البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب اللعان]

(10/399)


كتاب اللعان اللعان: مشتق من اللعن، واللعن: هو الطرد والإبعاد، فسمي المتلاعنان بذلك؛ لأن في الخامسة اللعنة، ولما يتعقب اللعان من المآثم والطرد؛ لأنه لا بد أن يكون أحدهما كاذبا، فيكون ملعونا.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] .
و: «لاعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين عويمر العجلاني وامرأته» ، و: (بين هلال بن أمية وامرأته) .
إذا ثبت هذا: فإن رأى الرجل امرأته تزني، أو أقرت عنده بالزنا، أو أخبره بذلك ثقة، أو استفاض في الناس أن رجلا زنى بها، ثم وجده عندها ولم يكن هناك نسب

(10/401)


يلحقه من هذا الزنا.. فله أن يقذفها بالزنا؛ لأنه إذا رآها.. فقد تحقق زناها، وإذا أقرت عنده، أو أخبره ثقة، أو استفاض في الناس ووجد الرجل عندها.. غلب على ظنه زناها، فجاز له قذفها، ولا يجب عليه قذفها؛ لما روي: «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترد يد لامس - تعريضا منه بزناها - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " طلقها "، فقال: إني أحبها، قال: " أمسكها» .

(10/402)


وروى عبد الله بن مسعود: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا، فتكلم.. جلدتموه، أو قتل.. قتلتموه، أو سكت.. سكت على غيظ؟! فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم افتح "، فنزلت آية اللعان» . فذكر: أنه يتكلم أو يسكت، ولم ينكر عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فأما إذا لم يظهر على المرأة الزنا ببينة ولا سبب.. حرم عليه قذفها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] [النور: 11] .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قذف محصنة.. أحبط الله عمله ثمانين عاما» .

(10/403)


وإن أخبره بزناها من لا يثق بقوله.. حرم عليه قذفها؛ لأنه لا يغلب على الظن إلا قول الثقة.
وإن وجد عندها رجلا، ولم يستفض في الناس أنه زنى بها.. حرم عليه قذفها؛ لجواز أن يكون دخل إليها هاربا، أو لحاجة، أو لطلب الزنا ولم تجبه، فلا يجوز قذفها بأمر محتمل.
وإن استفاض في الناس أن فلانا زنى بها، ولم يجده عندها.. فهل يجوز له أن يقذفها؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يجوز له قذفها؛ لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة، والقسامة تثبت بالاستفاضة، فيثبت بها جواز القذف.
والثاني: لا يجوز له قذفها، ولم يذكر في " التعليق "، و " الشامل " غيره؛ لجواز أن يكون أشاع ذلك عدو لهما.

[مسألة: قذف المحصن يوجب حد القذف وغير ذلك]
] : وإذا قذف الرجل رجلا محصنا، أو امرأة أجنبية منه محصنة.. وجب عليه حد القذف، وحكم بفسقه، وردت شهادته.
فإن أقام القاذف بينة على زنا المقذوف.. سقط عنه الحد، وزال التفسيق، وقبلت شهادته، ووجب على المقذوف حد الزنا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية [النور: 4] .
فإن قذف الرجل امرأته.. وجب عليه حد القذف إن كانت محصنة، والتعزيز إن كانت غير محصنة، وحكم بفسقه.
فإن طولب بالحد أو التعزيز.. فله أن يسقط ذلك عن نفسه بإقامة البينة على الزنا،

(10/404)


وله أن يسقط ذلك باللعان، فإن لاعن، وإلا.. أقيم عليه الحد أو التعزير، هذا مذهبنا، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (إذا قذف الرجل امرأته.. لم يجب عليه الحد بقذفها، وإنما يجب عليه اللعان، فإن لاعن، وإلا.. حبس حتى يلاعن) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية [النور: 4] . وهذا عام في الأزواج وغير الأزواج. وخص الأزواج بأن جعل لعانهم يقوم مقام شهادة أربعة غيرهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية [النور: 6] .
وروي عن ابن عباس: «أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " البينة، أو حد في ظهرك "، فقال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ به ظهري من الحد. فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] فدعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: " أبشر يا هلال؛ فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا ". قال: قد كنت أرجو ذلك من ربي» .
وروى سهل بن سعد الساعدي: «أن عويمرا العجلاني أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلا لو وجد مع امرأته رجلا.. أيقتله، فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك، اذهب فأت بها ". فأتى بها، فتلاعنا» .

(10/405)


فيكون المعنى: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك، أي: ما أنزل الله في هلال بن أمية وامرأته؛ لأنها عامة. ويجوز أن تكون الآية نزلت في الجميع. والمشهور: هو الأول.
وإنما خص الأزواج باللعان بقذف الزوجات؛ لأن الأجنبي لا حاجة به إلى القذف، فغلظ عليه، ولم يقبل منه في إسقاط الحد عنه إلا البينة.
وإذا زنت الزوجة.. فقد أفسدت على الزوج فراشه، وخانته فيما ائتمنها عليه، وألحقته من الغيظ ما لا يلحق بالأجنبي، وربما ألحقت به نسبا ليس منه، فاحتاج إلى قذفها لنفي ذلك النسب عنه، فخفف عنه؛ بأن يجعل لعانه قائما مقام شهادة أربعة.
فإن قدر الزوج على البينة واللعان.. فله أن يسقط الحد عن نفسه بأيهما شاء.
وقال بعض الناس: ليس له أن يلاعن.
دليلنا: أنهما بينتان في إثبات حق، فجاز له إقامة كل واحدة منهما مع القدرة على الأخرى، كالرجلين، والرجل والمرأتين في المال.

[فرع: قذف الزوج لا يشترط له الرؤية]
] : وسواء قال الزوج: رأيتها تزني، أو قذفها بالزنى ولم يضف ذلك إلى رؤيته، فله أن يلاعن لإسقاط الحد عنه، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (ليس له أن يلاعن إلا إن قال: رأيتها تزني؛ لأن آية اللعان نزلت في هلال بن أمية، وكان قد قال: رأيت بعيني، وشهدت بسمعي) .

(10/406)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] ، ولم يفرق بين أن يقول: رأيت بعيني، أو أطلق.
ولأنه معنى يخرج به من القذف المضاف إلى المشاهدة، فصح الخروج به من القذف المطلق، كالبينة.

[فرع: انتفاء الولد يثبت باللعان]
] : وإن كان هناك ولد يريد نفيه.. لم ينتف بالبينة، وإنما ينتفي باللعان؛ لأن الشهود لا سبيل لهم إلى ذلك.
وإن أراد أن يثبت الزنا بالبينة، ويلاعن لنفي النسب، أو يلاعن لهما.. جاز له ذلك.

[مسألة: يسقط حد القذف بعفو المقذوف]
] : حد القذف حق للمقذوف، فإن عفا عنه.. سقط، وإن مات قبل أن يستوفيه.. ورث عنه.
وقال أبو حنيفة: (هو حق لله لا حق للمقذوف فيه، وإن عفا عنه.. لم يسقط، وإن مات.. لم يورث عنه) . ووافقنا أنه لا يستوفى إلا بمطالبته.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» . فأضاف العرض إلينا كإضافة الدم والمال، فوجب أن يكون ما في مقابلته للمقذوف، كالدم، والمال.
ولأنه حق على البدن إذا ثبت بالاعتراف.. لم يسقط بالرجوع، فكان للآدمي، كالقصاص.
ففي قولنا: (إذا ثبت بالاعتراف.. لم يسقط بالرجوع) احتراز من حد الزنا والخمر والقطع في السرقة.
إذا ثبت هذا: فقذف زوجته، ثم عفت عما وجب لها من الحد أو التعزيز، ولم

(10/407)


يكن هناك ولد.. لم يكن له أن يلاعن؛ لأنه يلاعن لإسقاط الحد عنه، وقد سقط عنه بالعفو.
ومن أصحابنا من قال: له أن يلاعن؛ لأنه يستفيد به قطع الفراش والفرقة المؤبدة. والمذهب الأول؛ لأن الفرقة تمكنه بالطلاق الثلاث.
وإن كان هناك ولد.. فله أن يلاعن لنفيه وإن لم تطالبه بالحد ولم تعف عنه.
فإن كان هناك نسب.. فله أن يلاعن لنفيه عنه، وإن لم يكن هناك نسب.. فليس له أن يلاعن.
ومن أصحابنا من قال: له أن يلاعن؛ لقطع الفراش. والمذهب الأول؛ لأنه إنما يلاعن لنفي النسب، أو لإسقاط الحد عنه، وليس هناك أحدهما، وقطع الفراش يمكنه بالطلاق الثلاث.

[مسألة: قذف الزوج لامرأته حال الصحة يوجب الحد واللعان يسقطه]
] : إذا قذف الرجل امرأته، ثم جنت، أو قذفها في حال جنونها بزنا إضافة إلى حال الصحة.. فإنه يجب عليه الحد.
وإن قذفها في حال جنونها بزنا إضافة إلى حال جنونها.. فإنه لا يجب عليه الحد بذلك، وإنما يجب عليه بذلك التعزير.
وإن أراد الولي أن يطالب بما وجب لها من الحد أو التعزيز.. لم يكن له ذلك؛ لأن طريقه التشفي من القاذف بإقامة الحد عليه، فلم يكن له ذلك، كالقصاص.
فإن التعن الزوج منها.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وقعت الفرقة) .
واختلف أصحابنا فيها على وجهين:
[أحدهما] : فمنهم من قال: إن كانت حاملا.. فللزوج أن يلاعن؛ لأن اللعان يحتاج إليه لنفي الولد عنه، وإن كانت حائلا.. لم يكن له أن يلاعن؛ لأن اللعان يراد

(10/408)


لإسقاط الحد عنه، أو لنفي الولد، ولا ولد هاهنا، فيحتاج إلى نفيه، ولا يجب عليه الحد إلا بمطالبتها، ولا مطالبة لها قبل الإفاقة، فلم يكن له أن يلاعن.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: له أن يلاعن، سواء كانت حاملا أو حائلا؛ لأنها إن كانت حاملا.. احتاج إلى اللعان لنفي الولد، وإن كانت حائلا.. احتاج إلى اللعان لإسقاط الحد الواجب عليه في الظاهر، كمن وجب عليه دين إلى أجل.. فله أن يدفعه قبل حلول الأجل.
والأول أصح؛ لأن الشافعي قال: (ليس على الزوج أن يلتعن حتى تطالب المقذوفة بحدها) .

[فرع: لا يقبل قذف زوجة لها سبع سنين ويعزر]
] : وإن قذف زوجته الصغيرة، فإن كانت لا يوطأ مثلها، كابنة سبع سنين فما دونها.. لم يصح قذفه؛ لأن القذف إنما يصح إذا احتمل أن يكون فيه صادقا أو كاذبا، وابنة سبع سنين يعلم يقينا أنها لا توطأ وأنه كاذب. ويجب عليه التعزير للكذب، وليس له أن يلاعن لإسقاط هذا التعزير؛ لأنا نتحقق كذبه، فلا معنى للعانه.
وقال الشيخ أبو حامد: لا يقام عليه التعزير إلا بعد بلوغها؛ لأنه لا يصح مطالبتها به، ولا ينوب عنها الولي في المطالبة.
وإن كانت صغيرة يوطأ مثلها، كابنة تسع سنين فما زاد.. صح قذفه؛ لأن ما قاله يحتمل الصدق والكذب، ولا يجب عليه الحد بقذفها؛ لأنها ليست بمحصنة، وإنما يجب عليه التعزير، وهل للزوج أن يلاعن لإسقاط التعزير؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: ليس له أن يلاعن؛ لأن اللعان يراد لنفي النسب، أو لإسقاط ما وجب عليه من الحد أو التعزير بقذفها، وذلك لا يجب قبل مطالبتها.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: له أن يلاعن لإسقاط ما وجب عليه من التعزير في الظاهر وإن لم يطالب به، كما يجوز له أن يقدم ما وجب عليه من الدين المؤجل قبل حلوله.

(10/409)


وإن كانت له زوجة كتابية، فقذفها.. لم يجب عليه الحد؛ لأنها ليست بمحصنة، ويجب عليه التعزير، وحكمه حكم الحد الذي يجب عليه بقذف المحصنة، ويسقط عنه بإقامة البينة على زناها، أو باللعان؛ لأنه إذا سقط عنه الحد الكامل بذلك.. فلأن يسقط ما هو دونه بذلك أولى.
وإن كانت الزوجة أمة، فقذفها.. لم يجب عليه الحد؛ لأنها ليست بمحصنة ويجب عليه التعزير، وليس للسيد أن يطالبه به؛ لأنه ليس بمال ولا له بدل هو مال، وحق السيد إنما يتعلق بالمال أو بما بدله المال.
فإن طالبته الأمة به.. كان له أن يسقط ذلك بالبينة أو باللعان، كما قلنا في الحد الذي يجب عليه بقذف المحصنة.
وإن عفت الأمة عما وجب لها من التعزير.. سقط؛ لأنه لا حق للسيد فيه.

[مسألة: القذف بعد البينة أو الإقرار لا يوجب الحد]
] : إذا قامت البينة على امرأة بالزنا، أو أقرت بذلك، ثم قذفها الزوج أو أجنبي بذلك الزنا أو بغيره.. لم يجب عليه حد القذف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية [النور: 4] . وهذه ليست بمحصنة. ولأن القذف هو ما احتمل الصدق والكذب، فأما ما لا يحتمل إلا أحدهما.. فإنه لا يكون قذفا، ألا ترى أنه لو قذف الصغيرة التي لا يوطأ مثلها في العادة، أو قال: الناس كلهم زناة.. لم يكن قاذفا؛ لأن القذف والحد فيه إنما جعلا لدفع العار عن نسب المقذوفة، وهذه لا عار عليها بهذا القذف؛ لأن زناها قد ثبت، ويجب عليه التعزير؛ لأنه آذاها وسبها، وذلك محرم، فعزر لأجله؟
فإن كان المؤذي لها بذلك أجنبيا.. لم يسقط عنه ببينة ولا بغيرها؛ لأن هذا تعزير أذى، وليس بتعزير قذف.

(10/410)


وإن كان المؤذي لها بذلك زوجها.. فهل له إسقاطه باللعان؟
نقل المزني: (ليس له إسقاطه باللعان) .
ونقل الربيع: (أن له إسقاطه باللعان) .
واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال أبو إسحاق: الصحيح ما نقله المزني، وما نقله الربيع خطأ؛ لأن اللعان إنما يراد لتحقيق الزنا، والزنا هاهنا متحقق، فلا فائدة في اللعان، ولأن اللعان إنما يسقط حق المقذوفة، فأما حق الله: فلا يسقط، وهذا التعزير لحق الله، فلم يجز إسقاطه باللعان، كما قلنا فيمن قذف صغيرة لا يوطأ مثلها. فإن قيل: لو كان هذا التعزير لحق الله.. لما كان يفتقر إلى مطالبتها، كما لو قال: الناس كلهم زناة.. فإن الإمام يعزره من غير مطالبة.
قلنا: إنما افتقر إلى مطالبتها؛ لأنه يتعلق بحق امرأة بعينها.
وقال أبو الحسن القطان، وأبو القاسم الداركي: هي على قولين:
أحدهما: لا يلاعن؛ لما ذكرناه.
والثاني: يلاعن؛ لأنه إذا جاز أن يلاعن لدرء التعزير فيمن لم يثبت زناها.. فلأن يلاعن فيمن ثبت زناها أولى.
ومنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال: (لا يلاعن) إذا كان قد رماها بزنا مضافا إلى ما قبل الزوجية، مثل: أن رماها بالزنا وهما أجنبيان، فأقام عليها البينة بذلك، ثم تزوجها ورماها بذلك الزنا؛ لأنه كان في الأصل لا يجوز له اللعان لأجله، فكذلك في الثاني.
والموضع الذي قال: (له أن يلاعن) إذا رماها بالزنا في حال الزوجية، فحققه

(10/411)


عليها بالبينة، ثم رماها به ثانيا، فله أن يلاعن؛ لأنه كان في الأصل له إسقاط حده باللعان قبل البينة، فكذلك بعد البينة.

[فرع: قذف زوجته ولم يبين ولم يلاعن]
] : وإن قذف امرأته بالزنا، ولم يقم عليها البينة، ولم يلاعن، فحد، ثم رماها بذلك الزنا.. فإنه لا يجب عليه الحد؛ لأن القذف هو ما احتمل الصدق والكذب، وهذا لا يحتمل إلا الكذب، ولأن الحد إنما يراد لدفع العار عن نسب المقذوفة، وقد دفع عنه، العار بالحد الأول، فلا معنى لإقامة الحد ثانيا. ويجب عليه التعزير؛ لأنه آذاها بذلك، والأذى بذلك محرم، ولا يلاعن لإسقاط هذا التعزير؛ لأنه تعزير أذى، فهو كالتعزير لأذى الصغيرة التي لا يوطأ مثلها.
وإن قذف أجنبي بزنا، ولم يقم البينة على الزنا، فحد حد القاذف، ثم رماها القاذف بذلك ثانيا.. فإنه لا يجب عليه حد القذف، وإنما يجب عليه التعزير للأذى.
وقال بعض الناس: يجب عليه حد القذف.
دليلنا: ما روي: (أن أبا بكرة شهد هو ورجلان معه على المغيرة بن شعبة بالزنا، فحدهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثم قال أبو بكرة للمغيرة: قد كنت زنيت، فهم عمر بجلده، فقال له علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن كنت تريد جلده.. فارجم صاحبك، فتركه عمر) .

(10/412)


ومعنى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن كنت تجعل هذا قذفا ثانيا.. فقد تمت الشهادة على المغيرة، وإن كان هو القذف الأول.. فقد حددته فيه.

[فرع: قذف امرأته وثبت الحد بلعانه فتنفيه بلعانها]
] : قال ابن الصباغ: إذا قذف الرجل امرأته بالزنا، وثبت عليها الحد بلعانه.. نظرت:
فإن لاعنته.. فقد عارض لعانه لعانها، فلا يثبت عليها الزنا، ولا يجب عليها الحد، ولا تزول حصانتها، ومتى قذفها هو أو غيره.. وجب عليه حد القذف.
وإن قذفها ولاعنها، ولم تلاعن هي.. فقد وجب عليها الحد، ويسقط إحصانها في حق الزوج، وهل تسقط حصانتها في حق الأجنبي؟ فيه وجهان:
أحدهما: تسقط حصانتها؛ لأنه قد ثبت زناها باللعان من الزوج.
والثاني: لا تسقط؛ لأن اللعان حجة تخص الزوج؛ ولهذا لا يسقط عن الأجنبي حد القذف به، فلا يسقط إحصانها به في حقه.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن الزوج إذا قذفها وتلاعنا، ثم قذفها بذلك الزنا الذي تلاعنا عليه.. لم يجب عليه الحد، وإن قذفها بزنا آخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه الحد؛ لأن اللعان في حقه كالبينة، ثم بالبينة يبطل إحصانها، فكذلك في اللعان.
والثاني: يجب عليه الحد؛ لأن اللعان لا يسقط إلا ما يجب بالقذف في الزوجية لحاجته إلى القذف، وقد زالت الزوجية، فزالت الحاجة إلى القذف.

(10/413)


وإن تلاعنا، ثم قذفها أجنبي.. حد.
فكل موضع قلنا: (لا يجب على الزوج الحد بقذفها بعد الزوجية) فإنه يجب عليه التعزيز؛ لأنه آذاها، والأذى محرم، وهذا لا خلاف أنه لا يسقط التعزير ولا الحد الذي يجب عليه إذا قذفها بزنا آخر باللعان؛ لأن اللعان إنما يكون بين الزوجين وهما أجنبيان. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا قذفها أجنبي، فإن كان الزوج لاعنها ونفى حملها، وكان الولد حيا.. فعلى الأجنبي الحد، وإن كان لم ينف حملها، أو نفاه، وكان الولد ميتا.. فإنه لا حد على الأجنبي) .
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين هلال بن أمية وامرأته، ففرق بينهما، وقضى بأن لا يدعى الولد للأب، وأنها لا ترمى ولا ولدها، فمن رماها أو ولدها.. فعليه الحد» . ولم يفرق. وهذا حجة لما قال ابن الصباغ، فإنها أجابته باللعان، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن رماها أو ولدها.. فعليه الحد» . وروي: " وعليه الحد " ولم يفرق بين الزوج وغيره.
وبالله التوفيق.

(10/414)


[باب ما يلحق من النسب، وما لا يلحق]
وما يجوز نفيه باللعان، وما لا يجوز إذا تزوج الرجل امرأة، وهو ممن يولد لمثله، وأمكن اجتماعهما على الوطء، فأتت بولد لمدة الحمل.. لحقه الولد.
فإن زوج الأب ابنه الصغير امرأة، وأمكن اجتماعهما، وأتت بولد.. نظرت:
فإن أتت به قبل أن يستكمل الصبي تسع سنين وستة أشهر من مولده.. لم يلحقه الولد بلا خلاف؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أنه لا يولد لمثله. وينتفي عنه بغير لعان؛ لأن اللعان إنما يحتاج إليه لنفي نسب لاحق به، وهذا غير لاحق به.
وإن مات هذا الصبي.. لم تنقض عدتها منه بوضعه؛ لأنه لا يمكن أن يكون منه، فلم تنقض عدتها منه بوضعه، بخلاف ما لو نفى حمل امرأته باللعان؛ فإن عدتها منه تنقضي بوضعه؛ لأنه يمكن أن يكون منه.
وإن أتت به بعد أن كمل للصبي عشر سنين، ومضت مدة الحمل بعد ذلك.. لحقه الولد بلا خلاف؛ لأن ابن العشر قد ينزل الماء الدافق الذي يخلق منه الولد وإن كان نادرا، إلا أن الولد يلحق بالإمكان، وإن خالف الظاهر.
فإن أتت به بعد أن كمل للصبي تسع سنين وستة أشهر، أو سبعة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلحق به؛ لأن الشافعي قال: (لو جاءت بحمل وزوجها صبي دون عشر سنين.. لم يلزمه؛ لأن العلم يحيط أنه لا يولد لمثله) .
فإن قلنا بهذا: انتفى عنه بغير لعان.
والثاني: أنه يلحقه، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأنه لما جاز أن تبلغ المرأة بالحيض لتسع سنين.. فكذلك يجوز أن يبلغ الغلام بالاحتلام لتسع سنين، والنسب يحتاط في إثباته.

(10/415)


فإذا قلنا بهذا: وأتت به بعد أن كمل للصبي عشر سنين، ومضت مدة الحمل، وأراد أن ينفيه باللعان.. لم يكن له ذلك؛ لأنه لا حكم لكلامه؛ لأنه غير بالغ.
فإن قيل: كيف جعلتموه بالغا في حكم لحوق الولد به، ولم تجعلوه بالغا في جواز اللعان؟!
فالجواب: أن إثبات النسب يجوز بالإمكان، ولا يجوز نفيه بالإمكان.
فإن أقر بالبلوغ وأراد أن ينفيه باللعان.. كان له ذلك؛ لأنه أقر بالبلوغ في وقت يجوز أن يكون صادقا، فقبل. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا أتت به وقد استكمل تسع سنين.. لحق به.
وهل يشترط ستة أشهر وساعة الوطء بعد التسع ليلحقه؟ فيه وجهان.
وإن كان الزوج في سن من يولد له، إلا أنه مجبوب، فأتت امرأته بولد.. فروى المزني: (أنه لا ينتفي عنه إلا باللعان) . وروى الربيع: (أنه ينتفي عنه بغير لعان) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، واختلفوا في الحالين:
فقال أبو إسحاق: الموضع الذي قال: (لا ينتفي عنه إلا باللعان) أراد: إذا كان مقطوع الذكر والأنثيين؛ لأنه إذا قطع ذكره وبقي أنثياه.. ساحق وأنزل، وإن قطع أنثياه وبقي ذكره.. أولج وأنزل.
غير أن أهل الطب قد قالوا: إذا قطع ذكره أو أنثياه.. فلا ينزل إلا ماء رقيقا

(10/416)


لا يخلق منه الولد، ولا اعتبار بقولهم هاهنا؛ لأن الولد يلحق بالإمكان.
والموضع الذي قال: (ينتفي عنه بغير لعان) أراد: إذا قطع ذكره وأنثياه؛ لأنه يتعذر منه الإنزال جملة.
وقال القاضي أبو حامد: هي على اختلاف حالين آخرين: فالموضع الذي قال: (لا ينتفي عنه إلا باللعان) أراد: إذا لم تنسد ثقبة المني التي في أصل الذكر.
والموضع الذي قال: (ينتفي عنه بغير لعان) أراد: إذا انسدت؛ لأن في أصل الذكر ثقبتين: ثقبة للبول، وثقبة للمني، فإذا انسدت ثقبة المني.. تعذر الإنزال، وإذا لم تنسد.. لم يتعذر.
ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين آخرين:
فالموضع الذي قال: (لا ينتفي عنه إلا باللعان) أراد به: المجنون إذا وطئ امرأته في حال جنونه؛ لأنه كالعاقل في الوطء.
والموضع الذي قال: (ينتفي عنه بغير لعان) هو المجبوب والخصي.
وحكى الشيخ أبو حامد: أن من أصحابنا من قال: يلحق به الولد، ولا ينتفي عنه إلا باللعان وإن كان مقطوع الذكر والأنثيين.
والصحيح: قول أبي إسحاق. هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن كان مجبوبا.. لحق به الولد، وإن كان خصيا، فإن قال أهل المعرفة: إنه يولد لمثله.. لحقه، وإلا.. فلا.
وإن لم يمكن اجتماعهما على الوطء؛ بأن تزوجها في مجلس القاضي، وطلقها ثلاثا عقيب العقد في المجلس، فأتت بولد لمدة الحمل من يوم النكاح، أو تزوج رجل بالمشرق امرأة بالمغرب، فأتت بولد لستة أشهر من حين العقد.. فإن الولد لا يلحقه، وينتفي عنه بغير لعان، وبه قال مالك وأحمد.

(10/417)


وقال أبو حنيفة: (إذا كان الزوج ممن يتأتى منه الوطء.. لحقه) .
وهكذا: قال في رجل غاب عن امرأته زمانا، فأخبرت: أنه مات، فاعتدت عنه عدة الوفاة، وتزوجت بغيره، فرزق منها أولادا، ثم جاء الزوج الأول، فإن الأولاد كلهم للأول، ولا يلحق أحد منهم الزوج الثاني.
ودليلنا: أنها أتت بولد لا يمكن أن يكون منه، فلم يلحق به، كامرأة الطفل.

[مسألة: ولادة المرأة قبل مضي ستة أشهر من وقت العقد]
] : وإن تزوج امرأة، وأتت بولد لأقل من ستة أشهر من حين العقد.. انتفى عنه بغير لعان؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر بالإجماع، فيعلم أنها علقت به قبل حدوث الفراش.
وإن تزوج رجل امرأة ودخل بها، ثم طلقها وهي حامل، فوضعت الحمل، ثم أتت بولد آخر لدون ستة أشهر من حين وضع الحمل.. لحقه الثاني؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أنه لا يكون بين الحملين أقل من ستة أشهر، فعلمنا أنهما حمل واحد.
وإن أتت بالثاني لستة أشهر فما زاد من وقت وضع الأول.. انتفى عنه الثاني بغير لعان؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أن الولدين من حمل واحد لا يكون بينهما ستة أشهر، فعلمنا أن الولد الثاني علقت به بعد وضع الأول.
وإن طلقها واعتدت بالأقراء، ثم ولدت قبل أن تتزوج.. نظرت:
فإن وضعته لستة أشهر فما زاد، أو لأربع سنين من وقت الطلاق، أو لدون ستة أشهر من وقت الطلاق.. لحقه الولد، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا، وسواء أقرت بانقضاء عدتها قبل ذلك أو لم تقر.
وقال أبو حنيفة: (إذا أتت به لسنتين من وقت الطلاق.. لحق به، وإن أتت به لما

(10/418)


زاد عن سنتين من وقت الطلاق.. لم يلحق به) ؛ لأن أكثر الحمل عنده سنتان. والكلام عليه يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال أبو حنيفة أيضا: (إذا أقرت بانقضاء عدتها قبل ذلك.. لم يلحق الولد به، وانتفى عنه بغير لعان) . وبه قال أبو العباس ابن سريج؛ لأنا حكمنا بانقضاء عدتها بإقرارها وإباحتها للأزواج، فلا ينقض بأمر محتمل.
ودليلنا: أن أكثر الحمل عندنا أربع سنين، وقد ترى الحامل الدم على الحمل، وإذا أمكن إثبات الحمل.. لم يجز نفيه، ولهذا: لو تزوج امرأة وأتت بولد لستة أشهر من وقت العقد.. لحق به وإن لم يعلم الوطء؛ احتياطا لإثبات النسب، فكذلك هذا مثله.
وإن أتت به لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق.. نظرت:
فإن كان الطلاق بائنا، مثل: أن طلقها طلقة أو طلقتين بعوض أو طلقها ثلاثا أو طلقها قبل الدخول أو فسخ النكاح بعيب.. فإن الولد لا يلحقه، وينتفي عنه بلا لعان. ونقل المزني: (فهو ينتفي باللعان) .
قال أصحابنا: وهذا خطأ في النقل؛ لأن الحمل لا يكون أكثر من أربع سنين.
ومن أصحابنا من اعتذر للمزني، وقال: ويحتمل أن (الألف) من (لا) التزق مع (لام) قوله: (لعان) ، فصار قوله: (بلا لعان) باللعان.
وإن كان الطلاق رجعيا.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يلحقه الولد، وينتفي عنه بغير لعان؛ لأن الرجعية محرمة على الزوج تحريم المبتوتة عندنا، وقد ثبت أن المبتوتة إذا أتت بولد لأكثر من أربع سنين من وقت انقضاء العدة.. لم يلحقه، فكذلك الرجعية.
والثاني: أنه يلحقه الولد، ولا ينتفي عنه إلا باللعان؛ لأن الرجعية في

(10/419)


معنى الزوجات؛ بدليل: أنه يلحقها الطلاق، والإيلاء، والظهار، ويتوارثان، فكانت في حكم الزوجات في حكم لحوق ولدها به؛ لأن النسب يحتاط لإثباته.
فإذا قلنا بهذا: فإلى متى يلحقه الولد؟ فيه وجهان:
أحدهما: قال أبو إسحاق: يلحقه أبدا؛ لأنا نظن أن العدة قد انقضت، ولم تكن قد انقضت في الباطن، ويكون قد وطئها في العدة.
والثاني وهو المذهب: أنه يلحقه إذا أتت به لأربع سنين من وقت إقرارها بانقضاء العدة، ولا يلحقه إذا أتت به لأكثر من أربع سنين؛ لأنا إنما ألحقناه به؛ لجواز أن يكون قد وطئها في عدتها، وذلك وطء شبهة، فلحقه الولد الحادث من هذا الوطء.
وأكثر الحمل أربع سنين فإذا أتت به لأكثر من أربع سنين بعد انقضاء عدتها.. تبينا أنه حدث من وطء بعد انقضاء عدتها، وهي أجنبية من بعد انقضاء عدتها، فصارت كالمبتوتة.
وإن لم تقر بانقضاء العدة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلحقه الولد أبدا؛ لأنه يحتمل امتداد العدة.
والثاني: أن يحسب ثلاثة أشهر من بعد الطرق، ثم إذا ولدت لأكثر من أربع سنين بعد الثلاثة الأشهر.. لم يلحقه؛ لأن الغالب أن الأقراء تنقضي بثلاثة أشهر.

[فرع: طلقها فأتت بعد أربع سنين بولد]
] : وإن طلقها، وأتت بولد لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، وكان الطلاق بائنا أو رجعيا، وقلنا: لا يلحقه ولدها، فادعت الزوجة أنه قد كان نكحها بعد الطلاق

(10/420)


البائن، أو راجعها في الرجعي، وهذا الولد منه، فإن أنكر النكاح أو الرجعة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم النكاح والرجعة، ويحلف على القطع: أنه ما نكحها، أو أنه ما راجعها؛ لأنه حلف على فعل نفسه. فإذا حلف.. لم يلزمه لها مهر ولا نفقة، وانتفى الولد عنه بغير لعان.
فإن نكل عن اليمين.. ردت عليها اليمين، فإن حلفت.. ثبت أنها زوجته، فتجب لها النفقة، ويجب لها المهر إن ادعت النكاح.
وأما الولد: فإن اعترف الزوج: أنها ولدته على فراشه. لحقه نسبه، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، وإن قال: لم تلده، وإنما التقطته أو استعارته.. لم تصدق المرأة أنها ولدته حتى تقيم البينة على ذلك؛ لأنه يمكنها إقامة البينة على ذلك، ويقبل في ذلك رجلان، أو رجل وامرأتان، أو أربع نسوة، فإذا أقامت البينة لها: أنها ولدته على فراشه.. لحقه نسبه، ولا ينتفي عنه إلا باللعان. وإن عدمت البينة، فإن قلنا: إن الولد يعرض مع الأم على القافة.. عرض معها، فإن ألحقته بهما.. لحق بالزوج، ولم ينتف عنه إلا باللعان. وإن قلنا: لا يعرض مع الأم، أو لم تكن قافة، أو كانت وأشكل عليها.. فالقول قول الزوج مع يمينه: أنه لا يعلم أنها ولدته على فراشه، فإذا حلف.. انتفى عنه بغير لعان، وإن نكل الزوج عن اليمين، فردت على الزوجة، فلم تحلف.. فهل يوقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي ويحلف؟ فيه وجهان - بناء على القولين في الجالية المرهونة إذا أحبلها الراهن، وادعى المرتهن: أن الراهن أذن له في وطئها، وأنكر المرتهن، ونكلا جميعا عن اليمين -:
أحدهما: لا ترد اليمين على الولد؛ لأن اليمين للزوجة، وقد أسقطتها بالنكول.
والثاني: ترد عليه؛ لأنه يثبت بها حق الولد وحق الزوجة، فإذا أسقطت حقها.. بقي حق الولد.
وإن أقر الزوج: أنه راجعها أو تزوجها.. ثبتت الزوجية، وثبتت أحكامها، فإن أقر: أنها أتت بالولد على فراشه.. لحقه، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، وإن أنكر

(10/421)


أنها ولدته، وإنما التقطته أو استعارته.. فعليها إقامة البينة على ما مضى. هذا إذا كان الاختلاف مع الزوج.
فأما إذا كان الاختلاف مع ورثة الزوج: فإن مات وخلف ابنا، فادعت الزوجة: أن أباه قد كان تزوجها أو راجعها، وهذا الولد منه، فإن أقر الابن بالنكاح أو الرجعة.. ثبتت الزوجية وأحكامها.
وأما الولد: فإن اعترف الابن: أنها ولدته على فراش أبيه.. لحق نسبه بالأب، وليس للابن أن ينفيه باللعان؛ لأن اللعان يختص به الزوج. وإن قال: لم تلده، وإنما التقطته أو استعارته.. فعليها أن تقيم البينة أنها ولدته؛ لأنها يمكنها إقامة البينة، فإذا أقامت البينة.. ألحق بالأب، وورث مع الابن، وليس له نفيه باللعان، وإن عدمت البينة، فإن قلنا: إن الولد يعرض مع الأم على القافة.. عرض معها، فإن ألحقته بالأب.. ثبت نسبه من الأب، وورث منه. وإن قلنا: لا يعرض معها، أو لم تكن قافة، أو كانت وأشكل عليها.. فالقول قول الابن مع يمينه: أنه لا يعلم أنها ولدته على فراش أبيه، فإذا حلف.. لم يثبت نسب الولد من الزوج، ولم يرث مع الابن، وإن نكل عن اليمين.. حلفت الأم: أنها ولدته على فراش الزوج، وثبت نسبه منه، ويرث منه، وإن لم تحلف الزوجة.. فهل توقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي ويحلف؟ على الوجهين اللذين مضى ذكرهما.
وإن أنكر الابن النكاح أو الرجعة، فإن كان معها بينة وأقامتها.. كان الحكم فيه كما لو أقر الابن، وإن لم يكن معها بينة.. فالقول قول الابن مع يمينه، ويحلف الابن: أنه لا يعلم أن أباه نكحها أو راجعها؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره، فحلف على نفي العلم، فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل.. ردت اليمين عليها، فإن

(10/422)


حلفت.. كان الحكم فيه كما لو أقر الابن، أو أقامت البينة، وإن لم تحلف هي.. فهل توقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي فيحلف؟ على الوجهين.
وإن خلف الزوج ابنين أو أكثر، فإن أقرا أو أنكرا أو حلفا أو نكلا وردا عليها اليمين فحلفت.. كان الحكم فيها كالحكم مع الواحد، وإن أقر أحدهما وأنكر الآخر، ونكل عن اليمين فحلف.. كان حكمها حكم ما لو أقرا. وإن أقر أحدهما، وأنكر الآخر، فحلف المنكر.. لم تثبت الزوجية في حق الحالف، ولا يثبت نسب الولد؛ لأن النسب لا يثبت إلا بالإقرار من جميع الورثة، ويلزم المقر بحصته من المهر النفقة، وهل ترث معه الزوجة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا ترث؛ لأنه لما لم يثبت النسب باعترافه.. لم يثبت ميراثها باعترافه.
والثاني: ترث معه من حقه نصف الثمن، كما قلنا في الدين.
وإن كان الوارث للزوج أخا، أو ابن أخ، أو عما، فإن أنكر عليها النكاح أو الرجعة، وأقامت البينة.. ثبت النكاح، وثبتت أحكامه.
فإن أنكر أن تكون أتت بولد على فراش الزوج، فإن أقامت على ذلك بينة.. لحق بالزوج، وورث جميع مال الزوج إن كان ذكرا، وإن لم يكن معها بينة فحلف لها.. لم يثبت النكاح ولا يثبت نسب الولد.
وإن نكل عن اليمين، فحلفت.. ثبتت زوجيتها وأحكامها في المهر والنفقة، وأما نسب الولد: فهل يلحق بالزوج؟
إن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة.. ثبت نسبه.
وإن قلنا: إنها كالإقرار.. فهو كما لو أقر.
وإن أقر لها بالنكاح أو الرجعة.. ثبتت الزوجية وأحكامها في المهر والنفقة، وأما نسب الولد: فإن أنكر الأخ أنها ولدته على فراش الزوج.. فعليها إقامة البينة: أنها ولدته على فراشه، وإن لم تقم بينة، وقلنا: لا يعرض الولد على القافة، أو قلنا:

(10/423)


يعرض ولم تكن قافة، أو كانت وأشكل عليها.. فالقول قول الأخ مع يمينه: أنه لا يعلم أنها ولدته على فراش الزوج؛ فإن حلف.. لم يثبت نسبه، وإن أقر: أنها ولدته على فراش الزوج.. ثبت نسبه منه، ولا يرث من الزوج؛ لأنا لو ورثناه لحجب الأخ، وخرج عن أن يكون وارثا، فلم يصح إقراره.
وقال أبو العباس: يرث. واختاره ابن الصباغ، والمذهب الأول.
وأما قدر ميراث الزوجة: فالذي يقتضي المذهب: إن كان مال الزوج في يدها.. لم يأخذ الأخ والعم منه إلا ثلاثة أرباعه؛ لأنه لا يدعي سواه، ويقر لها بالربع وهي لا تدعي إلا الثمن، وتدفع من الربع الذي يبقى في يدها إلى ابنها نصفه؛ لأنها تقر له به. وإن كان المال في يد الأخ أو العم.. لم تأخذ الزوجة منه إلا الثمن؛ لأنه يقر لها بالربع، وهي لا تدعي إلا الثمن، فلم يكن لها أكثر منه.

[فرع: انقضت عدتها وتزوجت بآخر وحملت]
] : وإن طلقها الزوج، وانقضت عدتها منه، وتزوجت بآخر، وأتت بولد، فإن وضعته لأربع سنين فما دونها من طلاق الأول، ولدون ستة أشهر من عقد الثاني.. لم يلحق بالثاني، ولحق بالأول على المذهب، ولا ينتفي عنه إلا باللعان.
وعلى قول أبي العباس وابن سريج: لا يلحق بأحدهما.
وإن أتت به لأقل من ستة أشهر من عقد الثاني، ولأكثر من أربع سنين من طلاق الأول.. فإن الولد لا يلحق بالثاني وينتفي عنه بغير لعان. وهل يلحق بالأول؟ ينظر فيه:
فإن كان طلاقه بائنا.. لم يلحق به، وانتفى عنه بغير لعان. وإن كان طلاقه رجعيا.. فهل يلحقه به؟ على قولين، مضى ذكرهما.
وإن أتت به لأربع سنين فما دونها من طلاق الأول، ولستة أشهر فما زاد من نكاح الثاني.. فذكر الشيخ أبو حامد: أن الولد يلحق بالثاني؛ لأن الفراش له.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن الثاني إذا ادعى: أنه من الأول.. فإن الولد يعرض

(10/424)


معهما على القافة، فإن ألحقته بالأول.. لحقه، وانتفى عن الثاني بغير لعان، وإن ألحقته بالثاني. لحق به، وانتسب إلى الثاني، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، وإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها.. ترك إلى أن يبلغ وقت الانتساب، فإن انتسب إلى الأول.. انتفى عن الثاني بغير لعان، وإن انتسب إلى الثاني.. لم ينتف عنه إلا باللعان.
وإن لم يعرف وقت طلاق الأول ووقت نكاح الثاني.. حلف الثاني: أنه لا يعلم أنها ولدته على فراشه؛ لأن الأصل عدم ولادته على فراشه، فإذا حلف انتفى عنه نسبه بغير لعان، وإن نكل عن اليمين.. حلفت أنها ولدته على فراشه، ولحقه نسبه، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، وإن لم تحلف الزوجة.. فهل توقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي ويحلف؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الجارية المرهونة.

[مسألة: وطئت مزوجة بشهبة فتعتد]
] إن كانت لرجل زوجة، فوطئها رجل بشبهة.. لزمها أن تعتد منه، فإن أتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما.. عرض الولد على القافة؛ لأن لها مدخلا في إلحاق النسب، ولا يلاعن الزوج لنفيه؛ لأنه يمكن نفيه بغير لعان، ومتى أمكن نفي الولد عنه بغير لعان.. لم يكن له أن يلاعن، كما أن السيد إذا أتت أمته بولد.. لم يكن له نفيه باللعان؛ لأن له طريقا إلى نفيه بغير اللعان، بأن يدعي استبراءها، ويحلف عليه، كذلك هذا مثله.
فإن ألحقته القافة بالواطئ.. انتفى عن الزوج بغير لعان، ولحق الولد بالواطئ، وليس له نفيه باللعان؛ لأن اللعان يختص به الزوج.
وإن ألحقته بالزوج.. انتفى عن الواطئ، ولحق بالزوج، وله نفيه باللعان، فإذا نفاه.. انتفى عنهما، وإن ألحقته القافة بهما، أو نفته عنهما، أو لم تكن قافة، أو كانت وأشكل عليها.. ترك إلى أن يبلغ سن الانتساب، ثم يؤمر بالانتساب إلى أحدهما، فإن انتسب إلى الزوج.. لحق به، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، وإن انتسب إلى الواطئ.. لحق به، ولا ينتفي عنه باللعان؛ لأن اللعان يختص به الزوج، والواطئ أجنبي.

(10/425)


[مسألة: نفي الحمل والطعن مع وجود الولد]
] : نقل المزني ثلاث مسائل:
إحداهن: إذا قال لامرأته: هذا الحمل ليس مني، ولست بزانية، ولم أصبها.. قيل له: قد تخطئ ولا يكون حملا، فيكون صادقا، وهي غير زانية، فلا حد ولا لعان.
فمتى استيقنا أنه حمل.. قلنا: قد يحتمل أن تأخذ نطفتك وتستدخلها لتحمل منك، فتكون صادقا بأنك لم تصبها، وهي صادقة بأنه ولدك. وإن قذفت.. لاعنت.
الثانية: لو نفى ولدها، وقال: لا ألاعنها ولا أقذفها.. لم يلاعنها، ولزمه الولد. وإن قذفها.. لاعنها؛ لأنه إذا لاعنها بغير قذف.. فإنما يدعي: أنها لم تلد، وقد حكمنا أنها ولدته، وإنما أوجب الله اللعان بالقذف، فلا يجب بغيره.
الثالثة: لو قال: لم تزن، ولكنها غصبت.. لم ينتف عنه إلا باللعان.
قال أصحابنا: وفي هذه ست مسائل:
إحداهن: إذا ظهر بها حمل، أو ولدت، فقذفها بالزنا برجل بعينه.. فله أن يلاعن لنفيه؛ لحديث هلال بن أمية، فإنه قذف امرأته بشريك بن سحماء، فـ: (لاعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما) .
الثانية: إذا قذفها بالزنا مطلقا، ولم يعين الزاني بها.. فله أن يلاعن لنفيه؛ لأن عويمرا العجلاني قذف امرأته بالزنا، ولم يعين الزاني بها، و: (لاعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما) .
الثالثة: أن يقول: هذا الولد ليس مني، وإنما وطئك فلان بشبهة، وهذا الولد منه، والشبهة منكما، فليس له أن ينفيه باللعان؛ لأنه يمكنه نفيه بغير لعان، فيعرض

(10/426)


الولد على القافة، فإن ألحقته بالزوج.. لحقه وانتفى عنه باللعان، وإن ألحقته بالواطئ بالشبهة.. لحقه ولا ينتفي عنه باللعان، ويكون الحكم فيه كما لو وطئها رجل بشبهة، وقد مضى.
الرابعة: أن يقول: هذا الولد ليس مني وما وطئتها، وهي ما زنت.. فإن لم يقذف أحدا. وقوله: (ما وطئتها) لا ينفي أن يكون منه؛ لجواز أن يكون وطئها فيما دون الفرج، فسبق الماء إلى فرجها، أو احتملت منيه بصوفة. ولا يلتفت إلى قول أهل الطب: أن المني إذا برد لا تحبل المرأة منه.
ويحتمل أيضا أن يكون قوله: (ما وطئتها) أي: بل وطئها غيري بشبهة، وهذا الولد منه.
وإذا احتمل هذين الأمرين.. لم يكن له نفيه باللعان إلا أن يقذفها، فيلاعن.
الخامسة: أن يقول: وطئك فلان بشبهة، وأنت عالمة بأنه زنا، وهذا الولد منه.. فليس له أن ينفيه باللعان في هذه الحال؛ لأنه يمكنه نفيه بغير لعان؛ بأن يعرض على القافة؛ لأن النسب تعتبر فيه الشبهة في حق الأب، فإن ألحقته القافة بالواطئ بالشبهة.. لحق به، ولا ينتفي عنه باللعان، وإن ألحقته بالزوج.. فله نفيه باللعان.
السادسة: إذا قال: غصبت على الزنا، أو وطئك فلان وأنت مكرهة، وهذا الولد منه.. فقد قذف الزاني بها. فإن كان معينا.. وجب له عليه حد القذف، وأما المرأة: فلا يحد لها؛ لأنه لم يقذفها بزنا، وهل يعزر لها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يعزر لها؛ لأنه لم يسفهها؛ لأنه لا عار عليها، ولا جاءت بمحرم.

(10/427)


الثاني: يعزر لها؛ لأنه آذاها بحصول ماء حرام في رحمها، وبذلك يلحق العار بنسبها.
وهل له أن يلاعن لنفي الولد الحادث من هذا الوطء؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلاعن؛ لأنه قذف أحد الواطئين، فلم يكن له العان لنفي الولد، كما لو قذفها دونه.
والثاني: له نفيه باللعان، وهو الأصح؛ لأنه نسب يلحقه من غير رضاه، لا يمكن نفيه بغير اللعان، فجاز له نفيه باللعان، كما لو قذفهما معا.
فعلى هذا: يذكر في اللعان زنا الرجل وأن الولد ليس مني، ولا يذكرها بالزنا.

[مسألة: تزوج فجاءه ولد بعد ستة أشهر فلا يحق قذفها ولا نفي ولدها]
] : إذا تزوج امرأة ووطئها، وأتت بولد لستة أشهر فما زاد من وقت الوطء، ولم يشاركه أحد في وطئها بشبهة، ولم يرها تزني، ولا استفاض في الناس زناها، وكان الولد لا يشبه غيره.. لم يحل له قذفها ولا نفي ولدها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية [النور: 4] . وهذه محصنة.
ولما روي «عن أبي هريرة: أنه قال: لما نزلت آية اللعان.. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم.. فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته. وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه.. احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين» .

(10/428)


ومعنى قوله: " ينظر إليه " يعلم أنه منه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاف أن يبادر الناس إلى نفي الأنساب بالشك.. فغلظ الحال فيه.
وأما إذا طهرت امرأته من الحيض، ولم يطأها، ورأى رجلا يزني بها، وأتت بولد لستة أشهر فصاعدا من وقت الزنا.. لزمه قذفها بالزنا ونفي النسب عنه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم.. فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته» . فإذا حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم.. حرم ذلك على الرجل أيضا. ولأنه لما حرم عليه نفي نسب يتيقنه منه.. حرم عليه استلحاق نسب يتيقن أنه ليس منه.
وإن لم يطأها ولم يعلم بزناها.. وجب عليه نفيه باللعان؛ لما ذكرناه. ولا يجوز له أن يقذفها؛ لجواز أن يكون من وطء شبهة، أو من زوج قبله.
وإن لم يرها زنت، ولا سمع بذلك، ولكنها أتت بولد أسود، وهما أبيضان، أو أتت بولد أبيض، وهما أسودان، أو أتت بولد يشبه رجلا ترمى به، ولم يعلم أن الرجل الذي ترمى به وطئها.. فهل يجوز له نفيه باللعان؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز له نفيه باللعان؛ لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين هلال بن أمية وبين امرأته، ثم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن جاءت به أصيهب، أثيبج حمش الساقين.. فهو لزوجها، وإن جاءت به أورق، جعدا، جماليا، خدلج الساقين، سابغ الأليتين.. فهو للذي رميت به " فجاءت به أورق، جعدا جماليا، خدلج الساقين، سابغ الأليتين، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لولا الأيمان.. لكان لي ولها شأن» . فدل على أن للشبه حكما.

(10/429)


والثاني: لا يجوز له نفيه؛ لأن هذا الشبه يجوز أن يكون عرق نزعه في آبائه وأجداده؛ ولهذا روي «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إن امرأتي أتت بولد أسود؟! فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " ألك إبل؟ "، قال: نعم، قال: " ما ألوانها؟ "، قال: حمر، قال: " هل فيها من أورق؟ "، قال: إن فيها لورقا، فقال: " أنى ترى ذلك؟ "، قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: " وهذا، عسى أن يكون نزعه عرق» .
ويخالف قصة هلال بن أمية؛ لأنه كان أخبره: أنه كان شاهده يزني بها. والوجهان إذا لم يشاهد ذلك.
إذا ثبت هذا: فمعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أصيهب " تصغير أصهب، وقوله: " أثيبج " تصغير أثبج، وهو الناتئ الثبج. والثبج: ما بين الكاهل ووسط الظهر، وقوله: " حمش الساقين " يعني دقيقهما، وقوله: " أورق " يعني: الأورق الذي لونه بين السواد والغبرة، ومنه قيل للرماد: أورق، وللحمامة: ورقاء؛ لأن لونهما كذلك، وقوله: " خدلج الساقين " يعني: عظيم الساقين. وقد روي: " جزل الساقين ". وأما قوله: " جماليا ": قال أبو عبيد: فإنهم يقولون جماليا - بفتح الجيم - يذهبون به إلى الجمال، وليس هو من الجمال في شيء؛ لأنه لو أراد ذلك.. لقال: جميلا، ولكنه جماليا - بضم الجيم - يعني: عظيم الخلق، شبه خلقه بخلق الجمل، فيقال للناقة العظيمة: جمالية؛ لأن خلقها يشبه خلق الجمل. قال الأعشى:

(10/430)


جمالية تغتلي بالرداف ... إذا كذب الآثمات الهجيرا
وقوله: " سابغ الأليتين " يعني: عظيم الأليتين.

[مسألة: جامع بعد طهر ثم قذفها فله أن يلاعن]
] : إذا طهرت امرأة من الحيض، وجامعها في ذلك الطهر، ثم قذفها بزنا في ذلك الطهر.. فله أن يلاعن لإسقاط الحد بلا خلاف، وله أن يلاعن لنفي النسب الحادث في ذلك الطهر، وبه قال عطاء، وأبو حنيفة.
وقال مالك: (ليس له أن يلاعن لنفي النسب منه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] . ولم يفرق بين أن يكون وطئها أو لم يطأها.
ولأنه رماها بزنا، وأتت بولد يمكن أن يكون منه، فكان له نفيه باللعان، كما لو لم يطأها فيه.

[فرع: عزل وحملت]
] : إذا كان يجامع امرأته ويعزل عنها - وهو: أنه إذا أراد الإنزال نزع وأنزل الماء بعد النزع - فأتت بولد لمدة الحمل.. لحقه، ولا يجوز له نفيه؛ لما روي: أنه «قيل للنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إنا نصيب السبايا، ونحب الأثمان، أفنعزل عنهن؟ فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " إن الله إذا قضى خلق نسمة.. خلقها» ، و: «لا عليكم أن لا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة..» ولأن كل حكم تعلق بالوطء.. فإنه

(10/431)


يتعلق بالإيلاج دون الإنزال، كالغسل، والمهر، والعدة، وغير ذلك، فكذلك ثبوت النسب، ولأنه ربما سبق من الماء ما لا يحس به، فتعلق به، فلم يجز له نفيه.
وإن كان يطؤها فيما دون الفرج، وأتت بولد.. فهل يجوز له نفيه باللعان؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له نفيه؛ لأنه قد يسبق منه الماء إلى فرجها، فتحمل منه، كما لو وطئ البكر، فحملت.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يجوز له نفيه؛ لأن كل حكم تعلق بالوطء.. فإنه لا يتعلق بالوطء فيما دون الفرج، كالغسل، والمهر، والعدة، فكذلك ثبوت النسب.
وإن كان يطؤها في الدبر، وأتت بولد.. فهل يجوز له نفيه باللعان؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له نفيه؛ لأنه قد يسبق الماء إلى فرجها، فتعلق به.
والثاني: يجوز له نفيه؛ لأنه وطئها في موضع لا تحبل منه بحال، فهو كما لو وطئها في سرتها وأنزل.

[مسألة: قذف امرأته الحامل وادعى زناها لاعنها]
] : إذا قذف زوجته وهي حامل، وادعى أنها حملت من الزنا.. فله أن يلاعن لنفي الحمل قبل وضعه.
وقال أبو حنيفة: (ليس له أن يلاعن قبل وضع الحمل لأجل نفي الحمل، فإن لاعن.. بانت، ووقعت الفرقة، فإذا وضعت.. لم ينتف النسب، ولحقه، ولم يكن له أن يلاعن بعد ذلك لنفي النسب) .
دليلنا: حديث هلال بن أمية: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بينهما على الحمل قبل وضعه) .

(10/432)


ولأن كل سبب جاز اللعان لأجله بعد انفصال الولد.. جاز اللعان لأجله قبل انفصال الولد، كزوال الفراش.
إذا ثبت هذا: فله أن يؤخر اللعان إلى أن تضع إذا لم يتيقن الحمل؛ لجواز أن يكون ريحا فتنفش، أو غلظا، فكان له التأخير ليلاعن على يقين.
وإن رآها حاملا ولم ينف الحمل، فلما ولدت أراد النفي.. قيل له: قد علمتها حاملا، فلم لم تنفه؟ أكنت قد أقررت بالولد؟
فإن قال: لم أقر به، وإنما لم أنفه؛ لأني لم أتحققها حاملا، بل جوزت أنه ريح أو غلظ.. حلف على ذلك؛ لأنه يحتمل ما يدعيه، وكان له نفيه باللعان.
وإن قال: قد علمتها حاملا لا محالة، ولكني أخرت لعلها تسقطه، أو يموت بعد الولادة، أو تموت هي.. لحقه الولد، ولم يكن له نفيه باللعان؛ لأنه ترك النفي لغير عذر.
وإن كان الولد منفصلا.. فله نفيه. وخيار النفي عندنا على الفور.
وقال أبو حنيفة: (القياس: أن يكون على الفور، غير أنه إن أخر ذلك اليوم أو اليومين ... كان له ذلك استحسانا) .
وقال أبو يوسف، ومحمد: له أن يؤخر ذلك مدة النفاس. وهي أربعون يوما عندهم.
وقال عطاء، ومجاهد: له النفي أبدا، إلا أن يقر به.
دليلنا: أنه خيار لدفع ضرر متحقق، فإذا لم يتأبد.. كان على الفور، كخيار الرد بالعيب.
وقولنا: (لدفع ضرر متحقق) احتراز من الحمل؛ فإن الخيار فيه إلى أن تضع؛ لأنه غير متحقق.
وقولنا: (إذا لم يتأبد) احتراز من الخيار في القصاص.

(10/433)


إذا ثبت هذا: فهل تتقدر مدة الخيار فيه بثلاثة أيام؟ فيه قولان:
أحدهما: تتقدر بثلاثة أيام، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن إلحاقه بنفسه نسبا ليس منه محرم عليه، ونفيه نسبا ثابتا منه محرم عليه.
وإذا كان كذلك، وولدت امرأته ولدا.. فلا بد أن يتأمله؛ هل يشبهه، أو يشبه الزاني؟! وهل هو منه أو من غيره؟! ويفكر في ذلك، وذلك لا يمكنه في الحال، فقدر ثلاثة أيام؛ لأنها قريبة، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64] [هود: 64] . ثم فسر القريب بالثلاث، فقال تعالى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] [هود: 65] .
والثاني: لا تتقدر بالثلاث، بل هو على الفور، وهو الأصح؛ لأنه خيار لدفع ضرر متحقق غير مؤبد، فكان على الفور، كخيار الرد بالعيب.
فإذا قلنا بهذا: فمعنى قولنا: (على الفور) على ما جرت العادة به، فإن كان حاضرا.. فلسنا نريد أنه يعدو إلى الحاكم حين يسمع بالولادة بكل حال، بل له التأخير بعذر؛ وذلك: أن له أن يؤخر إلى أن يلبس ثوبه، وإن كان ممن يركب.. فحتى تسرج له دابته، وإن كان جائعا.. فحتى يأكل، وإن كان ظمآنا.. فحتى يشرب الماء، وإن حضرت صلاة.. فحتى يصلي، وإن كان ماله غير محرز.. فله أن يؤخر إلى أن يحرز ماله، وما أشبه ذلك، ثم يذهب إلى الحاكم، ويعرفه أنه قد نفى الولد، ويريد أن يلاعن، ثم يستدعي الحاكم المرأة.

[فرع: ادعاؤه نفي علمه بالولادة]
] : وإن ادعى: أنه لم يعلم أنها ولدت، فإن لم يمكن أن يكون صادقا في ذلك، مثل: أن يكون في دار واحدة أو محلة واحدة.. لم يقبل قوله؛ لأن الظاهر أنه لا يخفى عليه ذلك، وإن كان كل واحد منهما في جانب من البلد، أو كل واحد منهما في محلة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.

(10/434)


وإن قال: علمت بولادتها، ولم أعلم أن لي النفي، أو علمت أن لي النفي، ولكن لم أكن أعلم أنه على الفور.. نظرت:
فإن كان ممن يعرف شيئا من الفقه، أو ممن يخالط الفقهاء.. لم يصدق؛ لأن مثل هذا لا يخفى عليه.
وإن كان قريب العهد بالإسلام، أو ممن تقدم إسلامه، إلا أنه ممن نشأ في بادية بعيدة لا يعرف من الحكم مثل هذا.. قبل قوله؛ لأن الظاهر أنه يخفى عليه مثل ذلك.
وإن كان من العامة الذين قد يسمعون العلماء وقد لا يسمعونهم.. فهل يقبل قوله؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الأمة إذا أعتقت تحت عبد، وادعت: أنها لم تعلم أن لها الخيار:
أحدهما: لا يقبل قوله، كما لا يقبل قوله إذا ادعى: أنه لا يعلم أن له رد المبيع بالعيب.
والثاني: يقبل قوله؛ لأن هذا لا يعرفه إلا العلماء أو من يخالطهم.

[فرع: تأخر الملاعن لمرض أو حبس]
] : وإن كان الزوج مريضا أو محبوسا لا يقدر على الحضور إلى عند الحاكم، فإن كان يقدر على أن ينفذ إلى الحاكم رجلا لينفذ إليه من يستوفي عليه اللعان في موضعه، فلم يفعل.. سقط حقه من النفي، وإن كان لا يقدر على ذلك.. فإنه يشهد على نفسه: أنه مقيم على حقه من النفي، فإن لم يشهد مع الإمكان.. سقط حقه من النفي، وإن لم يقدر على الإشهاد.. لم يسقط حقه.

(10/435)


وإن كان غائبا، فبلغه الخبر: أنها ولدت، وصدق الخبر، فإن كان الطريق آمنا يمكنه سلوكه، فاشتغل بالخروج عقيب علمه.. لم يسقط خياره، وإن لم يقدر على المسير، مثل أن لم يجد رفقة يسير معهم، أو وجد رفقة ولكن الطريق مخوف.. فإنه يشهد على نفسه: أنه مقيم على النفي، فإن لم يشهد مع القدرة عليه.. سقط حقه من النفي.
وإن قال: قد بلغني أنها ولدت، ولم أصدق، فإن كان قد سمع ذلك بالاستفاضة من جماعة لا يجوز عليهم الكذب.. لم يعذر في ذلك، وإن سمع ذلك بخبر واحد أو اثنين.. قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": عذر في ذلك، وكان له النفي؛ لأن الإنسان قد لا يصدق الواحد والاثنين؛ لأنه يجوز عليهم الكذب.

[فرع: إجابة النافي للولد بآمين ونحوها]
] : وإن هنأه رجل بالولد، فقال: بارك الله لك في ولدك، أو جعله الله ولد صالحا.. نظرت فيه:
فإن قال: آمين، أو استجاب الله دعاك.. سقط حقه من النفي؛ لأن معنى قوله: (آمين) اللهم استجب دعاءه، وذلك يتضمن الإقرار به.
وإن قال: بارك الله عليك، أو أحسن الله جزاءك، أو رزقك الله مثله.. لم يسقط حقه من النفي.
وقال أبو حنيفة: (يسقط) .
دليلنا: أن ذلك لا يتضمن الإقرار به؛ لأن الظاهر أنه أراد رد الدعاء عليه، كقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] [النساء: 86] .

[مسألة: قذف امرأته ونفى ولدا باللعان فجاءت بآخر]
إذا قذف امرأته ونفى نسب ولدها باللعان، ثم أتت بولد آخر.. فلا يخلو: إما أن يكون لاعن على نفي ولد منفصل، أو لاعن على نفي حمل.
فإن لاعن على نفي ولد منفصل، ثم أتت بعد اللعان بولد آخر.. نظرت:

(10/436)


فإن كان بين الحمل الأول والثاني دون ستة أشهر.. فإنهما حمل واحد، فيكون له نفي الثاني باللعان، فإن نفاه باللعان.. انتفى باللعان الثاني، وقد انتفى الأول باللعان الأول، وإن أقر بالثاني، أو أخر نفيه من غير عذر.. لحقه نسبه؛ لأنه أقر بثبوت نسبه، أو ترك نفيه من غير عذر، فإذا لحقه الثاني.. لحقه الأول أيضا؛ لأنا قد حكمنا بأنهما من حمل واحد، ولا يجوز أن يكون بعض الحمل منه وبعضه ليس منه، فجعل ما نفاه لما أقر به، ولم يجعل ما أقر به تابعا لما نفاه؛ لأن النسب يحتاط لإثباته، ولا يحتاط لنفيه.
وإن كان بين الولد الأول والثاني ستة أشهر فما زاد.. فإن الشيخ أبا إسحاق قال: ينتفي عنه الثاني بغير لعان؛ لأنها علقت به بعد زوال الفراش.
وقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: يلحقه الثاني؛ لأنه يحتمل أن يكون أصابها بعد وضعها الأول، ثم قذفها الأول وهي حامل منه بالإصابة بعد الوضع، فوجب أن يلحقه. ويكون له نفيه باللعان، فإن نفاه عنه باللعان.. انتفى عنه، وإن أقر به، أو ترك نفيه من غير عذر.. لحقه الثاني، ولا يلحقه الأول؛ لأنا حكمنا أنهما من حملين، فلا يلحقه أحدهما تبعا للآخر، بخلاف الأول.
وإن لاعنها على حمل، فوضعت ولدا، ثم أتت بولد آخر.. فإن كان ما بين وضع الولدين ما دون ستة أشهر أو ستة أشهر.. انتفى الولدان كلاهما باللعان الأول؛ لأنا نقطع على أنهما من حمل واحد، وأنه كان موجودا وقت اللعان، وإن كان بينهما ستة أشهر فما زاد.. انتفى الثاني عنه بغير لعان؛ لأنا نقطع أنهما من حملين، وأن هذا الولد علقت به بعد وضع الأول، وقد بانت منه باللعان.

[فرع: قذف امرأة أتت بتوأمين فلاعن لنفيهما]
] : وإن تزوج امرأة، فأتت بولدين توأمين، فإن قذف أمهما ونفى نسبهما.. كان له أن يلاعن لنفيهما، وإن أقر بنسب أحدهما، وانتفى عن الآخر.. لحقه الولدان؛ لأنهما حمل واحد، فلا يجوز له أن يكون أحدهما منه، والآخر من غيره.

(10/437)


وإن أتت منه بولد، فنفاه باللعان، فمات الزوج، ثم أتت بولد آخر لدون ستة أشهر من ولادة الأول.. لحقه الولدان؛ لأنهما حمل واحد، فلا ينتفي عنه الثاني بغير لعان، فلحقه، فإذا لحقه الثاني.. لحقه الأول؛ لأنهما من حمل واحد، فلا يتبعض حكمهما.

[مسألة: تزوج امرأة فقذفها]
] : وإن تزوج امرأة، وقال لها: زنيت قبل أن أتزوجك.. وجب عليه حد القذف، وهل له أن يسقطه باللعان؟ ينظر فيه:
فإن لم يكن هناك نسب يلحقه من هذا الزنا.. لم يكن له أن يلاعن، وبه قال مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنهما.
وقال أبو حنيفة: (له أن يلاعن) .
دليلنا: أنه قذف غير محتاج إليه، فلم يجز له اللعان لأجله، كقذف الأجنبي.
وإن كان هناك ولد، وادعى: أنه من هذا الزنا.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، واختيار أبي علي الطبري، والقاضي أبي الطيب -: أن له أن يلاعن لأجله. قال: لأن به حاجة إلى هذا القذف لنفي هذا الولد، كما لو أضاف الزنا إلى حال الزوجية.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد -: ليس له أن يلاعن لأجله؛ لأنه لا حاجة به إلى أن يقذفها بزنا يضيفه إلى ما قبل النكاح، بل كان يمكنه أن يقذفها بزنا مطلق، وأن الحمل ليس منه، بل هو من زنا.

(10/438)


[فرع: طلقها طلاقا رجعيا فقذفها]
] : وإن طلق امرأته طلاقا رجعيا، فقذفها بزنا أضافه إلى ما قبل الطلاق في الزوجية، أو إلى ما بعد الطلاق في العدة.. كان له أن يلاعن؛ لأنها في معنى الزوجات بالظهار، والإيلاء، والميراث، فكانت في معنى الزوجات بالقذف واللعان.

[فرع: أبان زوجته أو فسخ نكاحها ثم قذفها]
] : وإن تزوج امرأة فأبانها بالثلاث، أو خالعها، أو فسخ نكاحها بعيب، ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال الزوجية، فإن لم يكن هناك نسب يلحقه منها.. لم يكن له أن يلاعن، وإن كان هناك نسب يلحقه منها.. كان له أن يلاعن.
وقال عثمان البتي: له أن يلاعن بكل حال.
وقال أبو حنيفة: (ليس له أن يلاعن بكل حال) .
دليلنا: أنه إذا لم هناك نسب يلحقه منها.. فلا حاجة به إلى قذفها، فلم يكن له اللعان لأجله، كقذف الأجنبي، فإذا كان هناك نسب يلحقه منها.. فهناك به حاجة إلى قذفها لنفي النسب عنه، فهو كقذف الزوجة.
إذا ثبت هذا: فإن كان الولد منفصلا.. لاعن لأجله، وإن كان حملا.. فله أن يؤخر إلى أن تضع، وهل له أن يلاعن قبل أن تضع؟
روى المزني في " المختصر ": (أن له أن يلاعن) . وروى في " الجامع الكبير ": (أنه لا يلاعن) . واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: لا يلاعن، قولا واحدا، وحيث قال: (يلاعن) أراد: إذا انفصل.
وقد قال الشافعي في " الأم ": (لا يلاعن حتى ينفصل) .
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -:

(10/439)


أحدهما: له أن يلاعن؛ لأن كل امرأة كان له لعانها بعد انفصال ولدها.. كان له لعانها قبل انفصاله، كالزوجة.
والثاني: ليس له أن يلاعن حتى تضع الولد؛ لأن اللعان هاهنا إنما ثبت لأجل نفي النسب، والنسب لا يتحقق قبل وضع الولد؛ لجواز أن يكون ريحا فينفش، فلم يكن له اللعان قبل الوضع.
وإن تزوج امرأة وماتت، ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال الزوجية.. وجب عليه حد القذف، فإن طالبه ورثتها بالحد، فإن لم يكن هناك ولد.. لم يلاعن لنفي الحد؛ لأنه قذف غير محتاج إليه، وإن كان هناك نسب ولد يريد نفيه.. كان له أن يلاعن؛ لأنه محتاج إليه لنفي الولد.

[فرع: قذفها ثم بتها ثلاثا أو مخالعة فطالبته بحدها]
] : وإن قذف زوجته، ثم طلقها طلاقا ثلاثا أو خالعها، ثم طالبته بحدها.. كان له أن يلاعن، سواء كان هناك ولد أو لم يكن؛ لأنه لعان عن قذف كان محتاجا إليه، فهو كما لو لم يطلقها، وهل تحرم عليه على التأبيد؟ فيه وجهان، يأتي ذكرهما.

[فرع: قذفها وأقام البينة فسقط عنه الحد]
] : وإن قذف زوجته، وأقام عليها أربعة شهود بزناها.. سقط عنه حد القذف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية [النور: 4] . فدل على: أنه إذا أتى بأربعة شهداء.. لم يجلد.
فإن لم يكن هناك ولد يلحقه منها.. لم يكن له أن يلاعن؛ لأن اللعان لدرء الحد أو لنفي النسب، وليس هناك واحد منهما.
وإن كان هناك ولد يلحقه منها.. فله أن يلاعن لنفيه؛ لأنه لا ينتفي عنه بالبينة، فإن كان ولدا منفصلا.. فله أن يلاعن، وإن كان حملا.. فله أن يصبر باللعان إلى أن تضع، وهل له أن يلاعن لنفيه قبل الوضع؟ على الطريقين في التي قبلها.

(10/440)


وإن قذف زوجته بالزنا، فأقرت به.. لم يجب عليه حد القذف، فإن كان هناك ولد يلحقه منها.. فإنه لا ينتفي عنه بإقرارها بالزنا، وله أن يلاعن لنفيه، فإن كان منفصلا.. فله أن يلاعن لأجله، وإن كان حملا.. فهل له أن يلاعن لنفيه قبل انفصاله؟ أيضا على الطريقين.
وإن تزوج امرأة تزويجا فاسدا، وقذفها.. وجب عليه حد القذف، وليس له أن يلاعن لدرء حد القذف عنه؛ لأن اللعان حكم يختص بالزوجين، وإن كان هناك ولد يلحقه منها.. فله أن يلاعن لنفيه.
وقال أبو حنيفة: (ليس له نفيه باللعان) .
دليلنا: أن الولد في النكاح الفاسد كالولد في النكاح الصحيح في ثبوته، فكذلك في نفيه، فإن كان منفصلا.. فله أن يلاعن لنفيه، وإن كان حملا.. فهل له أن يلاعن لنفيه قبل انفصاله؟ على الطريقين في التي قبلها.

[مسألة: لا يعد ملك الأمة فراشا إلا بالبينة]
إذا ملك الرجل أمة.. فإنها لا تصير فراشا له بنفس الملك؛ لأنه قد يملك الأمة للاستمتاع، وللخدمة، وللتمول، فلم تصر فراشا له بنفس الملك. قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع.
فإن أقر بوطئها، أو قامت عليه بينة: أنه وطئها.. صارت فراشا له، ومتى أتت بولد لمدة الحمل من وقت الوطء.. لحقه نسبه، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد.
وقال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (لا تصير فراشا ولو وطئها عشرين سنة فأكثر، فإن كل ولد تلده فهو مملوك له، إلا أن يقر بواحد: أنه ابنه، فيثبت نسبه منه، وتصير فراشا له، ويلحقه كل ولد تلده بعد ذلك) .

(10/441)


وقال في (الطلاق) : (إذا قال الرجل: كل امرأة أتزوجها.. فهي طالق ثلاثا، ثم تزوج امرأة.. فإنها تطلق عقيب العقد، فلو أتت بولد لستة أشهر فصاعدا من حين العقد.. لحقه بالفراش) . وهذا تخليط.
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابن أمة زمعة، فقال سعد: يا رسول الله، إن أخي عتبة أوصاني إذا قدمت مكة أن أطلب ابن أمة زمعة، وأقبضه، فإنه ابنه، ألم بها في الجاهلية، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن أمة أبي ولد على فراشه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هو لك يا عبد بن زمعة. الولد للفراش، وللعاهر الحجر» .
فموضع الدليل: أن عبد بن زمعة قال: ولد على فراشه. فلم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كون الأمة فراشا، بل ألحق بأبيه الولد. والظاهر أنه ألحقه به وبالنسب الذي ادعى به، ولم يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هل ولدت له قبل ذلك، أم لا؟ ولو كان الحكم يختلف بذلك.. لسأل عنه.
وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (ما بال رجال يطؤون ولائدهم، ثم يعزلونهن - وروي: ثم يرسلونهن - ما تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها.. إلا ألحقت به ولدها، فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا) . وروي: (أمسكوهن بعد أو أرسلوهن) . ولا مخالف له في الصحابة، فدل على: أنه إجماع.
ولأنه معنى يثبت به تحريم المصاهرة، فجاز أن يثبت به الفراش، كعقد النكاح.

(10/442)


[فرع: أقر بوطء أمته]
] : وإن أتت أمته بولد، وأقر: أنه كان يطؤها، إلا أنه كان يعزل عنها.. لحقه الولد؛ لما روى أبو سعيد الخدري: «أن قوما قالوا: يا رسول الله، إنا نصيب السبايا، ونحب الأثمان، أفنعزل عنهن؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله إذا قضى خلق نسمة.. خلقها» . ولأن أحكام الوطء تتعلق بالإيلاج دون الإنزال، ولأنه قد يسبق منه من الماء ما لا يحسن به.. فتعلق به.
وإن أقر: أنه كان يطؤها دون الفرج، أو أنه كان يطؤها في دبرها.. فهل يلحقه ولدها؟ فيه وجهان، كما قلنا فيمن وطئ امرأته كذلك وأتت بولد.. هل له نفيه باللعان؟

[فرع: صارت فراشا وأتت بولد]
] : إذا صارت الأمة فراشا له بإقراره بوطئها، أو بالبينة على وطئها، ثم أتت بولد لمدة الحمل من وقت الوطء، فنفاه، وادعى: أنه استبرأها بعد الوطء، وأن هذا الولد حدث من غيره بعد الاستبراء، فحلف عليه.. فقد قال الشافعي هاهنا: (لا يلحقه) . وقال في المطلقة ثلاثا، إذا أقرت بانقضاء عدتها بالأقراء، ثم أتت بولد يمكن أن يكون منه: (لحقه) .
وجعل أبو العباس المسألتين على قولين.
وقال أكثر أصحابنا: يلحقه ولد الزوجة، قولا واحدا، وقد مضى الدليل عليه، ولا يلحقه ولد الأمة، قولا واحدا.
والفرق بينهما: أن ولد الزوجة يلحقه بالإمكان، وولد الأمة لا يلحقه بالإمكان، وإنما يلحقه بالوطء، وإذا استبرأها.. بطل حكم الوطء، وبقي الإمكان، وولدها لا يلحقه بالإمكان.

(10/443)


وإذا أراد نفي ولد أمته عنه.. فالمنصوص: (أن له أن ينفيه بغير لعان) .
وحكي عن أحمد بن حنبل: أنه قال: (أما ترون إلى أبي عبد الله يقول: إن ولد الأمة ينفى باللعان؟!) . واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: أراد أحمد بقوله: (أبي عبد الله) الشافعي، وأنه قال: (ينفي ولده من أمته باللعان) . وجعل المسألة على قولين:
أحدهما: ينفى عنه باللعان؛ لأنه ولد لم يرض به، فكان له نفيه باللعان، كولد زوجته.
والثاني: ليس له نفيه باللعان؛ لأنه يمكنه نفيه بدعوى الاستبراء، فلا حاجة به إلى اللعان، وكل موضع ليس به حاجة إلى اللعان.. لم يكن له أن يلاعن، كقذف الأجنبية، ويخالف الزوجة، فإنه لا يمكنه نفي ولدها إلا باللعان.
ومن أصحابنا من قال: ليس له نفيه باللعان، قولا واحدا؛ لما ذكرناه، وقول أحمد: (أبي عبد الله) لم يرد به الشافعي، بل يحتمل أنه أراد به: مالك بن أنس، أو أبا عبد الله سفيان الثوري، فلا يضاف ذلك إلى الشافعي بالشك.
ومنهم من قال: بل أراد أحمد بذلك الشافعي، وإنما لم يرد به: أن الشافعي يقول: إن الرجل ينفي ولد أمته باللعان، وإنما أراد: أن الشافعي يقول: (إذا تزوج الرجل أمة، وأتت بولد.. فإن له أن ينفيه باللعان) . وأحمد يقول: (ليس له نفيه باللعان) فيكون ذلك بيانا لمذهبه.

[مسألة: قذفها ولم تطالبه بحد ثم قذفها بآخر]
] : إذا قذف زوجته، فلم تطالبه بحدها، ولم يقم عليها البينة، ولا لاعنها، ثم قذفها بزنا آخر، وأراد اللعان.. كفاه لعان واحد؛ لأنه يجب عليه حد واحد في أحد القولين، فكفاه لعان واحد.

(10/444)


ويجب عليه حدان في القول الثاني، إلا أن اللعان يمين، واليمين الواحدة تنفي الحقين لواحد وأكثر.
وإن قذف أربع زوجات له بكلمة واحدة أو كلمات، وأراد اللعان.. لاعن عن كل واحدة منهن لعانا؛ لأن اللعان يمين، والأيمان لجماعة لا تتداخل في الأموال، ففي اللعان أولى.
فعلى هذا: إن قذفهن بكلمة واحدة، وتشاحن في البداية.. أقرع بينهن؛ لأنه لا مزية لبعضهن على بعض، وإن بدأ بلعان واحدة منهن برضا البواقي أو بغير رضاهن.. صح لعانه؛ لأن كل واحدة منهن تصل إلى حقها منه.
وإن قذفهن بكلمات، وطلبت كل منهن الحد في وقت واحد، وأراد اللعان.. بدأ بلعان من قذفها أولا؛ لأن حقها أسبق، ثم بالتي قذفها بعدها، ثم بالتي بعدها إلى أن يلاعن جميعهن.
فإن لاعن أولا من قذفها آخرا.. صح؛ لأن المقذوفة قبلها تصل إلى حقها منه. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قذف أربع نسوة. فهل يلاعن عنهن مرة واحدة، أو أربع مرات؟ فيه وجهان.
وبالله التوفيق.

(10/445)


[باب من يصح لعانه وكيف اللعان وما يوجبه من الأحكام]
يصح اللعان من كل زوجين مكلفين، سواء كانا مسلمين أو كافرين، أو أحدهما مسلما والآخر كافرا، وسواء كانا حرين أو مملوكين، أو أحدهما حرا والآخر مملوكا، وسواء كانا محدودين أو غير محدودين، وبه قال ابن المسيب، وسليمان بن يسار، والحسن البصري، وربيعة، ومالك، وأحمد، والليث.
وقال الزهري، والثوري، وحماد بن أبي سليمان، وأبو حنيفة: (لا يصح اللعان إلا بين زوجين حرين مسلمين غير محدودين في قذف، ويصح اللعان بين الفاسقين) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] . وهذا عام يتناول جميع ما ذكرناه.
ولأنه يمين بالله تعالى، فصح من جميع من ذكرناه، كسائر الأيمان. يؤيده قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا الأيمان.. لكان لي ولها شأن» .
ولا يصح اللعان من الصبي والمجنون؛ لأنه قول يوجب الفرقة، فلم يصح منهما، كالطلاق.

[مسألة: إشارة الأخرس كنطقه في النكاح وغيره]
] : وأما الأخرس: فإن لم يكن له إشارة مفهومة ولا يحسن يكتب.. فلا يصح نكاحه، ولا بيعه، ولا شراؤه، ولا قذفه، ولا لعانه؛ لأنه في معنى المجنون.
وإن كانت له إشارة مفهومة، أو يحسن يكتب.. فحكمه حكم الناطق، ويصح بيعه، وشراؤه، ونكاحه، وطلاقه، وقذفه، ولعانه.

(10/446)


وقال أبو حنيفة: (يصح نكاحه وطلاقه، ولا يصح قذفه ولعانه) .
دليلنا: أنه يصح نكاحه وطلاقه، فصح قذفه ولعانه، كالناطق. ولأنه يصح يمينه في غير اللعان، فصح في اللعان كالناطق.
وأما الزوجة إذا كانت خرساء: فإن كانت لها إشارة مفهومة، أو كانت تحسن تكتب، فقذفها الزوج.. فهي كالناطقة في لعانها.
وإن لم يكن لها إشارة مفهومة، ولا تحسن تكتب، فقذفها الزوج، فإن كانت حائلا.. لم يكن للزوج أن يلاعنها؛ لأنه لا يلاعنها حتى تطالبه بحدها، ولا يصح منها المطالبة، وإن كانت حاملا.. فله أن يلاعنها لينفي عنه النسب.

[فرع: نفي الأخرس اللعان بالكلام بعد إثباته بإشارته]
] : وإن لاعن الأخرس بالإشارة المفهومة، ثم زال خرسه، فتكلم، فقال: ما قصدت اللعان بما أشرت.. لم يقبل قوله فيما له؛ وهو عود الزوجة، ويقبل فيما عليه، فيطالب بالحد، ويلحقه الولد.
فإن قال: أنا ألاعن لنفي الحد والنسب.. كان له ذلك؛ لأن ذلك إنما لزمه لإقراره: أنه لم يلاعن، فكان له أن يلاعن.
فأما إذا أنكر القذف واللعان معا: لم يقبل قوله في القذف؛ لأنه قد تعلق به حق الغير بحكم الظاهر، فلا يقبل إنكاره له.

[فرع: اعتقل لسانه بعد قذفه]
] : وإن قذف امرأته، ثم مرض واعتقل لسانه، فإن قال طبيبان عدلان من أطباء المسلمين: إن هذا لا يزول.. كان كالأخرس، وإن قالا: إنه يزول.. ففيه وجهان:

(10/447)


أحدهما: لا يصح لعانه إلا بالنطق؛ لأن هذا يزول، فهو كالساكت.
والثاني: أنه كالأخرس؛ لما روي: (أن أمامة بنت أبي العاص أصمتت - أي: اعتقل لسانها - فقيل لها: لفلان عليك كذا، ولفلان كذا، فأشارت - أي: نعم - فرفع ذلك إلى الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فرأوا أن ذلك وصية) ، ولأنه عاجز عن النطق، فهو كالأخرس.

[مسألة: اللعان بالعجمية]
كالعربية] : وأي الزوجين كان أعجميا، فإن كان يحسن العربية.. فهل يصح لعانه بالعجمية؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يصح؛ لأنه يمين، فصح بالعجمية مع القدرة على العربية، كسائر الأيمان.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره -: أنه لا يصح؛ لأن القرآن ورد بألفاظ اللعان، فلا يصح منه بغيرها مع القدرة عليها.
وإن كان لا يحسن العربية.. لاعن بلسانه؛ لأنه ليس بأكبر من أذكار الصلاة، وأذكار الصلاة تصح بالعربية، وبالعجمية إذا لم يحسن العربية.
فإن كان الحاكم يعرف لسانهما.. لم يحتج إلى مترجم، والمستحب: أن يحضر أربعة يحسنون لسانهما. وإن كان الحاكم لا يعرف لسانهما.. فلا بد أن يحضر من يعرف لسانهما. واختلف أصحابنا في عددهم:
فمنهم من قال: يكفي اثنان، كالأيمان في غير اللعان، والمستحب: أن يكونوا أربعة.
ومنهم من قال: يبنى على القولين في الإقرار بالزنا، فإن قلنا: يقبل فيه

(10/448)


شاهدان.. أجزأ في الترجمة اثنان، وإن قلنا: لا يثبت إلا بأربعة.. لم يقبل في الترجمة إلا أربعة؛ لأنه قول يثبت به حد الزنا، فأشبه الإقرار.
قال ابن الصباغ: والأول أصح؛ لأن اللعان لا يتضمن الإقرار بالزنا. فإن أقرت.. فعلى القولين. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (يكفي مترجم واحد) .
دليلنا: أنهما يثبتان قولا يحكم به الحاكم، فكان العدد شرطا فيه، كسائر الشهادات.

[مسألة: يشترط للعان حضور الإمام أو الحاكم]
] : ولا يصح اللعان إلا بحضرة الإمام أو الحاكم؛ لأنها يمين، فلم تصح إلا بحضرة الحاكم، كاليمين في سائر الدعاوي.
ولأن من الناس من لا يجيز لعان الذمي والعبد والمحدود، فكان موضع اجتهاد، فافتقر إلى الحاكم، كفسخ النكاح بالعيب.
ولا يصح حتى يستدعي الحاكم اللعان، فيقول للزوج: قل: أشهد بالله؛ لما روي: «أن ركانة بن عبد يزيد قال: يا رسول الله، إني طلقت امرأتي سهيمة البتة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما أردت بالبتة؟ "، قال ركانة: والله ما أردت به إلا واحدة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " والله ما أردت به إلا واحدة؟ "، قال ركانة: والله ما أردت به إلا واحدة» . فلما حلف ركانة من غير أن يستدعيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمين.. لم يكتف

(10/449)


بذلك منه، بل استدعى منه اليمين ثانيا، فدل على: أنها لا تصح من غير استدعاء.
فإن حكم الزوجان رجلا يصلح للحكم يلاعن بينهما، فلاعن بينهما.. فهل يصح ذلك؟ فيه وجهان، يأتي بيانهما في موضعه.
وإن زوج الرجل عبده أمته، فقذف العبد الأمة.. فللسيد أن يلاعن بينهما؛ لأنه يملك إقامة الحد عليهما، فملك اللعان بينهما، كالحاكم.

[مسألة: كيفية الملاعنة]
] : واللعان: أن يقول الحاكم للزوج أربع مرات: قل: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان من الزنا، ويرفع في نسبها؛ حتى لا تشاركها امرأة له أخرى إن كانت غائبة، وإن كانت حاضرة.. قال: فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان هذه، ويشير إليها، وهل يشترط أن يجمع بين ذكر نسبها وبين الإشارة إليها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يشترط أن يجمع بينهما؛ لأن اللعان مبني على التأكيد والتغليظ، فوجب الجمع بينهما.
والثاني: لا يشترط الجمع بينهما، بل يكفي أن يقول: زوجتي هذه؛ لأن التمييز يحصل بذلك، كما يكفي في النكاح أن يقول الولي: زوجتك هذه، ويقول الزوج: هذه طالق.
فإن كان هناك ولد أو حمل يريد الزوج نفيه عنه باللعان.. قال في كل مرة: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة ابنة فلان من الزنا، وأن هذا الحمل، أو هذا الولد من الزنا، وليس مني.
وإن قال: وأن هذا الولد ليس مني، ولم يقل: وأنه من الزنا.. لم ينتف عنه؛ لأنه يحتمل أن يريد: ليس مني خلقا أو خلقا.

(10/450)


وإن قال: وأن هذا الولد من الزنا، ولم يقل: وليس مني.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول القاضي أبي حامد -: أنه ينتفي عنه؛ لأن ولد الزنا لا يكون منه.
والثاني: لا ينتفي عنه؛ لجواز أن يعتقد أن الوطء في النكاح بلا ولي زنا - على قول الصيرفي - وقد ينكح بلا ولي ويطؤها فيه، وذلك ليس بزنا، فوجب أن يقول: وليس مني؛ لينفي الاحتمال.
وإن قذفها بزنيتين.. ذكرهما في كل مرة. وإن قذفها برجل بعينه.. ذكره في كل شهادة.
فإذا شهد الزوج بذلك أربع مرات.. فالمستحب: أن يوقفه الحاكم، ويعظه، ويقول له: إني أخاف إن لم تكن صادقا أن تبوء بلعنة الله، اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن الخامسة موجبة عليك العذاب. ويأمر رجلا يضع يده على فيه، فإن أبى.. قال له الحاكم: قل: وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي فلانة ابنة فلان من الزنا، وأن هذا الولد من زنا، وليس مني، ثم تقوم الزوجة، ويقول لها الحاكم أربع مرات: قولي: أشهد بالله إن زوجي فلان ابن فلان لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، إن كان زوجها غائبا. قال ابن الصباغ: وإن كان حاضرا.. أشارت إليه، وهل تحتاج إلى نسبه والإشارة إليه؟ على الوجهين.
ولا تحتاج المرأة إلى ذكر الولد في لعانها؛ لأنه لا حق لها فيه.
فإذا شهدت بذلك أربع مرات.. وقفها الحاكم، ووعظها، كما قلنا في الزوج، وقال لها: اتقي الله؛ فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن الخامسة موجبة

(10/451)


عليك الغضب. ويأمر امرأة تضع يدها على فيها، فإن أبت.. قال لها الخامسة: قولي: وعلي غضب الله إن كان زوجي فلان بن فلان من الصادقين فيما رماني به من الزنا.
والدليل على هذا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6] الآية [النور: 6] .
وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما لاعن بين هلال بن أمية وامرأته.. قال له: " يا هلال، قم فاشهد "، فلما شهد أربعا.. قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اتق الله يا هلال، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإنها موجبة عليك العذاب» .
وفي بعض الأخبار: «أنه وضع يده على فيه، فقال هلال: والله، لن يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها، فشهد الخامسة. ولما شهدت المرأة أربعا.. قال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ". قال: فتلكأت ساعة، ونكصت، حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: والله لا فضحت قومي، فشهدت الخامسة» .
فإن أخل أحدهما بأحد هذه الألفاظ الخمسة.. لم يتعلق بلعانه حكم ما علق عليه، سواء حكم به حاكم أو لم يحكم به.
وقال أبو حنيفة: (إذا شهد أحدهما مرتين، وأتى باللعنة في الثالثة، وحكم الحاكم بالفرقة بذلك، ونفى النسب.. فقد أخطأ، ونفذ حكمه) .
دليلنا: أن الله تعالى علق الحكم بهذه الألفاظ الخمسة.

(10/452)


وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين العجلاني وامرأته، فقال له: " قم فاشهد أربعا "، وذكر اللعن في الخامسة، ثم قال لها: " قومي فاشهدي أربعا "، وذكر الغضب في الخامسة، ثم فرق بينهما.
وإذا علق الحكم على عدد.. لا يتعلق بما دونه، كالشهادة في الزنا.

[فرع: تعيين لفظ أشهد في اللعان]
فرع: [تعيين لفظ أشهد] : إذا قال أحدهما مكان قوله: أشهد بالله: أحلف بالله، أو أقسم بالله، أو أولي بالله.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأن الله تعالى نص فيه على لفظ الشهادة، فإذا عدل عنه إلى غيره لم يجزه، كما لو نقص العدد المنصوص عليه.
والثاني: يجزئه؛ لأن اللعان يمين، والحلف والقسم والإيلاء صريح في اليمين، والشهادة كناية فيه، فلما جاز بالكناية.. فلأن يجوز بالصريح أولى.
وإن أبدل الرجل مكان اللعنة الإبعاد، بأن قال في الخامسة: وعلي إبعاد الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي فلانة ابنة فلان من الزنا.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ترك المنصوص عليه.
والثاني: يجوز؛ لأن معنى الجميع واحد.
فإن أبدل اللعنة بالغضب.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ترك المنصوص عليه.
والثاني: يجوز؛ لأن في الغضب معنى اللعن وزيادة؛ لأن اللعنة: هي الإبعاد

(10/453)


والإقصاء، وفي الغضب هذا وأكثر منه، ولأنه قد يكون مبعدا ولا يكون مغضوبا عليه، ولا يكون مغضوبا عليه إلا ويكون مبعدا.
وإن أبدلت المرأة لفظ الغضب بالسخط.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنها تركت النص.
والثاني: يجوز؛ لأن معنى الجميع واحد.
وإن أبدلت لفظ الغضب باللعنة.. فقال الشيخ أبو حامد: لا يعتد به بلا خلاف بين أصحابنا؛ لأنها عدلت عن المنصوص عليه إلى ما أخف منه، على ما مضى.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه يجوز. وليس بمشهور.
وإن قدم الرجل اللعنة على الأربع الشهادات، أو أتى به في أثنائها، أو قدمت المرأة الغضب على الأربع الشهادات، أو أتت به في أثنائها.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن المقصود التغليظ والتأكيد بهذه الألفاظ، وقد أتى به وإن قدم بعضه على بعض.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه خالف نص القرآن؛ لأنه يقول في الخامسة: وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين، أي: فيما شهدت به، فيجب أن يكون ذلك متأخرا عن الشهادة.

[مسألة: فيما يستحب في وقت اللعان]
] : وإن أراد الحاكم أن يلاعن بينهما.. فالمستحب: أن يغلظ اللعان بإحضار جماعة من الرجال، وأقلهم أربعة؛ لأن الزنا يثبت بشهادتهم.
وقال أبو حنيفة: (لا يستحب التغليظ بذلك) .
دليلنا: أن من روى اللعان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة: سهل بن سعد، وابن عمر، وابن عباس. وكل هؤلاء أحداث لا يحضرون المجالس إلا تبعا لغيرهم. وقد روي عن سهل: أنه قال: (حضرته وكان لي خمس عشرة سنة وحضرته مع الناس) .

(10/454)


ولأن الله تعالى قال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] [النور: 2] .
واللعان سبب للحد، فلما كان حضور الناس مشروعا في المسبب - وهو: الحد - فكذلك في السبب - وهو: اللعان - لأنه إذا لم يلاعن.. حد، وإذا لاعن.. حدت إن لم تلاعن.
والمستحب: أن يغلظ الحاكم اللعان بالوقت، وهو: أن يجعله بعد العصر.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : ويكون ذلك يوم الجمعة؛ لأنه أفضل الأزمنة.
وقال أبو حنيفة: (لا يستحب ذلك) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] [المائدة: 106] . قال أهل التفسير: هو بعد صلاة العصر، فدل على: أن للزمان تأثيرا في اليمين.
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: رجل حلف بعد صلاة العصر يمينا فاجرة ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل حلف على يمين بعد صلاة العصر لقد أعطي بسلعته أكثر مما

(10/455)


أعطي وهو كاذب، ورجل منع فضل ماء، فإن الله تعالى يقول: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمله يداك» .
ويستحب أن يشهد الرجل وهو قائم؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «قم يا هلال فاشهد» ، ولأنه أبلغ في الردع.
فإن لم يقدر على القيام.. لاعن وهو جالس أو مضطجع؛ لأنه ليس بأكبر من الصلاة، والصلاة يجوز فيها ترك القيام للعجز عنه.. فاللعان بذلك أولى.
وتكون المرأة قاعدة حال لعان الزوج؛ لأنه لا حاجة إلى قيامها حال لعان الزوج، فإذا أرادت أن تشهد.. قامت؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرأة: «قومي فاشهدي» .

[فرع: فيما يستحب بمكان اللعان]
] : ويغلظ عليهما بالمكان، كما يغلظ بالزمان، وهل يستحب، أو يجب؟ فيه قولان:
أحدهما: يستحب، كما قلنا بالتغليظ بالزمان.
والثاني: يجب؛ لأن الله ذكر اللعان ولم يبين موضعه، فلما لاعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما في المسجد على المنبر.. علم أن ذلك بيان لما أجمله الله في كتابه. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال القفال: هل يجب التغليظ بالزمان؟ فيه قولان، كالمكان.

(10/456)


ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: هل يجب التغليظ بحضور الجماعة؟ فيه قولان، كالمكان. والمشهور هو الأول. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (لا يستحب التغليظ بالمكان ولا يجب) .
دليلنا: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بينهما على المنبر) . فثبت أن للمكان تأثيرا في اللعان.
إذا ثبت هذا: فإن المكان - الذي قلنا: يستحب اللعان فيه، أو يجب - هو أن يلاعنها في أشرف موضع في البلد الذي فيه اللعان.
فإن كان بمكة.. لاعن بينهما بين الركن والمقام؛ لما روي: (أن عبد الرحمن بن عوف مر بقوم وهم يحلفون رجلا بين الركن والمقام، فقال: أعلى دم؟ فقالوا: لا، قال: أفعلى عظيم من المال؟ فقالوا: لا، فقال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام) . وروي: (بهذا البيت) . يقال: تهاون بالشي: إذا استخف بحرمته.
وإن كان بالمدينة.. لاعن بينهما في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أشرف البقاع بها، وهل يكون على المنبر؟ اختلفت الرواة فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

(10/457)


فروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف عند منبري هذا بيمين آثمة، ولو بسواك من رطب.. وجبت له النار» .
وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على منبري هذا بيمين آثمة.. تبوأ مقعده من النار» .
واختلف فيها نص الشافعي:
فقال في موضع: (يلاعن على المنبر) .
وقال في موضع آخر: (يلاعن عند المنبر) . واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: هي على اختلاف حالين:
فإن كان الخلق في المسجد كثيرا؛ بحيث لو لاعن تحت المنبر لم يبلغهم.. فإنه يلاعن على المنبر.

(10/458)


والموضع الذي قال: (عند المنبر) أراد: إذا كان الخلق في المسجد قليلا يبلغهم لعانه إذا كان تحت المنبر.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يلاعن على المنبر بحال؛ لأن الصعود على المنبر علو وشرف، واللعان للردع والنكال، وليس في موضع العلو والشرف. وحمل الخبر والنص في قوله: (على المنبر) على أنه أراد به: عند المنبر؛ لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لو جاز أن يقال: لا يكون على المنبر؛ لأنه علو وشرف.. لوجب أن يقال: إنه لا يلاعن أيضا عند المنبر؛ لهذا المعنى.
وإن كان اللعان في بيت المقدس.. لاعن بينهما عند الصخرة؛ لأنه أشرف البقاع به.
وإن كانت في غير ذلك من البلاد.. لاعن بينهما في جوامعها.
قال ابن الصباغ: ولا يختص بذلك المنبر؛ لأنه لا مزية لبعض المنابر على بعض، ويخالف المدينة؛ فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» .
وإن كانت المرأة حائضا.. لم يحل لها دخول المسجد؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض» . وتكون قائمة على باب المسجد، فإذا شهد الزوج.. بعث إليها الحاكم جماعة لتشهد على باب المسجد، وإن قام إليها.. فلا بأس بذلك.

(10/459)


[فرع: ملاعنة الكافرين]
] : وإن كان اللعان بين زوجين كافرين لهما دين.. لاعن بينهما في الموضع الذي يعظمونه؛ فإن كانا يهوديين.. لاعن بينهما في الكنيسة، وإن كانا نصرانيين.. لاعن بينهما في البيعة، وإن كانا مجوسيين.. لاعن بينهما في بيت النار؛ لأنهم يعظمون هذه المواضع كما يعظم المسلمون المساجد.
واللعان يراد للردع، وقد يرتدع الإنسان في الموضع الشريف عنده عن المعصية؛ لهيبة الموضع وخوف تعجيل العقوبة، وهذه المواضع شريفة عندهم، فكانت موضع لعانهم، كالمساجد للمسلمين.
فإن قيل: فإذا حضر الحاكم معهما في هذه المواضع.. فقد شاركهما بالمعصية في تعظيمها؟!
فالجواب: أن المعصية إنما تحصل بتعظيم هذه المواضع، والحاكم لا يعظمها، وإنما يدخلها ليلاعن بينهما، ولا معصية في دخولها.
وإن كانا مشركين لا دين لهما، كعبدة الأوثان، والزنادقة، وتحاكما إلينا.. فإن الحاكم يلاعن بينهما حيث كان جالسا للحكم، إما في داره، أو في مجلسه.
وإن كان في المسجد.. لاعن بينهما؛ لأنهما لا يعتقدان شرف موضع، بل البقاع عندهم سواء. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : يدخل المسجد ويلاعن بينهما فيه؛ رجاء أن يلحقه شؤمه؛ فإن اليمين الغموس تذر الديار بلاقع.

(10/460)


وإن كانت الذمية تحت مسلم، ولاعن بينهما.. فإن المسلم يلاعن في المسجد، ويوجه الحاكم المرأة إلى الموضع الذي تعظمه، فتلاعن فيه.
قال الشافعي: (فإن سألت المشركة أن تحضر في المسجد.. حضرت، إلا أنها لا تدخل المسجد الحرام) .
وقال الشيخ أبو حامد: أراد بذلك: أن الذمية إذا كانت تحت مسلم، وأرادت أن تلاعن زوجها في المسجد.. جاز لها ذلك في جميع المساجد إلا المسجد الحرام. وإنما يكون ذلك إذا رضي الزوج به، فأما إذا طلب الزوج أن تلاعن هي في الموضع الذي تعظمه.. كان له ذلك.
وقال القاضي أبو الطيب: بل أراد الشافعي: إذا كانا كافرين، وأرادت المرأة أن تلاعنه في المسجد.. كان لها؛ لأن التغليظ عليه بالمكان الذي يعظمه حق لها، فإذا رضيت بإسقاطه.. كان لها ذلك.
ولا بد أن يشترط رضاه في لعانها في المسجد أيضا؛ لأن التغليظ عليها بالمكان حق له أيضا. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (يجوز للمشرك أن يدخل كل المساجد) .
وقال مالك: (لا يجوز للمشرك دخول مسجد من المساجد بحال) .

(10/461)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] [التوبة: 28] . فنطق الآية دليل على أبي حنيفة، ودليل خطابها دليل على مالك.

[مسألة: من يبدأ الحاكم بملاعنته]
؟] : ويبدأ بلعان الزوج، فإذا التعنت المرأة قبل لعان الزوج، أو قبل أن يكمل لعانه.. لم يعتد بلعانها.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يعتد به) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] [النور: 6] . فبدأ بلعان الزوج، ثم قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8] [النور: 8] . و (العذاب) : هو الحد عليها، وإنما يجب ذلك عليها بلعان الزوج؛ لأن اللعان عندنا يمين، وعند أبي حنيفة شهادة، وأيهما كان.. فقد أتت بلعانها قبل وقته، فلم يعتد به، ألا ترى أن رجلا لو ادعى على رجل حقا، فقال المدعى عليه: والله، ما لك عندي شيء.. لم يعتد بها؟ وهكذا: لو شهد له بذلك شاهدان قبل أن يسألا الشهادة.. لم يعتد بهذه الشهادة، فكذلك هذا مثله.
فإن حكم حاكم بتقديم لعانها.. فحكى الشيخ أبو حامد: أن الشافعي قال: (نقض حكمه) .

[مسألة: الأحكام التي تتعلق باللعان]
] : وإذا لاعن الرجل امرأته.. تعلق بلعانه ستة أحكام:
أحدها: سقوط حد القذف عنه، وبه قال عمر وعثمان وابن مسعود وعثمان البتي.

(10/462)


وقال أبو حنيفة: (لا يجب على الزوج حد القذف لزوجته، ولا يكون لعانه مسقطا لذلك) .
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " البينة، وإلا.. حد في ظهرك "، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت آية اللعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] [النور: 6] . فسري عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: " أبشر يا هلال، قد جعل الله لك فرجا ومخرجا "، فقال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي تعالى» .

[فرع: القذف برجل معين]
] : وإن قذفها بالزنا برجل بعينه.. فقد وجب عليه حدان: حد لها، وحد للمقذوف.
فإذا التعن، وذكر الزاني في اللعان.. سقط عنه الحدان.
وقال أبو حنيفة: (إذا قذفها برجل بعينه.. وجب له عليه حد القذف، ولم يجب لها عليه حد، وإنما يجب عليه لها اللعان، فإن طلبت الزوجة اللعان، فلاعنها.. حد بعد ذلك للأجنبي، وإن طلب الأجنبي أن يحد له أولا.. حد له، ولا يلاعن زوجته) ؛ لأن المحدود لا يلاعن عنده، فخالف في ثلاثة مواضع:
أحدها: أنه لا يجب على الزوج حد القذف بقذف زوجته.
الثاني: أن المحدود بالقذف لا يلاعن، وقد مضى الدليل عليه في ذلك.
الثالث: أنه إذا قذف زوجته برجل معين، وسماه في اللعان.. سقط عنه ما وجب عليه له من حد القذف عندنا، وعنده لا يسقط.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] .
فجعل الله تعالى موجب القذف للزوجة اللعان، ولم يفرق بين أن يقذفها برجل معين أو غير معين.
ولأن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، ولاعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، ولم

(10/463)


يوجب النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - على هلال بقذفه لشريك بن سحماء شيئا، فدل على أنه سقط باللعان.
فإن قالوا: كان شريك بن سحماء يهوديا، فلا يجب الحد بقذفه؟
قلنا: وإن كان يهوديا، فإنه يجب التعزير بقذفه، والحد والتعزير في الوجوب والسقوط واحد.
وإن لاعنها، ولم يذكر الزاني بها في اللعان.. ففيه قولان:
أحدهما: يسقط عنه حد القذف؛ لأن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، ولم ينقل أنه ذكره في اللعان، ولم يوجه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلى شريك أن له التعزير عند هلال، فدل على: أن ذلك يسقط باللعان، ولأنه رماهما بزنا واحد، فإذا ثبت صدقه في جهتها.. ثبت في جهته؛ لأنه لا يتبعض.
والثاني: لا يسقط عنه، وهو الأصح؛ لأنه حد يسقط باللعان، فكان من شرط سقوطه ذكره في اللعان، كحد المرأة. وأما الخبر: فإنما لم يعزره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن الظاهر أنه قد بلغ شريك بن سحماء.
فعلى هذا: إذا أراد أن يسقط حده.. أعاد اللعان، وذكر الزوجة والزاني بها.
وإن رماها بالزنا برجل بعينه، ولم يقم عليهما البينة، ولم يلاعن، فجاءا وطلبا أن يحد لهما.. فكم يحد لهما؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يحد لهما حدين.
والثاني: يحد لهما حدا واحدا، كما قلنا فيمن قال لرجلين: زنيتما.
ومنهم من قال: يحد لهما حدا واحدا، قولا واحدا؛ لأنه رماهما بزنا واحد، بخلاف ما لو قال لاثنين: زنيتما.. فإنه قذف كل واحد منهما بزنا.
فأما إذا جاءت الزوجة وحدها، فطالبت بحدها، فحد لها، ثم جاء الرجل

(10/464)


المرمي، فطالب بحده، فإن قلنا في التي قبلها: يجب لكل واحد منهما حد.. فإنه يحد له ثانيا، وإن قلنا: يجب لهما حد واحد.. لم يحد له؛ لأنه قد استوفى منه.
وإن عفت المرأة عن حدها، وطالب المقذوف بحده.. حد له؛ لأنهما حقان لآدميين، فلم يسقط حق أحدهما حق الآخر، كالديون.
وإن اعترفت المرأة: أن الرجل المرمي بها زنى بها.. سقط عن الزوج حد القذف لها، ووجب عليها حد القذف للرجل؛ لأنها قذفته. وكذلك يجب على الزوج حد القذف له أيضا؛ لأنه قذفه.
الحكم الثاني المتعلق بلعان الزوج: أنه يجب على الزوجة حد الزنا بلعان الزوج.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وعثمان البتي: (لا يجب عليها الحد) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] .
فموضع الدليل منها قوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} [النور: 8] [النور: 8] . و (العذاب) هاهنا: هو الحد.
ولأن لعان الزوج كالبينة في سقوط حد قذفها عنه، فكان كالبينة في إيجاب حد الزنا عليها.
ولها أن تسقط ما وجب عليها من حد الزنا بلعان الزوج بلعانها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} [النور: 8] الآية [النور: 8] .
وإن كان الزوج قد قذفها برجل بعينه، وذكره في اللعان.. لم يجب على المقذوف حد الزنا بذلك؛ لأنه لا يصح منه إسقاط ذلك باللعان، فلم يجب عليه حد القذف باللعان.
الحكم الثالث: إن كان هناك حمل أو ولد منفصل، ونفاه الزوج باللعان.. انتفى عنه، ولحق بالمرأة.

(10/465)


وقال عثمان البتي: لا ينتفي عنه.
دليلنا: ما «روى ابن عباس: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين هلال بن أمية وامرأته، وفرق بينهما، وقضى: أن لا يدعى الولد لأب، وأنها لا ترمى ولا ولدها، فمن رماها أو ولدها.. فعليه الحد» .
فإن لم يذكر الزوج الولد في اللعان، وأراد نفيه.. أعاد اللعان وذكره؛ لأنه لم ينفه باللعان الأول، فإن عارضته المرأة باللعان.. فإنها لا تذكر الولد في لعانها؛ لأنه لا سبيل لها إلى إثبات النسب ولا إلى نفيه.
قال الطبري: وكل موضع كان المقصود من اللعان نفي الولد لا غير، هل تعارضه المرأة باللعان؟ فيه وجهان.
الحكم الرابع: إذا لاعنها وهي زوجة له.. وقعت الفرقة بينهما بفراغه من اللعان.
وقال عثمان البتي: لا يقع باللعان فرقة.
وقال أبو حنيفة: (لا تقع الفرقة باللعان، وإنما يفرق الحاكم بينهما إذا فرغ الزوج من اللعان، فلو طلقها الزوج بعد اللعان وقبل أن يفرق الحاكم بينهما.. وقع الطلاق؛ لما «روى ابن عمر: (أن رجلا لاعن امرأته في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ففرق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما» . وفي «رواية ابن عباس: (أن هلال بن أمية لاعن امرأته، ففرق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما» . فلو وقعت الفرقة بينهما باللعان.. لما افتقر إلى الفرقة بينهما. وروي: «أن العجلاني لما لاعن زوجته عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. قال: إن أمسكتها.. فقد كذبت عليها، هي طالق ثلاثا، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا سبيل لك عليها» ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله: (إن أمسكتها) ، ولا طلاقه) .

(10/466)


دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا» .
فأخبر أن المتلاعنين لا يجتمعان، وأن الفرقة وقعت بينهما باللعان.
ولأنها فرقة متجردة عن عوض لا تنفرد به المرأة، فوجب أن يقع بقول الزوج وحده، كالطلاق.
فقولنا: (متجردة عن عوض) احتراز من الخلع.
وقولنا: (لا تنفرد به المرأة) احتراز من الفسخ بالعنة والإعسار بالنفقة.
وأما الجواب عن رواية ابن عمر، وابن عباس: فهذه قضية في عين لا يمكن ادعاء العموم فيها، فيحتمل أنه أراد: فرق بينهما في الزوجية، ويحتمل أنه فرق بين أبدانهما. وخبرنا: هو قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ظاهر لا احتمال فيه.
وأما الجواب عن خبر العجلاني: فإن معنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا سبيل لك عليها "، أي: إلى الإمساك والطلاق؛ لأنها قد بانت منه باللعان؛ لأن العجلاني ظن أن الفرقة لم تقع باللعان، فلذلك طلقها؛ ولهذا لما قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا سبيل لك عليها ".. قال: أين مالي؟ أي: إذا لم يكن لي إمساكها ولا طلاقها.. فأين الذي أعطيتها؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن كنت صادقا.. فبما استحللت من فرجها " - يعني: أنك دخلت بها - وإن كنت كاذبا.. فأبعد "، يعني: أنك دخلت بها، وكذبت عليها.
الحكم الخامس: أن الفرقة باللعان فسخ، ويقع به التحريم مؤبدا.
وقال مالك، وربيعة، وداود: (لا يقع زوال الفراش والتحريم إلا بلعانهما جميعا) .
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (الفرقة الواقعة باللعان طلقة ثانية، ولا يتأبد التحريم) .

(10/467)


دليلنا: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا» .
فموضع الدليل منه على مالك: أن هذا يقتضي في حال تلاعنهما، كما يقال: متضاربان، في حال تضاربهما، فأما بعد فراغهما من اللعان.. فإنما يقال: كانا متلاعنين، وهذا لا يكون إلا على ما قلناه.
وموضع الدليل منه على أبي حنيفة: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " لا يجتمعان أبدا ". وهذا نص.
وفي «رواية ابن عباس: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين هلال بن أمية وامرأته، وفرق بينهما، وقضى: أن لا بيت لها ولا قوت؛ من أجل أنهما يفترقان لا عن طلاق ولا عن وفاة» . وإذا ثبت أنه ليس بطلاق ولا عن وفاة.. كان فسخا.

[فرع: قذف الزوجة المبانة ونفي الولد بلعان]
فرع: [في قذف الزوجة المبانة ونفي الولد بلعان] : وإن تزوج امرأة وأبانها، ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال الزوجية، وكان هناك نسب، فلاعن لنفيه، أو تزوج امرأة تزويجا فاسدا، وأتت بولد منه يمكن أن يكون منه، فلاعن لنفيه.. فهل تحرم عليه المرأة على التأبيد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تحرم؛ لأن التحريم يتعلق بفرقة اللعان، ولم يقع بهذا اللعان فرقة، فلم يقع به تحريم مؤبد.
والثاني: تحرم على التأبيد، وهو الأصح؛ لأن كل سبب أوجب تحريما مؤبدا إذا صادف الزوجية.. أوجبه وإن لم يصادف زوجية، كالرضاع.
فقولنا: (تحريما مؤبدا) احتراز من الطلاق. ولأن اللعان قد صح فتعلقت به أحكامه، وهذا من أحكامه.

(10/468)


وإن تزوجها وقذفها، ولم يكن هناك نسب نفاه باللعان، فلاعنها لإسقاط الحد، ثم بان أن النكاح كان فاسدا.. قال القاضي أبو الطيب: لم تحرم، وجها واحدا؛ لأنا تبينا أن اللعان كان فاسدا؛ لأن اللعان لا يثبت في النكاح الفاسد إلا لنفي الولد، فإذا لم يكن هناك ولد.. تبينا أن اللعان كان فاسدا، فلم يتعلق به التحريم.

[فرع: اشتراها بعد تزوجها وأتت بولد]
] : وإن تزوج الرجل أمة، ثم اشتراها وأقر بوطئها بعد الشراء، ثم أتت بولد، فإن أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء، ولستة أشهر فصاعدا من وقت النكاح.. لحقه الولد من جهة النكاح، فإن أراد نفيه باللعان.. كان له نفيه، وإذا نفاه باللعان.. انتفى عنه، وهل يحرم عليه وطء الأمة على التأبيد، أو يحل له وطؤها بملك اليمين؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال ابن الحداد: لا يحرم عليه على التأبيد.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يحرم عليه على التأبيد. وهو الأصح.
ووجههما: ما ذكرناه في التي قبلها.
وإن أتت به لستة أشهر فما زاد من وقت الوطء بعد الشراء.. لحقه الولد. فإن ادعى: أنه استبرأها بعد الوطء بحيضة، ولم يطأها بعده.. فالمنصوص: (أنه يحلف على ذلك، وينتفي عنه من غير لعان) .
وقال أبو العباس: وفيه قول آخر: أنه يلاعن لنفيه. وليس بصحيح.
وإن لم يدع الاستبراء، ولكن قال: هذا الولد ليس مني.. ففيه قولان، حكاهما القاضي أبو الطيب.
أحدهما: أنه يلاعن لنفيه، كما يلاعن لنفي الولد من النكاح.

(10/469)


والثاني وهو المشهور: أنه لا يلاعن لنفيه؛ لأنه يمكنه نفيه بدعوى الاستبراء، ويحلف عليه.
فإذا قلنا: يلاعن، فلاعن لنفيه.. فهل يحرم عليه وطء الأمة على التأبيد؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
الحكم السادس المتعلق بلعان الزوج: أنه يسقط إحصانها في حق الزوج، فإن قذفها الزوج.. لم يجب عليه الحد بقذفها؛ لأن اللعان في حقه كالبينة، وإن قذفها أجنبي.. فهل يسقط إحصانها في حقه؟ فيه وجهان.
فإن عارضته باللعان.. قال ابن الصباغ: عاد إحصانها في حق الجميع، وقد مضى ذلك.

[مسألة: في إكذابه نفسه يعود عليه الحد ويلحق به النسب]
] : وإذا لاعن الزوج، ثم أكذب نفسه.. عاد كل حق عليه؛ وهو: وجوب حد القذف عليه، ولحوق النسب الذي نفاه به، وعادت حصانتها في حقه. ولا يعود كل حق له؛ وهو: عود الزوجية، وارتفاع التحريم على التأبيد.
وبه قال عمر، وعثمان، وابن مسعود، والأوزاعي، ومالك، والثوري، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة ومحمد: (يرتفع التحريم المؤبد إذا أكذب نفسه، أو إذا حد في قذف) . ووافقنا: أن الزوجية لا تعود، وإنما يجوز له ابتداء عقد النكاح عليها.
وقال سعيد بن المسيب: إذا أكذب نفسه عادت الزوجية.
دليلنا: ما روى ابن عباس، وابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا» . وهذا نص، ولم يفرق.

(10/470)


وروي «عن سهل بن سعد الساعدي: أنه قال: (فرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين المتلاعنين، ثم جرت السنة أن لا يجتمعا أبدا» . وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإن نفى باللعان نسب ولد، فمات الولد، ثم أكذب الزوج نفسه.. لحقه نسب الولد الميت سواء خلف الميت ولدا أو لم يخلف، وسواء كان موسرا أو معسرا.
وقال أبو حنيفة: (إن خلف الميت ولدا ذكرا، أو أنثى.. صح رجوعه، ويثبت نسب الولد منه، وإن لم يخلف الميت ولدا.. لم يصح رجوعه؛ لأنه متهم في الرجوع ليرث) .
دليلنا: أنه اعترف بنسب كان نفاه باللعان، فلحقه، كما لو كان المنفي حيا، أو كما لو خلف ولدا.

[فرع: في قذفها واعترافها بعد اللعان]
] : وإن قذف الرجل امرأته بالزنا، فاعترفت بزناها.. نظرت:
فإن أقرت به بعد لعان الزوج.. فإن إقرارها بالزنا لا ينفع؛ لأن جميع أحكام اللعان قد تعلقت بلعان الزوج، ولا يكون لها إسقاط ما وجب عليها من حد الزنا بلعانها؛ لأنها قد أقرت بالزنا.
وإن أقرت بالزنا قبل أن يلاعن الزوج.. وجب عليها حد الزنا، ولا يجب على الزوج لها حد القذف.

(10/471)


وإن لم يكن هناك نسب.. فليس للزوج أن يلاعن؛ لأن اللعان لدرء حد القذف أو لنفي النسب، وليس هناك واحد منهما.
وإن كان هناك نسب.. فللزوج أن يلاعن لنفيه، فإذا لاعن لنفيه.. فهل تقع الفرقة المؤبدة بينه وبين الزوجة؟ على الوجهين فيمن لاعنها البينونة، وقد مضى ذكرهما. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إن كان هناك نسب.. لحقه، وليس له نفيه باللعان، ولا يجب عليها حد الزنا) . وهذا بناء على أصلين:
أحدهما: أن حد الزنا لا يثبت عنده بالإقرار به مرة، وإنما يثبت عنده إذا أقربه أربع مرات في أربع مجالس.
والثاني: أن النسب لا ينتفي عنده إلا بلعانهما وحكم الحاكم، واللعان لا يصح منها؛ لأنها اعترفت بالزنا، فلا تلاعن على ما اعترفت به، ولا يصح أن يحكم الحاكم بنفيه عنه.
وحكي عن أبي حنيفة: أنه قال: (إن كانت المرأة عفيفة وكذبته.. كان له أن ينفي عنه ولدها، وإن كانت فاجرة وصدقته.. لم يكن له أن ينفي ولدها) .
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] . ولم يفرق بين أن تقر الزوجة أو لا تقر.
ولأنه محتاج إلى القذف، وتحقيقه باللعان لنفي النسب، فكان له ذلك، كما لو لم تقر الزوجة.

[مسألة: قذفها ثم مات قبل الملاعنة]
] : إذا قذف الرجل زوجته، فمات الزوج قبل أن يلاعن، أو قبل أن يكمل اللعان.. فقد سقط عنه الحد بموته؛ لأنه اختص ببدنه وقد مات، ورثته الزوجة؛ لأن الفرقة لا تقع إلا بلعانه، ولم يوجد.

(10/472)


وإن كان هناك ولد أراد نفيه.. لم ينتف عنه وورثه؛ لأنه مات قبل أن ينفيه.
فإن أراد باقي الورثة أن يلاعنوا لنفيه.. لم يكن لهم ذلك؛ لأنه مشارك لهم في الظاهر بالميراث، فإن قلنا: لهم أن ينفوه.. كان له أن ينفيهم، وهذا متناقض.
وليس للمرأة أن تلاعن؛ لأنها إنما تلاعن لدرء الحد عنها، والحد إنما يجب عليها بلعان الزوج، ولم يوجد.
وإن مات الزوج بعد لعانه وقبل لعانها.. كان لها أن تلاعن لإسقاط الحد عنها؛ لأن ذلك قد وجب عليها بلعانه، فكان لها إسقاطه، كما لو كان حيا.
وإن قذف زوجته، فماتت الزوجة قبل أن يلاعن الزوج، أو قبل أن يكمل لعانه.. ورثها الزوج؛ لأنها ماتت وهي زوجته، فورثها.
فإن كان هناك ولد منها يريد نفيه.. كان له أن يلاعن لنفيه؛ لأن الحاجة داعية إلى اللعان لنفيه عنه.
وإن لم يكن هناك ولد منها يريد نفيه، فإن كان لها وارث، فطالبه بحد القذف.. كان له أن يلاعن لدرء الحد عنه؛ لأن الحاجة داعية إلى درء الحد عنه بذلك.
فإن كان لم يأت بشيء من ألفاظ اللعان في حياتها.. استأنف اللعان، وإن كان قد أتى بشيء من ألفاظ اللعان في حياتها.. قال الشيخ أبو حامد: فإن تطاول الزمان.. استأنف اللعان، وإن لم يتطاول الزمان.. بنى على اللعان الأول، وتممه.
وإن لم يكن لها وارث غير الزوج، فإن كان ابن عم لها أو مولى.. لم يكن له أن يلاعن؛ لأنه لا حاجة به إلى اللعان.
ومن أصحابنا من قال: له أن يلاعن ليسقط الحد عن نفسه. والأول أصح.
وإن لم يكن لها وارث من غير المسلمين.. كان له أن يلاعن ليسقط الحد عن نفسه.
فإن قيل: هو من المسلمين، وهو وارثها؟

(10/473)


فالجواب: أن حد القذف يجب لبعض الورثة، ولا يسقط بسقوط بعضه، ولهذا: لو عفا بعض الورثة عن حقه منه.. ثبت الجميع لمن لم يعف.
وإذا لاعن بعد موتها.. فإن ميراثه لا يسقط عنها بذلك؛ لأن الفرقة لم تقع به.

[فرع: قذفها ونفى ولدها فمات ابنها قبل ملاعنتها]
] : وإن قذف امرأته وانتفى من ولدها، فمات الولد قبل أن يلاعن الأب لنفيه، أو قبل أن يكمل اللعان.. فله أن يلاعن بعد موته.
وقال أبو حنيفة: (ليس له أن يلاعن لنفي الولد بعد موته؛ لأنه لا حاجة به إلى نفيه بعد الموت) .
دليلنا: أن الحاجة تدعو إلى نفيه بعد موته، كما تدعو إلى نفيه في حياته؛ لأنه يلحقه نسبه بعد موته، كما يلحقه في حياته؛ لأنه يقال: هذا قبر ابن فلان، كما يقال في حياته: هذا ابن فلان، فكان له نفي النسب الفاسد عنه؛ لئلا يعير به، ولأنه قد يكون غائبا، فتأتي امرأته بولد، ويبلغ ذلك الولد، ويولد له ولد، ثم يموت، ويقدم الغائب، فيحتاج إلى نفي أولاد ذلك الولد، كما كان يحتاج إلى نفي الولد في حياته، ولا ينتفي عنه أولاد الولد إلا بنفي الولد.
وإن أتت امرأته بولدين توأمين، فقال: ما هما مني، وأراد نفيهما باللعان، فمات أحدهما قبل اللعان أو قبل إكماله.. فله أن ينفيهما معا باللعان، فإن نفى أحدهما، وأقر بالآخر، أو ترك نفيه.. لحقاه؛ لأنهما من حمل واحد، فإذا أقر بأحدهما.. لحقه نسبه ونسب الآخر.
وقال أبو حنيفة: (ليس له أن يلاعن بعد موت أحدهما؛ لأن الميت عنده لا ينفى باللعان، ولا يجوز له أن ينفي الحي؛ لأنهما من حمل واحد) . وبنى هذا على أصله: أن الميت لا ينفى باللعان، وقد مضى الدليل عليه.
وإذا نفى نسب الولد الميت باللعان.. لم يرثه؛ لأنا تبينا أنه ليس بولد له، فلم يرثه.

(10/474)


[مسألة: قذفها وباشر اللعان ولم يتمه]
] : وإن قذف زوجته، وابتدأ باللعان، ثم امتنع من إتمامه.. حد لها حد القذف؛ لأن الحد وجب عليه لها بالقذف، وإنما يسقط عنه باللعان، فإذا لم يكمله.. وجب عليه الحد، كما لو أقام عليها بالزنا بينة غير كاملة.
وإن قذفها، ولم يلاعن، فجلد بعض الحد، فقال: أنا ألاعن.. كان له ذلك، فإذا لاعن.. سقط عنه بقية الحد؛ لأن اللعان حجة في حق الزوج لإسقاط الحد عنه، كما أن البينة حجة لإسقاط الحد عن الأجنبي.
ولو قذفها أجنبي، فحد بعض الحد، ثم قال: أنا أقيم البينة، وأقامها.. سقط عنه باقي الحد، كذلك هذا مثله.
وإن قذفها الزوج ولاعن، فامتنعت من اللعان، فحدت بعض الحد، ثم قالت: أنا ألاعن.. كان لها ذلك، فإذا لاعنت.. سقط عنها بقية الحد؛ لأن ما أسقط جميع الحد.. أسقط بعضه، كالبينة.

[فرع: قذفها فحد، ثم تزوجها]
] : وإن قذف رجل امرأة أجنبية بالزنا، فحد لها، ثم تزوجها، ثم قذفها.. نظرت:
فإن قذفها بذلك الزنا الأول.. لم يجب عليه الحد بقذفها؛ لأنه قد حد فيه.
وإن قذفها بزنا آخر أضافه إلى ما قبل الزوجية.. وجب عليه الحد، فإن لم يكن هناك ولد.. لم يلاعن لدرء الحد؛ لأنه قذف غير محتاج إليه، وإن كان هناك ولد.. كان له أن يلاعن لنفيه.
وإن قذفها بزنا آخر أضافه إلى حال الزوجية.. وجب عليه الحد، وله أن يلاعن، سواء كان هناك ولد أو لم يكن.

(10/475)


وأما إذا لم يقم عليه الحد بقذفه لها قبل الزوجية، ولم يقم عليها البينة، ثم قذفها بعد أن تزوجها.. قال القاضي أبو الطيب: فإن قذفها بذلك الزنا الأول.. وجب عليه حد واحد ويتداخل، كما إذا زنى، ثم زنى قبل أن يقام عليه الحد للزنا الأول.. فإنه يجب عليه حد واحد، فإن قذفها بزنا آخر منسوب إلى حال الزوجية.. وجب عليه حدان؛ لأنهما يختلفان؛ لأن أحدهما يسقط باللعان، والآخر لا يسقط باللعان، فلم يتداخلا، فيقام عليه الحد للقذف الأول، وأما الثاني: فإن لاعنها لأجله، وإلا.. حد له أيضا.
وإن قذفها وهي زوجة، فلم يحد لها، ولم تعف حتى فارقها، ثم قذفها بعد الفراق بذلك الزنا، أو بزنا آخر أضافه إلى حال الزوجية.. قال ابن الحداد: وجب عليه حد آخر للقذف الثاني، ولا يتداخلان؛ لأن الأول يسقط باللعان، والثاني لا يسقط باللعان، فلم يتداخلا، فإن التعن للأول.. حد للثاني، وإن لم يلتعن للأول.. حد للأول، وحد للثاني بعد أن يبرأ ظهره من ألم الأول.

[فرع: قذفها ثم أعتق فطالبته بالحد]
] : وإن قذف العبد امرأته، ثم أعتق وطالبته بحد قذفها.. فله أن يلاعن، وإن لم يلاعن.. حد حد العبد؛ اعتبارا بحال الوجوب عليه.
وهكذا: لو قذف زوجته الأمة، ثم أعتقت، فطالبته بالتعزيز، فلاعن ولم تلاعن هي.. حدت هي حد الأمة؛ اعتبارا بحال الوجوب.
وهكذا: إن قذف زوجته وهي بكر، ولم تلاعن حتى طلقها، ونكحت زوجا غيره، وأصابها الثاني، وطالبت الأول بحد القذف، فلاعنها ولم تلاعن هي.. وجب عليها حد البكر لا حد المحصنة؛ اعتبارا بحال الوجوب عليها.
وإن تزوج رجل امرأة بكرا، فقذفها بالزنا، ثم فارقها قبل أن تطالبه بحد القذف، وتزوجت بآخر، ثم قذفها الثاني بالزنا.. كان لها مطالبتهما بحد القذف،

(10/476)


فإذا طالبتهما.. كان لكل واحد منهما درء الحد عن نفسه باللعان؛ لأن كل واحد منهما قذفها وهي زوجته، فإن عارضتهما باللعان.. لم يجب على أحدهما حد، وإن لاعنها، ونكلت عن جوابهما باللعان.. نظرت:
فإن قذفها الأول وهي بكر، وقذفها الثاني وهي محصنة.. وجب عليها للأول حد بكر، وهو: جلد مائة، وتغريب عام، ووجب عليها للثاني حد محصنة، وهو: الرجم.
وعلى هذا يحمل ما روي «عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه جلد امرأة يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»
وإن كانت بكرا في حال قذفهما لها.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحداد: يجب عليها حدان؛ فتجلد للأول، ثم تترك حتى يبرأ ظهرها، ثم تجلد للثاني؛ لأن اللعان بينة يختص بها الزوج، فلا يتعدى إلى غيره، فيجب الأول بلعان الأول، والثاني بلعان الثاني.

(10/477)


و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يجب عليها حد واحد، كما إذا ثبت عليها ذلك بالبينة.

[فرع: قذفها بعد الردة والعدة ثم لاعنها]
] : إذا تزوج امرأة ودخل بها، ثم ارتدا، وقذفها في حال الردة والعدة، ولاعنها لدرء الحد.. قال ابن الحداد: ينظر فيه:
فإن رجع إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها.. تبينا أن القذف واللعان صادفا الزوجية، وصح اللعان.
وإن لم يرجع إلى الإسلام حتى انقضت عدتها.. تبينا أن القذف واللعان صادقا البينونة، ولم يصح اللعان، كما قلنا فيمن طلق امرأته ثلاثا في حال الردة.
ومن أصحابنا من قال: لا يصح اللعان؛ لأنه يمين، فلم يصح أن تكون موقوفة؛ لأنه لا يصح تعلقها بالشرط، فلم يصح وقفها، بخلاف الطلاق.
قال القاضي أبو الطيب: والأول أصح.

[مسألة: ادعت أن زوجها قذفها فأنكر فأقامت بينة]
] : إذا ادعت المرأة على زوجها: أنه قذفها بالزنا، فأنكر، فأقامت بينة: أنه قذفها، فإن قال: أنا ألاعن.. جاز له ذلك. واختلف أصحابنا لم جاز له أن يلاعن؟
فمنهم من قال: إنما جاز له أن يلاعن؛ لأنه لم يكذب البينة؛ لأنها شهدت عليه: أنه قذفها، وهو يقول: ما قذفت؛ لأني قلت لها: يا زانية، وليس ذلك بقذف، بل هو صدق، و (القذف) : ما تردد بين الصدق والكذب.
فأما إذا قال: ما قلت لها: يا زانية، وشهدت البينة: أنه قال ذلك.. لم يكن له أن يلاعن؛ لأنه مكذب لها.

(10/478)


ومنهم من قال: له أن يلاعن؛ لأنه لا يكذب نفسه، وأما البينة: فهو مكذب لها؛ لأن البينة تشهد: أنه قذف، وهو يقول: ما قذفت، وما رماها به.. فهو حرام إلى أن يحقق باللعان، وإنما لا يجوز له أن يلاعن، أن لو قال: ما زنت، ثم قال: ألاعن.. لم يكن له ذلك؛ لأنه قد كذب نفسه، وهذا التعليل هو المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

[فرع: اختلفا بوقت اللعان قبل الزواج أو بعده]
] : وإن اختلف الزوجان: فقالت الزوجة: قذفتني قبل أن تتزوج بي، فلي عليك حد لا يسقط باللعان، وقال الزوج: بل قذفتك بعد أن تزوجت بك، ولي إسقاط الحد باللعان.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأنهما لو اختلفا في أصل القذف.. كان القول قوله مع يمينه، فكذلك إذا اختلفا في وقته.
وهكذا إن قال: قذفتك قبل وقوع الفرقة. وقالت: بل قذفتني بعد وقوع الفرقة، فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لما ذكرناه.
وإن قالت: قذفتني وأنا أجنبية منك ولا نكاح بيننا، وقال: بل قذفتك وأنت زوجتي.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم النكاح بينهما، إلا إن أقام الزوج بينة على النكاح.. فيكون القول قوله مع يمينه على وقت القذف.
وهكذا لو قذف رجل أجنبية فقال: قذفتك وأنت مرتدة، وقالت: ما كنت مرتدة.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم الردة، فإن أقام بينة على ردتها.. فالقول قوله مع يمينه: أنه قذفها في حال ردتها؛ لأنهما لو اختلفا في أصل القذف.. لكان القول قوله، فكذلك إذا اختلفا في وقته.
والله أعلم

(10/479)