البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الأيمان] [باب من تصح يمينه وما تصح به اليمين]

(10/481)


كتاب الأيمان باب من تصح يمينه وما تصح به اليمين الأصل في انعقاد اليمين: الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] ، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} [آل عمران: 77]

(10/483)


الآية [آل عمران: 77] .
وأما السنة: فروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والله لأغزون قريشا، والله لأغزون قريشا، والله لأغزون قريشا "، ثم قال: " إن شاء الله " ثلاثا» .
وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان كثيرا ما يحلف: لا ومقلب القلوب»

(10/484)


وأجمعت الأمة على انعقاد اليمين
إذا ثبت هذا فإن اليمين تنعقد من كل بالغ عاقل مختار قاصد إلى اليمين.
فأما الصبي والمجنون والنائم فلا تصح يمينه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» .
وهل تنعقد يمين السكران؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما في الطلاق.
ولا تنعقد يمين المكره؛ لما روى أبو أمامة: أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «ليس على مقهور يمين» .
وأما (لغو اليمين) : فلا ينعقد، وهو: الذي يسبق لسانه إلى الحلف بالله من غير أن يقصد اليمين، أو قصد أن يحلف بالله: لا أفعل كذا، فسبق لسانه وحلف بالله: ليفعلنه، وسواء في ذلك الماضي والمستقبل.

(10/485)


وقال أبو حنيفة: (لغو اليمين هو: الحلف على الماضي من غير أن يقصد الكذب، وكأنه ظن شيئا على صفة، فحلف عليه: أنه كذلك، فبان خلافه) .
وقال مالك: (لغو اليمين هي: اليمين الغموس) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] [البقرة: 225] .
وروي عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (لغو اليمين: هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله) .
ولأن " اللغو " في اللغة: هو الكلام الذي لا يقصد إليه، وهذا لا يكون إلا فيما قلناه.
فإن حلف على فعل شيء، ثم قال: لم أقصد إليه.. نظرت:
فإن كانت اليمين بالله.. قبل قوله - لأنه أعلم بنيته - قال ابن الصباغ: إلا أن يكون الحلف على ترك وطء زوجته.. فلا يقبل قوله؛ لأنه يتعلق به حق آدمي.
وكذلك: إذا حلف بالطلاق، أو العتاق، وادعى: أنه لم يقصد إلى ذلك.. لم يقبل قوله منه؛ لأنه يتعلق به حق الآدمي، والظاهر أنه قصد إلى ذلك، بخلاف اليمين بالله، فإن الحق فيها مقدر فيما بينه وبين الله تعالى، وهو أعلم بما قصده.
وتنعقد يمين الكافر؛ لأنه مكلف قاصد إلى اليمين، فانعقدت يمينه، كالمسلم.

[مسألة: تنعقد اليمين على الماضي والمستقبل]
] : وتنعقد اليمين على الماضي والمستقبل.
فأما الماضي: فعلى ضربين.

(10/486)


أحدهما: أن يحلف أنه فعل أمرا، أو لم يفعله، وهو صادق، فلا كفارة عليه؛ لأن اليمين على المدعى عليه، ولا يجوز أن يجعل عليه اليمين إلا وهو صادق.
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال وهو على المنبر: يا أيها الناس، لا تمنعكم اليمين من حقوقكم، فوالذي نفسي بيده! إن في يدي عصا) .
فإن كانت هذه اليمين عند الحاكم.. فالأولى أن لا يحلفها؛ لما روي: (أن المقداد استقرض من عثمان مالا، فتحاكما إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فقال المقداد: هو أربعة آلاف، وقال عثمان: إنه سبعة آلاف، فقال المقداد لعثمان: احلف: أنه سبعة آلاف، فقال عمر: إنه أنصفك، فلم يحلف عثمان، فلما ولى المقداد.. قال عثمان: والله لقد أقرضته سبعة آلاف، فقال له عمر: لم لم تحلف؟ فقال: خشيت أن يوافق قدر بلاء، فيقال: بيمينه) .
والضرب الثاني: أن يحلف على ماض وهو كاذب؛ مثل أن يحلف أنه قد فعل كذا، ولم يفعله، أو أنه لم يفعل كذا، وقد فعله، فإن نسي عند اليمين أنه كان قد فعل أو لم يفعل.. فهل تجب عليه الكفارة؟ فيه قولان، يأتي بيانهما في موضعهما، وإن كان ذاكرا عند اليمين أنه قد كان فعل أو لم يفعل، وقصد إلى اليمين.. فهي اليمين الغموس، ويأثم بذلك؛ لما روى الشعبي، عن ابن عمر: «أن أعرابيا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: " الإشراك بالله "، قال: ثم ماذا؟ قال: " عقوق الوالدين "، قال: ثم ماذا؟ قال: " اليمين الغموس» . قيل للشعبي: وما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع بها مال امرئ، وهو فيها كاذب) .

(10/487)


وروى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين وهو فيها فاجر؛ ليقتطع بها من مال امرئ مسلم.. لقي الله وهو عليه غضبان» .
وإن سميت: اليمين الغموس؛ لأنها تغمس من حلف بها في النار.
وتجب عليه الكفارة في اليمين الغموس، وبه قال عمر، وعطاء، والزهري، وعثمان البتي.
وقال مالك، والثوري، والليث، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق: (لا تجب بها الكفارة) .
وقال سعيد بن المسيب: هي من الكبائر أعظم من أن تكفر.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ} [المائدة: 89] الآية [المائدة: 89] . وهذا عام في الماضي والمستقبل.
ولأنه حلف بالله وهو مختار قاصد كاذب، فوجبت عليه الكفارة، كما لو حلف على مستقبل.

(10/488)


[مسألة: اليمين على المستقبل]
وأما اليمين على المستقبل: فتصح أيضا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والله لأغزون قريشا» .
إذا ثبت هذا: فإن اليمين على المستقبل تنقسم على خمسة أضرب:
أحدها: يمين عقدها طاعة، والمقام عليها طاعة، وحلها معصية، مثل: أن يحلف: ليصلين الصلوات الواجبة، أو لا يشرب الخمر، أو لا يزني. وإنما كان عقدها والإقامة عليها طاعة؛ لأنها قد تدعوه إلى المواظبة على فعل الواجب، ويخاف من الحنث بها الكفارة. وحلها معصية؛ لأن حلها إنما يكون بأن يمتنع من فعل الواجب، أو يفعل ما حرم عليه.
والضرب الثاني: يمين عقدها معصية، والإقامة عليها معصية، وحلها طاعة، مثل: أن يحلف: أن لا يفعل ما وجب عليه، أو ليفعلن ما حرم عليه.
والضرب الثالث: يمين عقدها طاعة، والإقامة عليها طاعة، وحلها مكروه، مثل: أن يحلف: ليصلين النوافل، وليصومن التطوع، وليتصدقن بصدقة التطوع.
والضرب الرابع: يمين عقدها مكروه، والإقامة عليها مكروهة، وحلها طاعة، مثل: أن يحلف: لا يفعل صلاة النافلة، ولا صوم التطوع، وصدقة التطوع. وإنما قلنا عقدها والمقام عليها مكروه؛ لأنه قد يمتنع من فعل البر خوف الحنث، وإنما كان حلها طاعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها.. فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» .

(10/489)


فإن قيل: فكيف يكون عقدها والمقام عليها مكروها، وقد «سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأعرابي الذي سأله عن الصلاة، فقال: هل علي غيرها؟ فقال: " لا، إلا أن تطوع "، فقال: والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص منه» ولم ينكر عليه؟
قلنا: يحتمل أنه لما حلف: أنه لا يزيد ولا ينقص.. تضمنت يمينه تركا لما هو معصية وما هو طاعة، وهو ترك النقصان عنها، فلذلك لم ينكره.
ويحتمل أن يكون لسانه سبقه إلى اليمين، وعلمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم ينكر عليه؛ لأنه لغو.
ويحتمل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينكر عليه؛ ليدل على أن ترك التطوع جائز وإن كانت اليمين مكروهة، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل المكروه - كالالتفات في الصلاة - ليدل على الجواز.
والضرب الخامس: يمين عقدها مباح، والمقام عليها مباح، واختلف أصحابنا في حلها، وذلك مثل: أن يحلف: لا دخلت هذه الدار، أو لا سلكت هذه الطريق. وإنما كان عقدها والمقام عليها مباحا؛ لأنه مباح له ترك دخول الدار، وترك سلوك الطريق، وهل حلها أفضل له، أو المقام عليها؟ فيه وجهان:

(10/490)


[الأول] : من أصحابنا من قال: المقام عليها أفضل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] [النحل: 91] .
و [الثاني] : منهم من قال: حلها أفضل؛ لأنه إذا أقام على اليمين.. منع نفسه من فعل ما أبيح له، واليمين لا تغير المحلوف عليه عن حكمه.
وإن حلف: لا يأكل الطعام اللين، ولا يلبس الثوب الناعم.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو اختيار الشيخ أبي حامد -: أن هذه يمين عقدها مكروه؛ والمقام عليها مكروه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] [الأعراف: 32] .
الثاني - وهو اختيار القاضي أبي الطيب -: أن هذه يمين عقدها طاعة والمقام عليها طاعة؛ لأن السلف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يقصدون ترك الطيب من الطعام؛ ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لو شئت أن يدهمق لي.. لفعلت، ولكن الله عاب قوما، فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] [الأحقاف: 20] ) . و (الدهمقة) : لين الطعام وطيبه.
وهو شبيه بحديثه الآخر: أنه قال: (لو شئت.. لدعوت بصلاء، وصناب، وصلائق، وكراكر، وأسنمة، وأفلاذ) ، و (الصلاء) : اللحم المشوي، و (الصناب) : الخردل بالزيت، و (الصلائق) : ما سلق من البقول وغيرها،

(10/491)


وتسمى: السلائق، بالسين، و (الكراكر) : الإبل، و (الأسنمة) : أسنمة الإبل. و (الأفلاذ) : قطع الكبد. هذا مذهبنا.
ومن الناس من قال: عقد اليمين مكروه بكل حال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] [البقرة: 224] .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والله لأغزون قريشا» ، وكان يحلف كثيرا، ولو كان مكروها.. لما كرر فعله.
وأما الآية: فتأويلها: أن يحلف على ترك البر والتقوى؛ كقوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} [النور: 22] الآية [النور: 22] .
إذا ثبت هذا: وحلف على شيء مما ذكرناه، وحنث.. وجبت عليه الكفارة.
ومن الناس من قال: إن كان الحنث طاعة.. لم تجب عليه الكفارة.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها.. فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» .

[مسألة: الحلف بغير أسمائه تعالى وصفاته]
مكروه] : قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: (ومن حلف على شيء بغير الله.. فهي يمين مكروهة) .

(10/492)


وجملة ذلك: أنه إذا حلف بغير الله؛ بأن حلف بأبيه، أو بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو بالكعبة، أو بأحد من الصحابة.. فلا يخلو من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يقصد بذلك قصد اليمين، ولا يعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده بالله تعالى، فهذا يكره له ذلك، ولا يكفر؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» .
وروي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدرك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو في ركب، وهو يحلف بأبيه، فقال له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا.. فليحلف بالله، أو ليسكت ". قال عمر: فما حلفت بها بعد ذلك ذاكرا ولا آثرا» .
فمعنى قوله: (ذاكرا) أذكره عن غيري.
ومعنى قوله: (آثرا) أي: حاكيا عن غيري، يقال: آثر الحديث: إذا رواه.
ولأنه يوهم في الظاهر التسوية بين المحلوف به وبين الله عز وجل، فكره.
القسم الثاني: أن يحلف بذلك، ويقصد قصد اليمين، ويعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله، فهذا يحكم بكفره؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:

(10/493)


«من حلف بغير الله.. فقد كفر» . وروي: " فقد أشرك ".
القسم الثالث: أن يجري ذلك على لسانه من غير قصد إلى الحلف به.. فلا يكره، بل يكون بمعنى لغو اليمين، وعلى هذا يحمل «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي الذي قال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أفلح وأبيه إن صدق» ، وكذا «قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في خبر أبي العشراء الدارمي: " وأبيك، لو طعنت في فخذها.. لأجزأك» .
فإن قيل: فقد ورد في القرآن أقسام كثيرة بغير الله؟
فالجواب: أن الله تعالى أقسم بمصنوعاته الدالة على قدرته تعظيما له تعالى لا لها.
إذا ثبت هذا: فإن حلف بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو بالكعبة، وحنث.. لم تلزمه كفارة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.

(10/494)


وقال أحمد: (إذا حلف بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحنث.. وجبت عليه الكفارة) .
دليلنا: أنه حلف بمخلوق، فلم تلزمه بالحنث به الكفارة، كما لو حلف بالكعبة.
وإن قال: إن فعلت كذا وكذا.. فأنا يهودي، أو نصراني، أو بريء من الله، أو من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو من الإسلام، أو مستحل للخمر، أو للميتة.. لم يكن يمينا، ولم تجب عليه الكفارة بالحنث به، وبه قال مالك، والأوزاعي، والليث.
وقال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وإسحاق: (هي يمين، وتجب عليه الكفارة بالحنث بها) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على أنه بريء من الإسلام، فإن كان كاذبا.. فهو كما قال - وروي: فقد قال - وإن كان صادقا.. فلن يرجع إلى الإسلام سالما» . ولم يذكر الكفارة.
ولأنه لو قال: والإسلام.. لم يكن حالفا؛ لأنه يمين بمحدث، فهو كاليمين بالكعبة، فلأن لا يكون يمينا إذا حلف أنه بريء من الإسلام أولى.

[مسألة: من حلف بالله وحنث فعليه الكفارة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (من حلف بالله، أو باسم من أسماء الله، فحنث.. فعليه الكفارة) .
وجملة ذلك: أن الحالف لا يخلو: إما أن يحلف باسم من أسماء الله، أو بصفة من صفاته.
فإن حلف باسم من أسماء الله.. فأسماء الله تعالى على ثلاثة أضرب:
أحدها: اسم الله، لا يشاركه فيه غيره، كقوله: والله، والرحمن، ومقلب

(10/495)


القلوب، والإله، وخالق الخلق، وبارئ النسمة، والحي الذي لا يموت، والذي نفسي بيده، والأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والواحد الذي ليس مثله شيء، وما أشبه ذلك.
فإذا حلف بشيء من ذلك وحنث.. لزمته الكفارة؛ لأن هذه الأسماء لا يسمى بها غير الله، فانصرفت إلى الله، سواء نوى اليمين أو أطلق. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هي يمين إذا نوى بها اليمين أو أطلق، فإذا نوى بها غير اليمين.. لم يصدق في الحكم، وهل يصدق فيما بينه وبين الله تعالى؟ فيه وجهان.
والضرب الثاني: أسماء الله التي يشاركه في التسمية بها غيره، إلا أن الإطلاق ينصرف إلى الله تعالى، كقوله: والخالق، والرازق، والبارئ، والرب، والرحيم، والرؤوف، والقادر، والقاهر، والمالك، والجبار، والمتكبر.

(10/496)


فإذا حلف بشيء من ذلك، فإن لم ينو بها غير الله.. كان يمينا؛ لأن إطلاق هذه الأسماء لا ينصرف إلا إلى الله، وإن نوى بها الله تعالى.. كان تأكيدا، وإن نوى بها غير الله.. لم تنعقد يمينه؛ لأنها قد تستعمل في غير الله تعالى مع التقييد؛ يقال: فلان خالق الكذب، قال الله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17] [العنكبوت: 17] ، وفلان يرزق فلانا: إذا كان ينفق عليه، قال الله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] [النساء: 8] ، وفلان بارئ العصا، وفلان رب فلان، أي: مالكه، قال الله تعالى: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} [يوسف: 50] [يوسف: 50] ، ويقال: فلان رحيم القلب، ورؤوف القلب، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله رحيم يحب الرحماء "، ويقال:

(10/497)


فلان قادر، وقاهر للعدو، ومالك للمال، وجبار متكبر.
والضرب الثالث: أسماء يسمى بها الله تعالى، ويسمى بها غيره، ولا ينصرف الإطلاق بها إلى الله، كقوله: والحي والموجود والعالم والمؤمن والكريم.
فإن حلف بشيء من ذلك.. اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو إسحاق: لا تنعقد يمينه إلا أن ينوي بها الله تعالى؛ لأن هذه الأسماء مشتركة بين الله وبين الخلق، وتستعمل في الجميع استعمالا واحدا؛ فلم تنصرف إلى الله من غير نية، كالكنايات في الطلاق.
وقال الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ وأكثر أصحابنا: لا يكون يمينا، سواء نوى بها الله تعالى أو أطلق؛ لأن اليمين إنما تنعقد إذا حلف باسم معظم له حرمة، وهذه الأسماء ليست بمعظمة، ولا حرمة لها؛ لاشتراك الخالق والمخلوق بها اشتراكا واحدا. وهكذا إذا حلف بالشيء والمتكلم..
وإن حلف بصفة من صفات الله تعالى.. نظرت:
فإن حلف بعظمة الله، أو بجلاله، أو بعزته، أو بكبريائه، أو ببقائه، أو بمشيئته، أو بإرادته، أو بكلامه، أو بالقرآن، أو بعلمه ولم ينو به المعلوم، أو بقدرته ولم ينو به المقدور.. انعقدت يمينه؛ لأن هذه صفات الذات لم يزل موصوفا بها، فصار كما لو حلف بالله. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هي يمين إذا نوى بها اليمين أو أطلق، وإن نوى

(10/498)


بها غير اليمين.. صدق فيما بينه وبين الله تعالى.. وهل يصدق في الحكم؟ على وجهين.
وإن نوى بالعلم المعلوم، وبالقدرة المقدور.. لم تكن يمينا؛ لأنه محدث؛ ولهذا يقال: انظروا إلى قدرة الله، أي: إلى مقدوره. ويقال: اللهم اغفر لنا علمك فينا، أي: معلومك فينا. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (إذا حلف بالعلم.. لم يكن يمينا، وإذا حلف بكلام الله أو بالقرآن.. لم يكن يمينا) . فمنهم من قال: لأن أبا حنيفة كان يقول: (القرآن مخلوق) .
ومنهم من قال: لم يكن يقول: القرآن مخلوق، وإنما لم تجر العادة بالحلف به.
دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القرآن كلام الله، وليس بمخلوق» . وإذا كان غير مخلوق.. كان صفة من صفات الذات، كعظمة الله، وجلاله.

(10/499)


قال الشافعي: (من قال إن القرآن مخلوق.. فقد كفر) .
وأما العلم: فلأنه صفة من صفات الذات، فهو كما لو حلف بعظمة الله وقدرته.
وإن قال: وحق الله، فإن نوى به العبادات.. لم يكن يمينا؛ لأنه حلف بمحدث، وإن نوى به ما يستحقه الله من الصفات، أو أطلق ذلك.. كان يمينا، وبه قال مالك وأحمد.
واختلف أصحابنا في علته:
فمنهم من قال: لأنها قد ثبت لها عرف الاستعمال وإن لم يثبت لها عرف الشرع، وما ثبت له أحد العرفين.. كان يمينا.
وقال أبو جعفر الأستراباذي: حق الله هو قرآن الله، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة: 51] [الحاقة: 51] ، يعني: القرآن، ولو حلف بالقرآن.. كان يمينا، سواء نوى اليمين، أو لم ينو أو أطلق، فكذلك هذا مثله. والأول أصح. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (لا يكون يمينا؛ لأن حقوق الله تعالى طاعته، وذلك محدث) .
ودليلنا: أن لله حقوقا يستحقها لنفسه، وحقوقا على غيره، فإذا اقترن عرف

(10/500)


الاستعمال في اليمين.. انصرف إلى ما يستحقه لنفسه من البقاء والعظمة وغير ذلك من الصفات، فصار كقوله: وعظمة الله.
قال الطبري في " العدة ": وإن حلف بصفة من صفات الله التي من صفات الفعل، كقوله: وخلق الله، ورزق الله.. لم يكن يمينا.

[مسألة: في قوله عهد الله وميثاقه وكفالته وأمانته]
] : إذا قال: علي عهد الله، وميثاقه، وكفالته، وأمانته، لا فعلت كذا، أو قال: وعهد الله، وميثاقه، وكفالته، وأمانته، لأفعلن كذا، فإن نوى به اليمين.. فهو يمين، وإن نوى به العبادات التي أخذ الله علينا العهد بأدائها.. لم يكن يمينا؛ لأنها محدثة، قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72] [الأحزاب: 72] . قيل في التفسير: هي الأعمال بالثواب.
فإن أطلق ذلك.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: هو يمين؛ لأن العادة قد جرت بالحلف بذلك، فانصرف إطلاقها إلى اليمين، كقوله: وعظمة الله.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه ليس بيمين) ؛ لأن ظاهر اللفظ ينصرف إلى ما وجب له على خلقه من العبادات، فلم تصر يمينا من غير نية، وتخالف العظمة؛ فإنها صفة ذاته.
إذا ثبت هذا: فقال: وعهد الله، وميثاقه، وكفالته، وأمانته، لأفعلن كذا، وأراد به يمينا.. كانت يمينا واحدة. وإذا حنث.. لزمته كفارة واحدة.
وقال مالك: (يجب لكل لفظة كفارة) .
دليلنا: أن الجمع بين هذه الألفاظ تأكيد لليمين، واليمين واحدة، فهو كقوله: والله الطالب، الغالب، المهلك، المدرك.

(10/501)


[فرع: في قوله علي يمين]
] : قال الطبري: لو قال: علي يمين.. فظاهر المذهب: أنه لا يكون يمينا.
وقال الإمام سهل: يحتمل وجهين.
وقال أبو حنيفة: (يكون يمينا استحسانا، والقياس: لا يلزمه) .
ودليلنا: أن قوله: (علي يمين) يحتمل الإخبار به، ويحتمل الإنشاء والابتداء، فلا يحمل على أحدهما.
وإن قال: أيمان البيعة لازمة لي لأفعلن كذا.. فإن البيعة كانت في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمصافحة، فلما ولي الحجاج.. رتبها على أيمان تشتمل على اسم الله، وعلى الطلاق، والعتاق، والحج، وصدقة المال.
قال ابن الصباغ: وإذا قال رجل: أيمان البيعة لازمة لي، فإن لم ينو الأيمان التي رتبها الحجاج.. لم يتعلق بقوله حكم، وإن أراد ذلك، فإن قال: أيمان البيعة لازمة لي بطلاقها وعتاقها.. فقد صرح بذكرها، ولا يحتاج إلى نية، وتنعقد يمينه بالطلاق والعتاق، وإن لم يصرح بذلك، ونوى أيمان البيعة التي فيها الطلاق والعتاق.. انعقدت يمينه بالطلاق والعتاق خاصة؛ لأن اليمين بها تنعقد بالكناية مع النية.
وظاهر قول ابن الصباغ أن يمينه لا تنعقد بالله تعالى؛ لأن اليمين بالله لا تنعقد بالكناية مع النية.

[مسألة: في قوله والله لأفعلن]
] : إذا قال: والله لأفعلن كذا.. كان ذلك يمينا إذا نوى بها اليمين أو أطلق؛ لأنه قد ثبت لها عرف الشرع؛ وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «والله لأغزون قريشا» ، وثبت لها عرف الاستعمال؛ لأن الناس هكذا يحلفون، فإن نوى بها غير اليمين.. لم يقبل. وقد مضى خلاف المسعودي [في " الإبانة "] فيها، وهذا هو المشهور.

(10/502)


وإن قال: بالله لأفعلن كذا - بالباء المعجمة بواحدة من تحت - فإن نوى بها اليمين أو أطلق.. كان يمينا؛ لأنه قد ثبت لها عرف الشرع، قال الله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} [التوبة: 74] [التوبة: 74] ، وثبت لها عرف اللغة؛ لأن أهل اللغة يقولون: الباء إنما هي أصل حروف القسم، وغيرها بدل عنها.
فإن صرفها بنيته عن اليمين؛ بأن نوى: بالله أستعين، أو أثق بالفعل الذي أشرت إليه، أو بالله أومن.. لم يكن يمينا؛ لأنه يحتمل ما نواه.
وإن قال: تالله لأفعلن كذا - بالتاء المعجمة باثنتين من فوق - فقد نص الشافعي في (الإيلاء) : (لو قال: تالله لا أصبتك.. كان موليا) . قال المزني: وقال الشافعي في (القسامة) : (إنها ليست بيمين) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هي يمين في القسامة وغيرها إذا نوى بها اليمين أو أطلقها؛ لأنه قد ثبت لها عرف الشرع؛ وهو قَوْله تَعَالَى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85] [يوسف: 85] ، وقَوْله تَعَالَى: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 91] [يوسف: 91] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] [الأنبياء: 57] ، وما حكاه المزني عن (القسامة) .. فهو تصحيف منه، وإنما قال الشافعي في (القسامة) : (إذا قال: يا الله.. لا يكون يمينا) ، وتعليله يدل على ذلك؛ لأنه قال: (لأنه دعاء) وأراد به الاستغاثة، بفتح اللام من اسم الله.
ومنهم من حملها على ظاهرها، فقال: إن كان في الإيلاء.. كان يمينا، وإن كان في القسامة.. لم يكن يمينا؛ لأن في القسامة أثبت لنفسه حقا، فلم يقنع منه إلا بصريح اليمين التي لا تحتمل، وفي الإيلاء يتعلق به حق غيره، فحمل اللفظ على ظاهره.

(10/503)


[فرع: الخطأ أو اللحن في صورة القسم]
] : وإن قال: والله لأفعلن كذا، أو والله لأفعلن - بضم اسم الله أو بنصبه - فقد قال أكثر أصحابنا: إن يمينه ينعقد، سواء تعمده أو لم يتعمده؛ لأنه لحن لا يحيل المعنى.
وقال القفال: إذا قال: والله لا فعلت كذا - بضم اسم الله - لم يكن يمينا، إلا أن ينوي به اليمين؛ لأنه ابتداء كلام، فإن نوى اليمين به.. كان يمينا؛ لأنه قد يخطئ في الإعراب، فيرفع مكان الخفض.
والمنصوص للشافعي في (القسامة) : هو الأول.
وإن قال: الله لأفعلن كذا - برفع اسم الله أو نصبه أو كسره - فإن أراد به اليمين.. فهو يمين؛ لما روي في «حديث ركانة، أنه قال: " الله - بالرفع - ما أردت إلا واحدة» .
وفي «حديث ابن مسعود لما أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قتل أبا جهل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " آلله إنك قتلته؟ "، فقال: آلله إني قتلته. بنصب اسم الله» .

(10/504)


وإن لم ينو به اليمين.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يمين؛ لأن حرف القسم قد يحذف، كما يحذف حرف النداء، ولا يتغير المعنى ولا الإعراب.
والثاني: أنها ليست بيمين، وهو المشهور؛ لأن العادة لم تجر بالحلف به، ولا يحلف به إلا خواص الناس، فلم يجعل يمينا من غير نية.

[مسألة: القسم بـ لعمر الله]
] : وإن قال: لعمر الله لأفعلن كذا، فإن نوى به اليمين.. كان يمينا؛ لأن معناه: بقاء الله وحياته. وقيل معناه: علم الله، وذلك صفة من صفات الذات. وإن نوى به غير اليمين، بأن نوى به حقوق الله.. لم يكن يمينا؛ لأن حقوق الله محدثة. وإن أطلق.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يمين، وهو اختيار أبي علي الطبري، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد؛ لأنه قد ثبت لها عرف الاستعمال في الشرع، قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] [الحجر: 72] ، وثبت لها عرف الاستعمال في اللغة، قال الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان

(10/505)


والثاني: أنه ليس بيمين، وهو المنصوص؛ لأنه ليس فيها حرف القسم، وإنما يكون يمينا بتقدير خبر محذوف؛ فكأنه قال: لعمر الله ما أقسم به، فكانت مجازا، والمجاز لا ينصرف إليه الإطلاق.
وأما الآية: فلم يرد [تعالى] : أنها يمين في حقنا، وإنما أقسم الله بها، وقد أقسم الله بأشياء كثيرة، وليست بقسم في حقنا.

[مسألة: القسم بـ وايم وأيمن]
] : وإن قال: وايم الله، أو وأيمن الله لأفعلن كذا، فإن نوى به اليمين.. فهو يمين؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في حق أسامة بن زيد: " وايم الله إنه لخليق بالإمارة» .
وإن لم يكن له نية.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يمين؛ لأنه قد ثبت له عرف الاستعمال في اللغة.
والثاني: أنه ليس بيمين؛ لأنه لا يعرفه إلا خواص الناس.

(10/506)


وقد اختلف في اشتقاقه: فقيل: هو مشتق من اليمين؛ وكأنه قال: ويمن الله. وقيل: هو مشتق من اليمين.
وإن قال: لاها الله، لأفعلن كذا، ونوى به اليمين.. كان يمينا؛ لما روي: «أن أبا بكر الصديق قال في سلب قتيل قتله أبو قتادة: لاها الله، إذن يعمد إلى أسد من أسد الله، يقاتل عن الله ورسوله، فيعطيك سلبه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صدق» .
وإن لم ينو به اليمين.. لم يكن يمينا؛ لأنه لم يجر به عرف عام في الاستعمال، وإنما يستعمله بعض الناس دون بعض.

[مسألة: أقسم مع التوكيد أو النفي]
] : وإن قال: أقسمت بالله لأفعلن كذا، أو أقسم بالله لا فعلت كذا، فإن نوى به اليمين، أو أطلق.. كان يمينا؛ لأن هذا اللفظ قد ثبت له عرف الاستعمال في الشرع،

(10/507)


قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] [الأنعام: 109] ، وقال تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 107] [المائدة: 107] .
فإن قال: لم أرد به اليمين، وإنما أردت بقولي: (أقسمت بالله) الخبر عن يمين ماضية، وبقولي: (أقسم بالله) الخبر عن يمين مستأنفة، فإن كان صادقا.. لم تلزمه كفارة بالمخالفة فيما بينه وبين الله، وأما في الحكم: فإن كان قد علم أنه تقدمت منه يمين في ذلك.. قبل قوله في قوله: (أقسمت بالله) قولا واحدا؛ لأنه يحتمل ما يدعيه، وهو أعلم بما أراد، ولا يجيء مثله في قوله: (أقسم) ، وإن لم يعلم منه يمين بالله في الماضي على ذلك.. فهل يقبل قوله في: (أقسمت) ، وفي قوله: (أقسم) ؟
قال الشافعي هاهنا: (يقبل منه) ، وقال في " الإملاء ": (لا يقبل منه) .
وهكذا قال في (الإيلاء) : (إذا قال: أقسمت بالله لا وطئتك، وقال: أردت به في زمان متقدم.. أنه لا يقبل) . واختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق:
فـ[أحدها] : منهم من قال: لا يقبل منه، قولا واحدا على ما نص عليه في " الإملاء "؛ لأن ما يدعيه خلاف الظاهر، وحيث قال الشافعي: (يقبل) أراد: فيما بينه وبين الله.
و [الطريق الثاني] : منهم من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين:
أحدهما: لا يقبل منه؛ لما ذكرناه.
والثاني: يقبل؛ لأن قوله: (أقسمت) يصلح للماضي حقيقة، وكذلك قوله: (أقسم) يصلح للمستقبل حقيقة، فإذا أراده.. قبل منه.
و [الطريق الثالث] : منهم من حملهما على ظاهرهما:
فحيث قال في " الإملاء ": (لا يقبل قوله) أراد بذلك على ما نص عليه في (الإيلاء) ؛ لأنه يتعلق به حق الزوجة، فلم يقبل قوله فيما يخالف الظاهر.

(10/508)


وحيث قال: (يقبل) أراد به في غير (الإيلاء) ؛ لأن الحق فيه مقدر فيما بينه وبين الله، فقبل قوله فيه. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قال: أقسم، أو أحلف باله، أو أقسمت، أو حلفت بالله، فإن نوى به اليمين.. فهو يمين. وإن لم ينو به اليمين.. فليس بيمين. وإن أطلق.. ففيه وجهان.

[مسألة: قوله أشهد بالله]
مسألة: [أشهد بالله] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن قال: أشهد بالله، فإن نوى به اليمين.. فهو يمين، وإن لم ينو.. لم يكن يمينا) .
وجملة ذلك: أنه إذا قال: أشهد بالله، أو شهدت بالله لأفعلن كذا، فإن نوى به اليمين.. كان يمينا؛ لأنه قد ثبت له عرف الاستعمال في الشرع، قال الله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] [النور: 6] ، وإن نوى بالشهادة توحيد الله.. لم يكن يمينا؛ لأنه قد ثبت له عرف الاستعمال في ذلك.
وإن أطلق ولم ينو شيئا.. فاختلف أصحابنا فيه:
[الأول] : منهم من قال: هو يمين؛ لأنه قد ثبت له عرف الاستعمال في الشرع في اليمين، فحمل الإطلاق عليه.
والثاني: منهم من قال: ليس بيمين، وهو المنصوص؛ لأنه لم يثبت له عرف الاستعمال، وأما الشرع: فقد ورد والمراد به اليمين، وورد والمراد به الشهادة، فلم يحمل إطلاقه على اليمين.

[فرع: أعزم بالله ونحوها ولا نية]
] : قال الشافعي: (وإن قال: أعزم بالله، ولا نية له.. لم يكن يمينا) .
وجملة ذلك: أنه إذا قال: أعزم بالله لأفعلن كذا، فإن نوى به اليمين.. كان يمينا؛ لأنه يحتمل اليمين بقوله: (بالله) ، وإن نوى أنه يعزم بمعونة الله.. لم يكن

(10/509)


يمينا، وإن لم ينو شيئا.. لم يكن يمينا؛ لأنه لم يثبت له عرف في الشرع ولا في الاستعمال.
وإن قال: أقسم لأفعلن كذا، أو أقسمت لأفعلن كذا، أو أحلف، أو أشهد لأفعلن كذا، ولم يقل: بالله.. لم يكن يمينا، سواء نوى به اليمين أو لم ينو.
وقال أبو حنيفة: (هو يمين، سواء نوى به اليمين أو لم ينو) . وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
وقال مالك: (إذا نوى به اليمين.. كان يمينا، وإن لم ينو به اليمين.. لم يكن يمينا) . وهي الرواية الأخرى عن أحمد.
دليلنا: أنها يمين عريت عن اسم الله وصفته، فلم تكن يمينا، كما لو قال: أقسمت بالنبي أو بالكعبة.
وأما الخبر الذي روي: «أن رجلا ذكر رؤيا بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ففسرها أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال أبو بكر: أصبت يا رسول الله، أو أخطأت؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أصبت بعضا، وأخطأت بعضا "، فقال أبو بكر: أقسمت عليك لتخبرني بالخطأ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقسم» .. فهو قسم في اللغة، لا أنه قسم في الشرع؛ بدليل: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقسم "، أي: لا تقسم قسما شرعيا تجب فيه الكفارة.
وإن قال رجل: أعتصم بالله، أو أستعين بالله، أو توكلت على الله لأفعلن كذا.. لم يكن يمينا، سواء نوى به اليمين أو لم ينو؛ لأن ذلك لا يصلح لليمين.

(10/510)


[مسألة: السؤال بالله أو القسم لفعل]
] : إذا قال رجل لآخر: أسألك بالله، أو أقسم عليك بالله لتفعلن كذا، فإن أراد بذلك الشفاعة إليه بالله.. لم يكن يمينا، وإن أراد أن يعقد للمسؤول بذلك يمينا.. لم تنعقد لأحدهما يمين؛ لأن كل واحد منهما لم يعقدها يمينا لنفسه.
وإن أطلق، ولم ينو اليمين ولا غيرها.. لم ينعقد يمينا؛ لأنه لم يثبت لها عرف في الشرع ولا في الاستعمال.
وإن أراد السائل أن يعقد اليمين لنفسه بذلك.. انعقدت اليمين في حقه؛ لأنها تصلح لليمين بقوله: بالله، وإن لم يفعل المسؤول ما حلف عليه السائل.. حنث السائل، ووجبت الكفارة عليه.
وقال أحمد: (تجب الكفارة على المسؤول؛ لأن الكفارة وجبت بفعله) .
دليلنا: أن المسؤول لم يعقد اليمين، فلم تلزمه الكفارة، كما لو لم يحلف عليه.

[مسألة: الاستثناء في اليمين]
] : الاستثناء في اليمين جائز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] [القلم: 17 - 18] .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والله لأغزون قريشا " إلى أن قال في الثالثة: " إن شاء الله» .
والاستثناء في اليمين ليس بواجب، وحكي عن بعض الناس: أنه قال: هو واجب؛ لأن الله تعالى ذم قوما أقسموا ولم يستثنوا.
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلف على نسائه شهرا ولم يستثن» .

(10/511)


إذا ثبت هذا: فقال: والله لأفعلن كذا إن شاء الله، ففعله.. لم يحنث؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله.. لم يحنث» . ولأنه علق الفعل على مشيئة الله، ومشيئة الله لا تعلم، وإنما يعمل الاستثناء إذا وصله بيمينه، فإن فصله عن يمينه بغير عذر.. لم يرتفع اليمين، وإن فصله عن يمينه لضيق نفس، أو عي، أو لتذكر يمينه الذي يريد أن يحلفها، أو كان

(10/512)


بلسانه فأفأة لم يمكنه وصله باليمين لذلك.. كان في حكم الموصول. هذا مذهبنا.
وقال الحسن البصري: وعطاء: إذا استثنى وهو في مجلسه.. صح.
وحكي عن ابن عباس: أنه قال: (إذا استثنى بعد سنة.. صح) .
وحكي عنه: أنه يصح الاستثناء أبدا. وقيل: إنه رجع عن ذلك.
ودليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها.. فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» . ولو كان الاستثناء يعمل بعد تمام اليمين والانفصال عنها.. لكفاه ذلك عن الكفارة.
ولا يصح الاستثناء حتى ينويه، وهو أن ينوي تعليق الفعل بمشيئة الله تعالى؛ لأن اليمين بالله لا تصح إلا بالنية، فكذلك الاستثناء، وهل من شرطه أن ينوي الاستثناء من أول اليمين، أو يصح أن ينوي الاستثناء في بعض ألفاظ اليمين؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في الطلاق.
وإن حلف واستثنى، ولم ينو الاستثناء.. صح الاستثناء في الظاهر دون الباطن.

[فرع: إن شاء الله لا أفعل]
قال القاضي أبو الطيب: إذا قال: إن شاء الله والله لا أفعل كذا.. لم يحنث.
وكذلك: إذا قال لامرأته: إن شاء الله أنت طالق.. لم تطلق، أو: إن شاء الله أنت طالق وعبدي حر.. لم تطلق امرأته، ولم يعتق عبده؛ لأنه لا فرق بين أن يقدم الاستثناء أو يؤخره.
وكذلك: إذا قال: أنت طالق إن شاء الله عبدي حر - من غير واو العطف - لم تطلق امرأته، ولم يعتق عبده؛ لأنه علقهما بمشيئة الله، وواو العطف يجوز حذفها، كما

(10/513)


روي عن ابن عباس: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات» من غير واو العطف. وتقول العرب: أكلت خبزا سمنا.
قال ابن الصباغ: وهذا وإن كان مجازا، فإنه إذا قصده.. صح الاستثناء؛ لأن الاستثناء لا يكون إلا بالقصد.

[فرع: قوله والله لأفعلن كذا إن شاء زيد]
] : وإن قال: والله لأفعلن كذا إن شاء زيد.. فإن هذا ليس باستثناء، وإنما هو تعليق عقد اليمين بمشيئة زيد. فإن فعل ذلك الشيء قبل أن يعلم مشيئة زيد.. لم يتعلق بذلك حكم. وإن قال زيد: شئت أن تفعله.. انعقدت يمينه، فإن فعله.. بر في يمينه، وإن لم يفعله، وتعذر فعله.. حنث في يمينه. وإن قال زيد: لست أشاء أن تفعله.. لم تنعقد يمينه؛ لأنه لم يوجد شرط انعقاد اليمين، فإن فعله أو لم يفعله.. لم يحنث. وإن فقدت مشيئة زيد بالجنون، أو الغيبة، أو الموت.. لم تنعقد اليمين؛ لأنه لم يوجد شرط انعقادها.
وإن قال: والله لا دخلت الدار اليوم إن شاء زيد، فإن قال زيد: شئت أن تدخلها.. انعقدت، فإن دخلها في اليوم.. بر في يمينه، وإن انقضى اليوم ولم يدخلها.. حنث في يمينه. وإن قال زيد: شئت أن لا تدخلها، أو لست أشاء أن تدخل.. لم تنعقد يمينه. وإن فقدت مشيئته بالموت، أو الغيبة، أو الجنون، فانقضى اليوم ولم يدخلها.. لم يحنث؛ لأن يمينه لم تنعقد.

[فرع: أقسم على عدم الدخول إلا بمشيئة زيد]
وإن قال: والله لأدخلن هذه الدار اليوم إلا أن يشاء زيد.. فقد انعقدت يمينه على دخول الدار في اليوم، إلا أن يشاء زيد أن لا يدخلها، فتنحل اليمين؛ لأن الاستثناء ضد المستثنى منه، فإن دخل الدار في يومه.. بر في يمينه، وإن قال زيد:

(10/514)


قد شئت أن لا يدخلها.. انحلت اليمين، فيتخلص من الحنث في اليمين بأحد هذين.
وإن قال زيد: قد شئت أن تدخلها، أو قال: لست أشاء أن لا تدخلها.. فقد زال حكم الاستثناء، ولم يتخلص من الحنث إلا بأن يدخلها في يومه، فإن انقضى اليوم قبل أن يدخلها.. حنث في يمينه.
وإن فقدت المشيئة من زيد بغيبة، أو جنون، أو خرس، أو موت، ومضى اليوم ولم يدخلها.. فقد قال الشافعي في " المختصر ": (يحنث في يمينه؛ لأن الأصل أن لا مشيئة) .
وإن قال: والله لا دخلت هذه الدار اليوم إلا أن يشاء زيد.. فاليمين هاهنا على النفي، فيكون الاستثناء على الإثبات، فإن مضى اليوم ولم يدخل الدار.. بر في يمينه، سواء شاء زيد أو لم يشأ. وإن قال زيد: شئت أن تدخلها.. فقد تخلص من الحنث، سواء دخلها أو لم يدخلها. وإن قال زيد: شئت أن لا تدخلها، أو لست أشاء أن تدخلها.. فقد تعذر التخلص من الحنث بالاستثناء، فإن لم يدخل الدار حتى انقضى اليوم.. فقد بر في يمينه، وإن دخل الدار في يومه.. حنث. وإن تعذرت مشيئة زيد بغيبة، أو جنون، أو خرس.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (لم يحنث) . وهذا مخالف للنص في الأولى. واختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق:
فـ[الطريق الأول] : قال أبو إسحاق وغيره: يحنث فيهما، قولا واحدا، كما نقله المزني؛ لأن الأصل عدم المشيئة، وأما ما ذكره الشافعي في " الأم ": فالظاهر أنه رجع عنه؛ لأن المزني لو وجده لاعترض به عليه، ويحتمل: أن الربيع نقلها قبل أن يتحقق رجوعه عنها.
و [الطريق الثاني] : منهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين:

(10/515)


أحدهما: لا يحنث فيهما؛ لأنه يجوز أن يكون قد شاء، ويجوز أنه لم يشأ، فحصل شك في حصول الحنث، والأصل أن لا حنث.
والثاني: أنه يحنث فيهما؛ لأنه قد وجد عقد اليمين والمخالفة، ويمكن حصول المشيئة وارتفاع اليمين، ويمكن عدم المشيئة وبقاء حكم اليمين، والأصل عدم المشيئة.
وأما المزني: فقد قال عقيب نقله: وهذا خلاف قوله في باب: (جامع الأيمان) ، ويريد بذلك: إذا حلف ليضربنها مائة، فضربها بضغث فيه مائة شمراخ، وخفي عليه، هل وصل جميعها إلى بدنها، أم لا؟ أنه لا يحنث، فلم يحنثه مع الشك في فعل ما حلف عليه.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: هما على اختلاف حالين:
فحيث قال: (حنث) أراد: إذا أيس من معرفة مشيئته بموته؛ لأنه أيس من معرفة مشيئته، والأصل عدمها.
وحيث قال: (لا يحنث) أراد: إذا لم ييأس من مشيئته، بأن غاب أو خرس، فيرجى أن يرجع من غيبته، أو ينطلق لسانه، فيعلم ذلك منه.

[فرع: علق يمينه على يمين صاحبه]
إذا قال رجل لآخر: يميني في يمينك.. نظرت:
فإن كان المقول له قد حلف بالله تعالى.. لم تنعقد يمين القائل، سواء نوى اليمين أو لم ينو؛ لأن اليمين بالله لا تنعقد بالكناية مع النية.

(10/516)


وإن كان المقول له قد حلف بالطلاق، أو الظهار، أو العتاق.. نظرت في القائل:
فإن نوى ذلك.. انعقدت يمينه بذلك؛ لأن اليمين تنعقد بالكناية مع النية.
وإن كان المقول له لم يحلف قبل هذا.. لم تنعقد يمين الحالف بشيء، سواء نوى اليمين بالطلاق، أو الظهار، أو العتق، أو لم ينو؛ لأن يمينه إنما تنعقد بذلك بالصريح، أو بالكناية مع النية، وليس هاهنا لفظ صريح، ولا كناية مع نية؛ لأن المقول له لم يحلف.
وبالله التوفيق

(10/517)


[باب جامع الأيمان]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إذا كان في دار، فحلف: لا يسكنها.. أخذ في الخروج من مكانه، فإن تخلف ساعة وهو يمكنه الخروج منها.. حنث) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان ساكنا في دار، فحلف: لا يسكنها، فإن أمكنه الخروج منها وأقام أي زمان كان.. حنث.
وقال مالك: (إن أقام دون اليوم والليلة.. لم يحنث) .
دليلنا: أن استدامة السكون بمنزلة ابتدائه، فإذا أمكنه الخروج ولم يخرج.. حنث، كما لو أقام يوما وليلة.
وإن خرج من الدار في الحال.. لم يحنث.
وقال زفر: يحنث وإن انتقل في الحال؛ لأنه لا بد أن يكون ساكنا بها زمانا ما.
وهذا ليس بصحيح؛ لأن ما لا يمكنه الاحتراز منه لا يدخل في اليمين، ولأنه تارك للسكنى بالخروج، والتارك لا يسمى ساكنا، كما لو أولج في ليلة الصيام، ونزع مع طلوع الفجر.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن كانت اليمين في جوف الليل، فخاف من العسس إذا خرج ذلك الوقت.. فإنه لا يحنث بالمكث إلى وقت الإمكان.
وإن وقف في الدار بعد اليمين لينقل قماشه ورحله من الدار.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول القفال، وبه قال أبو حنيفة -: (إنه لا يحنث) ؛ لأنه من أسباب الخروج.

(10/518)


والثاني - وهو قول البغداديين من أصحابنا، وهو المشهور -: إنه يحنث؛ لأنه أقام في الدار بعد اليمين مع تمكنه من الخروج، فحنث، كما لو أقام لا لنقل القماش.
فإن خرج من الدار عقيب اليمين، وترك رحله فيها.. لم يحنث.
وقال أبو حنيفة: (يحنث، إلا أن ينقل أهله وماله) . وبه قال أحمد.
وحكي عن مالك: أنه اعتبر نقل عياله دون ماله.
دليلنا: أنه حلف على أن لا يسكن، فإذا تحول بنفسه منها عقيب يمينه، فلم يسكن.. فوجب أن لا يحنث، كما لو حلف أن لا يسكن بلدا، فخرج منها، وترك رحله فيها.
فإن رجع إلى الدار بعد الخروج؛ لنقل القماش، أو لعيادة مريض فيها، وما أشبه ذلك.. لم يحنث؛ لأنه قد وجد منه المفارقة للدار ومزايلة السكنى، وبعوده إليها لا يسمى به ساكنا، فلم يحنث.

[مسألة: حلف بالله لا يساكن زيدا]
وإن قال: والله لا ساكنت فلانا، وهو ساكن معه في مسكن، فإن خرج أحدهما في أول حال إمكان الخروج.. لم يحنث؛ لأنه لم يساكنه، وإن أقام بعد إمكان الخروج.. حنث؛ لأن المساكنة تقع على الاستدامة كما تقع على الابتداء.
قال الشافعي: (والمساكنة: أن يكونا في بيت، أو في بيتين حجرتهما واحدة ومدخلهما واحد) .
فإن كانا في مدخلين، أو في حجرتين في درب نافذ، أو غير نافذ، متفرقتين أو متلاصقتين.. فليسا بمتساكنين، وإنما هما متجاوران.

(10/519)


وإن سكن كل واحد منهما في بيت من خان، وكان البيتان متفرقين أو متلاصقين.. فهما غير متساكنين؛ لأن بيوت الخان كل بيت منها مسكن على الانفراد.
وإن سكن كل واحد منهما في بيت في دار صغيرة، وكل واحد منهما ينفرد بغلق.. فهما متساكنان؛ لأن الدار الواحدة مسكن واحد، ويخالف الخان وإن كان صغيرا؛ لأنه بني للمساكن.
وإن كانا في بيتين في دار كبيرة ذات بيوت كل بيت منفرد بباب وغلق.. فقد ذكر أكثر أصحابنا: أن ذلك ليس بمساكنة؛ لأنها كبيوت الخان.
وقال الشيخ الحسن الطبري في " عدته ": وفي هذا نظر؛ لأن جميع الدار تعد في العادة مسكنا واحدا، بخلاف بيوت الخان.
وإن كانت الدار كبيرة، إلا أن أحدهما في البيت، والآخر في الصفة، أو كانا في صفتين، أو كانا في بيتين ليس لأحدهما غلق دون الآخر.. فهما متساكنان.
فكذلك: إذا كانا في بيتين في دار كبيرة ذات بيوت لا أبواب عليها.. كان ذلك مساكنة؛ لأن اشتراكهما في مرافق الصحن الجامع للبيتين، وفي الباب المدخول منه إليهما، كاشتراكهما في موضع السكون.
قال الشافعي: (إلا أن يكون له نية.. فهو على ما نواه) .
وإن أراد: أنه نوى أن لا يساكنه في درب أو بلد أو بيت واحد.. كان على ما نواه؛ لأنه يحتمل ما نواه من ذلك. وفيه وجه آخر، حكاه الطبري: إذا نوى لا يساكنه في هذه البلدة.. لم يصح، كما لو نوى لا يساكنه بخراسان.

(10/520)


إذا ثبت هذا: فحلف: لا يساكنه، وهما في بيتين في حجرة، قال الشافعي: (فجعل بينهما جدار، ولكل واحدة من الحجرتين باب.. فليست هذه بمساكنة) .
قال أصحابنا البغداديون: ظاهر هذا الكلام أنهما إذا أقاما في بيتهما، وجعل بينهما جدار، ولكل واحد من الحجرتين باب.. لم يحنث. وليس هذا على ظاهره، وإنما أراد بذلك: إذا انتقل أحدهما في الحال، وعاد لبناء الجدار والباب، فأما إذا أقاما مع إمكان الانتقال لبناء الجدار والباب.. حنث الحالف.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا اشتغلا ببناء الجدار فيما بينهما عقيب اليمين.. فهل يحنث الحالف؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأن البناء يحتاج إلى مدة طويلة، ولم تجر العادة به.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه اشتغل بسبب الفرقة.

[فرع: حلف لا يفعل أمرا وهو متلبس به]
وإن حلف: لا يلبس ثوبا، وهو لابسه، أو لا يركب دابة، وهو راكبها، فإن نزع الثوب، أو نزل عن الدابة أول حال إمكانه.. لم يحنث، وإن استدام ذلك مع إمكان تركه.. حنث؛ لأن استدامة اللبس والركوب تسمى: لبسا وركوبا؛ ولهذا يقال: لبست الثوب شهرا، وركبت الدابة شهرا.
وإن قال: والله لا تزوجت، وهو متزوج، فاستدام، أو لا تطهرت، وهو متطهر، فاستدام.. لم يحنث؛ لأن استدامة ذلك لا يجري مجرى ابتدائه؛ ولهذا: لا يقال: تزوجت شهرا، وتطهرت شهرا، وإنما يقال: تزوجت من شهر، وتطهرت من شهر، فإن عقد النكاح، أو ابتدأ الطهارة.. حنث.
وإن قال: والله لا تطيبت، وهو متطيب، فاستدام.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأن اسم التطيب يقع على الاستدامة، ألا ترى أنه يقال: تطيبت شهرا، كما يقال: لبست شهرا؟

(10/521)


والثاني - وهو الأصح، ولم يذكر في " المهذب " غيره -: أنه لا يحنث؛ لأن استدامة الطيب لم تجعل في الشرع بمنزلة ابتدائه، ألا ترى أن المحرم ممنوع من ابتداء التطيب، غير ممنوع من استدامته؟ ولأنه كالطهارة؛ لأنه يقال: تطيبت من شهر، كما يقال: تطهرت من شهر، ولا يقال: تطيبت شهرا.
وإن حلف: لا يدخل دارا شهرا، وهو فيها، فاستدام الكون فيها.. قال القاضي أبو الطيب: فيه وجهان، وحكاهما الشيخان قولين:
[أحدهما] : قال في " الأم ": (يحنث؛ لأن استدامة الكون في الدار بمنزلة ابتداء الدخول في التحريم في ملك الغير، فكان كالدخول في الحنث باليمين) .
و [الثاني] : قال في " حرملة ": (لا يحنث) . وبه قال أبو حنيفة، وهو الأصح؛ لأن الدخول هو الانفصال من خارج الدار إلى داخلها، وهذا لا يوجد في استدامة الكون فيها؛ ولهذا لا يقال: دخلت الدار شهرا، وإنما يقال: دخلتها منذ شهر.
فإن قلنا بالأول: فإن أقام بعد اليمين بعد أن أمكنه الخروج.. حنث، وإن خرج عقيب اليمين.. لم يحنث، وإن عاد لنقل المتاع.. حنث؛ لأنه قد دخلها، بخلاف ما لو حلف على السكنى؛ لأن السكنى لا توجد بمجرد الدخول.
وإن قلنا بالثاني: فاستدام الكون فيها.. لم يحنث، فإن خرج، ثم دخلها.. حنث.

[فرع: حلف لا يسافر وهو مسافر]
وإن حلف: لا يسافر، وهو في السفر، فإن وقف ولم يسافر، وأخذ في العود.. لم يحنث؛ لأنه لم يسافر، وإن سار مسافرا بعد اليمين ولو خطوة.. حنث؛ لأنه سافر.

(10/522)


[فرع: حلف لا يدخل دارا فدخل الممر]
وإن حلف: لا يدخل الدار، فدخل الدهليز بجميع بدنه.. حنث؛ لأنه قد دخل الدار، وإن دخل ببعض بدنه، إما برأسه دون باقي بدنه، أو بإحدى رجليه.. لم يحنث؛ لأنه لم يدخلها.
وإن كان على باب الدهليز كن - وهو: الطاق - فدخله.. فهل يحنث؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحنث؛ لأنه خارج الدار.
والثاني: يحنث؛ لأنه من جملة الدار؛ لأنه يكن الباب، فهو كالدهليز.
فإن حلف: لا يخرج من الدار، فأخرج بعض بدنه.. لم يحنث؛ لأنه لم يخرج بدليل: أنه لو كان معتكفا، فأخرج بعض بدنه من المسجد.. لم يخرج من الاعتكاف؛ ولهذا روي: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان معتكفا، وكان يخرج رأسه من المسجد إلى عائشة لترجله» .

[مسألة: حلف لا يدخل دارا فصعد على سطحها]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو حلف: لا يدخلها، فرقى فوقها.. لم يحنث) .
وجملة ذلك: أنه إذا حلف: لا يدخل دارا، فرقى فوقها حتى حصل على سطحها ولم ينزل إليها، فإن كان السطح غير محجر.. لم يحنث.

(10/523)


وقال أبو حنيفة وأحمد وأبو ثور: (يحنث؛ لأن حكم السطح حكم الداخل؛ بدليل: أن الاعتكاف يصح في سطح المسجد كما يصح في داخله، ولأنه لو قال: والله لا خرجت من داري، فصعد السطح.. لم يحنث) .
ودليلنا: أن السطح حاجز يقي الدار من الحر والبرد، فلم يصر بحصوله فيه داخلا في الدار، كما لو وقف على الحائط.
وما ذكروه من سطح المسجد.. فلا يلزم؛ لأن الشرع جعل سطحه بمنزلة داخله في الحكم، دون التسمية. ألا ترى أن الرحبة حكمها حكم المسجد في الاعتكاف، ومنع الجنب منها، وجواز الصلاة فيها بصلاة الإمام، وإن لم تكن في حكم المسجد بالتسمية، ولو حلف لا يدخل المسجد، فدخل الرحبة.. لم يحنث؟
وما ذكروه فيمن حلف: لا يخرج من داره، فصعد سطحها.. لا يسلم، بل يحنث؛ لأن صعوده خروج من الدار.
وإن كان السطح محجرا، فحصل فيه.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يحنث، وهو ظاهر النص؛ لما ذكرناه فيه إذا كانت غير محجرة.
و [الثاني] : منهم من قال: يحنث؛ لأنه يحيط به سور الدار، فهو كما لو حصل داخل الدار.
ومن قال بهذا: قال: إنما قال الشافعي: (لا يحنث) على عادة أهل الحجاز؛ فإن سطوحهم غير محجرة.

[فرع: يحنث بدخول الدار بأية وسيلة شاء]
وإن حلف: لا يدخل الدار، وفيها شجرة ولها أغصان منتشرة إلى خارج الدار، فتعلق بغصن منها، فصعد عليه.. نظرت:
فإن أحاط به سور الدار.. حنث، كما لو دخل من الباب.

(10/524)


وإن أحاط به السطح لا غير، فإن كان غير محجر.. لم يحنث، وإن كان محجرا.. فعلى الوجهين.
وإن كان في الدار نهر، فطرح نفسه فيه من الخارج، وسبح حتى دخل الدار، أو دخل في سفينة، ثم سير السفينة حتى دخلت الدار.. حنث؛ لأنه قد دخل الدار، فهو كما لو دخلها من بابها.

[مسألة: حلف على دار لزيد لا يدخلها فباعها ثم دخلها]
وإن حلف: لا يسكن دار زيد هذه، أو لا يدخلها، فباعها زيد، ودخلها.. حنث، إلا أن ينوي أن لا يدخلها وهي ملك له، فلا يحنث بدخولها بعد زوال ملكه عنها.
وهكذا: لو حلف: لا يكلم عبد زيد هذا، فباعه زيد، ثم كلمه، أو لا يكلم زوجة فلان هذه، فطلقها زيد، ثم كلمها الحالف.. حنث، وبه قال مالك، وأحمد، ومحمد، وزفر.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (لا يحنث في الدار والعبد، ويحنث في الزوجة؛ لأن الدار لا توالى ولا تعادى، وإنما يكون الامتناع لأجل مالكها، فتعلقت اليمين بذلك) .
دليلنا: أنه اجتمع في اليمين التعيين والإضافة، فكان الحكم للتعيين، كما قلنا في الزوجة. ولأن العبد يوالي ويعادي، فهو كالزوجة.
وإن حلف: لا يدخل دار زيد، ولم يقل: هذه، فباع زيد داره، ودخلها.. لم يحنث.
وكذلك: إذا حلف: لا يكلم عبد زيد ولا زوجته، فباع زيد عبده، وطلق زوجته، وكلمهما.. لم يحنث؛ لأن اليمين تعلقت بالإضافة خاصة، وقد زال ملكه عنه.

(10/525)


وإن قال: والله لا كلمت زيدا هذا، فغير زيد اسمه، وصار يعرف بما غيره إليه، فكلمه بعد ذلك.. حنث؛ لأن الاعتبار بالنفس دون الاسم.

[فرع: أقسم لا يدخل دار زيد فدخل دارا يملكها معه عمرو]
وإن حلف لا يدخل دار زيد، فدخل دارا يملكها زيد وعمرو.. لم يحنث؛ لأن اليمين معقودة على دار يملكها زيد، وزيد لا يملكها وإنما يملك بعضها.
وإن قال: والله لا دخلت بيت زيد، فدخل بيتا يسكنه زيد بإجارة أو إعارة ولا يملكه؛ فإن قال: نويت البيت الذي يسكنه.. حنث. وإن قال: لا نية لي.. لم يحنث.
وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور: (يحنث؛ لأن الدار تضاف إلى ساكنها، كما تضاف إلى مالكها؛ ولهذا: قال الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] . وأراد بيوت أزواجهن لسكناهن بهن) .
ودليلنا: أن الإضافة إلى من يملك تقتضي إضافة الملك؛ ولهذا لو قال: هذه الدار لزيد.. اقتضى ذلك ملكها. فلو قال: أردت به ملك سكناها.. لم يقبل، فإذا اقتضت الإضافة الملك.. انصرف الإطلاق إليه.
وأما الآية: فإنما أضافت بيوت أزواجهن إليهن مجازا لا حقيقة؛ بدليل: أنه يصح نفي الدار عنه، بأن يقال: ما هذه الدار لزيد، وإنما يسكنها. والأيمان إنما تتعلق بالحقائق دون المجاز.
وإن قال: والله لا دخلت مسكن زيد، فدخل دارا يسكنها زيد بملك، أو إجارة، أو إعارة.. حنث؛ لأن اسم مسكن زيد يقع على ذلك، إلا أن ينوي مسكنه الذي يملكه، فلا يحنث إلا بدخوله دارا يملكها.
قال في " الأم ": (ولو حلف: لا يسكن دارا لزيد، فسكن دارا لزيد فيها شركة لزيد.. لم يحنث، سواء كان له أقلها أو أكثرها؛ لأنها لا تضاف إليه خاصة) .

(10/526)


[مسألة: حلف لا يدخل دارا فدخل عرصتها]
وإن حلف: لا يدخل هذه الدار، فانهدمت وزال بناؤها، فدخلها.. لم يحنث.
وكذلك إذا حلف لا يدخل هذا البيت، ثم انهدم وصار عرصة، فدخل عرصته.. لم يحنث.
وقال أبو حنيفة: (إذا حلف لا يدخل هذه الدار.. حنث بدخولها بعد هدمها) . ووافقنا في الدار المطلقة وفي البيت؛ أنه لا يحنث بدخول عرصتها بعد هدمها.
وقال أحمد في الدار والبيت: (إذا عينها.. حنث بدخولهما بعد هدمهما) .
دليلنا: أن كل ما لا يتناوله الاسم في إطلاق اليمين.. وجب أن يخرج منها مع التعيين، كما لو حلف: لا يأكل هذه الحنطة، فطحنت، أو لا يدخل هذا البيت، فخرب.
إذا ثبت هذا: فإن أعيدت تلك الدار بغير آلتها، فدخلها.. لم يحنث؛ لأنها غير تلك الدار، وإن أعيدت بتلك الآلة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يحنث؛ لأنها غير تلك الدار.
والثاني: يحنث؛ لأنها عادت كما كانت.

[مسألة: حلف لا يدخل من باب فنقل من مكانه]
قال الشافعي: (ولو حلف: لا يدخل من باب هذه الدار، وهو في موضع، فحول.. لم يحنث، إلا أن ينوي أن لا يدخلها، فيحنث) .
وجملة ذلك: أنه إذا حلف: لا يدخل هذه الدار، فدخلها من بابها، أو بسور من سطحها، أو من كوة، أو من نقب، فدخلها.. حنث؛ لأنه قد دخلها.

(10/527)


وإن قال: والله لا دخلت هذه الدار من هذا الباب، فدخلها من كوة، أو من السطح.. لم يحنث؛ لأنه لم يدخلها من الباب، قال الشافعي: (إلا أن ينوي أنه لا يدخلها، فيحنث بأي دخول كان) .
وإن فُتح لها ممر من موضع آخر، ولم ينصب عليه ذلك المصراع الذي على الباب الأول، فدخل منه.. لم يحنث؛ لأنه لم يدخلها من الباب الذي حلف عليه.
وإن نقل الباب - وهو المصراع الذي كان على الأول - إلى الممر الثاني، ثم دخلها منه.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: إن دخلها من الممر الأول الذي نصب عليه الباب.. لم يحنث، وإن دخلها من الممر الثاني الذي نصب عليه المصراع الأول الذي كان على الممر الأول وقت اليمين.. حنث؛ لأن الباب هو المصراع.
والثاني: منهم من قال: إن دخلها من الممر الأول.. حنث، سواء نقل عنه المصراع أو لم ينقل، وإن دخلها من ممر آخر للدار.. لم يحنث، وهو الأصح؛ لأن الباب: هو الموضع الذي يدخل منه ويخرج، وهو الفتحة فيما دون المصراع المنصوب؛ لأن المصراع المنصوب يراد للمنع من الدخول، ولا يراد للدخول والخروج، وإنما تراد لهما الفتحة، إلا أن ينوي بقوله: (الباب) هو المصراع المنصوب.. فيحنث إذا دخلها من حيث كان منصوبا فيه؛ لأن قوله يحتمل ذلك.
وإن قال: والله لا دخلت هذه الدار من بابها، أو لا دخلت من باب هذه الدار، ولها باب، فسد وفتح لها باب آخر، فدخل منه.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من تعلق بظاهر كلام الشافعي، وأنه لا يحنث إلا أن ينوي بأنه لا يدخلها جملة فيحنث؛ لأن الإضافة اقتضت تعريف الباب الموجود وقت اليمين، فصار كما لو قال: والله لا دخلت هذه الدار من هذا الباب.

(10/528)


ومنهم من قال: يحنث، وهو الأظهر؛ لأن الثاني يقع عليه اسم الباب، فتعلقت به اليمين وإن لم يكن موجودا حال عقد اليمين، كما لو قال: لا دخلت دار زيد، وليس لزيد دارٌ، فملك زيد بعد اليمين دارا، فدخلها.. فإنه يحنث. ومن قال بهذا.. تأول كلام الشافعي على: أنه عين الباب.

[فرع: حلفه لا يدخل دارا يقتضي التأبيد]
وإن حلف: لا يدخل هذه الدار.. اقتضى إطلاقه التأبيد.
فإن قال: نويت يوما أو شهرا، فإن كان يمينه بالطلاق، أو العتاق، أو بالله في الإيلاء.. لم يقبل قوله في الحكم؛ لأنه تعلق به حق لآدمي، وما يدعيه مخالف للظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.
وإن كانت يمينه بالله في غير الإيلاء.. قبل قوله في الظاهر والباطن؛ لأنه أمين فيما يجب عليه من حقوق الله عز وجل.

[مسألة: حلف لا يسكن بيتا وهو قروي أو بدوي]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن حلف: لا يسكن بيتا وهو بدوي أو قروي، ولا نية له.. فأي بيت من شعر، أو دم، أو خيمة، أو بيت حجارة، أو مدر، أو ما وقع عليه اسم البيت سكنه.. حنث) .
وجملة ذلك: أنه إذا حلف: لا يدخل بيتا، فدخل بيتا مبنيا من حجارة أو لبن أو آجر أو خشب أو قصب.. حنث بذلك، قرويا كان أو بدويا؛ لأنه يقع عليه اسم البيت شرعا ولغة.
وإن دخل في دهليز دار، أو صفتها، أو صحنها.. فقد قال بعض أصحابنا:

(10/529)


لا يحنث؛ لأنه لا يسمى بيتا ولهذا يقال: لم يدخل البيت، وإنما وقف في الدهليز، والصفة، والصحن.
وقال صاحب " الفروع ": لا يحنث إلا أن يعد جميع الدار مبنيا، ولا يفرد للبيتوتة موضعا، فيحنث إذا حصل في دهليزها وصفتها.
وقال القاضي أبو الطيب: فيه نظر. وأراد: أنه يحنث، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن جميع الدار مهيأ للإيواء.
وإن دخل مسجدا، أو البيت الحرام، أو دخل بيتا في الحمام، أو بيعة، أو كنيسة.. لم يحنث.
وقال أحمد: (إذا دخل مسجدا، أو البيت الحرام، أو دخل بيتا في الحمام.. حنث؛ لأن المسجد يسمى بيتا. قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] [النور: 36] . وأراد بها: المساجد) .
ودليلنا: أن البيت اسم لما بني للسكنى في العرف؛ ولهذا يقال: بيت فلان، ويراد: مسكنه، والمسجد وبيت الحمام لم يبنيا لذلك، فلم ينصرف الإطلاق إليه.
وأما الآية: فالجواب: أن المساجد تسمى بيوتا مجازا لا حقيقة، واليمين إنما تنصرف إلى الحقيقة دون المجاز.
وإن دخل بيتا من شعر، أو صوف، أو أدم، فإن كان الحالف بدويا.. حنث؛ لأنه بيت في حقه، وإن كان الحالف قرويا لا يسكن هذه البيوت.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو العباس: لا يحنث. وهو قول أبي حنيفة؛ لأن الأيمان محمولة على العرف؛ ولهذا لو حلف: لا يأكل الرؤوس.. لم يدخل فيه إلا ما يعتاد أكله من الرؤوس منفردا، وهذه البيوت غير معتادة في حق أهل الأمصار والقرى، فلم يدخل تحت أيمانهم.

(10/530)


وقال أكثر أصحابنا: يحنث. وهو المنصوص، واختلفوا في تعليله.
فقال أبو إسحاق: إنما يحنث؛ لأنها تسمى في البادية بيوتا، وإذا ثبت للشيء عرف اسم في موضع.. ثبت له في جميع المواضع، ألا ترى أنه لو حلف العراقي: لا يأكل الخبز، فأكل خبز الأرز.. حنث وإن كان ذلك غير متعارف في حقه، وإنما هو متعارف في حق الطبري؟
ومن أصحابنا من قال: إنما حنث؛ لأن هذه البيوت المتخذة من هذه الأشياء تسمى: بيوتا في الشرع، قال الله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا} [النحل: 80] [النحل: 80] .
وقال أبو الطيب: التعليل الصحيح: أن هذه تسمى: بيوتا حقيقة، وتسميتها: خيمة ومضربا إنما هو اسم للنوع، واسم البيت حقيقة يشمل الكل، واليمين تحمل على الحقائق.
والتعليل الأول لا يصح؛ لأنه يلزمه أن يقول: إذا حلف: لا يركب دابة.. أن يحنث بركوب الحمار؛ لأنه يسمى دابة بمصر.
والتعليل الثاني لا يستقيم؛ لأن المساجد سماها الله تعالى بيوتا بقوله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] [النور: 36] ، ومع هذا فلا يحنث بدخولها.

[فرع: علق طلاق زوجته على دخول دار زيد بغير إذنه]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (إذا قال: إن دخلت دار زيد إلا بإذنه.. فامرأتي طالق، فإن أذن له زيد بالدخول.. ارتفعت اليمين، دخلها أو لم يدخلها، فإن دخلها.. بر في يمينه، فإن دخلها بعد ذلك بغير إذنه.. لم يحنث، فإن منعه زيد من الدخول بعد الإذن وقبل الدخول.. لم يقدح) .
قال ابن الصباغ: وفيه نظر؛ لأن رجوعه عن الإذن يبطله، ويكون داخلا بغير إذنه، ولهذا يأثم فيه، ومجرد الإذن لا يحل اليمين؛ لأن المحلوف عليه الدخول دون الإذن.

(10/531)


[فرع: حلف لا يركب دابة عبد فخصه سيده بدابة]
] : وإن حلف: لا يركب دابة هذا العبد، فركب دابة جعلها سيده لركوب العبد.. لم يحنث.
وقال أبو حنيفة: (يحنث) .
وهكذا: لو حلف: لا يركب دابة زيد، فركب دابة لزيد جعلها لركوب عبده.. حنث.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث) .
دليلنا: أن العبد لا يملكها، والإضافة تقتضي الملك في حق من يملك، كما لو ركب دابة استعارها المحلوف عليه.
فإن ملكه سيده دابة، فركبها الحالف، فإن قلنا: يملك العبد بالتمليك.. حنث الحالف، وإن قلنا: لا يملك.. لم يحنث.
وإن حلف: لا يركب دابة زيد، فركب دابة مكاتبه.. لم يحنث؛ لأن السيد لا يملكها، ولا ينفذ تصرفه فيها.
وإن حلف: لا يركب دابة للمكاتب.. قال ابن الصباغ: فأكثر أصحابنا قالوا: إذا ركب دابة المكاتب.. حنث؛ لأن المكاتب يملك التصرف فيها دون سيده.
وذكر الشيخ أبو حامد: أنا إذا قلنا: إن العبد لا يملك.. يحتمل أن يقال: لا يحنث؛ لأن المكاتب لا يملكها.
قال ابن الصباغ: والأول أظهر؛ لأن الدابة إذا لم تضف إلى سيد المكاتب.. لا بد أن تكون مضافة إلى المكاتب.

[مسألة: حلف لا يأكل قمحا فأكله طحينا]
وإن حلف: لا يأكل خضرة الحنطة، أو لا يأكل منها، فطحنها، فأكلها.. لم يحنث، وبه قال أبو حنيفة.

(10/532)


وقال أبو يوسف ومحمد: يحنث. وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن أبي العباس؛ لأن الحنطة تؤكل هكذا، فهو كما لو حلف لا يأكل هذا الكبش، فذبحه فأكله، أو كما لو حلف لا يأكل هذا اللحم فشواه وأكله. ودليلنا: أن اسم الحنطة زال بالطحن.. فزال تعلق اليمين بها، كما لو حلف: لا أكلت من هذه الحنطة، فزرعها وأكل من حشيشها.
وكذلك إذا حلف: لا أكلت هذه البيضة، فصارت فرخا فأكله، ويخالف الكبش؛ فإنه لا يمكن أكله حيا، ولا يشبه اللحم أيضا؛ لأن اسم اللحم وصورته لم تزل.
وإن حلف: لا أكلت هذا الدقيق، فعجنه وخبزه وأكله، أو لا أكلت هذا العجين فخبزه وأكله.. لم يحنث..
وقال أبو حنيفة وأحمد وأبو العباس: يحنث.
والأول أصح؛ لما ذكرناه في التي قبلها.

[فرع: حلف لا يكلم الصبي فكبر]
وإن قال: والله لا كلمت هذا الصبي، فصار شابا، فكلمه، أو لا أكلم هذا الشاب، فصار شيخا، فكلمه، أو لا آكل من لحم هذا الجدي، فصار تيسا، وأكل من لحمه، أو لا آكل من هذه البسرة فصارت رطبة فأكلها، أو لا آكل هذه الرطبة فصارت تمرة فأكلها.. فهل يحنث في جميع ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحنث؛ لأن الاسم قد زال، فأشبه إذا قال: لا أكلت هذه الحنطة، فطحنها وأكلها.
والثاني: يحنث؛ لأن صورتها لم تزل، وإنما تغيرت الصفة، فأشبه إذا حلف: لا يأكل اللحم، فشواه وأكله. هذا مذهبنا.

(10/533)


وقال أبو حنيفة في الحيوان: (يحنث) ، وفي الباقي: (لا يحنث) ؛ لأن قصده أن لا يكلم الصبي والشاب للاستخفاف به، وذلك لا يزول بالكبر. وكذلك معناه: لا يأكل لحم هذا الجدي وذلك المعنى لم يزل. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الاعتبار بالاسم دون القصد؛ ولهذا: لو حلف: لا أكلت هذا اللحم، فأكله نيئا.. حنث وإن كان قصده الامتناع من أكله مطبوخا.
وإن قال: والله لا كلمت صبيا، فكلم شابا، أو لا كلمت شابا، فكلم شيخا، أو لا أكلت لحم جدي، فأكل لحم تيس، أو لا أكلت بسرا، فأكل رطبا، أو لا أكلت رطبا، فأكل تمرا.. لم يحنث، وجها واحدا؛ لأن اليمين هاهنا تعلقت بالصفة دون العين، ولم توجد الصفة، فجرى مجرى ما لو حلف: لا يأكل تمرا بعينه، فأكل غيره.

[فرع: حلف لا يشرب عصيرا فصار خلا]
وإن حلف: لا يشرب هذا العصير، فصار خلا، فشربه، أو لا يشرب هذا الخمر، فصار خلا، فشربه.. لم يحنث، كما قلنا في الحنطة إذا صارت دقيقا.
وإن حلف: لا يلبس هذا الغزل، فنسج منه ثوب، فلبسه.. حنث؛ لأن الغزل لا يلبس إلا منسوجا، فصار كما لو حلف: لا يأكل هذا الكبش، فذبحه، وأكله.. فإنه يحنث.

[مسألة: حلف لا يشرب سويقا فمزجه بماء ثم شربه]
وإن حلف: لا يشرب سويقا، فطرح فيه ماء، وخلطه فيه حتى رق، وشربه.. حنث؛ لأنه شربه، وإن استفه قبل أن يطرح فيه الماء، أو طرح فيه الماء، وخلطه

(10/534)


فيه، وأكله بالملعقة أو بأصبعه.. لم يحنث؛ لأنه حلف على الشرب، وهذا ليس بشرب.
وإن حلف: لا يأكل السويق، فطرح فيه الماء، وخلطه فيه حتى رق، وشربه.. لم يحنث؛ لأنه حلف على الأكل، ولم يأكل.
وإن حلف: لا يأكل الخبز، فمضغه وازدرده.. حنث؛ لأنه أكله، وإن دقه، وخلطه في الماء، وشربه، أو ابتلعه من غير مضغ.. لم يحنث؛ لأن الأفعال أجناس كالأعيان، ثم لو حلف على جنس من الأعيان.. لم يحنث بجنس آخر، فكذلك إذا حلف على جنس من الأفعال.. لم يحنث بجنس آخر.
وإن حلف لا يأكل هذا الطعام، أو لا يشربه، فذاقه ولم ينزل إلى حلقه.. لم يحنث؛ لأن ذلك ليس بأكل ولا شرب.
وإن حلف: لا يذوقه، فتطعم منه بفيه، ورمى به، ولم يبتلعه.. حنث.
ومن أصحابنا من قال: لا يحنث؛ لأنه لا يحصل بذلك الذوق؛ ولهذا لا يفطر به.
والأول أصح؛ لأن الذوق معرفة طعمه، وقد حصل ذلك.
وإن حلف: لا يذوقه، فأكله، أو شربه.. حنث؛ لأنه قد ذاق، وزاد.
وإن حلف: لا يأكل، أو لا يشرب، أو لا يذوق، فأوجره بنفسه، أو أوجره غيره باختياره في حلقه حتى وصل إلى جوفه.. لم يحنث؛ لأنه لم يأكل، ولم يشرب، ولم يذق.
وإن قال: والله لا طمعت هذا الطعام، فأوجره بنفسه، أو أوجره غيره باختياره.. حنث؛ لأن معناه: لا جعلته لي طعاما، وقد جعله طعاما له.

(10/535)


[مسألة: حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا]
وإن حلف لا يأكل اللحم.. حنث بأكل كل ما يؤكل لحمه من الدواب والصيد؛ لأنه يقع عليه اسم اللحم.
وإن أكل لحم السمك.. لم يحنث.
وقال مالك، وأبو يوسف: (يحنث) . وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين؛ لأن الله تعالى سماه لحما، فقال: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] [النحل: 14] .
ودليلنا: أنه لا ينصرف إليه الإطلاق في اسم اللحم؛ ولهذا يصح أن ينفى عنه اسم اللحم، فيقول: ما أكلت اللحم، وإنما أكلت السمك.
وإنما سماه الله تعالى لحما مجازا لا حقيقة، والأيمان إنما تقع على الحقائق؛ ولهذا لو حلف لا أقعد تحت سقف، فقعد تحت السماء.. لم يحنث وإن كان الله قد سماها سقفا فقال: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا} [الأنبياء: 32] [الأنبياء: 32] .
وإن أكل من لحم ما لا يؤكل، كالخنزير، والحمار.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يحنث؛ لأن يمينه ينصرف إلى ما يحل أكله في الشرع؛ ولهذا لو حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا.. لم يحنث.
والثاني: يحنث، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه يقع عليه اسم اللحم وإن لم يحل أكله، فيحنث به، كما لو أكل لحما مغصوبا.
وإن حلف لا يأكل اللحم، فأكل شحم الجوف، أو لا يأكل الشحم، فأكل اللحم.. لم يحنث؛ لأنهما مختلفان في الاسم والصفة.
وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل الكبد والطحال.. لم يحنث.
وقال أبو حنيفة: (يحنث) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لأنه لحم حقيقة، ويتخذ منه ما يتخذ من اللحم.

(10/536)


والمذهب الأول؛ لأن اسم اللحم لا يتناولهما، وقد سماهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دمين.
ولو قال لوكيله: اشتر لي لحما، فاشترى له كبدا أو طحالا.. لم يقع للموكل.
وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل المخ أو الكرش.. لم يحنث؛ لما ذكرناه في الكبد والطحال.
وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل القلب أو الأكارع.. فقد قال المسعودي [في " الإبانة "] ، والصيدلاني: يحنث.
وقال الشيخ أبو حامد: لا يحنث؛ لما ذكرناه في الكبد والطحال.
وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل اللحم الأبيض الذي يكون على ظهر الحيوان وجنبيه.. فقد قال الشيخ أبو حامد: يحنث؛ لأنه لحم يكون عند هزال الحيوان أحمر، وإنما يبيض عندما يسمن الحيوان.
وإن حلف: لا يأكل الشحم، فأكل ذلك.. لم يحنث؛ لأنه ليس بشحم، واختلف قول القفال فيه: فقال مرة: هو لحم. وقال مرة أخرى: هو شحم. وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو زيد: إن كان الحالف عربيا.. فهو شحم في حقه؛ لأنهم يعرفونه شحما، وإن كان أعجميا.. فهو لحم في حقه؛ لأنهم يعرفونه لحما.
والمشهور قول الشيخ أبي حامد.
وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل شحم العين.. لم يحنث؛ لأنه ليس بلحم.
وإن حلف: لا يأكل الشحم، فأكل ذلك الشحم.. ففيه وجهان:

(10/537)


أحدهما: يحنث؛ لدخوله في اسم الشحم.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الشحم.
وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل لحم الخد، أو الرأس، أو اللسان.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأنه لحم.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم اللحم.
وإن حلف: لا يأكل الشحم، فأكل لحم الرأس، أو اللسان، أو أكل الكبد، أو الطحال، أو القلب، أو الكرش، أو المخ.. لم يحنث؛ لأن ذلك ليس بشحم.
واختلف أصحابنا في الألية:
فمنهم من قال: هي لحم، فيحنث بأكلها في اليمين على اللحم، ولا يحنث بأكلها في اليمين على الشحم؛ لأنها نابتة في اللحم، وتشبه اللحم في الصلابة.
ومنهم من قال: هي شحم، فيحنث بأكلها في اليمين على الشحم، ولا يحنث بأكلها في اليمين على اللحم؛ لأنها تذوب كما يذوب الشحم.
ومنهم من قال: ليست بلحم ولا بشحم، فلا يحنث بأكلها في اليمين على اللحم ولا في اليمين على الشحم؛ لأنها مخالفة لهما في الاسم والصفة، فهي كالكبد والطحال.

[مسألة: حلف لا يأكل الرؤوس]
وإن حلف: لا يأكل الرؤوس.. حنث بأكل رؤوس الأنعام؛ وهي الإبل والبقر والغنم.
وقال أبو حنيفة: (لا تدخل رؤوس الإبل في يمينه) . في إحدى الروايتين عنه.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا تتعلق يمينه إلا برؤوس الغنم خاصة.
دليلنا: أن رؤوس الإبل والبقر والغنم تفرد عن أجسادها، وتؤكل منفردة عنها، فاستوت في تعليق اليمين بها.

(10/538)


وإن كان في بلد يكثر فيه السمك والصيد، وتباع رؤوسه منفردة عنه، وتؤكل.. حنث بأكلها من كان من أهل ذلك البلد؛ لأنها كرؤوس الأنعام في حقهم، وهل يحنث بأكلها غير أهل ذلك البلد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحنث بأكلها؛ لأنهم لا يعتادون ذلك ولا يعرفونه، فلم تنصرف أيمانهم إليها.
والثاني: يحنث بأكلها في جميع البلاد؛ لأنه إذا ثبت لها عرف في بلد.. ثبت لها ذلك العرف في جميع البلاد، ألا ترى أنه لو حلف: لا يأكل اللحم.. حنث بأكل لحم الفرس وإن كان لا يؤكل في جميع البلاد، ولو حلف: لا يأكل الخبز.. حنث بأكل خبز الأرز وإن كان لا يعتاد أكله إلا بطبرستان؟

[فرع: حلف لا يأكل البيض]
وإن حلف لا يأكل البيض.. حنث بأكل بيض كل ما يزايل بائضه في حال الحياة، كبيض الدجاج، والإوز، والعصافير، والنعام، وغير ذلك.
وحكى المحاملي وجها آخر: أنه لا يحنث إلا بأكل بيض الدجاج. وليس بشيء.
ولا يحنث بأكل بيض ما لا يزايل بائضه في حياته ولا يؤكل منفردا، كبيض الحيتان، والجراد؛ لأن إطلاق اسم البيض لا ينصرف إليها.

[مسألة: حلف لا يأكل لبنا فأكل لبن بقر]
] : وإن حلف: لا يأكل لبنا.. حنث بأكل لبن الأنعام ولبن الصيد؛ لأن اسم اللبن يقع على الجميع، ويدخل فيه الحليب والرائب.
وأما الشيراز: فيدخل في اسم اللبن، في قول أكثر أصحابنا.

(10/539)


قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من توقف فيه؛ لأن له اسما يختص به.
وإن أكل الجبن أو اللبأ أو المصل أو الأقط أو السمن.. لم يحنث.
وقال أبو علي بن أبي هريرة، وأبو علي الطبري: يحنث.
والأول أصح؛ لأنه لا يسمى لبنا، ولأن ذلك ينتقض بمن حلف: لا يأكل السمسم، فأكل الشيرج.
وإن أكل الزبد، فإن كان اللبن فيه ظاهرا.. حنث، وإن كان غير ظاهر.. لم يحنث، على قول أكثر أصحابنا، ويحنث، على قول أبي علي.

[مسألة: حلف لا يأكل سمنا فأكله مع السويق]
وإن حلف: لا يأكل سمنا.. نظرت في السمن، فإن كان جامدا، فأكله منفردا.. حنث؛ لأنه أكل المحلوف عليه، وإن أكله بالخبز، أو السويق، أو العصيدة.. حنث.
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يحنث؛ لأنه لم يأكل السمن منفردا، وإنما أكله مع غيره.
والمذهب الأول؛ لأنه أكل المحلوف عليه.
وإن كان مع غيره.. حنث، كما لو حلف: لا يكلم زيدا، فكلم زيدا وعمرا.
وإن كان السمن ذائبا فشربه أو حساه بيده.. لم يحنث؛ لأنه لم يأكله، وإنما شربه.
وإن أكله مع الخبز أو غيره.. حنث على المذهب؛ لأنه هكذا يؤكل، وعلى قول الإصطخري: لا يحنث.

(10/540)


وإن أكل عصيدة متخذة بسمن.. فقال الشافعي: (حنث) .
وقال: (إذا حلف: لا يأكل خلا، فأكل سكباجا بخل.. لم يحنث) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما أراد بالخل إذا لم يكن ظاهرا، وأراد بالسمن إذا كان ظاهرا.
قال ابن الصباغ: ويتصور ذلك: إذا أكل من لحم السكباج دون مرقته. وهذا على المذهب أيضا، فأما على قول الإصطخري: فإنه لا يحنث بحال.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا حلف: لا يأكل الخل، فاتخذ منه طبيخا؛ فإن كان طعمه أو لونه ظاهرا.. حنث، وإلا.. فلا.
وإن حلف: لا يأكل زبدا أو سمنا، فأكل لبنا.. لم يحنث؛ لأن كل واحد منهما غير الآخر في الاسم والصورة، فهو كما لو حلف: لا يأكل دبسا، فأكل تمرا.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه إذا حلف: لا يأكل الزبد، فأكل اللبن.. حنث. وليس بشيء.

[مسألة: حلف لا يأكل أدما فأكل جبنا]
وإن حلف: لا يأكل أدما.. حنث بأكل كل ما يؤتدم به في العادة، سواء كان مما يصطبغ به أو لا يصطبغ، كاللحم، والجبن، والبيض، والفنيد، والسكر،

(10/541)


واللبن، والسمن، والزيت، والسيرج، والخل.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث بأكل اللحم) .
دليلنا: ما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم» . ولأنه يؤتدم به في العادة، فهو كالخل.
ويحنث بأكل الملح؛ لأنه قد روي في بعض الأخبار: «سيد إدامكم الملح» .
وهل يحنث بأكل التمر؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يحنث؛ لأنه لا يؤتدم به في العادة، وإنما يؤكل قوتا أو حلاوة.
والثاني: يحنث به؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى سائلا خبزا وتمرا، وقال: " هذا إدام هذا» .

(10/542)


[مسألة: حلف لا يأكل فاكهة فأكل تفاحا]
وإن قال: والله لا أكلت فاكهة، فأكل التفاح، أو السفرجل، أو الأترج.. حنث؛ لأنها فاكهة.
وإن أكل الرطب، أو العنب، أو الرمان.. حنث.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] [الرحمن: 68] . فلو كانا فاكهة.. لما عطفهما على الفاكهة.
دليلنا: أنهما يسميان فاكهة؛ بدليل: أنه يسمى بائعهما فاكهيا، فهما كالتفاح والسفرجل.
وأما الآية: فإنما أفردهما تخصيصا لهما وتمييزا؛ لأنهما أغلى الفاكهة، كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] [البقرة: 98] . فعطف جبريل وميكال على الملائكة وإن كانا من أخص الملائكة؛ تخصيصا لهما وتمييزا.
وإن أكل النبق، أو التوت.. حنث؛ لأنهما ثمار أشجار، فهي كالتفاح والسفرجل.
قال أبو العباس: وإن أكل البطيخ.. حنث؛ لأنه يطبخ ويحلو.
وإن أكل القثاء والخيار والخربزة.. لم يحنث؛ لأنها ليست من الفواكه، وإنما هي من الخضراوات.

[فرع: حلف لا يأكل بسرا فأكل تمرا]
وإن حلف: لا يأكل بسرا، فأكل منصفا.. نظرت:
فإن أكل موضع الرطب منه لا غير.. لم يحنث؛ لأنه لم يأكل بسرا.

(10/543)


وإن أكل موضع البسر منه لا غير.. حنث.
وإن أكل الجميع.. حنث، وبه قال أبو حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري وأبو علي الطبري: لا يحنث.
دليلنا: أنه أكل المحلوف عليه وغيره، فهو كما لو كانا منفردين.
وهكذا لو حلف لا يأكل الرطب، فأكل موضع البسر من المنصف.. لم يحنث، وإن أكل موضع الرطب منه.. حنث، وإن أكل الجميع.. حنث على المذهب، ولا يحنث على قول أبي سعيد الإصطخري، وقول أبي علي الطبري.
وإن حلف: لا يأكل رطبة أو بسرة، فأكل منصفا.. لم يحنث؛ لأنها ليست برطبة ولا بسرة.
وإن حلف: لا يأكل هذه التمرة، فوقعت في تمر، فإن أكل الجميع.. حنث؛ لأنه أكل المحلوف عليها، وإن أكل جميعه إلا تمرة، فإن تيقن أنها غير التي حلف عليها.. حنث؛ لأنه يتيقن أنه فعل المحلوف عليه، وإن تيقن أن التي حلف عليها هي التي بقيت، أو شك: هل هي المحلوف عليها، أو غيرها؟ لم يحنث؛ لأنه إذا تيقن أنها بقيت.. فقد تيقن أنه لم يحنث، وإذا شك.. لم يحنث؛ لأنه يشك في وجوب الكفارة عليه، والأصل عدم وجوبها.
وهكذا إن هلك من التمر تمرة وأكل الباقي، فإن تيقن أن التي حلف عليها في جملة ما أكله.. حنث، وإن لم يتيقن أنها التالفة، أو شك: هل هي التالفة، أو غيرها؟ لم يحنث؛ لما ذكرناه.

(10/544)


[فرع: حلف لا يأكل قوتا فأكل ذرة]
وإن حلف: لا يأكل قوتا، فأكل الحنطة، أو الذرة، أو الشعير، أو الدخن.. حنث.
وإن أكل التمر، أو الزبيب، أو اللحم، وكان ممن يقتات ذلك.. حنث، وهل يحنث به غيره؟ فيه وجهان، كما قلنا في رؤوس الصيد.
وإن حلف: لا يأكل طعاما.. حنث بأكل كل ما يطعم من قوت وأدم وفاكهة؛ لأن اسم الطعام يقع على الجميع، وهل يحنث بأكل الدواء؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحنث؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الطعام.
والثاني: يحنث؛ لأنه يطعم في حال الاختيار.

[مسألة: حلف لا يشرب الماء أو لا يشرب ماء]
مسألة: [حلف: لا يشرب الماء أو ماء] :
وإن قال: والله لا شربت الماء، أو لا شربت ماء، فأي ماء شربه من ماء مطر، أو ثلج، أو برد أذيب، أو ماء بئر، أو ماء نهر.. فإنه يحنث، سواء كان عذبا أو ملحا؛ لأنه يقع عليه اسم الماء. وإن شرب من ماء البحر.. قال الشيخ أبو إسحاق: احتمل عندي وجهين:

(10/545)


أحدهما: يحنث؛ لأنه يدخل في إطلاق اسم الماء؛ ولهذا تجوز الطهارة به.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يشرب.
وإن قال: والله لا شربت ماء فراتا، فإن شرب ماء عذبا من أي نهر كان، أو بئر.. حنث؛ لأنه وصفه بكونه فراتا، وذلك يقتضي الماء العذب، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27] [المرسلات: 27] . أي: عذبا. وإن شرب ماء مالحا.. لم يحنث؛ لأنه ليس بفرات.
وإن قال: والله لا شربت من الفرات، فإن الفرات إذا عرف بالألف واللام.. اقتضى ذلك النهر الذي بين الشام والعراق، فإن شرب من غيره من الأنهار.. لم يحنث، وإن شرب من ذلك النهر.. حنث، سواء كرع فيه، أو أخذه بيده، أو في إناء وشربه، وبه قال أحمد وأبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (إنما يحنث إذا كرع فيه كرعا، فأما إذا أخذه بيده أو في إناء.. لم يحنث، كما لو حلف: لا يشرب من هذا الكوز، فصب الماء الذي فيه في غيره، وشرب منه.. لم يحنث.
دليلنا: أن معنى ذلك: لا أشرب من ماء هذا النهر؛ لأن الشرب من ماء النهر في العرف لا من النهر؛ لأن ذلك اسم للأرض المحفورة، ولا يمكن الشرب منها، فحملت اليمين عليه، كما لو قال: لا شربت من هذه البئر، ويخالف الكوز؛ لأن الشرب يكون منه في العرف.
وإن شرب من نهر يأخذ من الفرات.. قال ابن الصباغ: ولم يذكره أصحابنا،

(10/546)


فيحتمل أن يحنث، كما قلنا فيما أخذه من الفرات بإناء وشربه ويحتمل أن لا يحنث.
والفرق بينهما: أن ما يأخذه من الفرات بإناء ويشرب.. يقال: شرب من الفرات، وما يأخذه من النهر الآخر.. يكون مضافا إليه، وتزول إضافته عن الفرات.
وأما إذا قال: والله لا شربت من ماء الفرات.. فلا يزول عنه ذلك الاسم وإن حصل في غيره.
والذي يقتضي المذهب: أنه إذا حلف: لا يشرب من ماء الكوز، ثم صبه في غيره من الآنية وشربه.. أنه يحنث؛ لأن خروجه منه لا يبطل كونه من ماء الكوز، كما قلنا في ماء الفرات.

[مسألة: حلف لا يشم ريحانا فشم ريحانا فارسيا]
وإن حلف: لا يشم الريحان.. لم يحنث إلا بشم الريحان الفارسي، وهو الصيمران، ولا يحنث بشم النرجس، والمرزنجوش، والورد، والياسمين، والبنفسج؛ لأن إطلاق اسم الريحان لا يقع على ذلك.
وإن حلف: لا يشم المشموم.. حنث بشم الريحان الفارسي، والنرجس، والمرزنجوش، والورد، والياسمين، والبنفسج؛ لأن الجميع مشموم. قال الشيخ أبو إسحاق: والزعفران من المشموم.
وإن شم الكافور، والمسك، والعود، والصندل.. لم يحنث؛ لأنه لا يطلق عليه اسم المشموم.
وإن حلف: لا يشم الورد، والبنفسج، فشم وردهما وهو أخضر.. حنث، وإن شم دهنهما.. لم يحنث.

(10/547)


وقال أبو حنيفة وأحمد: (يحنث) .
دليلنا: أن ذلك اسم لوردهما، فلا يحنث بشم غيره ودهنهما، وإنما يسمى وردا وبنفسجا مجازا.
وإن جف وردهما وشمه.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يحنث، كما لو حلف: لا يأكل الرطب، فأكل التمر.
والثاني: يحنث لبقاء اسم الورد والبنفسج.

[مسألة: حلف لا يلبس فارتدى عمامة]
حنث] : وإن قال: والله لا لبست ثوبا.. حنث بلبس القميص والرداء والعمامة والسراويل؛ لأنه يقع عليه اسم الثوب.
وإن قال: والله لا لبست شيئا، ولبس شيئا من هذه الثياب.. حنث؛ لأن إطلاق اسم اللبس ينصرف إليها.
وإن لبس خاتما أو جوشنا أو خفا أو نعلا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأنه لبس شيئا.
الثاني: لا يحنث؛ لأن إطلاق اسم اللبس إنما ينصرف إلى الثياب.

[مسألة: حلف لا يلبس ثوبا فجعله قميصا]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن حلف: لا يلبس ثوبا وهو رداء، فقطعه قميصا، فلبسه، أو اتزر به، أو حلف: لا يلبس سراويل، فاتزر به، أو قميصا، فارتدى به.. فهذا كله ليس يحنث به، إلا أن يكون له نية، فلا يحنث إلا على نيته) .
واختلف أصحابنا في صورتها:
فذهب أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا إلى: أنه إذا قال: والله لا لبست هذا

(10/548)


الثوب، وكان ذلك الثوب رداء، ولم يقل الحالف: وهو رداء، وإنما ذلك من كلام الشافعي، فقطعه قميصا، فلبسه، أو اتزر به، أو ارتدى به، أو جعله قلانس، فبسه.. حنث بذلك كله.
وهكذا: لو قال: لا لبست هذا الثوب، وكان سراويل، فلبسه، أو اتزر به، أو ارتدى به.. حنث؛ لأنه علق اليمين على لبس هذا الثوب بعينه، فعلى أي صفة لبسه.. فقد وجد منه فعل المحلوف عليه، فحنث، إلا أن يكون قد نوى أن لا يلبسه على الصفة التي هي عليها، فلا يحنث.
فأما إذا قال الحالف: لا لبست هذا الثوب وهو رداء، فقطعه، ثم لبسه.. فإنه لا يحنث الحالف، وكذلك في السراويل؛ لأنه علق اليمين على صفة في الثوب، فإذا لبسه على غير تلك الصفة.. لم يحنث.
ومن أصحابنا من وافق أبا إسحاق في الحكم فيما ذكره فيها، وخالفه في صورتها، فقال: هو رداء وسراويل من كلام الحالف، وإنما قال الشافعي: (هذا كله ليس يحنث به) . فنفى الحنث.
ومنهم من وافق أبا إسحاق في الصورة، فقال: وقوله: (وهو رداء) من كلام الشافعي، وخالفه في الحكم. وقوله: (هذا كله ليس يحنث به) أي: لا يحنث به؛ لأن قوله: لا لبست هذا الثوب - الذي يقتضي لبسه على صفته - فإذا غيره.. لم يكن ما انصرفت إليه اليمين.
والصحيح: قول أبي إسحاق ومن تابعه؛ لأن الشافعي قال في " الأم ": (وهذا كله لبس؛ وهو يحنث به) . وإنما أسقط المزني قوله: (وهو) ، فتصحف عليهم.

[مسألة: حلف لا يلبس حليا فلبس خاتما]
إذا حلف الرجل: لا يلبس حليا، فلبس خاتما من فضة أو ذهب.. حنث، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث) .

(10/549)


دليلنا: أن حلي الرجل الخاتم، فحنث بلبسه، كالمرأة.
وقال الشيخ أبو إسحاق: فإن لبس مخنقة من لؤلؤ أو غيره من الجواهر.. حنث؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج: 23] [الحج: 23] .
وإن حلفت المرأة: لا تلبس الحلي، فلبست اللؤلؤ وحده.. حنثت، وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج: 23] [الحج: 23] . ولم يفرق بين أن يكون اللؤلؤ وحده أو مع غيره.
ولأن الله تعالى قال في البحر: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] [النحل: 14] .
وإن لبس شيئا من الخرز والسبج، فإن كان ممن عادته التحلي به.. حنث، وهل يحنث به غيرهم؟ فيه وجهان، كالوجهين في بيوت الشعر، ورؤوس الصيد.
فإن تقلد سيفا محلى.. لم يحنث؛ لأن السيف ليس بحلي.
وإن لبس منطقة محلاة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأنها من حلي الرجال.
والثاني: لا يحنث؛ لأنها من الآلات المحلاة، فهو كالسيف.
وإن حلف: لا يلبس خاتما، فلبسه في غير الخنصر، أو لا يلبس قميصا، فارتدى به، أو لا يلبس قلنسوة، فلبسها في رجله.. قال الشيخ أبو إسحاق: لا يحنث؛ لأن اليمين تقتضي لبسا متعارفا، وهذا غير متعارف.

(10/550)


وأما ابن الصباغ فقال: إذا حلف: لا يلبس ثوبا، فلبس ثوبا كما يلبس في العادة أو بخلاف العادة.. حنث؛ لأنه لبسه.

[مسألة: حلف لا يستعمل ما من به عليه]
وإن حلف: لا يلبس ثوب رجل من به عليه، فوهبه له، أو باعه منه ولبسه، أو من عليه بما يطعمه ويسقيه، فقال: والله لا شربت له ماء من عطش، فأكل له خبزا، أو لبس له ثوبا، أو شرب له ماء من غير عطش، أو منت عليه زوجته بالغزل، فقال: والله لا لبست ثوبا من غزلك، فباع غزلها، واشترى بثمنه ثوبا، فلبسه.. فإنه لا يحنث بجميع ذلك وإن كان قصد بيمينه قطع منته، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وأحمد: (إذا قصد قطع منته في يمينه بذلك كله.. لا يجوز له أن يأكل له خبزا، ولا يلبس له ثوبا، ولا ينتفع بشيء من ماله، فإن فعل شيئا من ذلك.. حنث في يمينه) .
دليلنا: أن يمين الحالف لا تنعقد إلا على لفظه، ولا يراعى فيها المعنى، وإنما يراعى فيها لفظه، وما فعله لم يلفظ به، فلم يحنث به وإن كان معناه موجودا في معنى لفظه، فلم يحنث به، كما لو حلف: لا يتزوج، فتسرى، أو كما لو حلف: لا كلمت فلانا عدوي.. فإن يمينه لا تنعقد على غيره من أعدائه.

[مسألة: حلف لا يضرب فضرب خفيفا]
وإن حلف: لا يضرب امرأته، فضربها ضربا غير مؤلم.. حنث؛ لأنه يقع عليه اسم الضرب، وإن عضها، أو نتف شعرها، أو خنقها.. لم يحنث.
وقال أحمد وأبو حنيفة: (يحنث) .
دليلنا: أن ذلك لا يسمى ضربا، فلا يحنث به في اليمين على الضرب.
وإن لكمها، أو لطمها، أو رفسها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:

(10/551)


أحدهما: يحنث؛ لأنه ضربها.
والثاني: لا يحنث؛ لأن الضرب المتعارف ما كان بآلة.

[فرع: حلف ليضربن زيدا مائة سوط]
وإن حلف: ليضربن عبده مائة سوط، فإن ضربه مائة سوط متفرقة.. بر في يمينه، وإن أخذ مائة سوط، وضربه بها ضربة واحدة.. نظرت:
فإن تيقن أنه أصابه كل واحد منها في بدنه.. بر في يمينه.
وقال مالك وأحمد: (لا يبر، ويحتاج إلى أن يضربه مائة ضربة متفرقة) .
ودليلنا: أنه قد أوصل الضرب بكل واحد منها إلى بدنه، فبر في يمينه، كما لو ضربه مائة متفرقة.
وإن تيقن أنه لم يصب بدنه بعضها.. لم يبر في يمينه، حتى يصل الجميع إلى بدنه.
قال ابن الصباغ: وكذلك إذا أصابه البعض ولم يغلب على ظنه إصابة الجميع.. لم يبر في يمينه، وإن لم يتيقن أنه أصابه الجميع، ولكن غلب على ظنه أنه أصابه الكل.. فإنه يبر في يمينه. هكذا قال ابن الصباغ.
وأما الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق - فقالا: إذا شك: هل أصابه الجميع، أم لا؟ فإنه يبر في يمينه.
قال الشافعي: (والورع أن يحنث نفسه؛ لجواز أن لا يكون قد أصابه الجميع منها) .
وقال أبو حنيفة والمزني: (يحنث) .

(10/552)


دليلنا: أن الظاهر من السياط الرقاق أن جميعها أصابت بدنه، ولأن غلبة الظن أجريت في الأحكام مجرى اليقين، كما يحكم بخبر الواحد والقياس بغلبة الظن، فوجب أن يحكم به هاهنا في البر.
وإن حلف: ليضربن عبده مائة مرة.. لم يبر إلا بمائة ضربة متفرقة.
وإن حلف: ليضربنه مائة ضربة، فضربه بمائة عصا، أو بمائة سوط مشدودة، وتيقن أنه أصاب بدنه بجميع ذلك.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يبر؛ لأنه ما ضربه إلا ضربة.
والثاني: يبر؛ لأنه أصابه بكل واحد من ذلك، فهو كما لو قال: مائة سوط؛ ولهذا لو ضرب به في الزنا.. حسبت له مائة.
فعلى هذا إذا شك هل أصابه بالجميع أو بالبعض؟ فإنه يبر في يمينه، كما قلنا في قوله: مائة سوط.

[فرع: حلف ليضربن عبد زيد فباعه فضربه الحالف]
إذا حلف: لأضربن عبد زيد، فباع زيد عبده، أو أعتقه، ثم ضربه الحالف.. لم يحنث؛ لأنه ليس بعبده.
وإن رهن زيد عبده، أو جنى وتعلق الأرش برقبته، ثم ضربه الحالف.. حنث في يمينه؛ لأن ملكه لا يزول عنه بذلك.

[مسألة: حلف لا يهبه فأعمره]
وإن حلف: لا يهب له، فوهب له، أو أعمره، أو أرقبه، وقبل الموهوب له.. حنث الحالف، وإن لم يقبل الموهوب له.. لم يحنث الحالف.

(10/553)


وقال أبو حنيفة: (يحنث بمجرد الإيجاب) . وإلى ذلك ذهب أبو العباس ابن سريج.
دليلنا: أنه حلف على ترك عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول، فلم يحنث لمجرد الإيجاب، كالبيع.
وإن تصدق عليه صدقة التطوع.. حنث، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث) .
دليلنا: أن ذلك تمليك عين في حال الحياة تبرعا، فيحنث به، كما لو وهب له.
وإن أعطاه صدقة مفروضة.. قال القفال: فيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأن الهبة تمليك عين بغير عوض، وهذا موجود في ذلك، فصار كصدقة التطوع.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه أسقط بها واجبا عن نفسه.
وإن أوصى له.. لم يحنث؛ لأنه لا يملك بها إلا بعد موت الموصي، فلا يحنث بعد موته.
وإن وقف عليه، فإن قلنا: إن الوقف ينتقل إلى الله تعالى.. لم يحنث، وإن قلنا: ينتقل إلى الموقوف عليه.. حنث.
وإن أعاره عينا.. لم يحنث؛ لأن الهبة تمليك الأعيان، والعارية تمليك المنافع، ولأن المستعير لا يملك المنافع بالإعارة، وإنما يستبيحها؛ ولهذا لا يجوز له أن يؤجرها.
وإن كان المحلوف من هبته عبدا، فأعتقه الحالف.. لم يحنث؛ لأن ذلك لا يسمى هبة.

(10/554)


[مسألة: حلف لا يتكلم فقرأ القرآن]
إذا حلف: لا يتكلم، فقرأ القرآن.. لم يحنث، سواء قرأه في الصلاة أو في غيرها، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (إن قرأ في غير الصلاة.. حنث) .
دليلنا: أن مطلق الكلام لا ينصرف إلا إلى كلام الآدمي. ولأن كل ما لا يحنث به في الصلاة.. لا يحنث به في غير الصلاة، كالإشارة.
وإن سبح أو كبر.. ففيه وجهان، ذكرهما ابن الصباغ.
أحدهما: لا يحنث؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، وإنما هي التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن» .
والثاني: يحنث؛ لأنه يجوز للجنب أن يتكلم به، فأشبه سائر كلامه.
وقال أبو حنيفة: (إن كان في الصلاة.. لم يحنث، وإن كان خارج الصلاة.. حنث) .
دليلنا: أن ما حنث به خارج الصلاة.. حنث به في الصلاة، كسائر الكلام، وما لم يحنث به في الصلاة.. لم يحنث به خارج الصلاة، كالإشارة.

[فرع: حلف لا يكلم رجلا فسلم عليه]
وإن حلف: لا يكلم رجلا، فسلم عليه.. حنث؛ لأن السلام من كلام الآدميين؛ ولهذا تبطل به الصلاة.
وإن صلى الحالف خلفه، فسها الإمام، فسبح له الحالف، أو فتح عليه في القراءة.. قال ابن الصباغ: لا يحنث الحالف؛ لأن هذا ليس بكلام له.
وإن كان الحالف هو الإمام، والمحلوف عليه مؤتم به، فسلم الإمام.. قال ابن الصباغ: فالذي يقتضي المذهب: أنه يكون كما لو سلم الحالف على جماعة فيهم المحلوف عليه، على ما يأتي.

(10/555)


وقال أبو حنيفة: (لا يحنث) .
دليلنا: أنه شرع للإمام أن ينوي السلام على الحاضرين، فصار كما لو سلم عليهم في غير الصلاة.
وإن قال لرجل: والله لا كلمتك فاذهب أو فقم، أو ما أشبه ذلك موصولا بيمينه.. قال ابن الصباغ: ولم يذكره أصحابنا، والذي يقتضيه المذهب: أنه يحنث.
وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يحنث، إلا أن ينوي بقوله: (فاذهب) الطلاق.
ووجه الأول: أن قوله: (فاذهب، أو فقم) كلام منه له حقيقة، فحنث به، كما لو فصله.
وعندي: أنها على وجهين، كما لو قال لامرأته: إن كلمتك.. فأنت طالق فاعلمي ذلك، وقد مضى ذكرهما في الطلاق.

[فرع: قوله والله لا كلمته تقع على التأبيد]
إذا قال رجل لآخر: كلم زيدا اليوم، فقال: والله لا كلمته.. فإن يمينه على التأبيد، إلا أن ينوي اليوم.
فإن كانت يمينه في الطلاق، وقال: نويت كلامه اليوم لا غير.. لم يقبل قوله في الحكم، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى.
وقال أصحاب أبي حنيفة: يمينه على اليوم.
دليلنا: أن يمينه مطلقة، فوجب أن يحمل على التأبيد، كما لو ابتدأ بها.

[فرع: حلف لا يكلمه فكلمه نائما]
وإن حلف: أن لا يكلمه، فكلمه وهو نائم، أو ميت، أو في موضع بعيد لا يسمع كلامه في العادة.. لم يحنث، وإن كان في موضع يسمعه في العادة، إلا أنه لم يسمع لاشتغاله.. حنث.
وإن لم يسمعه لصمم.. ففيه وجهان، وقد مضى بيان ذلك في الطلاق.

(10/556)


وإن كتب إليه، أو أرسل إليه.. فهل يحنث؟ فيه قولان - وقال أصحابنا: والرمز والإشارة كالكتابة -:
[الأول] : قال في القديم: (يحنث) . وبه قال مالك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] [آل عمران: 41] . فاستثنى الرمز من الكلام، والاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه، ولقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا} [الشورى: 51] [الشورى: 51] . والوحي: هو الرسالة، فدل على: أن الوحي كلام. ولأن الجميع وضع لتفهيم الآدمي، فأشبه الكلام.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يحنث) . وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27] {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 29] [مريم: 26-29] . فلو كانت الإشارة كلاما.. لم تفعله.
وما ذكره الأول.. فيجوز الاستثناء من غير جنس المستثنى منه.
ويحرم عليه أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، والسابق.. أسبقهما إلى الجنة» .

(10/557)


فإن كتب إليه أو أرسل إليه.. فهل يخرج من مأثم الهجران؟ فيه وجهان، مأخوذان من القولين إذا حلف لا يكلمه.
فإن قلنا: يحنث إذا كاتبه أو راسله.. خرج بهما من مأثم الهجران.
وإن قلنا: لا يحنث به.. لم يخرج بهما من مأثم الهجران.
وينبغي أن يكون الرمز والإشارة في ذلك كالمكاتبة والمراسلة؛ لما ذكرناه في اليمين.

[فرع: حلف لا يكلم الناس]
وإن حلف: لا يكلم الناس.. قال ابن الصباغ: فإن كلم واحدا.. حنث؛ لأن الألف واللام للجنس، فإذا كلم واحدا من الجنس.. حنث، كما لو قال: لا أكلت الخبز، فأكل خبز أرز.. حنث.
وإن حلف: لا يكلم ناسا.. قال الطبري: انصرف إلى ثلاثة أنفس، ويتناول الرجال والنساء والأطفال.

[مسألة: حلف أن لا يكلم زيدا ولا يسلم عليه]
وإن حلف: لا يكلم زيدا أو لا يسلم عليه، فسلم على جماعة فيهم زيد، فإن علم أن زيدا فيهم، ونوى السلام عليهم وعليه معهم.. حنث؛ لأنه كلمه.
قلت: ويأتي على قول أبي سعيد الإصطخري، وأبي علي الطبري: أنه لا يحنث، كما قال إذا حلف: لا يأكل السمن أو الخل، فأكلهما مع غيرهما.
وإن لم يعلم بزيد معهم، أو علمه ونسي اليمين، ونوى السلام على جميعهم.. فهل يحنث؟ فيه قولان، كما تقول فيمن فعل المحلوف عليه ناسيا، ويأتي بيانهما.
وإن استثنى زيدا بقلبه.. فهل يحنث؟

(10/558)


قال أكثر أصحابنا: لا يحنث؛ لأن اللفظ وإن كان عاما، فإنه يحتمل التخصيص، فجاز التخصيص بالنية.
وذكر صاحب " الفروع "، وابن الصباغ في موضع من " الشامل ": هل يحنث؟ على قولين. وذكر في موضع آخر: لا يحنث.
وأما إذا سلم وأطلق، ولم ينو السلام عليه، ولا استثناه بقلبه.. ففيه قولان، ومن أصحابنا من حكاهما وجهين:
أحدهما: يحنث؛ لأن السلام عام، فتناول جميعهم، وإنما يخرج بعضهم بالاستثناء.
والثاني: لا يحنث؛ لأن اللفظ يصلح للجميع وللبعض، فلم تجب الكفارة بالشك.
وإن قال: والله لا دخلت على زيد بيتا، فدخل بيتا فيه زيد مع غيره.. نظرت:
فإن علم أن زيدا في البيت، فدخل عليه، ولم يستثنه بقلبه.. حنث؛ لأنه فعل المحلوف عليه.
وإن لم يعلم به في البيت، أو علمه ونسيه، أو نسي اليمين.. فهل يحنث؟ فيه قولان، كمن فعل المحلوف عليه ناسيا.
وإن علم أنه في البيت، إلا أنه استثناه بقلبه، ونوى الدخول على غيره دونه.. قال المحاملي، وسليم، وابن الصباغ: فقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كما قلنا فيمن حلف: لا يكلم زيدا، فسلم على جماعة فيهم زيد، واستثناه بقلبه.. فهل يحنث؟ فيه قولان.
ومنهم من قال: يحنث، قولا واحدا؛ لأن الدخول فعل، فلا يصح فيه الاستثناء، والسلام قول، يصح فيه الاستثناء؛ ولهذا لو قال: سلام عليكم إلا على زيد.. كان كلاما صحيحا، ولو قال: دخلت عليكم إلا على زيد.. لم يكن كلاما صحيحا؛ لأنه قد دخل عليه، فلا معنى لاستثنائه. هذا ترتيب أصحابنا البغداديين.
وأما المسعودي [في " الإبانة "] : فرتب السلام على الدخول، وقال: إذا دخل على

(10/559)


جماعة فيهم زيد، واستثناه بقلبه.. فهل يحنث؟ فيه قولان. وإن سلم على جماعة فيهم زيد، وقد حلف: أن لا يسلم عليه، واستثناه بقلبه عند السلام عليهم، فإن قلنا في الدخول: لا يحنث.. ففي السلام أولى أن لا يحنث، وإن قلنا: يحنث في الدخول.. ففي السلام قولان. وفرق بين الدخول والسلام بما مضى.
وإن حلف: لا يدخل على زيد بيتا، فدخل الحالف بيتا ليس فيه زيد، ثم دخل عليه زيد البيت، فإن خرج الحالف في الحال.. لم يحنث، وإن أقام معه.. فهل يحنث؟ يبنى على من حلف: لا يدخل دارا وهو فيها، فأقام فيها.. ففيه قولان:
فـ[أحدهما] : إن قلنا هناك: يحنث بالإقامة.. حنث هاهنا بالإقامة.
و [الثاني] : إن قلنا هناك: لا يحنث.. لم يحنث هاهنا.
وذكر القاضي أبو الطيب في " المجرد ": أن الشافعي نص في " الأم ": (أنه لا يحنث) .
قال ابن الصباغ: وهذا أولى؛ لأنا وإن قلنا: إن الاستدامة بمنزلة الابتداء، فكأنهما داخلان معا، ولا يكون أحدهما داخلا على الآخر، فلذلك لم يحنث.

[مسألة: حلف لا يصوم ونوى حنث]
وإن حلف: لا يصوم، فإذا نوى الصوم من الليل، وطلع الفجر.. حنث؛ لأن ذلك أول دخوله في الصوم، وإن نوى صوم التطوع بالنهار.. فإنه يحنث عقيب نيته؛ لأنه قد دخل في الصوم.
وإن حلف: أن لا يصلي.. فمتى يحنث؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - ولم يذكر في " المهذب " غيره -: أنه يحنث إذا أحرم بالصلاة؛ لأنه يسمى حينئذ مصليا.
والثاني - وهو قول أبي العباس -: أنه يحنث بالركوع؛ لأنه إذا ركع.. فقد أتى

(10/560)


بمعظم الركعة، فقام مقام جميعها، وإذا لم يركع.. فلم يأت بمعظمها.
والثالث - حكاه في " الفروع " -: أنه لا يحنث إلا بالفراغ منها، ووجهه: أنه لا يحكم بصحتها إلا بالفراغ منها.
والأول أصح؛ لأن الأيمان يراعى فيها الأسماء، وبالإحرام يسمى مصليا، فوجب أن يحنث، كما قلنا في الصوم، فإنا لم نعتبر فيه أن يأتي بمعظم اليوم ولا الفراغ منه.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث حتى يسجد) . وقد مضى الدليل عليه.

[فرع: حلف لا يبيع ونحوه من المعاملات]
وإن حلف: لا يبيع، أو لا يشتري، أو لا يهب، أو لا يتزوج.. لم يحنث إلا بالإيجاب والقبول في ذلك كله.
ومن أصحابنا من قال: يحنث في الهبة بالإيجاب وحده.
والأول أصح؛ لأنه عقد تمليك، فلم يحنث فيه إلا بالإيجاب والقبول، كالبيع. ولا يحنث إلا بالصحيح.
وقال محمد بن الحسن: إذا حلف: أن لا يتزوج، فتزوج تزويجا فاسدا، أو لا يصلي، فصلى صلاة فاسدة.. حنث. وهذا غلط؛ لأن الاسم لا يتناول الفاسد، فلم يحنث به.

[فرع: حلف لا يبيع وأمر غيره فباع]
وإن حلف: لا يبيع، أو لا يشتري، أو لا يضرب عبده، أو لا يتزوج، أو لا يطلق، فأمر غيره، فباع عنه، أو اشترى، أو ضرب العبد، أو نكح له، أو طلق.. لم يحنث.
وحكى الربيع عن الشافعي قولا آخر: (إذا كان الحالف سلطانا لا يتولى البيع ولا الشراء ولا الضرب بنفسه، فأمر غيره، ففعل عنه ذلك.. حنث، وإن أمر غيره،

(10/561)


فنكح له، أو طلق عنه.. لم يحنث؛ لأن العادة أنه لا يتولى البيع ولا الشراء ولا الضرب بنفسه، وإنما يتولاه غيره عنه، وجرت العادة في النكاح والطلاق أنه يتولاه بنفسه، فانعقدت يمينه على ذلك) .
والمشهور: هو الأول؛ لأن اليمين تحمل على الحقيقة دون المجاز؛ ولهذا: لو حلف: لا أقعد في ضوء السراج، فقعد في ضوء الشمس.. لم يحنث وإن كان قد سماها الله: سراجا، حيث قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ: 13] [النبأ: 13] .
ولو حلف: لا يقعد تحت سقف، فقعد تحت السماء.. لم يحنث وإن كان الله تعالى قد سماها: سقفا، فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] [الأنبياء: 32] .
وقال أبو حنيفة: (إذا حلف: لا يشتري، فوكل من يشتري له.. لم يحنث - كقولنا - وإن حلف: لا يتزوج، فوكل من يتزوج له.. حنث؛ لأن حقوق العقد في الشراء تتعلق بالعاقد، وفي النكاح تتعلق بالمعقود له) . وهذا ليس بصحيح؛ لما بيناه من أن الاعتبار بالاسم دون الحكم.
وإن حلف: لا يبيع لي زيد متاعا، فوكل وكيلا يبيع متاعه، وأذن له في التوكيل، فدفع الوكيل المتاع إلى زيد، فباعه.. قال الطبري: حنث الحالف، سواء علم زيد أنه متاع الحالف أو لم يعلم؛ لأنه باعه باختياره؛ لأن العلم والنسيان إنما يعتبر في فعل الحالف.
وإن قال: والله لا بعت لزيد شيئا، فدفع زيد متاعه إلى وكيل له ليبيعه، وأذن له في التوكيل في بيعه، فدفعه الوكيل إلى الحالف ليبيعه، فباعه، فإن علم الحالف أنه متاع زيد، فباعه وهو ذاكر ليمينه.. حنث في يمينه، وإن لم يعلم أنه لزيد، أو علم أنه لزيد، ونسي يمينه وقت البيع.. فهل يحنث؟ فيه قولان.

(10/562)


قال في " الأم ": (ولو قال: والله لا بعت له ثوبا، فدفعه إلى وكيله، فقال: بعه أنت، فدفعه إلى الحالف، فباعه.. لم يحنث؛ لأنه لم يبعه للذي حلف، إلا أن يكون نوى: لا يبيع سلعة يملكها فلان، وهذا يقتضي أنه أذن لوكيله في التوكيل بالبيع) .

[فرع: حلف لا يطلق زوجته ووكل لها أمرها]
] : وإن حلف: لا طلق زوجته، فجعل أمرها إليها، فطلقت نفسها.. لم يحنث.
وإن قال: إن شئت.. فأنت طالق، فقالت: قد شئت.. طلقت، وحنث؛ لأنه هو الموقع للطلاق.

[مسألة: حلف لا يتسرى]
وإن قال: والله لا تسريت.. فمتى يحنث؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه يحنث بالوطء وحده وإن لم ينزل - وهو قول أحمد - لأنه قد قيل: إن التسري مشتق من السراة، وهو الظهر، فكأنه حلف: لا يتخذها ظهرا، والجارية تتخذ ظهرا بالوطء. وقيل: هو مشتق من السر، وهو الجماع، وذلك يوجد بالوطء وحده.
والثاني: أنه لا يحنث إلا بمنعها من الخروج ووطئها، سواء أنزل أو لم ينزل - وهو قول أبي حنيفة - لأنه قد قيل: إنه مشتق من التسري، فكأنه حلف: لا يتخذها أسرى الجواري، وهذا لا يحصل إلا بسترها ووطئها.

(10/563)


والثالث: أنه لا يحنث إلا بوطئها والإنزال فيها، وإن لم يمنعها عن الخروج؛ لأن التسري في العرف والعادة: اتخاذ الجارية لابتغاء الولد، وذلك لا يحصل إلا بالوطء والإنزال.
والرابع: أنه لا يحنث إلا بأن يمنعها من الخروج ويطأها وينزل فيها؛ لأنه قد قيل: إنه مشتق من السرور؛ والسرور لا يحصل إلا بذلك، وهذا هو المنصوص للشافعي، وقد قيل: إن المنصوص: هو الذي قبله.

[مسألة: حلف لا مال له وله نقود أو عقار]
وإن حلف: أنه لا مال له، وله شيء من النقود، أو العروض، أو العقار، وما أشبهه.. حنث.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث إلا إن كان له شيء من الأموال الزكاتية؛ استحسانا) .
دليلنا: أن ذلك كله يقع عليه اسم المال حقيقة فحنث به كالزكاتي.
والدليل على أنه يقع عليه اسم المال: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن خير المال، فقال: «خير المال سكة مأبورة، أو فرس مأمورة» .
و (السكة المأبورة) : هي النخلة المصطفة المؤبرة.
و (الفرس المأمورة) : هي المهرة الكثيرة النتاج.

(10/564)


وهكذا الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة فيمن قال: إن شفى الله مريضي.. فعلي لله أن أتصدق بمالي:
فعندنا: عليه أن يتصدق بجميع ماله إذا شفى الله مريضه.
وعنده: ليس عليه أن يتصدق إلا بماله الزكاتي.
وإن كان له دين، فإن كان حالا.. فقد حنث في يمينه؛ لأنه كالعين في يده؛ بدليل: أنه يجب عليه فيه الزكاة، وإن كان مؤجلا.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يحنث؛ لأنه لا يملك المطالبة به.
والثاني: يحنث؛ لأنه يملك المعاوضة عليه والإبراء عنه.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث بالدين، حالا كان أو مؤجلا) . وقد مضى الدليل عليه.
وإن كان له مال مغصوب أو مودع أو معار.. حنث؛ لأنه على ملكه.
وإن كان له مال ضال.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأن الأصل بقاؤه.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يعلم بقاؤه، فلا يحنث بالشك.
وقال ابن الصباغ: وإن كان يملك بضع زوجته أو غير ذلك من المنافع.. لم يحنث؛ لأنه لا يسمى: مالا وإن كان في معنى المال.
وإن كان قد جني عليه خطأ أو عمدا، فعفا على مال.. حنث.
وإن جني عليه عمدا، ولم يقتص ولم يعف.. فيحتمل أن يبنى على القولين في موجب جناية العمد.
فإن قلنا: موجبها القود لا غير.. لم يحنث.
وإن قلنا: موجبها القود أو المال.. حنث.

(10/565)


[فرع: حلف لا يملك عبدا وعنده مكاتب]
وإن حلف: أنه لا يملك عبدا، وله مكاتب.. فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يحنث؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم» . ولأنه يملك عتقه، فهو كالقن.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه كالخارج عن ملكه؛ بدليل: أنه لا يملك منافعه، ولا أرش الجناية عليه، فصار كالحر.
ومنهم من قال: لا يحنث، قولا واحدا، وهو المنصوص؛ لما ذكرناه.
وإن كان له أم ولد، أو مدبر، أو عبد معلق عتقه على صفة.. حنث؛ لأنه في ملكه، ويملك منافعه وأرش ما يجنى عليه، فهو كالقن.

[مسألة: حلف أن يرفع المنكر إلى القاضي]
وإن قال: والله لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى فلان القاضي، فإن رأى منكرا، ورفعه إليه.. فقد بر في يمينه، وإن رأى منكرا، وتمكن من رفعه، فلم يرفعه حتى مات أحدهما.. حنث في يمينه؛ لأنه أمكنه رفعه، ففوته بتفريط منه، وإن رأى منكرا، فمضى ليرفعه إليه، فحجب عنه ومنع عنه حتى مات أحدهما.. فهل يحنث؟ فيه قولان، كما إذا فعل المحلوف عليه مكرها.
وإن لم يتمكن من رفعه، فمضى ليرفعه إليه، فمات القاضي قبل أن يصل الحالف.. قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، كالمكره.
وقال أبو إسحاق المروزي والقاضي أبو الطيب: لا يحنث، قولا واحدا؛ لأن

(10/566)


قوله: لا رأيت منكرا إلا رفعته، يعني: إن تمكنت منه، واتسع الزمان لي، وهاهنا لم يتسع له الزمان، فلم يحنث، وتفارق التي قبلها، فإن هناك اتسع له الزمان، ولكن منع من الفعل.
فأما إذا عزل هذا القاضي، فإن كان قال: إلى فلان القاضي، ونوى أنه يرفعه إليه وهو قاض، أو نطق بذلك، فقال: إلى فلان وهو قاض.. فقد فاته الرفع إليه بعزله، قال أكثر أصحابنا: فيكون كما لو مات القاضي.
فإن كان ذلك بعد أن تمكن من رفعه.. حنث في يمينه، وإن كان قبل أن يتمكن من رفعه، وحجب عنه إلى أن عزل.. فعلى قولين.
وإن لم يحجب عنه، ولكن عزل قبل أن يصل إليه.. فعلى الطريقين، كما قلنا في الموت.
وقال ابن الصباغ: لا يبر بالرفع إليه بعد العزل، كما قال أصحابنا، ولكن لا يحنث؛ لأن اليمين على التراخي، ويجوز أن يلي بعد عزله، فيرفعه إليه.
وإن قال: إلى فلان القاضي، ولم ينو وهو قاض، ولا نطق به.. فهل يبر برفعه إليه بعد العزل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يبر بالرفع إليه؛ لأنه علق اليمين بعين موصوفة بصفة، وقد زالت الصفة، فلم يبر، كما لو قال: والله لا أكلت هذه الحنطة، فطحنها وأكلها.
فعلى هذا يكون الحكم فيه كما لو نوى وهو قاض، أو نطق به.
والثاني: يبرأ بالرفع إليه، وهو الأصح؛ لأنه علق اليمين على عين، وذكر القضاء تعريفا له لا شرطا، فهو كما لو حلف: لا دخلت دار زيد هذه، فباعها زيد، ودخلها.. فإنه يحنث.

(10/567)


وإن قال: والله لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى قاض.. فلا يحنث هاهنا بترك الرفع إلى القاضي بموته ولا بعزله، ولا يحنث إلا بترك الرفع بعد إمكانه وموت الحالف؛ لأنه علق اليمين على الرفع إلى قاض منكر، وأي قاض رفع إليه.. بر في يمينه، سواء كان قاضيا وقت اليمين أو بعده.
وإن قال: والله لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى القاضي، فإن رأى منكرا، ورفعه إلى قاضي البلد حين رؤيته.. بر في يمينه، وإن مات ذلك القاضي، أو عزل بعد الرؤية وبعد التمكن من الرفع إليه.. فحكى ابن الصباغ، عن أبي إسحاق المروزي، والقاضي أبي الطيب: أنه يحنث في يمينه؛ لأن لام التعريف تقتضي اختصاص من إليه القضاء عند رؤية المنكر.
وقال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: لا يحنث، بل إذا رفعه إلى القاضي المولى بعده.. بر في يمينه؛ لأن الألف واللام يدخلان للجنس أو للعهد، ولم يرد بهما هاهنا الجنس، فثبت أن المراد بهما العهد، وذلك يتعلق بقاضي البلد.

[مسألة: حلف لا يكلمه زمانا أو حقبا]
وإن قال: والله لا كلمت فلانا زمانا، أو دهرا، أو حقبا، أو وقتا، أو حينا، أو مدة قريبة، أو بعيدة.. بر بأدنى زمان.
وقال أبو حنيفة: (الحين شهر، والحقب ثمانون عاما، والمدة القريبة دون الشهر، والبعيدة شهر) .
وقال مالك: (الحين سنة، والحقب أربعون عاما) .
دليلنا: أن هذه أسماء للزمان، ولم ينقل عن أهل اللغة فيه تقدير، وإنما يقع على القليل والكثير منه، وما من مدة إلا وهي قريبة بالإضافة إلى ما هو أبعد منها، وبعيدة بالإضافة إلى ما هو أقرب منها.

(10/568)


[مسألة: حلفلا يستخدم فلانا فخدمه]
مسألة: [حلف: لا يستخدم فلانا فخدمه] :
إذا حلف: أن لا يستخدم فلانا، فخدمه المحلوف عليه والحالف ساكت لم يستدعه إلى الخدمة.. لم يحنث الحالف، سواء كان المحلوف عليه عبده أو عبد غيره.
وقال أبو حنيفة: (إذا كان المحلوف عليه عبد الحالف.. حنث الحالف) .
دليلنا: أنه حلف على فعل نفسه، وهو طلب الخدمة، فلا يحنث بالسكوت، كما لو لم يكن عبده.

[فرع: حلف لا يحلق رأسه فحلقه غيره بأمره]
وإن حلف لا يحلق رأسه، فأمره غيره، فحلق رأسه.. فمن أصحابنا من قال: هل يحنث الحالف؟ فيه قولان، كما لو حلف السلطان: أن لا يضرب عبده، أو لا يبيع، أو لا يشتري، فأمر غيره، فضرب عبده، أو باع له، أو اشترى.
ومنهم من قال: يحنث، قولا واحدا؛ لأن العرف في الحلاقة في حق كل أحد أن يفعله غيره عنه بأمره، ثم يضاف الفعل إلى المحلوق، فانصرفت اليمين إلى المتعارف فيه.

[مسألة: حلف على فعلين فتعلق يمينه بهما]
إذا حلف على فعلين.. تعلقت اليمين بهما إثباتا كانا أو نفيا، مثل أن يقول: والله لأكلمن هذين الرجلين، أو لآكلن هذين الرغيفين، فلا يبر إلا بكلام الرجلين جميعا، وبأكل الرغيفين جميعا.
وكذلك: إذا قال: والله لا كلمت هذين الرجلين، أو لا أكلت هذين الرغيفين.. لم يحنث إلا بكلام الرجلين جميعا، أو بأكل الرغيفين جميعا.
وكذلك إذا قال: والله لا أكلت هذا الرغيف، فأكل بعضه.. لم يحنث، وبه قال أبو حنيفة.

(10/569)


وقال مالك وأحمد: (إذا كانت اليمين على النفي.. تعلقت بالبعض، فمتى أكل بعض الرغفيفين، أو بعض الرغيف.. حنث في يمينه) .
دليلنا: أن اليمين تعلقت بالجميع، فلم يحنث بالبعض، كاليمين على الإثبات.

[فرع: حلف ليشربن ماء الإناء]
وإن قال: والله لأشربن ماء هذه الإداوة، أو ماء هذا الكوز، أو ما أشبه ذلك.. قال ابن الصباغ: فإن كان مما يمكنه شربه في سنة أو سنتين.. لم يبر إلا بشرب جميعه.
وإن حلف: أن لا يشربه.. لم يحنث إلا بشرب جميعه، خلافا لمالك وأحمد في النفي، وقد مضى الدليل عليهما.
وإن قال: والله لأشربن من ماء هذه الإداوة، أو الكوز، فشرب بعضه.. بر في يمينه.
وإن قال: لا شربت منه، فشرب منه ولو أدنى قليل.. حنث في يمينه؛ لأن (من) للتبعيض.
وإن قال: والله لا شربت ماء هذا النهر، أو ماء دجلة، أو الفرات، أو البحر، مما لا يمكنه شرب جميعه بحال.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث بشرب بعضه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد؛ لأن شرب جميعه لا يمكن، فانعقدت اليمين على بعضه، وهذا كما لو حلف: لا يكلم الناس.. فإنه يحنث بكلام بعضهم.
والثاني: لا يحنث؛ لأن لفظه يقتضي جميعه، فلم يتعلق ببعضه، كالماء في الإداوة.

(10/570)


قال القاضي أبو الطيب: ينبغي على هذا أن لا تنعقد يمينه، كما لو حلف: لأصعدن السماء.

[مسألة: حلف لا يأكل طعاما اشتراه اثنان]
وإن قال: والله لا أكلت طعاما اشتراه زيد، فاشترى زيد وعمرو طعاما صفقة واحدة، أو اشترى أحدهما نصفه مشاعا في عقد واحد، ثم اشترى الآخر نصفه مشاعا في عقد، وأكل الحالف منه.. لم يحنث.
وقال أبو حنيفة: (يحنث) .
ودليلنا: أن كل جزء من الطعام لم ينفرد زيد بشرائه، ولا يصح أن يضاف إليه.. فلم يحنث بأكله، كما لو حلف: لا يلبس ثوبا اشتراه زيد، فلبس ثوبا اشتراه زيد وعمرو، وكما لو حلف: لا يأكل من قدر طبخها زيد، فأكل من قدر طبخها زيد وعمرو، أو لا يدخل دارا اشتراها زيد، فدخل دارا اشتراها زيد وعمرو. وقد وافقنا أبو حنيفة على ذلك. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يحنث الحالف؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يحنث الحالف؛ لما ذكرناه.
والثاني: يحنث، سواء أكل منه حبة أو لقمة؛ لأنه ما من جزء إلا وقد اشتركا في شرائه.
والثالث: إن أكل النصف أو أقل.. لم يحنث، وإن أكل أكثر من النصف.. حنث؛ لأنه إذا أكل أقل من النصف.. لم يتحقق أنه أكل ما اشتراه زيد، وإن أكل أكثر من النصف.. حنث؛ لأنه تحقق أنه أكل ما اشتراه زيد.
وإن حلف: لا يأكل طعاما اشتراه زيد، فاشترى زيد قفيز طعام منفردا، واشترى عمرو قفيز طعام منفردا، وخلطا الطعامين أو اختلطا، وأكل منه الحالف.. ففيه ثلاثة أوجه:

(10/571)


أحدها - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: إن أكل الحالف النصف فما دون.. لم يحنث، وإن أكل أكثر من النصف.. حنث؛ لأنه إذا أكل النصف فما دونه.. لا يتحقق أنه أكل ما اشتراه زيد، فلم يحنث، كما لو حلف: لا يأكل تمرة، فاختلطت بتمر كثير، فأكل الجميع إلا تمرة.
وإذا أكل أكثر من النصف.. تحققنا أنه أكل مما اشتراه زيد، فحنث.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: إن أكل حبات يسيرة، كالحبة والحبتين والعشرين حبة.. لم يحنث؛ لأنه يجوز أن يكون مما اشتراه عمرو، وإن أكل كفا.. حنث؛ لأنا نتحقق أن فيه مما اشتراه زيد؛ لأن العادة أن الطعامين إذا اختلطا أن لا يتميز الكف منه من أحدهما.
والثالث: - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه لا يحنث وإن أكل جميعه؛ لأنه لا يمكن أن يشار إلى شيء منه أنه مما اشتراه زيد، فصارا كما لو اشترياه مشاعا.
والأول اختيار القاضي أبي الطيب، ولم يذكر المسعودي [في " الإبانة "] غيره.
والثاني اختيار ابن الصباغ.

[فرع: حلف لا يأكل مما اشتراه زيد]
وإن حلف: لا يأكل من طعام اشتراه زيد، فاشترى زيد طعاما، ثم باع نصفه، فأكل منه الحالف.. قال ابن الصباغ: حنث؛ لأن زيدا اشترى جميعه.
وإن باع طعاما، فاستقال فيه، أو صالح على طعام من دعوى، فأكل منه الحالف.. قال الطبري: لم يحنث.
وكذلك: إذا ورث زيد طعاما هو وغيره، وقاسم شركاءه، وأكل مما حصل لزيد.. لم يحنث الحالف، سواء قلنا: إن الإقالة والقسمة بيع أو لم نقل؛ لأنا وإن قلنا: إنهما بيع، فإنما ذلك بيع من طريق الحكم، وأما من طريق الاسم والحقيقة: فليس ببيع، وكذلك الصلح بهذا المعنى.

(10/572)


وإن اشترى زيد طعاما سلما، فأكل منه الحالف.. قال الطبري: حنث الحالف؛ لأنه يسمى شراء في الحقيقة.
وإن اشترى زيد لغيره طعاما، فأكل منه الحالف.. حنث؛ لأن الاسم قد وجد.
وإن اشترى عمرو لزيد طعاما، فأكل منه الحالف.. لم يحنث؛ لأن اليمين على ما اشتراه زيد، وذلك يقتضي شراءه بنفسه.
وإن حلف: لا يدخل دارا اشتراها زيد، فاشترى زيد بعض دار، ثم أخذ باقيها بالشفعة، ودخلها الحالف.. لم يحنث؛ لأنه لم يشتر جميعها حقيقة.

[مسألة: حلف لا يدخل دارا فأدخلها برضاه]
إذا حلف: لا يدخل دارا، فدخلها ماشيا، أو راكبا، أو محمولا باختياره.. حنث؛ لأنه قد دخلها.
فإن قيل: فهلا قلتم: إذا دخلها محمولا.. لا يحنث، كما لو حلف: لا ضربت زيدا، فأمر غيره، فضربه؟
قلنا: إن الفصل بينهما: أن الدخول هو الانفصال من خارج الدار إلى داخلها، وقد وجد ذلك، فإذا كان باختياره.. أضيف الفعل إليه، بخلاف الضرب.
وإن أكره حتى دخلها، أو نسي اليمين، أو جهل الدار المحلوف عليها، فدخلها.. فهل يحنث؟ فيه قولان:
أحدهما: يحنث، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لأنه فعل المحلوف عليه فحنث.
والثاني: لا يحنث، وبه قال الزهري، وهو الأصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» ، ولأن حال النسيان والإكراه والجهل

(10/573)


لا تدخل في اليمين، كما لا تدخل في أوامر الشرع ونواهيه.
فإن أكرهه غيره، وحمله حتى دخل به الدار.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو دخلها بنفسه مكرها؛ لأنه لما كان دخوله بنفسه ودخوله محمولا واحدا.. وجب أن يكون دخوله مكرها بنفسه ومحمولا واحدا.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يحنث، قولا واحدا؛ لأنه لم يوجد منه فعل ولا اختيار، فلم يجز أن يضاف الدخول إليه.

[مسألة: حلف ليأكلن الرغيف غدا]
إذا قال: والله لآكلن هذا الرغيف غدا.. ففيه ست مسائل:
إحداهن: إذا أكله من الغد أي وقت كان منه.. بر في يمينه؛ لأنه فعل ما حلف ليفعلنه.
الثانية: إذا أمكنه أكله، فلم يأكله حتى انقضى الغد.. حنث في يمينه؛ لأنه فوت المحلوف عليه باختياره.
الثالثة: إذا أمكنه أكل جميعه من الغد، فلم يأكل إلا نصفه، وانقضى الغد.. حنث في يمينه؛ لأن اليمين على أكل جميعه، فلا يبر بأكل بعضه.
الرابعة: إذا تلف الرغيف في يومه أو من الغد قبل أن يتمكن من أكله فيه، أو منع من أكله، أو نسي حتى انقضى الغد.. فهل يحنث؟ فيه قولان، كما لو فعل المحلوف عليه مكرها أو ناسيا.
الخامسة: إذا أكل الرغيف في يومه، أو أكل بعضه.. حنث في يمينه.
وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يحنث) .

(10/574)


دليلنا: أنه فوت أكله من الغد بأكله إياه في اليوم، فحنث، كما لو ترك أكله من الغد حتى انقضى.
ومتى يحنث؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري:
أحدهما: يحنث عند أكل شيء منه؛ لأن الإياس من أكله حصل بذلك.
والثاني: يحنث بانقضاء الغد؛ لأنه وقت الأكل.
قال: ومثل هذين الوجهين إذا حلف: لأصعدن السماء غدا.
السادسة: إذا جاء الغد، وتمكن من أكله، ثم تلف الرغيف، أو منع من أكله قبل مضي الغد.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: يحنث، قولا واحدا؛ لأنه أمكنه أكله وفوته باختياره، فحنث، كما لو قال: والله لآكلن هذا الرغيف، ولم يقيده بمدة، فأمكنه أكله ولم يأكله.. فإنه يحنث وإن كان جميع عمره وقتا للأكل.
و [الثاني] : منهم من قال: فيه قولان؛ لأن جميع الغد وقت للأكل، ويخالف إذا كانت اليمين مطلقة؛ لأنه لم يعين وقته، وهذا كما قلنا فيمن أمكنه فعل الحج، ولم يحج حتى مات.. فإنه يأثم؛ لأنه غير مؤقت، ولو دخل عليه وقت الصلاة، وتمكن من فعلها، فمات في الوقت قبل أن يفعلها.. فإنه لا يأثم؛ لأن لها وقتا مقدرا.

[فرع: حلف ليأكلن الرغيف اليوم]
وإن قال: والله لآكلن هذا الرغيف اليوم.. ففيه ست مسائل أيضا:
إحداهن: أن يأكله في يومه، فيبر في يمينه.
الثانية: إذا أمكنه أكله في يومه، فلم يأكله حتى انقضى اليوم.. فيحنث في يمينه.

(10/575)


الثالثة: إذا أمكنه أكل جميعه، فلم يأكل إلا نصفه، وانقضى اليوم.. فيحنث في يمينه.
الرابعة: إذا تلف الرغيف بغير الأكل.. فيحنث في يمينه.
الخامسة: إذا تلف الرغيف قبل أن يتمكن من أكله.. فهل يحنث؟ فيه قولان.
السادسة: إذا تمكن من أكله، وتلف في اليوم.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: يحنث، قولا واحدا.
و [الثاني] : منهم من قال: فيه قولان، والتعليل ما مضى في الأولى.

[فرع: حلف ليطلقنها غدا]
إذا حلف: ليطلقن امرأته غدا، فطلقها في يومه، فإن طلقها ثلاثا.. حنث؛ لأنه فات طلاقه غدا، وإن طلقها واحدة أو اثنتين، ولم يستوف بذلك الثلاث.. لم يحنث؛ لأنه يمكنه طلاقها غدا، فإن طلقها غدا.. بر في يمينه، وإن لم يطلقها حتى انقضى الغد.. حنث في يمينه.
وإن كان عليه ركعتا نذر، فحلف: ليصلينهما غدا، فصلاهما اليوم.. حنث في يمينه؛ لأنه فوت المحلوف عليه، وإن حلف: ليصلين غدا، أو أطلق، فصلى اليوم.. لم يحنث؛ لأنه يمكنه أن يصلي غدا.

[فرع: حلف ليقضين حقه غدا]
وإن كان له عليه حق، فقال: والله لأقضينك حقك غدا.. ففيه المسائل الست التي مضت في الرغيف، إلا أن ينوي أن لا يخرج غدا حتى أقضيك، فإذا قضاه اليوم.. لم يحنث.
وإن قال: والله لأقضينك حقك غدا إلا أن تشاء أن تؤخره.. ففيه المسائل الست في الرغيف، وفيه:

(10/576)


سابعة: إذا قال من له الحق: شئت أن تؤخره، ولم يقضه حتى خرج الغد.. بر في يمينه.
وإن قال: والله لأقضينك حقك غدا إلا أن يشاء فلان.. ففيه المسائل السبع إذا قال: إلا أن تشاء أن تؤخره، وفيه:
ثامنة: وهو أن فلانا لو مات في الغد قبل أن تعلم مشيئته.. فقد تعذرت مشيئته، فيسقط حكمها، فيصير كما لو لم يستثن.

[مسألة: حلف ليقضين الحق عند أول الشهر]
وإن قال: والله لأقضينك حقك عند رأس الهلال، أو عند الاستهلال، أو مع رأس الهلال، أو مع الاستهلال، أو عند رأس الشهر.. فإن الحكم في الجميع واحد، ويقتضي أن يكون القضاء في أول جزء من الليلة الأولى من الشهر، فإن قضاه قبل ذلك.. حنث في يمينه؛ لأنه فوت القضاء باختياره، وإن مضى أول جزء من الليلة الأولى من الشهر، وأمكنه فيه القضاء، فلم يقضه.. حنث؛ لأنه ترك القضاء باختياره.
وإن شك: هل هذه الليلة أول الشهر أم لا؟ فلم يقضه، ثم بان أنها أول الشهر.. ففيه قولان.
وإن غابت الشمس في آخر يوم من الشهر، وأخذ في القضاء، وواصله كما جرت العادة باقتضاء مثله من الوزن إن كان موزونا، أو الكيل إن كان مكيلا.. بر في يمينه، وإن تأخر الفراغ منه مع مواصلته للقضاء.. لم يؤثر ذلك.
قال الطبري: فإن اشتغل عند غروب الشمس بحمل الميزان ليزن.. لم يحنث؛ لأنه اشتغل بأسباب القضاء. هذا مذهبنا.
وقال مالك: (رأس الشهر يتناول أول ليلة ويوم منه) . وإن ابتدأ بالقضاء في أثناء

(10/577)


الليلة الأولى، أو في أثناء اليوم الأول من الشهر.. بر في يمينه؛ لأن الشهر ليال وأيام، فكان أوله الليلة الأولى، وآخره اليوم الأول.
ودليلنا: أن (عند) و (مع) تقتضي المقارنة، ورأسه أول جزء منه، فاقتضى ابتداء القضاء فيه، وما ذكره يبطل بالسنة، فإنها شهور، وليس رأسها الشهر الأول منها.

[فرع: حلف ليقضينه إلى رمضان]
وإن قال: والله لأقضينك حقك إلى رمضان، فإن قضاه قبل رمضان.. بر في يمينه، وإن لم يقضه حقه حتى دخل شهر رمضان.. حنث في يمينه؛ لأن وقت القضاء قبل رمضان، فإذا أخره إلى رمضان.. فقد فوت القضاء عن وقته باختياره، فحنث في يمينه.
وإن قال: والله لأقضينك حقك إلى رأس الشهر، أو إلى أول الشهر، أو إلى رأس الهلال، أو إلى أول الهلال.. فقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: حكمه حكم ما لو قال: إلى رمضان، وهو قول المزني؛ لأن (إلى) للغاية.
ومنهم من قال: حكمه حكم ما لو قال: عند رأس الشهر، أو مع رأس الشهر، وهو ظاهر النص؛ لأن (إلى) قد تكون للغاية، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] ، وقد تكون بمعنى (مع) ، كقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف: 14] [الصف: 14] ، أي: مع الله، وكقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] ، أي: مع المرافق.
فإذا احتملت (إلى) هاهنا أن تكون للغاية، واحتملت أن تكون للمقارنة.. لم نحنثه بتركه القضاء قبل مجيء أول الشهر بالشك، ويخالف قوله: (إلى رمضان) ؛

(10/578)


لأنه لا يحتمل هاهنا أن تكون للمقارنة؛ لأنه لا يحتمل أن يكون القضاء مقارنا لجميع شهر رمضان؛ فلذلك جعلناها للغاية.

[فرع: حلف ليقضينه ليلة يرى الهلال]
قال في " الأم ": (وإذا قال: والله لأقضينك حقك في الليلة التي ترى فيها الهلال.. فأي وقت قضاه من جميع تلك الليلة.. بر بيمينه؛ لأنه جعلها كلها وقتا للقضاء، وإن لم يقضه حتى فاتت الليلة.. حنث في يمينه.
وإن قال: والله لأقضينك حقك إلى حين.. فليس بمقدر، فإذا قضاه في عمره.. بر في يمينه) .
وقال مالك: (الحين سنة، فإذا قضاه في السنة.. بر في يمينه، وإن تأخر القضاء عنها.. حنث) .
وقال أبو حنيفة وأحمد: (الحين شهر، فإن قضاه فيه.. بر في يمينه، وإن تأخر عنه.. حنث) .
دليلنا: أن الحين يقع على القليل والكثير، قال الله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] [ص: 88] وأراد: يوم القيامة، وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] [الإنسان: 1] ، وقال تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 54] [المؤمنون: 54] . ولا يتساوى الجميع، فدل على أن الحين يقع على الكثير والقليل.
وإن قال: والله لأقضينك حقك إلى دهر، أو إلى زمان، أو إلى حقب، أو إلى مدة قريبة أو بعيدة.. فليس ذلك بمقدر، ولا يحنث حتى يفوته القضاء بالموت.
وقال أبو حنيفة: (القريب دون الشهر، والبعيد شهر، والحقب ثمانون عاما) .
وقال مالك: (الحقب أربعون عاما) ؛ لأنه روي عن ابن عباس في قَوْله تَعَالَى:

(10/579)


{لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23] [النبأ: 23] ، قال: (الحقب ثمانون عاما) . وروي عنه: (أربعون عاما) .
دليلنا: أن ذلك اسم للزمان، ولم ينقل عن أهل اللغة فيه حد مقدر، وما من مدة إلا وهي قريبة بالإضافة إلى ما هو أبعد منها، وبعيدة بالإضافة إلى ما هو أقرب منها.
وما روي عن ابن عباس.. فلا يمتنع أن اسم الحقب يقع على أكثر مما ذكر وأقل منه، وإنما أراد تفسير أحقاب لبث أهل النار فيها دون مقتضاها في اللغة.

[فرع: حلف ليقضينه حقه إلى أيام]
وإن قال: والله لأقضينك حقك إلى أيام.. قال القاضي أبو الطيب في " المجرد ": إن لم يكن له نية.. فعندي: أنها ثلاثة أيام؛ لأنها أقل الجمع. وقال القاضي حسين الطبري في " عدته ": حكمه حكم ما لو قال: إلى حين وزمان؛ لأنه يعبر بالأيام عن القليل والكثير، ولهذا قال الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] . ويقال: أيام الفتنة، وأيام العدل، فلم يكن لها شيء معلوم. وإلى هذا أشار ابن الصباغ؛ فإنه قال: قول القاضي لا يوافق ما ذكرناه من الحين والزمان، ولأنا قلنا في القريب والبعيد: لا حد له؛ لأنه يقع على القليل والكثير، فلم يعلقه بأقل ما يقع عليه الاسم، فكذلك الأيام أيضا. ولم يذكر المحاملي غير هذا.

[مسألة: حلف لا يفارقه حتى يستوفي حقه]
وإن كان له على رجل حق، فقال من له الحق: والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك.. فقد علق الحالف اليمين على فعل نفسه، فإن استوفى منه حقه قبل المفارقة..

(10/580)


بر في يمينه، وإن فارقه باختياره قبل استيفاء حقه.. حنث في يمينه، وإن أكره حتى فارقه، أو نسي ففارقه قبل الاستيفاء.. فهل يحنث؟ فيه قولان.
وإن فر من عليه الحق عن الحالف قبل الوفاء. فقد قال أكثر أصحابنا: لا يحنث الحالف، قولا واحدا.
وحكى الشيخ أبو إسحاق: أن أبا علي بن أبي هريرة قال: هل يحنث الحالف؟ فيه قولان، كالقولين في الحالف إذا أكره حتى فارق الغريم، وهو قول المسعودي [في " الإبانة "] والأول هو الأصح؛ لأنه حلف على فعل نفسه، ولم يوجد منه فعل.
فإذا فر من عليه الحق.. لم يحنث الحالف، سواء كان بأمر الحالف واختياره أو بغير أمره واختياره.
وإن قال من له الحق لمن عليه الحق: والله لا فارقتني حتى استوفي حقي منك.. فقد علق الحالف اليمين على فعل من له عليه الحق، فإن وفاه الحق قبل أن يفارقه.. بر في يمينه، وإن فارقه من عليه الحق باختياره قبل أن يوفيه.. حنث الحالف، سواء فارقه بأمر الحالف واختياره أو بغير أمره واختياره؛ لأنه علق اليمين على فعل من عليه الحق.
وقال صاحب " التقريب ": إذا فر من عليه الحق.. فهل يحنث الحالف؟ فيه قولان. والأول هو المشهور.
وإن أكره من عليه الحق حتى فارقه من له الحق قبل الوفاء، أو نسي اليمين، ففارقه قبل الوفاء.. فهل يحنث الحالف؟ فيه قولان.
وإن فر من له الحق قبل الوفاء.. لم يحنث، قولا واحدا؛ لأنه لم يعلق اليمين بفعل نفسه، وإنما علقها بفعل من عليه الحق، ولم يوجد من جهة من عليه الحق فعل.
وإن قال من له الحق: والله لا افترقت أنا وأنت حتى توفيني حقي، أو لا نفترق أنا وأنت حتى أستوفي حقي منك.. فقد علق اليمين بفعل كل واحد منهما على

(10/581)


الانفراد، فأيهما فارق الآخر مختارا ذاكرا لليمين قبل الاستيفاء.. حنث الحالف؛ لأنه علق اليمين على فعل كل واحد منهما.
وقال في " الأم ": (لو قال: والله لا افترقت أنا وهو، ففر منه.. حنث في قول من قال: لا يطرح الخطأ والغلبة عن الناسي، ولم يحنث في قول من طرح الخطأ والغلبة عن الناسي) . قال الشيخ أبو حامد: وهذا خطأ. ولا فرق بين أن يقول: (أنا وأنت) ، وبين أن يقول: (أنا وهو) . وينبغي أن يحنث، قولا واحدا؛ لأن معنى ذلك: لا فارقتني ولا فارقتك.
وإذا حلف على فعله، ففر منه.. فقد حنث؛ لأنه غير مكره على فعله.
وإن قال: والله لا افترقنا حتى أستوفي حقي منك.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يحنث الحالف، إلا أن يفارق كل واحد منهما صاحبه، فأما إذا فارق أحدهما صاحبه.. فلا يحنث الحالف؛ لأنه علق اليمين بوجود الافتراق منهما، فلم يحنث بوجوده من أحدهما.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: إذا فارق أحدهما الآخر مختارا ذاكرا لليمين.. حنث الحالف، كقوله: لا افترقت أنا وأنت؛ لأنه علق اليمين على الافتراق، وذلك يوجد بمفارقة أحدهما.

[فرع: حلف لا يفارقه حتى يستوفي حقه فأفلس]
وإن قال من له الحق: والله لا فارقتك حتى أستوفي منك حقي، فأفلس من عليه الحق، فإن فارقه من له الحق من غير أن يجبره الحاكم على مفارقته.. حنث، قولا واحدا؛ لأنه فارقه باختياره وإن كان ذلك واجبا عليه، كما لو حلف: لا يصلي، فصلى الفريضة. وإن أجبره الحاكم على مفارقته.. فهل يحنث؟ فيه قولان، كما لو أكره حتى فارقه.

(10/582)


وإن كان حقه دراهم، فأعطاه دراهم، وبان أنها رصاص أو نحاس، فإن علم بذلك الحالف قبل المفارقة وفارقه.. حنث؛ لأنه فارقه باختياره وقبل استيفاء حقه، وإن ظنها دراهم جيدة، ففارقه، ثم بان أنها رصاص أو نحاس.. فهو في حكم المكره على المفارقة، وهل يحنث؟ على قولين.
وإن أحاله من عليه الحق على آخر، ففارق الغريم.. حنث الحالف؛ لأنه لم يستوف حقه؛ لأن اسم الاستيفاء حقيقة لا يقع على الحوالة.

[فرع: حلف بالله لا يفارقه حتى يستوفي فدفع عوضا لمن له حق عليه]
وإن قال: والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي، فدفع إليه من عليه الحق عما عليه من الحق عوضا؛ بأن كان له عليه دراهم أو دنانير، فأعطاه بها عوضا، وفارقه من له الحق.. حنث، سواء كان العوض يساوي حقه أو لا يساوي؛ لأن الذي أخذه ليس هو حقه، وإنما هو عوض عن حقه.
إذا ثبت هذا: فإن المزني نقل: (لو أخذ بحقه عوضا، فإن كان قيمته حقه.. لم يحنث، وإن كان أقل حنث) . قال المزني: ليس للقيمة معنى.
قال أصحابنا: وهذا الذي نقله المزني ليس هو مذهب الشافعي، وإنما هو مذهب مالك؛ لأن الشافعي بدأ في (كتاب الأيمان) بمذهب مالك، ثم ذكر مذهب نفسه بعد ذلك، كما تقدم.
وقال أبو حنيفة: (إذا أخذ عن حقه عوضا.. بر في يمينه، سواء كان قيمته حقه أو أقل من حقه) .
دليلنا عليهما: ما مضى.
وأما إذا قال: والله لا فارقتك حتى أستوفي، ولم يقل: حقي، ثم أخذ منه العوض وفارقه.. فقد قال المحاملي: فإن كان قيمة ما أخذه منه مثل حقه أو أكثر.. لم يحنث؛ لأنه استوفى حقه، وإن كان أنقص منه.. حنث؛ لأنه لم يستوف مثل حقه، بل ترك بعضه.

(10/583)


وإن قال: [والله] لا فارقتك وقد بقي لي عليك حق، ثم أخذ منه عوضا، أو أبرأه، ثم فارقه.. لم يحنث؛ لأنه لم يبق له عليه حق.

[فرع: حلف لا يفارقه حتى يؤدي ما عليه]
وإن قال من عليه الحق: والله لا فارقتك حتى أدفع إليك ما لك علي، أو لأقضينك حقك، فإن كان الحق عينا.. فمعنى القضاء فيها: الرد، فإن وهبها صاحب الحق للحالف، فقبل الهبة، وأذن له في قبضها، وأتت عليه مدة القبض، وكان ذلك قبل أن يردها إلى مالكها.. حنث الحالف؛ لأنه فوت ردها إليه باختياره بقبول الهبة. وإن كان الحق عليه دينا، فأبرأه صاحب الحق، فإن قلنا: إن الإبراء يفتقر إلى القبول، فقبل من عليه الحق.. حنث؛ لأنه فوت الدفع والقضاء بقبوله البراءة، وإن قلنا: إن الإبراء لا يفتقر إلى القبول.. فقد برئ، وقد فاته الدفع والقضاء بغير اختياره.
قال المحاملي: فيحتمل أن يكون في حنثه قولان، كالمكره، ويحتمل أن لا يحنث، قولا واحدا؛ لأنه لم يوجد من جهته فعل بحال، لا مختارا ولا مكرها.
إذا ثبت هذا فإن المفارقة التي يحصل بها الحنث في جميع ذلك كالمفارقة التي ذكرناها في انقطاع خيار المجلس في البيع.
والله أعلم، وبالله التوفيق

(10/584)


[باب كفارة اليمين]
إذا حلف بالله، وحنث.. لزمته الكفارة.
قال الطبري في " العدة ": والظاهر من المذهب: أن الكفارة تجب بسببين: اليمين والحنث.
ومن أصحابنا من قال: تجب الكفارة باليمين فحسب، والحنث وقت للكفارة. وقال سعيد بن جبير: تجب الكفارة باليمين.

(10/585)


وقال أبو حنيفة: (تجب بالحنث) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلف بأيمان كثيرة» . ولم يرو عنه أنه كفر عنها، حيث لم يحنث فيها، فلو وجبت باليمين فحسب.. لكفر عنها.
إذا ثبت هذا: فكفارة اليمين إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، وهو مخير في هذه الثلاثة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . فإن لم يقدر على أحد هذه الثلاث الأشياء.. وجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . وليس في شيء من الكفارة تخيير وترتيب إلا هذه.
وإن قال: والله لا دخلت الدار، والله لا دخلت الدار، ثم دخلها، فإن نوى باليمين الثانية تأكيد الأولى.. لزمه كفارة واحدة، وإن نوى بها الاستئناف.. ففيه قولان:

(10/586)


أحدهما: يلزمه كفارتان؛ لأنهما يمينان بالله حنث بهما، فهو كما لو كانتا على فعلين.
والثاني: لا تلزمه إلا كفارة واحدة، وهو الأصح؛ لأن الثانية لم تفد إلا ما أفادته الأولى.
وإن أطلق ولم ينو شيئا، فإن قلنا: إنه إن نوى الاستئناف لم تلزمه إلا كفارة واحدة.. فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: تلزمه كفارتان.. فهاهنا قولان، بناء على من كرر لفظ الطلاق، ولم ينو التأكيد ولا الاستئناف.
فإن قلنا هناك: لا يلزمه إلا طلقة.. لم تلزمه هاهنا إلا كفارة.
وإن قلنا هناك: تلزمه طلقتان.. لزمه هاهنا كفارتان.
وإن حلف على أمر مستقبل.. فالمستحب له: أن لا يكفر حتى يحنث؛ ليخرج من الخلاف.
وإن أراد أن يكفر قبل الحنث، فإن كانت اليمين على غير معصية، بأن حلف: ليصلين، أو لا يدخل الدار.. جاز له أن يكفر بالإطعام، أو الكسوة، أو العتق، وبه قال عمر وابن عمر وابن عباس وعائشة والحسن البصري وابن سيرين وربيعة ومالك والأوزاعي.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (لا يجوز) .
دليلنا: ما روى أبو داود في " سننه " [ (3277) و (3278) ] : «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الرحمن بن سمرة: " إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها.. فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير» .
ولأنه حق مال يتعلق بسببين يختصان به، فجاز تقديمه على أحدهما، كالزكاة.

(10/587)


وإن أراد أن يكفر بالصوم قبل الحنث.. لم يجز.
وقال مالك: (يجوز) .
دليلنا: أنه عبادة بدنية لا حاجة به إلى تقديمها، فلم يجز تقديمها قبل الوجوب، كصوم رمضان.
فقولنا: (بدنية) احتراز من المالية.
وقولنا: (لا حاجة به إلى تقديمها) احتراز من تقديم الصلاة في الجمع وفي السفر والمطر.
وإن كانت اليمين على معصية، بأن حلف: أن لا يشرب الخمر، فأراد أن يكفر قبل أن يشرب.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن تقديم الكفارة رخصة فلا تجوز بسبب المعصية، كالقصر والجمع في سفر المعصية.
والثاني: يجوز؛ لأن الكفارة لا تتعلق بها استباحة ولا تحريم، بل يبقى المحلوف عليه على حالته ويفارق السفر، فإنه سبب في جواز القصر والجمع.
وإن ظاهر من الرجعية، وأراد أن يكفر قبل العود، أو جرح رجلا، وأراد أن يكفر عن القتل قبل موت المجروح، أو جرح المحرم صيدا، وأراد أن يخرج الجزاء قبل موت الصيد، أو احتاج إلى المشي على الجراد المنتشر وهو محرم، أو احتاج إلى استعمال الطيب وهو محرم، فأراد إخراج الكفارة قبل ذلك.. فمن أصحابنا من قال: فيه وجهان كما قلنا في التي قبلها:
أحدهما: يجوز؛ لأنه وجد أحد سببي الكفارة.
والثاني: لا يجوز؛ لأن في ذلك استباحة محظور.
ومنهم من قال: يجوز، وجها واحدا؛ لأنه ليس فيه توصل إلى معصية.
والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما في الصوم.. جاز لهما الفطر وإخراج

(10/588)


الفدية لليوم الذي تريد فطره، وهل يجوز إخراج الفدية ليوم بعده؟ فيه وجهان، كالوجهين في تقديم الزكاة لعامين.

[مسألة: يختص العتق بالرقبة المؤمنة]
فإن أراد أن يكفر بالعتق.. أعتق رقبة مؤمنة، على ما ذكرناه في الظهار.
وإن أراد أن يكفر بالإطعام.. أطعم عشرة مساكين، كل مسكين مدا من الطعام، على ما ذكرناه في الظهار.
وإن أراد أن يكفر بالكسوة.. كسا عشرة مساكين، كل مسكين ما يقع عليه اسم الكسوة، من قميص، أو عمامة، أو سراويل، أو رداء، أو إزار، أو مقنعة، أو خمار.
وقال مالك، وأحمد: (لا يجزئه إلا ما يجزئ فيه الصلاة) .
قال أبو يوسف ومحمد: لا يجزئه السراويل والعمامة.
دليلنا: أن الشرع ورد بالكسوة مطلقة، وليس له عرف يحمل عليه، فوجب حمله على ما يقع عليه اسم الكسوة، واسم الكسوة يقع على العمامة والمقنعة والخمار والسراويل، فأجزأه، كالقميص، وهل تجزئ فيه القلنسوة؟ فيه وجهان:

(10/589)


أحدهما: لا تجزئه؛ لأنه لا يقع عليها اسم الكسوة.
والثاني: تجزئه؛ لما روي عن عمران بن الحصين، أنه سئل عن قَوْله تَعَالَى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] فقال: (إذا أعطاهم قلنسوة قلنسوة.. أجزأ، أرأيت لو قدم وفد على الأمير، فأعطاهم قلنسوة قلنسوة.. فإنه يقال: قد كساهم) .
وإن أعطاه خفا، أو شمشكا، أو نعلا، أو جوربا، أو تكة.. لم يجزئه؛ لأن ذلك لا يقع عليه اسم الكسوة.
قال ابن الصباغ: وقد حكى الشيخ أبو حامد في الخف وجهين، والأول هو المشهور.
ويجوز دفع الكسوة مما اتخذ من الصوف والشعر والكتان والخز والوبر والقطن، وأما ما اتخذ من الحرير فإن أعطاه امرأة.. أجزأه، وإن أعطاه رجلا.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه يحرم عليه لبسه.
والثاني: يجزئه؛ لأنه يجوز أن يدفع إلى الرجل كسوة المرأة، وإلى المرأة كسوة الرجل.
والمستحب أن يكون ما يدفعه جديدا، خاما كان أو مقصورا.
فإن دفع لبيسا، فإن كان قد خلق.. لم يجزه؛ لأنه قد ذهبت قوته، فلم يجزه كالطعام المسوس، وإن كان لم يخلق.. أجزأه، كالطعام العتيق.

(10/590)


[فرع: أطعم قسما وكسا آخر]
إذا أطعم خمسة، وكسا خمسة.. لم يجزه.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجزئه) .
دليلنا: أنهما نوعان من أنواع الكفارة، فلم يجز إخراج الكفارة منهما، كما لو أعتق نصف رقبة، وكسا خمسة.

[مسألة: يكفر بالإطعام والكسوة عند غناه]
ولا يجب عليه أن يكفر بالمال - وهو الإطعام، أو الكسوة، أو العتق - إلا إذا قدر على ذلك فاضلا عن كفايته على الدوام؛ بحيث لا يجوز له أخذ الزكاة بالفقر أو المسكنة.
فإن لم يجد ذلك فاضلا عن كفايته على الدوام.. انتقل إلى صوم ثلاثة أيام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . وهل يجب فيها التتابع؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب فيها التتابع، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، واختاره المزني؛ لما روي: أن ابن مسعود كان يقرؤها: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. والقراءة الشاذة كخبر الواحد، ولأنه صوم في كفارة جعل بدلا عن العتق، فوجب فيه التتابع، كصوم الظهار.

(10/591)


فقولنا: (صوم في كفارة) احتراز من صوم النذر المطلق، ومن صوم قضاء رمضان.
وقولنا: (جعل بدلا عن العتق) احتراز من صوم فدية الأذى.
والثاني: لا يجب فيها التتابع، بل يجزئ فيه التفريق، وبه قال مالك، وعطاء.
قال المحاملي: وهو الأصح، ووجهه: القراءة المشهورة: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . ولم يفرق بين أن تكون متتابعة أو متفرقة. ولأنه صوم ورد به القرآن مطلقا، فأجزأ فيه التفريق، كصوم فدية الأذى.
وأما قراءة ابن مسعود: فإن عموم القرآن أولى منها.
فإذا قلنا: يجب فيها التتابع، فصامتها المرأة وحاضت في أثنائها.. انقطع تتابعها.
وقال أحمد: (لا ينقطع تتابعها، كصوم الشهرين في كفارة القتل) .
دليلنا: أنه يمكنها أن تصوم ثلاثة أيام متتابعات، لا يتخللها الحيض، فإذا تخللها.. قطعها، كما لو صامتها وتخللها يوم الأضحى، ويخالف صوم الشهرين، فإنه لا يمكنها ذلك إلا بتأخير الصيام إلى الإياس، وذلك تغرير بالصوم.
وأما إذا تخلل المرض والسفر في الثلاث: فالحكم فيه كما ذكرنا في كفارة الظهار.

[مسألة: مات وعليه كفارات ونحوها]
إذا مات وفي ذمته كفارات، أو هدي، أو نذر مال.. فإن ذلك لا يسقط بموته.
وقال أبو حنيفة: (يسقط بموته) . وقد مضى الدليل عليه في الزكاة.
إذا ثبت أنها لا تسقط.. فإنها تخرج من تركته، فإن اتسعت تركته لجميعها.. أخرجت، وإن كان ماله لا يتسع لجميعها، فإن كانت كلها متعلقة بالعين، بأن كان

(10/592)


عليه زكاة مال والمال باق وهو أنواع، كالذهب والفضة والمواشي والزرع.. سوى بين الجميع.
وهكذا إذا كانت متعلقة بالذمة، بأن كان المال الذي وجبت فيه الزكاة تالفا واستفاد غيره، أو كانت نذورا، أو كفارات.. سوى بين الجميع، وأخرج من كل عين بقسطها.
وإن كان بعضها متعلقا بالعين، وبعضها متعلقا بالذمة.. قدم ما تعلق بالعين.
وإن كان عليه حق لله تعالى، وحق للآدمي، وبعضها متعلقا بالعين، وبعضها متعلقا بالذمة.. قدم ما تعلق بالعين على ما تعلق بالذمة، سواء كان لله أو للآدمي.
وإن كان الحقان متعلقين بالعين، أو متعلقين بالذمة.. فأيهما يقدم؟ فيه ثلاثة أقوال، مضت في (الزكاة) .

[فرع: مات وفي ذمته كفارة يمين ولم يوص]
وإن كان عليه كفارة يمين، ومات ولم يوص بها.. فالواجب عليه أقل الأنواع، وهو الإطعام.
ويجوز للورثة أن يكسوا المساكين، وهل يجوز لهم أن يعتقوا عنه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
وإن رضي بأن يعتق عنه عن كفارة اليمين.. كان ذلك من ثلثه، سواء أطلق أو قال: من رأس المال، أو من الثلث؛ لأنه ليس بواجب.
فإن وفى ثلثه برقبة تجزئ.. فلا كلام، وإن لم يف الثلث برقبة تجزئ.. ففيه وجهان.
وقال أبو إسحاق: يعزل قدر الإطعام من رأس المال، ويضاف إليه الثلث من الباقي، فإن وفى برقبة تجزئ.. أعتقه، وإلا.. أطعم عنه، كما يقول فيه إذا وصى أن يحج عنه من دويرة أهله، ولم يف الثلث بذلك.
ومن أصحابنا من قال: تبطل الوصية بالعتق، ويطعم عنه، وهو ظاهر النص؛

(10/593)


لأن الذي وصى به لم يحتمله الثلث، فسقط، ويفارق الحج؛ لأن الذي وصى به هو الواجب، وإنما أراد تكميله، والعتق هاهنا غير واجب، وإنما الواجب الإطعام.

[مسألة: فرض كفارة العبد الصوم]
إذا وجبت على العبد كفارة اليمين أو غيرها من الكفارات.. فإن فرضه الصوم؛ لأنه لا يملك المال على الجديد.
وعلى القديم: (لا يملك العبد إلا بتمليك السيد له، وهو ملك ضعيف) .
فإن أراد العبد أن يكفر بالمال بإذن السيد، أو أراد السيد أن يكفر عنه به.. فلا يجوز على قوله الجديد؛ لأنه لا يملك المال بحال.
وأما على قوله القديم: فيجوز أن يكفر بإذن السيد، أو يكفر عنه السيد بالإطعام والكسوة، ولا يجوز بالعتق.
قال ابن القفال في " التقريب ": وقد قيل: يصح، وتثبت له الولاية. وبه قال أحمد، وأنكر ذلك سائر أصحابنا.
دليلنا: أن العتق لا ينفك عن الولاء، والعبد ليس من أهل الولاء؛ لأن الولاء يتضمن الولاية والميراث، والعبد لا يلي ولا يرث، فلذلك لم يثبت له الولاء.
إذا ثبت هذا: وأراد العبد أن يصوم عن الكفارة، فإن كان الصيام في وقت يضر بالعبد أو يضعفه عن العمل؛ لشدة الحر، أو لطول النهار، فإن حلف بإذن السيد، وحنث بإذنه، أو حلف بغير إذنه، وحنث بإذنه.. جاز له أن يصوم بغير إذنه؛ لأن إذنه فيما يوجب الصيام إذن له به، كما إذا أذن له في الإحرام فأحرم.. لم يكن له منعه من فعله.
وإن حلف وحنث بغير إذنه.. كان للسيد منعه من الصيام.
وقال أحمد: (ليس له منعه) .

(10/594)


دليلنا: أن السيد لم يأذن له فيما ألزمه نفسه، وعلى السيد ضرر فيه؛ لأن منفعته تنقص، فكان له منعه، كما لو أراد أن يحرم بالحج بغير إذنه.
وإن حلف بإذنه، وحنث بغير إذنه.. فهل يجوز له الصوم بغير إذنه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه أذن له في أحد سببي الكفارة، فهو كما لو أذن له في الحنث دون اليمين.
والثاني: لا يجوز، وهو الأصح؛ لأنه لو حلف بغير إذنه، وحنث بغير إذنه.. لم يجز له أن يصوم بغير إذنه ولم ينهه عن الحنث، فلأن لا يجوز له الصوم بغير إذنه وقد نهاه عن الحنث باليمين أولى.
وإن كان الصوم في نهار لا يضعفه عن العمل، ولا يضر ببدنه، كالصوم في الشتاء وما قاربه من الزمن.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: حكمه حكم الصوم في الزمان الذي يضر ببدن العبد أو بعمله؛ لأنه ينقص عن نشاطه.
والثاني - ولم يذكر ابن الصباغ، والمحاملي غيره -: أنه ليس للسيد منعه منه بحال؛ لأنه لا يضر به، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة» ، أي: أنه يحصل من غير مشقة.

(10/595)


قال أبو إسحاق: وكذلك إذا أراد العبد أن يتطوع بالصيام في هذا الزمان من غير إذن السيد، أو أراد أن يتطوع بالصلاة في غير زمان خدمته.. لم يكن للسيد منعه من ذلك؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك.
فكل موضع قلنا: لا يجوز له أن يصوم بغير إذن سيده إذا صام بغير إذنه.. فللسيد أن يحلله منه، كما قلنا في الحج، وإن لم يحلله منه.. أجزأه؛ لأنه من أهل الصيام، وإنما منع منه لحق السيد، فإذا فعله.. صح، ويسقط به الفرض، كصلاة الجمعة.

[فرع: حلف عبد ثم عتق كان كالأحرار]
وإن حلف العبد، ثم أعتق، ثم حنث.. فحكمه في الكفارة حكم الأحرار؛ لأن الوجوب والأداء في حال الحرية.
وإن حنث، ثم أعتق قبل أن يكفر، فإن كان معسرا.. ففرضه الصوم؛ لأنه حين الوجوب وحين الأداء من أهل الصوم، وإن كان موسرا، فإن قلنا: الاعتبار بحال الأداء، أو بأغلظ الحالين.. ففرضه أحد الأشياء الثلاثة، إما الإطعام، أو الكسوة، أو العتق، ولا يجزئه الصيام.
وإن قلنا: إن الاعتبار بالكفارة بحال الوجوب.. ففرضه الصوم؛ لأنه كان حين الوجوب معسرا، فإذا أراد أن يكفر بالمال.. جاز له أن يطعم، أو يكسو، أو يعتق.
ومن أصحابنا من قال: لا يكفر بالعتق، قولا واحدا، وفي الإطعام والكسوة القولان في ملك العبد؛ لأن الاعتبار بحال الوجوب، وحال الوجوب كان عبدا.

(10/596)


والصحيح هو الأول؛ لأن الشافعي قال: (إذا أعتق فكفر بالمال.. أجزأه؛ لأنه حينئذ مالك للمال) . واعتباره بحال الوجوب في ذلك لا يصح؛ لأنه إذا كفر بالمال في حال رقه.. احتاج إلى إذن السيد، وبعد العتق لا يحتاج إلى ذلك.

[مسألة: على المبعض كفارة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو حنث ونصفه عبد ونصفه حر، فكان في يده لنفسه مال.. لم يجزئه الصوم) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان نصفه عبدا ونصفه حرا، ووجبت عليه كفارة؛ فإن لم يكن له مال بنصفه الحر.. ففرضه الصوم، وإن كان له مال بنصفه الحر.. فعليه أن يكفر بالإطعام أو الكسوة، ولا يجوز له أن يكفر بالعتق؛ لأنه إذا لم تكمل فيه الحرية.. فليس من أهل الولاية والميراث.
وقال المزني: فرضه الصيام. وتابعه أبو العباس ابن سريج على هذا؛ لأن عدم بعض الحرية فيه بمنزلة عدمه لبعض الطعام، وقال: إنما قال الشافعي هذا على قوله القديم: (إن العبد يملك) .
والمذهب الأول؛ لأنه قادر على التكفير بالمال فاضلا عن كفايته على الدوام، فأشبه الحر، ويخالف إذا عدم بعض الطعام، فإنه غير قادر عليه.
والله أعلم بالصواب، وبالله التوفيق

(10/597)