البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب العدد]

(11/5)


كتاب العدد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [سورة البقرة: 228] ) .
وجملة ذلك: أن الزوجة يجب عليها العدة بطلاق الزوج، أو بوفاته.
فأما عدة الطلاق: فينظر فيه.
فإن طلقها قبل الخلوة بها والدخول.. لم تجب عليها العدة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] [سورة الأحزاب: 49] .
وإن طلقها بعد أن دخل بها.. وجبت عليها العدة؛ لأن الله تعالى لما لم يوجب عليها العدة إذا طلقت قبل الدخول.. دل على: أنها تجب عليها العدة بعد الدخول، ولأن رحمها قد صار مشغولا بماء الزوج، فوجبت عليها العدة؛ لبراءته منه.
وإن طلقها بعد الخلوة وقبل الدخول.. فقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد على: (أن الخلوة لا تأثير لها في استقرار المهر، ولا في إيجاب العدة، ولا في قوة قول من يدعي الإصابة) .
وقال أبو حنيفة: (الخلوة كالإصابة في استقرار المهر لها وإيجاب العدة) .

(11/7)


وقال مالك: (للخلوة تأثير في أنه يقوى بها قول من يدعي الإصابة منهما دون استقرار المهر لها وإيجاب العدة) .
وقال الشافعي في القديم: (للخلوة تأثير) .
فمن أصحابنا من قال: تأثيرها في القديم كقول أبي حنيفة في استقرار المهر وإيجاب العدة.
ومنهم من قال: تأثيرها في القديم كقول مالك. والأول: أصح.
فإذا قلنا بقوله القديم: فوجهه: ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إذا أُرِخِيَ الستر، وأغلق الباب.. فقد وجب المهر، ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم) ، ولأن التمكين من استيفاء المنفعة جعل كاستيفائها في الإجارة، فكذلك في النكاح.
وإذا قلنا بقوله الجديد - وبه قال ابن مسعود، وابن عباس، وهو الأصح - فوجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] ، وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] [الأحزاب: 49] . ولم يفرق بين أن يكون خلا بها أو لم يخل بها. ولأنها خلوة عريت عن الإصابة، فلم يتعلق بها حكم، كالخلوة في غير النكاح.

(11/8)


وما روي عن عمر.. يعارضه ما رويناه عن ابن عباس، وابن مسعود، وعلي: أنه يحتمل أنه أراد بقوله: (فقد وجب المهر) أي: فقد وجب تسليم المهر؛ لأنها قد مكنت من نفسها، ولم يرد به الاستقرار.

[مسألة العدة على المطلقة الحائل والحامل]
] : وإذا وجبت العدة على المطلقة.. لم يخل: إما أن تكون حاملا، أو حائلا.
فإن كانت حاملا.. لم تنقض عدتها إلا بوضع الحمل، حرة كانت أو أمة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] ، ولأن العدة تراد لبراءة الرحم، وبراءة الرحم تحصل بوضع الحمل، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السبايا: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض» .
وإن كان الحمل ولدا واحدا.. لم تنقض العدة إلا بوضع جميعه، فإن خرج بعضه دون بعض، فاسترجعها الزوج قبل انفصال جميعه.. صحت رجعته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . وهذه لم تضع حملها.

(11/9)


وإن كان الحمل ولدين أو أكثر، فوضعت واحدا.. لم تنقض عدتها إلا بوضع ما بقي معها منه.
وإن راجعها الزوج قبل وضع ما بعد الأول.. صحت الرجعة، وبه قال أكثر الفقهاء، إلا عكرمة، فإنه قال: تنقضي عدتها بوضع الأول.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . والحمل يقع على جميع ما في البطن من الأولاد، بدليل: أن رجلا لو قال لامرأته: إذا وضعت حملك، فأنت طالق.. لم تطلق إلا بوضع جميع ما في بطنها من الأولاد.

[فرع وضعت جنينا أو ميتا]
] . وإذا ولدت المرأة ولدا ميتا، أو جنينا وقد بان فيه شيء من خلقة الآدمي، من عين، أو ظفر.. أنقضت به العدة، ووجبت فيه الغرة على ضاربها، ووجبت فيه الكفارة، وتصير الجارية به أم ولد.
وإن أسقطت مضغة ليس فيها شيء ظاهر من خلقة الآدمي، إلا أنه شهد أربع نسوة ثقات من أهل المعرفة أن فيه تخطيطا باطنا من خلقة ابن آدم.. تعلقت به الأحكام الأربعة في الولد.
وحكي: أن أبا سعيد الإصطخري أتي بسقط لم يبن فيه شيء من خلقة الآدميين، فتوقف فيه، فشهد القوابل أنه مخطط مصور، فطرح في ماء جار، فاستجسد وبان تخطيطه وتصويره، فحكم بانقضاء العدة به.
وإن أسقطت شيئا مستجسدا ليس فيه تخطيط ظاهر ولا باطن، ولكن شهد أربع من القوابل أن هذا مبتدأ خلق آدمي ولو بقي لتخطط وتصور.. فقد قال الشافعي: (تنقضي به العدة) . وقال في (أمهات الأولاد) ما يدل على: أنها لا تصير به أم ولد. واختلف أصحابنا فيهما على طريقين:

(11/10)


فـ[الأول] : منهم من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى، وجعلهما على قولين.
و [الطريق الثاني] : منهم من حملهما على ظاهرهما، فقال: تنقضي به العدة، ولا تصير به أم ولد، وقد مضى ذلك في عتق أمهات الأولاد.
وإن ألقت شيئا مستجسدا، ولم يعلم: هل هو مبتدأ خلق آدمي، أو لا؟ لم تنقض به العدة؛ لأنه لم يثبت كونه آدميا بالمشاهدة ولا بالبينة.

[فرع أقل مدة الحمل]
] : أقل مدة الحمل الذي يولد بها الولد حيا ويعيش.. ستة أشهر. قال أصحابنا: وهو إجماع لا خلاف فيه؛ لما روي: أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُتِيَ بامرأة ولدت لستة أشهر، فهم برجمها، فقال ابن عباس: (لو خاصمتك إلى كتاب الله لخصمتك، فقد قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] [الأحقاف: 15] ، وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] [لقمان: 14] ، فالفصال في عامين، والحمل في ستة أشهر. فاستحسن الناس انتزاعه هذا من الآية.
وذكر القتيبي: أن عبد الملك بن مروان وضعته أمه لستة أشهر.

(11/11)


وأما أكثر مدة الحمل: فاختلف الناس فيه على أربعة مذاهب:
فمذهبنا: أن أكثر مدة الحمل أربع سنين.
وذهب الزهري، وربيعة، والليث إلى: أن أكثر مدة الحمل سبع سنين.
وذهب الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، وعثمان البتي إلى: أن أكثر مدة الحمل سنتان، وروي ذلك عن عائشة.
وعن مالك ثلاث روايات:
إحداهن: كقولنا.
والثانية: كقول الزهري، وهو الصحيح عنه.
والثالثة: كقول أبي حنيفة.
والرابعة: ذهب أبو عبيد إلى: أنه لا حد لأكثره.
دليلنا: أن كل ما ورد به الشرع مطلقا وليس له حد في اللغة ولا في الشرع.. كان المرجع في حده إلى الوجود، وقد ثبت الوجود فيما قلناه.

(11/12)


قال الشافعي: (ولد ابن عجلان لأربع سنين) . ومثل الشافعي لا يقول هذا إلا بعد أن علمه.
وروي: أنه قيل لمالك حديث جميلة بنت سعد عن عائشة أنها قالت: (لا تزيد المرأة عن السنتين في الحمل) ، فقال مالك: سبحان الله! من يروي هذا؟ هذه جارتنا امرأة عجلان، حملت ثلاث بطون، كل بطن يبقى الحمل في جوفها أربع سنين!. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فقال: امرأة محمد بن عجلان.
وروى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد: أن سعيد بن المسيب أراه رجلا، وقال: إن أبا هذا غاب عن أمه أربع سنين، ثم عاد وقد ولد هذا وله ثنايا.
وذكر القتيبي: أن هرم بن حيان حملته أمه أربع سنين. وكذلك منصور بن ريان، ومحمد بن عبد الله بن جبير، وإبراهيم بن أبي نجيح ولدوا لأربع سنين، وإذا وجد ذلك عاما.. وجب المصير إليه.
فإن قيل: فقد روى سليمان بن عباد بن العوام قال: كان عندنا بواسط امرأة بقي الحمل في جوفها خمس سنين، ثم ولدت غلاما له شعر إلى منكبيه، فمر به طائر، فقال له: إش!! وقال الزهري: وجد حمل لسبع سنين.
قلنا: لم يثبت هذا متكررا، فدل على بطلانه، وما رويناه قد ثبت متكررا.

(11/13)


وإذا تزوج الرجل امرأة وطلقها، فادعت: أنها وضعت ولدا تنقضي به العدة.. فأقل مدة يقبل فيها قولها أن تدعي ذلك لثمانين يوما من يوم النكاح مع إمكان الوطء، فإن مضى لها من يوم النكاح وإمكان الوطء أقل من ذلك.. لم يقبل قولها؛ لأن الولد لا يتصور في أقل من ذلك؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن أحدكم ليمكث في بطن أمه نطفة أربعين يوما، ثم يكون علقة أربعين يوما، ثم يكون مضغة أربعين يوما» . وإنما يتصور إذا صار مضغة.

[فرع المطلقة الحائل]
مسألة: [المطلقة الحائل] : وإن كانت المطلقة حائلا.. نظرت:
فإن كانت ممن تحيض.. لم يخل: إما أن تكون حرة، أو أمة.
فإن كانت حرة.. اعتدت بثلاثة أقراء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] ) . وهذا أمر بلفظ الخبر، ولا خلاف في ذلك.
إذا ثبت هذا: فإن (القرء) في اللغة: يقع على الطهر وعلى الحيض، وهو من أسماء الأضداد، كقولهم: الجون، يقع على الأبيض وعلى الأسود، وقولهم: أخفيت الشيء: أسررته. وأخفيته: أظهرته.
وقد سمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل واحد منهما قرءا، فروي: أنه قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «دعي الصلاة أيام أقرائك» . وأراد: أيام حيضك.
وروي: أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض: «وإنما السنة أن تطلقها في كل قرء طلقة» . وأراد به: الطهر.
وأصل القرء في اللغة: الجمع، يقال: قرأت الماء في الحوض، أي: جمعته، والحوض يسمى: المقرأة، وقرأت الطعام في الشدق، أي: جمعته.

(11/14)


ومن أصحابنا من قال: إن اسم القرء يقع على الطهر والحيض حقيقة فيهما؛ لأن حالة الطهر حالة اجتماع الدم، فسمي: قرءا لذلك، وسمي الحيض: قرءا أيضا؛ لأن الدم يجتمع في الرحم.
ومن أصحابنا من قال: إنه حقيقة في الطهر؛ لأنه حالة جمع الحيض، ومجاز في الحيض؛ لمجاورته حالة اجتماع الدم، وأما القرء المذكور في قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] .. فلا خلاف أنه لم يرد بذلك الحيض والطهر، وإنما أراد أحدهما. واختلف أهل العلم في المراد منهما:
فمذهبنا: أن المراد بالقروء المذكورة في الآية الأطهار، وبه قال ابن عمر، وزيد بن ثابت، وعائشة في الصحابة، ومن التابعين: فقهاء المدينة السبعة، والزهري، وربيعة، ومالك.
وذهبت طائفة إلى: أن المراد بالقرء في الآية الحيض، وبه قال عمر، وعلي بن

(11/15)


أبي طالب، وابن مسعود، ومن التابعين: الحسن البصري، ومن الفقهاء: الأوزاعي، ومن أهل الكوفة سفيان الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وهي إحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى: كقولنا:
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . فأدخل الهاء في الثلاثة، والهاء إنما تدخل في المذكر دون المؤنث، فدل على: أن المراد به، ما لو صرح به.. ثبتت الهاء به، وهو ثلاثة أطهار، دون ما لو صرح به.. سقطت الهاء، وهو ثلاث حيض.
ولأن القرء مأخوذ من الجمع، وحالة اجتماع الدم في الرحم هو حال الطهر، فكان أولى.
ولأن الله تعالى قال: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] وأراد: في وقت عدتهن. والطلاق المأمور به هو حالة الطهر دون حالة الحيض. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] في الأقراء قولين:
أحدهما: أن الأقراء: الأطهار، وهو الأصح.
والثاني - ذكره في " الرسالة " -: (أن الأقراء الانتقال من الطهر إلى الحيض) .
والمشهور: هو الأول، وعليه التفريع، فينظر فيه:
فإن طلقها وهي حائض.. وقع الطلاق محرما، وتكون معتدة، ولكن لا يحتسب لها بالحيض من الأقراء، فإذا طهرت.. دخلت في القروء.

(11/16)


وإن طلقها وهي طاهر، وبقيت بعد الطلاق طاهرا.. احتسب بما بقي من الطهر قرءا؛ لأن الطلاق إنما حرم في الحيض لئلا يضر بها بتطويل العدة، فلو لم يحتسب ما بقي من الطهر قرءا.. لكان الطلاق في الطهر أضر بها في تطويل العدة من الطلاق في الحيض.
فإن قيل: فقد أمرها الله تعالى أن تعتد بثلاثة قروء، فكيف تجوزون هاهنا أن تعتد بقرأين وبعض الثلاث؟
قلنا: العرب تسمي اليومين وبعض الثالث ثلاثة أيام، فيقولون: لثلاث ليال خلون وهم في بعض الثالثة، وكقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] . وزمان الحج شهران وبعض الثالث.
وإن وافق انقضاء الطلاق انقضاء طهرها، أو قال لها: أنت طالق في آخر جزء من أجزاء طهرك.. فالمذهب: أن الطلاق يقع محظورا، ولا يحسب لها بما يوافق لفظ الطلاق من الطهر قرءا؛ لأن الطلاق يتعقب الإيقاع، فتكون العدة بعد الطلاق، وذلك يصادف أول الحيض.
وخرج أبو العباس وجها آخر: أن الطلاق يكون مباحا ويحتسب بالطهر الذي وافق لفظ الطلاق قرءا. وليس بشيء.
وإن قال لها: أنت طالق في آخر جزء من أجزاء حيضتك.. فهل هو طلاق محظور، أو مباح؟ على وجهين، المذهب: أنه مباح.

[فرع يعتد بالطهر الذي لم يصبها فيها]
] : إذا طلقها وهي طاهر.. اعتدت بما بقي من الطهر قرءا، فإذا حاضت وطهرت.. دخلت في القرء الثاني، فإذا حاضت ثانيا، ثم طهرت بعده.. دخلت في القرء الثالث، فإذا رأت الدم في الحيضة الثالثة.. فقد قال الشافعي في القديم والجديد:

(11/17)


(إن عدتها تنقضي برؤية الدم) . وقال في " البويطي ": (لا تنقضي عدتها حتى ترى الدم يوما وليلة) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: تنقضي برؤية الدم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . وهذه قد تربصت ثلاثة قروء. ولأن الظاهر أنه حيض؛ بدليل: أنا نأمرها بترك الصلاة فيه.
والثاني: لا تنقضي عدتها حتى ترى الدم يوما وليلة؛ لأنا لا نتحقق أنه دم حيض حتى يمضي عليها يوم وليلة؛ لأنا لا نتحقق أنه كذلك.
ومنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (تنقضي عدتها برؤية الدم) أراد: إذا رأت الدم أيام عادتها؛ لأنها لما رأته أيام عادتها.. قوي أمره، فانقضت عدتها به.
وحيث قال: (لا تنقضي عدتها حتى ترى الدم يوما وليلة) أراد: إذا رأت الدم قبل عادتها؛ لجواز أن يكون دم فساد.
وهل يكون اليوم والليلة من الدم، أو اللحظة من العدة؟ فيها وجهان:
أحدهما: أنه من العدة؛ لأنه لا بد من اعتباره.
فعلى اعتبار هذا: إذا راجعها فيه الزوج.. صحت رجعته، وإن تزوجت فيه.. لم يصح.
والثاني: أنه ليس من العدة، وإنما يعلم به انقضاء العدة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . وهذا ليس من القروء.
فعلى هذا: إذا راجعها فيه الزوج.. لم يصح، وإن تزوجت فيه.. صح.
قال الشافعي: (وليس لاعتبار الغسل بعد الحيضة الثالثة وجه) . وأراد بذلك الرد على أبي حنيفة، فإنه يقول: (إذا انقطع دمها من الحيضة الثالثة، فإن انقطع لأكثر الحيض.. خرجت من العدة، وإن انقطع لأقله.. لم تخرج من العدة حتى تغتسل، أو يمر عليها وقت الصلاة) .

(11/18)


وقال أحمد - على الرواية التي تقول: (إن الأقراء الحيض) -: (لا تنقضي عدتها حتى تغتسل بكل حال) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . فمن اعتبر الغسل.. فقد أوجب عليها أكثر مما أوجب الله عليها، فلم يجز.

[مسألة ادعت انقضاء الأقراء]
إذا طلق امرأته: واعتدت بالأقراء، وادعت انقضاء الأقراء الثلاثة في زمان يمكن انقضاؤها فيه.. قبل قولها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . قيل في التفسير: من حمل وحيض، فتواعدهن على كتمان ما في أرحامهن، كما تواعد الشهود على كتمان الشهادة بقوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] ، وكما تواعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العلماء على كتمان العلم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سئل عن علم يعلمه، فكتمه.. ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» . فلما ثبت أن قول الشهود مقبول فيما شهدوا به، وقول العلماء مقبول فيما أخبروا به.. وجب أن يكون قولها مقبولا فيما أخبرت به.
إذا ثبت هذا: فإن أقل ما تنقضي به العدة بالأقراء اثنان وثلاثون يوما ولحظتان؛ لأنه يحتمل أن يطلقها وهي طاهر، فتبقى بعد الطلاق لحظة طاهرا، ثم تطعن في الحيض، فتحتسب بتلك اللحظة قرءا، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر خمسة عشر يوما، فيحتسب بتلك قرءان، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر خمسة عشر يوما، فإذا

(11/19)


طعنت في الحيضة الثالثة، ومضت لحظة.. احتسب بالطهر قبلها قرءا ثالثا. وهذا إذا قلنا: إنه لا يفتقر إلى مضي يوم وليلة من الحيضة الثالثة، وهو الصحيح.
فأما إذا قلنا بقوله في " البويطي ".. فلا يقبل قولها في أقل من ثلاثة وثلاثين يوما ولحظة.
هذا إذا طلقها وهي طاهر، أو لم يعلم ما كان حالها.
فأما إذا اعترفت: أنه طلقها وهي حائض.. فلا يقبل قولها في أقل من سبعة وأربعين يوما ولحظتين؛ لأنه يحتمل أنه طلقها وبقيت لحظة بعد الطلاق حائضا، ثم طهرت خمسة عشر يوما، فاحتسب بذلك قرءا، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر خمسة عشر يوما، فيحتسب بذلك قرءا ثانيا، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر خمسة عشر يوما، فإذا طعنت في الحيض لحظة.. انقضت عدتها. وهذا على الصحيح من المذهب.
وإن قلنا بما قال في " البويطي ".. لم يقبل قولها حتى يمضي عليها ثمانية وأربعون يوما ولحظة.
وإذا ادعت انقضاء العدة في مدة يمكن انقضاؤها فيها، فإن صدقها الزوج.. فلا يمين عليها، وإن كذبها.. حلفت على ذلك؛ لجواز أن تكون كاذبة.
وإن ادعت انقضاء عدتها في مدة لا يمكن انقضاؤها فيها، مثل: أن تدعي: أن عدتها انقضت في أقل من اثنين وثلاثين يوما ولحظتين.. لم يقبل قولها؛ لأنا نعلم كذبها يقينا.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن أقامت على الدعوى حتى مضى اثنان وثلاثون يوما ولحظتان.. قبل قولها) .
قال الشيخ أبو حامد: قال أصحابنا: أراد الشافعي بذلك: إذا كانت تقول: قد انقضت عدتي، وهي مقيمة على ذلك حتى تجاوز الزمان الذي يمكن انقضاء العدة

(11/20)


فيه، فيقبل قولها. فأما إذا قالت: انقضت عدتي في الوقت الذي قلت.. لم يقبل قولها؛ لأنها تدعي ما يقطع بكذبها فيه.
وقال القاضي أبو الطيب: إن كانت مقيمة على ما أخبرت به.. لم نحكم بانقضاء عدتها، وإن قالت: وهمت في الإخبار، والآن انقضت عدتي.. قبل قولها.
وحكي عن أبي سعيد الإصطخري: أنه قال: إذا كانت لها عادة معلومة في الحيض.. لم يقبل قولها إلا بعد مضي مدة يمكن انقضاء العدة فيه على عادتها؛ لأنها إذا ادعت انقضاء عدتها في أقل من ذلك.. كان قولها مخالفا للظاهر، فلم يقبل. وهذا ليس بشيء؛ لأن العادة قد تختلف، فإذا أمكن صدقها.. قبل قولها.
وقال أبو يوسف، ومحمد: لا يقبل قولها في أقل من تسعة وثلاثين يوما؛ لأن أقل الحيض عندهما ثلاثة أيام.
وقال أبو حنيفة: (لا يقبل قولها في أقل من ستين يوما) . فاعتبر أكثر الحيض عنده وأقل الطهر. وهذا ليس بصحيح؛ لأن أكثر الحيض نادر.

[فرع علق طلاقها بولادتها]
] . إذا قال لها: إذا ولدت فأنت طالق، فولدت.. طلقت، فإن ادعت انقضاء العدة.. لم يقبل قولها في أقل من تسعة وأربعين يوما ولحظتين؛ لأن أقل النفاس لحظة، فإذا ولدت.. بقيت في النفاس لحظة، وطهرت خمسة عشر يوما، فاحتسب به قرءا، ثم حاضت يوما وليلة، وطهرت خمسة عشر يوما، فاحتسب به قرءا ثانيا، ثم حاضت يوما وليلة، ثم طهرت خمسة عشر يوما، فاحتسب به قرءا ثالثا، فإذا طعنت في الحيض لحظة.. انقضت عدتها. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ".
وقال ابن الصباغ: يقبل قولها في سبعة وأربعين يوما ولحظة؛ لأنها قد تلد ولا ترى دما. وهذا أقيس.

(11/21)


[مسألة فيمن يتباعد حيضها]
وإن كانت ممن تحيض، فتباعد حيضها، فإن تباعد تباعدا في اعتادت عودته.. انتظرت عودته، حتى لو كانت عادتها أن تحيض في كل سنة مرة.. لم تنقض عدتها إلا بثلاث سنين، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل سنتين مرة.. لم تنقض عدتها إلا بست سنين.
وإن كان تباعده خلاف عادتها، فإن كان ذلك لعارض، كالمرض، والرضاع.. انتظرت عوده؛ لما روى الشافعي بإسناده: (أن حبان بن منقذ طلق امرأته طلقة واحدة، وكانت لها منه ابنة ترضعها، فتباعد حيضها، فمرض حبان بن منقذ، فقيل له: إن مت.. ورثتك، فمضى إلى عثمان وعنده علي، وزيد بن ثابت، فسأله عن ذلك، فقال عثمان لعلي وزيد: ما تريان في ذلك؟ فقالا: نرى أنها إن ماتت.. ورثها، وإن مات.. ورثته؛ لأنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض، ولا من الأبكار اللائي لم يبلغن المحيض. فرجع حبان إلى أهله، فانتزع ابنته، فعاد إليها الحيض، فحاضت حيضتين ومات حبان قبل انقضاء الثالثة، فورثها عثمان) ولا مخالف لهم، فدل على: أنه إجماع.
وإن تباعد حيضها لغير عارض يعرف.. ففيه قولان:

(11/22)


قال في القديم: (تمكث إلى أن تعلم براءة رحمها، ثم تعتد بالشهور) . وبه قال عمر، ومالك، وأحمد؛ لأن العدة تراد لبراءة الرحم، فإذا علم براءته ... فلا معنى للتربص، ولأنا لو قلنا: تقعد إلى الإياس.. لأضر ذلك بها في منعها من النكاح، وأضر بالزوج في وجوب النفقة والسكنى عليه، فوجب إزالته.
وقال في الجديد: (تقعد إلى الإياس، ثم تعتد بالأشهر) . وبه قال علي بن أبي طالب، وأبو حنيفة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . فدل على: أنه لا يجوز لغير الآيسة والصغيرة أن تعتد بالشهور، وهذه غير آيسة قبل أن تمضي عليها مدة الإياس.
فإذا قلنا بقوله القديم: بأنه يعتبر براءة الرحم.. فهل يعتبر براءة رحمها في الظاهر، أو براءته قطعا؟ فيه قولان:
أحدهما: يعتبر براءته في الظاهر، وهو: أن تمكث تسعة أشهر، وبه قال عمر، ومالك، وأحمد؛ لأن التسعة الأشهر غالب مدة الحمل، فإذا لم يتبين بها حمل.. فالظاهر براءة رحمها وإن جاز أن تكون حاملا في الباطن، كما أنها إذا كانت من ذوات الأقراء، فاعتدت بثلاثة أقراء.. فإنه يحكم بانقضاء عدتها وإن جاز أن تكون حاملا في الباطن وأن هذا دم رأته على الحمل.
والقول الثاني: أنه يعتبر براءة رحمها قطعا، وهو: أن تمكث أربع سنين؛ لأنه لا يتيقن براءة الرحم من الولد إلا بهذا القدر، إذ لو كان الاعتبار ببراءة الرحم في الظاهر.. لوجب إذا مضى عليها ثلاثة أشهر ولم يظهر بها حمل.. أن يحكم ببراءة رحمها؛ لأن الظاهر أن الحمل يتبين بثلاثة أشهر.
وإذا مضت لتسعة أشهر على القول الأول، أو أربع سنين على القول الثاني، ولم

(11/23)


يظهر بها حمل ولا عاودها الدم.. فإنها تعتد بثلاثة أشهر؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (تقعد تسعة أشهر لحملها، وثلاثة أشهر لعدتها) ، ولأنا إنما اعتبرنا التسعة الأشهر والأربع السنين.. لنعلم بها براءة رحمها؛ لتصير في حكم الآيسات، فإذا صارت في حكم آيسة.. اعتدت عدة الآيسات.
فإن قيل: فالعدة تراد لبراءة رحمها، وقد علم براءة رحمها بالمدة التي مكثت فيها، فلم أوجبتم عليها العدة بعد ذلك؟
قلنا: قد تجب العدة عند العلم ببراءة رحمها، ألا ترى أن الصغيرة يجب عليها العدة، وإذا علق طلاق امرأته بوضع حملها، فوضعته.. فإنها تطلق وتجب عليها العدة مع تحققنا لبراءة رحمها؟
فإن عاودها الدم.. نظرت:
فإن عاودها قبل انقضاء مدة التربص، أو قبل انقضاء الثلاثة الأشهر بعد مدة التربص.. وجب عليها أن تعتد بالأقراء؛ لأنه بان أنها من ذوات الأقراء، وتعتد بما مضى قرءا.
وإن عاودها الدم بعد انقضاء مدة العدة وبعد أن تزوجت بزوج.. فإنه يجب عليها أن تعتد، وجها واحدا؛ لأنا قد حكمنا بانقضاء العدة، وحصلت حرمة الزوجية، فلم تؤثر معادة الدم.
فإن عاودها الدم بعد انقضاء مدة العدة وقبل أن تتزوج بزوج.. ففيه وجهان:

(11/24)


أحدهما: يجب عليها أن تعتد بالأقراء، وتحتسب بما مضى قرءا؛ لأنه بان أنها من ذوات الأقراء، فهو كما لو عاودها قبل انقضاء مدة العدة.
والثاني: لا يلزمها أن تعتد بالأقراء؛ لأنا قد حكمنا بانقضاء عدتها وإباحتها للأزواج، فلم يجز نقضه بمعاودة الدم. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: إذا عاودها الدم بعد العدة وقبل أن تتزوج.. فالمنصوص: (أنه لا يلزمها الاعتداد بالأقراء) .
وفيها قول آخر مخرج: أنه يلزمها أن تعتد بالأقراء.
وإن عاودها الدم بعد انقضاء عدتها وبعد أن تزوجت بآخر.. فمنهم من قال: قولان، كما لو عاودها بعد العدة وقبل أن تتزوج، وهو اختيار القفال.
ومنهم من قال: لا يلزمها الاعتداد بالأقراء، ولا يبطل النكاح الثاني، قولا واحدا.
وأما إذا قلنا بقوله الجديد، وأنها تمكث إلى الإياس.. ففيه قولان:
أحدهما: تمكث إلى أن تبلغ السن الذي تيأس فيه نساء عصبتها؛ لأن نساء القبيلة يتقاربن في الإياس.
والثاني: أنها تمكث إلى أن تبلغ السن الذي تيأس فيه نساء العالم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . وإنما تصير آيسة إذا بلغت سنا لم تبلغه امرأة من العالم إلا وأيست. ولأن حيضها لو انقطع لعارض.. اعتبر يأسها: أن تبلغ سنا لم تبلغه امرأة من نساء العالم إلا وأيست من الحيض، فكذلك هذا مثله. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قلنا بقوله الجديد.. ففيه أربعة أوجه:
أحدها - وهو الأشهر -: أنها تعتبر بأقصى امرأة من نساء زمنها إياسا.
والثاني: من نساء بلدها.

(11/25)


والثالث: من نساء عصبتها.
والرابع: من نساء قرابتها.
فإذا قلنا: إنها تقعد إلى السن الذي تيأس فيه نساء العالم.. فليس للشافعي فيه نص، واختلف أصحابنا فيه:
فاق الشيخ أبو إسحاق: هو اثنان وستون سنة.
وقال ابن القاص، والشيخ أبو حامد: هو ستون سنة، وإن ادعت دون ذلك.. لم يقبل.
وقال أحمد ابن حنبل: (أقله خمسون سنة) .
وقيل: إن غير العربية لا تحيض بعد خمسين سنة، والعربية تحيض بعد خمسين سنة، ولا تحيض بعد ستين سنة إلا قرشية.
فإذا بلغت سن الإياس ولم تر الدم.. فإنها تعتد بثلاثة أشهر؛ لأن ما قبلها لم يكن عدة، وإنما اعتبر ليعلم أنها ليست من ذوات الأقراء.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن عاودها الدم بعد أن بلغت سن الإياس.. فهو كما لو عاودها الدم بعد تسعة أشهر، أو أربع سنين على القول القديم، على ما مضى.
قال: وإن رأت الدم، ثم تباعد مرة أخرى.. فحكى القفال عن الشافعي: أنه قال: (تقعد تسعة أشهر) ، واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: هذا على القول القديم، فأما على القول الجديد: فلا تحتاج أن تقعد شيئا.
ومنهم من قال: على القولين جميعا، يلزمها أن تقعد تسعة أشهر استظهارا، ولا تبني العدة على تلك الحيضة؛ لأنها صارت كلا شيء، وهل تبني على ما مضى من الشهر قبل الحيضة؟ فيه وجهان:

(11/26)


أحدهما: لا تبني، بل تستأنف الآن عدة الأشهر.
والثاني: تبني على ما مضى من الأشهر قبل الحيضة.

[مسألة عدة غير ذوات الأقراء]
وإن كانت المطلقة ممن لا تحيض لصغر أو كبر.. اعتدت بثلاثة أشهر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . ومعنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى بين عدة ذوات الأقراء بالأقراء، وعدة الحوامل بالوضع، وعدة المتوفى عنها زوجها بالشهور، ولم يذكر عدة المطلقة الآيسة من الحيض، والصغيرة، فشك الناس في عدتهما، فأنزل الله تعالى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4] يعني: إن لم تعلموا عدتهن {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] ، ثم قال: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] يعني: واللائي لم يحضن، فعدتهن ثلاثة أشهر أيضا.
إذا ثبت هذا: فإن كان الطلاق مع أول الشهر، بأن قال لها: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق.. اعتدت بثلاثة أشهر بالأهلة، تامة كانت أو ناقصة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] [البقرة: 189] .
وأما إذا طلقها في أثناء الشهر، كأن طلقها وقد مضى خمسة أيام.. فإنها تعتد بما بقي من الشهر، ثم تعتد بالشهرين بعده بالأهلة، فإن كان الشهر الأول تاما.. اعتدت من الشهر الرابع خمسة أيام، وإن كان الأول ناقصا.. اعتدت من الشهر الرابع ستة أيام، وتلفق الساعات عندنا.
وقال مالك: (لا تلفق الساعات، وإنما تلفق الأيام) . وبه قال الأوزاعي.
وقال أبو حنيفة: (تقضي عدد ما فاتها من الشهر الأول من الرابع) . ويحصل الخلاف بيننا وبينه، إذا كان ناقصا، وكان قد طلقها وقد مضى منه خمسة أيام.. فإنها تعتد عنده من الرابع خمسا، وعندنا ستا.

(11/27)


وقال أبو محمد بن عبد الرحمن ابن بنت الشافعي: إذا طلقها في أثناء الشهر.. اعتدت بثلاثة أشهر بالعدد.
ودليلنا - على مالك -: أنها معتدة بالشهور، فوجب أن تعتد عقيب الطلاق، كما لو طلقها أول النهار.
وعلى أبي حنيفة: أن الشهر هلالي وعددي، فـ (الهلالي) : أن تستوعب ما بين الهلالين. و (العددي) : أن تعد ثلاثين يوما. فإذا طلقها في أثناء الشهر.. فقد فات أن تستوعب ما بين الهلالين، فلم يبق إلا العدد.
وعلى ابن بنت الشافعي: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] [البقرة: 189] . ولم يفرق.

[مسألة تأخر حيض الفتاة]
وإن بلغت الصبية سنا تحيض فيه النساء، بأن بلغت خمس عشرة سنة، أو عشرين سنة ولم تحض.. فعدتها بالشهور، وبه قال أبو حنيفة.
وقال أحمد: (تقعد مدة الحمل في الغالب، ثم تعتد بعده بثلاثة أشهر) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] وهذه لم تحض.
ولأنها لو بلغت سنا لا تبلغها امرأة قط إلا أيست من الحيض - قال الشيخ أبو حامد -: وهي ستون سنة، وكانت هي تحيض.. فإن عدتها بالأقراء اعتبارا بحالها، فكذلك إذا لم تحض في السن الذي تحيض السناء من مثلها فيه.

[فرع عدة من لم تر الدم قبل الحمل وبعده]
وإن ولدت المرأة ولم تر دما قبله ولا نفاسا بعده.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:

(11/28)


أحدهما - وهو قول الشيخ أبو حامد -: أنها تعتد بالشهور؛ للآية.
والثاني: لا تعتد بالشهور، بل تكون كمن تباعد حيضها من ذوات الأقراء؛ لأنه لا يجوز أن تكون من ذوات الأحمال ولا تكون من ذوات الأقراء.

[فرع رؤية الصغيرة الدم]
إذا شرعت الصغيرة بالاعتداد بالشهور، فرأت الدم قبل انقضاء الشهور ولو بلحظة.. انتقلت إلى الاعتداد بالأقراء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] وهذه قد حاضت.
قال أصحابنا: وهذا إجماع لا خلاف فيه.
وهل تعتد بما مضى قرءا؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي سعيد الإصطخري، وهو ظاهر النص -: أنها لا تعتد به قرءا؛ لأنها لا تسمى من ذوات الأقراء إلا إذا رأت الدم، وقبل ذلك لا تسمى بهذا الاسم، ولأنها لو كانت تعتد بالأقراء، فأيست من الحيض.. استأنفت الشهور، فوجب أن تستأنف الأقراء هاهنا.
والثاني - وهو قول أبي العباس -: أنها تعتد به قرءا؛ لأنه طهر تعقبه دم حيض، فاعتد به قرءا، كما لو كان بين حيضتين.
وإن اعتدت الصغيرة بالشهور، ثم رأت الدم بعد انقضاء الشهور.. لم يلزمها الاعتداد بالأقراء؛ لأنا قد حكمنا بانقضاء عدتها وإباحتها للزواج، فلم ينتقض ذلك برؤية الدم، كما لو اعتدت بالأقراء، ثم أيست.. فإنها لا تنتقل إلى الاعتداد بالشهور.
وإن شرعت بالاعتداد بالأقراء، فظهر بها حمل، أو انقضت عدتها بالأقراء، ثم ظهر بها حمل من الزوج.. كانت عدتها بوضع الحمل؛ لأن وضع الحمل دليل على براءة الرحم قطعا، والحيض دليل على براءة الرحم في الظاهر، فوجب تقديم ما يقطع بدلالته، كما يقدم نص الكتاب والإجماع على القياس.

(11/29)


[مسألة الأمة المطلقة الحامل]
وإن كانت المطلقة أمة، فإن كانت حاملا.. كانت عدتها بوضع الحمل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . ولم يفرق. ولأنه لا يمكن استبراء رحمها مع كونها حاملا إلا بوضعه، فهي كالحرة. وإن كانت حائلا.. نظرت:
فإن كانت من ذوات الأقراء.. اعتدت بقرأين، وهو قول كافة العلماء.
وقال داود وشيعته: (تعتد بثلاثة أقراء) .
دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يطلق العبد تطليقتين، وتعتد الأمة بحيضتين» .

(11/30)


وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (طلاق الأمة طلقتان، وعدتها حيضتان) .
ومعنى قوله: (حيضتان) عندنا: يتقدمها طهران؛ لأن القرء الذي هو الطهر لا بد فيه من الحيض.
ولأنه أمر ذو عدد بني على التفاضل، فوجب أن تكون الأمة فيه على النصف من الحرة، كالحد، إلا أنه لما لم يتبعض القرء.. كُمِّلَ؛ ولهذا: روي عن عمر: أنه قال: (لو أستطيع أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصفا.. لفعلت) .
فقولنا: (ذو عدد) احتراز من الحمل.
ومعنى قولنا: (بني على التفاضل) أن الأمة تستبرأ بحيضة، والحرة تستبرأ بثلاث حيض، وكل ما بني على التفاضل إذا لم يتبعض.. سقط في حكم الرقيق، كالشهادة، والميراث، والرجم، وما تبعض.. كان الرقيق فيه على النصف من الحر، كالحد، فكذلك العدة.
وفي قولنا: (بني على التفاضل) احتراز من مدة الحيض والنفاس في حق الأمة، فإنه أمر ذو عدد، ولكنه لم يبن على التفاضل، فلذلك استوت فيه الحرة والأمة.
وإن كانت الأمة من ذوات الشهور.. ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها تعتد بشهر ونصف، وبه قال أبو حنيفة؛ لما روي عن علي، وابن عمر: أنهما قالا: (تعتد الأمة بحيضتين إذا كانت من ذوات الأقراء، وإذا كانت من

(11/31)


ذوات الشهور.. فشهر ونصف) ، ولأنا قد دللنا على أن العدة للأمة على النصف من الحرة، إلا أن القرء لا يتبعض، فكمل، والشهور تتبعض، فكانت على النصف.
والثاني: أنها تعتد بشهرين؛ لأن كل شهر بدل على قرء في حق الحرة، فكان كل شهر بدلا عن قرء في حق الأمة.
والثالث: أنها تعتد بثلاثة أشهر؛ لأن براءة الرحم بالشهور لا تحصل بأقل من ثلاثة أشهر؛ لأن الولد يكون في الرحم أربعين يوما نطفة، وأربعين يوما علقة، وأربعين يوما مضغة، ثم يتصور، فلا تنقضي العدة إلا بوضع ذلك.

[فرع تزوج أمة فأعتقت]
] : وإن تزوج رجل أمة وأعتقت.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن تعتق أولا، ثم يطلقها الزوج، فإنها تعتد عدة حرة؛ لأنها حرة وقت وجوب العدة.
الثانية: أن يطلقها الزوج، وتعتد بقرأين، ثم يعتقها سيدها، فلا يجب عليها استئناف العدة؛ لأن الحرية طرأت بعد انقضاء العدة، فلم تؤثر في العدة، كما لو اعتدت الصغيرة بالشهور، ثم حاضت.
الثالثة: إذا طلقت، ثم أعتقت في أثناء العدة.. فلا خلاف أنه لا يلزمها استئناف العدة، ولكنها تبني على ما مضى، وكم يلزمها أن تتم؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يلزمها أن تتم عدة أمة، سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا، وبه قال

(11/32)


مالك؛ لأنه أمر ذو عدد يختلف بالرق والحرية، فلم يغيره العتق، كالحد.
والثاني: أنها تتم عدة حرة، سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا، وهو اختيار المزني. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الأصح؛ لأنها معتدة عن نكاح في حال الحرية، فلزمها كمال العدة، كما لو أعتقها قبل الطلاق، ولأن الاعتبار في العدة بحال الانتهاء؛ ولهذا: لو اعتدت بالأقراء، ثم أيست من الحيض في أثناء العدة.. فإنها تعتد بالشهور اعتبارا بحال الانتهاء، وكذلك: لو اعتدت بالشهور، ثم حاضت في أثناء الشهور.. فإنها تعتد بالأقراء، فكذلك هذا مثله.
والثالث: إن كان الطلاق رجعيا.. أتمت عدة حرة، وإن كان بائنا.. أتمت عدة أمة، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأن الرجعية لو مات عنها زوجها.. لوجب عليها عدة الوفاة، فإذا طرأت عليها الحرية في أثناء العدة.. أتمت عدة حرة، والبائن لو مات عنها زوجها.. لم تجب عليها عدة الوفاة، فإذا طرأت عليها الحرية.. لم يلزمها إتمام عدة الحرة.

[مسألة عدة المخالعة والفاسخة للنكاح]
وإن خالع الرجل زوجته، أو فسخ أحدهما النكاح بعيب.. فحكمه حكم الطلاق في العدة؛ لأنها فرقة في الزوجية في حال الحياة، فهي كالفرقة بالطلاق.
وإن وطئت امرأة بشبهة.. وجبت عليها العدة؛ لأن الوطء في الشبهة كالوطء في النكاح في النسب، فكان كوطء النكاح في إيجاب العدة.
فإن كانت حرة.. اعتدت بعدة الطلاق على ما ذكرناه.
وإن كانت له زوجة حرة، فوجد أمة غيره، وظنها زوجته الحرة، فوطئها.. ففيه وجهان:

(11/33)


أحدهما: أنها تعتد بثلاثة أقراء، كالحرة؛ لأنه اعتقد أنها حرة، فأثر اعتقاده في حريتها وعدتها، كما أثر في ولدها.
والثاني: أن تعتد عدة أمة؛ لأنها أمة معتدة، فهو كما لو اعتدت عن الطلاق.

[مسألة عدة وفاة الزوج للحامل والحائل]
وأما عدة المتوفى عنها زوجها: فلا تخلو: إما أن تكون حائلا، أو حاملا.
فإن كانت حائلا.. نظرت:
فإن كانت حرة.. اعتدت عنه بأربعة أشهر وعشرة أيام بلياليها، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، مدخولا بها أو غير مدخول بها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] [البقرة: 234] . وهذا أمر بلفظ الخبر، إذ لو كان خبرا.. لم يقع، بخلاف ما أخبر الله تعالى به، ولم يفرق بين الصغيرة والكبيرة، والمدخول بها وغير المدخول بها.
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا امرأة على زوجها، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا» .

(11/34)


فإن قيل: فقد ذكر الله الآية بعد هذه الآية، وهي قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] [البقرة: 240] ، فلم أخذتم بالتي قبلها؟
قلنا: لأن هذه الآية منسوخة بالتي قبلها، والدليل عليها: ما روت أم سلمة: «أن امرأة أتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينيها، أفنكحلها؟ فقال النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا - قالها مرتين أو ثلاثا - إنما هي أربعة أشهر وعشرا، وقد كانت إحداكن ترمي بالبعرة في رأس الحول» . فأخبر النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن العدة كانت حولا، وأنها الآن أربعة أشهر وعشر.

(11/35)


وأما (البعرة) : فإن أهل الجاهلية كانت المرأة منهم تعتد سنة، ثم إذا انقضت السنة أخذت بعرة، فرمتها، وقالت: خرجت من الأذى كما خرجت هذه البعرة من يدي.
ولأن الله تعالى ذكر في الآية الأخيرة لها النفقة والوصية، وأن لها أن تخرج، ولا خلاف أن هذه الأحكام منسوخة، فكذلك مدة الحول.
وقد روي عن ابن عباس: أنه قال: (المتاع منسوخ بالمواريث، والحول منسوخ بأربعة أشهر وعشر) .
فإن قيل: فكيف نسختها وهي قبلها؟
قلنا: إنما هي قبلها في التأليف والنظم، وهي بعدها في التنزيل، والاعتبار بالناسخ: أن يكون بعد المنسوخ في التنزيل لا في التأليف، وليس تقدمها في التأليف يدل على تقدمها في التنزيل، ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] [البقرة: 142] ؟ وإنما أنزلت بعد قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] [البقرة: 144] ؛ لأن السفهاء إنما قالوا ذلك حين تحول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيت المقدس إلى الكعبة. هذا قول عامة العلماء.
وقال الأوزاعي: (تعتد بأربعة أشهر وعشر ليال وتسعة أيام؛ لأن الله تعالى قال: (وعشرا) ، و (العشر) : تستعمل في الليالي دون الأيام) .
دليلنا: أن العرب تستعمل اسم التأنيث وتغلبه في العدد على التذكير خاصة، فتقول: سرنا عشرا، ويريدون به الليالي والأيام.
وإن كانت أمة.. قال الشيخ أبو حامد: ففيه قولان:

(11/36)


أحدهما: تعتد بشهرين وخمسة أيام بلياليها؛ لأنها على النصف من عدة الحرة فيما يتبعض، والشهور تتبعض.
والثاني: تعتد بأربعة أشهر وعشر؛ لأن الولد يكون أربعين يوما نطفة، وأربعين يوما علقة، وأربعين يوما مضغة، ثم تنفخ فيه الروح ويتحرك، فاعتبر أن تكون عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا؛ ليتبين الحمل بذلك، وهذا لا تختلف فيه الحرة والأمة. والأول هو المشهور.
فإذا انقضت أربعة أشهر وعشر.. فقد انقضت عدتها، سواء حاضت فيها أو لم تحض، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إذا كانت ممن عادتها أن تحيض في كل شهر.. لم تنقض عدتها حتى تحيض حيضة في الشهر، وإن تأخر حيضها.. لم تنقض عدتها حتى تحيض حيضة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] [البقرة: 234] . ولم يفرق بين أن تحيض فيها أو لا تحيض.
وقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا امرأة على زوجها، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا» . ولم يفرق.
وإن كانت المتوفى عنها زوجها حاملا بولد يلحق بالزوج.. اعتدت بوضع الحمل، حرة كانت أو أمة، وبه قال عمر، وابن عمر، وأبو هريرة، وإليه ذهب أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأكثر أهل العلم.
وحكي عن علي بن أبي طالب وابن عباس: أنهما قالا: (تنقضي عدتها بأقصى الأجلين من وضع الحمل، أو أربعة أشهر وعشر) .

(11/37)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] ولم يفرق بين أن تضع لأربعة أشهر وعشر أو لأقل.
فإن قيل: فالآية في المطلقات؟
قلنا هي عامة في الجميع، بدليل: ما روي: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فقال: " المتوفى عنها زوجها، والمطلقة» .
وروي: «أن سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر، فتصنعت للأزواج، فمرت بأبي السنابل بن بعكك، فقال لها: قد تصنعت للأزواج، إنما هي أربعة أشهر وعشر، فأتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته بذلك، فقال: " كذب أبو السنابل - يعني: غلط - قد حللت، فانكحي من شئت» .

(11/38)


وقيل: إن أبا السنابل كان قد خطبها وكان شيخا، وخطبها شاب غيره، فرغبت في الشاب دونه، فأراد أبو السنابل أن تصبر حتى يقدم وليها - وكان غائبا - رجاء أن يتزوجها منه.
وإذا وضعت الحمل.. انقضت عدتها، سواء اغتسلت من النفاس أو لم تغتسل.
وقال الأوزاعي: (لا تنقضي عدتها حتى تغتسل من النفاس) .
دليلنا: عموم الآية، وعموم الخبر.

(11/39)


[فرع عدة زوجة الصغير]
] : وإن مات الصبي الذي لا يولد لمثله، وله زوجة.. فإنها تعتد عنه بالشهور، سواء كانت حائلا أو حاملا، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (إذا مات وبها حمل ظاهر.. اعتدت عنه بوضعه، وإن ظهر بها الحمل بعد موته.. لم تعتد به عنه) . وهكذا قال في البالغ إذا تزوج امرأة ووطئها، ثم طلقها وأتت بولد لدون ستة أشهر من حين عقد النكاح: (فإن كان الحمل بها ظاهرا وقت الطلاق.. اعتدت بوضعه عنه، وإن ظهر بها بعد الطلاق.. لم تعتد بوضعه عنه) .
دليلنا: أن هذا الحمل منتف عنه قطعا، فلم تعتد به عنه، كما لو ظهر بها بعد الوفاة والطلاق.
إذا ثبت هذا: فإن كان هذا الولد لاحقا بغير الزوج، بأن كان عن وطء شبهة أو نكاح فاسد.. اعتدت به عمن يلحق به، واعتدت عن الزوج بالشهور بعد الوضع، وإن كان الحمل من زنا.. اعتدت عن الزوج بالشهور من حين موته؛ لأن الحمل من الزنا لا حكم له، فكان وجوده كعدمه.

[فرع موت الزوج في عدة طلاق الرجعية]
وإن طلق امرأته طلاقا رجعيا، ثم مات عنها وهي في العدة.. انتقلت إلى عدة الوفاة؛ لأنها في حكم الزوجات.
وإن نكح امرأة نكاحا فاسدا، ومات عنها.. لم تجب عليها عدة الوفاة؛ لأن عدة الوفاة من أحكام الزوجية، ولا زوجية بينهما، فلم تجب عليها العدة، كما لا يثبت لها الميراث وسائر أحكام الزوجية.
فإن كان لم يدخل بها.. فلا عدة عليها.
وإن دخل بها، فإن كانت حائلا.. اعتدت عنه بثلاثة أقراء، إن كانت ممن

(11/40)


يحيض، وإن كانت ممن لا يحيض.. اعتدت بثلاثة أشهر، وابتداء ذلك من حين فرق بينهما، وإن كانت حاملا.. اعتدت عنه بوضع الحمل، فإذا وضعت الحمل.. انقضت عدتها.
وقال حماد بن أبي سلمة، والأوزاعي: (لا تنقضي عدتها حتى تطهر من النفاس) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . ولم يعتبر أن تطهر من النفاس.

[فرع طلق أو مات وهو غائب]
إذا طلق الرجل امرأته، أو مات عنها وهو غائب عنها.. فإن عدتها من حين الطلاق، أو من حين الموت.
فإن لم تعلم بالطلاق ولا بالموت حتى انقضت مدة عدتها.. فقد انقضت عدتها، وإن علمت قبل انقضاء مدة العدة.. أتمت عدتها من حين الطلاق أو الموت، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير، وهو قول أكثر الفقهاء.
وقال علي بن أبي طالب: (يكون ابتداء عدتها من حين علمت بالطلاق أو الموت) . وبه قال الحسن البصري، وداود.
وقال عمر بن عبد العزيز، والشعبي: إن ثبت الموت أو الطلاق بالبينة.. كان ابتدأ العدة من حين الطلاق أو الموت، وإن ثبت ذلك بالسماع والخبر.. كان ابتداؤها من حين بلغها.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . فجعل عدة الحامل وضع الحمل، ولم يفرق بين أن تكون علمت بالطلاق أو لم تعلم.

(11/41)


ولأنها إذا سمعت بالطلاق أو الموت بعد انقضاء مدة العدة.. لم تعد الاعتداد، فكذلك إذا بقي بعض المدة، فلم تفقد غير قصدها، وقصدها إلى الاعتداد غير معتبر؛ بدليل: أن العدة تصح من الصغيرة والمجنونة وإن كان لا قصد لهما.

[مسألة طلق إحدى زوجتيه ومات ولم يعينها]
إذا كان له امرأتان، فطلق إحداهما بعينها، ثم نسيها ومات قبل أن يبين المطلقة منهما، فإن كانتا غير مدخول بهما.. فعلى كل واحدة منهما أن تعتد عنه بأربعة أشهر وعشر؛ لأنا لم نتيقن زوال ملكه عنهما، بل يجوز أن تكون هي الزوجة، فلزمها الاعتداد.
وإن كان قد دخل بهما، فإن كانتا حاملتين منه.. فعدة كل واحدة منهما بوضع حملها؛ لأن وضع الحمل عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها، وإن كانتا حائلتين، فإن كان الطلاق رجعيا.. فعلى كل واحدة منهما أن تعتد عنه بأربعة أشهر وعشر لا غير؛ لأنها في حكم الزوجات، وإن كان الطلاق بائنا، فإن كانتا من ذوات الشهور.. فعلى كل واحدة منهما أن تعتد عنه بأربعة أشهر وعشر؛ لأنه يجوز أن تكون كل واحدة هي المطلقة.. فعدتها ثلاثة أشهر، ويجوز أن تكون هي الزوجة.. فعدتها أربعة أشهر وعشر، فلزمها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر؛ ليسقط الفرض بيقين، كما قلنا فيمن نسي صلاة من خمس صلوات ولا يعرف عينها.. فإن عليه أن يصلي الخمس صلوات.
وإن كانتا من ذوات الأقراء.. فعلى كل واحدة منهما أن تعتد بأربعة أشهر وعشر فيها ثلاثة أقراء، فإن انقضت أربعة أشهر وعشر قبل أن تأتي بثلاثة أقراء.. فعليها إتمام ثلاثة أقراء، وإن أتت بثلاثة أقراء قبل إكمال أربعة أشهر.. فعليهما إكمال أربعة أشهر وعشر؛ ليسقط الفرض بيقين. وابتداء الأقراء من حين الطلاق، وابتداء أربعة أشهر وعشر من حين موت الزوج.
وإن خالفت حال إحداهما حال الأخرى، مثل: أن كانت إحداهما غير مدخول بها والأخرى مدخولا بها، أو كانت إحداهما حاملا والأخرى حائلا، أو طلاق إحداهما

(11/42)


رجعيا وطلاق الأخرى بائنا، أو كانت إحداهما من ذوات الشهور والأخرى من ذوات الأقراء.. فحكم كل واحدة منهما على الانفراد حكمها إذا اتفقت صفتهما، وقد بيناه.
وإن طلق إحداهما لا بعينها، ثم مات قبل أن يبين.. فقد كان يلزمه أن يبين المطلقة، وإذا بين المطلقة منهما.. فمن أي وقت يقع عليها الطلاق؟ فيها وجهان:
أحدهما: من حين الطلاق.
والثاني: من حين البيان، وقد مضى بيانهما.
وأما إذا مات قبل أن يبين: فقد اختلف أصحابنا في العدة هاهنا:
فقال الشيخ أبو حامد: إذا قلنا: إن الطلاق يقع حين البيان.. فعلى كل واحدة منهما أن تعتد عدة الوفاة بكل حال؛ لأن الطلاق لم يقع؛ لأنه لا يقع إلا ببيان الزوج، ولم يوجد منه بيان. وإن قلنا: إنه يقع من حين الطلاق.. فهو كما لو طلق إحداهما بعينها، ثم نسيها.
وقال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: إذا قلنا: إن الطلاق يقع من حين التعيين.. كان ابتداء عدة الطلاق من حين الموت؛ لأنه وقع الإياس من تعيينه بالموت.

[مسألة تربص الزوجة عند غياب الزوج]
إذا غاب الزوج عن زوجته.. نظرت:
فإن كانت غيبته غير منقطعة، بأن يأتيها خبره، أو تعلم مكانه.. فليس لها أن تفسخ النكاح، بل إن كان له مال حاضر.. أنفق عليها الحاكم منه، وإن لم يكن له مال حاضر.. كتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي فيه الزوج ليطالبه بحقوقها.
وإن كانت غيبته منقطعة، بأن لا تسمع بخبره، ولا تعلم مكانه الذي هو فيه.. فإن

(11/43)


ملكه لا يزول عن ماله، بل هو موقوف أبدا إلى أن يتيقن موته، وأما زوجته.. ففيها قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لها أن تتربص أربع سنين، ثم تعتد، ثم تتزوج إن شاءت) . وبه قال عمر، وابن عمر، وابن عباس في الصحابة، وفي الفقهاء: مالك، وأحمد، وإسحاق؛ لما روي: (أن امرأة أتت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقالت: إن زوجي خرج إلى مسجد أهله ففقد، فقال لها: تربصي أربع سنين، فتربصت، ثم أتته فأخبرته، فقال لها: اعتدي بأربعة أشهر وعشر، فلما انقضت.. أتت إليه فأخبرته، فقال لها: حللت، فتزوجي - ولم ينكر عليه أحد من الصحابة - فتزوجت رجلا، ثم رجع زوجها الأول، فأتى عمر، فقال لعمر: زوجت امرأتي؟! فقال له عمر: وما ذاك؟ فقال: غبت أربع سنين، فأمرتها بالتزويج، فقال عمر: يغيب أحدكم أربع سنين، لا في غزوة، ولا في تجارة، ثم يرجع، فيقول: زوجت امرأتي؟! فقال الرجل: إني خرجت إلى مسجد أهلي، فاستلبتني الجن، فأقمت عندهم إلى أن غزاهم من الجن مسلمون، فوجدوني أسيرا في أيديهم، فقالوا: ما دينك؟ فقلت: الإسلام، فخيروني بين أن أقيم عندهم، أو أرجع إلى أهلي، فاخترت الرجوع إلى أهلي، فسلموني إلى قوم منهم، فكنت بالليل أسمع أصوات الرجال، وبالنهار أرى مثل الغبار، فأسير في أثره حتى أهبطت إلى عندكم، فخيره عمر بين أن يأخذ زوجته، أو مهرها) .

(11/44)


ولأن الضرر يلحقها بذلك، فثبت لها الفسخ، كما لو كان عنينا، أو أعسر بالنفقة.
و [الثاني] : قال في الجديد: (ليس لها أن تتربص ولا تفسخ، بل تصبر إلى أن تتيقن موت زوجها) . وبه قال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وهو الصحيح؛ لما روى المغيرة بن شعبة: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها زوجها» . وروي: «حتى يأتيها يقين موته» . ولأنه زوج جهل موته، فلم يحكم بوقوع الفرقة، كما لو لم تمض أربع سنين.
وما روي عن عمر.. فروي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال (هذه امرأة ابتليت، فتصبر أبدا) .

(11/45)


ويخالف الفسخ بالعنة والإعسار؛ لأن هناك سبب الفرقة متحقق، وهاهنا سبب الفرقة غير متحقق.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا تعذرت النفقة عليها من جهته، فأما إذا لم تتعذر النفقة عليها من جهته، فإن كان له مال حاضر.. فلا يثبت لها الفسخ، قولا واحدا.
ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو المشهور؛ لأن عليها ضررا بفقد الاستمتاع من جهته.
إذا ثبت هذا: فإذا قلنا بقوله القديم.. فإنها تتربص أربع سنين من حين انقطع خبره، ثم تعتد عدة الوفاة؛ لما رويناه عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهل يفتقر ابتداء مدة التربص إلى الحاكم؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق المروزي، واختيار صاحب " المهذب " -: أنها تفتقر إلى ذلك؛ لأنها مدة مجتهد فيها، فافتقرت إلى حكم الحاكم، كمدة العنين.
والثاني: لا تفتقر إلى حكم الحاكم، قال الشيخ أبو حامد: وهو المنصوص في القديم؛ لأنها مدة تعلم بها براءة رحمها، فلم تفتقر إلى الحاكم، كما قلنا في المعتدة إذا انقطع دمها لغير عارض.
وهل يفتقر إلى حكم الحاكم بالفرقة بعد أربع سنين؟ فيه وجهان، حكاهما في " المهذب ".
أحدهما: لا يفتقر إلى حكم الحاكم بالفرقة؛ لأن الحكم بتقدير المدة حكم بالموت بعد انقضائها.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وابن الصباغ غيره -: أنه يفتقر

(11/46)


إلى حكم الحاكم بالفرقة؛ لأنها فرقة مجتهد فيها، فافتقرت إلى الحاكم، كفرقة العنين.
وإذا انفسخ النكاح بمضي مدة التربص، أو بفسخ الحاكم.. فهل ينفسخ ظاهرا وباطنا، أو ينفسخ في الظاهر دون الباطن؟ قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان، وأكثر أصحابنا حكوهما قولين:
أحدهما: ينفسخ ظاهرا وباطنا؛ لأن هذا فسخ مختلف فيه، فوقع ظاهرا وباطنا، كفسخ النكاح بالعنة، والإعسار بالنفقة.
والثاني: ينفسخ في الظاهر دون الباطن؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل للزوج الأول لما رجع أن يأخذ زوجته.

[فرع طلاق وظهار وإيلاء المفقود في مدة التربص]
إذا طلق المفقود امرأته، أو ظاهر منها، أو آلى منها، فإن كان في مدة التربص، أو بعدها، وقبل حكم الحاكم بالفرقة، وقلنا: لا تقع الفرقة إلا بحكم الحاكم.. وقع طلاقه وظهاره وإيلاؤه، وإن كان بعد مدة التربص وبعد فسخ النكاح، إما بانقضاء مدة التربص، أو بفسخ الحاكم، فإن قلنا بقوله الجديد.. وقع طلاقه وظهاره وإيلاؤه، وإن قلنا بقوله القديم، فإن قلنا: ينفسخ النكاح ظاهرا وباطنا.. لم يقع طلاقه ولا ظهاره ولا إيلاؤه، وإن قلنا: ينفسخ في الظاهر دون الباطن.. وقع طلاقه وظهاره وإيلاؤه.

[فرع حكم قضاء الحاكم بالفرقة ينقض بعد تربصها أربع سنين]
] : إذا تربصت امرأة المفقود أربع سنين: فإن قلنا بقوله الجديد.. فهي باقية على النكاح الأول، فإن قضى لها حاكم بالفرقة.. فهل يجوز نقض حكمه على هذا القول؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:

(11/47)


أحدهما: لا يجوز نقضه؛ لأنه حكم فيما يسوغ فيه الاجتهاد.
والثاني: يجوز نقضه، وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنه حكم مخالف للقياس الجلي؛ لأنه لا يجوز أن يكون حيا في حكم ماله، ميتا في حكم زوجته.
فعلى هذا: إن كانت لم تتزوج، ورجع الأول.. أخذها، واستمتع بها، وإن كانت قد تزوجت بآخر، فإن لم يدخل بها الثاني.. فرق بينها وبينه، ولا عدة عليها عنه، ولا شيء عليه لها، وعادت إلى استمتاع الأول، وإن كان قد دخل بها الثاني.. فرق بينها وبين الثاني، ولزمها أن تعتد عنه؛ لأنه وطء في نكاح فاسد، فلزمها الاعتداد عنه، فإذا انقضت عدتها عنه.. ردت إلى الأول.
وإن قلنا بقوله القديم، ورجع الأول بعد الفسخ.. فقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إن قلنا: بفسخ النكاح في الظاهر دون الباطن.. ردت إلى الأول، سواء تزوجت أو لم تتزوج، وإن قلنا: ينفسخ ظاهرا وباطنا.. لم ترد إلى الأول، سواء تزوجت أو لم تتزوج.
ومن أصحابنا من قال: إذا رجع الأول قبل أن تتزوج بآخر.. ردت إلى الأول على القولين، وإن رجع الأول بعد أن تزوجت بآخر.. فهي للثاني على القولين؛ لأنها إذا تزوجت بآخر.. فقد شرعت في المقصود بالفرقة، فهي كالمتيمم إذا وجد الماء بعد الدخول في الصلاة، وإذا لم تتزوج بآخر.. فلم تشرع في المقصود، فهي كالمتيمم إذا وجد الماء قبل الدخول في الصلاة. والأول هو المشهور.

[فرع تربصت وحكم بالفرقة وتزوجت وبان الزوج ميتا قبل الحكم]
] : إذا تربصت امرأة المفقود، وحكم الحاكم بالفرقة، واعتدت، ثم تزوجت بآخر، وبان أن الزوج الأول كان قد مات قبل حكم الحاكم بالفرقة.. فإن قلنا بقوله القديم.. فقد وقعت الفرقة ظاهرا وباطنا، وصح نكاح الثاني ظاهرا وباطنا، وإن قلنا بقوله الجديد.. ففيه وجهان:

(11/48)


أحدهما: أن نكاح الثاني صحيح؛ لأنه بان أنها خالية من الأزواج، وأنه وقع موقعه، فهو كما لو علمت موته بالبينة قبل أن تنكح.
والثاني: لا يصح النكاح الثاني؛ لأن النكاح الثاني عقد في حال لم يؤذن بالعقد فيه، فكان محكوما بفساده، فلا تتعقبه الصحة.
وأصل هذين الوجهين: القولان فيمن كاتب عبده كتابة فاسدة، ثم أوصى برقبته ولم يعلم بفساد الكتابة. وكذلك: إذا باع مال مورثه قبل أن يعلم بموته، ثم بان أنه كان ميتا وقت البيع.

[فرع لا تجب العدة حتى يتيقن الموت]
قال الصيمري: لو ركب رجل في البحر، فبلغ امرأته أن المركب الذي كان فيه زوجها غرق.. لم يجب عليها العدة حتى تعلم موته يقينا.
قال: وإن كان هناك امرأتان، لكل واحدة منهن زوج، وكانتا على يقين أن زوج إحداهما مات، ولا يعلم عينه.. فلا يحكم على واحدة منهما بعدة.

[فرع طلق امرأته فسألها بعد عن عدتها]
وإذا طلق الرجل امرأته، ثم سألها عن عدتها: هل انقضت، أم لا؟ وجب عليها إخباره، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] .
قال الصيمري: وكذلك لو سألها رسول الزوج، أو من تعلم أنه يخبره.
فإن سألها غير الزوج وغير رسوله، أو من تعلم أنه لا يخبره.. فهل يلزمها إخباره؟ فيه قولان، حكاهما الصيمري.
وبالله التوفيق

(11/49)


[باب مقام المعتدة والمكان الذي تعتد فيه]
إذا طلق الرجل امرأته.. نظرت:
فإن كان الطلاق رجعيا.. وجب عليه نفقتها وإسكانها حيث يختار؛ لأنها في معاني الزوجات، بدليل: أنه يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه، ويتوارثان، فكانت في معاني الزوجات في النفقة والسكنى، ولأن النفقة والسكنى يجبان في مقابلة الاستمتاع، والزوج متمكن من الاستمتاع بها متى شاء بعد الرجعة، وإنما حرمت عليه لعارض، فهو كما لو أحرم أو أحرمت. قال أصحابنا: وهو إجماع أيضا.
وإن كان الطلاق بائنا.. وجب على الزوج لها السكنى، وبه قال ابن عمر، وابن مسعود، وعائشة، وهو قول فقهاء المدينة، وعلماء الأمصار.
وذهب ابن عباس، وجابر بن عبد الله إلى: أنه لا يجب عليه لها السكنى. وبه قال أحمد، وإسحاق؛ لما روي: «أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها وكان غائبا بالشام، فأمرها النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم» .
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] إلى قوله: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] [الطلاق:1] . فأمر أن لا يخرجن من بيوتهن، وأراد به بيوت أزواجهن، والأمر على الوجوب.
والدليل على أنه أراد: بيوت أزواجهن: قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] .
و (الفاحشة) هاهنا: هي أن تبدو على أحمائها، فلو أراد بيوتهن اللاتي يملكن.. لما أجاز إخراجهن للفاحشة.
وقَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] والمراد بها: المطلقة البائن؛ لأنه

(11/50)


شرط في وجوب النفقة لها في الحمل، وذلك إنما يعتبر في البائن، فأما الرجعية: فتجب لها النفقة بكل حال.
وأما حديث فاطمة: فإنما نقلها عن بيت زوجها؛ لأنها بذت على أهل زوجها.
والدليل عليه: ما روي عن ميمون بن مهران: أنه قال: (دخلت المدينة، فسألت عن أفقه من فيها، فقيل لي: سعيد بن المسيب، فأتيته فسألته عن المبتوتة، هل يعد لها السكنى؟ فقال: لها السكنى، فقلت له: فحديث فاطمة بنت قيس؟ فقال: تلك امرأة فتنت الناس، إنها كانت في لسانها ذرابة، فاستطالت على أحمائها، فنقلها رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيت زوجها) .
وروي: أن عائشة كانت تقول لفاطمة: (اتقي الله، ولا تكتمي السبب) أي: لا تكتمي سبب النقل.
إذا ثبت هذا: فإن المسلمة والذمية فيما ذكرناه سواء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] وهذا يعم المسلمة والذمية.

(11/51)


وأما الأمة إذا طلقها زوجها: فالحكم في سكناها في حال عدتها كالحكم في سكناها في حال الزوجية؛ وذلك: أن السيد إذا زوج أمته.. فهو بالخيار: بين أن يمكن الزوج من الاستمتاع بها ليلا ونهارا، وبين أن يمكنه من الاستمتاع بها ليلا، ويستخدمها نهارا.
فإن مكنه من الاستمتاع بها ليلا ونهارا.. فعلى الزوج نفقتها وسكناها، وإن مكنه من الاستمتاع بها بالليل دون النهار.. لم يجب على الزوج نفقتها ولا سكناها، على المذهب.
فعلى هذا: إذا طلقها الزوج، وأرسلها السيد ليلا ونهارا.. وجب على الزوج إسكانها، وإن أرسلها بالليل دون النهار.. لم يجب على الزوج إسكانها، بل إن اختار الزوج إسكانها بالليل ليحصن ماءه فيه.. وجب على السيد إرسالها فيه، كما قلنا: يجب على السيد إرسالها ليلا في حال الزوجية.
إذا تقرر هذا: فنقل المزني في بعض النسخ: ولأهل الذمية أن ينقلوها من بيتها.
قال أصحابنا: هذا غير صحيح، إنما قال الشافعي: (ولأهل الأمة أن ينقلوها) ، وإنما صحفه المزني.
وإن وطئ الرجل امرأة بشبهة، فاعتدت عنه، أو نكحها نكاحا فاسدا ووطئها، ففرق بينهما.. لم تجب عليه لها السكنى؛ لأنه لا حرمة بينهما.
وإن مات عن الصغيرة التي في المهد.. فهل تجب لها السكنى؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإنابة "] :
الأصح: أنه تجب لها، كالبالغة.
والثاني: لا تجب لها، وبه قال أبو حنيفة.

[مسألة وجوب سكن المطلقة في بيت الزوجية]
وإذا طلقت المرأة وهي في مسكن للزوج، بملك، أو إجارة، أو إعارة، وهو مما يصلح لسكنى مثلها.. وجب سكناها فيه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

(11/52)


{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] .
فإن أراد الزوج نقلها عنه إلى غيره، أو طلبت أن تنتقل عنه، أو اتفقا على ذلك من غير عذر.. لم يجز؛ لأن الله نهى الأزواج عن إخراجهن، ونهاهن عن الخروج من بيوتهن، وأراد به: بيوت سكناهن.
إذا ثبت هذا: فإن سكناها معتبر بحالها.
فإن كانت ذات جهاز وجوار، فلا تسعها الدار الصغيرة.. فعلى الزوج إسكانها في دار تسعها.
وإن كانت فقيرة ولا جهاز لها ولا جوار.. فتكفيها الدار الصغيرة؛ لأن الله سبحانه أمر بالسكنى ولم يبين قدره، فينبغي أن يكون الرجوع فيه إلى العرف والعادة، والعرف والعادة تختلف في ذلك باختلاف حالها، فيرجع في ذلك إليه.
ولا تعتبر سكناها في حال الزوجية؛ لأنه قد يسكنها في حال الزوجية بدون سكنى مثلها، وترضى هي بذلك، فلا يلزمها ذلك في العدة، وقد يسكنها في حال الزوجية بدار أكبر من سكنى مثلها ويتطوع بذلك، ولا يلزمه ذلك في العدة.
فإذا تقرر هذا: فإن كانت الدار التي كانت ساكنة فيها وقت الطلاق سكنى مثلها. وجب سكناها فيه، وإن كانت دون سكنى مثلها، فإن رضيت به.. فلا كلام، وإن لم ترض به.. فعليه أن يسكنها في سكنى مثلها، فإن أمكنه أن يضم إلى الموضع الذي هي فيه ساكنة حجرة بجنبه، وكان ذلك سكنى مثلها.. فعل ذلك، وإن لم يمكنه ذلك.. نقلها إلى سكنى مثلها بأقرب المواضع إلى الدار التي كانت ساكنة فيها.
وإن كانت الدار فوق سكنى مثلها، وأراد الزوج أن يسكن هو فيما زاد على سكنى مثلها.. نظرت:
فإن كان في الدار حجرة، وبين الدار والحجرة باب يغلق ويفتح، والدار أو

(11/53)


الحجرة سكنى مثلها.. فللزوج أن يسكنها في الدار، ويسكن هو في الحجرة، أو يسكنها في الحجرة ويسكن هو في الدار؛ لأنهما كالدارين المتلاصقتين.
وإن لم يكن في الدار حجرة، ولكن للدار علو وسفل، يصلح كل واحد منهما لسكنى مثلها، وبينهما باب.. فللزوج أن يسكنها في أحدهما، ويسكن هو في الآخر، كالدارين المتلاصقتين. والأولى: أن يسكنها في العلو؛ لئلا يستطلع عليها.
وإن لم يكن للدار علو وسفل، ولكنها دار كبيرة ذات بيوت، كالخانات التي ينفرد كل بيت منها بطريق وغلق، والمرأة ممن يسكن مثلها في مثل هذه البيوت.. فإنها تسكن في بيت منها، وللزوج أن يسكن في بيت منها؛ لأن هذه الدار كالدور والمحلة التي تجمع الدور.
وإن لم تكن الدار كذلك، ولكنها مسكن واحد، فإن لم يكن فيها إلا بيت واحد.. فليس للزوج أن يسكن معها، بل ينتقل عنها، سواء كان معها محرم أو لم يكن؛ لأنه يحرم عليه الاجتماع معها.
وإن كان في الدار بيتان أو ثلاثة أو أكثر، وليس بينها حاجز وغلق، ويكفيها أن تسكن في بيت منها، وأراد الزوج أن يسكن في بيت من هذه الدار، وتسكن هي في الآخر، فإن لم يكن معها محرم لها.. لم يجز للزوج أن يسكن معها؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخلون رجل بامرأة ليست له بمحرم، فإن ثالثهما الشيطان» ولا يؤمن أن يخلو بها في مثل ذلك.
وإن كان معها محرم لها، كالأب، والابن، أو امرأة ثقة معها، ولها موضع تستتر

(11/54)


به عن الزوج.. جاز أن يسكن معها؛ لأنه يؤمن أن يخلو بها، وهل يعتبر أن يكون المحرم لها بالغا؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: يعتبر أن يكون بالغا؛ لأن من دون البالغ ليس بمكلف، فلا يلزمه إنكار الفاحشة.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا يعتبر أن يكون بالغا، بل إذا كان مراهقا عاقلا.. جاز؛ لأن الغرض أن لا يخلو الرجل بالمرأة، وذلك لا يوجد مع كون المراهق العاقل معها.
وإن حجز بين البيتين بحاجز من طين، أو خشب، أو قصب.. جاز أن يسكن معها؛ لأنهما يصيران كالدارين المتجاورتين.

[مسألة طلقها وهي في مسكنه وأراد بيعه]
] : وإذا طلقها الزوج وهي في مسكن للزوج يملكه، فإن أراد بيعه قبل انقضاء عدتها.. نظرت:
فإن كانت عدتها بوضع الحمل أو بالأقراء.. لم يصح بيعه، قولا واحدا؛ لأنها تستحق السكنى في الدار مدة عدتها، ومدة الوضع والأقراء مجهولة، فيصير كما لو باع دارا، واستثنى منفعتها مدة مجهولة.
وإن كانت عدتها بالشهور.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هل يصح البيع؟ فيه قولان، كبيع الدار المستأجرة قبل انقضاء مدة الإجارة، ولم يذكر المسعودي [في " الإبانة "] غير هذا.
ومنهم من قال: لا يصح البيع، قولا واحدا؛ لأنا لو جوزنا هذا البيع.. لكان في معنى من باع عينا واستثنى منفعتها مدة؛ لأن المنفعة هنا للزوج، بدليل: أن المرأة لو ماتت قبل انقضاء عدتها.. لكانت سكنى الدار ترجع إلى الزوج، وليس كذلك الدار المستأجرة، فإن المنفعة فيها للمستأجر، فلا يكون في معنى من باع دارا واستثنى منفعتها مدة.

(11/55)


[فرع طلق ثم أفلس وحجرعليه]
فرع: [طلق ثم أفلس وحجر عليه] : وإن طلق الرجل زوجته، ثم أفلس وحجر عليه.. كانت المرأة أحق بسكنى الدار من سائر الغرماء؛ لأن حق الزوجة تعلق بعين الدار بالطلاق، وحقوق الغرماء متعلقة بذمة المفلس، فكان حقها أقوى، فقدمت، كما لو رهن عينا من ماله، ثم أفلس. فإن باع الحاكم الدار لحق الغرماء قبل انقضاء مدة العدة.. فهو كما لو باعها المالك، على ما مضى في التي قبلها.
وإن أفلس الزوج وحجر عليه، ثم طلق زوجته.. فإنها لا تقدم على الغرماء بالمسكن؛ لأن حقها مساوٍ لحقوقهم؛ لأن سبب حقها الزوجية، وذلك موجود قبل الحجر، فتضارب الغرماء في أجرة سكناها مدة العدة.
فإن كانت عدتها بالشهور.. فإنها تضرب معهم بأجرة دار تصلح لسكنى مثلها ثلاثة أشهر، فإن كانت أجرته - مثلا - في ثلاثة أشهر ثلاثمائة درهم.. ضربت معهم بثلاثمائة، وإن كان ماله مثل ثلث ديونه.. فإن الذي يخصها مائة درهم، فتأخذها وتستأجر بها الدار التي كانت ساكنة فيها وقت الطلاق إن أمكنها استئجارها، وإن لم يمكنها استئجارها.. استأجرت دارا تصلح لسكنى مثلها بأقرب المواضع إليها، فإذا استأجرت بالمائة سكنى مثلها شهرا، وانقضت مدة الإجارة.. فلها أن تسكن باقي مدة العدة في أي موضع شاءت؛ لأن الإسكان من جهة الزوج قد تعذر، ويكون باقي أجرة سكناها - وهو المائتان - دينا لها في ذمة الزوج إلى أن يوسر، كسائر ديون الغرماء.
وإن كانت عدتها بالأقراء أو بوضع الحمل، فإن كانت لها عادة فيما تنقضي به عدتها من الأقراء أو الحمل.. فإنها تضارب الغرماء بأجرة مسكن مثلها في مثل تلك المدة التي جرت عادتها بانقضاء عدتها فيها، فإن كانت أجرة مسكن مثلها في زمان عدتها ثلاثمائة، وكان ماله مثل ثلث ديونه.. فإن الذي يخصها مائة، فتأخذها من ماله، وتستأجر بها الدار التي كانت ساكنة بها إن أمكن، وإن تعذر استئجارها.. استأجرت دارا تصلح لمثلها بأقرب المواضع إليها.
وإن لم تنقض عدتها إلا في وقت عادتها.. فإنها لا ترجع على الغرماء بشيء،

(11/56)


ولا يرجعون بشيء مما خصها، بل إذا انقضت المدة التي استأجرت بها الدار مما خصها من مال الزوج.. انتقلت إلى حيث شاءت، وكان باقي أجرة مسكنها دينا لها في ذمة الزوج إلى أن يوسر.
وإن انقضت عدتها بأقل من عادتها، مثل: أن كانت عادتها أن عدتها تنقضي بثلاثة أشهر، وأجرة مسكن مثلها فيها بثلاثمائة، وماله ثلث ديونه، فخصها مائة، فأخذتها، ثم انقضت عدتها بشهرين، فإذا تبين أن الذي كانت تضرب به مائتان.. فترد ثلث المائة - وهو: ثلاثة وثلاثون درهما وثلث درهم - ويقسم ذلك بينها وبين الغرماء على قدر ديونهم؛ لأنه كمال ظهر للمفلس.
وإن زادت مدة عدتها على قدر عادتها، بأن لم تنقض عدتها إلا لستة أشهر.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها ترجع على الغرماء، فتأخذ مما في أيديهم على قدر ما لو ضربت معهم بستمائة درهم؛ لأنه بان أن الذي يستحق الضرب به هو ذلك، فرجعت عليهم كما يرجعون عليها إذا انقضت عدتها، وكما لو ظهر للمفلس غريم آخر.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنها لا ترجع على الغرماء بشيء؛ لأن الذي استحق الضرب به - وهو ذلك القدر مع تجويز أن يكون لها - أكثر منه، فلم يجز نقض القسمة بأمر كان موجودا حال القسمة.
والثالث: إن كانت عدتها بالأقراء.. لم تضرب معهم بالزيادة؛ لأن الزيادة لا تعلم إلا بقولها، ولا يجوز أن تستحق بقولها حقا على غيرها، وإن كانت عدتها بالحمل.. ضربت بالزيادة؛ لأن الزيادة تعلم بالبينة، فجاز لها الرجوع بالبينة.
وإن لم تكن لها عادة فيما تنقضي به عدتها.. فإنها تضرب مع الغرماء بأجرة مثل مسكنها في أقل مدة تنقضي بها العدة، فإن كانت عدتها بالأقراء.. ضربت بأجرة مثل مسكنها اثنين وثلاثين يوما ولحظتين، وإن كانت عدتها بالحمل.. ضربت بأجرة مثل مسكنها ستة أشهر؛ لأن ذلك يقين، فإن انقضت عدتها بذلك.. فلا كلام، وإن أسقطت ما تنقضي به العدة لأقل من ستة أشهر.. ردت الفضل على الغرماء، كما قلنا

(11/57)


إذا انقضت عدتها في أقل من عادتها التي ضربت بها مع الغرماء.
ولا يأتي في الأقراء أن تنقضي عدتها بأقل من اثنين وثلاثين يوما ولحظتين.
وإن زادت عدتها في الأقراء أو في الحمل على أقل المدة فيهما.. فهل تستحق الرجوع على الغرماء بالزيادة؟ على الأوجه الثلاثة إذا زادت عدتها على قدر عادتها.
فإن قيل: إذا جوزتم لها أن تضرب مع الغرماء بأجرة مسكنها مدة عادتها أو أقل مدة تنقضي بها العدة.. فهلا قلتم: إنها تستحق السكنى في المنزل الذي يملكه الزوج إذا طلقها فيه بعد أن أفلس، وجوزتم بيعه لحق الغرماء في أحد القولين، كالدار المستأجرة؟
قلنا: لا نقول ذلك؛ لأن عدتها قد تزيد على ذلك، فتكون في معنى من باع دارا واستثنى منفعة مجهولة، فلم يصح. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا كانت عدتها بالحمل.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو الأصح -: أنها تضرب بغالب مدة الحمل.
والثاني: بأجرة أقل مدة الحمل.
وإن كانت بالأقراء ولا عادة لها.. ضربت بأجرة أقل مدة تنقضي بها العدة، وإن كان لها عادة.. فوجهان:
الصحيح: تضرب بأجرة عادتها.
والثاني: بأقل مدة تنقضي بها الأقراء.

[فرع طلقها في مسكنها]
وإن طلقها وهي في مسكن لها.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو إسحاق: يلزمها أن تعتد فيه؛ لأنه مسكن وجبت فيه العدة، ولها أن تطالبه بأجرة المسكن؛ لأن سكناها عليه.
وقال ابن الصباغ: وإن أقامت فيه بإجارة أو إعارة.. جاز.

(11/58)


وإن طلبت أن يسكنها في غيره.. لزمه: لأنه ليس عليها أن تؤاجره ملكها، ولا تعيره.

[مسألة سكنى معتدة الوفاة]
] : وأما المتوفى عنها زوجها: فهل تجب لها السكنى في مدة عدتها؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تجب لها السكنى، وبه قال علي، وابن عباس، وعائشة، وهو اختيار المزني؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] [البقرة: 234] . فذكر العدة ولم يذكر السكنى، ولو كانت واجبة.. لذكرها. ولأنها لا تجب لها النفقة بالإجماع، فلم تجب لها السكنى، كما لو وطئها بشبهة.
والثاني: تجب لها السكنى، وبه قال عمر، وابن عمر، وابن مسعود، وأم سلمة، ومن الفقهاء: مالك، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] [البقرة: 240] . فذكر الله تعالى في هذه الآية أحكاما، منها: أن المتوفى عنها لا تخرج من منزلها. وأن العدة حول. وأن لها النفقة والوصية. فنسخت العدة فيما زاد على أربعة أشهر وعشر بالآية الأولى، ونسخت النفقة بآية الميراث، وبقيت السكنى على ظاهر الآية، بدليل: ما روي «عن فريعة بنت مالك: أنها قالت: أتيت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقلت: يا رسول الله، إن زوجي خرج في طلب عبيد له هربوا، فلما وجدهم.. قتلوه، ولم يترك لي منزلا، أفأنتقل إلى أهلي؟ فقال لها: " نعم "، ثم دعاها قبل أن تخرج من الحجرة، فقال: " اعتدي في البيت الذي أتاك فيه وفاة زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله أربعة أشهر وعشرا» . ولأنها معتدة عن نكاح صحيح، فوجب لها السكنى، كالمطلقة.

(11/59)


فأما الآية الأولى: فلا حجة فيها؛ لأنه قد ذكر السكنى في الآية المنزلة بعدها.
فإن قيل: فما معنى قولها: (ولم يترك لي منزلا) ؟
قيل: معناه: ولم يترك لي منزلا يملك عينه، أو يملك منفعته بإجارة، وإنما كانت في منزل مستعار. وإذا رضي المعير بسكناها فيه.. وجب عليها السكنى فيه.
فإن قيل: فلم ينقل أنهم رضوا بسكناها فيه؟
قيل: أمر النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها أن تسكن فيه يدل على: أنهم قد رضوا: لأنه لا يجوز أن يأمر بما لا يجوز.
وأما إذن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها بالانتقال عن البيت الذي كانت ساكنة فيه، ثم أمره لها بالاعتداد فيه.. فله تأويلان:
أحدهما: يحتمل أن يكون النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لها بالخروج عنه ساهيا، فذكر، فرجع. والسهو يجوز على النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما لا يقر عليه.
والثاني: يحتمل أن يكون أفتاها بالفتوى الأولى على ظاهر ذهب إليه، ثم بان له في الباطن خلافه، فرجع إليه، كما روي: أنه «أقطع الأبيض بن حمال ملح مأرب، فقيل له: يا رسول الله، إنه كالماء العد، فقال: " فلا إذن» .

(11/60)


فإن قلنا: يجب لها السكنى: فإن مات وهي في مسكن لزوج بملك أو إجارة.. وجب عليها السكنى فيه.
وإن كانت في مسكن مستعار، ورضي المعير بسكناها فيه.. وجب عليها السكنى فيه، وإن لم تكن في مسكن للزوج، وكان للزوج تركة.. استؤجر لها من تركة الزوج مسكن يصلح لسكنى مثلها في أقرب المواضع إلى حيث أسكنها الزوج، ويقدم ذلك على الوصية والميراث.
وإن كان على الميت دين يستغرق تركته.. زاحمتهم بأجرة مسكنها على ما ذكرناه في المطلقة.
قال الشيخ أبو إسحاق: فإن لم يكن للزوج مسكن.. فعلى السلطان سكناها؛ لما في عدتها من حق الله.
وإن قلنا: لا يجب لها السكنى، فإن تطوع الورثة بإسكانها لتحصين ماء الزوج.. وجب عليها أن تسكن حيث أسكنوها إذا كان يصلح لسكنى مثلها، وإن لم يتطوعوا، ورأى السلطان من المصلحة أن يكتري لها مسكنا من بيت المال، لتحصين ماء الميت.. كان له ذلك؛ لأن ذلك مصلحة، وإذا بذل لها ذلك.. وجب عليها السكنى فيه؛ لأن ذلك يتعلق به حفظ نسب الميت. وإن لم يتطوع الورثة ولا السلطان بإسكانها.. فلها أن تسكن حيث شاءت.

[فرع طلقها بائنا ثم مات في العدة]
وإن طلق الرجل امرأته طلاقا بائنا، ثم مات عنها في أثناء العدة.. وجب إسكانها، قولا واحدا؛ لأنها قد استحقت السكنى على الزوج بالطلاق قبل الموت، فلم يسقط ذلك بموته، كالدين.

(11/61)


فإن مات الزوج وهي في دار يملكها الزوج.. كانت أحق بسكناها إلى أن تنقضي عدتها.
فإن أراد الورثة أن يبيعوا هذه الدار قبل انقضاء عدتها.. فهو كما لو أراد الزوج بيعها قبل انقضاء عدتها، وقد مضى ذكره.
وإن أرادوا قسمتها بينهم قسمة يكون فيها نقض بناء وإحداث ما يضيق عليها.. لم يكن لهم ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] .
وإن كانت قسمة لا يحصل بها عليها تضييق، وإنما ميزوا بالقول لكل واحد منهم موضعا من الدار، واقترعوا عليه، أو تراضوا به من غير قرعة.. فهل يصح ما فعلوه؟
إن قلنا: إن القسمة تمييز الحقين.. صح ذلك، ولزم.
وإن قلنا: إن القسمة بيع.. فهو كما لو باعوها، وقد مضى ذكره.
وهكذا: الحكم في المتوفى عنها زوجها إذا قلنا: إنها تستحق السكنى، فمات وهي في دار يملكها الزوج، وأراد ورثته قسمتها بينهم قبل انقضاء عدتها.

[مسألة أسكنها دارا ثم أمرها بالانتقال عنها وطلقها فيها]
إذا الزوج امرأته في دار، ثم أمرها بالانتقال عنها إلى دار أخرى، فانتقلت وطلقها أو مات عنها.. وجب عليها أن تعتد في الثانية؛ لأنها قد صارت مسكنا لها.
وإن أمرها بالانتقال إلى الثانية، فطلقها أو مات عنها قبل أن تنتقل عن الأولى.. كان عليها أن تعتد في الأولى؛ لأنها مسكنها وقت وجوب العدة، وليس للزوج أن ينقلها إلى الثانية، ولا لها أن تنتقل عنها بأمره الأول.

(11/62)


وإن خرجت من الأولى، فطلقها أو مات عنها وهي بين الأولى والثانية.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنها بالخيار: بين أن ترجع إلى الأولى، فتعتد فيها؛ لأنها لم تحصل في الثانية، وبين أن تمضي إلى الثانية، فتعتد فيها؛ لأنه قد أمرها بالانتقال إليها.
والثاني: لا يجوز لها أن ترجع إلى الأولى، بل يلزمها أن تصير إلى الثانية، وتعتد فيها، وهو الأصح؛ لأنها منهية عن المقام في الأولى، وقد فارقتها مأمورة بالإقامة في الثانية.
إذا ثبت هذا: فإن الاعتبار بانتقالها هو انتقالها ببدنها دون قماشها وخدمها، فمتى انتقلت ببدنها إلى الثانية.. فقد صارت مسكنا لها.
وإن كان متاعها وقماشها في الأولى، فإن نقلت قماشها ومتاعها إلى الثانية، وبقيت في الأولى، فطلقها أو مات عنها.. فمسكنها الأولى.
وقال أبو حنيفة: (الاعتبار ببدنها وقماشها ومتاعها) .
دليلنا: أن الاعتبار بالسكنى بالبدن، بدليل: قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] [النور: 29] . فسماها غير مسكونة، وإن كان فيها متاعهم.
إذا ثبت هذا: فإن انتقلت ببدنها إلى الثانية، ثم رجعت إلى الأولى لنقل قماشها أو متاعها، ثم طلقها أو مات عنها وهي في الأولى.. فمسكنها الثانية؛ لأنها قد صارت مسكنا لها لانتقالها إليها ببدنها، وإنما رجعت إلى الأولى لحاجة.

[مسألة أذن لها بسفر ثم طلقها]
وإن أذن لها في السفر إلى بلد، ثم طلقها أو مات عنها، وهي في مسكنها لم تخرج ببدنها منه.. فعليها أن تعتد فيه، سواء أخرجت قماشها أو لم تخرجه؛ لأن الاعتبار ببدنها.

(11/63)


وإن خرجت من مسكنها، ولم تفارق بنيان البلد، إلا أنها في موضع تجتمع فيه القافلة، ثم يخرجون، ثم طلقها أو مات عنها.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أن عليها أن تعود إلى منزلها، وتعتد فيه؛ لأنها إذا لم تفارق البنيان.. فهي في حكم ما لو لم تفارق منزلها، بدليل: أنه لا يجوز لها الترخص بشيء من رخص المسافر.
والثاني - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أن لها أن تعود إلى منزلها، وتعتد فيه، ولها أن تمضي في سفرها؛ لأن مزايلتها لمنزلها بإذن الزوج يسقط عنها حكم المنزل في الإقامة فيه.
وإن فارقت بنيان البلد، ثم طلقها أو مات عنها قبل أن تصل إلى البلدة الثانية؛ فإن كان قد أمرها بالانتقال إلى البلد الثانية.. ففيه وجهان، كما لو أمرها بالانتقال من إحدى الدارين إلى الأخرى، فطلقها أو مات عنها وهي بينهما:
أحدهما: أنها بالخيار: بين أن ترجع إلى مسكنها في البلد الذي انتقلت عنه، وبين أن تنتقل إلى البلدة الثانية.
والثاني: يلزمها الانتقال إلى البلدة الثانية.
وإن كان السفر إلى البلد الثانية لا للنقلة، ولكن للحاجة، أو لزيارة، أو لنزهة.. فهي بالخيار: بين أن ترجع إلى مسكنها في البلد الذي انتقلت عنه، وبين أن تمضي في سفرها؛ لأنها ربما بلغت موضعا يشق عليها العود منه والانقطاع عن الرفقة، فيجوز لها النفور في السفر.
فإذا رجعت إلى مسكنها، واعتدت فيه.. فلا كلام.
وإن مضت في سفرها، أو طلقها، أو مات عنها بعد أن بلغت مقصدها، فإن كان سفرها للنقلة في البلد الثانية.. فعليها أن تعتد في البلد الثانية. وإن كان سفرها للنزهة أو للزيارة، ولم يقدر لها مدة.. فلها أن تقيم ثلاثة أيام، ولا تقيم أكثر من ذلك؛ لأنه

(11/64)


إنما أذن لها في السفر دون الإقامة، والإقامة في الثلاث ليست بإقامة، وما زاد عليها فإقامة، بدليل: أن المسافر إذا نوى الإقامة ثلاثا.. لم تنقطع رخص السفر، فإن أقام أربعا.. انقطعت رخص السفر. وإن كان سفرها لحاجة أو تجارة.. فقال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: لها أن تقيم إلى أن تقضي حاجتها. وقال الشيخ أبو حامد: لا تقيم أكثر من ثلاثة أيام.
وإن أذن لها في السفر لنزهة أو لزيارة، وأذن لها أن تقيم في البلد الثانية أكثر من ثلاثة أيام.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز لها أن تقيم فيه أكثر من ثلاثة أيام؛ لأنه لم يجعل الثانية مسكنا لها، وإنما أذن لها في المقام فيها، وذلك لا يقتضي أكثر من إقامة السفر.
والثاني: يجوز لها أن تقيم فيها المدة التي أذن لها بالإقامة فيها، وهو الأصح؛ لأنه أذن لها فيها، فهو كما لو أمرها بالانتقال إليها.
إذا ثبت هذا: فقضت حاجتها، أو أقامت المدة التي جوزناها لها، فإن كان الطريق مخوفا لا يمكنها أن تعود إلى البلد الأولى، أو لم تجد رفقة تسافر معها.. لم يلزمها العود إلى الأولى، بل تتم عدتها في البلد الثانية، وإذا كان الطريق آمنا، وأمكنها الرجوع إلى الأولى.. نظرت:
فإن علمت أنها متى عادت إلى الأولى.. أمكنها أن تقضي بعض عدتها في البلد الأولى.. لزمها أن تعود إلى البلد الأولى، وتتم عدتها فيها.
وإن كانت تعلم أن عدتها تنقضي قبل أن تبلغ البلد الأولى.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمها العود إليها؛ لأنه لا فائدة فيه.
والثاني: يلزمها العود إليها، وهو الأصح؛ لأنه غير مأذون لها في الإقامة في البلد الثانية، ولأن ذلك أقرب إلى البلد المأذون لها في الإقامة به.
وهذا الحكم فيه إذا أذن لها في السفر.
قال الشيخ أبو حامد: فأما إذا سافر بها، ثم طلقها: فإنه يجب عليها أن تعود إلى بلدها، وتعتد فيه، ولا يجوز لها النفور في السفر؛ لأنه إنما أذن لها في أن تكون معه

(11/65)


ولا تفارقه، فإذا طلقها.. فقد وقعت الفرقة، وانفرادها في السفر غير مأذون لها فيه، فلزمها الرجوع والاعتداد في بلدها.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (ولو أذن لها في زيارة أهلها أو لنزهة.. فعليها أن ترجع؛ لأن الزيارة ليست مقاما) .
ولا يختلف أصحابنا أنه إذا أذن لها في السفر لنزهة أو زيارة أهلها، فطلقها بعد أن فارقت البنيان.. فهي بالخيار: بين أن تمضي في سفرها، وبين أن تعود، على ما مضى.
واختلف أصحابنا في تأويل كلام الشافعي:
فقال أبو إسحاق: تأويله: إذا أذن لها في السفر لنزهة، أو زيارة إلى البلد، أو إلى مسافة لا تقصر إليها الصلاة من البلد، ثم طلقها.. فعليها أن ترجع إلى البلد؛ لأنها في حكم المقيمة، بدليل: أنها لا تترخص بشيء من رخص السفر، فهو كما لو طلقها قبل أن تفارق البنيان، بخلاف ما لو أذن لها في السفر كذلك إلى بلد تقصر إليها الصلاة؛ لأن عليها مشقة في العود بعد الخروج عن البلد.
وقال الشيخ أبو حامد: هذا التأويل غير صحيح، والتأويل عندي: أنها لا تقيم بعد الثلاث، وأما الثلاث: فلها أن تقيم فيها، وإنما قصد الشافعي بهذا: أن يفرق بين السفر للنزهة وللزيارة، وبين السفر للإقامة، والإقامة مدة.

[مسألة أذن لها بالإحرام ثم طلقها]
وإذا أذن الرجل لزوجته أن تحرم بالحج أو العمرة، فأحرمت، ثم طلقها وهي محرمة، قال الشيخ أبو حامد: فإن كان الوقت ضيقا، بحيث إذا أقامت حتى تنقضي العدة، فاتها الحج.. لزمها أن تمضي على حجها، وإن كان الوقت واسعا.. فهي بالخيار: إن شاءت.. مضت في الحج، وإن شاءت.. أقامت حتى تنقضي العدة.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: إذا لم تخش فوات الحج إذا قعدت للعدة.. لزمها أن تقعد للعدة، ثم تحج.

(11/66)


وقال أبو حنيفة: (يجب عليها أن تقيم حتى تقضي عدتها وإن خافت فوات الحج) .
دليلنا: أنهما عبادتان استويتا في الوجوب، وتضيق وقت إحداهما، فوجب تقديم السابقة منهما.
وإن طلقها، ثم أحرمت بالحج أو العمرة.. فعليها أن تقيم لقضاء العدة؛ لأن وجوبها أسبق، فإذا انقضت عدتها، فإن كانت قد أحرمت بالعمرة.. فإنها لا تفوت، فتتمها بعد انقضاء العدة، وإن كانت قد أحرمت بالحج، فإن كان الوقت واسعا، بحيث يمكنها أن تمضي وتدركه.. مضت عليه، وإن ضاق الوقت، وفات الحج.. تحللت بعمل عمرة، وقضت الحج من قابل.
قال في " الأم ": (ولو كان أذن لها في الخروج إلى الحج، ثم طلقها قبل أن تحرم.. لم يجز لها أن تحرم، فإن أحرمت.. كان عليها أن تقعد للعدة؛ لأنها وجبت قبل حصول الإحرام، فأشبه إذا لم يأذن) .

[مسألة مسكن البدوية كأهلها]
قال الشافعي: (وتتبوأ البدوية حيث يتبوأ أهلها) .
وجملة ذلك: أن البدوية إذا طلقت وهي مقيمة في حيها.. فإنها تعتد في بيتها الذي تسكنه؛ لأنه منزل إقامتها، فهو كمنزل الحضرية، فإن انتقل أهل الحي.. ففيه أربع مسائل:
إحداهن: أن ينتقل جميع أهل الحي إلى موضع آخر.. فإنها تنتقل معهم إلى حيث انتقلوا، وتتم عدتها فيه، كما لو كانت مقيمة في قرية، وانتقل أهل القرية إلى قرية أخرى.. فإنها تنتقل معهم.
الثانية: أن ينتقل بعض أهل الحي، وكان أهلها مع المقيمين، وكان فيمن بقي منعة، فإنه لا يجوز لها أن تنتقل عن موضعها؛ لأنه لا ضرر عليها في الإقامة، فهو كما لو انتقل بعض أهل القرية، وفيمن بقي منعة.. فإنه لا يجوز لها أن تنتقل.

(11/67)


الثالثة: أن ينتقل أهلها، ويبقى بعض أهل الحي وفيهم منعة.. فهي بالخيار: إن شاءت.. أقامت مع من بقي؛ لأن فيهم منعة، وإن شاءت.. انتقلت مع أهلها؛ لأن عليها وحشة وضررا لمفارقة أهلها، فجاز لها الانتقال معهم.
الرابعة: أن يهرب أهلها عن الموضع خوفا من سلطان أو عدو، وغيرهم من أهل الحي مقيمون، فإن كانت تخاف ما يخاف أهلها.. فلها أن ترتحل مع أهلها، وإن كانت لا تخاف.. لم يجز لها الانتقال؛ لأن أهلها لم ينتقلوا هاهنا، وإنما هربوا ومساكنهم باقية، ولا تخاف هي ما يخافون، فلم يكن لها عذر في الانتقال، ويفارق إذا انتقل أهلها بغير الخوف؛ لأنهم قد انتقلوا عن الحي، ولم يبق لهم مسكن يرجى عودتهم إليه، فكان لها الانتقال معهم؛ لأنها تستوحش بمفارقتهم.

[مسألة طلق ملاح زوجته في السفينة]
] : إذا طلق الملاح امرأته وهي معه في السفينة، فإن كان لها مسكن في البر تأوي إليه وقت الإقامة، وإنما تكون في السفينة وقت السفر.. قال الشيخ أبو حامد: فهي مسافرة مع الزوج، فتكون بالخيار: إن شاءت.. رجعت إلى مسكنها في البر، واعتدت فيه، وإن شاءت.. سافرت، فإذا بلغت إلى الموضع الذي قصدته.. أقامت مقام المسافر، ثم رجعت إلى مسكنها في البر، وأكملت عدتها فيه.
وإن لم يكن لها مسكن إلا في السفينة، فإن كان في السفينة بيوت وحواجز يمكنها أن تسكن في بيت منها، بحيث لا يخلو بها أحد، ولا يقع عليها بصر الزوج.. فعليها أن تسكن فيها إلى أن تنقضي عدتها؛ لأنها كالبيوت في الخان، وإن لم يكن فيها بيوت.. نظرت:
فإن كان معها محرم لها، ويمكنه القيام بأمر السفينة.. فعلى الزوج أن يخرج من السفينة حتى تنقضي عدتها في السفينة، كما لو طلقها في دار ليس فيها إلا بيت واحد.
وإن لم يكن معها محرم لها، أو كان معها محرم لها ولكنه لا يمكنه القيام بأمر السفينة.. فعلى الزوج أن يكتري لها موضعا بالقرب من ذلك الموضع تعتد فيه؛ لأن هذا موضع ضرورة.

(11/68)


[مسألة يكترى على الزوج لمسكنها]
قَالَ الشَّافِعِيُّ: (وَيُكْتَرَى عَلَيْهِ إِذَا غَابَ) .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ فِي غَيْرِ مَسْكَن له، بملك، أو إجارة، أو إعارة.. فعليه أن يكتري لها مسكنا تسكنه، إن كان حاضرا، وتعتد فيه، وإن كان غائبا.. فعلى الحاكم أن يكتري لها مسكنا من مال الزوج تعتد فيه، وإن لم يجد له مالا.. اقترض عليه الحاكم، واكترى لها مسكنا؛ لأن الحاكم يقضي عن الغائب ما لزمه من الحق، وهذا حق لازم عليه.
وإن أذن لها الحاكم أن تقترض عليه، وتكتري به، أو أذن لها أن تكتري بشيء من مالها قرضا عليه.. صح ذلك، وكان ذلك دينا على الزوج ترجع به عليه، إلا أن الحاكم إذا اكترى لها بنفسه.. اكترى لها حيث شاء، وإن اكترت لنفسها بإذن الحاكم.. اكترت حيث شاءت.
وإن اكترت لنفسها مسكنا من غير إذن الحاكم، فإن كانت تقدر على إذن الحاكم.. لم ترجع بذلك على الزوج؛ لأنها تطوعت على الزوج بذلك، وإن لم تقدر على إذن الحاكم.. فهل ترجع؟ فيه وجهان، كالوجهين في الجمال إذا هرب.

[فرع تأويل كلام الشافعي في التطوع السكنى]
قال الشافعي: (ولا نعلم أحدا بالمدينة فيما مضى اكترى منزلا، وإنما كانوا يتطوعون بإنزال منازلهم) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا الكلام:
فمنهم من قال: عطف الشافعي بهذا على التي قبلها، وهو إذا طلقها وهي في غير مسكن له وكان غائبا، فقد ذكرنا: أن الحاكم يكتري لها منزلا تعتد فيه، وهذا إذا لم يجد الحاكم من يتطوع بعارية منزل تعتد فيه، فأما إذا وجد من يتطوع بعارية منزل: لم يكتر لها، كما قلنا في الإمام لا يبذل على الأذان عوضا إذا وجد من يتطوع به.
فعلى هذا: إن بذل لها باذل منزلا تسكنه.. لم يلزمها القبول؛ لأن عليها منة في

(11/69)


ذلك، ولكن يقبل ذلك الزوج أو يقبله الحاكم له إن كان غائبا، إلا إن كانت في منزل مستعار لزوج، فأقرها المعير فيه.. فعليها أن تعتد فيه؛ لأن المنة فيه على الزوج لا عليها.
ومنهم من قال: إنما قال ذلك جوابا على سؤال يتوجه على كلامه، كأنه قال: ويكتري الحاكم عليه، فإن قيل: فإن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكتر لفاطمة بنت قيس منزلا، وإنما أنزلها عند ابن أم مكتوم.. فأجاب عن ذلك بأن أهل المدينة لا يكرون منازلهم.
ومنهم من قال: هذا رد على مالك، وأبي حنيفة، حيث قالا: (لا تكترى دور مكة) ، واحتجا: بأن أهل مكة كانوا لا يكرون منازلهم، وإنما يعيرونها، ولو كان الكراء جائزا.. لأكروها، فأراد الشافعي كسر كلامهم، بأن أهل المدينة لا يكرون منازلهم، وإنما يعيرونها. ومع هذا فقد أجمعنا على جواز إكراء دور المدينة، فكذلك دور مكة. والأول أصح.

[فرع طلقها في غير مسكن له]
وإن طلق الرجل امرأته وهي في غير مسكن له، فإن طالبته بأن يكتري لها عقيب الطلاق.. فلها ذلك.
وإن اكترت لنفسها وسكنت بعض مدة العدة، ثم طالبت بالكراء لما مضى.. فقد نص الشافعي على: (أن السكنى تسقط بمضي الزمان) . وقال في المرأة إذا سلمت نفسها إلى الزوج، ولم تطالبه بالنفقة حتى مضت مدة، ثم طالبته: (فلها المطالبة لما مضى وللمستقبل) . واختلف أصحابنا فيهما على طريقين:
فـ[أحدهما] : منهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وجعلهما على قولين.
و [الطريق الثاني] : قال أكثر أصحابنا: بل هما على ظاهرهما، فتكون لها المطالبة بنفقة ما مضى، وليس لها المطالبة بسكنى ما مضى.
والفرق بينهما: أن النفقة في مقابلة الاستمتاع، فإذا سلمت نفسها.. فقد حصل

(11/70)


للزوج التمكين من الاستمتاع، فوجب عليه في مقابلته، والسكنى في العدة تستحقه لحفظ ماء الزوج في بيت الزوج، فإذا سكنت بنفسها، فلم يحصل له حفظ مائه في بيته.. فلم تستحق ما في مقابلته، ولأن النفقة تجب على سبيل المعاوضة، فلم تسقط بمضي الزمان، والسكنى في العدة تجب لحق الله تعالى لا على سبيل المعاوضة، فسقطت بمضي الزمان.
وأما نفقة المطلقة المبتوتة الحامل.. فقد نص الشافعي: (أنها لا تسقط بمضي الزمان) . واختلف أصحابنا فيها:
فقال أكثرهم: لا تسقط، قولا واحدا؛ لأنها إما أن تجب لحملها أو لها، لحرمة الحمل، وليس في مقابلته حق عليها، فجرت مجرى الدين، فلم تسقط بمضي الزمان.
ومنهم من قال: إذا قلنا: إنها تجب للحامل.. كانت كنفقة الزوجة، وإن قلنا: إنها تجب للحمل.. ففيه وجهان:
أحدهما: تسقط بمضي الزمان، كنفقة القرابة.
والثاني: لا تسقط؛ لأن حق الحامل متعلق بها؛ لأنها مصرفها، فلم تجر مجرى نفقة الأقارب.

[مسألة إقامة المعتدة في بيت الزوجة]
ولا يجوز للمعتدة أن تخرج من مسكنها الذي وجبت عليها فيه العدة من غير عذر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] ، ولحديث «فريعة بنت مالك: أنها قالت: أفأرجع إلى أهلي وأعتد عندهم؟ فقال لها النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اعتدي في البيت الذي أتاك فيه وفاة زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله أربعة أشهر وعشرا» .
وإن وجب عليها حق، فإن أمكن استيفاء ذلك منها من غير أن تخرج، مثل: أن كان عليها دين، أو في يدها غصب، أو عارية، أو وديعة تعترف بذلك.. فإن صاحب

(11/71)


الحق يمضي إليها، ويأخذ منها حقه، ولا تكلف الخروج لذلك؛ لأنه لا حاجة بها إلى الخروج. وإن كان حقا لا يمكن استيفاؤه إلا بإخراجها، كحد القذف، أو القصاص، أو القطع في السرقة، أو اليمين في الدعوى، فإن كانت المرأة (برزة) وهي: التي تخرج في حوائجها، وتلقى الرجال: فإن الحاكم يستدعيها ويستوفي منها الحق، وإن كانت (غير برزة) وهي: التي لا تخرج في حوائجها.. فإن الحاكم يبعث إليها من يستوفي منها الحق في بيتها؛ لما روي: «أن الغامدية لما أتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واعترفت عنده بالزنا مرارا.. فقال لها: " امضي حتى تضعي، ثم تعودي، فعادت إليه، فأمر برجمها» .
وروي: «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن ابني كان عسيفا على هذا، وإنه زنى بامرأته، فقال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " على ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمها ". فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها» .

(11/72)


وإنما استدعى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغامدية، لأنها كانت برزة، ولم يستدع الأخرى لأنها كانت غير برزة.
وإن بذت المرأة على أهل زوجها.. أخرجت عنهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] .
قال ابن عباس: (الفاحشة المبينة: أن تبذو على أهل بيت زوجها) .
وقال ابن مسعود: (الفاحشة هاهنا: الزنا) .
دليلنا: ما روي عن عائشة، وابن المسيب: «أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نقل فاطمة بنت قيس؛ لأنها استطالت على أحمائها» .
وإن بذا عليها أهل زوجها.. نقلوا عنها؛ لأن الضرر جاء من قبلهم.
وإن كان المسكن لها، فسكن معها أهل زوجها، واستطالت عليهم بلسانها.. فليس عليها أن تنتقل عنهم؛ لأن الملك والسكنى لها، لا حق للزوج فيه.
وإن سكنت في مسكن للزوج، بإجارة، أو إعارة، فانقضت مدة الإجارة قبل انقضاء عدتها، وامتنع أهله أن يؤاجروه، أو طلبوا أجرة أكثر من أجرة المثل.. فلا يجب على الزوج أن يستأجره بأكثر من أجرة المثل. أو امتنع المعير من إعارته ومن إجارته بأجرة المثل.. جاز نقلها منه؛ لأن هذا موضع ضرورة.
وكذلك: إذا انهدم المسكن الذي طلقت فيه، أو خيف انهدامه، أو خافت فيه من اللصوص، أو الحريق، أو غير ذلك.. جاز نقلها منه؛ لأنه إذا جاز نقلها لأجل البذاء على أحمائها.. فلأن يجوز نقلها لهذه الأعذار أولى.
ولا يجوز نقلها من هذه المواضع، إلا إلى مسكن يصلح لسكناها بأقرب المواضع

(11/73)


إليها إذا قدر عليه الزوج، كما قلنا في الزكاة إذا لم توجد الأصناف في البلد.. فإنها تنقل إلى تلك الأصناف بأقرب البلاد إلى الموضع الذي وجبت تفريقها فيه، ولا فرق في ذلك بين المطلقة وبين المتوفى عنها زوجها. ويجوز إخراجها للضرورة ليلا ونهارا.
وإن أرادت الخروج لحاجة، كشراء القطن وبيع الغزل وغير ذلك مما يقوم غيرها مقامها فيه، فإن أرادت الخروج لذلك ليلا.. لم يجز، سواء كانت متوفى عنها زوجها أو مطلقة مبتوتة؛ لما روي عن مجاهد: أنه قال: «استشهد رجال يوم أحد، فتأيم أزواجهم وكن متجاورات، فأتين النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقلن: يا رسول الله، إنا نستوحش في بيوتنا بالليل فنبيت عند إحدانا، فإذا أصبحنا.. تفرقنا إلى بيوتنا، فقال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجتمعن وتحدثن عند إحداكن ما بدا لكن، فإذا أردتن النوم.. فلتؤب كل امرأة منكن إلى بيتها» . فإذا ثبت هذا: في المتوفى عنها زوجها.. فالمبتوتة مثلها.
وإذا أرادت الخروج لذلك نهارا، فإن كانت متوفى عنها زوجها.. جاز؛ لحديث مجاهد، وإن كانت في عدة الطلاق، فإن كان الطلاق رجعيا.. فإنها في حكم الزوجات، فإن أذن لها الزوج بالخروج.. جاز لها الخروج، وإن لم يأذن لها.. لم يجز لها الخروج. وإن كان الطلاق بائنا.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يجوز لها الخروج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] ) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (يستحب لها أن لا تخرج لذلك، فإن خرجت

(11/74)


له.. جاز) . وهو الأصح؛ لما روي عن «جابر قال: طلقت خالتي ثلاثا، فخرجت تجد نخلا لها، فزجرها بعض الناس، فأتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته بذلك، فقال لها النبي: " اخرجي فجدي نخلك، فلعلك أن تصدقي أو تفعلي خيرا» . وجداد النخل إنما يكون بالنهار، ونخيل المدينة حولها. ولأن عدة المتوفى عنها أغلظ، فإذا جاز لها الخروج لذلك نهارا.. فالبائن بذلك أولى.
وبالله التوفيق

(11/75)


[باب الإحداد]
(الإحداد) : هو ترك الزينة والطيب معا. يقال: أحدت المرأة تحد إحدادا، وحدت تحد حدادا. والإحداد صفة للمعتدة، وهو أمر قديم وأقر عليه الإسلام.
والمعتدات ثلاث:
معتدة يجب عليها الإحداد قولا واحدا.
ومعتدة لا يجب عليها الإحداد قولا واحدا.
ومعتدة اختلف فيها قول الشافعي.
فأما المعتدة التي يجب عليها الإحداد قولا واحدا: فهي المتوفى عنها زوجها، وهو قول كافة العلماء، إلا الحسن البصري، فإنه قال: لا يجب عليها الإحداد.
دليلنا: ما روي عن زينب بنت أبي سلمة: أنها قالت: دخلت على أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب حين توفي أبوها أبو سفيان، فدعت بطيب فيه خلوق، فأخذت منه ودلكته بعارضيها، وقالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله وباليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» .

(11/76)


قالت زينب: ودخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها عبد الله بن جحش، فدعت بطيب، فمست منه، وقالت: والله ما لي إلى الطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على المنبر: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله وباليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» .
وقالت زينب بنت أبي سلمة: وسمعت أمي - أم سلمة - تقول: «جاءت امرأة إلى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينيها، أفنكحلها؟ فقال النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا " مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: " لا، إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن ترمي بالبعرة في رأس الحول» . فقيل لزينب: ما ترمي بالبعرة؟ فقالت: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا، ولبست شر ثيابها، ومكثت حولا، ثم تخرج في رأس الحول، فتؤتى بدابة - حمار أو شاة - فتفتض [به] ، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم ترمي بالبعرة. و (الحفش) هو: البيت الصغير. و (القبص) : [التناول] بأطراف الأصابع، و (القبض) : [الأخذ] بالكف.
وأما رمي البعرة.. فلها تأويلات:
إحداها: أنها كانت تقول: قد مكثت في ذمام الزوج حولا، والآن فقد خرجت من ذمامه وحرمته كما خرجت هذه البعرة من يدي.
والثاني: أن ما كنت فيه من الغم والشقاء وترك الزينة أهون علي في حقه من رمي هذه البعرة.
والثالث: أني خرجت من الأذى كما خرجت هذه البعرة من يدي.
وقد روي: أنهن كن يقلن ذلك.

(11/77)


وأما المعتدة التي لا إحداد عليها قولا واحدا.. فهي المطلقة الرجعية؛ لأنها في معاني الزوجات، والزوجة لا إحداد عليها.
وكذلك: إذا نكح الرجل امرأة نكاحا فاسدا، أو وطئها ثم فرق بينهما أو مات عنها، أو وطئ رجل امرأة بشبهة.. فإنه يجب عليها عدة الطلاق، ولا يجب عليها الإحداد.
وكذلك أم الولد إذا مات عنها سيدها.. فإنه لا يجب عليها الإحداد؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» . وهذا ليس بزوج. ولأن الإحداد إنما يجب على المعتدة التي فارقها زوجها بغير اختياره، فيجب عليها أن تظهر الحزن عليه والتمسك بذمامه، وهذا المعنى لا يوجد في المنكوحة نكاحا فاسدا، ولا في الموطوءة بشبهة.
وأما المعتدة التي اختلف فيها قول الشافعي.. فهي المطلقة البائن، وفيها قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يجب عليها الإحداد) . وبه قال ابن المسيب، وأبو حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد؛ لأنها معتدة بائن عن نكاح صحيح، فلزمها الإحداد، كالمتوفى عنها زوجها.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجب عليها الإحداد) . وبه قال عطاء، وربيعة ومالك، والرواية الأخرى عن أحمد؛ لأنها معتدة عن طلاق، فلم يجب عليها الإحداد، كالرجعية.
أو نقول: إنها معتدة تتنوع عدتها ثلاثة أنواع، فلم يلزمها الإحداد، كالرجعية، وفيه احتراز من المتوفى عنها زوجها؛ فإن عدتها تتنوع نوعين لا غير.
وأما التي انفسخ نكاحها باللعان، أو العنة، أو العيب، أو الخلع.. فهل يجب عليها الإحداد؟ فيه طريقان:
[الطريق الأول] : قال أكثر أصحابنا: فيه قولان، كالمطلقة البائن.

(11/78)


و [الطريق الثاني] : منهم من قال: لا يجب عليها الإحداد، قولا واحدا، كالموطوءة بشبهة.
قال الشيخ أبو حامد: وإذا قلنا بقوله الجديد، وأن الإحداد لا يجب على البائن.. فإنه يستحب لها الإحداد.
قال الصيمري: هل يستحب الإحداد للرجعية؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يستحب لها؛ لأنها لا تحفش نفسها؛ فربما لا يرغب زوجها في رجعتها.
والثاني: يستحب لها الإحداد، كالبائن.

[مسألة وجوب الإحداد على الأمة]
ويجب الإحداد على الأمة، وهو إجماع لا خلاف فيه، إلا ما يحكى عن أبي حنيفة، قال أصحابنا: ولا يصح عنه.
والدليل على أن الإحداد يجب على الأمة: قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا امرأة على زوجها؛ فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا» . وهذا عام للحرة والأمة. ولأنها معتدة عن وفاة الزوج، فلزمها الإحداد، كالحرة.
ويجب الإحداد عن موت كل زوج، حرا كان أو عبدا، صغيرا كان أو كبيرا؛ لعموم الأخبار.

[فرع العدة لوفاة زوج الصغيرة]
وإذا مات زوج الصغيرة.. لزمها العدة والإحداد، وعلى الولي أن يجنبها ما تجتنبه المعتدة المحدة.
وقال أبو حنيفة: (عليها العدة، ولا يجب عليها الإحداد) .

(11/79)


دليلنا: ما روت أم سلمة: «أن امرأة أتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال: " لا - مرتين أو ثلاثا - إنما هي أربعة أشهر وعشر» . ولم يسأل النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هل هي صغيرة، أو كبيرة، ولو كان الحكم يختلف بذلك.. لسأل عنها، بل الظاهر أنها كانت صغيرة؛ لأنها قالت: أفنكحلها، والبالغة لا تكحل وإنما تكحل نفسها.
ولأنها معتدة عن وفاة، فوجب عليها الإحداد، كالبالغة.
فإن قيل: الإحداد عبادة بدنية، فكيف يجب على الصغيرة؟
قلنا: الخطاب يتوجه على الولي، كما إذا أحرم الولي بالصغيرة، فإن الطيب يحرم على الصغيرة.

[فرع تطالب الذمية بالعدة والإحداد]
] : وأما الذمية: فإن كان زوجها مسلما، فمات عنها.. وجبت عليها العدة والإحداد، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (تجب عليها العدة، ولا يجب عليها الإحداد؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» . فاشترط في الإحداد إيمان المرأة، فدل على: أنه لا يجب على من لا تؤمن بالله واليوم الآخر) .
ودليلنا: قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تلبس المتوفى عنها زوجها المعصفر من الثياب، ولا الممشق، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل» . وهذا عام في المسلمة والكافرة.

(11/80)


ولأنها معتدة عن وفاة، فلزمها الإحداد كالمسلمة.
وأما الخبر: فدليل خطابه يدل على: أنه لا إحداد على الكافرة، وهم لا يقولون بدليل الخطاب. ولأن في الخبر تنبيها على أن الإحداد يجب على الذمية؛ لأن الإحداد إنما وجب على المعتدة تغليظا عليها، فإذا وجب التغليظ على المؤمنة في العدة.. فلأن يجب على الكافرة أولى، ومتى اجتمع دليل وتنبيه.. قدم التنبيه؛ لأنه أقوى.
وأما إذا كان زوج الذمية ذميا، ومات عنها.. وجب عليها العدة والإحداد.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليها العدة ولا الإحداد) .
ودليلنا: أنها بائن عن وفاة زوجها، فلزمها العدة والإحداد، كالمسلمة.

[مسألة موضع الإحداد]
قال الشافعي رحمة الله عليه: (وإنما الإحداد في البدن) .
وجملة ذلك: أن (الإحداد) : هو الامتناع من كل ما إذا فعلته المرأة.. امتدت الأعين إليها واشتهتها الأنفس، فمن ذلك: الكحل، فإن كان الكحل أسود - وهو الإثمد - فلا يجوز أن تستعمله في عينها؛ لما روت أم سلمة في «المرأة التي أتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال: " لا» .
وروت أم سلمة أيضا: «أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المتوفى عنها زوجها: " لا تلبس المتوفى عنها زوجها المعصفر من الثياب، ولا الممشق، ولا الحلي، ولا تكتحل، ولا تختضب» .
وقال الماسرجسي: إذا كانت المرأة سوداء.. لم يحرم عليها الاكتحال بالإثمد.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : لا يحرم على نساء العرب الاكتحال بالإثمد؛ لأن

(11/81)


أعينهن سود؛ فلا يظهر لونه، وإنما يحرم ذلك على نساء العجم؛ لأنه يحصل به التزين.
والأول أصح؛ لأنه يحصل به التزيين في الجميع.
ويجوز أن تستعمل الإثمد في سائر بدنها إلا في الحاجب؛ فإنه لا تحصل به الزينة في غير الحاجب، وتحصل به الزينة في الحاجب.
ويجوز لها أن تكتحل بالكحل الأبيض، كالتوتياء، ويسمى: الكحل الفارسي؛ لأنه يزيد العين مرها وقبحا، ولا يحصل به زينة.
ويحرم عليها أن تطلي على عينها الصبر؛ لما روت أم سلمة، قالت: «دخل رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علي حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبرا، فقال: " ما هذا يا أم سلمة؟ "، فقلت: يا رسول الله، إنما هو صبر ليس فيه طيب، فقال: " إنه يشب الوجه، فلا تجعليه إلا بالليل، وانزعيه بالنهار» ، ولأنه يصفر العين، فتحصل به زينة وجمال.
فإن احتاجت إلى الاكتحال بالصبر أو الإثمد.. اكتحلت به بالليل، ومسحته بالنهار؛ لحديث أم سلمة.
قال الشيخ أبو حامد: قال الشافعي: (وكذلك الدمام) - وهو شيء تصفر به

(11/82)


المرأة عينها، كالصبر والزعفران، يقال: (دمت المرأة) : إذا صفرت عينها - فلا يجوز لها ذلك؛ لأنه تحصل به زينة وجمال.

[فرع فيما تجتنبه المحتدة]
ويحرم على المرأة المحتدة أن تختضب بالحناء والورس والزعفران في شيء من بدنها؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا تختضب» ، ولأن في ذلك زينة وجمالا.
ويحرم عليها أن تبيض وجهها بالخضاب الذي تبيض به وجوه العرائس؛ لأن الزينة تحصل به.
ويحرم عليها أن تنقش وجهها ويديها؛ لأن في ذلك زينة.
قال ابن الصباغ: ويحرم عليها أن تحف حاجبها؛ لأنه زينة، ويحرم عليها ترجيل الشعر؛ لأنه يحسنها، ويدعو إلى مباشرتها.

[مسألة يحظر استعمال الطيب للمعتدة]
مسألة: [يحظر استعمال الطيب] :
ويحرم عليها أن تستعمل الطيب في بدنها وثيابها؛ لما روت أم عطية: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام، إلا على زوج، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا، ولا تكتحل، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تمس طيبا إلا عند طهرها من محيضها نبذة من قسط وأظفار» ، ولأن الطيب يحرك الشهوة، ويدعو إلى مباشرتها.

(11/83)


وأما الغالية: فقال الشيخ أبو حامد: إن كان لها ريح.. لم يجز لها استعمالها في شيء من بدنها، لأنه طيب، وإن لم يبق لها ريح.. جاز لها استعمالها في جميع بدنها؛ لأنه لا تحصل به زينة.
وقال ابن الصباغ: لا يجوز لها استعمالها وإن لم يبق لها ريح؛ لأنها تسود، فهي كالخضاب.
ولا يجوز لها أن تأكل شيئا فيه طيب ظاهر؛ لأنه يحرم عليها استعمال الطيب، فحرم عليها أكله، كالمحرم.
وأما الأدهان: فإن كانت مطيبة، كدهن الورد، والبنفسج، والياسمين، وما أشبهها.. حرم عليها استعمالها في جميع بدنها؛ لما فيه من الطيب، وإن كانت غير مطيبة، كالشريج، والزيت، والزبد، والسمن.. فيجوز لها استعماله في غير الرأس؛ لأنه لا يحصل به تزيين، ولا يجوز لها استعماله في الرأس؛ لأنه يرجل الشعر ويزينه.
وإن كانت للمرأة لحية.. حرم عليها استعمال الدهن فيها؛ لأن اللحية وإن كانت تقبح المرأة إلا أن أقبحها إذا لم تدهن.
ويجوز لها أن تغسل شعرها وبدنها بالسدر والخطمي؛ لما روت أم سلمة: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «امتشطي "، قلت: بأي شيء أمتشط؟ قال: " بالسدر» ، ولأن ذلك تنظيف من غير زينة.
ويجوز لها أن تقلم الأظفار، وتحلق العانة؛ لأن ذلك يراد للتنظيف لا للزينة.
ولا يحرم عليها كنس البيت، وتزيينه بالفرش؛ لأن ذلك لا يدعو إلى مباشرتها.
قال الصيمري: ولها أن تشم النيلوفر. والبنفسج لا يختلف فيه، وفي الريحان

(11/84)


الفارسي قولان، كالمحرمة. ولها أن تجلس والطيب يقلب بقربها، وعند رجل يتبخر.

[مسألة المعتدة لا تلبس الحلي]
ولا يجوز لها لبس الحلي من الذهب والفضة واللؤلؤ.
وحكى ابن المنذر عن عطاء: أنه قال: يحرم عليها حلي الذهب دون الفضة. وهذا ليس بصحيح؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا الحلي» . ولم يفرق. ولأن الزينة تحصل بالفضة، فحرم عليها لبسها، كالذهب.
قال الصيمري: ويحرم عليها لبس الدمالج والخواتم من العاج والذبل؛ لأن لها بريقا. وتمنع من حلق الصفر في أصابعها.

(11/85)


فأما الخيوط والسيور وما قبح من الخرز: فلا بأس به ما لم يكن مستعملا للتحلي به.

[مسألة زينتا الثياب]
وفي الثياب زينتان:
إحداهما: ما يحصل بلبسها من الزينة بستر العورة من غير زينة أدخلت على الثوب، فيجوز للمرأة المحدة لبس جميع الثياب التي لم تدخل عليها زينة وإن كانت الزينة فيها من أصل الخلقة، كالدبيقي، والمروي، وغير ذلك مما يتخذ من الحرير والخز والقز؛ لأن زينتها من أصل خلقتها، فلا يلزمها تغييرها، كما إذا كانت المرأة حسنة الوجه.. فلا يلزمها تغيير وجهها بالسواد وغيره.
وأما الثياب المصبوغة: فينظر فيها:
فإن صبغت للزينة؛ كالأحمر، والأصفر، والأزرق الصافي، والأخضر الصافي.. فيحرم عليها لبسه.
وقال أبو إسحاق: ما صبغ غزله، ثم نسج.. يجوز لها لبسه؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا ثوب عصب» . و (العصب) : ما صبغ غزله، ثم نسج.
والمذهب الأول؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نص على: (أنه يحرم عليها لبس الوشي وعصب اليمن والحبر) . وهذه صبغ غزلها، ثم نسجت. ولقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تلبس المتوفى عنها زوجها المعصفر ولا الممشق» . ولم يفرق. ولأن الثياب المرتفعة: هي التي صبغ غزلها، ثم نسجت، والتي دونها: هي التي نسجت، ثم

(11/86)


صبغت، والخبر نحمله على المصبوغ بالسواد. و (الممشق) : ما صبغ بالمغرة.
وأما ما صبغ للوسخ، كالأسود، والأزرق المشبع، والأخضر المشبع.. فلا يحرم عليها لبسه؛ لأنه لا يصبغ للزينة، وإنما صبغ لنفي الوسخ، أو ليدل على الخزن.
وأما [الثانية] : الثياب التي عليها طرز: قال الشيخ أبو إسحاق: فإن كانت الطرز كبارا.. حرم عليها لبسها؛ لأنها زينة ظاهرة أدخلت عليها، وإن كانت صغارا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحرم عليها، كقليل الحلي وكثيره.
والثاني: لا يحرم عليها لبسها؛ لخفائها.
قال الصيمري: ولا تلبس البرود المنقوشة، ولا القرقوبي من المقانع والوقايات؛ لما فيه من النقش.
وبالله التوفيق

(11/87)


[باب اجتماع العدتين]
إذا طلق الرجل امرأته أو مات عنها، فتزوجت برجل آخر في عدتها.. فالنكاح باطل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] [البقرة: 235] . فنهى عن عقد النكاح قبل انقضاء الأجل، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
فإن لم يدخل بها الثاني، فإن كانا عالمين بتحريم العقد.. عزرا؛ لأنهما أقدما على أمر محرم، وإن كانا جاهلين بالتحريم.. لم يعزرا، وإن كان أحدهما عالما بالتحريم والآخر جاهلا بالتحريم.. عزر العالم منهما بالتحريم دون الجاهل.
ويسقط بهذا العقد سكناها عن الأول، ونفقتها إن كانت تستحق عليه النفقة؛ لأنها صارت ناشزة بذلك، والناشزة تسقط نفقتها وسكناها. ولا تنقطع عدة الأول بعقد الثاني.
وقال القفال الشاشي: تنقطع بالعقد؛ لأن عقد الثاني يراد للاستفراش، والعقد الفاسد يسلك به مسلك الصحيح، كالوطء في النكاح الفاسد يسلك به مسلك الوطء في الصحيح. وهذا خطأ؛ لأن هذا العقد لا حكم له، فلم تنقطع به عدة الأول، بخلاف الوطء، فإن له حكما.
وإن وطئها الثاني، فإن كانا عالمين بالتحريم.. فهما زانيان، ويجب عليهما الحد، ولا يجب لها مهر، ولا يجب عليها عدة للثاني، ولا تنقطع عدة الأول.
وإن كان الزوج عالما بالتحريم وهي جاهلة.. وجب عليه المهر لها، ولا حد عليها، ووجب عليه الحد، ولا عدة عليها له، ولا تنقطع به عدة الأول.
وإن كانا جاهلين بالتحريم.. فلا حد عليهما، ولها المهر، وعليها العدة للثاني.

(11/88)


وإن كان الزوج جاهلا بالتحريم وهي عالمة.. فعليها الحد، ولا مهر لها، ولا حد على الزوج، وعليها العدة له.
وكل موضع كان الثاني جاهلا بتحريم الوطء.. فإنها تصير فراشا للثاني، وتنقطع عدة الأول إذا لم تكن حاملا من الأول؛ لأن العدة تراد لاستبراء الرحم، ولا يمكن استبراؤها من الأول في حال كونها فراشا للثاني، ويفرق بينها وبين الثاني، ويجب عليها إتمام عدة الأول، واستئناف العدة عن الثاني، ولا يتداخلان.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يتداخلان) .
ودليلنا: ما روى سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار: (أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي، فطلقها البتة، فنكحت في عدتها، فضربها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وضرب زوجها بالمخفقة - يعني: الدرة - ضربات، وفرق بينهما، وقال: أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن لم يدخل بها زوجها الذي تزوجها.. فإنها تعتد عن الأول، ولا عدة عليها عن الثاني، وكان خاطبا من الخطاب، وإن كان قد دخل بها الثاني.. فرق بينهما، وتأتي ببقية عدة الأول، ثم تعتد للثاني، ولم ينكحها أبدا) .

(11/89)


وروى عطاء: أن امرأة نكحت في العدة، ففرق بينهما علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال: (أيما امرأة نكحت في عدتها فرق بينهما، وتأتي ببقية عدة الأول، ثم تأتي بثلاثة أقراء عن الثاني، ثم هي بالخيار: إن شاءت.. نكحته، وإن شاءت.. لم تنكحه) . ولا يعرف لهما مخالف، فدل على: أنه إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
ولأنهما حقان مقصودان لآدميين، فإذا اجتمعا.. لم يتداخلا، كالدينين.
فقولنا: (مقصودان) احتراز من الأجل، فإنه لو كان عليه لرجل دين مؤجل إلى شهر، ولآخر دين مؤجل إلى شهر، فمضى الشهر.. تداخلا فيه؛ لأن الأجل ليس بمقصود، وإنما المقصود الدين.
وقولنا: (لآدمي) احتراز ممن زنى، ثم زنى، فإنه يقام عليه حد واحد؛ لأن الحد لله، والعدة حق للزوج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] [الأحزاب: 49]
واحترزنا بتثنية الآدمي ممن قطع يد رجل، ثم مات، فإن دية اليد تدخل في دية النفس. ومن الرجل إذا وطئ امرأته بشبهة في عدتها منه.
إذا ثبت أنهما لا يتداخلان.. فلا يخلو: إما أن تكون حاملا، أو حائلا.
فإن كانت حائلا.. فإنها تتم عدة الأول، ثم تستأنف عدة الثاني، فإن كان قد مضى لها قبل وطء الثاني قرء أو شهر.. فإنها تأتي بقرأين أو بشهرين عن الأول، ثم تأتي بثلاثة أقراء أو بثلاثة أشهر عن الثاني، ومن أي وقت تعود إلى عدة الأول؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] .

(11/90)


أحدهما - وهو الأصح -: أنها تعود إليها عقيب التفريق بينها وبين الثاني.
والثاني: أنها تعود إليها عقيب آخر وطأة من وطآت الثاني.
وإن راجعها الزوج الأول في بقية عدته.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح، وهو المذهب؛ لأنها في عدة منه.
والثاني: لا يصح، لأن عليها عدة لغيره.
فإن خالعها الزوج، فتزوجت بآخر في عدتها ووطئها، وأراد الزوج الأول أن يتزوجها في بقية عدته.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما - قال: وهو المشهور -: أنه يصح، كما قلنا في الرجعة.
والثاني: لا يصح، وهو قول الشيخ أبي حامد؛ لأنها تكون محرمة عليه عقيب النكاح من جميع الوجوه؛ لأنها تشرع في عدة الثاني بعد انقضاء عدة الأول، فصار كنكاح المحرمة.

[فرع تزوجت في عدة وحملت وولدت]
وإن تزوجت المرأة في عدتها برجل آخر، ووطئها وأتت بولد.. ففيه أربع مسائل:
إحداهن: أن يمكن أن يكون من الأول دون الثاني، بأن تأتي به لأربع سنين فما دون من طلاق الأول، ولدون ستة أشهر من وطء الثاني، فإن الولد يلحق بالأول، وتنقضي عدتها منه بوضعه، وله أن يراجعها إلى أن تضع، فإذا وضعته.. اعتدت عن الثاني بثلاثة أقراء.
المسألة الثانية: إذا أمكن أن يكون الولد من الثاني دون الأول، بأن تأتي به لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين من طلاق الأول، فإن كان الطلاق بائنا.. فإن الولد ينتفي عن الأول بغير لعان، ويكون الولد لاحقا بالثاني، فتعتد بوضعه عن الثاني، فإذا وضعته.. أتمت عدتها من الأول. وإن كان الطلاق رجعيا.. فهل ينتفي الولد عن الأول؟ فيه قولان، مضى ذكرهما في اللعان.

(11/91)


وإن قلنا: لا يحلقه.. فإنه يلحق بالثاني، وتعتد بوضعه عن الثاني، ثم تتم بقية عدتها من الأول بعد الوضع، فإن راجعها الأول بعد وضعها الحمل في حال إتمامها لعدته.. صحت الرجعة، وإن راجعها قبل وضع الحمل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنها في عدة من غيره، ولأنها محرمة عليه في هذه الحالة، والرجعة لا تنفي ذلك التحريم، وكل تحريم لم تنفه الرجعة.. لم تصح الرجعة معه، كما لو ارتدت في العدة، وراجعها.. فإن الرجعة لا تصح.
والثاني: تصح الرجعة؛ لأنا لم نحكم بانقضاء عدتها منه، فصحت رجعته؛ لأن هذا التحريم لا يفضي إلى زوال النكاح، فلم يناف الرجعة، كما لو طلقها طلاقا رجعيا، وأحرمت، فراجعها في حال الإحرام، ويفارق رجعتها في حال الردة، فإن الردة تفضي إلى زوال النكاح.
وإن قلنا: إن الولد لا ينتفي عن الأول إلا باللعان.. فحكمه كحكم ما لو أمكن أن يكون الحمل من كل واحد منهما، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة: إذا لم يمكن أن يكون الولد من واحد منهما، بأن تأتي به لأكثر من أربع سنين من طلاق الأول، ولدون ستة أشهر من وطء الثاني.
فإن كان الطلاق بائنا.. فإنه لا يمكن أن يكون من أحدهما، وفيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا تعتد به عن أحدهما؛ لأنه غير لاحق بأحدهما.
فعلى هذا: إن رأت الدم على الحمل، وقلنا: إنه حيض.. فإنها تعتد بالأطهار أقراء، فتتم عدتها من الأول، ثم تستأنف العدة عن الثاني، وإن لم تر الدم على الحمل، أو رأته، وقلنا: إنه ليس بحيض.. فإنها تتم عدتها عن الأول بعد الوضع، ثم تستأنف العدة عن الثاني.
والوجه الثاني: أنها تعتد بالحمل عن أحدهما لا بعينه؛ لأنه يمكن أن يكون من أحدهما؛ ولهذا: لو أقر به.. لحقه، فانقضت به العدة، كالمنفي باللعان.
فعلى هذا: يلزمها أن تعتد بعد وضعه بثلاثة أقراء؛ لجواز أن يكون من الأول.

(11/92)


والمشهور هو الأول.
وإن كان الطلاق رجعيا.. فهل ينتفي الولد عن الأول بغير لعان؟ فيه قولان:
فإن قلنا: ينتفي عنه بغير لعان.. فحكمه حكم ما لو كان الطلاق بائنا.
وإذا قلنا بالوجه المشهور: أنها لا تعتد به عن أحدهما، ولم تر الدم على الحمل، أو رأته، وقلنا: إنه ليس بحيض.. فإنها تتم عدتها من الأول بعد الوضع، ثم تستأنف ثلاثة أقراء للثاني، فإن راجعها الأول قبل الوضع.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنها ليست في عدة منه.
والثاني: يصح؛ لأنه لم يحكم بانقضاء عدتها منه.
وإن راجعها الأول بعد الوضع في حال إتمامها لعدته.. قال الشيخ أبو حامد: فهل تصح رجعته؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المذهب -: أنها تصح؛ لأنها في عدة منه.
والثاني: لا تصح؛ لأن عليها عدة لغيره.
وإن قلنا: إنه لا ينتفي عن الأول إلا باللعان، فإن لم ينفه.. لحق به، واعتدت به عنه، وإن نفاه.. فهو كما لو لم يلحق بواحد منهما.
المسألة الرابعة: إذا أمكن أن يكون من كل واحد منهما، بأن وضعته لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من وطء الثاني، ولستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من طلاق الأول.. فيعرض الولد بعد الوضع على القافة، فإن ألحقته بالأول.. لحق به، وانقضت عدتها منه بوضعه، فإن راجعها قبل الوضع.. فهل تصح الرجعة؟ فيه وجهان. وإذا وضعت الحمل.. اعتدت عن الثاني بثلاثة أقراء. فإن راجعها الأول بعد الوضع.. لم يصح؛ لأنها في عدة من غيره.
وإن ألحقته القافة بالثاني.. لحق به، وانقضت عدتها من الثاني بوضعه، وأتمت عدة الأول بعد الوضع، وإن راجعها الأول بعد الوضع في حال إكمالها لعدته..

(11/93)


صح، وإن راجعها قبل الوضع.. فهل يصح؟ فيه وجهان.
وإن ألحقته القافة بهما، أو نفته عنهما، أو لم تكن قافة، أو كانت وأشكل عليها.. ترك حتى يبلغ وينتسب إلى أحدهما.
وأما العدة.. فإن عدتها تنقضي بوضعه عن أحدهما لا بعينه، ثم تعتد بعد وضعه بثلاثة أقراء؛ لجواز أن يكون الحمل من الأول، فيلزمها أن تعتد عن الثاني.
وأما حكم الرجعة: فإن قلنا: إن الحمل إذا كان عن الثاني.. تصح رجعة الزوج الأول قبل وضعه، فراجعها قبل الوضع.. صحت رجعته. وإن قلنا هناك: لا تصح رجعته.. فلا رجعة له حال كونها حاملا؛ لأنه يجوز أن يكون الحمل من الزوج الأول، فتصح رجعته على المذهب، ويجوز أن يكون الحمل من الثاني، فلا تصح رجعته هاهنا، فلم نجعل له الرجعة مع الشك.
وإن خالف وراجعها حال كونها حاملا، فإن بان أن الحمل من الثاني.. لم تصح الرجعة؛ لأنه بان أنها معتدة عن غيره، وإن بان أن الحمل من الأول - وقلنا بالمذهب: إن رجعته تصح في عدتها منه وإن كان عليها عدة لغيره - فهل تصح رجعته هاهنا؟ فيه وجهان:
أحدهما: تصح؛ لأنه راجعها في وقت يملك رجعتها فيه.
والثاني لا تصح؛ لأنه حالما راجعها كان يشك: هل له الرجعة، أم لا؟ فلم تصح الرجعة.
وأصل هذين الوجهين: القولان فيمن باع مال مورثه قبل أن يعلم بموته، ثم بان أنه كان ميتا حال البيع.
ولا نأمره بالرجعة بعدتها بعد الوضع؛ لأنه يجوز أن يكون الحمل من الأول، والعدة بالأقراء عن الثاني، فلم يملك الرجعة فيها، فإن خالف وراجع فيها.. نظرت:

(11/94)


فإن كانت قد رأت قبل الحمل قرءا لا غير، فراجعها في القرء الثالث من الثلاثة بعد الوضع.. لم تصح رجعته؛ لأنه ليس هو من عدتها عنه بيقين.
وإن راجعها في القرأين الأولين.. ينظر فيه.
فإن بان أن الحمل من الأول.. لم تصح رجعته في القرأين؛ لأنه بان أن ذلك وقت عدتها من الثاني.
وإن بان أن الحمل من الثاني.. فهل تصح رجعته في القرأين الأولين؟ فيه وجهان، بناء على القولين فيمن باع مال مورثه قبل أن يعلم بموته، وبان أنه كان ميتا وقت البيع. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال الخراسانيون: إذا احتمل أن يكون الحمل من كل واحد منهما، وأراد الزوج أن يراجعها.. فإنه يراجعها مرتين، مرة قبل وضع الحمل، ومرة بعده.
وإن كانت بائنا، فنكحها مرتين.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنا تيقنا أن أحدهما كان في عدته.
والثاني: لا يصح.
قالوا: وهذان الوجهان يشبهان القولين في توقف العقد على البينتين.
فأما الثاني إذا تزوجها، وقلنا: يصح.. قال ابن الصباغ: فإن تزوجها وهي حامل.. لم يصح؛ لأن الحمل إن كان من الأول.. فقد تزوجها في عدة غيره، وإن كان منه.. فقد تزوجها وقد بقي عليها عدة غيره. وإن تزوجها في عدتها بعد الوضع، فإن تزوجها في القرء الثالث.. صح؛ لأنها إما أن تكون معتدة منه فيه، أولا تكون معتدة أصلا، وإن تزوجها في القرأين الأولين.. لم يصح؛ لاحتمال أن تكون معتدة فيهما عن الأول، والنكاح مع الشك لا يصح؛ ولهذا: لا يصح نكاح المرتابة بالحمل.

[فرع أتت بولد يحتمل أنه من زوجين]
وإن أتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، فخرج الولد ميتا أو مات قبل أن تلحقه القافة بأحدهما.. فقد قال الشافعي: (لا يكون ابن واحد منهما) . ولم يرد:

(11/95)


أنه ليس فيهما أب له؛ لأنا نعلم أن أحدهما أبوه وإن جهلنا عينه، وإنما أراد: ليس بابن واحد منهما بعينه، وهل يعرض على القافة بعد موته؟ فيه وجهان:
أحدهما: يعرض عليها؛ لأن مجززا المدلجي نظر على أسامة بن زيد وزيد وقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر بذلك رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنه يجوز عرضه على القافة وهو نائم، فكذلك بعد موته. وحمل هذا القائل كلام الشافعي عليه إذا دفن.
والثاني: لا يجوز عرضه، وهو ظاهر النص؛ لأن الأشباه الخفية من الحركة والنغمة تذهب بالموت.
فإن كان قد أوصي لهذا الولد بوصية، فإن ولد ميتا.. بطلت الوصية، وإن ولد حيا، فإن قبل له الواطئان الوصية.. صح؛ لأن أحدهما أبوه بيقين، وإن لم يقبلا له حتى بلغ، وقبل لنفسه.. صح.
وإن مات قبل أن يلحق بأحدهما، فإن لم يكن له وارث غيرهما.. وقف المال بينهما إلى أن يصطلحا عليه؛ لأن أحدهما أبوه بيقين.
وإن كان لهذا الولد ابن وأم.. دفع إلى الأم سدس تركته، ووقف السدس بين الرجلين الواطئين، وأعطي الابن الباقي.
فإن كان له أم، ولا ولد له، فإن لم يكن للأم ولد ولا لأحد الرجلين.. دفع إلى الأم الثلث، ووقف الباقي بين الرجلين. وإن كان للأم ولدان، أو لكل واحد من الرجلين ولدان، أو لها ولد ولكل واحد من الرجلين ولد.. دفع إلى الأم السدس، ووقف الباقي بين الرجلين. وإن كان لأحد الرجلين ولدان، وكان للأم ولد، ولأحد الرجلين ولد.. فكم تستحق الأم؟ فيه وجهان:

(11/96)


أحدهما: تستحق الثلث؛ لأنا نشك: هل له أخوان، أم لا؟ فلا تحجب الأم بالشك.
والثاني: تستحق السدس لا غير، ويوقف السدس لها؛ لأنا نشك أنها تستحق الثلث أو السدس، فلم يجز أن يدفع لها ما زاد على السدس بالشك.
وإذا مات قبل أن يقبل أو يقبلا له.. فإن القبول إلى جميع الورثة، فيقبل الرجلان، وتقبل الأم معهما؛ لأنها وارثة معهما.

[فرع طلقها وتزوجت في عدتها وأتت بولد]
وإن تزوج رجل امرأة، ودخل بها، وطلقها، فتزوجت في عدتها بآخر، وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، وطلبت نفقتها:
فإن كان الطلاق رجعيا، فإن قلنا: إن الحامل البائن تستحق النفقة بسبب الحمل.. فليس لها أن تطالب أحدهما بنفقتها حال كونها حاملا؛ لأنه يمكن أن يكون الحمل من الأول، فتستحق عليه النفقة، ويمكن أن يكون الحمل من الثاني، فلا تستحق النفقة؛ لأنها حامل منه من نكاح فاسد، فإذا شككنا في استحقاقها النفقة.. لم يكن لها مطالبة أحدهما.
فإذا وضعت الولد، فإن كان له مال.. فنفقته في ماله، وإن لم يكن له مال.. وجبت نفقته عليهما؛ لأنه ابن أحدهما بيقين، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فأنفقا عليه بينهما.
وأما الأم: فإنها ترجع على الأول بنفقتها أقل المدتين من مدة الحمل أو القرأين اللذين تكمل بهما عدته؛ لأن الحمل إن كان منه.. فنفقتها عليه مدة الحمل، وإن كان من الثاني.. فعلى الأول نفقتها في القرأين الأولين اللذين تكمل بهما عدته.
فإن ألحق الولد بأحدهما.. نظرت:

(11/97)


فإن أخذت من الأول قدر حقها.. فلا كلام.
وإن أخذت منه دون حقها.. رجعت عليه بباقي حقها.
وإن قلنا: إن نفقة الحامل البائن للحمل.. فإنها تستحق نفقتها عليهما حال كونها حاملا؛ لأن الحمل إن كان من الأول.. فنفقتها عليه، وإن كان من الثاني.. فنفقتها عليه؛ لأن الحمل من نكاح فاسد كالحمل من نكاح صحيح، إلا أنا لا نعلم من الذي تستحق عليه منهما، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فوجبت نفقتها بينهما، وهل يجب عليهما أن يدفعا إليها نفقة كل يوم، أو لا يجب عليهما الدفع حتى تضع؟ فيه قولان.
وأما نفقة الولد بعد وضعه، فإن كان له مال.. كانت نفقته في ماله، وإن لم يكن له مال.. أنفقا عليه بينهما إلى أن يتبين حاله.
وإن كان الطلاق بائنا: فإن قلنا: إن الحامل البائن تستحق أن يدفع إليها النفقة يوما بيوم.. كان الحكم فيه كالحكم في الطلاق الرجعي، في أنه يبنى على القولين في النفقة للحامل، هل تجب للحامل، أو للحمل؟ على ما مضى، إلا في شيء واحد، وهو: أن في ذلك الموضع إذا وضعت المرأة - وقلنا: يجب للحامل - ولم تستحق النفقة في حال حملها.. فإنها ترجع على الأول بنفقة أقل المدتين، وهاهنا لا ترجع عليه بشيء.
والفرق بينهما: أن الرجعية تستحق النفقة على الزوج في حال عدتها بكل حال، وهاهنا البائن لا تستحق النفقة على الزوج إلا إذا كانت حاملا.
وإن قلنا: إن نفقة الحامل لا تدفع إليها إلا بعد الوضع.. فما دامت حاملا لا نفقة لها على أحدهما، فإذا وضعت الولد، فإن لحق بالأول.. فعليه نفقته، وترجع المرأة عليه بنفقتها حال حملها؛ لأنه بان أنها كانت معتدة بالحمل منه، وإن لحق بالثاني.. كانت نفقة الولد عليه، وهل ترجع عليه المرأة بنفقتها حال حملها؟
إن قلنا: إن الحامل تستحق النفقة لها.. لم ترجع عليه.
وإن قلنا: إن النفقة للحمل.. رجعت عليه بنفقتها حال حملها.

(11/98)


وإن لم يلحق الولد بأحدهما.. كانت نفقة الولد عليهما نصفين إلى أن يتبين، وهل ترجع المرأة عليهما بنفقتها حال حملها بينهما نصفين؟
إن قلنا: إن النفقة للحامل.. لم ترجع عليهما بشيء؛ لأنه يمكن أن يكون الحمل من الأول، فتستحق عليه النفقة، ويمكن أن يكون من الثاني، فلا تستحق على أحدهما نفقة، وإذا شككنا في استحقاقها النفقة.. لم ترجع على أحدهما بشيء.
وإن قلنا: إن النفقة للحمل.. رجعت عليهما بنفقتها حال حملها بينهما نصفين؛ لأنا نعلم أنها تستحق جميع نفقتها على أحدهما لا بعينه، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فرجعت بها عليهما نصفين، وكل موضع أنفقا على المرأة بينهما، أو أنفقا على الولد بعد الوضع بينهما، ثم لحق الولد بأحدهما، وبان أن النفقة عليه.. فهل يرجع الآخر عليه بما أنفق؟ ينظر فيه:
فإن أنفق بغير حكم الحاكم.. لم يرجع عليه بشيء؛ لأنه متطوع بالإنفاق.
وإن أنفق بحكم الحاكم، فإن كان يدعي نسب الولد.. لم يرجع؛ لأنه يقول: هو ولدي ويستحق علي جميع النفقة، وإنما ظلمت بنفيه عني، وإن كان يجحد نسب الولد.. فإنه يرجع على الآخر بما أنفق؛ لأنه يقول: قد كنت أقول: إن هذا الولد ليس مني، ولا يستحق علي النفقة، وإنما أكرهت على الإنفاق عليه بغير حق، فأنا أستحق الرجوع على أبيه.
ومن أصحابنا من قال: إذا أشكل حال الولد.. لم تجب النفقة على واحد منهما؛ لأن الشافعي قال: (وإن أشكل الأمر.. لم آخذه بنفقته) ، ولأنا نشك في وجوب النفقة على كل واحد منهما، فلم تجب بالشك. والأول أصح؛ لأن الشافعي إنما أراد: أن الزوج لا يؤخذ بالنفقة وحده، ولكن تجب النفقة بينه وبين الآخر على ما بيناه.

[فرع طلق رجعيا ونكحت بعدتها وحملت]
وإن طلق امرأته طلاقا رجعيا، ونكحت بآخر في عدتها، ووطئها، وفرق بينهما، وأتت بولد لأكثر من أربع سنين من طلاق الأول، ولستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من وطء الثاني، فإن قلنا: إن الولد يلحق بالأول، ولا ينتفي عنه إلا باللعان..

(11/99)


فالحكم في النفقة على ما مضى في التي قبلها، وإن قلنا: إن الولد ينتفي عن الأول بغير لعان.. فإنه يلحق بالثاني، ولا تستحق المرأة النفقة على الأول حال كونها حاملا؛ لأنها في عدة من غيره، وهل تستحق نفقتها على الثاني حال كونها حاملا؟
إن قلنا: إن النفقة للحامل.. لم تستحق عليه.
وإن قلنا: للحمل.. استحقت عليه.
فإذا وضعت الحمل.. فإنها تكمل عدة الأول، وتستحق عليه النفقة في القرأين بعد دم النفاس، وهل تستحق عليه النفقة ما دام معها دم النفاس؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تستحق عليه نفقة ذلك؛ لأنه ليس من عدته، وإنما هو تابع للحمل، فلما لم تستحق عليه نفقة مدة الحمل، فكذلك مدة النفاس.
والثاني: تستحق عليه نفقة تلك المدة؛ لأن عدتها تنقضي من الثاني بوضع الولد، وزمان النفاس هو من عدة الأول وإن كان غير محتسب به من عدته، كما لو طلقها وهي حائض.

[فرع طلقت من حربي وتزوجت بمشرك في عدتها]
وإن طلق الحربي امرأته، وتزوجت بمشرك في عدتها، ووطئها.. وجب عليها للثاني عدة، والمنصوص: (أن عدتهما تتداخلان) .
ومن أصحابنا الخراسانيين من جعل فيها وفي المسألة قبلها قولين.
وقال أكثر أصحابنا: تتداخل عدة المشركين، قولا واحدا، بخلاف المسألة قبلها؛ لأن عرض الحربي وماله عرضة للإبطال والنهب، فجاز إبطال عدته، بخلاف المسلم.
وإن وطئت امرأة رجل بشبهة، ثم طلقها زوجها وهي في العدة.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:

(11/100)


أحدهما: أن العدتين لا تتداخلان، وهو المنصوص، كما لو طلقها، ثم وطئت بشبهة.
والثاني: تتداخلان، فتجب عليها عدة واحدة؛ لأن عدة وطء الشبهة ضعيفة، فدخلت في عدة الطلاق بعدها.

[مسألة تزوجها في عدة غيرها ووطئها جاهلا]
] : وإذا تزوج الرجل امرأة في عدة غيره، ووطئها جاهلا بالتحريم.. فقد قلنا: يفرق بينهما، وتتم عدتها من الأول، وتعتد عن الثاني، وهل يحل للثاني نكاحها؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يحل له أبدا) . وبه قال عمر، ومالك؛ لأنه تعجل حقه قبل وقته، فمنعه في وقته، كالوارث إذا قتل مورثه.
قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا: كل وطء بشبهة أفسد الفراش، فإن الموطوءة تحرم على الواطئ على التأبيد، مثل: أن يطأ الرجل زوجة غيره، أو أمة يستفرشها بشبهة، فأما وطء الشبهة الذي لا يفسد الفراش، مثل: أن يطأ امرأة معتدة عنه بشبهة، أو وطئ امرأة بشبهة لا زوج لها، ولا سيد يستفرشها، أو وطئ امرأة بنكاح فاسد، وليست في عدة من غيره.. فإنها لا تحرم على الواطئ على التأبيد.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تحرم عليه) . وبه قال علي بن أبي طالب، وأبو حنيفة وأصحابه، وعامة أهل العلم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] [النساء: 23 - 24] . وهذه ليست من الأعيان المحرمة. ولأنه وطء بشبهة، فلم يحرم على التأبيد، كما لو نكح امرأة بلا ولي ولا شهود ووطئها. وهذا القول أصح؛ لأن ابن عبد الحكم روى: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (اختلف عمر وعلي في ثلاث مسائل - القياس فيها مع علي، وبقوله آخذ - إحداهن: هذه.
الثانية: امرأة المفقود إذا غاب عنها زوجها، وانقطع عنها خبره) .

(11/101)


فإن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (يرفع الأمر على الحكام، ويضرب لها أربع سنين، ثم تعتد بأربعة أشهر وعشر، ثم تتزوج) . وهو القول القديم للشافعي.
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (هذه امرأة ابتليت، تصبر أبدا) . وهو قول الشافعي في الجديد، وهو الأصح.
والثالثة: إذا طلق زوجته طلقة رجعية، وغاب عنها، ثم راجعها وأشهد على رجعته، ولم تعلم بذلك، وانقضت عدتها، فتزوجت بآخر، ودخل بها، وجاء الأول، وادعى: أنه راجعها، وأقام على ذلك بينة.. فروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (هي زوجة الثاني) . وهو قول مالك. وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (هي زوجة الأول) . وهو قول الشافعي. وقد روي عن عمر: أنه رجع إلى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في الأولى.

[مسألة طلقها ثم وطئها في العدة]
وإن طلق الرجل امرأته طلاقا رجعيا، ووطئها الزوج في العدة.. فلا حد عليهما؛ لأنه وطء بشبهة، سواء كانا عالمين بتحريم الوطء أو جاهلين؛ لأنها في معاني الزوجات، إلا أنهما إذا كانا عالمين بالتحريم.. عزرا، وإن كانا جاهلين بالتحريم.. لم يعزرا، وإن كان أحدهما عالما والآخر جاهلا.. عزر العالم منهما.
فإن كانت وقت الطلاق حائلا.. نظرت:
فإن لم تحبل من الوطء في العدة.. وجب عليها استئناف العدة عن الوطء في العدة؛ لأنه وطء بشبهة، فأوجب العدة، وتدخل فيها البقية من العدة الأولى؛ لأنهما من واحد، فتداخلا.
فإن كان قد مضى لها قرء من العدة قبل الوطء.. فإنها تستأنف ثلاثة أقراء من حين

(11/102)


الوطء بعد الطلاق، فالقرءان الأولان يقعان عن الطلاق وعن الوطء بعد الطلاق، والثالث يقع عن الوطء بعد الطلاق.
فإن راجعها الزوج في حال القرأين الأولين.. صحت رجعته؛ لأنه راجعها في عدتها منه عن الطلاق الرجعي، وإن وطئها فيهما ثانيا.. لم يجب عليهما الحد، سواء كانا عالمين بالتحريم أو جاهلين، كما قلنا في الوطء الأول في القرء الأول.
فإن راجعها في القرء الثالث.. لم تصح رجعته؛ لأنه راجعها بعد انقضاء عدتها عنه بالطلاق.
وإن وطئها في القرء الثالث، فإن كانا عالمين بالتحريم.. فهما زانيان، ويجب عليهما الحد، ولا مهر لها، ولا يجب عليها استئناف العدة لهذا الوطء. وإن كانا جاهلين بالتحريم.. لم يجب عليهما الحد، ويجب لها المهر، ووجب عليها استئناف العدة لهذا الوطء، وتدخل فيها بقية عدة الوطء الأول. وإن كان الزوج جاهلا والزوجة عالمة.. وجب عليها الحد، ولا مهر لها، ولم يجب عليه الحد، ووجب عليها استئناف العدة، ودخل فيها بقية العدة من الوطء بعد الطلاق. وإن كان الزوج عالما بالتحريم والزوجة جاهلة.. وجب على الزوج الحد والمهر، ولا حد عليها، ولا يجب عليها استئناف العدة.
وإن كان قد مضى عليها من العدة قبل الوطء قرءان.. وجب عليها استئناف ثلاثة أقراء، وصحت رجعته في القرء الأول، وإن وطئها فيه.. فلا حد عليهما بحال، ووجب عليها استئناف العدة، وإن راجعها في القرأين الآخرين.. لم تصح رجعته، وإن وطئها فيهما.. فهو كما لو وطئها في القرء الثالث إذا مضى لها قبل الوطء قرء، وعلى ما مضى.
وإن كان عدتها بالشهور.. فالحكم فيها كالحكم في الأقراء، على ما مضى.
وإن حبلت من الوطء بعد الطلاق في العدة.. فإنها تعتد بوضعه عن وطئه في عدة الطلاق، وهل تدخل فيه بقية عدتها عنه للطلاق؟ فيه وجهان:

(11/103)


أحدهما: تدخل؛ لأنهما عدتان لواحد، فتداخلتا، كما لو كانتا من جنس واحد.
والثاني: لا تتداخلان؛ لأن الحقين إنما يتداخلان إذا كانا من جنس واحد، فأما إذا كانا من جنسين: فإنهما لا يتداخلان، كما لو زنى وهو بكر، ثم زنى وهو محصن قبل أن يحد للأول.
فإن قلنا: إنهما يتداخلان.. كانت في عدة الطلاق إلى أن تضع، وله أن يراجعها قبل الوضع، فإن وطئها قبل الوضع ثانيا وثالثا.. فلا حد عليهما، وعليها العدة للجميع، وتنقضي عدتها عن الجميع بوضع الحمل.
وإن قلنا: إنهما لا يتداخلان.. نظرت:
فإن لم تر دما على الحمل، أو رأته، وقلنا: إنه ليس بحيض.. فإنها تعتد بالحمل عن وطء الشبهة، فإذا وضعت الحمل.. أتت بما بقي عليها من الأقراء من عدة الطلاق، فإن راجعها بعد الوضع في حال إتمامها لعدة الطلاق.. صحت الرجعة؛ لأنه راجعها في عدتها منه بالطلاق الرجعي، وإن راجعها قبل وضع الحمل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنها في عدة من وطء الشبهة.
والثاني: يصح؛ لأن عدتها عنه للطلاق الرجعي لم تنقض.
وإن رأت الدم على الحمل، وقلنا: إنه حيض.. فإنها تتم عدة الطلاق بالأقراء - وهي الأطهار بين الدمين على الحمل - وله الرجعة عليها ما لم تنقض عدتها بالأقراء، فإذا انقضت الأقراء.. لم تصح رجعته.
وتنقضي عدتها عن وطء الشبهة بوضع الحمل، وأما حكم نفقتها عليه.. فالذي يقتضي المذهب: أنا إذا قلنا: إنهما يتداخلان.. فعليه أن ينفق عليها ويكسوها ويسكنها إلى أن تضع، وإن قلنا: لا تتداخلان، ولم تر الدم على الحمل، أو رأته

(11/104)


وقلنا: إنه ليس بحيض.. فإنه يجب عليه أن ينفق عليها في الأقراء بعد وضع الحمل؛ لأنها في عدة منه عن طلاق رجعي.
وهل يجب عليه أن ينفق عليها مدة دم النفاس؟ فيه وجهان، ذكرناهما في التي قبلها.
وهل يجب عليه أن ينفق عليها حال كونها حاملا؟
فإن قلنا: إن البائن الحامل تجب لها النفقة لنفسها.. لم تجب عليه نفقتها.
وإن قلنا: إنها تجب لها بسبب الحمل.. وجب لها عليه النفقة.
وأما إذا طلقها وهي حامل، ثم وطئها قبل الوضع.. فإنها تعتد بوضع الحمل عن الطلاق، ويجب عليها ثلاثة أقراء بوطئه إياها في العدة، وهل تدخل الأقراء في الحمل؟ على الوجهين.
فإذا قلنا: إنهما يتداخلان.. فإنها تكون في العدة عن الطلاق والوطء إلى أن تضع، ولها عليه النفقة والكسوة والسكنى إلى أن تضع، وتصح رجعته ما لم تضع.
وإن قلنا: إنهما لا تتداخلان، فإن لم تر الدم على الحمل، أو رأته وقلنا: إنه ليس بحيض.. فإنها في عدة الطلاق إلى أن تضع، وتستحق عليه ما تستحقه الرجعية إلى أن تضع، وتصح رجعته ما لم تضع، فإذا وضعت الحمل.. اعتدت بثلاثة أقراء عن وطء الشبهة، ولا تستحق عليه فيها نفقة ولا غيرها.
وإن رأت الدم على الحمل وقلنا: إنه حيض.. فإنها تعتد بالأقراء من الحمل عن وطء الشبهة، وتعتد بالحمل عن الطلاق، وتستحق عليه ما تستحقه الرجعية إلى أن تضع، وتصح رجعته عليها ما لم تضع.

[مسألة تزوج وخالع أو طلقها بعوض ثم تزوجها في العدة]
إذا تزوج امرأة ودخل بها، وخالعها أو طلقها طلقة أو طلقتين بعوض، فتزوجها وهي في العدة.. صح.
وقال المزني: لا يصح نكاحه لها، كما لا يصح نكاح غيره لها. وهذا خطأ؛ لأن

(11/105)


نكاح غيره لها يؤدي إلى اختلاط المياه، وفساد النسب، ونكاحه لها لا يؤدي إلى ذلك.
فإذا تزوجها.. انقطعت عدتها. وحكي عن أبي العباس بن سريج: أنه قال: لا تنقطع عدتها حتى يدخل بها، كما إذا تزوجها غيره في عدتها. وهذا ليس بصحيح.
وقيل: لا يصح هذا عن أبي العباس؛ لأنها تصير بعد العقد فراشا له، ولا يجوز أن تكون فراشا له وتكون معتدة عنه، وتخالف إذا نكحها غيره في عدتها.. فإنها لا تصير فراشا له بالعقد.
وإن طلقها.. نظرت:
فإن وطئها بعد النكاح الثاني، ثم طلقها.. لزمها استئناف العدة، وتدخل فيها بقية العدة الأولى؛ لأنهما من واحد.
وإن طلقها قبل أن يطأها.. لم يلزمها استئناف العدة، بل يجب عليها أن تتم العدة الأولى.
وقال داود: (لا يلزمها) .
دليلنا: أنا لو قلنا: لا تجب عليها العدة.. لأدى إلى أن يتزوجها في اليوم الواحد جماعة رجال، ويطأها كل واحد منهم، بأن يتزوجها الأول ويطأها، ثم يخالعها، ثم يتزوجها، ويطلقها قبل الدخول، فتتزوج بالثاني ويطأها، ثم يخالعها، ثم يتزوجها، ثم يطلقها قبل الدخول، ثم يتزوجها الثالث ويطأها، وعلى هذا إلى أن يجتمع على تزويجها ووطئها في اليوم الواحد مائة رجل، فتفسد أنسابهم. وهذا ظاهر الفساد.

[فرع خالعها حاملا ثم تزوجها ثم مات]
قال ابن الحداد: وإن خالع امرأته وهي حامل، ثم تزوجها حاملا، ثم مات.. فليس عليها إلا وضع الحمل، سواء أصابها بعد الخلع أو لم يصبها؛ لأن عدة الوفاة تنقضي بوضع الحمل، سواء دخل بها أو لم يدخل.

(11/106)


[مسألة طلقها بعد الدخول ثم راجعها أثناء عدتها]
وإن تزوج الرجل امرأة ودخل بها، ثم طلقها، ومضى عليها قرء أو قرءان، ثم راجعها.. انقضت العدة؛ لأنها صارت فرشا له، فلا يصح أن تكون معتدة عنه، فإن وطئها بعد الرجعة، ثم طلقها.. فعليها أن تستأنف العدة وتدخل فيها بقية العدة الأولى؛ لأنه قد حصل في رحمها ماء جديد له حرمة، فوجبت له العدة.
وإن طلقها قبل أن يطأها.. ففيه قولان:
أحدهما: تبني على الأولى.
والثاني: يلزمها استئناف العدة.
وقال داود: (لا يجب عليها عدة) . وهذا خطأ؛ لأنا لو قلنا: لا يجب عليها العدة.. لأدى إلى أن يجتمع على وطئها في اليوم الواحد جماعة رجال، بأن يتزوجها رجل ويدخل بها، ثم يطلقها طلاقا رجعيا، ثم يراجعها، ثم يطلقها قبل الدخول، ثم يتزوجها آخر، ويفعل مثل ذلك، وتتزوج بثالث، ويفعل مثل ذلك، فيؤدي إلى إفساد النسب.
فإذا قلنا: تبني على العدة، وهو قوله في القديم، وبه قال مالك.. فوجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] [البقرة: 231] ولو احتاجت إلى استئناف العدة.. فقد أمسكها ضرارا؛ لأنه يراجعها في آخر عدتها، ثم يطلقها.
وإذا قلنا: تستأنف العدة، وهو قوله في الجديد، وبه قال أبو حنيفة، وهو الأصح.. فوجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] وهذه مطلقة. ولأنه إذا راجعها.. فقد عاد النكاح كما كان، فإذا طلقها.. استأنفت العدة، كالطلاق الأول.
وإن طلق امرأته طلقة رجعية، فراجعها، ثم طلقها، ثم خالعها في العدة قبل أن يطأها بعد الرجعة، فإن قلنا: إن الخلع طلاق.. كان كما لو طلقها بعد الرجعة، وهل تبني على عدتها، أو تستأنف؟ على القولين. وإن قلنا: إن الخلع فسخ.. فاختلف أصحابنا فيه:

(11/107)


فمنهم من قال: فيه قولان، كالطلاق.
ومنهم من قال: تستأنف العدة، قولا واحدا؛ لأن الخلع نوع فرقة أخرى، فلا تبني عدته على عدة الطلاق.
وإن طلق امرأته طلقة رجعية، ثم طلقها في العدة قبل أن يراجعها.. فهل تبني على عدتها، أو تستأنف العدة؟ فيه طريقان:
[الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو راجعها ثم طلقها؛ لأن الشافعي قال - إذا راجعها، ثم طلقها في أحد القولين -: (إنها تستأنف) . ثم قال: (ومن قال بهذا.. لزمه أن يقول: ارتجع أو لم يرتجع سواء) .
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: تبني على عدتها، قولا واحدا. قال ابن الصباغ: وهو الأصح؛ لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء ولا رجعة، فصار كما لو طلقها طلقتين في وقت واحد.

[فرع طلق العبد أمة رجعيا ثم عتقت]
إذا تزوج العبد أمة، فطلقها طلاقا رجعيا، ثم أعتقت في أثناء العدة.. فلها أن تختار فسخ النكاح، ولها أن لا تفسخ.
فإن اختارت فسخ النكاح.. فهل تبني على عدتها، أو يلزمها استئناف العدة؟ فيه ثلاث طرق:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان.
و [الثاني] : منهم من قال: لها أن تبني على العدة، قولا واحدا. وهو اختيار أبي إسحاق المروزي.
و [الثالث] : منهم من قال: تستأنف العدة، قولا واحدا؛ لأن إحداهما من طلاق، والأخرى من فسخ.
فإذا قلنا: إنها تستأنف العدة.. استأنفت عدة حرة؛ لأنها وجبت في حال الحرية.

(11/108)


وإذا قلنا: إنها تبني على الأولى.. فعلى ماذا تبني؟ فيه طريقان:
[الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: تبني على عدة أمة.
والثاني: تتم عدة حرة. كما لو كانت تحت حر وطلقها، ثم أعتقت.. فإن فيه قولين.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: تتم عدة حرة، قولا واحدا؛ لأن الفسخ هاهنا طرأ على العدة، والفسخ يوجب العدة، فغيرها، بخلاف ما لو أعتقت تحت حر، أو تحت عبد، ولم تختر الفسخ.. فإن العتق لا يوجب العدة، فلم يغيرها.
وإن لم تختر الفسخ.. نظرت:
فإن لم يراجعها حتى بانت.. فلا يلزمها استئناف العدة، ولكن هل تتم عدة حرة، أو أمة؟ فيه قولان، مضى ذكرهما.
وإن راجعها قبل انقضاء العدة.. فلها أن تختار فسخ النكاح، فإن اختارت الفسخ.. فهل يلزمها استئناف العدة، أو يجوز لها أن تبني على الأولى؟ فيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالطلاق.
و [الثاني] : منهم من قال: يلزمها أن تستأنف العدة، قولا واحدا؛ لأنها فسخت النكاح وهي زوجة.
فإذا قلنا: إنها تستأنف العدة.. استأنفت عدة حرة.
وإذا قلنا: تبني.. فهل يلزمها أن تتم عدة حرة، أو أمة؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما.

(11/109)


[مسألة طلقها واختلفا في الإصابة]
] : إذا طلق الرجل زوجته، واختلفا في الإصابة: فادعى الزوج: أنه قد أصابها لثبوت الرجعة، وأنكرت الإصابة، أو ادعت المرأة: أنه أصابها لثبوت جميع المهر، وأنكر الزوج الإصابة.. نظرت:
فإن اتفقا على: أنه قد خلا بها.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (القول قول من يدعي الإصابة) ؛ لأن الظاهر معه.
و [الثاني] : قال في الجديد: (القول قول من ينكر الإصابة) . وهو الأصح؛ لأن الأصل عدم الإصابة.
وإن لم يتفقا على الخلوة.. فالقول قول من ينكر الإصابة منهما، قولا واحدا؛ لأن الأصل عدم الإصابة.
وإن ادعت الزوجة الإصابة، فأتت بشاهد واحد على مشاهدته الإصابة، أو على إقرار الزوج بها.. حلفت معه؛ لأن المقصود بدعواها في ذلك المال، وإن أتى الزوج بشاهد في الإصابة، وأراد أن يحلف معه.. لم يكن له ذلك؛ لأن المقصود بدعواه في ذلك غير المال.
فإن أتت بولد لمدة الحمل من حين النكاح، ولم ينفه باللعان.. لحقه نسبه.
فإن ادعت المرأة الإصابة لاستقرار المهر.. فنقل المزني: (أن القول قول الزوجة) ، فإذا حلفت.. استحقت جميع المهر. ونقل الربيع: (أن القول قول الزوج مع يمينه) . واختلف أصحابنا فيه على طريقين:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيه قولان، ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غير هذا:
أحدهما: القول قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الظاهر معها؛ لأنا قد ألحقنا به النسب، والظاهر أن النسب لا يلحق إلا عن إصابة.

(11/110)


والثاني: القول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإصابة، وقد يلحقه الولد من غير إصابة، بأن يطأها فيما دون الفرج، فيسبق الماء إلى فرجها، أو يبعث إليها بمائه، فتستدخله وتحمل منه.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (القول قول الزوج) أراد به: إذا كانا قد اختلفا في الإصابة، وجعلنا القول قول الزوج، فحلف، وحكمنا بيمينه: أنه لم يصبها، ثم أتت بعد ذلك بولد يلحقه بالإمكان، ولم ينفه، ثم قالت بعد ذلك: قد أصبتني، وقال: ما أصبتك.. فالقول قوله؛ لأنا قد حكمنا بيمينه: أنه لم يصبها، فلا ننقض حكمنا في الظاهر بأمر محتمل؛ لجواز أن يكون الولد منه من غير وطء منه.
وحيث قال: (القول قولها) أراد: إذا لم يكونا قد اختلفا في الإصابة، ثم أتت بولد، ولحقه نسبه، ثم خرس الزوج أو مات، وادعت الإصابة بعد ذلك.. فالقول قولها؛ لأن الظاهر معها.

[مسألة ادعت انقضاء العدة وأنكرها الزوج]
إذا ادعت انقضاء عدتها بالأقراء أو بوضع الحمل، وأنكرها الزوج.. فقد مضى ذكره.
وإن ادعت انقضاء عدتها بالشهور، وأنكر الزوج، فإن اتفقا على وقت الطلاق.. لم يفتقر إلى اليمين، بل يحتسب ذلك، وإن اختلفا في وقت الطلاق.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن هذا اختلاف في قوله، وهو أعلم به.
وإن ولدت وطلقها، فقالت: ولدت بعد الطلاق، وانقضت عدتي بالولادة، وقال الزوج: بل ولدت قبل الطلاق، فعليك العدة بالأقراء.. ففيه خمس مسائل:
إحداهن: إذا اتفقا على وقت الولادة، واختلفا في وقت الطلاق، فإن اتفقا: أنها

(11/111)


ولدت يوم الجمعة، وقالت: طلقتني يوم الخميس، وقال الزوج: بل طلقتك يوم السبت.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن هذا اختلاف في قوله، وهو أعلم به.
المسألة الثانية: إذا اتفقا على وقت الطلاق، واختلفا في وقت الولادة، مثل: أن اتفقا: أنه طلقها يوم الجمعة، وقالت الزوجة: ولدت يوم السبت، وقال الزوج: بل ولدت يوم الخميس.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الولادة من فعلها، وهي أعلم بها.
المسألة الثالثة: إذا قال الزوج: طلقتك بعد الولادة، فقالت هي: بل طلقتني قبل الولادة، ولم يتفقا على وقت الولادة، ولا على وقت الطلاق.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء العدة عليها.
المسألة الرابعة: إذا جهلا جميعا أن الطلاق وقع قبل الولادة أو بعدها، ولم يدعيا سبق أحدهما.. فعليها العدة بالأقراء؛ لأن الأصل بقاؤها، وله أن يراجعها، والورع أن لا يراجعها؛ لاحتمال أن تكون الولادة بعد الطلاق.
المسألة الخامسة: إذا علم أحدهما، وجهل الآخر، مثل: أن قال الزوج: طلقتك بعد الولادة، وقالت: لا أعلم، هل طلقتني قبل الولادة، أو بعدها.. قلنا: ليس هذا بجواب، إما أن تجيبي بتصديقه أو تكذيبه، وإلا جعلناك ناكلة، وحلف، وكانت عليك العدة.
ولو كانت هي العالمة، وهو الجاهل، مثل: أن قالت: طلقتني، ثم ولدت بعده، وقال الزوج: لا أدري، هل طلقت قبل الولادة، أو بعدها.. قلنا له: إما أن تجيب بتصديقها أو تكذيبها، وإلا.. جعلناك ناكلا، وحلفناها، وحكمنا بانقضاء عدتها، كما نقول فيمن ادعى على رجل دينا، فقال المدعى عليه: لا أدري.. فإنه يقال له: إما أن تصدقه، وإما أن تكذبه، وإلا.. جعلناك ناكلا، ويحلف المدعي، ويستحق.

(11/112)


[مسألة اختلاف المطلقة وزوجها في مكان الإقامة]
] . روى المزني عن الشافعي: (لو صارت إلى منزل أو بلد بإذنه، ولم يقل لها: أقيمي، ولا: لا تقيمي، ثم طلقها، فقال: لم أنقلك، فقالت: نقلتني.. فالقول قولها) .
وجملة ذلك: أنه إذا أذن لها في الخروج إلى منزل أو بلد، ثم طلقها، واختلفا: فقالت: نقلتني إلى هذا الموضع، وقال: ما نقلتك.. فقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال بظاهر ما نقله المزني، وأن القول قولها؛ لأن إذنه لها في المضي إلى الموضع ظاهره الانتقال، فكانت دعواها موافقة للظاهر.
وقال أبو إسحاق: إن قال لها: انتقلي إلى المنزل الفلاني، أو اذهبي، أو صيري إليه، أو أقيمي فيه، ثم اختلفا: فقالت: نقلتني للسكنى فيه، وقال: بل نقلتك إليه للإقامة فيه مدة.. فالقول قولها؛ لأن الظاهر من قوله: (أقيمي) أنه أراد على التأبيد. وإن قال لها: اذهبي إليه، أو صيري إليه، أو امضي إليه، ولم يقل: أقيمي.. فالقول قول الزوج؛ لأنه يحتمل النقلة للسكنى وللإقامة مدة، فكان القول قول الزوج، وحمل النص على الأولى دون الثانية.
ومن أصحابنا من قال: الحكم كما ذكر أبو إسحاق؛ لأن المزني نقل: (القول قولها) في المسألتين معا؛ لأنه قال: (ولم يقل لها: أقيمي، ولا: لا تقيمي) ، إلا أن ما نقله أخطأ فيه، وإنما القول قولها إذا اختلفت هي وورثة الزوج؛ لأنها استوت هي والورثة في قصد الزوج، إلا أن الظاهر معها؛ لأن الأمر بالخروج يقتضي خروجا من غير عودة، فكان القول قولها.
والله أعلم بالصواب

(11/113)


[باب استبراء الأمة وأم الولد]
إذا ملك الرجل أمة بابتياع، أو هبة، أو ميراث، أو غنيمة.. لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، بكرا أو ثيبا، يوطأ مثلها أو لا يوطأ، ممن يحمل مثلها أو لا يحمل، وبه قال عمر، وعثمان، وابن مسعود، وهو قول أبي حنيفة.
وقال ابن عمر: (إن كانت بكرا.. فلا يجب عليه استبراؤها، وإن كانت ثيبا.. وجب عليه استبراؤها) . وبه قال داود وشيعته.

(11/114)


وقال مالك: (إن كانت ممن يوطأ مثلها.. لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها، وإن كانت ممن لا يوطأ مثلها.. لم يجب عليه استبراؤها) .
وقال الليث بن سعد: (إن كانت ممن يحمل مثلها.. فلا توطأ حتى تستبرأ، وإن كانت ممن لا يحمل مثلها.. فإنها لا تستبرأ) .
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عام أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض حيضة» وروي: «ولا غير حامل حتى تحيض» . ولم يفرق بين الصغيرة والكبيرة، والبكر والثيب، وبين من تحبل ومن لا تحبل.
ولأنه ملك استمتاع جارية بملك اليمين بعد أن كانت محرمة عليه، فوجب عليه استبراؤها، كالثيب مع داود، وكمن يوطأ مثلها مع مالك، وكمن تحبل مثلها مع الليث.
فقولنا: (بملك اليمين) احتراز منه إذا تزوجها.
وقولنا: (بعد أن كانت محرمة عليه) احتراز منه إذا اشترى زوجته.

(11/115)


[مسألة ما يعتد من طهرها]
وإذا وجب أن يستبرئ الأمة.. فلا يخلو: إما أن تكون حاملا، أو حائلا.
فإن كانت حاملا.. لم يحصل الاستبراء إلا بوضع الولد؛ لحديث أبي سعيد.
وإن كانت حائلا.. فلا تخلو: إما أن تكون ممن تحيض، أو ممن لا تحيض.
فإن كانت ممن يحيض.. وجب استبراؤها بقرء، وفي القرء قولان، ومن أصحابنا من يحكيهما وجهين:
أحدهما: أنه طهر؛ لأنه استبراء بقرء، فكان القرء هو الطهر، كما قلنا في العدة.
والثاني: أن القرء هو الحيض، وهو الأصح؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا حائل حتى تحيض حيضة» ، ولأن القرء يراد لمعرفة براءة الرحم، فإذا لم يكن بد من أحدهما.. كان بالحيض أولى؛ لأنه أدل على براءة الرحم، ويخالف الأقراء في العدة، فإنها تتكرر، ويتخللها الحيض.
فإذا قلنا: إن القرء هو الطهر.. فلا يخلو: إما أن تكون حال وجوب الاستبراء طاهرا، أو حائضا.
فإن كانت طاهرا.. فإنها تعتد ببقية الطهر قرءا، فإذا طعنت في الحيض.. فقد حصل القرء، إلا أنها لا يحل وطؤها، ولا تخرج من حكم الاستبراء حتى تطهر من الحيض، لتكون مضاهية للمعتدة، بأن يمر عليها الطهر المحسوب قرءا وحيضة على وجه التبع، فيعلم بذلك براءة رحمها.
وإن كانت حال وجوب الاستبراء حائضا.. فإنها لا تعتد ببقية الحيض قرءا؛ لأن القرء الطهر، فإذا طهرت.. فقد طعنت في القرء، فإذا رأت الدم بعد الطهر.. فقد خرجت من الاستبراء؛ لأن في هذا الموضع قد تكرر رؤية الدم، فقويت المعرفة ببراءة رحمها، بخلاف الأولى، فإن رؤية الدم لم تتكرر.

(11/116)


وإذا قلنا: إن القرء الحيض، فإن كانت حال وجوب الاستبراء طاهرا.. لم تعتد ببقية الطهر؛ لأنا قلنا: إن القرء الحيض، فإذا طعنت في الحيض.. دخلت في القرء، فإذا طهرت.. خرجت من الاستبراء، وحلت. وإن كانت حال وجوب الاستبراء حائضا.. لم تعتد ببقية الحيض قرءا، فإذا طهرت وطعنت في الحيض بعده.. دخلت في القرء، فإذا طهرت.. خرجت من الاستبراء، وحلت.
فإن قيل: فلم قلتم: تعتد ببقية الطهر قرءا على القول الأول، ولا تقولون: تعتد ببقية الحيض قرءا على هذا؟
قلنا: لا نقول هذا؛ لأن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حتى تحيض حيضة» . وبعض الحيض لا يسمى حيضة. ولأن بعض الطهر إنما اعتد به قرءا؛ لأنا قد قلنا: لا بد أن يتعقبه حيضة كاملة تدل على براءة رحمها، وبعض الحيضة لا يتعقبه إلا الطهر، والطهر لا يدل على براءة رحمها، وإنما يدل عليه الحيض.
وإن وجب الاستبراء وهي ممن تحيض، فارتفع حيضها.. فهو كما لو ارتفع حيضها في العدة، على ما بيناه.
وإن وجب استبراؤها وهي ممن لا تحيض لصغر أو كبر.. ففيه قولان:
أحدهما: أنها تستبرأ بشهر؛ لأن كل شهر في مقابلة قرء في حق المعتدة، فكذلك هذا مثله.
والثاني: تستبرأ بثلاثة أشهر، وهو الأصح؛ لأن براءة الرحم لا تحصل في الشهور إلا بذلك.

[فرع تبقى الجارية في يد المشتري لاستبرائها]
وتكون الجارية في يد المشتري زمن الاستبراء، سواء كانت جميلة أو قبيحة.
وقال مالك: (إن كانت جميلة.. لم تكن في يد المشتري، وإنما تترك في يد

(11/117)


عدل، وإن كانت قبيحة.. كانت في يد المشتري؛ لأنه لا يؤمن أن يطأ الجميلة قبل الاستبراء، ويؤمن ذلك في القبيحة) .
دليلنا: قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض» . والنهي إنما يتوجه على من كان متمكنا من الوطء.
ولأنه استبراء لاستحداث ملك، فوجب أن يكون في يد من حدث له الملك، كما لو كانت قبيحة.
وما ذكره.. غير صحيح؛ لأنه لا يؤمن أن يطأ القبيحة الوحشة أيضا، كما لا يؤمن ذلك في الجميلة.

[مسألة استبراء الوثنية]
إذا اشترى أمة مجوسية أو وثنية، فاستبرأها وهي مشركة، ثم أسلمت.. لم يعتد بذلك الاستبراء.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنها تعتد به. والمشهور هو الأول؛ لأنه استبرأها في وقت لا يحل له وطؤها، فلم يعتد به.
فإن استبرأ المجوسية وكاتبها، فأسلمت، ثم حاضت بعد الإسلام، ثم عجزت عن أداء المال، ورجعت إلى ملكه.. لم تعتد باستبرائها في حال الكتابة والإسلام؛ لأنها كانت مدتها محرمة عليه بالكتابة.

[فرع الاستبراء للاستباحة]
وإن اشترى أمة مرتدة أو ذات زوج، فاستبرأها في هذه الحال.. لم يصح استبراؤها؛ لأن الاستبراء يراد للاستباحة، ولا توجد الاستباحة في هذه الأحوال.
وإن استبرأ أمة معتدة.. فقال الشيخ أبو إسحاق: لا يصح استبراؤها، كالمرتدة. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يلزمه استبراؤها بعد عدتها؟ فيه قولان.

(11/118)


وإن اشترى العبد المأذون له في التجارة أمة.. فالملك فيها للسيد، فإن أراد السيد وطأها، فإن لم يكن على المأذون له في التجارة دين.. كان له ذلك، ويصح استبراؤها.
وإن كانت في يد العبد، فإن كان على المأذون له دين.. لم يكن للسيد وطؤها؛ لأن الدين متعلق بها، فهي كالمرهونة، وقد تحبل بوطء السيد، فتتلف.
وإن استبرئت قبل قضاء الدين، ثم قضي الدين.. لم يعتد بالاستبراء الأول؛ لأنه لم يعقب إباحة، فلم يعتد به.
وهكذا: لو اشترى الرجل أمة، فرهنها قبل الاستبراء، ثم استبرأها وهي مرهونة، ثم قضى الدين أو أبرأه منه المرتهن.. فإنه لا يعتد بالاستبراء؛ لأنه لم يعقب إباحة، فلم يعتد به.

[مسألة وضعت قبل التفرق من البيع]
قال الشافعي: (ولو لم يفترقا حتى وضعت حملا.. لم تحل حتى تطهر من نفاسها، ثم تحيض حيضة مستقبلة) .
وجملة ذلك: أنه إذا اشترى أمة وقبضها، فولدت أو حاضت بعد انقضاء الخيار.. حصل الاستبراء، وإن قبضها، ثم ولدت أو حاضت قبل انقضاء خيار المجلس أو خيار الثلاث، فإن قلنا: إن المشتري لا يملكها قبل انقضاء الخيار.. لم يعتد بهذا عن الاستبراء؛ لأنه وجد وهي في ملك البائع، وإن قلنا: إن المشتري يملكها نفس بالعقد، أو قلنا: إنه موقوف، واختار الإجازة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يعتد به، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأن الاستبراء حصل وهي في ملكه.
والثاني: لا يعتد به؛ لأن ملكه كان غير مستقر؛ لأن للبائع أن يسترجعها.

(11/119)


وإن استبرأها بعد انقضاء الخيار وقبل القبض، أو أوصى له بها وقبل الوصية واستبرأها قبل القبض.. فهل يعتد به؟ فيه وجهان:
أحدهما: يعتد به، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن الشافعي قال: (حتى تطهر من النفاس، وتحيض حيضة) . ولم يشترط القبض. ولأنه استبرأها بعد تمام الملك، فأشبه إذا كان بعد القبض.
والثاني: لا يعتد به؛ لأن الشافعي قال: (والاستبراء: أن تمكث عند المشتري طاهرا بعد ملكها) ، ولأن ملكه قبل القبض غير مستقر.
وإن وهبت له الجارية، واستبرأها قبل القبض.. لم يعتد به؛ لأنه استبرأها قبل أن يملكها.
وإن ورثها واستبرأها قبل القبض.. اعتد به؛ لأن الموروث قبل القبض كالمقبوض في تمام الملك وجواز التصرف فيه.

[مسألة تزوج أمة ثم اشتراها انفسخ النكاح]
إذا تزوج الحر أمة، ثم اشتراها.. انفسخ النكاح، والمنصوص: (أنه لا يلزمه استبراؤها) .
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه يلزمه. وليس بشيء؛ لأن الاستبراء يراد لئلا يختلط الماءان، ويفسد النسب، وهاهنا الماءان له، فلا يؤدي إلى ذلك.
قال الشافعي: (وأستحب له أن يستبرئها) . وإنما استحب ذلك لمعنيين:
أحدهما: أنها قد تكون حاملا وقت الشراء، فلا تصير به أم ولد، وإذا حملت بعد الشراء.. صارت به أم ولد؛ فاستحب الاستبراء؛ لتمييز حكمها.
والثاني: أن الولد الذي حملت به قبل الشراء يملكه، ويعتق عليه، ويكون له عليه

(11/120)


الولاء، والولد الذي تحمل به بعد الشراء لا يملكه، ولا يعتق عليه، ولا يثبت له عليه الولاء، فاستحب استبراؤها؛ لتمييز حكم الولد في ذلك.

[مسألة ملك أمة ثم باعها ولزم البيع ثم تقايلا]
إذا ملك الرجل أمة، ثم باعها من رجل أو امرأة أو خصي، ولزم البيع بينهما، ثم تقايلا البيع، وعادت إلى البائع.. فلا يجوز له وطؤها حتى يستبرئها، سواء قبضها المشتري أو لم يقبضها.
وقال أبو يوسف: إن كان المشتري قد قبضها.. فلا يجوز للبائع وطؤها حتى يستبرئها. وإن لم يقبضها.. فالقياس: أنه يستبرئها، ولكن جوزنا له أن لا يستبرئها استحسانا. وهذا غلط؛ لأنها حرمت عليه بعقد معاوضة، وحلت له بفسخه، فوجب عليه استبراؤها، كما لو كان بعد القبض.

[فرع كاتبها فعجزت ورجعت إليه]
وإن كاتب الرجل أمته، فعجزت ورجعت إلى ملك سيدها، أو ارتد السيد أو الأمة أو ارتدا وعاد المرتد إلى الإسلام، أو زوج أمته وطلقها الزوج قبل الدخول.. لم يجز له وطؤها قبل استبرائها.
وقال أبو حنيفة: (يحل له في جميع هذه المسائل قبل الاستبراء) .
دليلنا: أنه عاد ملكه على استمتاعها بعد أن حرم عليه، فوجب عليه استبراؤها، كما لو باعها، ثم اشتراها.
وإن زوج أمته، ودخل بها الزوج، وطلقها، واعتدت عن الزوج.. فهل يجب على السيد استبراؤها بعد انقضاء عدتها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه؛ لأنه تجدد له الملك على استمتاعها، فوجب عليه استبراؤها، كما لو باعها، ثم اشتراها.

(11/121)


والثاني: لا يجب عليه استبراؤها، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة؛ لأن الاستبراء يراد لبراءة رحمها، وقد حصل ذلك بالعدة.
وإن كانت له أمة، فرهنها، ففك الرهن.. لم يجب عليه استبراؤها؛ لأنها لم تخرج من ملكه، وإنما حرم عليه استمتاعها لعارض، وقد زال العارض، فلم يجب عليه الاستبراء، كما لو أحرمت بالحج أو صامت.

[مسألة يحرم الوطء قبل الاستبراء]
وإذا ملك الرجل أمة.. حرم عليه وطؤها قبل الاستبراء؛ لحديث أبي سعيد، وهل يحل له التلذذ بها بغير وطء، كالقبلة، واللمس، والنظر بشهوة؟ ينظر فيها:
فإن ملكها بغير السبي.. لم يحل له ذلك؛ لأنا إنما منعناه من الوطء مخافة أن تكون أم ولد لغيره، وهذا المعنى موجود في القبلة واللمس والنظر بشهوة.
وإن ملكها بالسبي.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له تقبيلها، ولا لمسها، ولا النظر إليها بشهوة؛ لأن من حرم وطؤها بحكم الاستبراء.. حرم التلذذ بها بالقبلة واللمس والنظر بشهوة، كما لو ملكها بغير السبي، وفيه احتراز من امرأته الحائض، فإنه حرم وطؤها بغير حكم الاستبراء، فيجوز التلذذ بها بغير الوطء.
والثاني: لا يحرم عليه ذلك، وهو الأصح؛ لما روي عن ابن عمر: أنه قال (وقع في سهمي من سبي جلولاء جارية، كأن عنقها إبريق فضة، فلم أتمالك أن وثبت عليها فقبلتها والناس ينظرون) ، ولأن المسبية أمته، حائلا كانت أو حاملا، وإنما

(11/122)


حرم وطؤها؛ لئلا يختلط ماؤه بماء مشرك، وهذا لا يوجد في التلذذ بها بغير الوطء، بخلاف غير المسبية، فإنها يجوز أن لا تكون أمته.

[فرع وجوب العدة على زوجته إن وطئت بشبهة]
وإن كان لرجل زوجة، ووطئها غيره بشبهة.. فإنه يجب عليها العدة، ولا يجوز للزوج وطؤها في حال عدتها؛ لئلا يختلط الماءان، ويفسد النسب، وهل يحرم عليه التلذذ بها بالقبلة واللمس والنظر بشهوة؟ فيه وجهان، كالتي قبلها.

[مسألة وجوب الاستبراء على المشتري]
] : وإذا ملك الرجل أمة، وأراد بيعها.. فإنه لا يجب عليه استبراؤها، وإنما يجب ذلك على المشتري.
وقال عثمان البتي: الاستبراء يجب على البائع دون المشتري.
دليلنا: ما روي: «أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض» . وهذا أمر للمشتري بالاستبراء؛ لأنه قال: " لا «توطأ حامل حتى تضع» . والنهي يقتضي التحريم، والوطء إنما يكون محرما قبل الاستبراء على المشتري، فأما البائع: فلا يحرم عليه الوطء قبل الاستبراء، وإنما يقال له: إن اخترت بيعها.. فلا تبع حتى تستبرئها، وإن وطئتها.. فاستأنف الاستبراء.
ولأنه علق التحريم بغاية، وهو الوضع والحيض، فدل على: أنه إذا وجدت الغاية.. ارتفع تحريم الوطء، وهذا المعنى لا يوجد إلا في حق المشتري، فأما البائع: فإنها إذا وضعت أو حاضت.. لم يرتفع التحريم في حقه على قول من أوجب

(11/123)


الاستبراء عليه. ولأن المشتري ملك الاستمتاع بجارية بملك اليمين بعد تحريمها عليه، فوجب عليه استبراؤها، كالمسبية.

[فرع استبراء المشتري لازم]
وإذا اشترى أمة.. فلا يجوز له وطؤها حتى يستبرئها، سواء استبرأها البائع أو لم يستبرئها، وسواء إن اشتراها من امرأة أو من ولي طفل أو من رجل خصي؛ لحديث أبي سعيد الخدري، وهو إجماع.
وإن وطئ الرجل أمته، ثم باعها قبل أن يستبرئها، وأراد المشتري أن يزوجها.. لم يصح حتى يستبرئها قبل النكاح.
وكذلك: لو اشترى أمة واستبرأها، ووطئها، وأراد أن يزوجها.. لم يصح النكاح حتى يستبرئها قبل النكاح.
وكذلك: لو اشترى أمة من رجل، ووطئها، وباعها قبل الاستبراء، فأعتقها المشتري قبل أن يستبرئها، وأراد أن يتزوج بها سيدها الذي أعتقها.. لم يصح حتى يستبرئها.
وقال أبو حنيفة في هذه الثلاث المسائل: (يجوز النكاح قبل الاستبراء) .
وقيل: إن الرشيد ابتاع جارية، وأراد وطأها في الحال، فقيل له: لا يجوز لك ذلك قبل الاستبراء، فتاقت نفسه إليها، فسأل أبا يوسف عن ذلك، فقال له: أعتقها، وتزوجها، ففعل ذلك، وعظم شأن أبي يوسف عنده بذلك.
دليلنا: ما روي: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تسق ماءك زرع غيرك» . وأراد به:

(11/124)


في الوطء، وهذا الزوج إذا وطئها.. فقد سقى ماءه زرع غيره؛ لأن البائع أو المشتري قد وطئها قبله، ولم تستبرأ، ولا يؤمن أن تكون حاملا.
وروى أنس: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل للرجلين أن يتشاركا في وطء امرأة في طهر واحد» . وهذا الزوج إذا وطئها.. فقد اشتركا في طهر واحد.
ولأنه وطء له حرمة، فلم يجز لغير الواطئ نكاحها، كالموطوءة بنكاح.
وإن اشترى الرجل أمة من امرأة، أو أمة طفل لا يجامع مثله، أو من خصي، أو من رجل فحل وطئها، إلا أن البائع استبرأها قبل البيع.. فيجوز للمشتري أن يتزوجها ويزوجها غيره قبل الاستبراء، وإن أعتقها المشتري.. كان له أن يتزوجها قبل الاستبراء أيضا. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا استبرأها البائع.. فهل يجوز للمشتري أن يزوجها غيره قبل الاستبراء، وهل يجوز له أن يتزوجها إذا أعتقها قبل أن يستبرئها؟ فيه وجهان، الأصح: أنه يجوز.
فإن قيل: فقد منعتموه من وطئها في هذه المسائل قبل الاستبراء، فكيف يجوز له إنكاحها ونكاحها؟
قلنا: الفرق بينهما: أنه لا ضرر على أحد بترك الاستبراء في النكاح، والظاهر براءة رحمها من ماء كل أحد، ولو أتت بولد من غير الزوج.. أمكنه نفيه باللعان، وليس كذلك وطؤه بملك اليمين قبل الاستبراء؛ لأن على المشتري ضررا بذلك؛ لأنها لو أتت بولد لأقل من مدة الحمل.. لحقه، ولا ينتفي عنه باللعان، وإنما ينتفي ولد الأمة عن سيدها، بأن يدعي: أنه استبرأها، ويحلف عليه، وإذا لم يكن استبرأها.. لم يمكنه أن يحلف عليه. ولأن الاستبراء لحق الملك إنما يكون عقيب الملك، فلم يعتد بما تقدم من الاستبراء، والاستبراء في النكاح يكون قبل النكاح، وهو العدة، وقد تقدم الاستبراء، فوجب أن يعتد به.

(11/125)


[مسألة أم الولد تستبرأ بقرء ولا عدة وفاة عليها]
] : إذا أعتق الرجل أم ولده في حياته، أو عتقت بموته.. لزمها أن تستبرئ بقرء، كالمسبية، ولا يلزمها عدة الوفاة بموته، وبه قال من الصحابة: ابن عمر، وعائشة، وهو قول الشعبي، ومالك، وأحمد، وأبي ثور، وأبي عبيد.
وقال أبو حنيفة: (يلزمها أن تعتد بثلاثة أقراء، كالحرة إذا طلقت) . وبه قال ابن مسعود.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: (إذا مات عنها سيدها.. لزمها عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا) وبه قال داود، وأحمد.
دليلنا: أنه استبراء بحكم ملك اليمين، فكان قرءا، كالمسبية.

(11/126)


وعلى عبد الله بن عمرو: أن عدة الوفاة إنما تجب عن نكاح صحيح، وأم الولد ليست بزوجة لسيدها، فلم يلزمها عدة الوفاة، كما لو تزوج امرأة تزويجا فاسدا، ووطئها، ومات عنها.

[فرع تزويج أم الولد]
إذا كان للرجل أم ولد، وأراد تزويجها.. فهل يصح؟ وفيه ثلاثة أقوال، مضى ذكرها في (عتق أمهات الأولاد) .
فإذا قلنا: لا يصح.. فلا كلام.
وإن قلنا: يصح.. فلا يجوز تزويجها حتى يستبرئها قبل النكاح؛ لأنها قد صارت فراشا له، فإذا زوجها السيد، ثم مات عنها السيد أو أعتقها وهي تحت الزوج أو في عدة منه.. فإنه لا يلزمها الاستبراء عن السيد.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : وخرج ابن سريج وجها آخر: أنه يلزمها الاستبراء بعد فراغها من حق الزوج.
والمنصوص هو الأول؛ لأنها ليست بفراش للسيد، فلم يلزمها الاستبراء عنه، كالأجنبي.
وإن مات زوجها، واعتدت عنه عدة الوفاة وسيدها باق.. فالمنصوص: (أنها تعود فراشا لسيدها، ولا يلزمه استبراؤها بعد انقضاء عدتها) .
قال ابن خيران: فيها قول آخر: أنها لا تعود فراشا للسيد حتى يستبرئها بعد انقضاء عدتها من الزوج ويطأها؛ لأنها حرمت عليه بعقد معاوضة، وحلت بفسخه، فلم تحل له قبل الاستبراء، ولا تعود فراشا له إلا بالوطء، كما لو وطئ أمته، ثم باعها، ثم اشتراها أو كاتبها، ثم عجزت ورجعت إلى ملكه.
والأول أصح؛ لأن ملكه لم يزل عنها، وإنما حرمت عليه لعارض، وقد زال العارض، وعادت فراشا له، فلم يجب عليه استبراؤها، كالمرهونة.

(11/127)


وإن مات سيدها بعد انقضاء عدتها.. فعلى قول الشافعي: يجب عليها أن تستبرئ عن سيدها بقرء؛ لأنها قد عادت فراشا له، وعلى القول الذي حكاه ابن خيران: لا يجب عليها أن تستبرئ عنه، بل لها أن تتزوج في الحال؛ لأنها لم تعد فراشا له.
وإن استبرأ الرجل أم ولده، ثم أعتقها أو مات عنها.. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فهل يجوز لها أن تتزوج قبل الاستبراء؟ فيه وجهان، كما قال: إذا استبرأ البائع الجارية.. زوجها المشتري قبل الاستبراء.
والذي يقتضي قياس قول أصحابنا البغداديين هاهنا: أنه يجوز لها أن تتزوج قبل الاستبراء؛ قياسا على قولهم هناك.

[فرع زوج أم ولد ومات السيد والزوج]
وإن زوج الرجل أم ولده - إذا قلنا: يصح - ومات السيد والزوج، ولم يعلم السابق منهما.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يكون بين موتهما شهران وخمسة أيام بلياليها فما دون، إذا قلنا: إن عدة الأمة في الوفاة شهران وخمس ليال.. فيجب عليها هاهنا أن تعتد من أبعدهما موتا بأربعة أشهر وعشر، ولا يعتبر أن يكون فيها حيضة؛ لأن السيد إذا كان مات أولا.. فقد مات وهي مزوجة، ولا يجب عليها استبراء على المذهب الصحيح، خلافا لابن سريج.
وإذا مات الزوج بعده.. لزمها أن تعتد عنه عدة الحرائر أربعة أشهر وعشرا.
وإذا مات الزوج أولا.. فقد مات السيد وهي في عدة الزوج، ولا يلزمها الاستبراء عنه على المذهب أيضا، وقد عتقت بموت السيد في أثناء العدة، وهل يلزمها إتمام عدة الحرة؟ على قولين.
فإذا احتمل الأمر هذين الحالين.. لم يجب عليها الاستبراء بالقرء عن السيد؛ لأنه

(11/128)


لم يجب عليها بحال، ووجب عليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من بعد آخرهما موتًا؛ ليسقط الفرض عنها بيقين.
المسألة الثانية: إذا كان بين موتهما أكثر من شهرين وخمسة أيام بلياليها.. فإنه يجب عليها أن تعتد هاهنا بأكثر الأمرين من أربعة أشهر وعشر وقرء؛ لأن السيد إن مات أولًا.. فقد عتقت بموته، ولا يلزمها الاستبراء عنه، ولكن يلزمها أن تعتد عن الزوج عدة الحرائر أربعة أشهر وعشرًا، وإن مات الزوج أولًا.. فعدتها عنه شهران وخمسة أيام، فإذا مات السيد بعد انقضاء عدتها من الزوج.. عادت فراشًا للسيد على المذهب، خلاف لما حكاه ابن خيران، فإذا مات السيد.. لزمها الاستبراء عنه بقرء.
وإذا احتمل الأمر هذين الحالين.. لزمها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر فيها قرء؛ ليسقط الفرض عنها بيقين.
وحكى أبو إسحاق المروزي، عن بعض أصحابنا: أنه قال: ينبغي أن يكون القرء بعد شهرين وخمسة أيام من هذه الأربعة الأشهر والعشر؛ لأنه يمكن أن يكون الزوج مات أولًا، فتحتاج أن تعتد عنه بشهرين وخمسة أيام؛ ثم مات السيد بعده.. فلزمها الاستبراء عنه بقرء بعده؛ لئلا يجتمع الاستبراء عن السيد والاعتداد عن الزوج في زمان واحد.
وقال عامة أصحابنا: لا فرق بين أن يوجد القرء في الشهرين الأولين، أو فيما بعدهما؛ لأن السيد إن مات أولًا.. فلا قرء عليها، وإن مات الزوج أولًا.. فقد مات السيد بعد مضي عدة الزوج، فلا تجتمع عدتهما.
المسألة الثالثة: إذا أشكل الأمر، ولم يعلم: هل كان بين موتهما شهران وخمسة أيام بلياليها، أو أكثر من ذلك؟ فيجب عليها هاهنا أن تأخذ بأغلظ الأمرين، وهو: إن كان بين موتهما أكثر من شهرين وخمسة أيام بلياليها.. فتعتد بأكثر الأمرين من أربعة أشهر وعشر أو قرء؛ ليسقط الفرض بيقين، وإن كانت ممن لا تحيض.. يكفيها أربعة أشهر وعشر.
إذا ثبت هذا: فنقل المزني عن الشافعي، قال: (وإن مات أحدهما قبل الآخر

(11/129)


بيوم أو يومين، أو شهرين وخمس ليال، أو أكثر.. فعليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من عند آخرهما موتًا، فيها حيضة) .
فقال المزني: هذا عندي غلط، بل عليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر بلا حيضة إذا كان بين موتهما شهران وخمس ليال فما دون.
قال أصحابنا: الفقه كما ذكره المزني، وهو مراد الشافعي، وما نقله.. فتأويله: أنه جمع بين المسائل، وأجاب عن الأخيرة، وهي: إذا كان بين موتهما أكثر من شهرين وخمس ليال، وقد يفعل مثل ذلك.

[فرع لا ترث أم الولد حتى تستيقن وفاة سيدها]
] . قال الشافعي: (ولا ترث زوجها حتى تستيقن أن سيدها مات قبل زوجها، فترثه) .
وجملة ذلك: أن السيد إذا زوج أم ولده، ومات السيد والزوج، ولم يعلم أيهما مات أولًا.. فإنه لا ميراث لها من الزوج، ولا يوقف لها من ماله شيء؛ لأن الأصل فيها الرق وعدم ميراثها، فلم ترث، ولم يوقف لها من مال الزوج شيء بالشك.

[فرع لهما جارية فوطئاها وجب استبراؤها]
] : وإن كانت جارية بين رجلين، فوطئاها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يجب عليها استبراء؛ لأنه يجب لحقهما، فلم يتداخلا، كالعدتين.
والثاني: يجب استبراء واحد؛ لأن القصد معرفة براءة رحمها، وذلك يحصل باستبراء واحد.
وإن زوج الرجل أم ولده فمات زوجها، ووطئها السيد في عدتها جاهلًا بتحريم

(11/130)


الوطء أو بالعدة، ثم مات المولى في عدتها.. فعليها أن تتم عدة الزوج، وهل تتم عدة حرة، أو أمة؟ فيه قولان.
فإذا فرغت من عدة الزوج.. قال ابن الحداد: فعليها أن تأتي بحيضة؛ لوطء سيدها لها في العدة؛ لأنهما عدتان لرجلين، فلا تتداخلان، ولا يحتسب بما مر من الحيض في عدة الزوج.

[مسألة اشترى جارية ظهر حملها]
إذا اشترى رجل من رجل جارية، وقبضها المشتري، وظهر بها حمل، فقال البائع: هذا الحمل مني، فإن صدقه المشتري على ذلك.. فقد اتفقا على فساد البيع، فيحكم بفساده، ويرد الثمن، ويلحق النسب بالبائع، وتكون الجارية أم ولد له، وإن كذبه المشتري، وقال: هذا الولد ليس منك.. نظرت في البائع:
فإن كان لم يسبق منه إقرار بوطء الجارية قبل البيع أو حال البيع.. كان القول قول المشتري مع يمينه: أنه لا يعلم أن الحمل من البائع؛ لأن البائع لا يقبل قوله فيما يفسد البيع، كما لو باع من رجل عبدًا، ثم أقر: أنه كان قد أعتقه قبل البيع أو غصبه، فإن حلف المشتري.. سقطت دعوى البائع، وكانت الجارية والولد مملوكين للمشتري.
وهل يثبت نسب الولد من البائع؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في " الأم ": (يثبت نسبه منه؛ لأنه لا ضرر في الحال على المشتري؛ لأن الولد يجوز أن يكون ابنا لرجل ومملوكًا لآخر) .
والثاني: لا يثبت نسبه منه؛ لأن على المشتري ضررًا بذلك، بأن يعتق الولد، فيكون ولاؤه وميراثه للبائع.
وعلى القولين: لو ملك البائع بعد ذلك الجارية والولد أو أحدهما.. لزمه حكم إقراره.
وإن نكل المشتري عن اليمين.. حلف البائع: أن الحمل منه قبل البيع، فإذا حلف.. حكم بفساد البيع، ولحقه الولد، وكانت الجارية أم ولد له.

(11/131)


وإن لم يحلف البائع عند نكول المشتري.. فهل ترد اليمين على الجارية والولد؟ يحتمل أن تكون على طريقين، كما قلنا في الراهن إذا ادعى: أن المرتهن أذن له في وطء الجارية المرهونة، وأتت بولد لمدة الحمل، أو أعتقها بإذنه، وأنكر المرتهن، ونكلا عن اليمين.. فهل ترد اليمين؟ فيه طريقان.
فأما إذا أقر البائع قبل البيع أو حال البيع: أنه كان قد وطئها قبل البيع، فإن كان البائع قد استبرأها قبل البيع.. نظرت:
فإن أتت بالولد لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء.. لحقه الولد، وكان البيع باطلًا، والجارية أم ولد له؛ لأنا قد تبينا أن الولد كان موجودًا وقت الاستبراء، والظاهر أنه من البائع؛ لأنها حملت به وهي على فراشه.
وإن أتت به لستة أشهر فما زاد من وقت الاستبراء.. لم يلحقه الولد، ولم يحكم بكون الجارية أم ولد له، ولا يحكم بفساد البيع؛ لأنه لو وطئ جاريته، واستبرأها، وأتت بولد لستة أشهر فما زاد من وقت الاستبراء وهي في ملكه.. لم يلحقه ولدها، فلأن لا يلحقه وهي في ملك غيره أولى.
وإن لم يستبرئها قبل البيع، ولكن استبرأها المشتري بعد الشراء.. نظرت:
فإن أتت بالولد لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء.. كان الولد لاحقا بالبائع، والجارية أم ولد له، والبيع باطلًا؛ لأنها أتت به على فراش البائع، والظاهر أنه منه.
وإن أتت به لستة أشهر فما زاد من وقت الاستبراء.. لم يلحق الولد البائع، ولا يحكم بكونها أم ولد له، ولا بفساد البيع؛ لأن البائع لو اشتراها، وأتت بولد لستة أشهر فما زاد من حين استبرائها.. لم يلحقه ولدها، فبأن لا يلحقه إذ أتت به على هذه الصفة، وهي في ملك غيره أولى.
وكل موضع لا يلحق الولد بالبائع، فإن كان المشتري لم يطأ الجارية.. فإن الجارية والولد مملوكان له، وإن وطئها بعد الاستبراء.. نظرت:
فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من حين وطئه.. لم يلحقه الولد، وكانا مملوكين له.

(11/132)


وإن وضعته لستة أشهر فما زاد من وقت وطئه.. لحقه نسب الولد، وكانت الجارية أم ولد له؛ لأن الظاهر أنه منه.
وإن وطئها المشتري قبل أن يستبرئها، وأتت بولد.. فقد أتت به على فراش مشترك بين البائع والمشتري، فيكون الحكم فيه كما لو أتت الحرة بولد على فراش مشترك، على الأقسام الأربعة التي تقدم ذكرها.

[فرع قبض الجارية فادعى: أنها حامل]
] : قال الشيخ أبو حامد: إذا اشترى جارية وقبضها، فظهر بها حمل، فادعى المشتري: أنه قبضها وهي حامل، فإن صدقه البائع.. فله ردها بالعيب؛ لأن الحمل ينقص من جمالها وكمالها، ويخاف عليها منه عند الولادة، وإن كذبه البائع أنها حامل.. عرضت على القوابل؛ لأن للحمل أمارات وعلامات يعرف بها، فإذا قلن: إنها حامل.. ثبت له ردها، فإذا ردها.. نظرت:
فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من حين قبضها المشتري.. فالقول قول المشتري بلا يمين؛ لأنا نعلم يقينا أن هذا الحمل كان موجودا في يد البائع.
وإن ولدته لأكثر من أربع سنين من حين قبضها المشتري.. كان القول قول البائع بلا يمين؛ لأنا نتحقق أنه حدث في يد المشتري، ولا رد للمشتري.
وإن وضعته لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من حين قبضها المشتري.. فيحتمل أن يحدث في يد كل أحد منهما، فيكون القول قول البائع مع يمينه: أنه لم يحدث في يده؛ لأن الأصل عدم حدوثه في يده، ولا يثبت له الرد.
وبالله التوفيق

(11/133)