البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب النفقات] [باب نفقة الزوجات]

(11/183)


كتاب النفقات
باب نفقة الزوجات الأصل في وجوب نفقة الزوجات: من الكتاب: قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] . و (المولود له) : هو الزوج. وإنما نص على وجوب نفقة الزوجة حال الولادة؛ ليدل على: أن النفقة تجب لها حال اشتغالها عن الاستمتاع بالنفاس؛ لئلا يتوهم متوهم أنها لا تجب لها.
وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] [النساء: 3] .

(11/185)


قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (معناه: أن لا يكثر عيالكم ومن تمونونه) .
وقيل: إن أكثر السلف قالوا: معنى (ألا تعولوا) أي: أن لا تجوروا، يقال: عال يعول: إذا جار، وأعال يعيل: إذا كثر عياله، إلا زيد بن أسلم، فإنه قال: معناه: أن لا يكثر عيالكم. وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشهد لذلك، حيث قال: «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول» .
ويدل على وجوب نفقة الزوجات: قَوْله تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] [النساء: 34] ، وقَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] [الطلاق: 7] ، ومعنى قوله: {قُدِرَ عَلَيْهِ} [الطلاق: 7] أي: ضيق عليه.
ومن السنة: ما روى حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه، قال: «قلت: يا رسول الله، ما حق الزوجة؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وأن تكسوها إذا اكتسيت»

(11/186)


وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب الناس، فقال: «اتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» .
وروى أبو هريرة: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، عندي دينار، فقال: " أنفقه على نفسك "، قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على ولدك "، فقال: عندي آخر، فقال: " أنفقه على أهلك "، قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على خادمك "، قال: عندي آخر، قال: أنت أعلم به» والمراد بالأهل هاهنا: هي الزوجة، بدليل: ما روى أبو سعيد المقبري: أن أبا هريرة كان إذا روى هذا الحديث.. يقول: (ولدك يقول: أنفق علي، إلى من تكلني؟ وزوجتك تقول: أنفق علي أو طلقني، وخادمك يقول: أنفق علي، وإلا بعني) .

(11/187)


وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن هند امرأة أبي سفيان جاءت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني وولدي إلا ما آخذه منه سرًا ولا يعلم، فهل علي في ذلك شيء؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» قال أصحابنا: وفي هذا الخبر فوائد:
إحداهن: وجوب نفقة الزوجة.
الثانية: وجوب نفقة الولد.
الثالثة: أن نفقة الزوجة مقدمة على نفقة الولد؛ لأنه قدم نفقتها على نفقة الولد.
الرابعة: أن نفقة الولد على الكفاية.
الخامسة: أن للزوجة أن تخرج من بيتها لحاجة لا بد لها منها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينكر عليها الخروج.
السادسة: أن للمرأة أن تستفتي العلماء.
السابعة: أن صوت المرأة ليس بعورة.
الثامنة: أن تأكيد الكلام جائز؛ لأنها قالت: إن أبا سفيان رجل.
التاسعة: أنه يجوز أن يذكر الإنسان بما فيه؛ لأنها قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، والشحيح من منع حقًا عليه.
العاشرة: أن الحكم على الغائب جائز؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم على أبي سفيان وهو غائب) . وهذا قول أكثر أصحابنا.
قال ابن الصباغ: والأشبه: أن هذا فتيا، وليس بحكم؛ لأنه لم ينقل: أن أبا سفيان كان غائبًا.

(11/188)


الحادية عشرة: أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسألها البينة، وإنما حكم لها بعلمه.
الثانية عشرة: أن من كان له حق على غيره، فمنعه.. جاز له أخذه من ماله.
الثالثة عشرة: أن له أخذه من ماله وإن كان من غير جنس حقه؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفصل) .
الرابعة عشرة: أنه إذا أخذه وكان من غير جنس حقه.. فله بيعه بنفسه.
الخامسة عشرة: أنها تستحق الخادم على الزوج إذا كانت ممن تخدم؛ لأنه روي: أنها قالت: (إلا ما يدخل علي) .
السادسة عشرة: أن للمرأة أن تقبض نفقة ولدها، وتتولى إنفاقها على ولدها، ولأن الزوجة محبوسة على الزوج، وله منعها من التصرف، فكانت نفقتها واجبة عليه، كنفقة العبد على سيده.

[مسألة الاقتصار على زوجة]
قال الشافعي: (وأحب له أن يقتصر على واحدة وإن أبيح له أكثر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] [النساء: 3] .
فاعترض ابن داود على الشافعي، وقال: لِمَ قال الاقتصار على واحدة أفضل،

(11/189)


وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين زوجات كثيرة، ولا يفعل إلا الأفضل، ولأنه قال: «تناكحوا تكثروا» ؟ فالجواب: أن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان الأفضل في حقه الاقتصار على واحدة؛ خوفًا منه أن لا يعدل، فأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإنه كان يؤمن ذلك في حقه.
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تناكحوا تكثروا» فإنما ندب إلى النكاح لا إلى العدد.

[مسألة وجوب النفقة في أحوال كل من الزوجين]
إذا تقرر وجوب نفقة الزوجة.. فلا يخلو حال الزوجين من أربعة أقسام: إما أن يكونا بالغين، أو يكون الزوج بالغًا والزوجة صغيرة، أو تكون الزوجة بالغة والزوج صغيرًا، أو يكونا صغيرين.
فإن كانا بالغين، وسلمت الزوجة نفسها إلى الزوج تسليمًا تامًا، بأن تقول: سلمت نفسي إليك، فإن اخترت أن تصير إلي وتستمتع فذلك إليك، وإن اخترت جئت إليك حيث شئت فعلت.. وجبت نفقتها؛ لأن النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع، فإذا وجد ذلك منها.. فقد وجد منها التمكين منه، فوجب ما في مقابلته، كالبائع إذا سلم المبيع.. وجب على المشتري تسليم الثمن.
فإن سلمت المرأة نفسها إلى الزوج وكان حاضرًا، فلم يتسلمها حتى مضت على ذلك مدة.. وجبت عليه نفقتها في تلك المدة.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب نفقة المدة الماضية، إلا أن يحكم لها الحاكم بها) .
دليلنا: عموم الآيات والأخبار التي ذكرناها في وجوب نفقة الزوجة، ولم يشترط حكم الحاكم.
ولأنه مال يجب للزوجة بدل فيه بالزوجية، فلم يفتقر استقراره إلى حكم الحاكم، كالمهر.
وإن سلمت نفسها إلى الزوج تسليمًا غير تام، بأن قالت: سلمت نفسي في هذا البيت دون غيره، أو في هذه القرية دون غيرها.. لم تجب لها نفقة؛ لأنه لم يوجد

(11/190)


التسليم التام، فهو كما لو قال بائع العبد: أسلمه في هذا الموضع دون غيره، أو في هذه القرية دون غيرها.
فإن عقد النكاح ولم تسلم المرأة نفسها، ولا طالب الزوج بها، وسكتا على ذلك حتى مضت على ذلك سنة أو أكثر.. لم تجب لها النفقة؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج عائشة وهي ابنة سبع، ودخل بها وهي ابنة تسع» . ولم ينقل عنه: أنه أنفق عليها إلا من حين دخل بها.
وإن عرض الولي الزوجة على الزوج بغير إذنها وهي بالغة عاقلة، فلم يتسلمها الزوج، ومضى على ذلك مدة.. لم يجب على الزوج النفقة؛ لأنه لا ولاية له عليها في المال.
وإن غاب الزوج عن بلد الزوجة.. نظرت:
فإن غاب عنها بعد أن سلمت نفسها إليه تسليمًا تامًا، وامتنع من تسلمها.. فقد وجبت نفقتها بتسليمها نفسها، ولا يسقط ذلك بغيبته.
وإن غاب عنها قبل أن تسلم نفسها إليه، وأرادت تسليم نفسها إليه.. فإنها إذا أتت حاكم بلدها، فقالت: أنا أسلم نفسي إليه، وأخلي بيني وبينه.. فإن حاكم بلدها يكتب إلى حاكم البلد الذي فيه الزوج، ويعرفه ذلك، فإذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه.. استدعى الزوج، وعرفه ذلك، فإن سار إليها وتسلمها، أو وكل من يتسلمها فتسلمها الوكيل.. وجبت عليه نفقتها من حين تسلمها هو أو وكيله.
وإن أمكنه السير، فلم يسر ولا وكيله.. فإنه إذا مضت عليه مدة لو أراد المسير إليها أمكنه ذلك.. فإن الحاكم يفرض لها النفقة من حين مضي مدة السفر إليها؛ لأنه قد كان يمكنه التسليم، فلم يفعل، فإذا لم يفعل.. صار ممتنعًا من تسلمها، فوجبت عليه النفقة.
وإن لم يمكنه المسير لعدم الرفقة أو لخوف الطريق.. لم تجب عليه النفقة حتى يمكنه المسير؛ لأنه غير ممتنع من تسلمها.

(11/191)


وإن كان الزوج بالغًا والزوجة صغيرة.. نظرت:
فإن كانت مراهقة.. نظرت:
فإن كانت تصلح للاستمتاع.. فإن الذي يجب عليه تسليمها وليها، فإن سلمها الولي تسليمًا تامًا.. وجب على الزوج نفقتها، وإن لم يكن لها ولي، أو كان غائبًا أو امتنع من تسليمها، أو سكت عن تسليمها، فسلمت نفسها إلى الزوج.. وجبت النفقة على الزوج؛ لأن التسليم قد حصل، وإن كان ممن لا يصح تسليمه؛ كما لو اشترى سلعة بثمن وسلم الثمن وقبضها المشتري بغير إذن البائع، أو أقبضه إياها غلام البائع.. فإن القبض يصح.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن لا تجب النفقة إلا بعد أن يتسلمها، ولا تجب ببذلها؛ لأن بذلها لا حكم له.
وإن كانت صغيرة لا يتأتى جماعها.. ففيه قولان:
أحدهما: تجب لها النفقة؛ لأن تعذر وطئها عليه ليس بفعلها، فلم تسقط بذلك نفقتها، كما لو مرضت.
والثاني: لا تجب لها النفقة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، واختاره المزني، وهو الصحيح؛ لأن الاستمتاع متعذر عليه، فلم تجب عليه النفقة، كما لو نشزت.
وإن كان الزوج طفلًا صغيرًا والزوجة كبيرة.. ففيه قولان:
أحدهما: لا تجب لها النفقة؛ لأن النفقة إنما تجب بالتمكين والتسليم، وإنما يصح ذلك إذا كان هناك متمكن ومتسلم، والصبي ليس بمتمكن ولا متسلم، فلم تجب لها النفقة، كما لو كان غائبًا.
والثاني: تجب لها النفقة إذا سلمت نفسها، وهو الأصح؛ لأن التمكين والتسليم

(11/192)


التام قد وجد منها، وإنما تعذر من جهته، فوجبت نفقتها، كما لو سلمت نفسها إلى الزوج البالغ، ثم هرب.
وأما إذا كانا صغيرين، فسلمها الولي.. فهل تجب لها النفقة؟ فيه قولان، ووجههما ما ذكرناه في التي قبلها، إلا أن الأصح هاهنا: أن لا تجب لها النفقة؛ لأن الاستمتاع متعذر من جهتها.

[فرع المرض ونحوه لا يسقط النفقة بعد التسليم]
إذا تسلم الزوج زوجته وهي مريضة، أو تسلمها وهي صحيحة فمرضت عنده، أو تسلمها وهي رتقاء أو قرناء، أو أصابها ذلك بعد أن تسلمها، أو أصاب الزوج مرض أو جنون أو حسيم.. وجبت عليه نفقتها؛ لأن الاستمتاع بها ممكن مع ذلك.

[فرع وجوب الضرر يمنع الجماع]
] : قال الشافعي: (وإن كان في جماعها شدة ضرر.. منع من جماعها، وأخذ بنفقتها) .
وجملة ذلك: أن الرجل إذا كان عظيم الخلق، والزوجة نضوة الخلق، وعليها في جماعه ضرر يخاف منه الإفضاء أو المشقة الشديدة، أو كان بفرجها جرح يضر

(11/193)


بها وطؤه، فإن وافقها الزوج على الضرر الذي يلحقها بوطئه.. لم يجز له وطؤها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] [النساء: 19] . ومن المعروف: أن يمنع من وطئها. فإن اختار طلاقها، فطلقها.. فلا كلام، وإن لم يختر طلاقها.. وجبت عليه نفقتها؛ لأنها محبوسة عليه، ويمكنه الاستمتاع بها بغير الوطء.
وإن لم يصدقها الزوج، بل ادعى: أنه يمكنه جماعها، فإن ادعت تعذر الوطء لعظم خلقه.. أمر الحاكم نساء ثقات يشاهدن ذلك بينهما بحال الجماع من غير حائل، فإن قلن: إنه يلحقها مشقة شديدة، أو يخاف عليها من ذلك.. منع من وطئها، وإن قلن: إنه لا يلحقها مشقة شديدة، ولا يخاف عليها منه.. أمرت بتمكينه من الوطء. وإن ادعت تعذر الوطء بجراح في فرجها.. أمر الحاكم نساء ثقات ينظرن إلى فرجها؛ لأن هذا موضع ضرورة، فجوز النظر إلى العورة لذلك.
واختلف أصحابنا في عدد النساء اللاتي ينظرن إليها حال الجماع، أو ينظرن إلى الجرح في فرجها:
فقال أبو إسحاق: تكفي واحدة؛ لأن طريق ذلك الإخبار، والمشقة تلحق بنظر الجماعة منهن، فجاز الاقتصار على واحدة.
ومن أصحابنا من قال: لا يكفي أقل من أربع نسوة في ذلك؛ لأن هذه شهادة ينفرد بها النساء، فلم يقبل فيه أقل من أربع نسوة، كسائر الشهادات.

[فرع التمكين في النكاح الفاسد لا يوجب النفقة]
وإن سلمت المرأة نفسها إلى الزوج، ومكنته من الاستمتاع بها في نكاح فاسد.. لم تجب لها النفقة؛ لأن التمكين لا يصح مع فساد النكاح، فلم تستحق ما في مقابلته، كما لا يستحق البائع الثمن في البيع الفاسد.

(11/194)


[مسألة تسقط النفقة بالنشوز]
فإن انتقلت الزوجة من منزل الزوج الذي أسكنها فيه إلى منزل غيره بغير إذنه، أو خرجت من البلد بغير إذنه.. فهي ناشزة، وتسقط بذلك نفقتها، وبه قال كافة أهل العلم، إلا الحكم بن عتيبة؛ فإنه قال: لا تسقط نفقتها بذلك.
دليلنا: أن النفقة تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع، وقد سقط التمكين من الاستمتاع، فسقطت نفقتها، كما لو لم تسلم نفسها.
وإن سافرت المرأة بغير إذن زوجها.. سقطت نفقتها؛ لأنها قد منعت استمتاعه بالسفر، وإن سافرت بإذنه.. نظرت:
فإن سافر الزوج معها.. لم تسقط نفقتها؛ لأنها في قبضته وطاعته. وإن سافرت وحدها، فإن كانت في حاجة الزوج.. وجبت عليه نفقتها؛ لأنها سافرت في شغله ومراده، وإن سافرت لحاجة نفسها.. فقد قال الشافعي في (النفقات) : (لها النفقة) . وقال في (النكاح) : (لا نفقة لها) . واختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو إسحاق: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (لها النفقة) أراد: إذا كان الزوج معها.
وحيث قال: (لا نفقة لها) أراد: إذا لم يكن الزوج معها.
ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا نفقة لها، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد؛ لأنها غير ممكنة من نفسها، فلم تجب لها النفقة، كما لو سافرت بغير إذنه.
والثاني: تجب لها النفقة؛ لأنها سافرت بإذنه، فلم تسقط نفقتها، كما لو سافرت في حاجته.

(11/195)


[فرع إحرامها بغير إذن يسقط النفقة]
وإن أحرمت بالحج أو العمرة بغير إذنه.. سقطت نفقتها؛ لأنه إن كان تطوعًا.. فقد منعت حق الزوج الواجب بالتطوع، وإن كان واجبًا عليها.. فقد منعت حق الزوج وهو على الفور بما هو على التراخي.
وإن أحرمت بإذنه، وخرج الزوج معها.. لم تسقط نفقتها؛ لأنها في قبضته، وإن أحرمت بإذنه، وخرجت وحدها.. ففيه طريقان، مضى ذكرهما في (السفر) .
وإن اعتكفت.. فلا يصح عندنا إلا في المسجد، فإن كان بغير إذن الزوج.. سقطت نفقتها؛ لأنها ناشزة بالخروج إلى المسجد بغير إذنه، وإن كان بإذن الزوج، فإن كان الزوج معها في المسجد.. لم تسقط نفقتها؛ لأنها في قبضته وطاعته، وإن لم يكن الزوج معها في المسجد.. فعلى الطريقين في (السفر) :
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا نفقة لها، قولًا واحدًا.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: فيه قولان.

[مسألة صومها بغير إذن الزوج]
وإن صامت المرأة بغير إذن الزوج.. نظرت:
فإن كان تطوعًا.. فللزوج منعها منه، وله إجبارها على الفطر بالأكل والجماع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تصومن المرأة التطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه»

(11/196)


فإن امتنعت من الوطء ولكنها لم تفارق المنزل.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: هي ناشزة، فتسقط نفقتها؛ لأنها ممتنعة عليه، ولا فرق بين أن تمتنع عليه بالفراش، أو بمفارقة المنزل.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا تسقط نفقتها؛ لأنها لم تفارق المنزل، فهي غير ناشزة. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
ومن أصحابنا من قال: إذا منعته الوطء.. سقطت نفقتها، وجهًا واحدًا، وإنما الوجهان إذا صامت ولم تمنعه الوطء.
وإن كان الصوم واجبًا.. نظرت:
فإن كان صوم رمضان.. فليس له منعها منه، ولا تسقط نفقتها به؛ لأنه مستحق بالشرع.
وإن كان قضاء رمضان، فإن لم يضق وقت قضائه.. فله منعها منه، وإن دخلت فيه بغير إذنه، كان كما لو دخلت في صوم التطوع بغير إذنه. وإن ضاق وقت قضائه، بأن لم يبق من شعبان إلا قدر أيام القضاء.. لم يكن له منعها منه، وإن دخلت فيه بغير إذنه.. لم تسقط نفقتها منه بذلك؛ لأنه لا يجوز لها تأخيره إلى دخول رمضان، فصار مستحقًا للصوم، كأيام رمضان.
وإن كان الصوم عن كفارة.. كان للزوج أن يمنعها منه؛ لأنه على التراخي، وحق الزوج على الفور.
وإن كان الصوم نذرًا، فإن كان في الذمة.. كان له منعها منه؛ لأنه على التراخي، وحق الزوج على الفور، وإن كان متعلقًا بزمان بعينه، فإن كان نذرته بإذن الزوج.. لم يكن له منعها منه؛ لأن زمانه قد استحق عليها صومه بإذن الزوج، وإن دخلت فيه بغير

(11/197)


إذنه.. لم تسقط بذلك نفقتها. وإن نذرته بغير إذن الزوج بعد النكاح.. كان للزوج منعها من الدخول فيه؛ لأنها فرطت بإيجابه على نفسها بغير إذنه. وإن نذرت الصوم في زمان بعينه قبل عقد النكاح.. لم يكن للزوج منعها من الدخول فيه، فإن دخلت فيه بغير إذنه.. لم تسقط بذلك نفقتها؛ لأن زمانه قد استحق صومه قبل عقد النكاح.
وكل موضع قلنا: للزوج منعها من الدخول فيه إذا دخلت فيه بغير إذن الزوج.. فهل تسقط نفقتها بذلك؟ فيه وجهان، كما قلنا في صوم التطوع.

[فرع منعت نفسها لقضاء الصلوات]
وإن منعت نفسها بالصلوات الخمس في أوقاتها.. لم تسقط نفقتها بذلك؛ لأن وقتها مستحق للصلاة، وليس للزوج منعها من الدخول فيها في أول الوقت؛ لأنها قد وجبت في أول وقتها، ولأنه يفوت عليها فضيلة أول الوقت.
وأما قضاء الفائتة: فإن قلنا: إنها تجب على الفور.. لم يكن للزوج منعها منها. وإن قلنا: إنها لا تجب على الفور.. كان للزوج منعها من الدخول فيها.
وأما الصلاة المنذورة: فهي كالصوم المنذور، على ما مضى.
وأما صلاة التطوع: فإن كانت غير راتبة.. كان للزوج منعها منها؛ لأن حق الزوج واجب، فلا تسقطه بما لا يجب عليها، فإن دخلت فيها بغير إذن الزوج.. احتمل أن يكون في سقوط نفقتها في ذلك وجهان، كما قلنا في صوم التطوع، وإن كانت سنة راتبة.. فقال الشيخ أبو إسحاق: لا تسقط نفقتها بها، كما قلنا في الصلوات الخمس.

[مسألة نفقة الزوج الكافر على زوجته المسلمة في عدتها]
إذا أسلمت الزوجة، والزوج كافر، فإن كان قبل الدخول.. فلا نفقة لها؛ لأن الفرقة وقعت بينهما، وإن كان بعد الدخول.. فإن النكاح موقوف على إسلام الزوج في عدتها، ولها النفقة عليه مدة عدتها؛ لأنه تعذر الاستمتاع بمعنى من جهة الزوج، وهو

(11/198)


امتناعه من الإسلام، ويمكنه تلافي ذلك، فلم تسقط نفقتها، كما لو غاب عن زوجته.
وحكي عن ابن خيران قول آخر: أن نفقتها تسقط؛ لأن الاستمتاع سقط بمعنى من جهتها، فسقطت به نفقتها، كما لو أحرمت بالحج بغير إذن الزوج والمشهور: هو الأول؛ لأن الحج فرض موسع الوقت، والإسلام فرض مضيق الوقت.. فلم تسقط به نفقتها، كصوم رمضان.
وإن انقضت عدتها قبل أن يسلم الزوج.. بانت، وسقطت نفقتها.

[فرع نفقة الزوجة الوثنية من زوجها المسلم]
وإن أسلم الزوج والزوجة وثنية أو مجوسية، فإن كان قبل الدخول.. وقعت الفرقة بينهما، ولا نفقة لها، وإن كان بعد الدخول.. وقف النكاح على إسلامها قبل انقضاء عدتها، ولا نفقة لها مدة عدتها ما لم تسلم؛ لأنها منعت الاستمتاع بمعصية؛ وهو إقامتها على الكفر فهي كالناشزة، فإن انقضت عدتها قبل أن تسلم.. فقد بانت باختلاف الدين، ولا نفقة لها، وإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. وجبت لها النفقة من حين أسلمت؛ لأنهما قد اجتمعا على الزوجية، وهل تجب لها النفقة لما مضى من عدتها في الكفر؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (تجب لها النفقة؛ لأن إسلام الزوج شعث النكاح) . فإذا أسلمت قبل انقضاء عدتها.. زال ذلك التشعث، وصار كما لو لم يتشعث.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجب لها النفقة لما مضى من عدتها) . وهو الأصح؛ لأن إقامتها على الكفر كنشوزها، ومعلوم أنها لو نشزت وأقامت مدة في النشوز، ثم عادت إلى طاعته.. لم تجب نفقتها مدة إقامتها في النشوز، فكذلك هذا مثله.

(11/199)


[فرع ردة أحد الزوجين]
وإن كان الزوجان مسلمين، فارتد الزوج بعد الدخول.. وجبت عليه نفقتها مدة عدتها؛ لأن امتناع الاستمتاع بمعنى من جهة الزوج، فلم تسقط نفقتها بذلك، كما لو غاب.
وإن ارتدت الزوجة بعد الدخول.. فأمر النكاح موقوف على إسلامها قبل انقضاء عدتها، ولا تجب لها النفقة مدة عدتها؛ لأنها منعت الاستمتاع بمعصية من جهتها، فهو كما لو نشزت، فإن انقضت عدتها قبل أن تسلم.. فلا كلام، وإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. وجبت نفقتها من حين أسلمت؛ لأنهما قد اجتمعا على الزوجية، وهل تجب لها النفقة لما مضى من عدتها قبل الإسلام؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما قلنا في المشركة إذا تخلفت عن الإسلام، ثم أسلمت قبل انقضاء عدتها.
ومنهم من قال: لا تجب لها النفقة، قولًا واحدًا؛ لأن في التي قبلها دخلا على الكفر، وإنما الزوج شعث النكاح بإسلامه، وهاهنا دخلا على الإسلام، وإنما شعثت هي النكاح بردتها فقط، فغلظ عليها.
وإن ارتدت الزوجة والزوج غائب، أو غاب بعد ردتها، فرجعت إلى الإسلام والزوج غائب.. وجبت لها النفقة من حين رجعت إلى الإسلام.
وكذلك: لو أسلم الزوج، والزوجة وثنية أو مجوسية، وتخلفت في الشرك، وكان الزوج غائبًا، فأسلمت قبل انقضاء عدتها.. وجبت لها النفقة من حين أسلمت.
ولو نشزت الزوجة من منزلها والزوج غائب، أو غائب بعد نشوزها، فعادت إلى منزلها.. لم تجب نفقتها حتى يكون الزوج حاضرًا فيتسلمها، أو تجيء إلى الحاكم وتقول: أنا أعود إلى طاعته، ثم يكتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي فيه الزوج، فيستدعيه المكتوب إليه ويقول: إما أن تسير إليها تتسلمها أو توكل من يتسلمها؛ فإن لم يسر، ولم يوكل من يتسلمها، فإن كان ذلك مع قدرته على ذلك، ومضى زمان يمكنه الوصول إليها.. وجبت نفقتها من حينئذ.

(11/200)


والفرق بينهما: أن نفقتها سقطت عنه بالنشوز؛ لخروجها عن قبضته، فلا ترجع نفقتها إلا برجوعها إلى قبضته، وذلك لا يحصل إلا بتسلمه لها، أو بتمكينه من ذلك، وليس كذلك المرتدة والمشركة، فإن نفقتها إنما سقطت بالردة أو بالإقامة على الشرك، فإذا أسلمت.. زال المعنى الذي أوجب سقوطها، فزال سقوطها.

[فرع دفع نفقة وثنية ثم أسلم]
وإن دفع الوثني إلى امرأته الوثنية، أو المجوسي إلى امرأته المجوسية نفقة شهر بعد الدخول، ثم أسلم الزوج ولم تسلم هي حتى انقضت عدتها، وأراد الرجوع بما دفع إليها من النفقة.. نظرت:
فإن دفعه إليها مطلقًا.. قال الشافعي: (لم يرجع عليها بشيء؛ لأن الظاهر أنه تطوع بدفعها إليها) . وإن قال: هذه نفقة مدة مستقبلة.. كان له الرجوع فيها؛ لأنه بان أنها لا تستحق عليه نفقة.
وقال ابن الصباغ: وهذا يقتضي أن الهبة لا تفتقر إلى لفظ الإيجاب والقبول؛ لأنه جعله تطوعًا مع الإطلاق.
قال: فإن قيل: يحتمل أن يريد أنه أباحه.. فليس بصحيح؛ لأنه لو كان أباحه لشرط أن تكون قد أتلفته حتى يسقط حقه منها.

[مسألة زمن استمتاع زوج الأمة ونفقتها فيه]
وإذا زوج الرجل أمته.. فليس عليه أن يرسلها مع زوجها ليلًا ونهارًا، وإنما يجب عليه أن يرسلها معه بالليل دون النهار؛ لأن السيد يملك على أمته الاستخدام والاستمتاع، بدليل: أنه يجوز له العقد على كل واحد منهما. فإذا عقد على أحدهما.. بقي الآخر على ملكه، كما لو أجرها، فإن له أن يستمتع بها في غير وقت الخدمة.
فإن قيل: فما الفرق بينها وبين الحرة، حيث قلنا: لا يجوز أن تعقد الإجارة على نفسها بعد النكاح وإن كان عقد النكاح عليها إنما وقع على الاستمتاع دون الاستخدام؟

(11/201)


قلنا: الفرق بينهما: أن الحرة لا يملك عليها أحد الاستخدام قبل النكاح، فإذا عقد عليها النكاح.. ملك الزوج عليها الاستمتاع المطلق في كل وقت، بخلاف الأمة.
فإن اختار السيد إرسالها لزوجها ليلًا ونهارًا.. وجب على الزوج جميع نفقتها؛ لأنه قد حصل له الاستمتاع التام. وتعتبر نفقتها بحاله لا بحالها؛ فيجب عليه نفقة الموسر إن كان موسرًا، أو نفقة المعسر إن كان معسرًا.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وليس عليه أن يخدمها؛ لأن الأمة في العرف والعادة تخدم نفسها، فهي كالحرة التي تخدم نفسها) .
قال الشيخ أبو حامد: إنما قال الشافعي هذا في العرف والعادة التي كانت في وقته، وأما اليوم: فإن الأمة تخدم؛ لأن الرجل إذا تسرى أمة.. أخدمها.
وإن سلمها السيد بالليل دون النهار.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يجب عليه نصف نفقتها؛ لأنه لو سلمها إليه ليلًا ونهارًا.. لوجبت عليه جميع نفقتها، فإذا سلمها ليلًا دون النهار.. وجب عليه نصف النفقة.
و [الثاني]-[وهو] المذهب -: أنه لا يجب عليه شيء من نفقتها؛ لأنه لم يتسلمها تسليمًا تامًا، فهو كما لو سلمت الحرة نفسها بالليل دون النهار، أو في بيت دون بيت. هذا نقل البغداديين.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجهًا ثالثًا: أنه يجب على الزوج جميع نفقتها. ولا وجه له.
وبالله التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل.

(11/202)


[مسألة باب قدر نفقة الزوجات]
باب قدر نفقة الزوجات
نفقة الزوجة معتبرة بحال الزوج لا بحال الزوجة؛ فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس، وهي مقدرة غير معتبرة بكفايتها.
وقال مالك: (نفقتها تجب على قدر كفايتها وسعتها، فإن كانت ضعيفة الأكل.. فلها قدر ما تأكل، وإن كانت أكولة.. فلها ما يكفيها) .
وقال أبو حنيفة: (إن كانت معسرة.. فلها في الشهر من أربعة دراهم إلى خمسة، وإن كانت موسرة.. فمن سبعة دراهم إلى ثمانية) .
قال أصحابه: إنما قال هذا حيث كان الرخص في وقته، وأما في وقتنا: فيزداد على ذلك. ويعتبرون كفايتها كقول مالك؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» .
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] [الطلاق: 7] ، وأراد: أن الغني ينفق على حسب حاله، والفقير على حسب حاله.
ولقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] ، وأراد:

(11/203)


المعروف عند الناس، والعرف والعادة عند الناس: أن نفقة الغني والفقير تختلف.
ولأنا لو قلنا: إن نفقتها معتبرة بكفايتها.. لأدى ذلك إلى أن لا تنقطع الخصومة بينهما ولا يصل الحاكم إلى قدر كفايتها، فكانت مقدرة، كدية الجنين؛ قدرت لهذا المعنى.
وأما خبر هند: فهو حجة لنا؛ لأنه قال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» . والمعروف عند الناس يختلف بيسار الزوج وإعساره. ولم يقل: خذي ما يكفيك ويطلق، على أنا نحمله على أنه علم من حالها أن كفايتها لا تزيد على نفقة الموسر، وكان أبو سفيان موسرًا.
إذا ثبت هذا: فإن نفقتها معتبرة بحال الزوج، فإن كان الزوج موسرًا، وهو: الذي يقدر على النفقة بماله أو كسبه.. وجب لها كل يوم مدان، وإن كان معسرًا؛ وهو: الذي لا يقدر على النفقة بماله ولا كسبه.. وجب عليه كل يوم مد، وهو: رطل وثلث؛ لأن أكثر ما أوجب الله تعالى في الكفارات للواحد مدان وهو في كفارة الأذى، وأقل ما أوجب الله تعالى للواحد في الكفارة مد.. فقسنا نفقة الزوجات على الكفارة؛ لأن الله تعالى شبه الكفارة بنفقة الأهل في الجنس بقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . فاعتبرنا الأكثر والأقل بالواجب للواحد في الكفارة.
وأما المتوسط: فإنه يجب عليه كل يوم مد ونصف مد؛ لأنه أعلى حالًا من المعسر، وأدنى حالًا من الموسر، فوجب عليه من نفقة كل واحد منهما نصفها.

[فرع وجوب نفقة الزوجة على القن]
وإن كان الزوج عبدًا، أو مكاتبًا، أو مدبرًا، أو معتقًا بصفة.. وجبت عليه نفقة زوجته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] ، وهذا مولود

(11/204)


له، ولا يجب عليه إلا نفقة المعسر؛ لأنه أسوأ حالًا من الحر المعسر.
وإن كان نصفه حرًا ونصفه مملوكًا وله زوجة، فإن كان معسرًا بنصفه الحر.. لم يجب عليه إلا نفقة المعسر؛ لأنه أسوأ حالًا من الحر المعسر؛ لأنهما استويا في الإعسار، وانفرد بنقص الرق، وإن كان موسرًا بنصفه الحر.. لم يجب عليه إلا نفقة المعسر.
وقال المزني: يجب عليه نصف نفقة المعسر؛ لما فيه من الرق، ونصف نفقة الموسر؛ لما فيه من الحرية، فيجب عليه مد ونصف.
والمذهب الأول؛ لأن أحكامه أحكام العبد في الطلاق وعدد المنكوحات، فكان حكمه حكم العبد في النفقة.

[مسألة النفقة من قوت البلد]
] : ويجب عليه أن يدفع إليها من غالب قوت البلد، فإن كان ببغداد أو بخراسان.. فمن البر، وإن كان بطبرستان.. فمن الأرز، وإن كان بالمدينة وما حواليها.. فمن التمر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] ، والمعروف عند الناس: غالب قوت البلد. ولأنه طعام يجب على وجه الاتساع والكفاية، فوجب من غالب قوت البلد، كالكفارة.
ويجب أن يدفع إليها الحب، فإن دفع إليها الدقيق أو السويق أو الخبز.. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: لم يجز. وذكر صاحب " التهذيب ": أنه يجوز، وجهًا واحدًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] ، فجعل الكفارة فرعًا للنفقة ومحمولًا عليها، فلما كان في الكفارة الواجب هو الحب نفسه، ولا يجزئ الدقيق ولا السويق والخبز.. فكذلك النفقة.
وإن أعطاها قيمة الحب.. لم تجبر على قبولها؛ لأن الواجب لها هو الحب، فلا تجبر على أخذ قيمته، كما لو كان لها طعام قرض.
وإن سألته أن يعطيها قيمته.. لم يجبر الزوج على دفع القيمة؛ لأن الواجب عليه

(11/205)


هو الحب، فلا يجبر على دفع قيمته، فإن تراضيا على القيمة.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه طعام وجب في الذمة بالشرع، فلم يصح أخذ العوض عنه، كالكفارة.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأنه طعام وجب على وجه الرفق، فصح أخذ العوض عنه، كالقرض.
قال الصيمري، والمسعودي [في " الإبانة "] : وتلزمه مؤنة طحنه وخبزه حتى يكون مهيأ؛ لأنه هو العرف.

[مسألة ما تستحقه الزوجة من أدم]
قال الشافعي: (ومكيله من أدم بلادها زيتًا أو سمنًا) .
وجملة ذلك: أنه يجب للزوجة الأدم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] ، ومن المعروف: أن المرأة لا تأكل خبزها إلا بأدم.
وروى عكرمة: أن امرأة سألت ابن عباس، وقالت له: ما الذي لي من مال زوجي؟ فقال: (الخبز والأدم، قالت: أفآخذ من دراهمه شيئًا؟ فقال: أتحبين أن يأخذ من حيلك فيتصدق به؟ قالت: لا، فقال: فكذلك لا تأخذي من دراهمه شيئًا بغير إذنه) .
ويرجع في قدره وجنسه إلى العرف، فيجب في كل بلد من غالب أدمها.
قال أصحابنا: فإن كان بالشام.. فالأدم الزيت، وإن كان بالعراق.. فالشيرج، وإن كان بخراسان.. فالسمن.
وإنما أوجب الشافعي الأدهان من بين سائر الآدام؛ لأنها أصلح للأبدان، وأخف مؤنة؛ لأنه لا يحتاج في التأدم بها إلى طبخ.

(11/206)


ويرجع في قدره إلى العرف: فإن كان العرف أنه يؤتدم به على المد أوقية دهن.. وجب لامرأة الموسر كل يوم أوقيتا دهن، ولامرأة المعسر أوقية، ولامرأة المتوسط أوقية ونصف؛ لأنه ليس للأدم أصل يرجع إليه في تقديره، فرجع في تقديره إلى العرف، بخلاف النفقة.
وعندي: أنها إذا كانت في بلد غالب أدم أهلها اللبن، كأهل اليمن.. فإنه يجب أدمها من اللبن.

[فرع من النفقة إطعام اللحم]
قال الشافعي: (وقيل: وفي كل جمعة رطل لحم، وذلك العرف لمثلها) .
وجملة ذلك: أنها إذا كانت في بلد يأتدم أهلها اللحم.. فإنه يجب عليه أن يدفع إليها في كل جمعة لحمًا؛ لأن العرف والعادة: أن الناس يطبخون اللحم في كل جمعة.
قال أصحابنا: وإنما فرض لها الشافعي في كل جمعة رطل لحم؛ لأنه كان بمصر، واللحم فيها يقل، فأما إذا كانت بموضع يكثر فيه اللحم: فإن الحاكم يفرض لها على ما يراه من رطلين أو أكثر، وهذا لامرأة المعسر، فأما امرأة الموسر: فيجب لها من ذلك ضعف ما يجب لامرأة المعسر.

[مسألة من النفقة وسائل الزينة]
ويجب لها ما تحتاج إليه من الدهن والمشط؛ لأن ذلك تحتاج إليه لزينة شعرها، فوجب عليه كنفقة بدنها، ولأن فيه تنظيفًا، فوجب عليه كما يجب على المكتري كنس الدار المستأجرة.
قال الشيخ أبو إسحاق: ويجب عليه ما تحتاج إليه من السدر وأجرة الحمام إن كان عادتها دخول الحمام؛ لما ذكرناه في الدهن والمشط.

(11/207)


قال: وأما الخضاب: فإن لم يطلبه الزوج منها.. لم يلزمه، وإن طلبه منها.. لزمه ثمنه. وأما الطيب: فإن كان يراد لقطع السهوكة.. لزمه؛ لأنه يراد للتنظيف، وإن كان يراد للتلذذ والاستمتاع.. لم يلزمه؛ لأن الاستمتاع حق له، فلا يلزمه.
ولا يلزمه أجرة الحجامة والفصاد، ولا ثمن الأدوية، ولا أجرة الطبيب إن احتاجت إليه؛ لأن ذلك يراد لحفظ بدنها لعارض، فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر إصلاح ما انهدم من الدار المستأجرة، وفيه احتراز من النفقة والكسوة؛ فإن ذلك يحتاج إليه لحفظ البدن على الدوام.

[مسألة من النفقة الكسوة]
قال الشافعي: (وفرض لها ما يكتسي مثلها في بلدها) .
وجملة ذلك: أن كسوة الزوجة تجب على الزوج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» . ولأن الكسوة يحتاج إليها لحفظ البدن على الدوام، فوجبت على الزوج، كالنفقة.
إذا ثبت هذا: فإن المرجع في عدد الكسوة وقدرها وجنسها إلى العرف والعادة؛ لأن الشرع ورد بإيجاب الكسوة غير مقدرة، وليس لها أصل ترد إليه، فرجع في عددها وقدرها إلى العرف والعادة، بخلاف النفقة، فإن في الشرع لها أصلًا، وهو الإطعام في الكفارة، فردت النفقة إليها.
فإن قيل: قد ورد الشرع بإيجاب الكسوة في الكفارة، فهلا ردت كسوة الزوجة إلى ذلك؟

(11/208)


فالجواب: أن الكسوة الواجبة في كفارة اليمين ما يقع عليها اسم الكسوة، وأجمعت الأمة على: أنه لا يجب للزوجة من الكسوة ما يقع عليه اسم الكسوة، فإذا منع الإجماع من قياس كسوتها على الكسوة في الكفارة.. فلم يبق هناك أصل ترد إليه، فرجع في ذلك إلى العرف.
وأما عدد الكسوة: فقال الشافعي: (فيجب للمرأة قميص، وسراويل، وخمار أو مقنعة) . قال أصحابنا: ويجب لها شيء تلبسه في رجليها من نعل أو شمشك.
وأما قدرها فإنه يقطع لها ما يكفيها على قدر طولها أو قصرها؛ لأن عليه كفايتها في الكسوة، ولا تحصل كفايتها إلا بقدرها.
وأما جنسها: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (أجعل لامرأة الموسر من لين البصري والكوفي والبغدادي، ولامرأة المعسر من غليظ البصري والكوفي) .
قال الشيخ أبو حامد: إنما فرض الشافعي هذه الكسوة على عادة أهل زمانه؛ لأن العرف في وقته على ما ذكر، فأما في وقتنا: فإن الأمر قد اتسع، والعرف والعادة: أن امرأة الموسر تلبس الحرير والخز والكتان، فيدفع إليها مما جرت عادة نساء بلدها بلبسه، وإن كان في الشتاء.. أضاف إلى ذلك جبة محشوة تدفأ بها.
وعندي: أنها إذا كانت في بلد يكتفي نساء بلدها بلبس الثوب الواحد، كالبلاد التي تلبس نساؤهم الأتاحم والثياب المصبغة.. وجبت كسوتها من ذلك، ويجب لها معه نطاق وخمار، ويجب لامرأة الموسر من مرتفع ذلك، ولامرأة المعسر من خشن ذلك، ولامرأة المتوسط مما بينهما.
وإن كانت في بلد لا تختلف كسوة أهلها في زمان الحر والبرد.. لم يجب لها الجبة المحشوة للشتاء؛ لأن ذلك هو العرف والعادة في حق أهل بلدها، فلم يجب لها أكثر منه.
وكذلك: إن كانت في بلد يلبس غالب نسائهم الأدم.. لم يجب عليه أن

(11/209)


يكسوها إلا الأدم؛ لأن ذلك عرف بلادهم؛ لأن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (وإن كانت بدوية.. فمما يأكل أهل البادية، ومن الكسوة بقدر ما يكتسون، لا وقت في ذلك إلا قدر ما يرى في العرف) .

[مسألة ما يلزم الزوجة من الفرش ونحوه]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولامرأته فراش ووسادة من غليظ متاع البصرة) .
وجملة ذلك: أنه يجب لها عليه فراش؛ لأنها تحتاج إلى ذلك كما تحتاج إلى الكسوة، فيجب لامرأة الموسر مضربة محشوة بالقطن ووسادة.
وإن كان في الشتاء.. وجب لها لحاف أو قطيفة للدفء.
وإن كان في الصيف.. وجب لها ملحفة، وهل يجب لها فراش تقعد عليه بالنهار غير الفراش الذي تنام عليه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب لها غير الفراش الذي تنام عليه؛ لأنها تكتفي بذلك.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يجب لها فراش تقعد عليه بالنهار غير الفراش الذي تنام عليه، وذلك لبد أو كساء أو زلية أو حصير؛ لأن العرف في امرأة الموسر، أنها تقعد بالنهار على غير الفراش الذي تنام عليه.

[مسألة من النفقة المسكن]
ويجب لها مسكن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] [النساء: 19] ، ومن المعروف: أن يسكنها بمسكن. ولأنها تحتاج إليه للاستتار عن العيون عند التصرف

(11/210)


والاستمتاع، ويقيها من الحر والبرد، فوجب عليه كالكسوة. ويعتبر ذلك بيساره وإعساره وتوسطه.

[مسألة من النفقة إخدام من تخدم]
فإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها؛ لمرض بها، أو كانت من ذوي الأقدار، قال ابن الصباغ: فإن كانت لا تخدم نفسها في بيت أبيها.. وجب على الزوج أن يقيم لها من يخدمها.
وقال داود: (لا يجب عليه لها خادم) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] [النساء: 19] ، ومن المعاشرة بالمعروف: أن يقيم لها من يخدمها. ولأن الزوج لما وجبت عليه نفقة الزوجة.. وجب عليه إخدامها، كالأب لما وجب عليه نفقة الابن.. وجب عليه أجرة من يخدمه، وهو من يحضنه.
إذا ثبت هذا: فإنه لا يلزمه لها إلا خادم واحد، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إذا كانت تخدم في بيت أبيها بخادمين أو أكثر، أو كانت تحتاج إلى أكثر من خادم.. وجب عليه لها ذلك) .
ودليلنا: أن الزوج إنما يلزمه أن يقيم لها من يخدمها بنفسها دون مالها، وما من امرأة إلا ويكفيها خادم واحد، فلم يجب لها أكثر منه.

[فرع خادم المرأة امرأة أو محرم]
ولا يكون الخادم لها إلا امرأة، أو رجلًا من ذوي محارمها؛ لأنها تحتاج إلى نظر الخادم، وقد يخلو بها، فلم يجز أن يكون رجلًا أجنبيًا، وهل تجبر المرأة على أن يكون من اليهود أو النصارى؟ فيه وجهان:

(11/211)


أحدهما: تجبر على خدمتهم؛ لأنهم يصلحون للخدمة.
والثاني: لا تجبر على خدمتهم؛ لأن النفس تعاف من استخدامهم.
فإن أخدمها خادمًا يملكه، أو اكترى لها من يخدمها، أو كان لها خادم واتفقا على: أن يخدمها وينفق عليه، أو خدمها الزوج بنفسه ورضيت الزوجة بذلك.. جاز؛ لأن المقصود خدمتها، وذلك يحصل بجميع ذلك.
وإن أراد الزوج أن يقيم لها خادمًا، واختارت المرأة أن يقيم لها خادمًا غيره.. ففيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما: يقدم اختيار الزوجة؛ لأن الخدمة حق لها، وربما كان من تختاره أقوم بخدمتها.
والثاني: يقدم اختيار الزوج؛ لأن الخدمة حق عليه لها، فقدمت جهة اختياره، كالنفقة، ولأنه قد يتهم من تختاره الزوجة، فقدم اختيار الزوج.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن كان لها خادم، وأراد الزوج إبداله بغيره؛ فإن كان بالخادم عيب أو كان سارقًا.. فله ذلك، وإلا.. فلا.
وإن أراد الزوج أن يخدمها بنفسه، وامتنعت من ذلك.. فهل تجبر؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجبر عليه، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي، والشيخ أبي حامد؛ لأن المقصود إخدامها، فكان له إخدامها بغيره أو بنفسه، كما يجوز أن يوصل إليها النفقة بوكيله أو بنفسه.
والثاني: لا تجبر على قبول خدمته؛ لأنها تحتشم أن تستخدمه في جميع حوائجها، ولأن عليها عارًا في ذلك وغضاضة، فلم تجبر عليه. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن كانت خدمة مما لا تحتشم منه في مثلها،

(11/212)


مثل: كنس البيت، والطبخ، ونحوه.. أجبرت على قبول ذلك منه، وإن كانت خدمة تحتشم منه في مثلها، كحمل الماء معها إلى المستحم ونحوها.. لم تجبر على قبول ذلك منه، بل يجب عليه أن يأتيها بخادم يتولى ذلك لها.

[فرع نفقة خادم المرأة]
] : وأما نفقة من يخدمها: فإن أخدمها بمملوك له.. فعليه نفقة مملوكه وكسوته على الكفاية، لحق الملك لا لخدمتها.
وإن استأجرت من يخدمها.. فله أن يستأجره بالقليل والكثير.
وإن وجد من يتطوع بخدمتها من غير عوض.. جاز؛ لأن حقها الخدمة، وقد حصل ذلك.
وإن كان لها خادم مملوك لها واتفقا على أن يخدمها.. وجب على الزوج نفقة خادمها وكسوته وزكاة فطره، وتكون نفقته مقدرة، وقد أوهم المزني أن في وجوب نفقة خادمها قولين. قال أصحابنا: وليس بشيء.
إذا ثبت هذا: فإنه يجب لخادم امرأة الموسر والمتوسط ثلثا ما يجب لها من النفقة، فيجب لخادم امرأة الموسر كل يوم مد وثلث، ولخادم امرأة المتوسط كل يوم مد؛ لأن العرف: أن نفقة خادم امرأة الموسر أكثر من نفقة خادم امرأة المعسر، وأما نفقة خادم امرأة المعسر: فيجب له كل يوم مد؛ لأن البدن لا يقوم بما دون ذلك، ويجب ذلك من غالب قوت البلد؛ لأن البدن لا يقوم بغير قوت البلد، ويجب له الأدم؛ لأن العرف: أن الطعام لا يؤكل إلا بأدم، وهل يكون من مثل أدمها؟ فيه وجهان:

(11/213)


أحدهما: أنه يجب من مثل أدمها، كما يجب الطعام من مثل طعامها.
والثاني: لا يجب له من مثل أدمها؛ لأن العرف: أن أدم الخادم دون أدم المخدوم، فلم يسو بينهما كما لا يساوى بينهما في قدر النفقة.
فعلى هذا: يكون أدمها من الزيت الجيد، ويكون أدم خادمها من الزيت الذي دونه، ولا يعدل بأدم الخادم عن جنس غالب أدم البلد؛ لأن البدن لا يقوم به، وهل يجب لخادمها اللحم؟
إن قلنا: يجب له الأدم من مثل إدامها.. وجب له اللحم.
وإن قلنا: لا يجب له من مثل أدمها، وإنما يجب له دون أدمها.. لم يجب له اللحم؛ لأنه أعلى الإدام، بدليل: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم»
ولا يجب له الدهن والمشط والسدر؛ لأن ذلك يراد للزينة، والخادم لا يراد للزينة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويجب لخادمها قميص ومقنعة وخف) . وإنما لم يوجب له السراويل؛ لأن السراويل تراد للزينة وستر العورة، والخادم ليس في موضع الزينة، وعورة الأمة دون عورة الحرة. وأوجب لها الخف؛ لأنها تحتاج إليه عند الخروج لقضاء الحاجات.
وإن كان في الشتاء.. وجبت له جبة صوف أو كساء؛ ليدفأ به من البرد.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولخادمها فروة، ووسادة، وما أشبههما، من عباءة، أو كساء) .
قال أصحابنا: أما الفراش: فلا يجب لخادمها، وإنما يجب له وسادة.
ويجب لخادم امرأة الموسر كساء، ولخادم امرأة المعسر عباءة؛ لأن ذلك هو العرف في حقهم.
وإن مات خادمها.. فهل يجب عليه كفنه ومؤنة تجهيزه؟ فيه وجهان، كما قلنا في كفن الزوجة ومؤنة تجهيزها.

(11/214)


وإن خدمت المرأة نفسها.. لم تجب لها أجرة؛ لأن المقصود بإخدامها ترفيهها، فإذا حملت المشقة على نفسها.. لم تستحق الأجرة، كالعامل في القراض إذا تولى من العمل ماله أن يستأجره عليه من مال القراض.

[فرع خدمة من لا تخدم]
] : فإن كانت ممن لا يخدم، بأن كانت تخدم نفسها في بيت أبيها، وهي صحيحة تقدر على خدمة نفسها.. لم يجب على الزوج أن يقيم لها خادمًا؛ لأن العرف في حقها: أن تخدم نفسها.

[مسألة وقت وجوب نفقة الزوجة]
ومتى تجب نفقة الزوجة؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (تجب جميعها بالعقد، ولكن لا يجب عليه تسليم الجميع) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه مال يجب للزوجة بالزوجية، فوجب بالعقد، كالمهر، ولأن النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع، فلما ملك الاستمتاع بها بالعقد.. وجب أن تملك عليه بالعقد ما في مقابلته، وهو النفقة، كالثمن والمثمن.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تجب بالعقد، وإنما تجب يومًا بيوم) ، وهو الأصح؛ لأنها لو وجبت بالعقد.. لوجب عليه تسليم جميعها إذا سلمت نفسها، كما يجب على المستأجر تسليم جميع الأجرة إذا قبض العين المستأجرة، فلما لم يجب عليه تسليم جميعها.. ثبت أن الجميع لم يجب.
وقول الأول: (إنها وجبت في مقابلة ملك الاستمتاع) غير صحيح، وإنما وجبت في مقابلة التمكين من الاستمتاع.
فإذا قلنا بقوله القديم.. صح أن يضمن عن الزوج نفقة زمان مستقبل، ولكن

(11/215)


لا يضمن عنه إلا نفقة المعسر وإن كان موسرًا؛ لأن ذلك هو الواجب عليه بيقين.
وإن قلنا بقوله الجديد.. لم يصح أن يضمن عليه إلا نفقة اليوم بعد طلوع الفجر.
وأما وجوب التسليم: فلا خلاف أنه لا يجب عليه إلا تسليم نفقة يوم بيوم؛ لأنها إنما تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع، وذلك لا يوجد إلا بوجود التمكين في اليوم.
فإذا جاء أول اليوم، وهي ممكنة له من نفسها.. وجب عليه تسليم نفقة اليوم في أوله؛ لأن الذي يجب لها هو الحب، والحب يحتاج إلى طحن وعجن وخبز، ويحتاج إلى الغداء والعشاء، فلو قلنا: لا يجب عليه تسليم ذلك إلا في وقت الغداء والعشاء.. أضر بها الجوع إلى وقت فراغه.
قال الشيخ أبو حامد: فإن سلم لها خبزًا فارغًا، فأخذته وأكلته.. كان ذلك قبضًا فاسدًا؛ لأن الذي تستحقه عليه الحب، فيكون لها مطالبته بالحب، وله مطالبتها بقيمة الخبز.

[فرع ما دفع لها نفقة لا يسترجع]
فإن دفع إليها نفقة يوم، ثم مات أحدهما، أو بانت منه بالطلاق قبل انقضاء اليوم.. لم يسترجع منها؛ لأنه دفع إليها ما وجب لها عليه، فلم يتغير بما طرأ بعده، كما لو دفع الزكاة إلى فقير، فمات أو استغنى.
وإن دفع إليها نفقة شهر مستقبل، فمات أحدهما، أو بانت منه في أثناء الشهر.. استرجع منها نفقة ما بعد اليوم الذي مات أحدهما فيه أو بانت فيه، وبه قال أحمد، ومحمد.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (لا يسترجع منها؛ لأنها ملكته بالقبض) .
ودليلنا: أنه دفع ذلك إليها عما سيجب لها بالزوجية في المستقبل، فإذا بان أنه لم يجب لها شيء.. استرجع منها، كما لو قدم زكاة ماله قبل الحول إلى فقير، فاستغنى الفقير من غير ما دفع إليه أو مات.

(11/216)


[فرع دفع الكسوة فتلفت]
] : وإن دفع إليها الكسوة، أو النعل، أو الشمشك، فبليت.. نظرت:
فإن بليت في الوقت الذي يبلى فيه مثلها.. لزمه أن يدفع إليها بدله؛ لأن ذلك وقت الحاجة إليه.
وإن بليت قبل الوقت الذي يبلى فيه مثلها، مثل: أن يقال: مثل هذا يبقى ستة أشهر، فأبلته بأربعة أشهر أو دونها.. لم يلزمه أن يدفع إليها بدله؛ لأنه قد دفع إليها ما تستحقه عليه، فإذا بلي قبل ذلك.. لم يلزمه إبداله، كما لو سرقت كسوتها أو احترقت، وكما لو دفع إليها نفقة يوم، فأكلتها قبل اليوم.
وإن مضى الزمان الذي تبلى مثل تلك الكسوة في مثل ذلك الزمان بالاستعمال المعتاد، ولم تبل تلك الكسوة، بل يمكن لباسها.. فهل يلزمه أن يكسوها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأنها غير محتاجة إلى الكسوة.
والثاني: يلزمه أن يكسوها. قال الشيخان: وهو الأصح؛ لأن الاعتبار في الكسوة بالمدة لا بالبلى، ألا ترى أن كسوتها إذا بليت قبل وقت بلائها.. لم يلزمه إبدالها؟! فإذا بقيت بعد وقت بلائها.. لزمه إبدالها. ولأنه لو دفع إليها نفقة يوم، فلم تأكلها حتى جاء اليوم الثاني.. لزمه النفقة لليوم الثاني وإن كانت مستغنية فيه بنفقة اليوم الأول، فكذلك في الكسوة مثله.
وإن دفع إليها كسوة مدة، فمات أحدهما، أو بانت منه قبل انقضائها، والكسوة لم تبل.. فهل تسترجع من وارثها، أو منها؟ فيه وجهان:
أحدهما: تسترجع منها، كما لو دفع إليها نفقة شهر، فمات أحدهما، أو بانت قبل انقضائه.. فإنه يسترجع منها نفقة ما بعد يوم الموت والبينونة.
والثاني: لا تسترجع؛ لأنه دفع الكسوة إليها بعد وجوبها عليه، فلم تسترجع منها، كما لو دفع إليها نفقة يوم، فمات أحدهما، أو بانت قبل انقضائه، ويخالف إذا

(11/217)


دفع إليها نفقة الشهر.. فإنها لا تستحق عليه نفقة ما بعد يوم الموت والبينونة، فلذلك استرجعت منها.

[فرع أخذت الكسوة وأرادت بيعها]
قال ابن الحداد: إذا دفع إلى امرأته كسوة، فأرادت بيعها.. لم يكن لها ذلك؛ لأنها لا تملكها، ألا ترى أن له أن يأخذها منها ويبدلها بغيرها؟ ولو دفع إليها طعامًا، فباعته.. كان لها ذلك، واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من وافق ابن الحداد، وقال: لا يصح لها بيع ما يدفع إليها من الكسوة؛ لأنها تستحق عليه الانتفاع بالكسوة، وهو استتارها بها، فلا تملكها بالقبض، كالمسكن.
وإن أتلفت كسوتها.. لزمها قيمتها له، ولزمه أن يكسوها.
ومنهم من خطأ ابن الحداد، وقال: تملك الكسوة إذا قبضتها، ويصح بيعها لها؛ لأنه يجب عليه دفع الكسوة إليها، فإذا قبضتها.. ملكتها وصح بيعها لها، كالنفقة، ويخالف المسكن، فإنه لا يلزمه أن يسلم إليها المسكن، وإنما له أن يسكن معها.
وقال أبو الحسن الماوردي: إن أرادت بيعها بما دونها في الجمال.. لم يجز؛ لأن للزوج حظًا في جمالها، وعليه ضرر في نقصان جمالها، وإن أرادت بيعها بمثلها أو أعلى منها.. كان لها ذلك؛ لأنها ملكتها، ولا ضرر على الزوج في ذلك.
قال ابن الصباغ: وعندي: أنه لو أراد أن يكتري لها ثيابًا تلبسها.. لم يلزمها أن تجيب إلى ذلك، ولو أراد أن يكتري لها مسكنًا.. لزمها الإجابة إلى ذلك. هذا نقل أصحابنا البغداديين: أن الذي يستحق عليه دفع النفقة والكسوة، ولم يذكر أحد منهم: أنه يجب عليه أن يملكها ذلك.
وأما المسعودي: فقال [في " الإبانة "] : يجب عليه أن يملكها الحب، فلو رضيت أن يملكها الخبز.. فالظاهر أنه يصح، وفيه وجه آخر: أنه لا يصح؛ لأنه إبدال قبل القبض، وأيضًا فإنه بيع الحب بالخبز، وذلك ربًا.

(11/218)


وأما الكسوة: فتجب عليه على طريق الكفاية، ولا يجب عليه التمليك، فلو سرقت أو احترقت في الحال وجب عليه الإبدال.
وفيه وجه آخر: أنه يجب عليه التمليك؛ تخريجًا من النفقة.

[فرع أرادت تغيير صنف النفقة]
وإن دفع إليها نفقتها، وأرادت بيعها أو إبدالها بغيرها.. لم تمنع منها.
ومن أصحابنا من قال: إن أرادت إبدالها بما تستضر بأكله.. كان للزوج منعها؛ لأن عليه ضررًا في الاستمتاع؛ لمرضها.
والمذهب الأول؛ لأن الضرر بأكلها لغيرها لا يتحقق، فإن تحقق الضرر بذلك.. منعت منه؛ لئلا تقتل نفسها، كما لو أرادت قتل نفسها.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وليس على الزوج أن يضحي عن امرأته؛ لأنه لا يجب عليه أن يضحي عن نفسه، فلأن لا يجب عليه أن يضحي عنها أولى) .
والله أعلم.

(11/219)


[باب الإعسار بالنفقة واختلاف الزوجين فيها]
إذا كان الزوج موسرًا، فصار معسرًا.. فإنه ينفق على زوجته نفقة المعسر، ولا يثبت لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأن بدنها يقوم بنفقة المعسر.
وإن أعسر بنفقة المعسر.. كانت بالخيار: بين أن تصبر، وبين أن تفسخ النكاح، وبه قال عمر، وعلي، وأبو هريرة، وابن المسيب، والحسن البصري،

(11/220)


وحماد بن أبي سليمان، وربيعة، ومالك، وأحمد.
وقال عطاء، والزهري، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يثبت لها الفسخ، بل يرفع يده عنها لتكتسب) . وحكاه المسعودي [في " الإبانة "] قولًا آخر لنا، وليس بمشهور.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] ، فخير الله تعالى الزوج بين الإمساك بالمعروف - وهو: أن يمسكها وينفق عليها - وبين التسريح بإحسان، فإذا تعذر عليه الإمساك بمعروف. تعين عليه التسريح.
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أعسر الزوج بنفقة زوجته.. يفرق بينهما» . ولأنه روي ذلك عن عمر، وعلي، وأبي هريرة، ولا مخالف لهم في الصحابة، فدل على: أنه إجماع. ولأنه إذا ثبت الخيار في فسخ النكاح لامرأة العنين والمجبوب، والذي يدخل عليها من الضرر بذلك: هو فقد اللذة بالاستمتاع، ونفسها تقوم مع فقده.. فلأن يثبت لها الفسخ لفقد النفقة - ونفسها لا تقوم مع فقدها - أولى.
وإن أعسر بالأدم.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يثبت لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأن الخبز بلا أدم يضر بها، ولا تصبر عليه.
والثاني - ولم يذكر الشيخان غيره -: أنه لا يثبت لها الخيار؛ لأن النفس تقوم بالطعام من غير أدم.
وإن أعسر بالكسوة.. ثبت لها الخيار؛ لأن البدن لا يقوم بغير الكسوة، كما لا يقوم بغير القوت. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.

(11/221)


وقال المسعودي [في " الإبانة "] : من أصحابنا من قال: هو كالطعام على قولين. ومنهم من قال: لا يثبت لها الخيار، قولًا واحدًا.
وإن أعسر بنفقة الخادم.. لم يثبت لها الخيار؛ لأن النفس تقوم من غير خادم.
وإن أعسر بالسكنى.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق.
أحدهما: يثبت لها الخيار، ولم يذكر ابن الصباغ غيره؛ لأنه يقيها من الحر والبرد، فهو كالكسوة، ولأن البدن لا يقوم إلا به، فهو كالقوت.
والثاني: لا يثبت لها الخيار؛ لأنها لا تعدم موضعًا تسكن فيه.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : المسكن على طريقين، كالكسوة.

[مسألة وجود نفقة يوم بيوم لا يثبت لها خيار الفسخ]
وإن كان لا يجد إلا نفقة يوم بيوم.. لم يثبت لها الخيار في الفسخ؛ لأنه قادر على الواجب عليه.
وإن كان لا يجد في أول النهار إلا ما يغديها، ويجد في آخره ما يعيشها.. فهل يثبت لها الفسخ؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يثبت لها الفسخ؛ لأن نفقة اليوم لا تتبعض.
والثاني: لا يثبت لها الفسخ؛ لأنها تصل إلى كفايتها.
وإن كان يجد نفقة يوم، ولا يجد نفقة يوم.. ثبت لها الفسخ؛ لأنها لا يمكنها الصبر على ذلك، فهو كما لو لم يجد كل يوم إلا نصف مد.

[فرع يعمل في الأسبوع ما يكفيه ويستقرض]
قال الشيخ أبو إسحاق: وإن كان نساجًا ينسج في كل أسبوع ثوبًا تكفيه أجرته إلى الأسبوع.. لم يثبت لها الفسخ؛ لأنه يمكنه أن يستقرض لهذه الأيام ما يقضيه، فلا تنقطع به النفقة.

(11/222)


وإن كانت نفقته بالعمل، فعجز عنه بمرض، فإن كان مرضًا يرجى زواله باليوم واليومين والثلاثة.. لم يثبت لها الفسخ؛ لأنه يمكنه أن يقترض نفقة هذه الأيام، وإن كان زمانه يطول.. ثبت لها الفسخ؛ لأنه يلحقها الضرر.
قال: وإن كان له مال غائب، فإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. لم يجز لها الفسخ، وإن كان على مسافة تقصر فيها الصلاة.. ثبت لها الفسخ؛ لما ذكرناه في المرض.
وإن كان له دين على موسر.. لم يثبت لها الفسخ، وإن كان على معسر.. ثبت لها الفسخ؛ لأن يسار الغريم كيساره، وإعساره كإعساره في تيسر النفقة وإعسارها.

[فرع علمها بإعساره في النفقة لا يمنعها من الفسخ]
] : فإن علمت المرأة بإعسار الزوج بالنفقة، فتزوجته.. ثبت لها الفسخ؛ لأنه قد يكتسب بعد العقد أو يقترض أو يتهب، فلما جاز أن يتغير حاله.. لم يلزمها حكم علمها به.
وإن تزوجته على علم منها بإعساره بالمهر.. فهل يثبت لها الفسخ؟ فيه وجهان:
أحدهما: يثبت لها الفسخ، كالنفقة.
والثاني: لا يثبت لها الفسخ؛ لأنها رضيت بتأخيره؛ لأنه معسر به، بخلاف النفقة؛ فإنها تجب بعد العقد.

(11/223)


[مسألة منع الموسر النفقة]
وإن كان الزوج موسرًا حاضرًا، فطالبته بنفقتها، فمنعها إياها.. لم يثبت لها الفسخ؛ لأنه يمكنها التوصل إلى استيفاء حقها بالحكم.
وفيه وجه آخر حكاه المسعودي [في " الإبانة "] : أنه يثبت لها الفسخ؛ لأن الضرر يلحقها بمنعه النفقة، فهو كالمعسر. وليس بشيء؛ لأن العسرة عيب.
فإن غاب عنها الزوج، وانقطع خبره، ولا مال له ينفق عليها منه.. فهل يثبت لها الفسخ؟ فيه وجهان:
أحدهما: يثبت لها الفسخ، وهو قول القاضي أبي الطيب، واختيار ابن الصباغ؛ لأن تعذر النفقة بانقطاع خبره كتعذرها بالإعسار.
والثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه لا يثبت لها الفسخ؛ لأن الفسخ إنما يثبت بالإعسار بالنفقة، ولم يثبت إعساره.

[مسألة ثبوت الإعسار يجعلها في خيار]
وإذا ثبت إعسار الزوج.. خيرت بين ثلاثة أشياء: بين أن تفسخ النكاح، وبين أن تقيم معه وتمكنه من الاستمتاع به، ويثبت لها في ذمته ما يجب على المعسر من النفقة والأدم والكسوة ونفقة الخادم إلى أن يوسر، وبين أن تقيم على النكاح، ولكن لا يلزمها أن تمكنه من نفسها، بل تخرج من منزله؛ لأن التمكين إنما يجب عليها ببذل النفقة ولا نفقة هناك.
ولا تستحق في ذمته نفقة في وقت انفرادها عنه؛ لأن النفقة إنما تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع، ولا تمكين منها له.

(11/224)


وإن اختارت المقام معه، ثم عن لها أن تفسخ النكاح.. كان لها ذلك؛ لأن وجوب النفقة لها يتجدد ساعة بعد ساعة ويومًا بيوم.
فإذا عفت عن الفسخ لوجوب نفقة وقتها، ورضيت به.. تجدد لها الوجوب فيما بعده، فثبت لها الفسخ، بخلاف الصداق إذا أعسر به، فرضيت بالمقام معه.. فإن خيارها يسقط؛ لأنه يجب دفعة واحدة، ولا يتجدد وجوبه.
وإن اختارت الفسخ.. قال الطبري في " العدة ": ففيه قولان:
أحدهما - قال: ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره -: أنها لا تفسخ بنفسها، بل ترفع الأمر إلى الحاكم حتى يأمره بالطلاق أو يطلق عليه؛ لأنه موضع اجتهاد واختلاف، فكان إلى الحاكم، كالفسخ بالعنة.
والثاني: أنها تفسخ بنفسها، كالمعتقة تحت عبد. وهل يؤجل؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يؤجل؛ لأن الفسخ للإعسار، وقد وجد الإعسار، فثبت الفسخ في الحال، كالعيب في الزوجين.
والثاني: يؤجل ثلاثة أيام؛ لأن المكتسب قد ينقطع كسبه ثم يعود، والثلاث في حد القلة، فوجب إنظاره ثلاثًا، ولكن لا يلزمها المقام معه في هذه الثلاث في منزله؛ لأنه لا يلزمها التمكين من غير نفقة.
فإذا قلنا بهذا: فوجد في اليوم الثالث نفقتها، وتعسرت عليه النفقة في اليوم الرابع.. فهل يجب أن يستأنف له إمهال ثلاثة أيام أخر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب؛ لأن العجز الأول ارتفع.
والثاني: لا يجب لها؛ لأنها تتضرر بذلك.

[فرع إعسار زوج الصغيرة والمجنونة]
وإن كانت الزوجة صغيرة أو مجنونة، فأعسر زوجها بالنفقة.. لم يكن لوليها أن يفسخ النكاح؛ لأن ذلك يتعلق بشهوتها واختيارها، والولي لا ينوب عنها في ذلك.
وإن زوج الرجل أمته من رجل، فأعسر الزوج بنفقتها، فإن كانت الأمة معتوهة أو

(11/225)


مجنونة.. قال ابن الحداد: فلا يثبت للسيد فسخ النكاح؛ لأن الخيار إليها، وليست من أهل الخيار، فلا ينوب عنها السيد في الفسخ، كما لو عن الزوج عنها، ويلزم السيد أن ينفق عليها إن كان موسرًا بحكم الملك، وتكون نفقتها في ذمة زوجها إلى أن يوسر، فإذا أيسر.. قال القاضي أبو الطيب: فإنها تطالب زوجها بها، فإذا قبضتها.. أخذها السيد منها؛ لأنها لا تملك المال، وحاجتها قد زالت بإنفاق السيد عليها.
قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأن الأمة إذا كانت لا تملك العين.. فكذلك الدين، فيجب أن يكون ما ثبت من الدين للسيد. وله المطالبة به دونها.
وأما إذا كانت الأمة عاقلة، وأعسر زوجها بنفقتها.. لم يكن للمولى فسخ النكاح، وإنما الفسخ لها، فإن فسخت النكاح.. فلا كلام، وعادت نفقتها على سيدها، وإن لم تختر الفسخ.. ففيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما: تكون نفقتها على سيدها إلى أن يوسر زوجها، كالمعتوهة.
والثاني: لا تجب نفقتها على السيد، بل يقال لها: إن اخترت النفقة من جهة السيد.. فافسخي النكاح؛ لأنه يمكنها فسخ النكاح، وتخالف المعتوهة، فإنه لا يمكنها فسخ النكاح.

[فرع ثبوت النفقة لما مضى من زمن الإعسار]
نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان، فإذا مكنت المرأة الزوج من نفسها زمانًا، ولم ينفق عليها.. وجبت لها نفقة ذلك الزمان، سواء فرضها الحاكم أو لم يفرضها، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (تسقط عنه، إلا أن يفرضها الحاكم) .
دليلنا: أنه حق يجب مع اليسار والإعسار، فلا يسقط بمضي الزمان، كالدين، وفيه احتراز من نفقة الأقارب.
فإن أعسر الزوج بنفقة ما مضى.. لم يثبت لها الفسخ؛ لأن الفسخ جعل ليرجع إليها ما في مقابلة النفقة، والنفقة للزمان الماضي في مقابلة تمكين قد مضى، فلو

(11/226)


فسخت النكاح لأجلها.. لم يرجع إليها ما في مقابلتها، فهو كما لو أفلس المشتري والمبيع تالف.. فإنه لا يثبت للبائع الرجوع إلى المبيع، ولو أبرأت الزوج عنها.. صحت براءتها؛ لأنه دين معلوم، فصحت البراءة منه، كسائر الديون.

[فرع مقاصة المرأة بدينها عن نفقة المعسر]
وإذا كان له دين في ذمة امرأته من جنس النفقة، واستحقت النفقة أو الكسوة عليه، وأراد أن يقاصها في ذلك.. نظرت:
فإن كانت موسرة.. كان له ذلك؛ لأن عليها قضاء دينها؛ ليسارها ومطالبته إياها، فيكون كالمال الذي في يده، وله التحكم في جعل النفقة فيه.
وإن كانت معسرة.. لم يكن له ذلك؛ لأن من عليه دين لإنسان.. يلزمه قضاؤه من الفاضل عن قوت يومه وليلته، وفي المقاصة بذلك في حال إعسارها التزام قضاء الدين من القوت، فلم يكن له ذلك.

[مسألة اختلاف الزوجين في دفع النفقة]
إذا تزوج الرجل امرأة، ومكنته من نفسها زمانًا، ثم اختلفا في النفقة، فادعى الزوج: أنه قد أنفق عليها، وقالت: لم ينفق علي، ولا بينة للزوج.. فالقول قول الزوجة مع يمينها، سواء كان الزوج معها أو غائبا عنها، وبه قال أبو حنيفة وأحمد.
وقال مالك: (إن كان الزوج غائبًا عنها.. فالقول قولها، وإن كان حاضرًا معها.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الظاهر أنها لا تسلم نفسها إليه إلا بعد أن تتسلم النفقة) . وهكذا قال في (الصداق) .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» . والزوجة تنكر القبض، فكان القول قولها مع يمينها.
ولأنهما زوجان اختلف في قبض النفقة، فكان القول قولها، كما لو سلمت نفسها والزوج غائب.

(11/227)


وإن سلمت نفسها إليه زمانا، ولم ينفق عليها فيه، أو أنفق عليها فيه نفقة معسر، وادعت: أنه كان موسرًا فيه، وادعى: أنه كان معسرًا، ولا بينة لها على يساره ذلك الوقت، فإن عرف له مال قبل ذلك.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل بقاء المال، وإن لم يعرف له مال.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم اليسار.

[فرع اختلاف الأمة المزوجة والزوج في الصداق]
وإن زوج الرجل أمته من رجل، واختلف الزوج والأمة في الصداق.. فلا يصح اختلافهما فيه؛ لأن الصداق للسيد، فإن اعترف السيد: أنه قبضه منه.. قبل إقراره.
وإن اختلف الزوج والأمة في تسليم نفقتها إليها، وأنكرته، ولا بينة له.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن النفقة حق لها يتعلق بالنكاح، فكان المرجع فيه إليها، كالمطالبة بالعنة والإيلاء.
وإن صدقة السيد أنه قد سلم إليها نفقة مدة ماضية.. فقد قال أكثر أصحابنا: لا يقبل إقرار السيد عليها، وإنما يكون شاهدًا للزوج؛ لأن هذا إقرار من السيد في حقها، فلم يقبل، كما لو أقر عليها بجناية توجب القود.
وقال ابن الصباغ: يقبل إقراره؛ لأن النفقة للمدة الماضية حق للمولى، لا حق للأمة فيها، فقبل إقرار السيد فيها.
وإن أقر السيد عليها: أنها قبضت نفقة يومها الذي هي فيه، أو قبضت نفقة مدة مستقبلة، وأنكرت ذلك.. فإنه لا يقبل إقرار السيد عليها؛ لأن ذلك إقرار عليها بما يضرها، فلم يقبل عليها، كما لو أقر عليها بجناية توجب القود، فإن كان السيد عدلًا.. حلف معه الزوج، وحكم عليها بالقبض.

[فرع ادعاؤها التمكين وإنكاره]
وإن ادعت الزوجة: أنها مكنت الزوج من نفسها، وأنكر.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التمكين.

(11/228)


وإن طلق امرأته طلقة رجعية وولدت، واتفقا على وقت الطلاق، واختلفا في الولادة: فقال الزوج: ولدت بعد الطلاق، فلا رجعة لي ولا نفقة لك. وقالت المرأة: بل ولدت قبل الطلاق، فعلي العدة ولك الرجعة، ولي عليك النفقة.. فلا رجعة للزوج؛ لأنه أقر بسقوط حقه منها، وله أن يتزوج بأختها وبأربع سواها، وعلى الزوجة العدة؛ لأنها مقرة بوجوبها عليها، وتحلف المرأة: أنها ولدت قبل أن يطلقها، وتستحق النفقة؛ لأنهما اختلفا في وقت ولادتها، وهي أعلم بها، ولأنهما اختلفا في سقوط نفقتها، والأصل بقاؤها حتى يعلم سقوطها.
وبالله التوفيق.

(11/229)


[باب نفقة المعتدة]
إذا طلق الرجل امرأته طلاقًا رجعيًا.. فإنها تستحق على الزوج جميع ما تستحق الزوجة، إلا القسم، إلى أن تنقضي عدتها، وهو إجماع.
وإن كان الطلاق بائنًا.. وجب لها السكنى، حائلًا كانت أو حاملًا.
وأما النفقة: فإن كانت حائلًا.. لم تجب لها، وإن كانت حاملًا.. وجبت.
وقال ابن عباس، وجابر: (لا سكنى للبائن) . وبه قال أحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة: (تجب النفقة للبائن، سواء كانت حائلا أو حاملًا) .
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] ، فأوجب السكنى للمطلقات بكل حال، وأوجب لهن النفقة بشطر إن كن أولات حمل، فدل على: أنهن إذا لم يكن أولات حمل.. أنه لا نفقة له.
وروي: «أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها ثلاثًا وهو غائب بالشام، فحمل إليها وكيله كفًا من شعير، فسخطته، فقال لها: لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا، إنما يتطوع عليك. فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته بذلك، فقال لها: لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا، واعتدي عند أم شريك» .
إذا ثبت هذا: فهل تجب النفقة للحمل، أو للحامل لأجل الحمل؟ فيه قولان:
أحدهما: أنها تجب للحمل؛ لأنها تجب عليه بوجوده، ولا تجب عليه بعدمه، فدل على: أنها تجب له.
والثاني: أنها تجب للحامل لأجل الحمل، وهو الأصح؛ لأنه تجب عليه نفقة الزوجة مقدرة، ولو وجبت للحمل.. لتقدرت بقدر كفايته، كنفقة الأقارب، والجنين يكتفي بدون المد.

(11/230)


وإن تزوج الحر أمة، فطلقها طلاقًا بائنًا وهي حامل، فإن قلنا: إن النفقة تجب للحمل.. لم تجب عليه النفقة؛ لأن ولده من الأمة مملوك لسيدها، ونفقة المملوك على سيده. وإن قلنا: إن النفقة للحامل.. وجب على الزوج نفقتها.
وإن تزوج العبد بحرة أو أمة، فأبانها وهي حامل، فإن قلنا: إن النفقة للحمل.. لم تجب عليه النفقة؛ لأن ولده من الأمة مملوك لسيد الأمة، وولده من الحرة لا تجب عليه نفقته؛ لأن العبد لا تجب عليه نفقة ولده ولا والده. وإن قلنا: إن النفقة للحامل.. وجبت عليه النفقة.
وإن كان الحمل مجتنًا، وقلنا: إن النفقة للحمل.. فهل تجب على أبيه؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي في كتاب (الجنايات) .
قال الشاشي: ويصح إبراء الزوجة عنها على القولين.
وإن طلق امرأته طلاقًا بائنا وهي حامل، فارتدت الزوجة.. فقد قال ابن الحداد: تسقط نفقتها.
فمن أصحابنا من وافقه، وقال: تسقط نفقتها، قولًا واحدًا؛ لأنها تتعلق بمصلحتها وهي المستمتعة بها، فسقطت بردتها.
ومنهم من خالفه، وقال: إذا قلنا: إن النفقة للحامل.. سقطت بردتها، وإن قلنا: إن النفقة للحمل.. فلا تسقط بردتها؛ لأن الحمل محكوم بإسلامه، فلا يسقط حقه بردتها.
وإن أسلمت الزوجة، وتخلف الزوج في الشرك.. فعليه نفقتها إلى أن تنقضي عدتها، حائلا كانت أو حاملًا.
وإن أسلم الزوج، وتخلفت الزوجة في الشرك.. فقد قال ابن الحداد: لا نفقة لها، حائلا كانت أو حاملًا. فمن أصحابنا من وافقه.

(11/231)


ومنهم من خالفه، وقال: هذا إذا قلنا: إن النفقة للحامل، فأما إذا قلنا: إن النفقة تجب للحمل.. وجب له النفقة؛ لأنه محكوم بإسلامه.
وإن مات الزوج قبل وضع الحمل، وخلف أبًا.. فقد قال أبو إسحاق المروزي: تسقط النفقة، ولا تجب على الجد، كما لو مات الزوج في عدة الرجعية.
وقال الشيخ أبو حامد: إذا قلنا: إن النفقة تجب للحمل.. وجبت على جده؛ لأنه يجب عليه نفقة ولد ولده.

[مسألة كيفية دفع نفقة المطلقة الحامل]
وإذا طلق امرأته وهي حامل.. فهل يجب عليه أن يدفع إليها النفقة يومًا فيومًا، أو لا يجب عليه الدفع حتى تضع؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه دفع النفقة حتى تضع، فإذا وضعت الولد.. وجب عليه دفع نفقتها لما مضى من يوم الطلاق؛ لأنه لا يجب عليه الدفع بالشك، والحمل غير متحقق الوجود قبل الوضع، بل يجوز أن يكون ريحًا فتنفش.
والقول الثاني: أنه يجب عليه أن يدفع إليها نفقة يوم فيوم، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] ، فأمرنا بالإنفاق عليهن حتى يضعن حملهن، وهذا يقتضي وجوب الدفع. ولأن الحمل له أمارات وعلامات، فإذا وجدت.. تعلق الحكم بها في وجوب دفع النفقة، كما تعلق الحكم بها في منع أخذ الحمل الزكاة، وفي جواز رد الجارية المبيعة، وفي منع وطء الجارية المسبية والمشتراة، وفي جواز أخذ الخلفة في الدية.
فإذا قلنا: لا يجب الدفع حتى تضع.. لم تحتج إلى أمارة وعلامة، بل تعتد.
فإذا وضعت ولدًا يجوز أن يكون منه.. لزمه أن يدفع إليها النفقة من حين الطلاق إلى أن وضعت.
فإن ادعت: أنها وضعت، وصدقها.. فلا كلام، وإن كذبها.. فعليها أن تقيم

(11/232)


البينة على الوضع شاهدين، أو شاهدًا وامرأتين، أو أربع نسوة؛ لأنه يمكنها إقامة البينة على ذلك.
وإن قلنا: يجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم بيومه، فادعت: أنها حامل، فإن صدقها الزوج.. وجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم بيومه، وإن لم يصدقها، فإن شهد أربع نسوة عدول بأنها حامل.. وجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم بيومه من وقت الطلاق إلى حين الحكم بقولهن - إنها حامل - دفعة واحدة، ووجب عليه أن يدفع لها نفقة كل يوم بيومه من حين الحكم بقولهن إلى حين الوضع.
ولو سألته أن يحلف لها: ما يعلم أنها حامل.. فالذي يقتضي المذهب: أنه يلزمه أن يحلف؛ لجواز أن يخاف من اليمين، فيقر: أنها حامل، أو ينكل عن اليمين، فترد عليها، فإذا حلفت.. وجب عليه الدفع؛ لأن يمينها مع نكوله كإقراره في أحد القولين، وكبينة تقيمها في القول الآخر، والجميع يجب به الدفع.

[فرع طلقها بائنا وهي حامل]
وإن طلقها طلاقًا بائنًا، فقلن القوابل: إن بها حملًا، فأنفق عليها، فبان أنه لا حمل بها، أو ولدت ولدًا لا يجوز أن يكون منه.. فإن قلنا: إنه يجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم بيومه.. كان له أن يرجع عليها بما دفع إليها من النفقة، سواء دفعه بأمر الحاكم أو بغير أمره، وسواء شرط أنه نفقة أو أطلق؛ لأنه دفع إليها النفقة على أنها واجبة عليه، وقد بان أنه لا نفقة عليه لها، فيرجع عليها. وإن قلنا: إنه لا يجب عليه الدفع إلا بعد الوضع.. نظرت:
فإن كان قد دفع إليها بحكم الحاكم.. كان له الرجوع؛ لأن الحاكم أوجب عليه الدفع، وقد بان أنها لم تكن واجبة عليه.
وإن دفعها بغير حكم الحاكم، فإن كان قد شرط أن ذلك عن نفقتها إن كانت حاملًا.. فإنه يرجع عليها؛ لأنه بان أنها ليست بحامل ولا نفقة لها عليه، وإن دفعها من غير شرط.. لم يرجع عليها بشيء؛ لأن الظاهر أنه تطوع بالإنفاق عليها.

(11/233)


[مسألة اعتبار العدة بأقصر مدة]
قال الشافعي: (وإن كان يملك رجعتها، فلم تقر بثلاث حيض، أو كان حيضها مختلفًا، فيطول ويقصر.. لم أجعل لها إلا الأقصر؛ لأنه اليقين، وأطرح الشك) .
واختلف أصحابنا في تأويلها:
فقال أبو إسحاق: تأويلها هو: أن يطلق زوجته طلاقًا رجعيًا، فأنفق عليها، وظهر بها حمل في العدة، ووضعت لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، فإن قلنا: إنه يلحقه.. فعليه نفقتها إلى أن تضع، ولا كلام، وإن قلنا: إنه لا يلحقه، وينتفي عنه بغير لعان.. فإنها لا تكون معتدة به عنه.
ولا نفقة عليه لها مدة حملها، وإنما عدتها منه بالأقراء، وتسأل من أين الحمل؟
فإن قالت: هو من غيره بشبهة أو زنًا.. قلنا لها: أي وقت حملت به؟ فإن قالت: بعد انقضاء عدتي بالأقراء عن الأول.. فعلى الأول نفقتها مدة عدتها بالأقراء لا غير. وإن قالت: حملت به بعد أن مضى من عدته قرءان.. كان على الزوج نفقتها مدة عدتها في القرأين قبل الحمل، ومدة عدتها بالقرء الثالث بعد الحمل.
وإن قالت: هذا الولد من هذا الزوج وطئني في عدتي، أو راجعني ثم وطئني، فإن أنكرها.. حلف؛ لأن الأصل عدم ذلك، فإذا حلف.. بطل أن تعتد بالحمل منه، وقلنا له: فسر أنت كيف اعتدت منك؟
فإن قال: حملت به قبل أن يمضي لها شيء من الأقراء.. فإنها تعتد بثلاثة أقراء عنه بعد الوضع، ولها عليه نفقة ذلك الوقت.
وإن قال: انقضت عدتها مني بالأقراء، ثم حملت به بعد ذلك.. فقد اعترف: أنها اعتدت عنه بالأقراء، فإن كان حيضها لا يختلف.. فلها نفقة مدة ثلاثة أقراء، وإن كان حيضها يختلف، فتارة تمضي ثلاثة أقراء في سنة، وتارة تمضي في ستة أشهر، وتارة في ثلاثة أشهر، واختلفا في عدتها.. كان لها نفقة ثلاثة أشهر؛ لأنه اليقين.
ومن أصحابنا من قال: تأويلها: أن يطلقها طلاقًا رجعيًا، وأتت بولد لأكثر من

(11/234)


أربع سنين من وقت الطلاق - وقلنا: لا يلحقه - فإن عدتها بالأقراء عنه، فيرجع إليها، كيف الاعتداد منها بالأقراء؟ فإذا ذكرت، فإن كان حيضها لا يختلف.. كانت لها نفقة ثلاثة أقراء، وإن كان يختلف، فيطول ويقصر.. لم يكن لها إلا نفقة الأقصر؛ لأنه اليقين.
ومن أصحابنا من قال: تأويلها: إذا طلقها طلاقًا رجعيًا، وحكمنا لها بالنفقة، وأتت بولد لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق - وقلنا: لا يلحقه - وكانت تحيض على الحمل، وقلنا: إنه حيض.. فإنها تعتد عنه بالأقراء الموجودة على الحمل، فإن كان حيضها لا يختلف.. فلها نفقة ثلاثة أقراء، وإن كان يختلف.. لم يكن لها إلا نفقة الأقصر؛ لأنه اليقين. وهذا ضعيف جدًا؛ لأنها على هذا القول يكون لها نفقة الأقراء على الحمل، طالت أو قصرت.
ومنهم من قال: تأويلها: إذا طلقها طلاقًا رجعيًا، فذكرت: أن حيضها ارتفع لغير عارض.. فإنها تتربص على ما مضى. فإذا زعمت أن حيضها ارتفع بعارض.. فقد اعترفت بحقين؛ حق عليها: وهو العدة والرجعة، فيقبل قولها فيه، وحق لها: وهو النفقة، فلا يقبل قولها فيه، بل يجعل لها نفقة الأقصر؛ لأنه اليقين. والتأويل الأول أصح.
فأما إذا طلقها طلاقًا رجعيًا، فظهر بها أمارات الحمل، فأنفق عليها، ثم بان أنه لم يكن حملًا، وإنما كان ريحًا فأنفش.. فإنه يسترجع نفقة ما زاد على ثلاثة أقراء، فيقال لها: كم كانت مدة أقرائك؟ فإن أخبرت بذلك.. كان القول قولها مع يمينها.
وإن قالت: لا أعلم في كم انقضت عدتي، إلا أن عادتي في الحيض كذا، وعادتي في الطهر كذا.. حسبنا ذلك، ورجع الزوج بنفقة ما بعد ذلك.
وإن قالت: حيضي يختلف، ولا أعلم قدر الثلاثة الأقراء.. نظرنا إلى أقل ما تذكره من الحيض والطهر، فحسبنا لها ثلاثة أقراء، ورجع عليها بما زاد على ذلك.

(11/235)


وإن قالت: لا أعلم قدر حيضي وطهري.. فحكى ابن الصباغ: أن الشافعي قال: (جعلنا الأقراء ثلاثة أشهر؛ لأن ذلك هو الغالب في النساء، ورجع بالباقي) .

[فرع لا كسوة للبائن وإن وجبت النفقة]
قال أبو إسحاق المروزي: ولا يجب للبائن الكسوة وإن وجبت لها النفقة.

[مسألة لا متعة ولا نفقة إلا في نكاح صحيح]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وكل ما وصفنا من متعة أو نفقة أو سكنى.. فليست إلا في نكاح صحيح) .
وجملة ذلك: أنه إذا تزوج امرأة تزويجًا فاسدًا، كالنكاح بلا ولي ولا شهود أو في عدتها.. فإنه يفرق بينهما، فإن كان قبل الدخول.. فإنه لا يتعلق بالنكاح حكم، وإن كان بعد الدخول.. فلها مهر المثل، وعليها العدة، ولا سكنى لها؛ لأن السكنى تجب عن نكاح صحيح، ولا نكاح هاهنا.
وأما النفقة: فإن كانت حائلًا.. فلا نفقة لها؛ لأنه إذا لم تجب النفقة للبائن الحائل في النكاح الصحيح. فلأن لا تجب لها في النكاح الفاسد أولى.
وإن كانت حاملا؛ فإن قلنا: إن النفقة تجب للحامل.. لم تجب لها هاهنا نفقة؛ لأن النفقة إنما تجب لها عن نكاح صحيح له حرمة، وهذا النكاح لا حرمة له. وإن قلنا: إن النفقة للحمل.. وجب لها النفقة؛ لأن هذا الولد لاحق به، فهو كما لو حملت منه في نكاح صحيح.
وأما إذا وقع النكاح صحيحًا، ثم انفسخ برضاع أو عيب بعد الدخول.. فإنه يجب عليها العدة. قال الشيخ أبو إسحاق: وتجب لها السكنى في العدة.
وأما النفقة: فإن كانت حائلًا.. لم تجب، وإن كانت حاملًا.. وجبت؛ لأنها معتدة عن فرقة في حال الحياة، فكان حكمها ما ذكرناه، كالطلاق.
وقال الشيح أبو حامد، وابن الصباغ: حكمها في السكنى والنفقة حكم النكاح الفاسد؛ لأن حكم النكاح الذي ينفسخ بعد الدخول حكم النكاح الذي يقع فاسدًا.

(11/236)


[فرع المبتوتة بلعان لا نفقة لحملها]
وإن قذف امرأته وهي حامل ونفى حملها، فلاعنها.. انفسخ النكاح بينهما، واعتدت بوضع الحمل، ولا نفقة لها في حال عدتها؛ لأن النفقة للحمل في أحد القولين، ولها لأجل الحمل في الثاني - والحمل غير لاحق به - فلم تجب لها النفقة، وهل تجب لها السكنى؟ حكى القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق فيه وجهين:
أحدهما: لا تجب لها السكنى؛ لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في المتلاعنين: أن يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدًا، ولا نفقة لها ولا بيت» ؛ لأنهما مفترقان بغير طلاق.
والثاني: أن لها السكنى، قال ابن الصباغ: ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنها معتدة عن فرقة في حال الحياة، فهي كالمطلقة.
قال ابن الصباغ: وقد ذكرنا فيما مضى: أن الفسخ الطارئ بمنزلة النكاح الفاسد، وهذا فسخ، وإيجاب السكنى يناقضه، غير أنه يتعلق بقول الزوج، فجرى مجرى قطع النكاح بغير الطلاق، وكما قلنا في الخلع إذا قلنا: إنه فسخ.
وإن لاعنها ولم ينف الحمل.. قال الشيخ أبو إسحاق: وجبت لها النفقة.
وإن أبان زوجته بالثلاث أو بالخلع، وظهر بها حمل فنفاه - وقلنا: يصح لعانه قبل الوضع - فلاعن.. سقطت عنه النفقة، وهل تسقط عنه السكنى؟
إن قلنا: للملاعنة السكنى في التي قبلها.. فهاهنا أولى.
وإن قلنا في التي قبلها: لا سكنى لها.. قال القاضي أبو الطيب: احتمل هاهنا وجهين:
أحدهما: لها السكنى؛ لأنها اعتدت عن الطلاق.
والثاني: لا سكنى لها؛ لأن نفقتها قد سقطت لأجل اللعان فكذلك السكنى.
وإن أكذب الزوج نفسه بعد اللعان.. لحقه نسب الولد، وكان عليه النفقة لها لما مضى وإلى أن تضع.

(11/237)


فإن قيل: فهلا قلتم: إنه لا نفقة لها لما مضى، على القول الذي يقول: إن النفقة للحمل؛ لأن نفقة الأقارب تسقط بمضي الزمان؟
قلنا: إنما نقول ذلك: إذا كان القريب هو المستوفي لنفقته، وهاهنا المستوفى لها هي الزوجة، فصارت كنفقة الزوجة، فلا تسقط بمضي الزمان.

[مسألة المعتدة عن وفاة لا نفقة لها حاملًا أو حائلًا]
وأما المعتدة المتوفى عنها زوجها: فلا يجب لها النفقة، حائلًا كانت أو حاملًا، وبه قال ابن عباس، وجابر، وروي: أنهما قالا: (لا نفقة لها، حسبها الميراث) .
وذهب بعض الصحابة إلى: أنها إذا كانت حاملًا.. فلها النفقة. وقيل: إنه مذهب أحمد.
ودليلنا: أنه لا يخلو: إما أن يقال: هذه النفقة للحامل، أو للحمل. فبطل أن يقال: إنها للحامل؛ لأنها لا تستحق النفقة إذا كانت حاملًا، وبطل أن يقال: إنها للحمل؛ لأن الميت لا تستحق عليه نفقة الأقارب، فلم تجب.
وهل يجب لها السكنى؟ فيه قولان، مضى بيانهما في (العدة) .

(11/238)


[مسألة غياب زوجها وهي في مسكنه يوجب لها النفقة]
] : إذا غاب الرجل عن امرأته وهي في مسكنه الذي أسكنها فيه، وانقطع عنها خبره.. فإن اختارت المقام على حالتها.. فالنفقة واجبة على الزوج؛ لأنها مسلمة لنفسها، وإن رفعت الأمر إلى الحاكم، وأمرها بالتربص أربع سنين.. فلها النفقة على زوجها هذه الأربع السنين؛ لأن النفقة إنما تسقط بالنشوز أو بالبينونة، ولم يوجد واحد منهما.
فإن حكم الحاكم بالفرقة بينهما بعد أربع سنين واعتدت أربعة أشهر وعشرًا: فإن قلنا بقوله القديم، وأن الفرقة قد وقعت ظاهرًا وباطنًا، أو ظاهرًا.. فإنها كالمعتدة عن الوفاة، فلا يجب لها النفقة فيها، وهل تجب لها السكنى؟ فيه قولان.
فإن رجع زوجها الأول، فإن قلنا: إن الفرقة وقعت ظاهرًا وباطنًا.. فهي أجنبية منه، ولا يجب لها عليه نفقة ولا سكنى. وإن قلنا: إن الفرقة وقعت في الظاهر دون الباطن.. ردت إليه، ووجبت لها النفقة من حين ردت إليه.
وإن قلنا بقوله الجديد، وأن حكم الحاكم لا ينفذ.. فإنها ما لم تتزوج.. فنفقتها على الأول؛ لأنها محبوسة عليه، وإنما تعتقد هي: أن الفرقة قد وقعت، وهذا الاعتقاد لا يؤثر في سقوط نفقتها.
فإن تزوجت بعد أربعة أشهر وعشر.. سقطت نفقتها عن الأول؛ لأنها كالناشزة عن الأول، فسقطت نفقتها عنه.
وإن دخل الثاني بها، وفرق بينهما.. فعليها أن تعتد عنه، ولا نفقة لها على الأول؛ لأنها معتدة عن الثاني، فإن رجعت إلى منزل الأول بعد انقضاء عدة الثاني، أو قبل أن يدخل بها الثاني.. فهل تستحق النفقة على الأول؟ قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " المختصر ": (لا نفقة لها في حال الزوجية ولا في حال العدة) . وهذا يقتضي: أن لها النفقة بعد انقضاء العدة.
وقال في " الأم ": (لا نفقة لها في حال الزوجية ولا في حال العدة ولا بعدها) .

(11/239)


واختلف أصحابنا فيها على طريقين:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيه قولان، وحكاهما الشيخ أبو إسحاق وجهين:
أحدهما: يجب لها النفقة من حين عادت إلى منزله؛ لأن النفقة سقطت بنشوزها، وقد زال النشوز، فعادت نفقتها.
والثاني: لا تجب لها النفقة؛ لأن التسليم الأول قد سقط بنشوزها، فلم تعد إلا بتسليم ثان، وليس هاهنا من يتسلمها.
فعلى هذا الطريق: إذا خرجت امرأة الحاضر من منزلها ناشزة، ثم عادت إليه.. فهل تعود نفقتها من غير أن يتسلمها الزوج؟ فيه وجهان، بناءً على هذين القولين.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي دل عليه مفهوم كلامه: أن النفقة لها.. أراد: إذا تزوجت بالثاني من غير أن يحكم لها الحاكم بالفرقة، فإذا عادت إلى منزل الزوج.. عادت نفقتها؛ لأن نفقتها سقطت بأمر ضعيف؛ وهو نشوزها، فعادت برجوعها.
وحيث قال في " الأم ": (لا نفقة لها) .. أراد: إذا حكم لها الحاكم بالفرقة، وتزوجت بآخر؛ لأن نفقتها سقطت بأمر قوي، وهو حكم الحاكم، فلا تعود إلا بأمر قوي، وهو أن يتسلمها الزوج.
فعلى هذا الطريق: إذا نشزت امرأة الحاضر من منزلها وعادت إليه.. وجبت لها النفقة وإن لم يتسلمها الزوج.
وأما وجوب نفقتها على الثاني: فإن قلنا بقوله القديم، وأن التفريق صحيح.. فإنها تستحق عليه النفقة بنفس العقد في قوله القديم، ونفقة كل يوم بيومه في قوله الجديد؛ لأن نكاحه صحيح. وإن قلنا بقوله الجديد، وأن التفريق غير صحيح.. فإنها لا تستحق عليه النفقة ولا السكنى في حال الزوجية؛ لأنه لا زوجية بينهما.
وإذا فرق بينهما بعد الدخول.. فلا سكنى لها في حال العدة.

(11/240)


وأما النفقة: فإن كانت حائلًا.. لم تجب لها، وإن كانت حاملًا، فإن قلنا: النفقة للحمل.. وجبت، وإن قلنا: للحامل.. لم تجب.

[فرع تزوج زوجة المفقود بعد انقضاء عدتها ثم رجع الأول]
إذا تربصت امرأة المفقود، وتزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها، فرجع الأول، فإن قلنا بقوله الجديد: لا تقع الفرقة، أو قلنا: تقع الفرقة في الظاهر دون الباطن، فأتت بولد يمكن أن يكون من الثاني، ولا يمكن أن يكون من الأول.. فإن عدتها تنقضي من الثاني بوضعه، وترد إلى الأول بعد وضع الولد.
وإن أتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، فإن قلنا بقوله القديم، وأن الفرقة تقع ظاهرًا وباطنًا.. فالولد للثاني، وإن قلنا بقوله الجديد، أو قلنا بقوله القديم، وقلنا: إن الفرقة تقع في الظاهر دون الباطن، فإن لم يدعه الأول.. فهو للثاني؛ لأنها قد استبرأت رحمها يقينًا عن الأول.
وإن ادعاه الأول.. سئل عن وجه دعواه، فإن قال: هذا الولد مني؛ لأنها زوجتي، وغبت عنها والزوجية باقية لم تنقطع، فهو ولدي؛ لأنها أتت به على فراشي.. لم يلتفت إلى هذه الدعوى، ولحق بالثاني؛ لأنا قد تيقنا براءة رحمها من ماء الأول، فلا يمكن أن يكون منه.
وإن قال: كنت عدت إليها في الخفية ووطئتها، وهذا الولد مني، وأمكن أن يكون صادقًا.. عرض الولد على القافة، فإذا ألحقوه بأحدهما.. لحقه.
وكل موضع لحق الولد بالثاني.. فليس للزوج الأول أن يمنعها من أن تسقيه اللبأ؛ لأنه لا يعيش إلا بذلك.
فإذا سقته اللبأ، فإن لم توجد له امرأة ترضعه وتكفله.. لم يكن له منعها من ذلك؛ لأن ذلك يؤدي إلى تلفه، وإن وجد له امرأة ترضعه وتكفله.. كان له منعها؛ لأنها متطوعة بإرضاعه، وللزوج منع زوجته من فعل التطوع بالصلاة والصوم، فلأن يمنعها من الرضاع أولى.

(11/241)


فإن أرضعته في موضع منعناها من إرضاعه فيه، فإن أرضعته في بيت زوجها.. فلها النفقة عليه؛ لأنها في قبضته، وإن خرجت من منزله إلى غيره بغير إذنه وأرضعته.. سقطت نفقتها؛ لأنها ناشزة، وإن خرجت إلى غيره بإذن زوجها وأرضعته، فإن كان زوجها معها.. لم تسقط نفقتها، وإن لم يكن معها.. ففيه وجهان، بناءً على القولين في السفر بإذنه.

[فرع تربصت زوجة المفقود وفرق الحاكم وتزوجت بعد العدة]
وإن تربصت امرأة المفقود، وفرق الحاكم بينهما، وتزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها ودخل بها، ثم مات الثاني، وبان أن زوجها الأول كان حيًا عند نكاحها للثاني، وأن الأول مات بعد ذلك، فإن قلنا بقوله القديم، وأن الحكم بالفرقة صحيح ظاهرًا وباطنًا.. فقد بانت من الأول، ونكاح الثاني صحيح، وقد بانت عنه بموته، واعتدت عنه، فلا تأثير لحياة الأول. وإن قلنا بقوله الجديد: إن الحكم بالفرقة لا يصح، أو قلنا: تقع الفرقة في الظاهر دون الباطن.. فعلى هذا: نكاح الثاني باطل، وعليها العدة بموت الأول أربعة أشهر وعشرًا، وعليها عدة وطء الشبهة للثاني ثلاثة أقراء، ولا يصح أن تعتد عن أحدهما إلا بعد أن يفرق بينها وبين الثاني، وفيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يعلم موت كل واحد من الزوجين في وقت بعينه، ويعلم عين ذلك الزوج.
الثانية: أن يعلم أن أحدهما مات في وقت بعينه، ولم يعلم وقت موت الآخر.
الثالثة: أن لا يعلم موت كل واحد منهما بعينه.
فأما [المسألة] الأولى، وهو: إذا علم موت كل واحد منهما في وقت بعينه.. ففيه مسألتان:

(11/242)


إحداهما: أن يعلم أن الأول مات في أول شهر رمضان، والثاني مات في أول شهر شوال، فيجب عليها أن تعتد هاهنا عن الأول أربعة أشهر وعشرًا، وابتداؤها من أول شوال بعد زوال فراش الثاني؛ لأنه لا يمكن أن تكون فراشًا للثاني معتدة عن الأول، فإذا انقضت عدتها عن الأول.. اعتدت عن الثاني بثلاثة أقراء؛ لأن عدة الأول أسبق، فقدمت، ولأنها أقوى؛ لأنها وجبت بسبب مباح، والثانية وجبت بسبب محظور.
وإن مات الثاني في أول رمضان، والأول في أول شوال.. فإن الثاني لما مات شرعت في عدته وإن كانت زوجة الأول؛ لأن النكاح يتأبد فراشه، فلا يمكن قطعه لأجل العدة، بخلاف الفراش في النكاح الثاني، فإنه لا يتأبد، فلذلك وجب قطعه للعدة، ولم تصح العدة مع وجوده، فلما مات الأول في أثناء عدة الثاني.. انتقلت إلى عدة الأول؛ لأنها آكد، فإذا أكملت عدة الأول أربعة أشهر وعشرًا.. أكملت عدة الثاني بالأقراء.
المسألة الثانية: أن يعلم أن أحدهما مات في وقت بعينه، ولم يعلم وقت موت الآخر، مثل: أن يعلم أن الثاني مات في أول شوال، ثم جاء الخبر أن الأول حي في بلد كذا، ومات ولم يعلم وقت موته.. فإنه يقال: أقل وقت يمكن أن يصل فيه الخبر من الموضع الذي كان فيه كم هو؟
فإن قيل مثلا: عشرة أيام.. جعل في التقدير كأنه مات قبل مجيء خبره بعشرة أيام، فإن وافق ذلك وقت موت الثاني، بأن كان الخبر ورد لعشر خلون من شوال، وهو وقت موت الثاني.. فقد اتفق موتهما في وقت واحد، فتعتد عن الأول بأربعة أشهر وعشر، وتعتد بعد ذلك عن الثاني بثلاثة أقراء. وإن تقدم موت الثاني، أو تأخر عنه.. فالحكم فيه على ما ذكرناه في المسألة الأولى.
المسألة الثالثة: أن لا يعلم وقت موت كل واحد منهما بعينه، مثل: أن يعلم أن أحدهما مات في أول شهر رمضان، والآخر مات في أول شوال، ولا يعلم وقت موت

(11/243)


كل واحد منهما أيهما مات أولًا.. فيجب عليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من بعد موت الثاني، ثم تعتد بعد ذلك بثلاثة أقراء؛ ليسقط الفرض عنها بيقين، هذا إذا لم تحبل من الثاني.
فأما إذا حبلت من الثاني، ثم ظهر موت الأول.. فإن الولد لاحق بالثاني؛ لأنها قد اعتدت عن الأول، واستبرأت رحمها منه، وقد مات الأول قبل أن يدعيه، فلم يلحق به، فتعتد بوضع الحمل عن الثاني، فإذا وضعته.. اعتدت عن الأول بأربعة أشهر وعشر، ومتى تبتدئ بها؟ فيه وجهان:
أحدهما: من حين انقطاع دم النفاس؛ لأن دم النفاس تابع للحمل من الأول، فهو كمدة الحمل.
والثاني - وهو المذهب -: أن ابتداءها من بعد وضع الحمل؛ لأن هذا عدة عن وفاة، وعدة الوفاة لا يراعى فيه الدم وزواله، ولأن وقت دم النفاس ليس من عدة الثاني، فاحتسب به من عدة الأول.
وبالله التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل.

(11/244)


[باب نفقة الأقارب والرقيق والبهائم]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيان أن على الأب أن يقوم بالمؤنة في إصلاح صغار ولده من رضاع ونفقة وكسوة وخدمة دون أمه) .
وجملة ذلك: أنه يجب على الأب أن ينفق على ولده.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] [الإسراء: 31] ، فمنع الله من قتل الأولاد خشية الإملاق، وهو الفقر، فلولا أن نفقة الأولاد عليهم.. لما خافوا الفقر.
وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] ، فأوجب أجرة رضاع الولد على الأب، فدل على: أن نفقته تجب عليه.
وروى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، عندي دينار؟ فقال: " أنفقه على نفسك "، فقال: عندي آخر؟ فقال: أنفقه على ولدك» .
وروي: «أن هندا قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني وولدي إلا ما آخذه منه سرًا ولا يعلم.. فهل علي في ذلك شيء؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»
ولأن الولد بعض من الأب، فكما يلزمه أن ينفق على نفسه.. فكذلك يلزمه أن ينفق على ولده.
فإن لم يكن هناك أب، أو كان ولكنه معسر، وهناك جد موسر.. وجبت عليه نفقة ولد الولد وإن سفل، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا تجب نفقة ولد الولد على الجد) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] [الأعراف: 26] ، فسمى الناس بني آدم، وإنما هو جدهم.

(11/245)


وكذلك قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] [يوسف: 38] ، فسماهم آباء، وإنما هم أجداده.
ولأن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة، فأوجبت النفقة، كالأبوة، وعكسه الأخوة.
وإن لم يكن هناك أحد من الأجداد من قبل الأب.. وجبت النفقة على الأم، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا تجب النفقة على الأم) .
وقال أبو يوسف، ومحمد: تجب على الأم، ولكن يرجع بها على الأب إذا أيسر.
دليلنا - على مالك -: أن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة، فأوجبت النفقة، كالأبوة.
ولأن النفقة إذا وجبت على الجد، وولادته من طريق الظاهر.. فلأن تجب على الأم - وولادتها من طريق القطع - أولى، فلم ترجع.
وعلى أبي يوسف، ومحمد: أنها نفقة واجبة على من تعين نسبه، فلم يرجع بها، كالجد لا يرجع بما أنفق على الأب.
وقولنا: (على من تعين نسبه) احتراز ممن ولد على فراشين، وأشكل الأب منهما.
فإن لم يكن أم، وهناك أبو أم، أو أم أمّ.. وجبت عليه نفقة ولد الولد وإن سفل، فتجب نفقة الولد على من يقع عليه اسم الأب أو الأم حقيقة أو مجازًا، سواء كان من قبل الأب أو الأم، ويشترك في وجوبها العصبات وذوو الأرحام؛ لأنها تتعلق بالقرابة من جهة الولادة، فاستوى العصبات وذوو الأرحام من جهة الوالدين، كما قلنا في منع الشهادة، والقصاص، والعتق.

(11/246)


[مسألة نفقة الأب واجبة على الابن]
] : وتجب نفقة الأب على الولد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] [الإسراء: 23] ، وقوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] [العنكبوت: 8] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] [لقمان: 15] ، ومن الإحسان والمعروف: أن ينفق عليه.
وروى ابن المنكدر: «أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي مالًا وعيالًا، ولأبي مال وعيال، ويريد أن يأخذ من مالي؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنت ومالك لأبيك»
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن أولادكم هبة من الله لكم، يهب لمن يشاء إناثًا، ويهب لمن يشاء الذكور، فهم وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها»
وروت أيضًا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه» .
وروى جابر: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إن أبي يأخذ مالي فينفقه، فقال الأب: إنما أنفقته يا رسول الله على إحدى عماته أو إحدى خالاته، فهبط جبريل، وقال: يا رسول الله، سل الأب عن شعر قاله، فسأله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال الأب: إن الله - وله الحمد - يزيدنا بك بيانًا يا رسول الله كل يوم، والله: لقد قلت هذا الشعر في نفسي، فلم تسمعه أذناي، ثم أنشأ يقول:
غذوتك مولودًا وعلتك يافعًا ... تعل بما أجني إليك وتنهل
إذا ليلة ضاقتك بالسقم لم أبت ... لسقمك إلا ساهرًا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به منه فعيناي تهمل

(11/247)


فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلت جوابي غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل
قال جابر: فقبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتلابيب الابن، وقال: " أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك " ثلاثًا» .

[فرع النفقة على الوالدة]
] : ويجب على الولد نفقة الأم.
وقال مالك: (لا يجب) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] [الإسراء: 23] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] [العنكبوت: 8] ، وقَوْله تَعَالَى:

(11/248)


{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] [لقمان: 15] ، ومن الإحسان والمعروف: أن ينفق عليها.
وروي: «أن رجلًا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، من أبر؟ فقال: " أمك "، قال: ثم من؟ قال: " أمك " إلى أن قال في الرابعة: أباك» ومن البر: أن ينفق عليها.
ولأنها تعتق عليه إذا ملكها، ولا يجب عليها القصاص بجنايتها عليه، ولا تقبل شهادته لها، فوجبت لها النفقة عليه، كالأب.
ويجب على الولد نفقة الأجداد والجدات وإن علوا من قبل الأب والأم.
وقال مالك: (لا يجب عليه) .
دليلنا: أن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة، فأوجبت النفقة، كالأبوة.

[فرع النفقة على القرابة المسلمين وغيرهم]
نفقة القرابة تجب مع اتفاق الدين ومع اختلافه، فإن كان أحدهما مسلمًا والآخر كافرًا.. لم يمنع ذلك من وجوب النفقة؛ لأنه حق يتعلق بالولادة، فوجب مع اتفاق الدين واختلافه، كالعتق بالملك.
ولا تجب النفقة لغير الوالدين والمولودين من القرابة، كالأخ وابن الأخ والعم وابن العم.
وقال أبو حنيفة: (تجب لكل ذي رحم محرم، فتجب عليه نفقة الأخ وأولاده، والعم والعمة، والخال والخالة. ولا تجب عليه نفقة أولاد العم، ولا أولاد العمة، ولا أولاد الخال، ولا أولاد الخالة) .

(11/249)


وقال أحمد: (تجب عليه نفقة كل من كان وارثًا، كالأخ وابن الأخ، والعم وابن العم، ولا تجب عليه نفقة ابنة الأخ، والعمة، وابن العمة، وابنة العم) .
وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (تجب عليه نفقة كل قريب معروف النسب منه) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، معي دينار؟ فقال: " أنفقه على نفسك "، قال: معي آخر؟ قال: " أنفقه على ولدك "، قال: عندي آخر؟ قال: " أنفقه على أهلك "، قال: معي آخر؟ قال: " أنفقه على خادمك "، قال: معي آخر؟ قال: أنت أعلم به» ولم يأمره أن ينفقه على أقاربه، فدل على: أنه لا يجب عليه نفقة أقاربه.
فإن قيل: فلم يذكر الوالد، ومع هذا فنقته واجبة؟
قلنا: قد نص على نفقة الولد فنبه بذلك على نفقة الوالد؛ لأنه أكمل وآكد حرمة من الولد.
ولأن من سوى الوالدين والمولودين من القرابة لا يلحق بهم في الحرمة، فلم يلحق بهم بوجوب نفقتهم.
ولأنها قرابة لا تستحق بها النفقة مع اختلاف الدين، فلم تستحق بها النفقة مع اتفاق

(11/250)


الدين، كابن العم مع أبي حنيفة، وكغير الوارث مع أحمد. وعكسه قرابة الوالدين والمولودين..

[مسألة النفقة على القريب مواساة]
ولا يستحق القريب النفقة على قريبه حتى يكون المنفق منهما موسرًا بنفقة قريبه، وهو أن يفضل عن قوت نفسه وقوت زوجته في يومه وليلته؛ لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان أحدكم فقيرًا.. فليبدأ بنفسه، فإن فضل.. فعلى عياله، فإن فضل.. فعلى قرابته» وإنما قدمت نفقة الزوجة على نفقة القريب؛ لأنها تجب لحاجته إليها، ونفقة القريب مواساة، فقدمت نفقتها عليه، كما تقدم نفقة نفسه، ولأن نفقة الزوجة تجب بحكم المعاوضة، فقدمت على نفقة القريب كما يقدم الدين.
وإن كان مكتسبًا، فاكتسب ما ينفق على نفسه وزوجته، وفضل عن قوت يومه وليلته فضل.. لزمه أن ينفق على قرابته؛ لأن الكسب في الإنفاق يجري مجرى الغنى بالمال، ولهذا روي: «أن رجلين سألا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعطيهما من الصدقة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أعطيكما بعد أن أعلمكما أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» فجعل الاكتساب بمنزلة الغنى بالمال.
وإن كان للمنفق عقار.. وجب أن يبيعه للإنفاق على قرابته.
وقال أبو حنيفة: (لا يباع) .

(11/251)


دليلنا: أن نفقة القريب تجب فيما فضل عن قوت المنفق في يومه وليلته، والعقار يفضل عن قوت يومه وليلته، فوجب أن يبيعه للإنفاق على القريب، كالأثاث.
ولا يستحق القريب النفقة على قريبه حتى يكون المنفق عليه معسرًا غير قادر على الكسب؛ لصغر، أو جنون، أو زمانة، أو كبر، فإن كان له مال يكفيه.. لم تجب نفقته على قريبه؛ لأن إيجاب نفقة القريب على قريبه مواساة، والغني بماله لا يستحق المواساة.
وإن كان له كسب، وهو قادر على أن يكتسب ما يكفيه.. لم تجب له نفقة على قريبه؛ لأن الكسب في باب الإنفاق يجري مجرى الغنى بالمال.
وإن كان صحيحًا، إلا أنه غير مكتسب، فإن كان من الوالدين.. ففيه قولان:
أحدهما: تجب نفقته على الولد الموسر، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد؛ لأنه محتاج إلى الإنفاق، فأشبه الزمن.
والثاني: لا تجب نفقته على الولد؛ لأنه قادر على الاكتساب، فأشبه المكتسب. وإن كان الولد بالغًا صحيحًا محتاجًا غير مكتسب.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالوالدين.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: لا تجب نفقته، قولًا واحدًا؛ لأن حرمة الوالد آكد، فاستحق مع الصحة، والولد أضعف حرمة، فلم يستحق مع الصحة. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا بلغت الابنة.. لم تسقط نفقتها حتى تتزوج؛ لأنه لا يمكنها الاكتساب، فهي كالصغيرة) .
ودليلنا: أن كل معنى أسقط نفقة الابن.. أسقط نفقة الابنة، كاليسار. وما ذكره.. فلا يصح؛ لأنها يمكنها الغزل والخدمة.

(11/252)


[مسألة من يقدم في نفقة القريب]
وإن كان هناك قريب يستحق النفقة، واجتمع قريبان موسران، فإن كان هناك ولد صغير فقير، وله أبوان موسران.. كانت نفقته على الأب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] . فجعل أجرة الرضاع على الأب. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند امرأة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ولأنهما تساويا في الولادة، وانفرد الأب بالتعصيب، فقدم على الأم.
فإن اجتمع الأب والجد وهما موسران، أو اجتمعت الأم وأمها، أو الأم وأم الأب وهما موسرتان.. قدم الأب على الجد، وقدمت الأم على أمها وأم الأب؛ لأنها أقرب.
وإن اجتمعت الأم والجد أبو الأب وهما موسران.. كانت النفقة على الجد دون الأم، وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (ينفقان عليه على قدر ميراثهما، فيكون على الأم ثلث النفقة، وعلى الجد الثلثان) .
دليلنا: أنه اجتمع عصبة مع ذات رحم ينفق كل واحد منهما على الانفراد، فقدم العصبة، كالأب إذا اجتمع مع الأم.
فإن اجتمع الجد أبو الأب وإن علا مع الجد أبي الأم وهما موسران.. وجبت النفقة على الجد أبي الأب؛ لأن الجد يقدم على الأم، فلأن يقدم على أبي الأم أولى.
وإن اجتمعت أم الأم وأبو الأم وهما موسران.. كانت النفقة عليهما نصفين؛ لأنهما متساويان في الدرجة، ولا مزية لأحدهما على الآخر في التعصيب، فاستويا في الإنفاق.
وإن اجتمعت أم الأم وأم الأب وهما موسرتان.. ففيه وجهان:

(11/253)


أحدهما: تجب النفقة عليهما نصفين، وهو الأصح؛ لأنهما متساويتان في الدرجة، ولا مزية لإحداهما على الأخرى بالتعصيب.
والثاني: تجب النفقة على أم الأب؛ لأنها تدلي بعصبة، ولأن الأب لو اجتمع هو والأم.. لقدم الأب في إيجاب النفقة، فقدم من يدلي به على من يدلي بها.
وهكذا الوجهان إذا اجتمعت أم الأب وأبو الأم.
فإن اجتمعت الأم وأم الأب وهما موسرتان.. قال الشيخ أبو حامد: فإن قلنا: إن أم الأم وأم الأب إذا اجتمعتا تقدم أم الأب؛ لأنها تدلي بعصبة.. قدمت هاهنا أم الأب على الأم؛ لأنها كالعصبة. وإن قلنا هناك: إنهما سواء.. قدمت الأم على أم الأب؛ لأنها أقرب منها.

[فرع نفقة الزمن على الابن أو الأب]
وإن كان الرجل فقيرًا زمنًا، وله ابن وأب موسران.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تجب نفقته على الأب؛ لأن وجوب النفقة على الأب منصوص عليها في القرآن، ووجوب النفقة على الابن مجتهد فيها.
والثاني: أن نفقته على الابن؛ لأنه أقوى تعصيبًا من الأب.
والثالث: تجب نفقته عليهما؛ لأنهما متساويان في الدرجة منه والتعصيب.
فإذا قلنا بهذا: فهل تجب عليهما نصفين، أو تعتبر بميراثهما منه؟ فيه وجهان، الأصح: أنها عليهما نصفان.
وإن اجتمع ابن وجد.. فمن أصحابنا من قال: هو كما لو اجتمع الابن والأب.
ومنهم من قال: يجب على الابن، وجهًا واحدًا؛ لأنه أقرب.
وإن كان فقيرا زمنًا، وله ابنان موسران أو ابنتان موسرتان.. وجبت نفقته بينهما نصفين؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
وإن كان له ابن موسر وابنة موسرة.. فقال أصحابنا البغداديون: تجب جميع النفقة

(11/254)


على الابن؛ لأنهما متساويان في الدرجة وللابن مزية بالتعصيب، فقدم في وجوب النفقة عليه، كالأب إذا اجتمع مع الأم.
وقال الخراسانيون من أصحابنا: تجب النفقة عليهما. وكيف تجب عليهما؟ فيه وجهان:
أحدهما - قال المسعودي [في " الإبانة "] : وهو الأصح -: تجب عليهما نصفين، وبه قال أبو حنيفة.
والثاني: تجب عليهما على قدر ميراثهما؛ فيجب على الابن ثلثا النفقة، وعلى الابنة ثلثها، وبه قال أحمد.
إذا ثبت هذا: فذكر ابن الصباغ: إذا كان له ابن ذكر وخنثى مشكل موسران.. فإن النفقة على الابن؛ لأن الخنثى يجوز أن تكون أنثى، فلا تجب عليه النفقة، فإن بان أن الخنثى رجل.. رجع عليه الابن بنصف ما أنفق؛ لأنه بان أنه كان مستحقًا عليه. وهذا على طريقة أصحابنا البغداديين.
فأما على طريقة الخراسانيين: فكم يجب على الخنثى؟ فيه وجهان:
أحدهما: النصف، وهو الأصح.
فعلى هذا: لا فرق بين أن يبين أنه رجل أو امرأة.
والثاني: يجب عليه بقدر ميراثه.
فعلى هذا: يجب عليه ثلث نفقته، وعلى الذكر النصف، ويبقى السدس من النفقة، فإن قال أحدهما: أدفع هذا السدس لأرجع به على من بان أنه عليه.. جاز فإن لم يدفعه أحدهما برضاه.. دفعاه بينهما نصفين. فإذا بان حال الخنثى.. رجع على من بان أنه غير مستحق عليه بما دفع منه.
قال ابن الصباغ: وإذا كان له بنت وخنثى مشكل.. ففيه وجهان:
أحدهما: تجب النفقة على الخنثى؛ لجواز أن تكون رجلًا، فإذا أنفق، ثم بان أنه رجل.. لم يرجع على أخته بشيء، وإن بان أنه أنثى.. رجعت على أختها بنصف ما أنفقت.

(11/255)


والثاني: أن النفقة بينهما نصفان - قال -: وهو الأقيس؛ لأنا لا نعلم كونه رجلًا، فإن بان أنه ذكر.. رجعت عليه البنت بما أنفقت، وإن بان أنه أنثى.. لم ترجع عليها أختها بشيء. وهذا على طريقة أصحابنا البغداديين.
فأما على طريقة الخراسانيين.. فعلى أصح الوجهين: تجب النفقة عليهما نصفين، ولا يرجع الخنثى بما أنفق على أخته بشيء، سواء بان أنه رجل أو امرأة.
وعلى الوجه الذي يقول: (تجب النفقة بينهما على قدر ميراثهما) يجب على كل واحد منهما ثلث النفقة، ويبقى الثلث، فإن اختار أحدهما أن يدفعه ليرجع به على من بان عليه.. جاز، وإن لم يختر أحدهما دفعه.. دفعاه بينهما، فيدفع كل واحد منهما نصف النفقة، فإن بان أن الخنثى امرأة.. لم ترجع إحداهما على الأخرى بشيء، فإن بان رجلًا.. رجعت عليه المرأة بثلث ما دفعت.

[فرع وجوب نفقة الأب على ذكر وخنثيين]
وإن كان له ثلاثة أولاد، ذكر وخنثيان.. فعلى طريقة أصحابنا البغداديين: تجب النفقة على الذكر، فإن بان الخنثيان امرأتين.. لم يرجع عليهما بشيء، وإن بانا رجلين.. رجع على كل واحد منهما بثلث ما أنفق، وإن بان أحدهما رجلًا والآخر امرأة.. رجع على الرجل بنصف ما أنفق.
وعلى طريقة الخراسانيين: تجب النفقة على الجميع، وكيف تجب عليهم؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو الأصح عندهم -: تجب بينهم بالسوية.
فعلى هذا: لا تراجع بينهم بحال.
والثاني: تجب عليهم على قدر مواريثهم.
فعلى هذا: يجب على الرجل ثلث النفقة، وعلى كل واحد من الخنثيين خمس النفقة؛ لأن ذلك هو اليقين.

(11/256)


قال القاضي أبو الفتوح: ويبقى من النفقة ربعها، تفرض عليهم. وهذا غلط، بل يبقى من النفقة أربعة أسهم من خمسة عشر سهماً، فإن قال أحدهم: أدفعها على أن أرجع بها على من بانت عليه عنده، ودفعها.. كان له الرجوع على من بانت عنده.
وإن لم يرض أحدهم بدفعها.. قسمت عليهم أثلاثاً، فتقسم النفقة على خمسة وأربعين سهماً، فيدفع الذكر منها تسعة عشر سهماً، ويدفع كل خنثى منهما ثلاثة عشر سهماً، فإن بانا امرأتين.. رجعا على الذكر بتمام النصف، فترجع عليه كل واحدة منهما بسهم وثلاثة أرباع سهم مما دفعت، وإن بانا رجلين.. رجع الذكر على كل واحد منهما بسهمين، وهو تمام الثلث، وإن بان أحدهما ذكراً والآخر امرأة.. رجعت المرأة على الذي بان رجلاً بأربعة أسهم، ورجع الذكر عليه بسهم.

[فرع نفقة الأب تجب على بنت وخنثيين]
إذا كان لرجل بنت وولدان خنثيان مشكلان.. فعلى طريقة أصحابنا البغداديين في النفقة وجهان:
أحدهما: أن جميع النفقة على الخنثيين، فإن بانا رجلين.. فلا رجوع لهما، وإن بانا امرأتين.. رجعت كل واحدة منهما على أختها التي لم تنفق معها بثلث ما أنفقت، وإن بان أحدهما رجلاً والآخر امرأة.. رجعت التي بانت امرأة على الذي بان رجلاً بجميع ما أنفقت.
والوجه الثاني: أن النفقة تجب عليهم أثلاثاً، فإن بانا امرأتين.. فلا تراجع، وإن بانا رجلين.. رجعت البنت بما أنفقت عليهما نصفين، وإن بان أحدهما رجلاً والآخر امرأة.. رجع المرأتان على الذي بان رجلاً بجميع ما أنفقاه.
وعلى طريقة الخراسانيين: يكون في النفقة أيضاً وجهان:

(11/257)


أحدهما: وهو الأصح عندهم -: أن النفقة تجب على الجميع بالسوية.
فعلى هذا: لا تراجع بينهم بحال.
والثاني: تجب عليهم على قدر مواريثهم.
فعلى هذا: يجب على البنت خمس النفقة، وهي أربعة أسهم من عشرين، وعلى كل واحد من الخنثيين ربع النفقة، وهو خمسة من عشرين؛ لأن هذا هو اليقين، وتبقى ستة أسهم، إن دفعها أحدهم ليرجع بها على من بانت عنده.. جاز، وإلا.. قسمت عليهم أثلاثاً بينهم.
فإن بانا امرأتين.. رجع كل واحد من الخنثيين على البنت بثلث سهم، وإن بانا رجلين.. رجعت البنت على كل واحد منهما بسهم، وإن بان أحدهما رجلاً والآخر امرأة.. رجعت البنت الأصلية عليه بسهم، ورجعت عليه البنت الخنثى بسهمين.
والمشهور: طريقة أصحابنا البغداديين.

[فرع وجوب نفقة البنت أو ابنها على أبيها]
وإن كان له بنت وابن بنت موسران.. فحكى الشيخ أبو إسحاق فيه قولين، وحكاهما ابن الصباغ عن القاضي أبي حامد وجهين:
أحدهما: تجب النفقة على البنت؛ لأنهما يستويان في عدم التعصيب، والبنت أقرب، فكانت أولى بالإيجاب عليها.
والثاني: تجب على ابن البنت؛ لأنه أقدر على النفقة بالذكورية.
وإن كان له بنت ابن وابن بنت.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها ابن الصباغ:
أحدها: تجب النفقة على بنت الابن؛ لأنها تدلي بعصبة، وقد تكون عصبة من أخيها.
والثاني: تجب النفقة على ابن البنت؛ لأنه أقوى على النفقة بالذكورية.
والثالث: تجب النفقة عليهما بالسوية؛ لأنهما متساويان في الدرجة وعدم التعصيب.

(11/258)


وإن كان له أم وبنت موسرتان.. كانت النفقة على البنت.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (يكون على الأم ربع النفقة، والباقي على البنت) .
دليلنا: أن البنت قد تكون عصبة مع أخيها، بخلاف الأم.

[فرع النفقة على القريب الموسر]
] : وإن كان له قريبان موسران، أحدهما أبعد من الآخر، فحضر الأبعد، وغاب الأقرب.. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وجب على الحاضر أن ينفق، فإذا حضر الأقرب.. فهل يرجع عليه بما أنفق؟ فيه وجهان، الأصح: أن له أن يرجع عليه بما أنفق، وهذا إذا لم يوجد للغائب مال ينفق عليه منه، فإن كان له مال حاضر.. أنفق عليه منه، وإن لم يكن له مال وأمكن أن يقترض الحاكم عليه من بيت المال أو من إنسان.. اقترض عليه، ووجب عليه القضاء إذا حضر، وإن لم يمكن ذلك.. كان على الحاضر أن ينفق.
فإن بان أن الغائب كان معسراً أو ميتاً وقت النفقة.. لم يرجع عليه بشيء، بل تكون نفقته على الحاضر.
وهكذا: إذا كان له ابنان موسران، فحضر أحدهما وغاب الآخر.. كان على الحاضر نصف النفقة، فإن كان للغائب مال.. أنفق منه نصف النفقة، وإن لم يكن له مال، وأمكن أن يقترض عليه من بيت المال أو من إنسان من الرعية.. اقترض عليه الحاكم، فإن لم يمكن ذلك.. قال ابن الصباغ: لزم الحاضر أن يقترض؛ لأن نفقته عليه إذا انفرد.

[مسألة النفقة على القريب المعسر]
وإن كان من تجب عليه النفقة له قريبان معسران، فإن فضل عن قوت يومه وليلته ما يكفيهما.. لزمه أن ينفق عليهما، وإن لم يفضل عن قوته من نفقته إلا ما يكفي أحدهما،

(11/259)


بأن كان له أبوان معسران، ولا يجد إلا نفقة أحدهما.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تقدم الأم؛ لما روي: «أن رجلاً قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله، من أبر؟ قال: " أمك "، قال: ثم من؟ قال: " أمك " إلى أن قال في الرابعة: " ثم أباك» ، ولأن الأم عورة ليس لها بطش، والأب ليس بعورة، فكان تقديم الأم أولى.
والثاني: أن الأب يقدم؛ لأنهما متساويان في الولادة، وانفرد الأب بالتعصيب، فكان أولى، كما لو تقدم بدرجة؛ لأنهما لو كانا موسرين وهو معسر.. لكانت نفقته على الأب، فوجب أن يقدم الأب في تقديم نفقته، كما يقدم في وجوب نفقة الابن عليه.
والثالث: أنهما سواء، فيقسط ذلك بينهما؛ لاستوائهما في الولادة والإدلاء.

[فرع النفقة على الأب والابن المعسرين]
وإن كان له أب وابن معسران، ولا يقدر إلا على نفقة أحدهما.. فاختلف أصحابنا.
فقال الشيخ أبو حامد: إن كان الابن طفلاً.. فهو أولى بالتقديم؛ لأنه ناقص الخلقة والأحكام، والأب إما أن يكون زمناً أو مجنوناً، فيكون ناقص الخلقة أو ناقص الأحكام دون الخلقة.
وإن تساويا، بأن يكون الابن بالغاً زمناً فيكون ناقص الخلقة دون الأحكام، أو مراهقاً صحيحاً فيكون ناقص الخلقة، والأب زمن أو مجنون.. ففيه وجهان:

(11/260)


أحدهما: أن الابن أحق بالتقديم؛ لأن وجوب نفقة الابن ثبتت بنص الكتاب، ووجوب نفقة الأب على الابن مجتهد فيها.
والثاني: يقدم الأب؛ لأن حرمته آكد من حرمة الابن، بدليل: أن الأب لا يقاد من ابنه، والابن يقاد بالأب.
وقال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان من غير تفصيل:
أحدهما: الابن أولى.
والثاني: الأب أولى.
وقال القاضي أبو الطيب: فيه ثلاثة أوجه من غير تفصيل:
أحدها: الابن أولى.
والثاني: الأب أولى.
والثالث: هما سواء، فيقسم ذلك بينهما؛ لاستوائهما في الدرجة.

[فرع نفقة الأب والجد المعسرين]
] : وإن كان له أب وجد معسران، ولا يقدر إلا على نفقة أحدهما.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقدم الأب؛ لأنه أقرب، ولأنه يقدم في وجوب النفقة عليه، فقدم في وجوب النفقة له.
والثاني: أنهما سواء، فيقسم بينهما؛ لأن الأب لا يمنع وجوب نفقة الجد، بدليل: أنه لو قدر على نفقتهما.. لوجب عليه نفقتهما، فإذا لم يمنع الأب وجوب نفقة الجد وضاق ما في يده عنهما.. قسم بينهما، كالدينين.
وهكذا: إذا اجتمع ابن وابن ابن، أو أم وأم أم، ولم يقدر إلا على نفقة أحدهما.. فعلى الوجهين.

(11/261)


[مسألة النفقة على القريب غير مقدرة]
إذا وجبت عليه نفقة القريب.. فإنها تجب غير مقدرة، بل يجب له ما يكفيه؛ لأنها تجب للحاجة، فتقدرت بالكفاية.
وإن احتاج القريب إلى من يخدمه.. وجبت عليه نفقة خادمه، وإن كانت له زوجة.. وجبت عليه نفقتها؛ لأن ذلك من تمام الكفاية.
وتجب عليه الكسوة؛ لأن كل من وجبت عليه نفقة شخص.. وجبت عليه كسوته، كالزوجة.
وإن احتاج إلى مسكن.. وجب عليه سكناه؛ لأن عليه كفايته، وذلك من كفايته.
وإن مضت مدة ولم ينفق فيها على قريبه.. سقطت بمضي الزمان؛ لأنها تجب للحاجة، وقد زالت الحاجة.

[فرع هروب الزوج والقريب من النفقة يجعل أمرها في يد الحكام]
] : وإن وجبت عليه نفقة زوجته أو قريبه، فامتنع من إخراجها أو هرب.. فإن الحاكم ينظر في ماله:
فإن كان فيه من جنس النفقة.. دفع إليه النفقة منه.
وإن كان من غير جنس النفقة، فإن كان مما يحول، كالدراهم، والدنانير.. اشترى الحاكم منها الطعام والأدم، وصرفه إلى من وجبت له نفقته. وإن وجد له متاعاً.. باعه عليه، واشترى بثمنه ما يجب عليه من ذلك. وإن لم يجد له إلا العقار.. باعه عليه.
وقال أبو حنيفة: (لا يباع عليه المتاع والعقار إلا في موضع واحد، وهو: إذا جاء رجل إلى الحاكم، وقال: إن لفلان الغائب عندي سلعة أو عقاراً، وهذه زوجته لم ينفق عليها.. فإن الحاكم يبيع عليه السلعة والعقار، وينفق على زوجته من ثمن ذلك) .

(11/262)


دليلنا: أن ما جاز بيع الناض فيه بغير إذن من عليه الحق.. جاز بيع المتاع والعقار فيه بغير إذنه، كنفقة الزوجة.

[مسألة إعفاف من تجب له النفقة]
إذا وجبت على الولد نفقة الأب أو الجد من قبل الأب أو من قبل الأم، واحتاج الأب أو الجد إلى الإعفاف بزوجة أو جارية.. وجب على الولد أن يعفه بذلك إذا قدر على ذلك.
قال ابن خيران: وفيها قول آخر: أنه لا يجب عليه ذلك. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه قريب، فلم يستحق الإعفاف، كالابن.
والأول أصح؛ لأنه معنى يحتاج إليه ويستضر بفقده، فلزمه، كالنفقة، والكسوة، ويخالف الابن، فإن الأب آكد حرمة منه، فوجب له ما لا يجب له.
وإن كان الوالد معسراً صحيحاً غير مكتسب، فإن قلنا: تجب نفقته على الولد.. وجب عليه إعفافه، وإن قلنا: لا تجب نفقته عليه.. ففي إعفافه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه إعفافه؛ لأنه لا تجب عليه نفقته، فلم يجب عليه إعفافه، كالموسر.
والثاني: يجب عليه إعفافه؛ لأن نفقته يمكن إيجابها في بيت المال، بخلاف الإعفاف.
وإذا وجب على الولد الإعفاف.. فهو بالخيار: بين أن يملكه جارية يحل له وطؤها، أو يدفع له مالاً يشتري به جارية، أو يشتريها له بإذنه، أو يدفع إليه مالاً ليتزوج به، أو يتزوج له بإذنه.

(11/263)


ولا يجوز أن يزوجه أمة؛ لأنه صار مستغنياً به، ولا يعفه بقبيحة ولا بعجوز لا استمتاع بها؛ لأنه لا يحصل المقصود بذلك.
فإن ملكه جارية، أو دفع إليه مالاً، فتزوج به امرأة، ثم أيسر الأب.. لم يلزمه رد ذلك؛ لأنه قبض ذلك وهو يستحقه.
فإن طلق الزوجة، أو أعتق الأمة.. لم يلزم الولد أن يعفه ثانياً؛ لأنه فوت ذلك على نفسه.
وإن ماتت الزوجة أو الأمة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه إعفافه ثانياً؛ لأنه إنما يجب عليه إعفافه مرة، وقد فعل.
والثاني: يلزمه أن يعفه ثانياً، وهو الأصح؛ لأنه لا صنع له في تفويت ذلك.

[مسألة ما يجب على الأم من الرضاعة للولد]
وإن ولدت المرأة ولداً.. وجب عليها أن تسقيه اللبأ حتى يروى؛ لأنه لا يعيش إلا بذلك.
فإن كان للطفل مال.. وجبت أجرة إرضاعه في ماله، كما تجب نفقته إذا كان كبيراً في ماله.
وإن لم يكن له مال.. وجبت أجرة إرضاعه على من تجب عليه نفقته لو كان كبيراً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] .
ولا يجب إرضاعه إلا في حولين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] .
وإن كان الولد من زوجته والأب ممن تجب عليه نفقة الولد.. لم تجبر الأم على إرضاعه، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال أبو ثور: (تجبر على إرضاعه) .
وعن مالك روايتان:
إحداهما: كقول أبي ثور.

(11/264)


والثانية - وهي المشهورة عنه -: (إن كانت شريفة.. لم تجبر على إرضاعه، وإن كانت دنيئة.. أجبرت على إرضاعه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] .. وإذا امتنعت.. فقد تعاسرت.
ولأنها لا تجبر على نفقة الولد مع وجود الأب، فكذلك الرضاع.
إذا ثبت هذا: فإن تطوعت بإرضاعه.. فالأولى للأب أن لا يمنعها من ذلك؛ لأن الرضاع حق للولد، والأم أشفق عليه، ولبنها
أصلح له.
وهل يلزمه أن يزيدها على نفقتها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن نفقة الزوجة مقدرة بحال الزوج، فلو قلنا: تجب الزيادة لأجل الرضاع.. لكانت نفقتها مقدرة بحالها، فلم يلزمه ذلك، كما لو كانت رغيبة في الأكل.. فإنه لا تلزمه الزيادة في نفقتها.
والثاني: تلزمه الزيادة على نفقتها، وهو قول أبي سعيد الإصطخري، وأبي إسحاق؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] فخص حال الولادة بذكر إيجاب النفقة، ولا فائدة بذكر وجوبها في الولادة إلا وجوب الزيادة. ولأن العادة جرت أن المرضعة تحتاج من الطعام أكثر من غيرها.
فعلى هذا: يجتهد الحاكم في قدر الزيادة على ما يراه.
وإن استأجر امرأته على الرضاع.. فهل يصح عقد الإجارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح، وبه قال أحمد؛ لأن كل عقد صح أن يعقده الزوج مع غير الزوجة.. صح أن يعقده مع الزوجة، كالبيع.
والثاني: لا يصح، وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره. وكذلك: لو استأجرها لخدمة نفسه؛ لأن الزوج يملك الاستمتاع بها في جميع الأوقات، إلا في الأوقات المستحقة للعبادات، فإذا أجرت نفسها.. لم يتمكن من استيفاء حقه إلا بتعطيل حقه من الاستمتاع، فلم يصح، كما لو أجر العبد نفسه من سيده.

(11/265)


فإذا قلنا بهذا: واستأجرها على إرضاعه بعوض، فأرضعته.. فهل تستحق أجرة المثل؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا تستحق ذلك؛ لأنها لو استحقت أجرة في ذلك.. لجاز لها عقد الإجارة لذلك.
والثاني: تستحق أجرة المثل؛ لأن هذه منفعة لا يجب عليها بذلها، فإذا بذلتها بعوض ولم يحصل لها العوض.. وجب لها عوض المثل، كسائر منافعها.

[فرع أبان امرأته المرضعة]
وإن أبان الرجل امرأته وله منها ولد يرضع.. لم يملك إجبارها على إرضاعه؛ لأنه إذا لم يملك إجبارها على إرضاعه حال الزوجية.. لم يملك إجبارها بعد الزوجية.
فإن تطوعت بإرضاعه.. لم يجز للأب انتزاعه منها؛ لأنها لا حق له في استمتاعها.
وإن استأجرها على إرضاعه.. صح ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] ولأنه لا يملك الاستمتاع بها، بخلاف ما لو استأجرها في حال الزوجية.
فإن طلبت منه أجرة المثل، ولا يجد الأب من ترضعه بغير أجرة ولا بدون أجرة المثل.. وجب عليه بذل ذلك لها، ولم يجز له انتزاعه منها؛ لأن الرضاع حق للولد، ولبن الأم أنفع له من لبن غيرها.
وإن طلبت منه أكثر من أجرة المثل، والأب يجد من يتطوع بإرضاعه بغير أجرة أو بأجرة المثل.. كان له انتزاعه منها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] . وإذا طلبت أكثر من أجرة المثل.. فقد تعاسرت.
وإن طلبت أجرة المثل، ووجد الأب من يرضعه بدون أجرة المثل أو من يرضعه بغير أجرة.. فقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان:

(11/266)


أحدهما: أن الأم أحق برضاعه بأجرة المثل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] . ولم يفرق. ولما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأم أحق بحضانة ولدها ما لم تتزوج» . ولأن الرضاع حق للولد، ولبن الأم أنفع له
وأصلح،
فكانت أولى.
والثاني: أن للأب أن ينتزعه منها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] و (التعاسر) : هو الشدة والتضايق، فإذا وجد الرجل من يرضعه بدون أجرة المثل أو بغير أجرة، وطلبت الأم أجرة المثل.. فقد تعاسرت، فكان له نزعه منها. ولأن نفقة إرضاع الطفل كنفقة المراهق، ولو وجد من يتطوع بالإنفاق على المراهق.. لم يجب على الأب نفقته، فكذلك إذا وجد من يتطوع بإرضاع الطفل.. لا تجب أجرة المثل على الأب.
وقال أبو إسحاق: للأب انتزاعه منها، قولا ًواحداً، والقول الآخر لا يعرف في شيء من كتب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وقال أبو حنيفة: (للأب انتزاعه، ولكن لا يسقط حق الأم من الحضانة، فتأتي المرضعة وترضعه عند الأم) .
ودليلنا: أن الحضانة تابعة للرضاع، فإذا سقط حقها من الرضاع.. سقط حقها من الحضانة.
إذا ثبت هذا: فإن ادعى الأب: أنه يجد من يرضعه بغير أجرة أو بدون أجرة

(11/267)


المثل، وقلنا: له انتزاعه، فإن صدقته الأم أنه يجد ذلك.. كان له انتزاعه منها، وإن كذبته.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة في ذلك، فقبل قوله مع يمينه، فإذا حلف.. انتزعه من يد الأم، وسلمه إلى المرضعة، ولا تمنع الأم من زيارته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا توله والدة بولدها» .

[مسألة نفقة العبد والأمة على السيد]
ويجب على السيد نفقة عبده وأمته وكسوتهما؛ لما «روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الرجل الذي قال: معي دينار، قال: " أنفقه على نفسك "، قال: معي آخر، قال: " أنفقه على ولدك "، قال: معي آخر، قال: " أنفقه على أهلك "، قال: معي آخر، قال: " أنفقه على خادمك» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق» . وهو إجماع لا خلاف فيه.
فإن كان العبد غير مكتسب، بأن كان صغيراً، أو مريضاً، أو كبيراً زمناً.. فنفقته على سيده إلى أن يزول ملكه عنه ببيع، أو هبة، أو عتق، أو موت.
وإن كان مكتسباً.. فالسيد بالخيار: بين أن يجعل النفقة في كسبه، وبين أن يأخذ كسبه وينفق عليه من عنده.
فإن أنفق عليه من عنده.. أخذ جميع كسبه.
وإن اختار أن يجعل نفقته في كسبه، فإن كان كسبه وفق نفقته.. فلا كلام، وإن كان كسبه أكثر من نفقته.. كان الفضل للسيد، وإن كان الكسب أقل من نفقته.. كان على السيد تمام نفقته.
ويجب على السيد نفقة العبد من غالب قوت البلد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «للمملوك طعامه

(11/268)


وكسوته بالمعروف» . و (المعروف) : هو ما يقتاته أهل البلد. ولا يعتبر بما يأكله السيد؛ لأن السيد قد يأكل أعلى من قوت البلد، وقد يرضى لنفسه بدون قوت البلد.
فإن قيل: فقد روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون» .
فالجواب: أن هذا خرج جواباً على سؤال سائل، وكان السائل من العرب، وكان طعامهم ولباسهم من جنس واحد.
وأما قدر طعامه: فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: يجعل قدر قوته حكم الغالب، ولا يؤخذ بالشاذ النادر؛ لأنه قد يكون مملوكاً يخرج عن العادة بكثرة الأكل، وقد يكون خارجاً من العادة بقلة الأكل، فيعتبر الغالب ويقال: الغالب في العادة أن قوت هذا في اليوم كذا وكذا، فيدفع إليه.
وقال ابن الصباغ: عندي: إذا كان لا يكفيه الغالب واعترف السيد بذلك.. أن يلزمه ما يكفيه، فإذا كان يكفيه أقل من الغالب.. لم يلزمه أن يدفع إليه إلا قدر كفايته؛ لأن العبد لا طريق له إلى تحصيل شيء إلا من جهة كسبه، وكسبه لسيده.

[فرع المملوك الطاهي لسيده]
وإن كان المملوك يلي إصلاح طعام سيده.. فيستحب للسيد أن يجلسه معه ويطعمه معه منه، أو يطعمه منه؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كفى أحدكم خادمه طعامه، حره ودخانه.. فليدعه، فليجلسه معه، فإن أبى.. فليروغ له لقمة أو

(11/269)


لقمتين» ، ولأن الإنسان إذا ولي طعاماً.. اشتهى أن يأكل منه، فاستحب أن يطعم منه، كما يستحب لمن قسم الميراث أن يرزق من حضر القسمة منها.
وأيهما أفضل؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الأفضل أن يجلسه معه ليأكل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ به، ولأنه إذا أكل معه أكل قدر كفايته.
و [الثاني] : منهم من قال: ليس أحدهما أفضل من الآخر، بل إن شاء.. أجلسه معه، وإن شاء.. أطعمه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيره: بين أن يجلسه وبين أن يروغ له لقمة أو لقمتين، و (الترويغ) : أن يرويه بالدهن والدسم. والأول أصح.

[فرع كسوة المملوك]
ويجب للملوك كسوته؛ للخبر، وتجب الكسوة من غالب كسوة أهل البلد.
فإن كان له جماعة عبيد.. لم يستحب له أن يفضل بعضهم على بعض في الكسوة؛ لأن المقصود منهم جميعاً هو الخدمة.
وإن كان له جماعة إماء، فإن لم يتسر واحدة منهن.. لم يستحب له أن يفاضل بينهن في الكسوة، كما قلنا في العبيد.
وإن تسرى بعضهن.. فهل يستحب له أن يفضل من تسراها بالكسوة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يستحب له تفضيلها بالكسوة، كما لا يستحب له تفضيلها بالطعام.
والثاني: يستحب له تفضيلها بالكسوة، وهو الأصح؛ لأن العرف أن الجارية التي يتسراها تفضل في الكسوة، ولأن غرضه تجميل من يريدها للاستمتاع.

(11/270)


[فرع تكليف المملوك بما يقدر عليه]
ولا يكلف عبده وأمته من العمل إلا ما يطيقان الدوام عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق» . قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (يعني: إلا ما يطيق الدوام عليه، لا ما يطيق يوماً أو يومين أو ثلاثة، ثم يعجز) . ولأن ما لا يمكنه الدوام عليه.. يلحقه الضرر بفعله، فلم يكلفه إياه.
وإن أتت أمته بولد من نكاح أو زناً، فإن كان لبنها وفق ولدها.. لم يكن للسيد أن يؤاجرها للرضاع؛ لأنها إذا أرضعت مع ولدها آخر.. أضر بولدها، وذلك لا يجوز، وإن كان لبنها فوق كفاية ولدها، أو كان ولدها يستغني عن لبنها بالطعام والشراب.. فللسيد أن يسترضعها فيما لا يحتاجه ولدها؛ لأنه لا ضرر على ولدها بذلك.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : فطام ولد أمته حق للسيد، وله أن يفطمه قبل الحولين إذا لم يضر بالولد، بخلاف ولد الزوجين، فإنه لا يفطم قبل الحولين إلا باتفاقهما، وأما بعد الحولين: فمن طلب الفطام منهما أجيب إليه.

[فرع طلب العطاء والإتاوة من أجر العبد]
وإن أراد السيد أن يخارج عبده أو أمته، فقال السيد: خارجتك على أن تعطيني كل يوم من كسبك كذا، والباقي لك، ورضي العبد بذلك.. نظرت:
فإن كان كسبه يفي بما جعله السيد لنفسه وبنفقة العبد.. جاز ذلك، ولم يكره؛ لأنه إذا فعل ذلك.. حرص العبد في الكسب، وربما حصل له أكثر من المعتاد، فيوسع على نفسه في النفقة.
وإن كان كسبه لا يفي بهما في العادة.. لم يكن له ذلك، ومنعه السلطان من

(11/271)


ذلك؛ لما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال في خطبته: (لا تكلفوا الصغير الكسب، فإنكم متى كلفتموه الكسب.. سرق، ولا تكلفوا الأمة غير ذات الصنعة الكسب، فإنكم متى كلفتموها الكسب.. كسبت بفرجها) .
وإن طلب السيد أن يخارج عبده، وامتنع العبد، أو طلب العبد المخارجة وامتنع السيد.. لم يجبر الممتنع منهما على المخارجة؛ لأن المخارجة معاوضة، فلم يجبر الممتنع منهما عليها، كالكتابة.

[مسألة النفقة على البهيمة والحيوان]
ومن ملك بهيمة.. لزمه القيام بعلفها، سواء كانت مما يؤكل أو مما لا يؤكل؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اطلعت في النار ليلة أسري بي، فرأيت امرأة فيها، فسألت عنها، فقيل: إنها ربطت هرة، فلم تطعمها ولم تسقها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت، فعذبها الله تعالى بذلك» . «واطلعت في الجنة، فرأيت امرأة مومسة - يعني: زانية - فسألت عنها، فقيل: إنها مرت بكلب يلهث من العطش، فأرسلت إزارها في بئر، ثم عصرته في حلقه، فغفر الله لها بذلك» . ولأن للبهائم حرمة بنفسها؛ ولهذا: (نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تعذيب الحيوان) ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل كبد حرى أجر» . فلو قلنا: لا يجب الإنفاق عليها.. أسقطنا حرمتها.

(11/272)


فإن كان في المصر.. لزمه الإنفاق على علفها.
وإن كان في الصحراء، فإن كان فيها من الكلأ ما يقوم بكفايتها، فخلاها للرعي.. لم يجب عليه العلف؛ لأنها تجتزئ بذلك. وقد أومأ الشافعي إلى: أن من البهائم من لا تجتزئ بالكلأ، ولا بد لها من العلف.
فقال أصحابنا البغداديون: هذا على عادة أهل مصر؛ لأن صحاريها يقل فيها العلف.
وقال الخراسانيون: إن كانت البهيمة مشقوقة الشفة العليا.. فإنها تجتزئ بالرعي عن العلف، وإن كانت غير مشقوقة الشفة العليا.. فلا تجتزئ بالرعي، ولا بد من علفها.
وإن لم يكن بها من الكلأ ما يقوم بها.. لزمه من العلف ما يقوم بها، فإن لم يعلفها، فإن كانت مما يؤكل.. جاز له أن يذبحها، وله أن يبيعها، وإن كانت مما لا يؤكل.. كان له بيعها، فإن امتنع من ذلك.. أجبره السلطان على علفها، أو بيعها، أو ذبحها إن كانت مما يؤكل، فإن لم يعلفها ولا باعها.. باعها عليه السلطان، أو أكراها وأنفق عليها من كرائها.
وقال أبو حنيفة: (لا يجبره السلطان على ذلك، بل يأمره به، كما يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر) .
ودليلنا: أنها نفقة واجبة، فإذا امتنع منها.. أجبره السلطان عليها، كنفقة العبد.
وإن كان للبهيمة ولد.. لم يحلب من لبنها إلا ما فضل عن لبن ولدها؛ لأن لبنها غذاء لولدها، فلا يجوز منعه منه، كما قلنا في ولد الجارية.
وبالله التوفيق والعون

(11/273)


[باب الحضانة]
إذا بانت الزوجة، وبينهما ولد.. نظرت:
فإن كان بالغاً رشيداً.. لم يجبر على الكون مع أحدهما، بل يجوز له أن ينفرد عنهما، إلا أن المستحب له: أن لا ينفرد عنهما؛ لئلا ينقطع بره وخدمته عنهما، وهل يكره له الانفراد عنهما؟ ينظر فيه:
فإن كان رجلا.. لم يكره له الانفراد عنهما.
وإن كانت امرأة، فإن كانت بكراً.. كره لها الانفراد عنهما؛ لأنها لم تجرب الرجال، ولا يؤمن أن تخدع، وإن كانت ثيباً فارقها زوجها.. لم يكره لها الانفراد عنهما؛ لأنها قد جربت الرجال، ولا يخشى عليها أن تخدع.
وقال مالك: (يجب على الابنة أن لا تفارق أمها حتى تتزوج ويدخل بها زوجها) .
دليلنا: أنها إذا بلغت رشيدة.. فقد ارتفع الحجر عنها، فكان لها أن تنفرد

(11/274)


بنفسها، ولا اعتراض عليها، كما لو تزوجت، ثم بانت عنه.
وإن كان الولد صغيراً لا يميز - وهو: الذي له دون سبع سنين - أو كبيراً إلا أنه مجنون أو مشتبه العقل.. وجبت حضانته؛ لأنه إذا ترك منفرداً.. ضاع.

[مسألة لا حضانة لرقيق ومعتوه ونحوه]
ولا تثبت الحضانة لرقيق؛ لأنه لا يقدر عليها مع خدمة مولاه، ولا تثبت لمن لم تكمل فيه الحرية؛ لأنه ناقص بالرق.
فإن زوج الرجل أمته فأتت بولد، أو زنت فأتت بولد.. فالولد مملوك لسيد الأمة، فإن تركه مع أمه.. فلا كلام، وإن أراد انتزاعه منها وتسليمه إلى غيرها.. فهل له ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأنه ملكه، يصنع به ما شاء.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه لما لم يكن له أن يفرق بينهما في البيع لئلا يضر بها.. لم يكن له ذلك في الحضانة.
ولا تثبت الحضانة لمعتوه ولا لمجنون؛ لأنه لا يصلح للحضانة.
ولا تثبت الحضانة لفاسق؛ لأنه لا يؤمن أن ينشئ الولد على طريقته.
وإن كان أحد الأبوين مسلماً.. فالولد للمسلم، ولا تثبت عليه الحضانة للكافر.
وقال أبو سعيد الإصطخري: تثبت للكافر على المسلم؛ لما «روى عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه، [عن جده] : أنه قال: أسلم أبي، وأبت أمي أن تسلم، فاختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " يا غلام، اذهب إلى أيهما شئت، إن شئت.. إلى أبيك، وإن شئت.. إلى أمك "، فتوجهت إلى أمي، فلما رآني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. سمعته يقول: " اللهم اهده "، فملت إلى أبي، فقعدت في حجره» .

(11/275)


والمذهب الأول؛ لأن الحضانة لحظ الولد، ولا حظ له في حضانة الكافر؛ لأنه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه.
وأما الحديث: فغير معروف عند أهل النقل، وإن صح.. فيحتمل أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه يختار أباه، فلهذا خيره، فيكون ذلك خاصاً لذلك الولد دون غيره.

[فرع زواج المطلقة يسقط حقها من الحضانة]
وإذا تزوجت المرأة.. سقط حقها من الحضانة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.
وقال الحسن البصري: لا يسقط حقها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] [النساء: 23] ولـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج أم سلمة ومعها بنتها زينب، فكانت عندها» .
«وروى ابن عباس: أن علياً وجعفراً ابني أبي طالب، وزيد بن حارثة تنازعوا في حضانة ابنة حمزة بن عبد المطلب، واختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال جعفر: أنا أحق بها، أنا ابن عمها، وخالتها تحتي. وقال علي: أنا أحق بها؛ أنا ابن عمها، وابنة

(11/276)


رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحتي - يعني: ابنة ابن عمها - وقال زيد: أنا أحق بها؛ لأنها ابنة أخي - وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخى بين حمزة وزيد بن حارثة - فقضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لخالتها، وقال: " الخالة أم ". فقضى بها للخالة وهي مزوجة» .
ودليلنا: ما روى «عبد الله بن عمرو بن العاص: أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وإن أباه طلقني، ويريد أن ينزعه مني، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنت أحق به ما لم تنكحي» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأم أحق بولدها ما لم تتزوج» . ولأنها إذا تزوجت.. استحق الزوج الاستمتاع بها إلا في وقت العبادة، فلا تقوم بحضانة الولد.
وأما الآية: فالمراد بها: إذا لم يكن هناك أب يستحق الحضانة، أو كان ورضي.
وأما زينب وابنة حمزة: فلأنه لم يكن هناك من النساء من يستحق الحضانة خالية من الأزواج.
إذا ثبت هذا: فإن طلقت الزوجة طلاقاً بائناً أو رجعياً.. عاد حقها من الحضانة.

(11/277)


وقال مالك: (لا يعود حقها من الحضانة بحال) .
وقال أبو حنيفة، والمزني: (إن كان الطلاق بائناً.. عاد حقها، وإن كان رجعياً.. لم يعد حقها؛ لأن الزوجية باقية بينهما) .
ودليلنا: أن حقها إنما سقط باشتغالها عن الحضانة باستمتاع الزوج، ولا يملك الزوج الاستمتاع بها بعد الطلاق البائن والرجعي، فعاد حقها من الحضانة.
وإن أعتق الرقيق، أو عقل المجنون والمعتوه، أو عدل الفاسق، أو أسلم الكافر.. عاد حقهم من الحضانة؛ لأن الحضانة زالت لمعنى، وقد زال ذلك المعنى، فعادت الحضانة.

[مسألة ثبوت الحضانة للوارثين من ذوي الأرحام]
ولا تثبت الحضانة لمن لا يرث من الرجال من ذوي الأرحام، كابن الأخت وابن الأخ للأم، وأبي الأم، والخال، وابن العم للأم؛ لأنه ذكر لا يرث، فأشبه الأجنبي.
قال الشيخ أبو إسحاق: لا تثبت الحضانة لابن البنت. وهذا الذي قاله لا يتصور في حضانة الصغير، وإنما يتصور في حضانة الكبير المجنون؛ لأنا قد قلنا: تجب حضانته كما تجب حضانة الصغير.
ولا تثبت الحضانة لمن أدلى من النساء والرجال بهؤلاء الرجال؛ لأن الحضانة إذا لم تثبت لهم بأنفسهم.. لم تثبت لمن أدلى بهم.

[مسألة الأم تقدم للحضانة مع جماعة النساء]
وإذا اجتمع النساء من القرابة، وهن يصلحن للحضانة، ولا رجل معهن، وتنازعن في حضانة المولود. قدمت الأم على غيرها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأم أحق بولدها ما لم تتزوج» ، ولأنها أقرب إليه وأشفق عليه.

(11/278)


فإن عدمت الأم.. انتقلت الحضانة إلى أمها، ثم إلى أم أمها وإن علت. فأما أمهات أبيها.. فلا مدخل لهن في الحضانة.
فإن عدمن الجدات من قبل الأم.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (تنتقل الحضانة إلى الأخوات والخالات، ويقدمن على أمهات الأب؛ لأنهن يدلين بالأم، وأمهات الأب يدلين بالأب، والأم تقدم على الأب، فقدم من يدلي بها على من يدلي بالأب) .
فعلى هذا: تكون الحضانة للأخت للأب والأم، ثم للأخت للأم، ويقدمان على الخالة؛ لأنهما أقرب؛ لكونهما ركضا مع الولد في رحم واحد، ثم تنتقل إلى الخالة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخالة أم» . فتكون الحضانة للخالة للأب والأم، ثم للخالة للأب، ثم للخالة للأم.
فإذا عدمن الأخوات للأب والأم، أو للأم، والخالات.. انتقلت الحضانة إلى أم الأب، ثم إلى أمهاتها الوارثات، ثم تنتقل إلى الأخت للأب، ثم إلى العمة، وتقدمان على أمهات الجد؛ لأن الأب أقرب من الجد، فقدم من يدلي به على من يدلي بالجد، ثم تنتقل إلى أمهات الجد الوارثات، الأقرب فالأقرب. هكذا ذكر الشيخ أبو إسحاق.
وقال ابن الصباغ، والطبري: تقدم الأخت للأب على الأخت للأم على هذا أيضاً.
و [الثاني] : قال في الجديد: (إذا عدم من يصلح للحضانة من أمهات الأم.. انتقلت الحضانة إلى أمهات الأب الوارثات، فإن عدم من يصلح لها من أمهات الأب.. انتقلت إلى أمهات الجد، ثم إلى أمهات أبي الجد. فإن عدم من يصلح لها من الجدات من قبل الأب.. انتقلت إلى الأخوات) . وبه قال أبو حنيفة؛ وهو الأصح؛ لأنهن جدات وارثات، فقدمن على الأخوات، كالجدات من قبل الأم.
ويقدمن الأخوات على الخالات والعمات؛ لأنهن أقرب، فتكون الحضانة للأخت

(11/279)


للأب والأم، ثم للأخت للأب، ثم للأخت للأم؛ لأنهن أقرب.
وقال أبو حنيفة، والمزني، وأبو العباس ابن سريج: (تقدم الأخت للأم على الأخت للأب؛ لأنها تدلي بالأم، والأخت للأب تدلي بالأب، فقدم من يدلي بالأم على من يدلي بالأب، كما تقدم الأم على الأب) .
والمذهب الأول؛ لأن الأخت للأب تقوم مقام الأخت للأب والأم في التعصيب، فقامت مقامها في الحضانة.
ثم تنتقل إلى الخالات، ويقدمن على العمات؛ لأنهن يدلين بالأم، فتكون الحضانة للخالة للأب والأم، ثم للخالة للأب، ثم للخالة للأم، ثم للعمة للأب والأم، ثم للعمة للأب، ثم للعمة للأم.
وعلى قول من قدم الأخت للأم على الأخت للأب: تقدم الخالة والعمة للأم على الخالة والعمة للأب.
والذي يقتضي المذهب: أن الحضانة لا تنتقل إلى الخالات إلا بعد عدم بنات الأخ وبنات الأخت؛ لأنهن أقرب، ولا تنتقل الحضانة إلى العمات إلا بعد عدم بنات الخالات.

[مسألة من يقدم للحضانة من الرجال]
وإن اجتمع الرجال ولا نساء معهم، وهم من أهل الحضانة.. قدم الأب على غيره من الرجال؛ لأن له ولاية عليه، ثم تنتقل إلى آبائه الوارثين الأقرب فالأقرب؛ لأنهم يلون عليه بأنفسهم، فقاموا مقام الأب، وهل تثبت الحضانة لغيرهم من العصبات؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا تثبت لهم الحضانة؛ لأنه لا معرفة لهم في

(11/280)


الحضانة، ولا يلون على ماله بأنفسهم، فلم يكن لهم حق في الحضانة، كالأجانب، إلا أن لهم تأديب الولد وتعليمه.
و [الثاني] : منهم من قال: تثبت لهم الحضانة، وهو المنصوص؛ لأن علياً وجعفراً ادعيا حضانة ابنة حمزة - لكونهما ابني عم - بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهما دعواهما بذلك.
وروى عمارة الجرمي قال: (خيرني علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين عمي وأمي) . ولأن له تعصيباً بالقرابة.. فثبت لها الحضانة، كالأب، والجد.
فعلى هذا: إذا عدم الأجداد.. قال الشيخ أبو إسحاق: انتقلت الحضانة إلى الأخ للأب والأم، ثم إلى الأخ للأب، ثم إلى ابن الأخ للأب والأم، ثم إلى ابن الأخ للأب، ثم إلى العم للأب والأم، ثم إلى العم للأب، ثم إلى ابن العم.
وقال ابن الصباغ: تنتقل إلى الأخ للأب والأم، ثم إلى الأخ للأب، ثم إلى الأخ للأم.
قال: وعلى قول أبي العباس - حيث قدم الأخت للأم على الأخت للأب - يكون هاهنا وجهان:
أحدهما: لا يقدم الأخ للأم على الأخ للأب؛ لأنه ليس من أهل الحضانة بنفسه، وإنما يستحق بقرابته بالأم، والأخ للأب أقوى، فقدم عليه.
والثاني: يقدم لإدلائه بالأم، وهي أقوى من الأب، فقدم من يدلي بها على من يدلي بالأب.
ثم بنو الإخوة وإن سفلوا، ثم العم، ثم بنو العم، ثم عم الأب، ثم بنوه.

(11/281)


[مسألة يقدم حق الأم وأمهاتها على غيرهن من النساء والرجال]
] : قال الشافعي: (ولا حق لأحد مع الأب غير الأم وأمهاتها) .
وجملة ذلك: أنه إذا اجتمع الرجال والنساء وهم من أهل الحضانة.. نظرت:
فإن اجتمع الأب والأم.. قدمت الأم على الأب؛ لما روى عبد الله بن عمرو: «أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنت أحق به ما لم تنكحي» ، ولأن الأم أشفق عليه، وولادتها له من طريق القطع، فقدمت عليه.
وإن اجتمع الأب مع أم الأم وإن علت.. قدمن على الأب؛ لأنهن يقمن مقام الأم في تحقق الولادة، ومعرفة الحضانة، فقدمن على الأب، كالأم.
وإن امتنعت الأم من الحضانة ولها أم.. ففيه وجهان:
أحدهما: وهو قول ابن الحداد -: أن الحضانة تنتقل إلى الأب، ولا تنتقل إلى أم الأم؛ لأنه لا حق لأم الأم مع بقاء الأم، فلم تنتقل إليها، كالولي إذا عضل عن النكاح.. فإن الولاية لا تنتقل إلى من دونه من الأولياء.
والثاني: أن الحضانة تكون لأم الأم، وهو اختيار القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ؛ لأنه لا حق للأب في الحضانة مع وجود أم الأم، فإذا امتنعت الأم من الحضانة.. انتقلت إلى أمهاتها، كما لو ماتت أو فسقت أو جنت، وتخالف ولاية النكاح، فإن الحاكم يقوم مقام العاضل، وهنا لا مدخل للحاكم في الحضانة بنفسه، فلم يقم مقام غيره.
وإن اجتمع الأب وأم نفسه.. قدم الأب.
ومن أصحابنا من قال: تقدم أم الأب وأمهاتها عليه؛ لأن حضانة النساء
أصلح

(11/282)


للصغير وأوفق له. قال القاضي أبو الطيب: وهذا يقتضي أن تكون حضانة الأخوات والخالات والعمات أولى من الأب، وهو خلاف النص؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (ولا حق لأحد مع الأب غير الأم وأمهاتها) ، ولأنها تدلي به، فلم تقدم عليه.
وإن اجتمع الأب مع الأخت للأم أو مع الخالة.. ففيه وجهان:
أحدهما: تقدمان على الأب، وهو قول أبي العباس، وأبي سعيد الإصطخري، وأبي حنيفة؛ لأن لهما معرفة بالحضانة، وتدليان بالأم، فقدمتا على الأب، كأمهات الأم.
والثاني - وهو المنصوص -: (أن الأب يقدم عليهما؛ لأن له ولادة وإرثاً، فقدم عليهما، كالأم) .

[فرع تعيين من له الحضانة بحضرة الأب]
وإن اجتمع الأب وأم الأب والأخت للأم أو الخالة، فإن قلنا بقوله القديم: (إن أم الأب تسقط بالأخوات والخالات) .. بنينا هاهنا على الوجهين في الأب: هل يسقط الأخت للأم والخالة؟
إن قلنا: إنه يسقطهما.. كانت الحضانة للأب.
وإن قلنا: إنهما يقدمان عليه.. كانت الحضانة للأخت للأم، ثم للخالة، ثم للأب، ثم لأمه.
وإن قلنا بقوله الجديد: (أن أم الأب تسقط الأخوات والخالات) .. بنينا على الوجهين أيضاً في الأب إذا اجتمع مع أم نفسه.
فإن قلنا: تقدم عليه.. كانت الحضانة لها.
وإن قلنا: إنه يسقطها.. بنيت على الوجهين في الأب إذا اجتمع مع الأخت للأم أو الخالة.
فإن قلنا بالمنصوص: (أن الأب يسقطهما) .. كانت الحضانة للأب؛ لأنه يسقطهما ويسقط أم نفسه، فكانت الحضانة له.

(11/283)


وإن قلنا بقول أبي العباس، وأبي سعيد الإصطخري: إنهما يسقطان الأب.. فهاهنا وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: تكون الحضانة للأب؛ لأن الأخت والخالة تسقطان بأم الأب، وأم الأب تسقط بالأب، فصارت الحضانة له، وقد يحجب الشخص غيره من شيء ثم يحصل ذلك الشيء لغير الشخص الحاجب، كما تحجب الأخوات الأم من الثلث إلى السدس ويكون للأب.
و [الثاني] : قال أبو العباس: تكون الحضانة للأخت أو الخالة؛ لأن الأب يسقط أم نفسه، والأب يسقط بالأخت أو بالخالة، فبقيت الحضانة لهما.
وإن اجتمع الأب والأخت للأب والأم، فإن قلنا: إن الأب يقدم على الخالة.. قدم الأب على الأخت للأب والأم، وإن قلنا: إن الخالة تقدم على الأب.. فهاهنا وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد، عن أبي سعيد الإصطخري:
أحدهما: أن الأخت أحق؛ لأن الأخت تسقط الخالة، والخالة تسقط الأب، فإذا سقط الأب مع من تسقطه الأخت.. فلأن يسقط معها أولى.
والثاني - وهو الأصح -: أن الأب أحق؛ لأن الأخت تدلي به، فلا يجوز أن يكون المدلي أولى من المدلى به.
وإن اجتمع أب وأخت لأب وخالة، فإن قلنا: إن الأب يسقط الخالة.. كانت الحضانة للأب، وإن قلنا: إن الخالة تسقط الأب.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الحضانة للأخت؛ لأن الأخت تسقط الخالة، والأب يسقط بالخالة، فإذا أسقطته الخالة.. فلأن يسقطه من يسقط الخالة أولى.
والثاني: أن الحضانة للأب؛ لأن الأخت تسقط الخالة، والأخت تسقط بالأب؛ لأنها تدلي به، فتصير الحضانة للأب، ولا يمتنع أن يسقط الشخص غيره من شيء ثم يحصل ذلك الشيء لغيره، كما قلنا في حجب الإخوة للأم عن الثلث إلى السدس.

(11/284)


والثالث: أن الحضانة للخالة؛ لأن الخالة تسقط الأب، والأب يسقط الأخت، فإذا سقطا.. بقيت الحضانة للخالة.

[فرع من يقدم على الأب يقدم على الجد]
وإن لم يكن أب، واجتمع الجد، والأم، وأم الأم وإن علت.. قدمن على الجد، كما يقدمن على الأب.
وإن اجتمع الجد وأم الأب.. قدمت عليه؛ لأنها مساوية في الدرجة، ولها ولادة، فقدمت عليه، كما تقدم الأم على الأب.
وإن اجتمع الجد والأخت للأم أو الخالة.. ففيه وجهان، كما لو اجتمعا مع الأب.
وإن اجتمع الجد والأخت للأب.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقدم عليها؛ لأن له ولادة وتعصيباً، فقدم عليها، كالأب.
والثاني: تقدم عليه؛ لأنها تساويه في الولادة، وتنفرد بمعرفة الحضانة، فقدمت عليه، كما قدمت الأم على الأب.

[فرع تساوي الرجال والنساء في الحضانة غير الأب والجد]
وإن اجتمع رجل من العصبات غير الأب والجد مع من يساويه في الدرجة من النساء كالأخ والأخت، والعم والعمة، وابن العم وابنة العم، وقلنا: إن لهم حقاً في الحضانة.. فأيهما أحق بالتقديم؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الرجل أحق بالحضانة؛ لأنه أحق بتأديبه وتعليمه، فكان أحق بحضانته.
والثاني: أن المرأة أحق بالحضانة؛ لأنها تساويه في الدرجة، وتنفرد بمعرفة

(11/285)


الحضانة، فقدمت عليه، كما قدمت الأم على الأب.
وإن اجتمع شخصان في درجة واحدة، كالأختين.. أقرع بينهما؛ لأنهما لا مزية لإحداهما على الأخرى.

[فرع ثبوت الحضانة للخنثى]
قال القاضي: إذا كان لطفل أخت لأب وأم، وخنثى لأب وأم.. فالحضانة للأنثى دون الخنثى.
وإن كان له أخت لأب، وخنثى لأب وأم.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الخنثى أولى.
والثاني: أن الأخت أولى.
وإن اجتمع خنثيان: أحدهما خال، والآخر عم.. فالحضانة للخال؛ لأنه لما تقابلت أحوالهما.. قوي الخال لقوة إدلائه بالأم؛ لأن الغالب أن أحكام الخنثى حكم المرأة.
فإن عدم من تصلح للحضانة من النساء والعصبات من الرجال، وهناك رجل من رجال ذوي الأرحام.. ففيه وجهان:
أحدهما: تثبت له الحضانة؛ لأن الحضانة لحظ الصغير، وهو أشفق عليه من الأجنبي.
والثاني: أنه لا حق له في الحضانة، بل يستأجر السلطان من يراه يصلح لها؛ لأنه لا حق له في الحضانة في الأصل، فكانت إلى السلطان، كالميراث.
والمستحب للسلطان: أن يقيم لها من يصلح لها منهم؛ لأنهم أشفق عليه من غيرهم.

(11/286)


وإن ثبتت الحضانة لشخص وكان غائباً.. كانت الحضانة لمن بعده في الدرجة؛ لأن الغائب بمنزلة المعدوم، فإذا حضر الغائب نقل الصغير إليه؛ لأن الحضانة له، ولم يسقط حقه بغيبته.

[مسألة ثبوت خيار ابن السبع لأحد أبويه]
وإن بانت المرأة من زوجها في حال الحياة، وبينهما ولد له سبع سنين فما زاد وهو مميز، وتنازع الأبوان فيمن يكون عنده.. فإنه يخير بينهما، فإذا اختار أحدهما.. كان عنده.
وقال أبو حنيفة، ومالك: (لا يخير بينهما) ، إلا أن أبا حنيفة يقول: (إن كانت بنتاً.. فالأم أحق بها إلى أن تبلغ، وإن كان ابناً.. فالأم أحق به إلى أن يبلغ حداً يأكل بنفسه، ويشرب بنفسه، ويستنجي بنفسه، ويلبس بنفسه، ثم الأب أولى به إلى أن يبلغ) . ومالك يقول: (الأم أحق بالبنت إلى أن تتزوج ويدخل بها زوجها، وهي أحق بالابن إلى أن يبلغ) .
وقال أحمد: (إن كان ذكراً.. خير بينهما، وإن كان أنثى.. لم تخير، بل الأم أحق بها) .
دليلنا: ما روي عن أبي هريرة: «أنه خير غلاماً بين أبويه» .

(11/287)


وروى أبو داود في " سننه " [2277] «عن أبي هريرة قال: (كنت جالساً عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتته امرأة، فقالت: يا رسول الله، إن هذا ولدي، وإنه نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة، وإن أباه يريد أن يذهب به. فخيره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، فأخذ بيد أمه، فانطلقت به» .
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خير غلاماً بين أبويه) .
وروي عن عمارة الجرمي: أنه قال: (خيرني علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين أمي وعمي، وكنت ابن سبع أو ثمان سنين) .
ولا مخالف لهم في الصحابة، فعلم أنه إجماع.
وإذا ثبت هذا في الذكر.. قسنا الأنثى عليه. ولا يثبت التخيير بينهما إلا إذا كان كل واحد منهما يصلح للحضانة، فإن كان أحدهما مملوكاً، أو معتوهاً، أو فاسقاً، أو كافراً.. فلا تخيير بينه وبين الآخر؛ لأنه لا حق له في كفالته.

[فرع اختار الوليين أو لم يختر أقرع بينهما]
وإن خير بينهما، فاختارهما معاً، أو لم يختر واحداً منهما.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، ولا يمكن اجتماعهما على كفالته، ولا قسمته بينهما، فأقرع بينهما.

(11/288)


وإذا خير الولد بين الأبوين، فاختار أحدهما.. نظرت:
فإن كان أنثى واختارت الأم.. كانت عندها ليلاً ونهاراً، وإذا أحب الأب أن يزورها وينظر إليها.. جاء إليها من غير أن يتبسط في بيت الزوجة.
وإن كان ذكراً.. كان عند أمه بالليل، وبالنهار يأخذه الأب، ويسلمه إلى المكتب أو إلى أهل الصنع ليتعلم؛ لأن الأب أعلم بمصلحته في ذلك.
وإن اختار الولد الأب.. كان عند الأب ليلاً ونهاراً، ذكراً كان أو جارية، فإن أرادت الأم نظره، فإن كان الولد جارية.. جاءت الأم إليها؛ لأنهما - وإن كانتا عورتين - فالأم أولى بالخروج؛ لأنه لا يخاف عليها أن تخدع، والبنت يخاف عليها ذلك، ولا تطيل الإقامة في بيت الزوج، ولا تخلو بالزوج. وإن كان ذكراً.. أرسله الأب إلى أمه لتنظر إليه، ولا يكلفها المجيء إليه.
وإن مرض الولد عند الأب.. كانت الأم أحق بتمريضه؛ لأنه بالمرض صار كالصغير في الحاجة إلى من يقوم به.
قال الشيخ أبو إسحاق: وتمرضه في بيتها.
وقال ابن الصباغ: تجيء إليه وتمرضه، ولا تخلو مع الزوجة.
وإن مرض أحد الأبوين، والولد عند الآخر.. لم يمنع الولد من زيارة المريض منهما؛ لأن في المنع من ذلك قطع الرحم.
وإن اختار الولد أحدهما.. سلم إليه، فإن اختار الآخر.. حول إليه، فإن اختار الأول.. أعيد إليه؛ لأن هذا تخيير شهوة وليس بلازم، بدليل: أنه يصح من الصغير، ولأن ذلك جعل لحظه، وقد يرى الحظ لنفسه في الإقامة عند أحدهما زمانا وعند الآخر في الزمن الآخر.

(11/289)


قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا أبداً: متى اختار أن يتحول إلى الآخر.. حول إليه.
وأما الجويني: فقال: إذا أكثر من ذلك.. لم يلتفت إليه.

[فرع تخيير الصغير بين الجد والأم]
وإن لم يكن له أب، وله جد وأم.. خير بينهما كما يخير بين الأب والأم.
فإن لم يكن له أب ولا جد، فإن قلنا: لا حق لسائر العصبات غير الأب والجد في الحضانة.. ترك الولد عند الأم. وإن قلنا: إن لهم حقاً في الحضانة.. نظرت في الولد:
فإن كان ذكراً خير بين الأم وبين سائر العصبات؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وإن كان الولد جارية، فإن كان العصبة محرماً لها، كالأخ وابن الأخ والعم.. خيرت بينه وبين الأم، وإن كان غير محرم لها، كابن العم.. لم تخير بينه وبين الأم؛ لأنه لا تجوز له الخلوة بها، فلم يجز أن تسلم إليه.
قال ابن الصباغ: فإن كانت له بنت.. سلمت إلى بنته.

[مسألة الأم بائنة وأراد أحد الأبوين السفر بالولد]
إذا بانت المرأة من زوجها وبينهما ولد صغير، وأراد أحد الأبوين السفر إلى بلد.. نظرت:
فإن كان السفر لحاجة، ثم يعود.. فالمقيم أحق بالولد؛ لأن في السفر إضراراً به. وهكذا ذكر الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ.
وذكر الشيخ أبو حامد: إذا سافر الأب لحاجة، فإن كان الولد صغيراً.. ترك مع الأم، وإن كان مميزاً.. خير بينهما، فإن اختار الأب.. لم يسافر به، وإنما يسلمه إلى من يقوم به.

(11/290)


وإن كان السفر للنقلة.. نظرت:
فإن كان الطريق الذي يسافر إليه مخوفاً.. فالمقيم منهما أحق بالولد؛ لأن في السفر إضراراً به.
وإن كان الطريق آمناً، والسفر مما تقصر فيه الصلاة.. فالأب أحق بالولد، سواء كان المسافر الأب أو المقيم، وسواء كان الولد مميزاً أو غير مميز، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الأب هو المنتقل.. فالأم أحق به، وإن كانت الأم هي المنتقلة، فإن انتقلت إلى بلد.. فهي أحق به، وإن انتقلت من قرية إلى قرية.. فالأب أحق به) .
دليلنا: أن في كون الولد مع الأم حظاً للولد في الحضانة، وفي كونه مع الأب الحظ له في حفظ نسبه وتأديبه وتعليمه، ومراعاة حفظ النسب والتعليم أولى من مراعاة الحضانة، وغير الأم يقوم مقامها في الحضانة، ولا يقوم غير الأب مقامه في حفظ النسب.
وإن كان السفر للنقلة، أو إلى مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. فذكر الشيخان: أن حكمهما في حضانة الصغير وتخيير المميز حكم المقيمين؛ لأنهما يستويان في انتفاء أحكام السفر، ومراعاة الأب له ممكنة.
وقال ابن الصباغ: حكمهما حكم السفر إلى مسافة القصر؛ لأنه لا يمكنه تأديبه وتعليمه في ذلك.
وإن كان الأب هو المسافر، فقال الأب: أسافر للنقلة، وقالت الأم: بل تسافر لحاجة.. فالقول قول الأب مع يمينه؛ لأنه أعرف بما أراد.
فإن سافر الأب إلى بلد للنقلة، وسافرت الأم معه إلى تلك البلد.. لم يسقط حقها من الحضانة.
وإن سافر الأب ولم تسافر الأم معه، ورجع الأب.. عاد حقها؛ لأن حقها سقط لمعنى، وقد زال المعنى.

(11/291)


وإن ثبتت الحضانة لغير الأب من العصبات.. فحكمه حكم الأب فيما ذكرناه من السفر؛ لأنه يقوم مقام الأب في حفظ النسب، وتأديب الولد.
وبالله التوفيق

(11/292)