإن كان ذلك كفارة الجماع في رمضان والقتل.. لم يجز له أن ينتقل إلى الصوم، بل يصبر إلى أن يصل إلى المال، ويشتري الرقبة ويعتق؛ لأنه لا ضرر عليه في التأخير.
وإن كان ذلك في كفارة الظهار.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له أن ينتقل إلى الصوم؛ لأن له مالا فاضلا عن كفايته يمكنه أن يشتري به رقبة، فلم يجز له أن ينتقل إلى الصوم، كما قلنا في كفارة الجماع في رمضان والقتل.

(10/361)


والثاني: يجوز له الانتقال إلى الصوم. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأن عليه ضررا في التأخير؛ لأنه لا يجوز له أن يجامع قبل التكفير، فجاز له الانتقال إلى البدل، كما لو عدم الماء وثمنه في موضعه وهو واجد لثمنه في غير موضعه.

[مسألة: وجبت كفارة ثم اختلفت الحال]
] : إذا وجبت عليه كفارة مرتبة، واختلف حاله من حين الوجوب إلى حين الأداء.. فمتى يعتبر حاله؟ نص الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيها على قولين:
أحدهما: (يعتبر حاله حين الوجوب) .
والثاني: (يعتبر حاله حين الأداء) .
قال الشيخ أبو حامد: وخرج أصحابنا قولا ثالثا: أنه يعتبر حاله بأغلظ الأحوال.
فإذا قلنا: يعتبر حاله حين الوجوب - وبه قال أحمد - فوجهه: أنه حق يقع به التكفير، فاعتبر حال وجوبه، كالحدود؛ لأن الحدود كفارة؛ بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحدود كفارات لأهلها» .
ثم ثبت أنه لو زنى وهو عبد، فأعتق قبل أن يقام عليه الحد.. لم يجب عليه إلا حد العبد، ولو زنى وهو بكر، فأحصن قبل أن يقام عليه الحد.. لم يقم عليه إلا حد البكر، فكذلك هذا مثله.
فعلى هذا: إذا كان من أهل العتق حين الوجوب، فأعسر قبل أن يعتق.. لم يسقط عنه العتق، بل يثبت في ذمته إلى أن يوسر به.

(10/362)


وإن كان معسرا بالعتق حين الوجوب.. ففرضه الصيام، فإن أيسر قبل أن يصوم.. لم يلزمه العتق.
قال الشافعي: (فإن أعتق.. كان أحب إلي؛ لأنه أفضل) .
وإذا قلنا: يعتبر حاله حين الأداء - وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وهو الأصح - فوجهه: أنه حق ذو بدل من غير جنسه.. فوجب أن يعتبر بحالة الأداء، كالطهارة؛ وذلك أنه لو دخل عليه وقت الصلاة وهو عادم للماء، فوجد الماء قبل أن يدخل في الصلاة والتيمم.. لكان فرضه الطهارة بالماء. ولو كان واجدا للماء في أول الوقت، فلم يتوضأ به حتى تلف الماء.. لجاز له التيمم. يؤيد هذا: أنه لو دخل عليه وقت الصلاة وهو صحيح قادر على القيام، فلم يصل حتى عجز عن القيام بمرض.. لجاز له أن يصلي قاعدا، ولو دخل عليه الوقت وهو عاجز عن القيام، فلم يصل حتى قدر على القيام.. لوجب عليه القيام في الصلاة.
فعلى هذا: يعتبر حاله عند التكفير، فإن كان موسرا بالرقبة.. ففرضه العتق، سواء كان موسرا حال الوجوب أو معسرا. وإن كان معسرا عند التكفير.. ففرضه الصوم، سواء كان موسرا بالرقبة حال الوجوب أو معسرا.
وإذا قلنا: إن الاعتبار بأغلظ الأحوال.. فمتى كان موسرا بالرقبة في حال الوجوب، أو حال الأداء، أو فيما بينهما ففرضه العتق؛ لأنه حق يتعلق بالذمة بوجود المال، فاعتبر فيه أغلظ الأحوال، كالحج.

[مسألة: المجزئ في الكفارة رقبة مؤمنة]
] : ولا يجزئ في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة، وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
وقال عطاء والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يجزئ في كفارة القتل إلا رقبة مؤمنة، فأما كفارة الظهار وكفارة اليمين.. فيجزئ فيها المؤمنة والكافرة) .

(10/363)


دليلنا: أن الله تعالى ذكر الرقبة في كفارة القتل، وقيدها بالإيمان، وذكر الرقبة في كفارة الظهار وكفارة اليمين، وأطلق ذكرها، فوجب أن يحمل المطلق على المقيد، كما ذكر الشهود في موضع، وقيدهم بالعدالة، وذكرهم في مواضع، وأطلق ذكرهم ولم يقيدهم بالعدالة، فلما حمل مطلق الشهود على المقيد في العدالة.. فكذلك هذا مثله.
وروى أبو هريرة: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجارية، وقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها رقبة، أفأعتق عنها هذه؟ فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أين الله؟ "، فقالت: في السماء، فقال: " من أنا؟ "، قالت: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " أعتقها فإنها مؤمنة» . وهذا يقتضي أن كل رقبة واجبة لا يجزئ فيها إلا مؤمنة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفرق.
ولأنه تكفير بعتق، فلم يجز فيه إلا مؤمنة، ككفارة القتل.
إذا ثبت هذا فيجزئ عتق الرقبة الفاسقة؛ لأن الفسق لا يوجب القتل، ولا يجيز الاسترقاق، وإنما هو نقص، فلم يمنع الإجزاء، كالأنوثية.
ويجزئ عتق الرقبة الأعجمية إذا ثبت إسلامها؛ لما روى أبو هريرة: «أن رجلا أتى

(10/364)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجارية أعجمية، فقال: علي يا رسول الله رقبة، أفأعتق هذه؟ فقال لها - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " أين الله؟ " فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: " من أنا " فأشارت إليه - أي: أنت رسول الله - فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " أعتقها؛ فإنها مؤمنة» .
فإن كان مولاها أو الحاكم يعرف لغتها، فسمع الإسلام منها.. جاز إعتاقها، وإن كانا لا يعرفان ذلك، وترجم عنها رجلان عدلان، وأخبرا بإسلامها.. أجزأ عتقها.

[فرع: إجزاء الرقبة الصغيرة المسلمة]
ويجزئ عتق الرقبة الصغيرة إذا كان أحد أبويها مسلما، أو سبي ولم يسب معه أحد أبويه وقلنا: يتبع السابي في الإسلام، سواء كان ابن يوم أو شهر أو سنة، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا يتبع الصغير الأم في الإسلام) . وقد مضى ذلك، ثم قال: (لا يعجبني إلا رقبة صلت وصامت) .
وقال أحمد: (لا تعجبني الصغيرة؛ لأن الإيمان قول وعمل، والصغيرة لا عمل لها) . وهذا يدل من قوله: أنها لا تجزئ.
ومن الناس من قال: لا تجزئ الصغيرة؛ لأنها كالذمية.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . ولم يفرق بين الصغير والكبير.
ولأنها رقبة مؤمنة سليمة تامة الملك، فأجزأ عتقها، كالبالغة.
وإن كانت الرقبة جلبية؛ جلبت من دار الشرك، أو مولودة في دار الإسلام، ولا يعرف أبواها.. لم يجز عتقها حتى تصف الإسلام.

(10/365)


قال الشافعي في موضع: (إذا أتت بالشهادتين.. كانت مسلمة) .
وقال في موضع: (حتى تأتي بالشهادتين، وتبرأ من كل دين خالف الإسلام) .
وقال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على حالين:
فحيث قال: (يحكم بإسلامه إذا أتى بالشهادتين) إذا كان من عبدة الأوثان الذين لا يقرون بالله ولا بأحد من الأنبياء، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.. حكم بإسلامه؛ لأنه لا تأويل له في كفره.
والموضع الذي قال: (يأتي بالشهادتين، ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام) إذا كان يهوديا أو نصرانيا؛ لأن منهم من يعتقد أن محمدا نبي أرسل إلى العرب وحدهم، أو أنه نبي يخرج في آخر الزمان.
قال الشافعي: (وأحب أن يمتحنه بالإقرار بالبعث والنشور مع الشهادتين، ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام؛ لأنه أبلغ في الإيمان) . فإن لم يفعل ذلك.. جاز؛ لأن الإسلام يتضمن ذلك، وكل من كان مسلما.. فإنه يؤمن بذلك، فلم يحتج إلى الإقرار به.

[مسألة: أيجزئ عتق رقبة مؤمنة معيبة]
؟] : ولا يجزئ في الكفارة عتق رقبة معيبة، وهو قول كافة العلماء. وقال داود: (تجزئ) .
دليلنا: أنه أحد ما يكفر به، فلم يجز فيه معيب، كالطعام المسوس.
إذا ثبت هذا: فإنما يريد بالعيوب التي تمنع الإجزاء العيوب التي تضر بالعمل ضررا بينا؛ لأن المقصود بالعتق تمليك المنفعة؛ لأن العبد لا يملك نفسه بالعتق، وإنما يملك المنفعة، وكل عيب أضر بالعمل ضررا بينا.. منع الإجزاء في الكفارة، كما أن المقصود بالمبيعات العين والثمن، وكل عيب وجد في المبيع ينتقص من العين والثمن.. فإنه يثبت له الرد. وكذلك: المقصود بالنكاح الاستمتاع، وإذا وجد أحد الزوجين بالآخر عيبا يمنع الاستمتاع.. يثبت له الخيار، وكذلك هذا مثله.

(10/366)


فإذا أعتق عبدا أعمى.. لم يجزئه عن الكفارة؛ لأن العمى يضر بالعمل ضررا بينا، بل هو يذهب بمعظم المنفعة.
وإن أعتق عبدا أعور.. أجزأه؛ لأن العور لا يضر بالعمل ضررا بينا.
وحكي: أن الشعبي كان يختلف إلى إبراهيم النخعي؛ يتعلم منه، ثم امتنع الشعبي، فقال له النخعي: لم امتنعت؟ فقال: قد استكفيت من العلم، فقال له النخعي: ما تقول في العبد الأعور، أيجزئ في الكفارة، أم لا؟ فقال الشعبي: لا يجزئ، فقال له النخعي: ويحك! شيخ مثلي لا يجزئ في الكفارة؟! - وكان النخعي أعور - فقال الشعبي: بل مثل هذا الشيخ يجزئ، فقال النخعي: أخطأت من وجهين:
أحدهما: أن العبد الأعور يجزئ في الكفارة، وأنت منعت.
والثاني: أن الحر الأعور لا يجزئ في الكفارة، وأنت جوزت.

[فرع: لا يجزئ قن مقطع بعض أوصاله]
] : ولا يجزئ مقطوع اليدين أو الرجلين؛ لأنه يضر بالعمل ضررا بينا.
وكذلك لا يجزئ مقطوع اليد والرجل من جانب بلا خلاف.
ولا يجزئ مقطوع اليد والرجل من خلاف.
وقال أبو حنيفة: (يجزئ) .
دليلنا: أنه يضر بالعمل ضررا بينا، فلم يجزئ، كما لو كانا من جانب واحد.
ولا يجزئ مقطوع اليد أو الرجل؛ لأنه يضر بالعمل ضررا بينا.
وإن كانت له أصبع مقطوعة من اليد.. نظرت:
فإن كانت الإبهام أو السبابة أو الوسطى.. منعت الإجزاء؛ لأن ذلك يضر بالعمل ضررا بينا؛ لأن معظم منفعة اليد تذهب بذلك.

(10/367)


وإن كانت الخنصر أو البنصر.. لم تمنع الإجزاء؛ لأن منفعة اليد لا تذهب بذلك وإن كان مقطوع الخنصر والبنصر، فإن كانتا من يد.. منع ذلك الإجزاء؛ لأن معظم منفعة اليد تذهب بذلك؛ لأنه يذهب بمنفعة نصف الكف، وإن كانتا من يدين. لم يمنع الإجزاء؛ لأن منفعة اليد لا تذهب بذلك.
وإن كان مقطوع الأنملتين من أصبع من أصابع اليد، فإن كان ذلك من الخنصر أو البنصر.. لم يمنع الإجزاء؛ لأن ذهاب الخنصر أو البنصر لا يمنع الإجزاء، فذهاب الأنملتين منها أولى أن لا يمنع. وإن كان من السبابة أو الوسطى.. منع الإجزاء؛ لأن منفعتها تتعطل بذلك، فهو كما لو قطعت.
وإن كان مقطوع الأنملة من أصبع في اليد، فإن كان ذلك من الإبهام.. منع الإجزاء؛ لأن منفعتها تتعطل بذلك. وإن كانت من غير الإبهام.. لم يمنع الإجزاء؛ لأن منفعتها لا تذهب بذلك.
قال ابن الصباغ: وإن كان قد قطع من جميع أصابع يده أنملة أنملة، إلا الإبهام لم يقطع منه شيء.. فإن ذلك لا يمنع الإجزاء؛ لأنها كالأصابع القصار، ولا يضر ذلك بالعمل ضررا بينا.

[مسألة: عتق الأعرج والأصم ومقطوع الأذن في الكفارة]
] : وأما الأعرج: فإن كان عرجه قليلا لا يمنع متابعة المشي، ولا يناله في المشي كبير مشقة.. أجزأ عتقه في الكفارة؛ لأن ذلك لا يضر بالعمل ضررا يبنا. وإن كان عرجه يمنع متابعة المشي.. لم يجزئ عتقه في الكفارة؛ لأنه يضر بالعمل ضررا بينا.
ويجزئ الأصم؛ لأنه لا يضر بالعمل، بل يتوفر على العمل؛ لأنه لا يسمع ما يشغله.

(10/368)


ويجزئ مقطوع الأذنين، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وزفر: (لا يجزئ) .
دليلنا: أن قطعهما لا يضر بالعمل ضررا بينا، وإنما يخاف منه الصمم، والأصم يجزئ في الكفارة، فكذلك مقطوع الأذنين.

[فرع: عتق الأخرس في الكفارة]
فرع: [عتق الأخرس] : وأما الأخرس: فقد قال الشافعي في " المختصر ": (يجزئ) .
وقال في القديم: (لا يجزئ) .
فقال أصحابنا البغداديون: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، واختلفوا في الحالين.
فمنهم من قال: الموضع الذي قال: (يجزئ) إذا لم يكن مع الخرس صمم، بل يسمع؛ لأنه لا يضر بالعمل ضررا بينا.
والموضع الذي قال: (لا يجزئ) إذا كان مع الخرس صمم؛ لأنه يضر بالعمل ضررا بينا.
ومنهم من قال: بل هو على اختلاف حالين غير هذا:
فالموضع الذي قال: (يجزئ) إذا كان يعقل الإشارة.
والموضع الذي قال: (لا يجزئ) إذا كان لا يعقل الإشارة.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه قولان.
فإذا قلنا: يجزئ عتق الأخرس، فإن كان مسلما تبعا لأحد أبويه.. أجزأ عتقه، وإن كان مجلوبا من الشرك، أو مولودا في دار الإسلام، ولا يعرف أبواه، وهو بالغ، وأشار إلى الإسلام إشارة مفهومة.. فقد قال الشافعي في موضع: (يجزئ) . وقال في " الأم " [5/267] : (إن أشارت وصلت.. أجزأت) .
فمن أصحابنا من قال: إذا أشارت إلى الإسلام.. أجزأت وإن لم تصل؛ لحديث

(10/369)


أبي هريرة الذي مضى في الأعجمية، ولأن سائر أحكامه تتعلق بالإشارة، كبيعه، وشرائه، ونكاحه، وطلاقه، فكذلك إسلامه. وقول الشافعي: (وصلت) تأكيد، لا شرط.
ومنهم من قال: لا يجزئ عتقها حتى تصلي مع الإشارة؛ لأن بالصلاة تتحقق صحة إشارتها.

[فرع: عتق المجنون والأحمق والقرناء والمجبوب وضروبهم في الكفارة]
] : وهل يجزئ عتق المجنون؟ ينظر فيه:
فإن كان جنونه مطبقا.. لم يجزئ؛ لأنه لا منفعة له.
وإن كان يجن في وقت، ويفيق في غيره.. فقد ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنه يجزئ من غير تفصيل؛ لأنه يمكنه الاكتساب في وقت الإفاقة.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: إن كان زمان الإفاقة أكثر.. أجزأ، وإن كان زمان الجنون أكثر.. لم يجزئ.
ويجزئ عتق الأحمق؛ وهو الذي يفعل ما يضره مع علمه بقبحه؛ لأن ذلك لا يضر بالعمل.
ويجزئ عتق الأمة القرناء والرتقاء، وعتق الخصي والمجبوب؛ لأن ذلك لا يضر بالعمل.
ويجزئ مقطوع الأنف.
وقال مالك: (لا يجزئ) .
دليلنا: أن ذلك لا يضر بالعمل ضررا بينا.
ويجزئ عتق ولد الزنا، وهو قول عامة أهل العلم.
وقال الأوزاعي، والزهري: (لا يجزئ) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولد الزنا شر الثلاثة» .

(10/370)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . ولم يفرق.
ولأن ذلك لا يضر بالعمل، وإنما هو ناقص النسب، والنسب غير معتبر في الكفارة.
وأما الخبر: فله تأويلان.
أحدهما: أنه أراد: ولد الزنا شر من الزاني والمزني بها نسبا.
والثاني: أنه أراد بذلك الإشارة إلى ثلاثة رجال بأعيانهم، أحدهم ولد الزنا؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجالس في وسط الحلقة ملعون» . ولم يرد لجلوسه فيها، وإنما ذلك علامة له.
وأما المريض: فإن كان مرضا يرجى زواله، كالحمى، والصداع، وما أشبهه.. أجزأ عتقه في الكفارة، وإن كان لا يرجى زواله، كالسل، وما أشبهه.. لم يجزئ؛ لأنه يدوم ولا يزول.
وأما النحيف ونضو الخلق من أصل الخلقة لا لمرض، فإن كان لا يستطيع العمل ولا كثيرا منه.. لم يجزئ عتقه في الكفارة؛ لأنه يضر بالعمل ضررا بينا، وإن كان يستطيع أكثر العمل.. أجزأ عتقه؛ لأنه لا يضر بالعمل ضررا بينا.

(10/371)


[فرع: عتق المرهون والجاني ونحوه في الكفارة]
] : ومن أعتق عبدا عن الكفارة، مرهونا أو جانيا، وقلنا: يصح عتقهما.. أجزأه عن الكفارة؛ لأنه أعتق عبدا بملكه ملكا تاما لا عيب فيه، فأجزأه، كما لو كان غير مرهون ولا جان.
وإن غصب عبدا من غيره، وأعتقه الغاصب عن الكفارة.. لم يجزئه؛ لأنه لا يملكه، وإن أعتقه المغصوب منه عن الكفارة.. عتق عليه، ولا يجزئه عن الكفارة؛ لأن الغاصب يحول بين العبد وبين منافعه، فلا يحصل للعبد المقصود من العتق، فصار كما لو أعتق عن كفارته عبدا زمنا.. فإنه يعتق ولا يجزئه عن الكفارة. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال القفال: يجزئه؛ لأنه يملكه ملكا تاما.
وإن أعتق حمل جارية عن كفارته.. عتق الحمل؛ لأن العتق صادف ملكه ولا يتعلق به حق غيره فيعتق، كالمنفصل، ولا يجزئ عتقه عن الكفارة؛ لأنه لم تثبت له أحكام الدنيا، والكفارة حكم، فلم يجز في الحمل.

[فرع: التكفير بعتق العبد الغائب]
] : وإن أعتق عن كفارته عبدا له غائبا، فإن كانت غيبته غير منقطعة، بل يعرف مكانه ويسمع بخبره.. أجزأه عن الكفارة؛ لأنه بمنزلة الغائب عنه في البيت، وإن كانت غيبته منقطعة، لا يعلم مكانه ولا يسمع بخبره.. عتق عليه. قال الشافعي: (ولا يجزئه عن الكفارة) . وقال في (زكاة الفطر) : (عليه زكاة فطره) .
فمن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين:
أحدهما: يجزئ عتقه عن الكفارة، وتجب عليه زكاة فطره؛ لأن الأصل حياته.

(10/372)


والثاني: لا يجزئ عتقه عن الكفارة، ولا تجب عليه زكاة فطره؛ لأنه يشك في سقوط الكفارة عنه بعتقه، والأصل بقاؤها في ذمته، ويشك في حياته لتجب عليه زكاة فطره، والأصل براءة ذمته من الزكاة.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما، فقال: لا يجزئ عتقه عن الكفارة؛ لأنه يشك في إسقاط الكفارة عن ذمته بعتقه، والأصل بقاؤها في ذمته، ويشك في سقوط الزكاة عنه بموته، والأصل بقاؤها.

[مسألة: أعتق أم ولد عن كفارة]
] : وإن أعتق أم ولده في كفارته.. عتقت عليه، ولم تجزئه عن الكفارة؛ لأن عتقها مستحق بالاستيلاد، فلم يقع عن الكفارة، كما لو باع من فقير طعاما، ثم دفعه إليه عن الكفارة. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يجزئ عتقها عن الكفارة؟ فيه قولان، بناء على القولين في جواز بيعها، وقد مضى ذلك في البيوع.
وإن أعتق مكاتبه عن الكفارة.. عتق عليه، ولم يجزئه عن الكفارة، سواء قلنا: يصح بيعه، أو لا يصح؛ لأنا وإن قلنا: يصح بيعه.. فإن الكتابة لا تبطل بالبيع، وإنما يقوم المشتري مقام البائع، فمتى أدى إليه باقي النجوم.. عتق عليه. هذا مذهبنا، وبه قال مالك والأوزاعي والثوري.
وقال أبو حنيفة: (إن كان قد أدى إليه شيئا من كتابته.. لم يجزئه عتقه عن الكفارة، وإن لم يؤد إليه شيئا من كتابته.. أجزأه عن الكفارة) . وبه قال الليث.
وقال أحمد وأبو ثور: (يجزئ عن الكفارة بكل حال) .
دليلنا: أن عتقه مستحق بسبب سابق لعتقه عن الكفارة.. فلم يجزئه عن الكفارة، كأم الولد.

(10/373)


وإن أعتق عبدا مدبرا، أو معلقا عتقه بصفة عن الكفارة.. عتق عليه، وأجزأه عن الكفارة؛ لأن عتقهما غير مستحق عليه، فأجزأه عن الكفارة، كالقن.

[مسألة: اشترى من يعتق عليه للكفارة]
] : وإن اشترى من يعتق عليه؛ كأحد أولاده، أو أحد والديه، ونوى عتقه عن الكفارة.. عتق عليه، ولم يجزئه عن الكفارة، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (يجزئه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . والتحرير من التفعيل، وهو أن يفعل التحرير، فإذا ملك أحد والديه، أو أحد أولاده.. لم يحرر رقبة، وإنما يحرر بالشرع.
ولأن عتقه مستحق عليه بالقرابة، وهو سبب للكفارة، فلم يقع عن الكفارة، كما لو استحق عليه القريب النفقة بالقرابة، فدفع إليه نفقته، ونوى الكفارة.. فإنها لا تجزئه.

[فرع: اشترى عبدا بشرط أن يعتقه]
] : إذا اشترى عبدا بشرط أن يعتقه.. فقد ذكرنا في (البيوع) : أن المشهور من المذهب: أن البيع صحيح، وهل يلزمه أن يعتقه؟ فيه وجهان.
وإن أعتقه عن الكفارة؟ فإن قلنا: إن البيع باطل.. لم يعتق؛ لأنه لا يملكه، ولا يجزئه عن الكفارة؛ لأنه لم يعتق عليه. وإن قلنا: يصح البيع، فأعتقه عن الكفارة.. عتق عليه، ولم يجزئه عن الكفارة، سواء قلنا: يجب عليه إعتاقه، أو لا يجب؛ لأنا إن قلنا: يجب عليه إعتاقه.. لم يجزئه عن الكفارة؛ لأن عتقه استحق عليه بسبب سابق لعتق الكفارة، فلم يجزئه عن الكفارة، كما لو نذر عتقه قبل هذا. وإن قلنا:

(10/374)


لا يجب عليه إعتاقه.. لم يجزئ عن الكفارة، كما لو نذره؛ لأن هذا العتق لم يقع خالصا للكفارة، وإنما هو مشترك للكفارة ولأجل هذا الشرط في البيع؛ بدليل أنه يسقط خيار البائع في فسخ البيع لذلك. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن قلنا: إن العتق في العبد المبيع بشرط العتق حق لله، أو حق للآدمي، فطالب البائع بإعتاقه، فأعتقه المشتري عن الكفارة.. لم يجزئه عن الكفارة. وإن قلنا: إنه حق للآدمي، فأعتقه المشتري قبل أن يطالب بإعتاقه، ونوى عتقه عن الكفارة.. فهل يجزئه عن الكفارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأنه لم يجز عليه إعتاقه.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه كان بعوض، وقد سامحه البائع في الثمن؛ حيث باعه بشرط العتق.
قال: فإن باعه بشرط أن يعتقه عن كفارته، وقلنا: يصح البيع، فأعتقه عن كفارته.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان، بناء على ما لو قال: إن وطئتك.. فعلي لله أن أعتق عبدي عن ظهاري، فإذا وطئ وأعتق.. فهل يجزئ؟ على وجهين، مضى ذكرهما.

[مسألة: النية في العتق]
] : ولا يقع العتق عن الكفارة إلا بالنية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» .

(10/375)


وصفة النية: أن ينوي العتق عن الكفارة، فإن نوى عن الكفارة الواجبة.. كان ذلك تأكيدا، وإن نوى عن الكفارة، ولم ينو عن الواجبة.. أجزأه؛ لأن الكفارة لا تكون إلا واجبة.
وإن نوى العتق عن الواجب عليه أو الفرض.. قال الشيخ أبو حامد: لم يجزه عن الكفارة؛ لأن الرقبة الواجبة عليه قد تكون عن الكفارة، وقد تكون عن غير كفارة، فلم يجزه عن الكفارة؛ لأنه لم يخلص النية لها.
قال: وكذلك إذا أخرج زكاة ماله، ونوى عن الصدقات الواجبة، أو عن الفرض.. لم يجزه عن الزكاة؛ لأنه قد يكون عليه صدقة واجبة عن زكاة وعن غير زكاة، فإذا لم ينو الزكاة.. لم يجزه.
وهل يجب أن تكون نية العتق مقارنة للعتق، أو يجوز تقديمها على العتق؟ فيه وجهان، كما قلنا في وقت نية إخراج الزكاة، وقد مضى ذلك.

[مسألة: جواز التكفير بالمشترك بنية جميعه]
] : وإن كان بينه وبين غيره عبد مشترك، فأعتق أحدهما نصيبه.. فقد ذكرنا: أنه إن كان موسرا بقيمة نصيب شريكه.. عتق عليه نصيب شريكه، ومتى يعتق عليه؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: بنفس اللفظ.
والثاني: يقع بدفع القيمة بعد العتق.

(10/376)


والثالث: أنه موقوف.
فإن قلنا: يعتق بنفس اللفظ.. فهل وقع عتق الجميع دفعة واحدة، أو عتق نصيبه، ثم سرى إلى نصيب شريكه؟ فيه وجهان.
وإن كان معسرا.. لم يعتق عليه نصيب شريكه.
إذا ثبت هذا: فالكلام هاهنا إذا أعتقه عن الكفارة، فإن أعتق العبد، ونوى عتق جميعه عن الكفارة، وكان موسرا بقيمة نصيب شريكه.. أجزأه عن الكفارة؛ لأنه كالمالك للجميع؛ بدليل: أنه إذا أعتق نصيبه.. سرى إلى نصيب شريكه.
ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: إن نصيب الشريك لا يعتق إلا بدفع القيمة بعد العتق.. لا يجزيه نصيب شريكه؛ لأنه حين يدفع القيمة، ويحكم بعتقه.. يكون عتقا مستحقا، فيكون كما لو اشترى أباه بنية الكفارة. والأول هو المشهور؛ لأن نية التكفير هنا قارنت سبب العتق، وهو إعتاقه لنصيبه بنية الكفارة، وإذا اشترى أباه.. فإن سبب العتق هو القرابة، ونية الكفارة تأخرت عنه؛ فلذلك لم يجزه.
وأما وقت نية التكفير: فإن قلنا: إن نصيب شريكه يعتق بنفس اللفظ أو مراعى.. فلا بد أن ينوي عتق جميع العبد عن الكفارة حال العتق، أو قبله إذا قلنا: يجوز تقديم النية. وإذا قلنا: إن نصيب الشريك لا يعتق إلا بأداء القيمة.. فأما نصيب نفسه: فإنه ينوي عتقه عن الكفارة حال العتق، أو قبله إذا قلنا: يجوز تقديم النية. وأما نصيب الشريك: ففيه وجهان:
أحدهما: قال أكثر أصحابنا: أنه بالخيار: إن شاء.. نوى عتقه عن الكفارة مع اللفظ؛ لأنه وقت الوجوب، وإن شاء.. نواه عند أداء القيمة؛ لأنه حين العتق.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: عندي: أنه لا بد أن ينوي حال اللفظ؛ لأن تلك الحال حالة سبب العتق.

(10/377)


وأما إذا نوى عتق نصيبه عن الكفارة حال العتق، ولم ينو عتق نصيب شريكه، فإن قلنا: إن العتق يسري باللفظ، أو قلنا: إنه مراعى.. فإن نصيب شريكه يعتق، ولا يجزيه عن الكفارة.
ومن أصحابنا من قال: يجزيه؛ لأنه يسري إلى العتق الواقع عن الكفارة؛ لأن قوله: (أعتقت نصيبي منك) كقوله: (أعتقت جميعك) ، إذ كان لا يملك عتق نصيب شريكه إلا كذلك، ألا ترى أنه لو قال: أعتقت نصيب شريكي.. لم يصح؟
والأول أصح؛ لأن العتق يسري، ولم ينوه عن الكفارة.
وأما إذا قلنا: يسري بأداء القيمة، ثم نوى مع أداء القيمة.. فعلى الوجهين الأولين:
أحدهما: يجزيه؛ لأنه نوى مع سبب العتق.
والثاني: لا يجزيه، وهو قول الشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب؛ لأن سبب استحقاق العتق إنما هو عتق النصيب الأول، فإذا لم يقارن النية سبب الاستحقاق.. لم يجزه.
وأما إذا كان معسرا، ونوى عتق نصيبه عن الكفارة.. عتق عليه نصيبه، ولا يسري إلى نصيب شريكه؛ لأن في ذلك ضررا على الشريك.
فإن ملك بعد ذلك نصيب شريكه، وأعتقه عن الكفارة.. أجزأه؛ لأنه قد أعتق رقبة عن الكفارة وإن كان في وقتين، كما لو أطعم المساكين في وقتين.

[مسألة: عتق عبدين معا عن كفارتين]
] : إذا كان على رجل كفارتان من جنس أو جنسين، فأعتق عنهما عبدين.. ففيه أربع مسائل:
إحداهن: أن يعتق عن كل كفارة عبدا بعينه، فيجزيه ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . وهذا قد حرر عن كل كفارة رقبة.
الثانية: أن يعتق عبدا عن إحدى الكفارتين لا بعينها، ويعتق الآخر عن الأخرى

(10/378)


لا بعينها، فيجزيه ذلك أيضا؛ لأن تعيين سبب الكفارة ليس بواجب.
الثالثة: أن يعتقها عن الكفارتين؛ بأن يقول: أعتقتكما عن كفارتي.. فإن الشيخ أبا حامد قال: يجزيه، ويقع كل واحد عن كفارة.
قال ابن الصباغ: ووجهه عندي: أن عرف الاستعمال والشرع إعتاق الرقبة عن الكفارة، فإذا أطلق ذلك.. وجب حمل ذلك عليه.
قال: وذكر صاحب " المجموع ": أنها بمنزلة الرابعة؛ وهي: إذا قال: أعتقتكما، وكل واحد منكما عن كفارتي.. قال الشافعي: (أجزأه، وكمل العتق) . ولا خلاف بين أصحابنا أنه يجزيه.
واختلفوا في كيفية وقوع العتق:
فقال أبو العباس، وأبو علي بن خيران: يقع كل واحد منهما عن كفارة؛ لأنه إذا قال: أعتقتكما.. وقع العتق، وقوله بعد ذلك: (وكل واحد منكما) لغو، فينقلب العتق في كل واحد عن كفارة.
ومنهم من قال: يعتق نصف كل واحد من العبدين عن كل واحدة من الكفارتين، وهو ظاهر النص؛ لأنه قال: أجزأه، وكمل العتق؛ لأنه أعتقهما عن الكفارتين، فاقتضى وقوع كل واحد منهما عنهما، كما لو قال: هاتان الداران لزيد وعمرو. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إن كانتا من جنس واحد، فأعتق العبدين بنية التكفير.. أجزأه - كما قلنا - وإن كانتا من جنسين.. لم يجزه حتى يعين العتق عن كل واحدة من الكفارتين) .
دليلنا: أنها حقوق تخرج في التكفير، فلم يجب فيها تعيين النية، كما لو كانتا من جنس واحد.

(10/379)


[فرع: عليه كفارة فأعتق نصف عبدين]
] : وإن كان عليه كفارة، فأعتق عنها نصف عبدين.. فهل يجزيه؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجزيه؛ لأن نصف الاثنين في الشرع يقوم مقام الواحد الكامل؛ بدليل: أنه إذا ملك نصف عبدين.. لزمه عنهما زكاة الفطر، كعبد.
والثاني: لا يجزيه؛ لأن الله أوجب على المكفر تحرير رقبة، وهذا ما حرر رقبة.
والثالث: إن كان باقي العبدين حرا.. أجزأه؛ لأنه يحصل لهما تكميل الأحكام، وإن كان باقيهما مملوكا، بأن كان معسرا.. لم يجزه؛ لأنه لا يحصل لهما تكميل الأحكام.

[فرع: الشك في موجب الكفارة]
] : وإن كان عليه كفارة، فشك أنها من ظهار أو قتل أو يمين، فأعتق رقبة عنها.. أجزأه؛ لأن تعيين السبب ليس بواجب عليه.
وإن كان عليه ثلاث كفارات، وكان واجدا لرقبة لا غير، فأعتقها بنية التكفير، ثم صام شهرين بنية التكفير، ثم مرض فأطعم ستين مسكينا بنية التكفير.. أجزأه ذلك، وسقط عنه الكفارات الثلاث؛ لأن عليه أن ينوي الكفارة، وليس عليه أن يعين جنسها.
قال الطبري: إذا أعتق رقبة ونوى عتقها عن كفارة الظهار، ثم بان أنه لم يكن عليه كفارة الظهار، وإنما عليه كفارة القتل.. لم يجزه ذلك؛ لأن تعيين جنس الكفارة وإن كان غير واجب، إلا أنه إذا عينها عن جنس، وبان أن ذلك الجنس ليس عليه.. لم يجزه، كما لو نوى الاقتداء في الصلاة بالإمام وهو فلان، فبان أنه غيره، أو نوى الصلاة على جنازة رجل، فبان أنه امرأة.. لا يجزيه.

[مسألة: له عبد عليه كفارة]
] : إذا كان لرجل عبد وعليه كفارة الظهار، فقال له آخر: أعتق عبدك عن ظهارك على أن علي عشرة، أو وعلي عشرة، فقال: أعتقت عبدي عن ظهاري على أن عليك

(10/380)


عشرة، أو قال: أعتقت عبدي على أن عليك عشرة عن ظهاري.. فإن العبد يعتق عليه، ولا يجزيه عن الظهار؛ لأنه لم يعتقه عتقا خالصا عن الظهار، وإنما أعتقه عتقا مشتركا بين العتق عن الظهار وبين العوض، فلم يقع عن الظهار.
وقال أبو إسحاق: إن قال: أعتقت عبدي على أن عليك عشرة عن ظهاري.. استحق العوض، ولم يجزه عن الظهار؛ لأن بقوله: (أعتقت عبدي على أن عليك عشرة) وقع العتق بالعوض، فقوله: (عن ظهاري) يكون لغوا، لا يتعلق به حكم.
وإن قال: أعتقت عبدي عن ظهاري على أن عليك عشرة.. أجزأه عن الظهار، ولم يستحق العوض؛ لأن بقوله: (أعتقت عبدي عن ظهاري) يقع العتق عن الظهار، وقوله بعد هذا: (على أن عليك عشرة) لغو لا يتعلق به حكم.
والمنصوص في " الأم ": هو الأول؛ لأن الكلام إذا اتصل بعضه ببعض.. كان حكم أوله حكم آخره.
فإذا قلنا بهذا: فإنه يستحق على السائل العشرة التي بذلها. هذا قول عامة أصحابنا.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أن التسمية فاسدة. وبه قال ابن الصباغ؛ لبطلان الشرط الذي شرطه.
فإن قال: أعتق عبدك عن ظهارك وعلي عشرة، فقال: أعتقت عبدي عن ظهاري، وسكت عن ذكر العوض.. أجزأه عن الظهار؛ لأنه لم يجبه إلى ما دعاه إليه، بل أخلص العتق عن الكفارة.

[مسألة: عتق عبده نيابة عن غيره]
] : إذا أعتق عبده عن غيره.. فلا يخلو المعتق عنه: إما أن يكون حيا، أو ميتا.
فإن كان حيا.. نظرت:
فإن أعتق عنه بإذنه.. وقع العتق عن المعتق عنه، والولاء له، سواء كان بعوض أو

(10/381)


بغير عوض. وإن كان على المعتق عنه كفارة، وأعتق عنه مالك العبد عبده عن كفارة أخرى.. أجزأ المعتق عنه عن كفارته، وكان الولاء له، سواء كان بعوض أو بغير عوض.
وقال أبو حنيفة: (إن أعتق عنه عن واجب عليه بعوض.. وقع عن المعتق عنه عن الواجب عليه، وإن كان بغير عوض.. لم يقع العتق عن المعتق عنه، ووقع عن المعتق) . وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
دليلنا: أنها رقبة تجزئ عن كفارة المعتق عنه، فإذا أعتقها عنه غيره بإذنه.. وقع عنه، كما لو أعتقها عنه بعوض.
ولأنه إذا كان بعوض.. فهو بمنزلة البيع، وإذا كان بغير عوض.. فهو بمنزلة الهبة، والهبة إذا أقبضت.. لزمت، والعتق بمنزلة القبض.
وهكذا: إذا زكى عنه ماله بإذنه.. أجزأه؛ لما ذكرناه في العتق. وإن أعتقه عنه بغير إذنه.. لم يقع العتق عن المعتق عنه، ويقع عن المعتق له، والولاء له، سواء كان العتق عن تطوع أو واجب، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إذا أعتق عن غيره بغير إذنه عن تطوع.. لم يقع عن المعتق عنه، وإن أعتق عنه عن عتق واجب عليه.. وقع عن المعتق عنه، وكان الولاء له، كما لو قضى عنه دينا بغير إذنه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» . والمعتق هو هذا.. فكان الولاء له.
ولأنه لو باشر العتق بنفسه ولم ينو العتق عن الكفارة.. لم يجزه، فلأن لا يجزيه بإعتاق غيره عنه بغير إذنه أولى.
ولأنها عبادة من شرطها النية، فلا يصح أداؤها عن الغير بغير إذنه، كالزكاة، ويخالف قضاء الدين، فإنه لا يفتقر إلى النية.

(10/382)


وإن كان المعتق عنه ميتا، فإن كان العتق تطوعا، لم يجب على المعتق عنه في حياته.. نظرت: فإن كان قد أذن بالعتق عنه قبل موته.. وقع العتق عن الميت، وكان الولاء له، كما لو أعتق عنه في حال الحياة بإذنه.
وإن أعتق عنه بغير إذنه.. لم يقع العتق عن المعتق عنه، بل يقع عن المعتق، والولاء له.
فإن قيل: أليس لو تصدق عنه بعد موته بغير إذنه.. لوقع عن المصدق عنه؟
قلنا: الفرق بينهما: أن العتق يتضمن ثبوت الولاء، و «الولاء لحمة كلحمة النسب» ، ولا يمكن إلحاق ذلك بالميت بغير إذنه.
وإن كان العتق واجبا على الميت، فإن أعتق عنه أجنبي ليس بوارث له ولا وصي له، فإن كان بإذن الميت.. وقع العتق عن الميت، وأجزأ عما عليه، وكان الولاء له، كما لو أذن له في حال الحياة، وإن أعتق عنه بغير إذنه.. لم يقع العتق عن الميت، ووقع عن المعتق، كما لو أعتق عنه في حياته بغير إذنه. وإن كان المعتق وارثا له أو وصيا له.. نظرت:
فإن كان العتق متحتما على الميت، ككفارة القتل أو الظهار، فإن كانت له تركة.. وجب على الوصي أو الوارث إخراج ذلك من تركته؛ لأنه يقوم مقامه في أداء الواجبات عليه من تركته، وإن عتق عنه من مال نفسه.. جاز؛ لأن نيته تقوم مقام نيته، وإنما تحصل منه النيابة في المال فحسب، وذلك جائز.
وإن كان العتق غير متحتم عليه، ككفارة اليمين، فإن كفر عنه الوصي أو الوارث بالكسوة أو الإطعام.. صح ذلك، وإن كفر عنه بعتق، فإن كان بإذنه.. صح، وإن كان بغير إذنه.. فهل يقع عن الميت ويكون الولاء للميت، أو عن المعتق ويكون الولاء للمعتق؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما:

(10/383)


أحدهما: لا يقع عن الميت؛ لأنه كان غير متحتم عليه، فلم يقع عنه، كما لو تطوع عنه بالعتق بغير إذنه.
والثاني: يقع عن الميت، وهو الأصح؛ لأنه مخير بين الثلاثة، فإذا فعل أحدها.. تعين بالفعل، وبان أنه فعل واجبا، فوقع عن الميت، كما لو كان العتق متحتما.
إذا ثبت هذا: فقال رجل لآخر: أعتق عبدك عني، فأعتقه عنه.. فلا يختلف أصحابنا أن العبد قد دخل في ملك المعتق عنه، ولكن اختلفوا، متى ملكه وعتق عليه؟ على أربعة أوجه:
فـ[أحدها] : منهم من قال: دخل في ملكه بالاستدعاء، وعتق عليه بالإعتاق. وهذا ضعيف؛ لأن الإيجاب شرط في الملك، فلا يتقدم الملك عليه.
و [الثاني] : منهم من قال: إذا شرع المعتق في العتق دخل في ملك المعتق عنه، وبإكمال قوله: (أعتقت) عتق عليه. وهذا ضعيف أيضا؛ لأنه يدخل عليه ما ذكرناه على الأول.
الثالث - وهو قول أبي إسحاق المروزي -: أنه يقع الملك والعتق في حالة واحدة، وهو عقيب قوله: (أعتقت) ؛ لأنه إنما يمتنع اجتماع الضدين في طريق المشاهدة، فأما من طريق الحكم.. فلا يمتنع. وهذا ليس بشيء؛ لأن ما امتنع في العقل من اجتماع الضدين في المشاهدة.. لا يجوز إثباته في الأحكام؛ لأنه يكون حكما بالمحال.
الرابع - وهو اختيار الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق، والقاضي أبي الطيب، وابن الصباغ -: أنه يقع الملك عقيب قوله: (أعتقت) ، ثم يعتق عليه بعد ذلك؛ لأن من شرط العتق الملك، فما لم يوجد الملك.. لا يوجد العتق، ولا يمتنع أن

(10/384)


يوجد لفظ العتق ولا يتعقبه العتق؛ لعدم الشرط، وهو إذا قال: أعتقته عنك بألف.. فإن العتق لا يتعقب لفظة العتق، وإنما يقع بعد قوله: قبلت.

[فرع: ظاهر من أمة غيره، ثم اشتراها وأعتقها عن كفارة ظهار منها]
] : إذا تزوج الحر أمة لغيره وظاهر منها ووجد العود، ثم اشتراها وأعتقها عن كفارة ظهاره.. أجزأه؛ لأنه أعتق أمة يملكها ملكا تاما فأجزأه، كما لو أعتقها عن ظهاره من غيرها، ولا يمتنع أن يجزئ عتقها وإن كانت سببا لوجوب العتق، كما لو قال: إن اشتريت أمة.. فعلي لله أن أعتق رقبة، فملك أمة، وأعتقها عن نذره.. جاز.
فإن أتت هذه الجارية بولد بعد العتق، فإن لم يطأها المشتري بعد الابتياع.. نظرت:
فإن أتت بالولد لأربع سنين فما دونها من وقت الشراء.. حكمنا بأن الولد أتت به من الزوجية، ويلحقه نسبه، ويعتق عليه بالشراء، ولم يسر إلى عتق أمه. فإن أعتق الأم بعد الشراء عن الكفارة.. أجزأه؛ لأنه أعتق أمة ليست بأم ولد له.
وإن أتت به لأكثر من أربع سنين من وقت الشراء.. لم يلحقه نسب الولد. فإذا أعتق الأم.. تبعها الولد، وأجزأه ذلك عن الكفارة.
وإن وطئها بعد الابتياع، فإن أتت بالولد لدون ستة أشهر من وقت الوطء.. فالحكم فيه كما لو لم يطأها، وقد مضى.
وإن أتت به لستة أشهر فما زاد لأربع سنين من وقت الوطء.. علمنا أن هذا الولد حدث وهي في ملكه، فلم يمسه رق، ولا يجزئه عن الكفارة؛ لأنه أعتقها بعد أن صارت أم ولد له؛ لأن الظاهر من هذا: أن هذا الحمل من هذا الوطء الموجود في الملك؛ لأنه يعقبه.

(10/385)


[مسألة: عدم وجدان الرقبة يلزم الصوم]
] : وإن لم يجد المظاهر رقبة تفضل عن كفايته على الدوام وهو قادر على الصيام.. لزمه أن يصوم شهرين متتابعين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] الآية [المجادلة: 3] . ولما ذكرنا من حديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر.
إذا ثبت هذا: فإن كان قد نوى الصوم عن الكفارة أول ليلة من الشهر.. صام شهرين متتابعين هلاليين، سواء كانا تامين أو ناقصين، أو أحدهما تاما والآخر ناقصا؛ لأن الله تعالى أوجب عليه صوم شهرين، وإطلاق الشهر ينصرف إلى الشهر الهلالي؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] [البقرة: 189] .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا " وأومأ بأصابع يديه، وحبس إبهامه في الثالثة، كأنه يعد ثلاثين» .
وروي: أنه قال: «قد يكون الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا " وحبس إبهامه في الثالثة» .
وإن كان ابتدأ الصوم وقد مضى من الشهر يوم أو أكثر.. صام ما بقي من الشهر بالعدد، وصام الشهر الذي بعده بالهلال، تاما كان أو ناقصا، وتمم عدد الأول من

(10/386)


الثالث ثلاثين يوما، تاما كان أو ناقصا؛ لأنه لما فاته شيء من الشهر الأول.. لم يصمه، ولم يمكن اعتباره بالهلال، فاعتبر بالعدد، واعتبر الثاني بالهلال؛ لأنه أمكنه ذلك.

[فرع: الفطر في أثناء كفارة الصيام]
] : وإن أفطر في يوم في أثناء الشهرين، فإن كان أفطر لغير عذر.. انقطع التتابع، ولزمه أن يبدأ صوم شهرين متتابعين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] . ومعنى التتابع: أن يوالي بالصوم أيامهما، ولا يفطر فيهما لغير عذر، وإن لم يفعل ذلك.. صار كما لو لم يصم.
وإن جامع في ليلة في أثناء الشهرين عامدا عالما بالتحريم.. أثم بذلك، ولا ينقطع تتابعه.
وإن وطئها بالنهار ناسيا.. لم يفسد صومه، ولم ينقطع تتابعه، وبه قال أبو يوسف، وهي إحدى الروايتين عند أحمد.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (ينقطع تتابعه بذلك) . إلا أن مالكا يقول: (إذا وطئها ناسيا.. فسد صومه) . وأبو حنيفة يقول: (لا يفسد، إلا أنه يقطع التتابع) .
دليلنا على أنه لا يقطع التتابع: أنه وطء لم يفسد به الصوم.. فلم يقطع التتابع كما لو وطئ امرأة أخرى.

(10/387)


وإن كان الفطر بعذر.. نظرت:
فإن كان العذر حيضا.. فلا يتصور ذلك في كفارة الظهار، وإنما يتصور في كفارة القتل والجماع في رمضان؛ إذا قلنا: تجب عليها الكفارة.. فإن التتابع لا ينقطع؛ لأن زمان الحيض مستحق للفطر، فهو كليالي الصوم، ولأن الحيض حصل بغير اختيارها، ولا يمكنها الاحتراز منه، فلو قلنا: إنه ينقطع التتابع.. لأدى إلى أنه لا يمكن للمرأة أن تكفر بالصوم إلا بعد اليأس من الحيض، وفي ذلك تأخيرها عن وقت وجوبها، وربما ماتت قبل اليأس؛ ولذلك قلنا: لا ينقطع التتابع.
وإن أفطرت للنفاس.. احتمل أن يكون فيه وجهان، كما قلنا في الإيلاء.
وإن كان الفطر للمرض.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا ينقطع التتابع) . وبه قال مالك، وأحمد؛ لأن سبب الفطر حدث بغير اختياره، فهو كالحيض، ولأنا لو قلنا: إنه ينقطع بالفطر في المرض.. لأدى ذلك إلى أن يتسلسل؛ لأنه لا يأمن وقوع المرض إذا استأنف بعد البرء.
و [الثاني] : قال في الجديد: (ينقطع تتابعه) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه أفطر باختياره، فهو كما لو أفطر بغير المرض.
وإن أفطر بالسفر، فإن قلنا: إن المريض إذا أفطر قطع التتابع.. فالمسافر أولى. وإن قلنا: إن الفطر بالمرض لا يقطع التتابع.. ففي المسافر قولان:
أحدهما: لا ينقطع التتابع؛ لأن السفر عذر يبيح الفطر، فهو كالمرض.
والثاني: أنه ينقطع التتابع؛ لأنه أحدث سبب الفطر، وهو السفر.
وإن نوى الصوم من الليل، ثم أغمي عليه في أثناء النهار.. فهل يبطل صومه؟ فيه طرق، مضى ذكرها في الصوم.
فإذا قلنا: لا يبطل.. لم ينقطع تتابعه بذلك.

(10/388)


وإن قلنا: يبطل صومه.. قال الشيخ أبو إسحاق والمحاملي: هو كالفطر في المرض على قولين. وفيه نظر؛ لأنه لا يفطر باختياره، بخلاف الفطر في المرض؛ فإنه أفطر باختياره.
وإن أفطرت الحامل والمرضعة في أثناء الشهرين، فإن كان خوفا على أنفسهما.. فهو كالفطر في المرض، وإن كان خوفا على ولديهما.. فهل ينقطع التتابع؟ فيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالفطر في المرض.
و [الثاني] : منهم من قال: ينقطع التتابع، قولا واحدا؛ لأنهما أفطرتا لحق غيرهما، بخلاف المريض.

[فرع: الصيام أثناء الكفارة يقطع التتابع]
] : وإن صام في أثناء الشهرين تطوعا، أو عن نذر، أو قضاء.. انقطع تتابعه بذلك؛ لأن ذلك لا يقع عن الشهرين، وانقطع تتابعه به، كما لو أفطر.
فإن صام بعض الشهرين ثم تخللهما زمان لا يجزئ صومه عن كفارته؛ مثل: رمضان، وعيد الأضحى.. انقطع تتابعه؛ لأن رمضان مستحق للصوم، وعيد الأضحى مستحق للفطر، وقد كان يمكنه أن يبتدئ صوما لا يقطعه ذلك، فإن لم يفعل.. فقد فرط، كما لو أفطر في أثناء الشهرين بغير عذر. ولا يجيء أن يقال: تخللهما عيد الفطر، ولا أيام التشريق؛ لأن عيد الفطر يتقدمه رمضان، وأيام التشريق يتقدمها عيد الأضحى.
فأما إذا ابتدأ الصوم عن الشهرين في رمضان.. لم يصح صومه عن رمضان؛ لأنه لم ينو الصيام عنه ولا عن الشهرين؛ لأن الزمان مستحق لصوم رمضان، فلا يقع عن غيره.

(10/389)


وإن ابتدأ صوم الشهرين يوم عيد الفطر.. لم يصح؛ لأنه مستحق للفطر، ويصح صوم باقي الشهر.
وإن ابتدأ الصوم أيام التشريق، فإن قلنا بقوله الجديد، وأن صومها لا يصح عن صوم التمتع، أو قلنا بأحد الوجهين على القديم؛ لا يصح صومها عن التمتع.. لم يصح صومه عن الشهرين. وإن قلنا: يصح صومها عن التمتع.. صح صومها عن الشهرين.

[مسألة: القدرة على العتق بعد الابتداء في الصوم]
] : وإن دخل في الصوم، ثم أيسر وقدر على إعتاق الرقبة.. لم يجب عليه الانتقال إلى الرقبة، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة، والمزني: (يلزمه الانتقال) .
دليلنا: أنه وجد المبدل بعد شروعه في البدل، فلم يلزمه الانتقال إليه، كما لو وجد الهدي بعد شروعه في صوم التمتع.
قال الشافعي: (لو أعتق.. كان أفضل؛ لأنه الأصل، وليخرج بذلك من الخلاف) .

[فرع: تبييت النية لصيام الكفارة]
فرع: [وجوب تبييت النية لصيام الكفارة] : ولا يجزيه الصوم عن الكفارة حتى ينوي الصيام كل ليلة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» . وهذا عام في كل صوم. وقد وافقنا أبو حنيفة على ذلك، وهل يلزمه نية التتابع؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يلزمه نية التتابع كل ليلة؛ لأن التتابع واجب كالصوم، فلما وجب عليه نية الصوم كل ليلة.. فكذلك نية التتابع.

(10/390)


الثاني: يلزمه نية التتابع أول ليلة من الشهرين؛ لأن الغرض تمييز هذا الصوم عن غيره بالتتابع، وذلك يحصل بالنية أول ليلة منه.
والثالث: لا تجب عليه نية التتابع، وهو الأصح؛ لأن التتابع شرط في العبادة، وعلى الإنسان أن ينوي فعل العبادة دون شرطها، كما قلنا في الصلاة: يلزمه نية فعل الصلاة دون شرطها.

[مسألة: الانتقال إلى الإطعام عند العجز عن الصوم]
] : وإن عجز عن الصوم لكبر أو لعلة، يلحقه من الصوم مشقة شديدة أو زيادة في المرض، أو يلحقه مشقة شديدة في الصوم من الجوع والعطش، وكان قادرا على الإطعام.. لزمه الانتقال إلى الطعام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] ، ولما ذكرناه من حديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر.
وإذا ثبت هذا: فعليه أن يطعم ستين مسكينا، كل مسكين مدا من طعام، ولا يجوز أن ينقص من عدد المساكين ولا من ستين مدا، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (إذا أعطى الطعام كله مسكينا واحدا في ستين يوما.. جاز) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] . وقوله: {فَإِطْعَامُ} [المجادلة: 4] مصدر يتقدر بـ: أن والفعل، وهذا يمنع الاقتصار على دون الستين.
ولأنه مسكين استوفى قوت يوم من كفارة، فإذا دفع إليه غيره منها.. لم يجزه، كما لو دفع إليه في يوم واحد صاعين.

[فرع: ما يدفع للمسكين في الكفارة]
] : ويجب أن يدفع إلى كل مسكين مدا في جميع الكفارات إلا في كفارة الأذى؛ فإنه يدفع إليه مدين، سواء كفر بالتمر، أو الزبيب، أو الشعير، أو البر، أو الذرة، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، والأوزاعي.
وقال أبو حنيفة: (إن كفر بالتمر أو الشعير.. لزمه لكل مسكين صاع

(10/391)


و (الصاع) : أربعة أمداد، و (المد) عنده: رطلان - وإن كفر بالبر.. لزمه لكل مسكين نصف صاع وفي الزبيب عنه روايتان:
إحداهما: أنه كالتمر والشعير.
والثانية: أنه كالبر.
وقال مالك - في كفارة اليمين والجماع في رمضان كقولنا في كفارة الظهار -: (يطعم كل مسكين مدا بمد هشام) . وهو مد وثلث بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: بل هو مدان.
وقال أحمد: (هو مد من البر، ومن التمر والشعير مدان) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضرب نحره، وينتف شعره، فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: (وما أهلكك؟) ، قال: وقعت على امرأتي في نهار رمضان، قال: " أعتق رقبة "، قال: لا أجد، فقال: " صم شهرين متتابعين "، قال: لا أستطيع، قال: " أطعم ستين مسكينا "، قال: لا أستطيع، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتى بعرق من تمر فيه خمسة عشر صاعا، قال: " اذهب فتصدق به» .
إذا ثبت هذا في المجامع في رمضان.. قسنا سائر الكفارات عليها.
فأما خبر سلمة بن صخر؛ حيث أمر له النبي بوسق من تمر من صدقة بني زريق.. فمحمول على الجواز، وإنما زاد على خمسة عشر صاعا تطوعا؛ بدليل هذا الخبر.

[فرع: صفة الطعام الذي يخرج في الكفارة]
] : وهل يلزمه أن يخرج من غالب قوته، أم من غالب قوت البلد؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال أبو عبيد بن حربويه: يلزمه من غالب قوته، وهو اختيار الشيخ

(10/392)


أبي حامد؛ لأن الزكاة زكاتان: زكاة المال، وزكاة النفس، فلما كانت زكاة المال يجب إخراجها من المال.. وجب أن تخرج زكاة النفس من قوتها.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يلزمه إخراجها من غالب قوت البلد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . و (الأوسط) : الأعدل، وأعدل ما يطعم أهله قوت البلد.
فإن عدل عن قوته أو قوت بلده إلى قوت بلد آخر، فإن كان أعلى مما وجب عليه، بأن عدل عن الذرة والشعير إلى البر.. أجزأه؛ لأنه أعلى مما وجب عليه، وإن كان دون ذلك، بأن عدل عن البر إلى الذرة والشعير.. فهل يجزئه؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، وحكاهما في " المهذب " وجهين:
أحدهما: يجزئه؛ لأنه قوت تجب فيه الزكاة.
والثاني: لا يجزئه، وهو الأصح؛ لأنه دون ما وجب عليه.
وإن أخرج من قوت لا تجب فيه الزكاة، فإن كان غير الأقط.. لم يجزه، وإن كان من الأقط.. ففيه قولان، كما قلنا في زكاة الفطر.
وإن كان في بلد لا قوت لهم تجب فيه الزكاة.. وجب من قوت أقرب البلاد إليه. وهل يجزئه إخراج الدقيق والخبز والسويق؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأنه مهيأ للاقتيات.
والثاني: لا يجزئه، وهو الصحيح؛ لأنه قد فوت فيه وجوها من المنفعة.
وإن أخرج القيمة.. لم يجزه، كما قلنا في الزكاة.

[مسألة: توزيع الستين مدا على مائة وعشرين لا يكفي]
] : وإن دفع ستين مدا إلى مائة وعشرين مسكينا، إلى كل واحد منهم نصف مد.. لم

(10/393)


يجزه ذلك، وقيل له: اختر منهم ستين مسكينا، وادفع إلى كل واحد منهم نصف مد؛ لأنه لا يجوز أن يدفع إلى كل واحد منهم أقل من مد.
فإن دفع إلى ستين مسكينا ستين مدا، إلى كل واحد منهم مدا دفعة واحدة أو في أوقات متفرقة.. أجزأه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] . فعم، ولم يخص.
وإن دفع إلى ثلاثين مسكينا ستين مدا، إلى كل واحد مدين.. لم يجزه إلا ثلاثون مدا؛ لأنه لم يطعم ستين مسكينا، وعليه أن يخرج ثلاثين مدا؛ لكل واحد مدا، وهل له أن يرجع على كل واحد من الثلاثين بما زاد على المد؟ ينظر فيه:
فإن بين: أن ذلك عن كفارة واحدة.. كان له أن يرجع به؛ لأن ما زاد على المد عن الكفارة.. لا يجزئ دفعه إلى واحد.
وإن أطلق.. لم يرجع؛ لأن الظاهر أن ذلك تطوع، وقد لزم بالقبض.
وإن وجبت عليه كفارتان من جنس أو جنسين، فدفع إلى كل مسكين مدين.. أجزأه؛ لأنه لم يدفع إليه عن كل كفارة أكثر من مد.
ويجوز الدفع إلى الكبار من المساكين، وإلى الصغار منهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] . ولم يفرق. ولكن يدفع مال الصغير إلى وليه، فإن دفع إلى الصغير.. لم يجزه؛ لأنه ليس من أهل القبض؛ ولهذا: لو كان عليه دين، فأقبضه إياه.. لم يبرأ بذلك.

[فرع: العطاء المجزئ في الكفارة]
هو دفع مد لكل واحد] : والدفع المبرئ له هو: أن يدفع إلى كل مسكين مدا، ويقول: خذه، أو كله، أو أبحته لك.
فإن قدم ستين مدا إلى ستين مسكينا، وقال: خذوه، أو كلوه، أو أبحته لكم.. لم يجزه ذلك؛ لأن عليه أن يوصل إلى كل واحد منهم مدا، وهذا لم يفعل ذلك.
وإن قال: ملكتكم هذا بينكم بالسوية، وأقبضهم إياه، فقبضوه.. ففيه وجهان:

(10/394)


[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يجزئه؛ لأن عليهم مشقة في القسمة، فلم يجزه، كما لو دفع إليهم الطعام في السنابل.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: يجزئه، وهو الأصح؛ لأنه قد ملكهم إياه، ولا يلحقهم في قسمته كثير مشقة، ويمكن كل واحد منهم بيع نصيبه مشاعا.
وإن جمع ستين مسكينا وغداهم وعشاهم.. لم يجزه.
وقال أبو حنيفة: (يجزئه) .
دليلنا: أن الواجب عليه دفع الحب، وهذا لم يدفع الحب. ولأنه لا يتحقق أن كل واحد منهم أكل قدر حقه، وهو يشك في إسقاط الغرض عن ذمته، والأصل بقاؤه.

[فرع: لا تدفع الكفارة لغير المسلم المكلف]
] : ولا يجوز دفعها إلى عبد ولا إلى كافر، ولا إلى من تلزمه نفقته؛ لما ذكرناه في الزكاة.
ولا يجوز دفعها إلى مكاتب وإن جاز دفع الزكاة إليه؛ لأن القصد بالكفارة المواساة المحضة، والمكاتب مستغن عن ذلك؛ لأنه إن كان له كسب.. فنفقته في كسبه، وإن لم يكن له كسب.. فيمكنه أن يعجز نفسه، وتكون نفقته على سيده.

[فرع: القدرة على الصيام بعد الإطعام]
] : وإن أطعم بعض المساكين، ثم قدر على الصيام.. لم يلزمه الصيام، كما قلنا فيمن قدر على العتق بعد الشروع في الصيام، والمستحب له: أن يصوم.
وإن وطئها في خلال الإطعام.. أثم بذلك، ولا يلزمه الاستئناف.
وقال مالك: (يلزمه) .
دليلنا: أن الوطء لا يبطل ما فعله من الإطعام، فلم يلزمه الاستئناف، كما لو وطئ غيرها.

(10/395)


[فرع: لا يجزئ الإطعام إلا بالنية]
] : ولا يجزئه الإطعام إلا بالنية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى» . وهل يجب أن تكون النية مقارنة للدفع، أو يجوز تقديمها على الدفع؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في الزكاة.

[مسألة: علق عتق عبده على ظهاره إن ظاهر]
] : إذا قال لعبده: أنت حر الساعة عن ظهاري إن تظاهرت.. عتق عليه العبد في الحال، فإن تظاهر بعد ذلك.. لم يجزه عتق ذلك العبد عن الظهار؛ لأن حقوق الأموال إنما يجوز تقديمها على وقت وجوبها.. إذا وجد أحد السببين، فأما بتقديمه عليهما.. فلا يصح.
وإن قال لعبده: أنت حر عن ظهاري إن تظاهرت.. لم يعتق العبد في الحال؛ لأنه علق عتقه بصفة، فلا يعتق قبل وجود الصفة، فإن تظاهر.. عتق العبد، وهل يجزيه عن ظهاره؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
وإن ظاهر من الرجعية، ثم أعتق عن ظهاره، أو أطعم قبل الرجعة، ثم راجعها.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئه، وهو الأصح؛ لأنه حق مال يتعلق بسببين، فإذا وجد أحدهما.. جاز تقديمه على الآخر، كإخراج الزكاة بعد ملك النصاب وقبل الحول.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه استباحة محظور، فلا يجوز تقديم الكفارة فيه، كما لو حلف لا يشرب الخمر، فأراد أن يكفر قبل أن يشرب الخمر.
وإن أراد أن يكفر بالصيام.. لم يجز، وجها واحدا؛ لأنه صوم، فلا يجوز تقديمه قبل وجوبه، كصوم رمضان.

(10/396)


[فرع: علق ظهارا على الدخول وأعتق عبدا قبل دخوله]
] : وإن قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي، فأعتق عبدا عن ظهاره قبل دخول الدار، ثم دخل الدار.. صار مظاهرا بدخول الدار، وهل يجزئه عتق ذلك العبد عن ظهاره؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحداد: يجزئه؛ لأن العتق وجد منه بعد تلفظه بالظهار، فأجزأه، كما لو أعتق بعد الظهار وقبل العود، ثم عاد.
و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: لا يجزئه؛ لأن العتق وجد منه قبل الظهار؛ لأن تعليق الظهار بالصفة ليس بظهار، فهو كما لو أعتق عبدا عن الظهار وقبل الظهار.

[مسألة: الكافر يكفر بالعتق والإطعام]
وإن ظاهر الكافر.. كفر بالعتق إن كان من أهل العتق، فإن لم يكن من أهل العتق.. كفر بالإطعام، ولا يكفر بالصيام؛ لأن العتق والإطعام يصحان منه في غير الظهار، فيصحان منه في الظهار، والصيام لا يصح منه في غير الظهار، فلا يصح منه في الظهار. ولا يجزئه إلا عتق رقبة مؤمنة، كما قلنا في المسلم.
وإن ظاهر المسلم من امرأته، ثم ارتد قبل أن يكفر، فأعتق أو أطعم في حال ردته، فإن قلنا: إن ملكه ثابت لا يزول بالردة.. صح عتقه وإطعامه عن الكفارة.
فإن قيل: كيف يصح منه ذلك، ولا نية في ذلك؟
فالجواب: أن العبادات المالية المقصود منها: إيصالها إلى الفقراء والمساكين، والنية فيها على وجه التبع، فإن تعذرت النية.. لم يسقط المال، وأجزأ دفعه من غير نية؛ ولهذا قلنا: إذا امتنع من عليه الزكاة من دفعها، فأخذها الإمام منه قهرا.. أجزأه من غير نية لتعذرها.
وإن قلنا: إن ملكه مراعى.. كان عتقه وإطعامه مراعى، فإن رجع إلى الإسلام.. وقعت الكفارة موقعها، وإن مات أو قتل على الردة.. تبينا أن ملكه زال بالردة، فلم يعتق العبد، ولم يصح الإطعام.
وإن قلنا: إن ملكه زال بالردة.. لم يصح عتقه وإطعامه.

(10/397)


ومن أصحابنا من قال: لا يزول ملكه بالردة، قولا واحدا، وإنما تصرفه لا ينفذ على هذا، ويصير كالمحجور عليه.
وإن صام المرتد في حال ردته.. لم يصح صومه؛ لأن عبادته بدنية، فلم تصح من الكافر، كالصلاة.
فإن كان المظاهر عبدا.. لم يجب عليه العتق، ولا يجزئ عنه؛ لأنه يتضمن ثبوت الولاء، وليس هو ممن يثبت له الولاء، ويكفر بالصوم.
فإن عجز عن الصوم، فإن ملكه السيد مالا، وقلنا: إنه يملكه.. كفر بالإطعام، وإن قلنا: إنه لا يملكه.. لم يكفر بالإطعام. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال القفال: إذا ملكه السيد عبدا - وقلنا: يملكه - فأعتقه عن كفارته.. ففيه قولان، بناء على أن المكاتب إذا أعتق عبدا هل يصح؟ وفيه قولان.
فإن قلنا: يصح.. كان ولاؤه موقوفا إلى أن يعتق، فإن أعتق.. كان ولاؤه له، كذلك هاهنا.
وإن أعتق العبد قبل أن يكفر وصار موسرا.. فقد قال البغداديون من أصحابنا:
لا يجب عليه العتق، قولا واحدا؛ لأنه لم يكن ممن يجزئ عنه العتق عند الوجوب، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن قلنا: إن الاعتبار بحال الأداء.. فكفارته العتق، وإن قلنا: الاعتبار بحال الوجوب.. فإن قلنا: العبد يملك المال.. كفر بالصيام إن كان من أهله، أو بالإطعام، أو بالكسوة في كفارة اليمين، وإن قلنا: لا يملك المال.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجزئه إلا بالصيام؛ لأنه تعين عليه.
والثاني: يجزئه العتق؛ لأنه أعلى حالا من الصوم.
وبالله التوفيق.

(10/398)