البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الجنايات] [باب تحريم القتل ومن يجب عليه القصاص ومن لا يجب]

(11/293)


كتاب الجنايات باب تحريم القتل، ومن يجب عليه القصاص ومن لا يجب
القتل بغير حق حرام. والأصل فيه: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] [الأنعام: 151]
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] [النساء: 92] . فأخبر: أنه ليس للمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ.
وقَوْله تَعَالَى: {إِلا خَطَأً} [النساء: 92] لم يرد به: أن قتله خطأ يجوز، وإنما أراد: لكن إذا قتله خطأ.. فعليه الدية والكفارة.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] [النساء: 93] .
وأما السنة: فما روى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق» .

(11/295)


وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعان على قتل امرئ مسلم ولو بشطر كلمة.. جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في قتل مؤمن لكبهم الله في النار» .
وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أن أهل السماء وأهل

(11/296)


الأرض اشتركوا في قتل مؤمن.. لعذبهم الله عز وجل إلا أن لا يشاء ذلك» .
وروى عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أول ما يحكم بين العباد يوم القيامة في الدماء» .
وأما الإجماع: فإنه لا خلاف بين الأمة في تحريم القتل بغير حق.
إذا ثبت هذا: فمن قتل مؤمناً متعمداً بغير حق.. فسق، واستوجب النار، إلا أن يتوب. وحكي عن ابن عباس: أنه قال: (لا تقبل توبة القاتل) .
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] [الفرقان: 68] إلى قوله: {إِلا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70] [الفرقان: 70] .
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التوبة تجب ما قبلها» .
ولأن التوبة إذا صحت من الكفر.. فلأن تصح من القتل أولى.

[مسألة من قتل عامداً عليه القصاص]
وإذا قتل من يكافئه عامداً، وهو: أن يقصد قتله بما يقتل غالباً، فيموت منه.. وجب عليه القصاص؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] . وهذه الآية حجة لنا بلا خلاف؛ لأن من أصحابنا من يقول: شرع

(11/297)


من قبلنا شرع لنا إذا لم يتصل به نكير. ومن قال منهم: ليس بشرع لنا.. فإن الشرع قد ورد بثبوت حكم هذه الآية في حقنا؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للربيع بنت معوذ حين كسرت سن جارية من الأنصار: " كتاب الله القصاص» . وليس للسن ذكر في القصاص في الكتاب إلا في هذه الآية.
وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] [البقرة: 178] .

(11/298)


وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] [البقرة: 179] .
ومعنى ذلك: أن الإنسان إذا علم أنه يقتل إذا قتل.. لم يقتل، فكان في ذلك حياة لهما.
وكانت العرب تقول في الجاهلية: القتل أنفى للقتل، فكان ما ورد به القرآن أحسن لفظاً وأعم معنى.

(11/299)


وقَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] [الإسراء: 33] و (السلطان) هاهنا: القصاص.
وروى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق» .
ولا يجب القصاص بـ ": (قتل الخطأ) ، وهو: أن يقصد غيره، فيصيبه، فيقتله؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» .
ولا يجب القصاص في (عمد الخطأ) ، وهو: أن يقصد إصابته بما لا يقتل

(11/302)


غالباً، فيموت منه؛ لأنه لم يقصد القتل، فلم تجب عليه عقوبة القتل، كما لا يجب حد الزنا على الواطئ بالشبهة.

[مسألة لا قصاص على صبي ومجنون]
ولا يجب القصاص على الصبي والمجنون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» .
ولأن القصاص من حقوق الأبدان، وحقوق الأبدان لا تجب على الصبي والمجنون، كما قلنا في الصلاة والصوم.
وإن قتل السكران من يكافئه عمداً.. فهل يجب عليه القصاص؟ فيه طريقان، ومن أصحابنا من قال: فيه قولان.
ومنهم من قال: يجب عليه القصاص، قولاً واحداً، وقد مضى دليل ذلك في الطلاق.
وإن قتل رجلاً وهو عاقل، ثم جن أو سكر.. لم يسقط عنه القصاص؛ لأن القصاص قد وجب عليه، فلا يسقط بالجنون والسكر، كما لا يسقط عنه ذلك بالنوم.

[مسألة مكافأة الجاني للمجني عليه]
وإذا كافأ الجاني المجني عليه، وهو: أن يكون ممن يحد أحدهما بقذف الآخر.. فقد ذكرنا: أنه يجب القصاص على الجاني.
فإن قتل المسلم مسلماً، أو الكافر كافراً سواء كانا على دين أو على دينين، أو قتل الرجل رجلاً، أو المرأة امرأة، أو قتل الحر حراً، أو قتل العبد عبداً.. وجب القصاص على القاتل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] [البقرة: 178] ولأن كل واحد منهما مساو لصاحبه، فقتل به.

(11/303)


ويقتل الكافر بالمسلم، والعبد بالحر، والأنثى بالذكر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] وهو إجماع. ولأنه إذا قتل بمن يساويه.. فلأن يقتل بمن هو أعلى منه أولى.
ويقتل الذكر بالأنثى، وهو قول أكثر العلماء.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (لا يقتل بها) .
وقال عطاء: يكون ولي المرأة بالخيار: بين أن يأخذ ديتها، وبين أن يقتل الرجل بها ويدفع إلى وليه نصف الدية. وروي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] [البقرة: 179] وقَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] وهذا عام إلا فيما خصه الدليل.
وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن: " يقتل الرجل بالمرأة» .

(11/304)


ولأنهما شخصان يحد كل واحد منهما بقذف صاحبه، فجرى القصاص بينهما، كالرجلين والمرأتين.
ويقتل الخنثى بالخنثى، ويقتل الخنثى بالرجل والمرأة، ويقتل الرجل والمرأة بالخنثى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] .

[مسألة لا يقتل مسلم بكافر]
ولا يقتل المسلم بالكافر، وسواء كان الكافر ذمياً، أو مستأمناً، أو معاهداً.
وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن

(11/305)


ثابت وبه قال الحسن، وعكرمة، وعطاء، والأوزاعي، ومالك.
وقال الشعبي، والنخعي، وأبو حنيفة: (يقتل المسلم بالذمي، ولا يقتل بالمستأمن) . وهو المشهور عن أبي يوسف.
وروي عن أبي يوسف: أنه قال: يقتل بالمستأمن.
ودليلنا: ما «روى أبو جحيفة أنه قال: (قلت لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يا أمير المؤمنين، هل عندكم سوداء في بيضاء ليس في كتاب الله؟ قال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ما علمته إلا فهماً يعطيه الله رجالاً في القرآن وما في الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: فيها العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مؤمن بكافر» .
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقتل مؤمن

(11/306)


بكافر، ولا ذو عهد في عهده» .
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده» . ومعنى قوله: «لا يقتل ذو عهد في عهده» ، أي: لا يجوز قتل أهل الذمة.
ولأنه مسلم قتل كافراً، فلم يقتل به، كالمستأمن.

[فرع قتل كافر كافراً ثم أسلم]
وإن قتل الكافر كافراً، ثم أسلم القاتل، أو جرح الكافر كافراً، فمات المجروح، ثم أسلم الجارح.. قتل به.
وقال الأوزاعي: (لا يقتل به) .
ودليلنا: ما روى ابن البيلماني: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل مسلماً بذمي، وقال: " أنا أحق من وفى بذمته» .

(11/307)


وتأويله: أنه قتله وهو كافر، ثم أسلم، ولأن القصاص حد، والاعتبار بالحد حال الوجوب دون حال الاستيفاء، بدليل: أنه لو زنى وهو بكر، فلم يحد حتى أحصن، أو زنى وهو عبد، فلم يحد حتى أعتق.. اعتبر حال الوجوب، وهذا كان مكافئاً له حال الوجوب، فلم يتغير بما طرأ بعده.
وإن جرح الكافر كافراً، فأسلم الجارح، ثم مات المجروح.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا قصاص عليه؛ لأنه قد أتت عليه حالة لو قتله فيها.. لم يجب عليه القصاص.
والثاني: يجب عليه القصاص، وهو المشهور اعتباراً بحالة الإصابة، كما لو مات المجروح، ثم أسلم الجارح.

[مسألة قتل الحر عبداً]
وإن قتل حر عبداً.. لم يقتل به، سواء كان عبده أو عبد غيره، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وابن الزبير، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال النخعي: يقتل به، سواء كان عبده أو عبد غيره.
وقال أبو حنيفة: (يقتل بعبد غيره، ولا يقتل بعبد نفسه) .

(11/308)


دليلنا: ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقتل حر بعبد» .
وروي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (من السنة أن لا يقتل حر بعبد» . وإذا قال الصحابي: من السنة كذا وكذا.. اقتضى ذلك سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولأن كل شخصين لم يجز القصاص بينهما في الأطراف.. لم يجز بينهما في النفس، كعبد نفسه، وكالمسلم والمستأمن.

[فرع قتل حر كافر عبداً مسلماً]
وإن قتل حر كافر عبداً مسلماً.. لم يقتل به؛ لأن الحر لا يقتل بالعبد.
وإن قتل عبد مسلم حراً كافراً.. لم يقتل به؛ لأن المسلم لا يقتل بالكافر.
وإن قتل عبد عبداً، ثم أعتق القاتل، أو جرح عبد عبداً، فمات المرجوح، ثم أعتق الجارح.. قتل به؛ لأنه كان مساوياً له حال الجناية.
وإن أعتق الجارح، ثم مات المجروح.. فهل يجب عليه القصاص؟ فيه وجهان، كما قلنا في الكافر إذا جرح كافراً، فأسلم الجارح، ثم مات المجروح.
وإن قتل ذمي عبداً، ثم لحق الذمي بدار الحرب، وأخذه المسلمون واسترقوه، أو جرحه ثم استرق، ثم مات العبد.. لم يقتل به؛ لأنه كان حين وجوب القصاص وحين الجراحة حراً، فلم يتغير حكمه في القصاص بما طرأ بعده.

(11/309)


[فرع قتل الحر لمبعض]
وإن قتل الحر من نصفه حر ونصفه مملوك.. لم يقتل به؛ لأن الحر أكمل منه، وإن قتله العبد.. قتل به؛ لأنه أكمل من العبد.
وإن قتل من نصفه حر ونصفه عبد حراً.. قتل به؛ لأنه قتل من هو أكمل منه، وإن قتل عبداً.. لم يقتل به؛ لأنه أكمل من العبد.
وإن كان رجلان نصفهما حر ونصفهما رقيق، فقتل أحدهما الآخر.. فهل يقتل به؟ فيه وجهان:
أحدهما - حكاه الطبري عن الشيخ أبي حامد -: أنه يقتل به، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأنهما متساويان، والقصاص يقع بين الجملتين من غير تفصيل.
والثاني - وهو قول القفال، والقاضي أبي الطيب -: أنه لا يقتل به؛ لأن الحرية شائعة فيهما.
ولا نقول: قتل بنصفه الحر نصفه الحر، وبنصفه العبد نصفه العبد، ولكن قتل بنصفه الحر ربعه الحر وربعه العبد، ألا ترى أنه لو وجبت الدية.. لكانت تجب ربع الدية وربع القيمة عليه في ماله، وربع الدية وربع القيمة في رقبته؟ فلو قتلناه به.. لكنا قد قتلنا حراً بحر وعبد.

[فرع قطع مسلم يد ذمي ثم أسلم]
وإن قطع مسلم يد ذمي، ثم أسلم الذمي، ثم مات.. فلا قصاص على المسلم.
وكذلك: إذا قطع حر يد عبد، ثم أعتق العبد، ثم مات.. فلا قصاص على الحر؛ لأن القصاص لما سقط في القطع.. سقط في سرايته، ولأن القصاص معتبر بحال الجناية، وحال الجناية هو غير مكافئ له، فلم يجب عليه القصاص، كما

(11/310)


قلنا في الكافر إذا قطع يد الكافر، ثم مات المقطوع، ثم أسلم القاطع، أو قطع العبد يد العبد، ثم مات المقطوع، ثم أعتق القاطع.. أن عليهما القصاص.
وإن قطع مسلم يد مرتد أو يد حربي، ثم أسلم المقطوع، ثم مات.. لم يجب على القاطع قود ولا دية؛ لأنه لم يكن مضموناً حال الجناية.
ومن أصحابنا من قال: تجب فيه دية مسلم؛ لأنه مسلم حال استقرار الجناية. والأول أصح.
وإن رمى مسلم سهما إلى ذمي، فأسلم، ثم وقع به السهم، فمات.. لم يجب به القود، ووجبت فيه دية مسلم.
وكذلك: إذا رمى حر سهماً إلى عبد، فأعتق، ثم وقع به السهم، فمات.. لم يجب به القود عليه، وتجب فيه دية حر.
وإن رمى سهماً إلى مسلم، فارتد، ثم أصابه السهم.. فلا قود عليه، ولا دية في ذلك؛ لأن جزءا من الجناية كان منه، ولا قصاص فيه، فاعتبر حال إرساله السهم، ولأن القود يجب إذا قصد تلف نفس تكافئ نفسه، وهذا في حال القصد لم يكن مكافئاً له.
فإن قيل: فقد قلتم: لو رمى المحرم صيداً، ثم حل من إحرامه، ثم أصاب الصيد.. أنه لا ضمان عليه، ولو رماه وهو محل، فأحرم، ثم أصاب الصيد.. أن عليه الجزاء، فاعتبرتم في الجزاء الإصابة، وفي القود الإرسال؟
قلنا: الفرق بينهما: أن الجزاء مال، فاعتبر فيه حال الإصابة؛ لأنه حال الاستقرار، والقود ليس بمال، فاعتبر فيه حال الإرسال.
وإن رمى سهماً إلى حربي أو مرتد، فأسلم، ووقع به السهم، فمات.. لم يجب به القود؛ لما ذكرناه، وتجب فيهما دية مسلم.

(11/311)


وقال أبو إسحاق: لا تجب عليه الدية في الحربي، وتجب في المرتد؛ لأن الحربي كان له رميه، والمرتد ليس له قتله، وإنما قتله إلى الإمام.
ومن أصحابنا من قال: لا دية فيهما، كما لو قطع أيديهما، ثم أسلما، ثم سرى القطع إلى نفوسهما. والأول هو المنصوص؛ لأن الاعتبار في الدية حال الإصابة، وحال الإصابة كان محقون الدم، فوجب ضمانه.

[مسألة قطع مسلم يد مسلم فارتد]
وإن قطع مسلم يد مسلم، ثم ارتد المجروح، ثم أسلم، ثم مات من الجراحة.. فهل يجب على الجاني القود؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: ينظر فيه:
فإن أقام في الردة زماناً تسري الجراحة فيه.. لم يجب عليه القود في النفس، قولاً واحداً؛ لأن الجناية في الإسلام توجب القصاص، والسراية في حال الردة لا توجب القصاص، وقد خرجت الروح منهما، فلم يجب القصاص، وكما لو جرحه جراحة عمدا ًوجراحة خطأ، ومات منهما.
وإن أقام في الردة زماناً لا تسري فيه الجراحة.. فهل يجب عليه القصاص في النفس؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القصاص؛ لأن الجناية والسراية في حال الإسلام، وزمان الردة لا تأثير لها، فوجب عليه القصاص، كما لو لم يرتد.
والثاني: لا يجب عليه القصاص؛ لأنه تخللهما زمان لو مات فيه.. لم يجب عليه فيه القصاص، فهو كما لو طلق امرأته ثلاثاً في مرض موته، ثم ارتدت، ثم مات.. فإنها لا ترثه.

(11/312)


ومن أصحابنا من قال: القولان في الحالين؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " الأم ": (لو قطع ذمي يد مستأمن، فنقض المستأمن العهد، ولحق بدار الحرب، ثم عاد بأمان، ثم سرت إلى نفسه.. فهل على القاطع القود؟ فيه قولان) . ونقض العهد في حق المستأمن كالردة للمسلم، وقد نص فيه على قولين. وإن كان قد لحق بدار الحرب، ثم عاد، وهذا زمان تسري فيه الجناية.
والأول هو المشهور. والنص في المعاهد متأول على: أنه كان مجاوراً لدار الحرب، فلحق بها، ثم عاد من وقته قبل أن يمضي زمان تسري الجناية في مثله.
فإن قلنا: يجب عليه القصاص في النفس.. فالولي بالخيار: بين أن يقطع يده ثم يقتله، وبين أن يقتله.
وإن قلنا: لا يجب عليه القصاص في النفس.. فهل يجب عليه القصاص في اليد؟ فيه قولان، كما لو مات على الردة، ويأتي توجيههما.
وأما الكفارة: فإنها تجب عليه على القولين؛ لأن الجناية وقعت والنفس محرمة القتل.
وأما الدية: فإذا قلنا: لا يجب القصاص، أو قلنا: يجب وعفا الولي عن القصاص أو كانت الجناية خطأ. فقال البغداديون من أصحابنا: إن لم يبق في الردة زمان تسري الجناية في مثله.. وجبت فيه دية مسلم؛ لأن الجناية مضمونة، والسراية مضمونة، وزمان الردة لا تأثير له. وإن أقام في الردة زماناً تسري الجراحة في مثله.. فحكى الشيخ أبو حامد فيه وجهين، وحكاهما الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ قولين:
أحدهما: يجب عليه نصف الدية؛ لأن الجناية مضمونة، والسراية غير مضمونة، والروح قد خرجت منهما، فلم يجب عليه كمال الدية، كما لو جرح رجل مسلماً، ثم ارتد المجروح، وجرحه آخر في حال الردة، ومات.. فإنه لا يجب على الأول إلا نصف الدية.

(11/313)


والثاني: تجب عليه دية كاملة، وهو الأصح؛ لأن الجناية إذا كانت مضمونة.. كان الاعتبار بالدية حال الاستقرار وهو مسلم، فوجبت فيه دية مسلم، كما لو قطع يد عبد، ثم أعتق، ثم مات.
وقال الخراسانيون: إن قلنا: يجب عليه القود، فعفا الولي عن القود.. وجبت فيه دية مسلم. وإن قلنا: لا يجب عليه القود.. فكم يجب فيه من الدية؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجب فيه ثلثا الدية - وهو قول ابن سريج - فتوزع الدية على أحواله الثلاثة، فيسقط ثلثها بإزاء السراية في حال الردة.
والثاني: يجب نصف الدية، كما لو مات من جراحتين: إحداهما مضمونة، والأخرى غير مضمونة.
والثالث: يجب عليه أقل الأمرين من أرش الجناية أو جميع الدية.
وإن قطع يد مسلم، فارتد المقطوع، ومات في الردة من القطع.. فلا يجب عليه القصاص في النفس، ولا الدية، ولا الكفارة؛ لأن النفس خرجت ولا حرمة لها، وهل يجب القصاص في اليد؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب؛ لأن اليد تابعة للنفس، فإذا لم يجب القصاص في النفس.. لم يجب في اليد.
والثاني: يجب فيها، وهو الأصح، ولم يذكر المسعودي [في " الإبانة "] : غيره؛ لأن القصاص يجب في الطرف مستقراً، ولا يسقط بسقوطه في النفس، بدليل: أنه لو قطع يد رجل، ثم جاء آخر، وقتل المقطوع.. فإنه يجب على الأول القصاص في اليد.
وهكذا الحكم فيمن قطع يد مستأمن، فنقض العهد، ولحق بدار الحرب، ومات بها من القطع؛ لأن نقض العهد في حقه كالردة.

(11/314)


[مسألة قتل مرتد ذمياً]
وإن قتل المرتد ذمياً.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القود - وهو اختيار الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والمزني - لأنهما كافران، فجرى القصاص بينهما، كالذميين، ولأن الذمي أحسن حالاً من المرتد؛ لأنه مقر على دينه، والمرتد غير مقر على دينه.
فعلى هذا: يجب عليه القصاص، سواء رجع إلى الإسلام أو لم يرجع؛ لأن القصاص قد وجب عليه حال الجناية، فلم يسقط بالإسلام، كالذمي إذا جرح الذمي، ثم أسلم الجارح، ثم مات.
والثاني: لا يجب عليه القصاص؛ لأنه شخص تجب في ماله الزكاة، فلم يقتل بالذمي، كالمسلم.
فعلى هذا: تجب عليه الدية، فإن رجع إلى الإسلام.. تعلقت الدية بذمته، وإن مات أو قتل على الردة.. تعلقت بماله.
وإن جرح المسلم ذمياً، ثم ارتد الجارح، ثم مات المرجوح.. لم يجب القصاص، قولاً واحداً؛ لأنه حالة الجرح لم يكن مكافئاً له.
وإن قتل الذمي مرتداً.. فهل يجب عليه القود؟
قال الخراسانيون من أصحابنا: يبنى على القولين في المرتد إذا قتل الذمي.
فإن قلنا هناك: يجب القود.. لم يجب القود على الذمي؛ لأنه قتل مباح الدم.
وإن قلنا هناك: لا يجب القود.. وجب هاهنا القود.
وقال البغداديون من أصحابنا: فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه يجب عليه القود، فإن عفا عنه، أو كانت الجناية خطأ.. وجبت فيه الدية؛ لأن قتله بالردة للمسلمين، فإذا قتله غيرهم.. وجب عليه الضمان، كما لو قتل رجل رجلاً، ثم قتله غير ولي الدم.

(11/315)


والثاني - وهو قول أبي الطيب بن سلمة، وأبي سعيد الإصطخري -: أنه يجب عليه القود، فإن عفا عنه، أو كانت الجناية خطأ.. لم تجب عليه الدية؛ لأن القود إنما يجب عليه لاعتقاد الذمي أنه مثله، وأنه مكافئ له، ولا تجب عليه الدية؛ لأنه لا قيمة لدمه.
والثالث - وهو قول أبي إسحاق، وهو الأصح -: أنه لا يجب عليه القود ولا الدية؛ لأن كل من لا يضمنه المسلم بقود ولا دية.. لم يضمنه الذمي، كالحربي.
وإن قتل المرتد مرتداً.. فهل يجب عليه القصاص؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري:
أحدهما: يجب عليه القصاص، وهو الأصح؛ لتماثلهما من جميع الوجوه.
والثاني: لا يجب عليه القصاص؛ لأنه ربما أسلم القاتل.

[فرع قتل من لا يعلم إسلامه]
وإن حبس السلطان مرتدا، فأسلم، وخلاه، فقتله رجل قبل أن يعلم بإسلامه، أو علم رجل رجلاً مرتدا، فأسلم المرتد، وقتله الرجل قبل أن يعلم بإسلامه.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه القود؛ لأنه لم يقصد قتل من يكافئه.
فعلى هذا: تجب عليه دية مسلم.
والثاني: يجب عليه القود؛ لأن الظاهر من المرتد أنه لا يخلى من حبس السلطان في دار الإسلام إلا بعد إسلامه.
وقال الطبري: وإن أسلم الذمي، ثم قتله مسلم قبل أن يعلم بإسلامه، أو أعتق العبد، ثم قتله حر قبل أن يعلم بعتقه.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان، كالتي قبلها.
وأما الزاني المحصن إذا قتله رجل بغير إذن الإمام: ففيه وجهان:

(11/316)


أحدهما: أن عليه القود؛ لأن قتل المحصن إلى الإمام، فإذا قتله غيره بغير إذنه.. وجب عليه القود، كما لو قتل رجل رجلاً، فقتله غير ولي الدم.
والثاني: لا يجب عليه القود، وهو المنصوص؛ لما روي: «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلاً، أفأمهله حتى أقيم البينة؟ قال: " نعم» . فدل على: أنه إذا أقام عليه البينة لا يمهله، بل له أن يقتله.
وروى ابن المسيب: (أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، فقتله، فأشكل فيه الأمر على معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فكتب في ذلك إلى أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسأله أن يسأل عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن ذلك، فسأله أبو موسى عن ذلك، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما هذا شيء وقع بأرضنا، عزمت عليك إلا أخبرتني، فقال له: كتب إلي بذلك معاوية، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنا أبو الحسن لها - وروي: أنا أبو حسن - إن أقام البينة، وإلا.. أعطى برمته) . و (الرمة) : الحبل الذي يربط به الرجل إذا قدم للقتل.
وروي: (أن رجلاً على عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج في بعض غزواته،

(11/317)


واستخلف يهودياً في بيته يخدم امرأته، فلما كان في بعض الليالي.. خرج رجل من المسلمين في سحر، فسمع اليهودي يقول:
وأشعث غره الإسلام مني ... خلوت بعرسه ليل التمام
أبيت على ترائبها ويمسي ... على جرداء لاحقة الحزام
كأن مواضع الربلات منها ... فئام ينهضون إلى فئام
فدخل عليه الرجل، فقتله، فأخبر بذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأهدر دم اليهودي) . وهذا يدل على: أن اليهودي كان محصناً. ولأنه قتل مباح الدم، فهو كالمرتد.
فعلى هذا: لا تجب عليه الدية؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أهدر دم اليهودي، وإنما يجب بقتله الدية. ولأنا قد قلنا: هو كالمرتد، والمرتد لا تجب على قاتله الدية، فكذلك هذا مثله.
و (الربلات) : لحم العضدين والفخذين وما أشبههما.
و (الفئام) : الجماعة من الناس.

[مسألة لا يقتل أصل بفرع]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يقتل والد بولده؛ لأنه إجماع، ولا جد من قبل أم ولا أب) .
وجملة ذلك: أن الأب إذا قتل ولده.. لم يجب عليه القصاص. وبه قال عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في الصحابة، ومن الفقهاء: ربيعة، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن رماه بالسيف، فقتله.. لم يقد به؛ لأنه قد يريد بذلك التأديب، وإن أضجعه وذبحه.. قتل به) .

(11/318)


دليلنا: ما روى عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقاد والد بولده» .
ولأن كل من لا يقتل به إذا رماه بالسيف.. لم يقتل به وإن أضجعه وذبحه، كالمسلم إذا قتل الكافر.
فإن قيل: فما معنى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لأنه إجماع) ومالك مخالف له؟
فله تأويلان:
أحدهما: أنه أراد به إجماع الصحابة؛ لأنه قد روي عن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا مخالف لهما في الصحابة.
والثاني: أنه أراد: إذا رماه بالسيف.. فإنه إجماع.
ولا تقتل الأم، ولا أحد من الجدات من قبل الأم أو الأب، ولا أحد من الأجداد من قبل الأم أو الأب بالولد وإن سفل.

(11/319)


قال الطبري: وذكر صاحب " التلخيص " قولاً آخر: أن غير الأب من الأمهات والأجداد يقتلون بالولد.
قال أصحابنا: ولا يعرف هذا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولعله قاس على رجوعهم في هبتهم له، فإن فيه قولين عند الخراسانيين.
والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقاد والد بولده» . والوالد يقع على الجميع. ولأن ذلك حكم يتعلق بالولادة، فشاركوا فيه الأب، كالعتق بالملك، ووجوب النفقة.

[فرع ادعيا لقيطاً ولا بينة فقتلاه]
وإن ادعى رجلان نسب لقيط ولا بينة لأحد منهما.. عرض على القافة، فإن قتلاه قبل أن يلحق بأحدهما.. لم يجب على أحدهما قود؛ لأن كل واحد منهما يجوز أن يكون أباه، فإن رجعا عن الإقرار بنسبه.. لم يسقط نسبه عن أحدهما؛ لأن من أقر بنسب احتمل صدقه.. لم يجز إسقاطه برجوعه.
فإن رجع أحدهما، وأقام الآخر على دعواه.. انتفى نسبه عن الراجع، ولحق بالآخر؛ لأن رجوع الراجع لا يسقط نسبه، ويسقط القصاص عن الذي لحق نسبه به، ويجب القصاص على الراجع؛ لأنه شارك الأب، ولا يكون القصاص للأب، لأنه قاتل، بل يكون لسائر ورثة اللقيط، ويجب على الأب لهم نصف الدية.
وإن تزوج رجل امرأة في عدتها من غيره، ووطئها جاهلاً بالتحريم، وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، فقتلاه قبل أن يلحق بأحدهما.. لم يجب على أحدهما قود؛ لجواز أن يكون كل واحد منهما أباه، فإن رجعا.. لم يقبل رجوعهما.
فإن رجع أحدهما، وأقام الآخر على الدعوى.. لم يسقط نسبه عن الراجع ولم يجب عليه القود.

(11/320)


ويفارق التي قبلها؛ لأن الأبوة هناك ثبتت بالاعتراف.. فقبل رجوعه مع إقامة الآخر على الدعوى، وهاهنا الأبوة ثبتت بالفراش، فلم تسقط بالرجوع.

[فرع قتل رجل زوجة لها ولد منه]
وإن قتل رجل زوجته، وله منها ابن.. لم يجب له على الأب القود؛ لأنه إذا لم يقد به إذا قتله.. لم يجب عليه القود بالإرث من أمه أولى.
وإن كان لها ابنان: أحدهما من زوجها القاتل لها، والثاني من آخر.. لم يجب على الزوج القود؛ لأن القود يكون مشتركاً بين الابنين، والابن لا يثبت له القود على أبيه، وإذا سقط حقه من القود.. سقط حق شريكه، كما لو ثبت القود عليه لرجلين، فعفا أحدهما.
وإن ملك المكاتب أباه.. فإنه لا يعتق عليه، فإن قتل أبو المكاتب عبداً للمكاتب.. لم يجب للمكاتب القود على أبيه؛ لأنه إذا لم يجب عليه القصاص بقتله.. لم يجب عليه القصاص بقتل عبده.

[مسألة يقتل الولد بالوالد]
ويقتل الولد بالوالد؛ لأن الوالد أكمل منه.. فقتل به، كما يقتل الكافر بالمسلم، والعبد بالحر، والمرأة بالرجل، وذلك كله إجماع.
فإن كان هناك رجل له زوجة، وهما متوارثان، وبينهما ابنان، فقتل أحد الابنين أباهما عمداً، ثم قتل الابن الآخر أمهما عمداً.. فإن القصاص يجب على قاتل الأم، ويسقط عن قاتل الأب؛ لأنه لما قتل الابن الأب.. لم يرثه، وإنما ترث الزوجة الثمن، وقاتل الأم الباقي، وملكا عليه القود، فلما قتل الابن الآخر الأم.. لم يرثها، وإنما يرثها قاتل الأب، وقد كانت تملك عليه ثمن القود، وانتقل ذلك إليه، وإذا ملك بعض ما عليه من القود.. سقط عنه القود؛ لأنه لا يتبعض، فسقط الجميع، وكان لقاتل الأب القود على قاتل الأم، لأنه لا وارث لها سواه، ولقاتل الأم على قاتل

(11/321)


الأب سبعة أثمان دية الأب، فإن عفا قاتل الأب عن قاتل الأم.. وجب له عليه دية الأم، وهل يسقط عن كل واحد منهما ما يساوي ما له على الآخر؟ على الأقوال الأربعة في المقاصة.
فإذا قلنا: يسقط.. بقي على قاتل الأب لقاتل الأم ثلاثة أثمان دية الأب.
فإذا قلنا: لا يسقط.. أدى كل واحد منهما ما عليه للآخر.
وإن اقتص قاتل الأب من قاتل الأم، فإن كان لقاتل الأم ورثة غير قاتل الأب.. طالبوه بسبعة أثمان دية الأب، وإن لم يكن له وارث غيره.. فهل يرثه؟ فيه وجهان في القاتل بالقصاص، هل يرث؟ الصحيح: أنه لا يرثه.
فأما إذا لم ترث الزوجة من الزوج، بأن كانت بائنة منه، أو كانت غير بائن منه إلا أن أحدهما جرح أباه، وجرح الآخر أمه، ثم خرجت روحاهما في حالة واحدة.. فإن كل واحد من الابنين لا يرث ممن قتله، ولكنه يرثه الابن الآخر.
واختلف أصحابنا: هل يثبت القود في ذلك؟
فقال أكثرهم: يجب لكل واحد منهما القود على أخيه؛ لأن كل واحد منهما ورث من قتله أخوه، فوجب له على أخيه القود.
فعلى هذا: إن كان قاتل الأب قتله أولاً.. اقتص منه قاتل الأم، فإن كان لقاتل الأب وارث غير قاتل الأم.. اقتص من قاتل الأم، وإن لم يكن له وارث غير قاتل الأم، فإن قلنا: إن القتل بالقصاص لا يمنع الميراث.. ورث القود على نفسه، وسقط، وإن قلنا: إن القتل بالقصاص يمنع الميراث.. انتقل القصاص إلى من بعده من العصبات، فإن لم تكن عصبة.. كان القصاص إلى الإمام.
وإن قتلاهما في حالة واحدة، أو جرحاهما وخرجت روحاهما في حالة واحدة.. ثبت لكل واحد منهما القصاص على صاحبه، ولا يقدم أحدهما على الآخر، بل إن تشاحا في البادئ منهما.. أقرع بينهما، فإذا خرجت القرعة لأحدهما، فاقتص، أو

(11/322)


بادر أحدهما، فقتل الآخر من غير قرعة.. فقد استوفى حقه، ولوارث المقتول أن يقتل الابن المقتص.
وإن كان المقتص من ورثته.. فهل يرثه؟ على الوجهين، الصحيح: لا يرثه.
وقال ابن اللبان: القصاص لا يثبت هاهنا؛ لأنه لا سبيل إلى أن يستوفي كل واحد منهما القصاص من صاحبه.
فلو بدأ أحدهما، فاقتص من أخيه.. بطل حق المقتص منه من القصاص؛ لأن حقه ينتقل منه إلى وارثه، إن شاء.. قتل، وإن شاء.. ترك، وفوتنا عليه غرضه من القصاص، وحصل على غير عوض من ماله، وليس أحدهما بأولى من الآخر في البداية. وأما القرعة: فلا تستعمل في إثبات القصاص.
فعلى هذا: يكون على قاتل الأب دية الأب، وعلى قاتل الأم دية الأم لقاتل الأب.
قال ابن اللبان: فإن مات أحد القاتلين قبل أن يتحاكما.. كان لورثة الميت أن يقتلوا الآخر، ويرجع الآخر أو وارثه في تركة الميت بدية الذي قتله الميت من الأبوين.
ولا يقال: إن القصاص سقط، ثم وجب؛ لأنه لم يثبت، لا لأنه لم يجب، ولكن لم يثبت لتعذر الاستيفاء، وإذا أمكن الاستيفاء.. ثبت. والأول هو المشهور.

[فرع قتل كل من الولدين أحد أبويه]
قال ابن اللبان: إذا كان هناك رجل له زوجة يتوارثان، ولهما ولدان: أحدهما زيد، والآخر عمرو، فقتل أحد الولدين أباهما، والآخر أمهما، ولم يعلم أيهما قاتل الأب، ولا أيهما قاتل الأم، إلا أن الأم قتلت أولاً.. فيجوز أن يكون زيد قتل الأم، فورث الزوج ربع قودها وربع مالها، وورث عمرو ثلاثة أرباع ذلك، فإذا قتل عمرو الأب بعد ذلك.. ورث زيد جميع مال الأب، وورث الربع الذي كان ورثه الزوج من مال زوجته، وسقط عن زيد القصاص في الأم؛ لأنه ورث بعض دمه، وكان له

(11/323)


القصاص على عمرو، أو جميع دية الأب إن عفا عنه.
ويجوز أن يكون عمرو هو قاتل الأم، وزيد قاتل الأب، فيكون لعمرو ما كان لزيد إذا كان زيد قاتل الأم، ويكون لزيد ما كان لعمرو، فإذا احتمل هذا.. دفع إلى كل واحد من الولدين ربع ما للأم؛ لأنه يستحقه بيقين، ووقف نصف مالها حتى يعلم من قاتل الأب منهما، فيصرف إليه، ويوقف جميع مال الأب حتى يعلم من قاتل الأم، فيصرف إليه، ويكون لقاتل الأب على قاتل الأم ثلاثة أرباع دية الأم، ولقاتل الأم عليه القصاص أو دية الأب إن عفا عنه، وإن تقاصا.. بقي لقاتل الأم خمسة أثمان دية الأب.
قال: ويحتمل إذا لم يعلم من قتل الأب بعينه أن يسقط القصاص في الحكم وإن كنا قد علمنا وجوبه؛ لأن ما لم تعلم عينه.. كالذي لا يعلم أصلاً، كما قلنا في المتوارثين إذا مات أحدهما قبل الآخر ولم يعلم أيهما مات أولاً.. أنهما لا يتوارثان.
فإن كانت بحالها، إلا أن الأب قتل أولاً.. فإنه يدفع إلى كل واحد منهما ثمن مال الأب، ويوقف الباقي، ويوقف جميع مال الأم، وتنزيلها على ما مضى.
فإن كانت بحالها، وقتل الأب أولاً، ولهما أخ ثالث يقال له: سالم لم يقتل.. فإن تنزيلها على ما مضى، ويدفع لزيد نصف ثمن مال الأب، وإلى عمرو نصف ثمنه، ويدفع إلى سالم نصف مال الأب، ويوقف عليه ثلاثة أثمانه لقاتل الأم، ويدفع إلى سالم نصف مال الأم، ويوقف نصفه لقاتل الأب، ولسالم على من يستحق نصف مال الأم - وهو قاتل الأب - نصف دية الأب، فيدفع إليه ذلك من نصف مالها الموقوف له، ولسالم أيضاً على من يستحق ثلاثة أثمان مال الأب - وهو قاتل الأم - القصاص، فإن عفا عنه.. استحق عليه نصف دية الأم، ويعطى ذلك من الذي وقف له من مال الأب؛ لأن الحاكم يعلم أن له على صاحب هذا المال حقاً وإن لم يعرفه بعينه، فهو كغائب وجب عليه حق، فيباع عليه ماله.

(11/324)


فإن قيل: فهلا أخرجتم ما وجب على قاتل الأب لقاتل الأم مما وقف له، وأخرجتم ما وجب على قاتل الأم مما وقف له؟
قيل: لا نخرجه له؛ لأنه لا مدع له بعينه، وإنما هو بمنزلة مال وقف لزيد، ومال وقف لعمرو، ولم يعلم أن لكل واحد منهما على الآخر حقاً، ولا يعرف أحدهما ماله ولا حقه، فيطالب به، وإذا كانت دعواهما غير معلومة.. لم يلزم ما يدعيان من المجهول، وسالم يعلم قدر حقه، ويدعيه على مالك معلوم ملكه وإن لم يعلم شخصه.

[فرع إخوة قتل بعضهم بعضاً وهم ورثة]
وإن كان هناك أربعة إخوة يرث بعضهم بعضاً، فقتل الكبير الذي يليه، وقتل الثالث الصغير.. وجب القصاص على الثالث، وعلى الكبير نصف الدية؛ لأن الكبير لما قتل الثاني.. وجب عليه القصاص للثالث والرابع، فلما قتل الثالث الرابع.. وجب القصاص على الثالث للكبير، وسقط القصاص عن الكبير؛ لأنه ورث بعض دم نفسه عن الرابع، فسقط عنه القصاص، ووجب عليه للثالث نصف دية الثاني.
وإن قتل رجل ابن أخيه، وورث المقتول أبوه، ثم مات أبو المقتول ولم يخلف وارثاً غير القاتل.. فإنه يرثه، ويسقط عنه القصاص؛ لأنه ملك جميع ما ملكه أبو المقتول، فكأنه ملك دم نفسه، فسقط عنه القصاص.

[فرع مكاتب ملك من يعتق عليه]
وإن ملك المكاتب أباه.. فإنه لا يعتق عليه، بل يكون موقوفاً على أدائه وعجزه.
وإن قطع المكاتب يد أبيه وهو في ملكه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له أن يقتص منه؛ لأن العبد لا يقتص من سيده.

(11/325)


والثاني: له أن يقتص منه، وهو المنصوص؛ لأن حكمه معه حكم الأحرار، بدليل: أنه لا يجوز له بيعه، فصار كالابن الحر إذا جنى على أبيه الحر.
ولا يعرف للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المملوك يقتص من مالكه إلا في هذه.
وإن قطع أبو المكاتب يد المكاتب.. فالذي يقتضي المذهب: أن يبنى على هذين الوجهين، فإن قلنا بالأول.. وجب للمكاتب القصاص، وإن قلنا بالثاني.. لم يجب له القصاص، فإن عفا عنه، أو كانت الجناية خطأ.. فهل له بيعه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما:
أحدهما: له بيعه؛ لأنه يستفيد بالبيع أرش الجناية.
والثاني: ليس له بيعه؛ لأنه مملوك، فلا يثبت له عليه مال.

[فرع قتل من دونه أو ولده]
وإن قتل مسلم ذمياً، أو قتل حر عبداً، أو قتل الوالد ولده في المحاربة.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه القصاص؛ لعموم الأخبار، ولأن من لا يقتل بغيره في غير المحاربة.. لم يقتل به في المحاربة، كالمخطئ.
والثاني: يجب عليه القصاص؛ لأن القتل في المحاربة متحتم لا يجوز للولي العفو عنه، فلم تعتبر فيه المكافأة، كحد الزنا.

[مسألة قتل الجماعة بالواحد]
وتقتل الجماعة بالواحد، وهو: أن يجني عليه كل واحد منهم جناية لو انفرد بها.. مات منها، ووجب عليه القصاص، وبه قال من الصحابة: عمر،

(11/326)


وعلي، وابن عباس، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين: ابن المسيب، والحسن، وعطاء، وأبو سلمة، ومن الفقهاء: الأوزاعي، والثوري، ومالك، وأحمد، وأبو حنيفة، إلا أن محمد بن الحسن قال: ليس هذا بقياس، وإنما صرنا إليه من طريق الأثر والسنة.
وقال الزبير، ومعاذ بن جبل، والزهري، وابن سيرين: (لا تقتل الجماعة بالواحد، بل للولي أن يختار واحداً منهم، فيقتله، ويأخذ من الباقين حصتهم من الدية) .
وقال ربيعة، وداود: (يسقط القصاص) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] [البقرة: 179] . فأوجب القصاص لاستبقاء الحياة؛ وذلك: أنه متى علم الإنسان أنه إذا قتل غيره قتل به.. لم يقدم على القتل، فلو قلنا: لا تقتل الجماعة بالواحد.. لكان الاشتراك يسقط القصاص، فسقط هذا المعنى.
وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] [الإسراء: 33] و (السلطان) : القصاص. ولم يفرق بين أن يقتله واحد، أو جماعة.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا

(11/327)


- والله - عاقله، فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» . وموضع الدليل: قوله: (فمن) ، ومن: تستغرق الجماعة والواحد.

[فرع اشتركا في قتل وعلى أحدهما القود]
وإن اشترك اثنان في قتل رجل، وأحدهما يجب عليه القود لو انفرد دون الآخر.. نظرت:
فإن كان سقوط القود عن أحدهما لمعنى في فعله، مثل: أن كان أحدهما مخطئاً، والآخر عامداً.. لم يجب القصاص على واحد منهما، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال مالك: (يجب القصاص على العامد منهما) .
دليلنا: أن الروح لم تخرج عن عمد محض، فلم يجب عليه القصاص، كما لو جرحه خطأ، فمات منه.
وإن كان سقوط القود عن الشريك لمعنى في نفسه، مثل: أن يشترك الأب والأجنبي في قتل الابن.. وجب القصاص على الأجنبي.
وكذلك: إذا اشترك الحر والعبد في قتل العبد.. وجب القصاص على العبد، وإن اشترك المسلم والكافر في قتل الكافر.. وجب القصاص على الكافر، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (سقوط القصاص عن أحد الشريكين يسقط القصاص عن الآخر، فإذا شارك الأب الأجنبي في قتل الابن.. لم يجب على الأجنبي القصاص) .
دليلنا: أنه لو انفرد.. وجب عليه القصاص، فإذا شارك من سقط عنه القصاص

(11/328)


لا لمعنى في فعله.. لم يسقط عنه القصاص، كما لو كانا عامدين.
وإن شارك الصبي والمجنون وهما عامدان في الجناية.. بنى ذلك على عمدهما، وفيه قولان:
أحدهما: أن عمدهما في حكم الخطأ، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . فأخبر أن القلم مرفوع عنهما، فدل على: أن عمدهما في حكم الخطأ، ولأن عمدهما لو كان في حكم العمد.. لوجب عليهما القصاص.
فعلى هذا: لا يجب على من شاركهما في الجناية القصاص.
القول الثاني: أن عمدهما في حكم العمد، فيجب على شريكهما القود؛ لأنهما قصدا الجناية، وإنما سقط القصاص عنهما لمعنى في أنفسهما، كشريك الأب، ولأن الصبي لو أكل في الصوم عامداً.. لبطل صومه، فلولا أن لعمده حكماً.. لما بطل صومه. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : المجنون الذي لا يميز، والطفل الذي لا يعقل عقل مثله، عمدهما خطأ، قولا ًواحداً، فلا يجب على شريكهما القصاص.
وإن شارك من لا ضمان عليه، مثل: أن جرح رجل نفسه وجرحه آخر، أو جرحه سبع وجرحه آخر، أو قطعت يده بقصاص أو سرقة وجرحه آخره، ومات.. فهل يجب القصاص على الشريك الذي عليه الضمان؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القصاص؛ لأنه شارك في القتل عامداً، فوجب عليه القصاص، كشريك الأب.
والثاني: لا يجب عليه القصاص؛ لأنه إذا سقط عنه القصاص إذا شارك المخطئ وجنايته مضمونة عليه.. فلأن لا يجب عليه القصاص إذا شارك من لا قصاص عليه أولى.

(11/329)


[فرع جرحه جراحة يقتل مثلها فتداوى بقاتل]
وإن جرحه رجل جراحة يقتل مثلها عامداً، فداوى المجروح نفسه بسم، فمات.. نظرت:
فإن كان سماً موحياً يقتل في الحال.. لم يجب على الجارح قصاص في النفس؛ لأنه قطع سراية جرحه بالسم، فصار كما لو جرحه رجل، ثم ذبح نفسه.
وإن كان السم قد يقتل وقد لا يقتل، والغالب أنه لا يقتل.. لم يجب على الجارح قصاص في النفس؛ لأنه مات من فعلين، وأحدهما عمد خطأ، فهو كما لو شارك العامد مخطئاً.
وإن كان السم قد يقتل وقد لا يقتل، والغالب أنه يقتل.. فهل يجب القصاص على الجارح في النفس؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان؛ لأنه شارك قاصداً إلى الجناية، ولا يجب عليه الضمان، فهو كما لو جرح نفسه وجرحه آخر، أو جرحه سبع وجرحه آخر.
ومنهم من قال: لا يجب عليه القصاص، قولاً واحداً؛ لأنه لم يقصد الجناية على نفسه، وإنما قصد المداواة به، فصار فعله عمد خطأ، بخلاف شريك السبع، وشريك من جرح نفسه، فإنهما قصدا الجناية.

[فرع جرح فخاط جرحه فمات]
وإن جرحه رجل، فخيط جرحه، فمات.. نظرت:
فإن خيط في لحم ميت، كاللحم إذا قطعه السيف.. فإن القود يجب على الجارح؛ لأنه لا سراية للخياطة في اللحم الميت.
وإن خيط في اللحم الحي.. نظرت:

(11/330)


فإن خاطه المجروح بنفسه، أو خاطه غيره بأمره.. فهل يجب القود على الجارح في النفس؟ فيه طريقان، كما قلنا فيه إذا داوى جرحه بسم قد يقتل وقد لا يقتل إلا أنه يقتل في الغالب.
وإن خاطه رجل أجنبي بغير إذنه، أو أكرهه على ذلك.. وجب القود على الجارح والذي خاط الجراحة؛ لأنهما قاتلان.
وإن خاطه السلطان، وأكرهه على ذلك، فإن كان لا ولاية له عليه.. كان كغيره من الرعية، فيجب عليه القود في النفس مع الجارح، وإن كان له على المجروح ولاية، بأن كان صغيراً، أو مجنوناً، أو خاطها الولي عليه من غير أمر السلطان، أو كان على المولى عليه سلعة، فقطعها وليه، فمات.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القود؛ لأنه جرح جرحاً مخوفاً، فوجب عليه القود.
فعلى هذا: يجب على شريكه - وهو الجارح - القود.
والثاني: لا يجب عليه القود؛ لأنه لم يقصد الجناية، وإنما قصد المداواة، فصار فعله عمد خطأ.
فعلى هذا: لا يجب عليه أو على شريكه القود في النفس، ويجب على كل واحد منهما نصف دية مغلظة، وهل يكون ما وجب على الإمام من ذلك في ماله، أو في بيت المال؟ فيه قولان، يأتي بيانهما إن شاء الله تعالى.

[فرع جرحه جرحاً وآخر مائة جرح فمات]
وإن جرح رجل رجلاً جرحاً، وجرحه آخر مائة جرح، ثم مات.. فهما شريكان في القتل، فيجب عليهما القود؛ لأنه يجوز أن يموت من الجرح الواحد كما يجوز أن يموت من المائة، وإذا تساوى الجميع في الجواز.. فالظاهر أنه مات من الجميع، فصارا قاتلين، فيجب عليهما القود.

(11/331)


فإن عفا عنهما.. وجبت الدية عليهما نصفين، ولا تقسط الدية على عدد الجراحات، كما قلنا في الجلاد إذا زاد جلدة على ما أمر به في أحد القولين؛ لأن الأسواط متماثلة، والجراحات لها مور في البدن، وقد يجوز أن تكون الواحدة منها هي القاتلة وحدها دون غيرها.
وإن أجافه رجل جائفة، وجرحه آخر جراحة غير جائفة، ثم مات منهما.. فهما سواء، وكون إحداهما أعمق من الأخرى لا يمنع من تساويهما، كما لا تمنع زيادة جراحات أحدهما في العدد التساوي بينهما.

[فرع اشتركوا في ذبحه وطعنه وقطعه]
إذا قطع رجل حلقوم رجل أو مريئه، ثم جاء آخر، فقطعه نصفين، أو خرق بطنه وقطع أمعاءه وأبانها منه، ثم جاء آخر، فذبحه.. فالأول قاتل يجب عليه القود، ولا يجب على الثاني إلا التعزير؛ لأن بعد جناية الأول لا تبقى فيه حياة مستقرة، وإنما يتحرك كما يتحرك المذبوح، ولأنه قد صار في حكم الموتى، بدليل: أنه لا يصح إسلامه، ولا تقبل توبته، ولا يصح بيعه، ولا شراؤه، ولا وصيته، ولا يرث، وإن جنى.. لم يجب عليه شيء، فصار كما لو جنى على ميت.
وإن قطع الأول يده أو رجله، ثم حز الآخر رقبته، أو أجافه الأول، ثم قطع الثاني رقبته.. فالأول جارح يجب عليه ما يجب على الجارح، والثاني قاتل؛ لأن بعد جناية الأول فيه حياة مستقرة؛ لأنه قد يعيش اليوم واليومين، وقد لا يموت من هذه

(11/332)


الجناية، بدليل: أنه يصح إسلامه، وتوبته، وبيعه، وشراؤه، ووصيته؛ ولهذا: لما طعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في بطنه، فجاءه الطبيب، فسقاه لبناً، فخرج من بطنه، فقال له: اعهد إلى الناس، فـ: (عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الناس، ثم مات) . فعملت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بعهده، فصار كالصحيح.
وبالله التوفيق

(11/333)


[باب ما يجب به القصاص من الجنايات]
إذا جرح رجل رجلاً بما يجرح بحده، كالسيف، والسكين، أو بما حدد من الرصاص والقصب والذهب والخشب، أو (بالليطة) وهي: القصبة المشقوقة، أو بما له مور في البدن، كالسنان، والسهم، و (المسلة) وهي: المخيطة، فمات منها.. وجب على الجارح القود، سواء كان الجرح صغيراً أو كبيراً، وسواء مات في الحال أو بقي متألماً إلى أن مات، وسواء كان في مقتل أو في غير مقتل؛ لأن جميع ذلك يشق اللحم ويبضعه، ويقتل غالباً.
وأما إذا غرز فيه إبرة، فمات.. نظرت:
فإن غرزها في مقتل، مثل: أصول الأذنين، والعين، والقلب، والأنثيين.. وجب عليه القود؛ لأنها تقتل غالباً إذا غرزت في هذه المواضع.
وإن غرزت في غير مقتل، كالألية، والفخذ.. قال ابن الصباغ: فإن بالغ في إدخالها فيها.. وجب عليه القود، وإن لم يبالغ في إدخالها، بل غرزها فيه.. فاختلف أصحابنا فيه [على قولين] :
فـ[القول الأول] : قال الشيخان - أبو حامد،، وأبو إسحاق -: إن بقي من ذلك متألماً إلى أن مات.. فعليه القود؛ لأن الظاهر أنه مات منه، وإن مات في الحال.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق: يجب عليه القود؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال:

(11/334)


(سواء صغر الجرح أو كبر، فمات المجروح.. فإن القود يجب فيه) ، ولأنه جرحه بحديدة لها مور في البدن، فوجب فيها القود، كالمسلة.
و [الثاني] : قال أبو العباس ابن سريج، وأبو سعيد الإصطخري: لا يجب به القود؛ لأن الغالب أن الإنسان لا يموت من غرز إبرة، فإذا مات.. علمنا أن موته وافق غرزها، فهو كما لو رماه ببعرة أو ثوب، فمات.
و [القول الثاني] : قال ابن الصباغ: لا وجه لهذا التفصيل عندي؛ لأنه إذا كانت العلة لا تقتل غالباً.. فلا فرق بين أن يبقى ضمناً منه، أو يموت في الحال.
فإن قيل: لأنه إذا لم يزل ضمناً منه.. فقد مات منه، وإذا مات في الحال.. فلا يعلم أنه مات منه - قال - فكان ينبغي أن يكون الوجهان في وجوب الضمان دون القود، فيراعى في الفعل أن يكون بحيث يقتل في الغالب، ألا ترى أن الناس يحتجمون ويفتصدون، أفترى ذلك يقتل في الغالب، وهم يقدمون عليه؟
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يجب عليه القود؟ فيه وجهان: من غير تفصيل.

[مسألة الضرب بمثقل يقتل]
وإن ضربه بمثقل، فمات منه، فإن كان يقتل مثله، كالحجر الكبير، أو الخشبة، أو الدبوس، أو رمى عليه حائطاً أو سقفاً وما أشبهه.. وجب عليه القود، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد.

(11/335)


وقال النخعي، والشعبي، والحسن البصري، وأبو حنيفة: (لا يجب القصاص بالمثقل) .
دليلنا: ما روى طاووس، عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العمد قود، إلا أن يعفو ولي الدم، والخطأ دية لا قود فيه» . ولم يفرق.
وروى أنس: «أن جارية من الأنصار وجدت وقد رض رأسها بين حجرين وبها رمق، فقيل لها: قتلك فلان؟ قالت: لا، إلى أن ذكر يهودي، فأشارت برأسها - أي: نعم - فدعي اليهودي، فاعترف، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به، فرضخ رأسه بين حجرين» . وفي هذا الخبر فوائد كثيرة:
أحدها: أن القود يجب بالقتل بالمثقل.
والثانية: أنه يستقاد به.
والثالثة: أن اليهودي يقتل بالمسلم.

(11/336)


والرابعة: أن الرجل يقتل بالمرأة.
الخامسة: أن للإشارة حكماً؛ لأنها لو لم يكن لها حكم.. لأنكر عليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
«وروى حمل بن مالك بن النابغة: أنه قال: (كنت بين جاريتين لي - يعني: زوجتين - فاقتتلتا، فضربت إحداهما بطن الأخرى بمسطح، فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجنين بغرة: عبد أو أمة، وأن تقتل مكانها» . و (المسطح) : الخشبة الكبيرة تركز في وسط الخيمة.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (العمد قود كله) . ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وإن ضربه بمثقل لا يقتل مثله غالباً، كالقلم، والحصاة، فمات.. لم يجب عليه القود ولا الدية ولا الكفارة؛ لأنا نعلم أنه لا يموت منه، وإنما وافق موته ضربه.
وإن ضربه بمثقل قد يقتل وقد لا يقتل، كالسوط، والعصا الخفيف، فمات، فإن

(11/337)


والى عليه الضرب إلى أن بلغ عدداً يقتل مثله في الغالب على حسب حال المضروب، أو رمى به، بأن يضربه خمسمائة أو ألفا.. فإن ذلك يقتل في الغالب، وكذلك: إذا كان المضروب نضو الخلق أو في حر شديد أو في برد شديد، فضربه دون ذلك، فمات.. فإن القود يجب عليه.
وإن ضربه ضرباً لا يقتل مثله مثل المضروب في العادة، فمات.. لم يجب عليه القود؛ لأنه عمد خطأ، ويجب عليه الدية.

[فرع خنقه بيده أو بنحو ذلك]
وإن خنقه بيده أو بحبل، أو طرح على وجهه مخدة أو منديلا ًواتكأ عليه حتى مات، فإن فعل ذلك مدة يموت المخنوق من مثلها غالباً.. وجب على قاتله القود؛ لأنه تعمد قتله بما يقتل مثله غالباً، وإن كان في مدة يجوز أن يموت مثله في مثلها، ويجوز أن لا يموت، والغالب أنه لا يموت.. لم يجب عليه القود، وعليه دية مغلظة؛ لأن فعله عمد خطأ.
وإن خنقه خنقاً يموت مثله من مثله، ثم أرسله حياً، ثم مات، فإن كان قد أورثه الخنق شيئاً حتى لا يخرج نفسه، أو بقي متألماً إلى أن مات.. وجب على الخانق القود؛ لأنه مات بسراية فعله، وإن خنقه وأرسله حياً لا يتألم ولا به ضنى، فصبر، فبرأ وصح، ثم مات.. فلا يجب قود على الخانق ولا دية؛ لأنه مات بسبب آخر، كما لو جرحه، فاندمل جرحه، ثم مات.
وإن جعل في رقبته خراطة حبل، وتحت رجليه كرسياً، وشد الحبل إلى سقف

(11/338)


بيت وما أشبهه، ونزع الكرسي من تحت رجليه، فانخنق، ومات.. وجب عليه القود؛ لأنه أوحى الخنق.

[مسألة ألقاه في حفرة تأجج ناراً]
وإن طرحه في نار في حفير، فلم يمكنه الخروج منها حتى مات.. وجب عليه القود؛ لأنه قتله بما يقتل غالباً.
وإن كانت النار في بسيط من الأرض، فإن كان لا يمكنه الخروج منها لكثرتها أو لشدة التهابها، أو بأن كتفه وألقاه فيها، أو بأن كان ضعيفاً لا يقدر على الخروج.. وجب عليه القود؛ لأنه قتله بما يقتل غالباً، وإن أمكنه الخروج منها، فلم يخرج حتى مات، وهو يعلم إمكان الخروج، بأن يقول: أنا أقدر على الخروج ولا أخرج.. لم يجب القود، وهل تجب عليه الدية؟ فيه قولان:
أحدهما: تجب عليه الدية؛ لأنه ضمنه بطرحه في النار، فلم يسقط عنه الضمان بتركه الخروج مع قدرته عليه، كما لو جرحه جراحة، وأمكنه مداواتها، فلم يداوها حتى مات.
والثاني: لا تجب عليه الدية؛ لأن النفس لم تخرج بالطرح في النار، وإنما خرجت ببقائه فيها باختياره، فهو كما لو خرج منها، ثم عاد إليها، ويفارق ترك المداواة؛ لأنه لم يحدث أمراً كان به التلف، بخلاف بقائه في النار؛ فإنه أحدث أمراً حصل به التلف، ولأن البرء في الدواء أمر مظنون، فلم تسقط به الدية، والسلامة بالخروج أمر متحقق، فسقط بتركه الضمان.
فإذا قلنا بهذا: وجب على الطارح أرش ما عملت فيه النار، من حين طرحه فيها، إلى أن أمكنه الخروج فلم يخرج.

[فرع طرحه في بحر عميق أو نحوه]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو طرحه في لجة بحر وهو يحسن العوم أو

(11/339)


لا يحسن العوم، فغرق فيها.. فعليه القود) .
وجملة ذلك: أنه إذا طرحه في لجة البحر، فهلك.. فعليه القود، سواء كان يحسن العوم - وهو السباحة - أو لا يحسن؛ لأن لجة البحر مهلكة.
وإن طرحه في البحر بقرب الساحل، فغرق، فمات.. فإن كان مكتوفاً أو غير مكتوف وهو لا يحسن السباحة.. فعليه القود، وإن كان يحسن السباحة، وأمكنه أن يخرج فلم يخرج حتى غرق ومات، أو طرحه فيما يمكنه الخروج منه، فلم يخرج منه حتى مات.. فلا يجب عليه القود، وهل تجب عليه الدية؟ فيه طريقان:
[الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو طرحه في نار يمكنه الخروج منها، فلم يخرج منها حتى مات.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: لا تجب عليه الدية، قولاً واحداً؛ لأن العادة لم تجر بأن يخوض الناس في النار، وجرت العادة أن يخوض الناس في الماء في البحر، فنفس الطرح في النار جناية.
وإن طرحه في البحر بقرب الساحل وهو ممن يمكنه الخروج منه، فابتلعه حوت.. فلا قود عليه؛ لأنه كان يمكنه الخروج لو لم يبتلعه الحوت، وعليه الدية؛ لأنه كان السبب في موته.
وإن طرحه في لجة البحر، فابتلعه حوت قبل أن يصل إلى الماء.. ففيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القود؛ لأنه لو لم يبتلعه الحوت.. لما كان يتخلص.
والثاني: لا يجب عليه القود، بل عليه الدية؛ لأن الهلاك لم يكن بفعله. والأول أصح.

(11/340)


وإن طرحه في ساحل بحر قد يزيد إليه الماء وقد لا يزيد، فزاد الماء وغرقه.. لم يجب عليه القود؛ لأنه لم يقصد قتله، وتجب عليه دية مغلظة؛ لأنه عمد خطأ.
وإن كان الموضع لا يزيد الماء إليه، فزاد وغرقه.. لم يجب عليه القود، وتجب عليه دية مخففة، لأنه خطأ محض.

[مسألة حبسه فمات]
وإن حبس حراً وأطعمه وسقاه، فمات وهو في الحبس.. فلا قود عليه ولا دية، سواء مات حتف أنفه أو بسبب، كلدغ الحية، وسقوط الحائط، وما أشبهه.
وقال أبو حنيفة: (إن كان صغيراً، فمات حتف أنفه.. فلا شيء عليه، وإن مات بسبب، كلدغ الحية، أو سقوط الحائط.. فعليه الدية) .
ودليلنا: أنه حر، فلا يضمنه باليد، كما لو مات حتف أنفه.
وأما إذا حبسه ومنعه الطعام والشراب أو أحدهما حتى مات.. نظرت:
فإن حبسه عن ذلك مدة قد يموت مثله في مثلها غالباً.. وجب عليه القود؛ لأنه قتله بما يقتل مثله غالباً، فهو كما لو قتله بالسيف.
وإن كانت مدة قد يموت مثله في مثلها، وقد لا يموت مثله في مثلها.. لم يجب القود، وإنما تجب عليه الدية.
وإن كانت مدة لا يجوز أن يموت مثله في مثلها بمنع الطعام والشراب.. فلا قود عليه ولا دية؛ لأنا نعلم أنه مات بسبب آخر، ويعتبر حال المحبوس، فإن حبسه وهو جائع.. فإنه لا يصبر عن الطعام والشراب إلا المدة القليلة، وإن كان شبعان.. فإنه يصبر أكثر من مدة صبر الجائع. ويعتبر الطعام على انفراده، والشراب على انفراده؛ لأن الإنسان يصبر عن الطعام أكثر مما يصبر عن الشراب.
وإن أمكنه الخروج إلى الطعام والشراب، فلم يخرج حتى مات.. قال الطبري: فلا قود عليه بحال.

(11/341)


[فرع أمسك رجلاً فقتله آخر]
إذا أمسك رجل رجلاً، فجاء آخر فقتله.. وجب القود على القاتل دون الممسك، إلا أن الممسك إن كان أمسكه مداعبة أو ليضربه.. فلا إثم عليه ولا تعزير، وإن أمسكه ليقتله الآخر.. أثم بذلك وعزر. هذا مذهبنا، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
وقال ربيعة: يقتل القاتل، ويحبس الممسك حتى يموت.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن حبسه ليضربه الآخر، أو أمسكه ليضربه، أو مداعبة، فجاء الآخر فقتله.. فلا قود عليه ولا دية، وإن أمسكه ليقتله الآخر.. فعليه القود) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] [البقرة: 194] فلو أوجبنا على الممسك القود.. كنا قد اعتدينا عليه بأكثر مما اعتدى.
وروى أبو شريح الخزاعي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن من أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله، أو طلب بدم الجاهلية في الإسلام، أو بصر عينيه في النوم ما لم تبصر» . فلو قتل الولي الممسك.. لكان قد قتل غير قاتله.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن رجل أمسك رجلاً حتى جاء آخر فقتله، فقال: " يقتل القاتل، ويصبر الصابر» قال أبو عبيد: معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يصبر

(11/342)


الصابر " أي: يحبس، وأراد بالحبس: التعزير بالحبس.
ولأنه سبب غير ملجئ، اجتمع مع المباشرة، فتعلق الضمان بالمباشرة دون السبب، كما لو حفر بئراً، أو نصب سكيناً، فدفع عليها آخر رجلاً، فمات.
ولأنه لو كان بالإمساك شريكاً.. لكان إذا مسك الرجل امرأة، وزنى بها آخر.. أن يجب عليهما الحد، فلما لم يجب الحد على الممسك.. لم يجب القود على الممسك.

[مسألة قيد شخصاً فأكله سبع]
وإن كتف رجلاً أو قيده، فأكله السبع.. ففيه ثلاث مسائل، ذكرها الشيخ أبو حامد:
إحداهن: إذا قيده أو كتفه وطرحه في أرض مسبعة، فجاء السبع فأكله.. فإنه لا قود على الطارح له، ولا دية؛ لأن السبع أكله باختياره، ولأن له اختياراً، كما لو أمسكه، فقتله آخر.
الثانية: إذا قيده في صحراء، ثم رمى بالسبع عليه، أو رمى به على السبع، فأكله.. فلا قود عليه ولا دية؛ لأن من طبع السبع إذا رمي به على إنسان، أو رمي بإنسان عليه.. أن ينفر عنه، فإذا لم ينفر عنه.. كان أكله له باختياره.
الثالثة: إذا كان السبع في مضيق أو بيت أو بئر أو زبية، فرمي بالإنسان عليه،

(11/343)


أو كان الإنسان في المضيق أو في البيت أو في البئر أو في الزبية، فرمي بالسبع عليه، فضربه السبع، فمات، فإن ضربه السبع ضرباً يقتل مثله في الغالب.. وجب على الرامي القود؛ لأنه قد اضطر السبع إلى قتله، وإن ضربه ضرباً لا يقتل مثله في الغالب، فمات.. لم يجب على الرامي القود؛ لأن الغالب منه السلامة، وتجب عليه الدية في ماله. وكذلك حكم النمر، وما في معناه.
وإن أمسك السبع أو النمر، وأفرسه إياه، فأكله.. فعليه القود؛ لأنه قد اضطره إلى ذلك.

[فرع طرحه في أرض ذات حيات]
وإن قيد رجلاً وطرحه في أرض ذات حيات، فنهشته حية منها، فمات.. فلا قود عليه ولا دية، سواء كان في موضع ضيق أو واسع.
وكذلك: إذا رمي به على الحية، أو رمي بالحية عليه؛ لأن الحيات والعقارب من طبعها النفور من الإنسان.
وإن أخذ الحية أو العقرب بيده، وأنهشها إنساناً.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ضغطها أو لم يضغطها، فنهشته، فمات، فإن كان من الحيات التي تقتل في الغالب، كحيات الطائف، وأفاعي مكة.. وجب عليه القود؛ لأنه توصل إلى قتله بما يقتل غالباً، فهو كما لو قتله بالسيف، وإن كان مما لا يقتل غالباً مثلها، كثعابين مكة والحجاز، وأفاعي مصر.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه القود؛ لأنه لا يقتل مثلها غالباً، ويجب عليه دية مغلظة؛ لأنه شبه عمد.
والثاني: يجب عليه القود؛ لأن جنسها يقتل غالباً، فهو بمنزلة الجراح) .

(11/344)


[مسألة سقاه سماً فمات]
إذا سقى رجلاً سماً، فمات المسقي، فلا يخلو: إما أن يكرهه، أو لا يكرهه.
فإن أكرهه على شربه، بأن صبه في حلقه مكرهاً له على ذلك.. نظرت:
فإن أقر الساقي: أنه سم يقتل مثله غالباً.. وجب عليه القود؛ لأنه قتله بما يقتل غالباً، فهو كما لو قتله بالسيف.
وإن ادعى ولي المقتول: أنه يقتل غالباً، وأنكر الساقي أنه يقتل غالبا، فإن أقام ولي المقتول بينة: أنه يقتل غالباً. وجب القود على الساقي؛ لأنه ثبت أنه يقتل غالبا.. وإن أقام ولي المقتول بينة: أنه يقتل نحيف الخلق، ولا يقتل قوي الخلق.. لم يجب عليه القود، وإنما تجب عليه دية مغلظة. وإن لم يقم ولي المقتول بينة، ولكن أقام الساقي بينة: أنه لا يقتل غالباً.. لم يجب عليه القود، وإنما تجب عليه دية مغلظة.
وإن لم يكن هناك بينة.. فالقول قول الساقي مع يمينه: أنه لم يكن يقتل غالباً؛ لأن الأصل عدم القود، فإذا حلف.. لم يجب عليه القود، وعليه دية مغلظة.
وإن قامت البينة: أنه كان يقتل غالباً، أو اعترف الساقي بذلك، إلا أنه ادعى: أنه لم يعلم أنه يقتل غالباً وقت السقي.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه القود؛ لأن ما ادعاه محتمل، وذلك شبهة توجب سقوط القود عنه.
والثاني: يجب عليه؛ لأنه قتله بما يقتل غالباً، فلا يصدق في دعواه، كما لو جرحه.
وإن خلط السم بطعام أو شراب، وأكرهه، فأوجره في حلقه، فمات، فإن كان الطعام أو الشراب قد كسر حدة السم، فصار لا يقتل غالباً.. لم يجب عليه

(11/345)


القود، وإن لم يكسر حدته.. فهو كما لو سقاه السم منفرداً.
فإن لم يكرهه على ذلك، وإنما ناوله إياه، فشربه.. نظرت:
فإن كان الشارب صبياً لا تمييز له، أو كبيراً مجنوناً، أو أعجمياً يعتقد وجوب طاعة الأمر.. فعلى الدافع إليه الضمان؛ لأنه كالآلة له حيث اعتقد طاعته فيه.
وإن كان عاقلاً مميزاً.. فلا ضمان على الدافع؛ لأنه قتل نفسه باختياره أو بتفريطه.
وإن خلطه به، ولم يكسر الطعام حدة السم، فأكله إنسان، ومات.. نظرت:
فإن كان الطعام الذي خلط فيه السم قدمه إلى إنسان، وقال: كله، فأكله.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القود؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن يهودية بخيبر أهدت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاة مصلية، فأكل منها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ثم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارفعوا أيديكم، فإنها قد أخبرتني: أنها مسمومة "، فأرسل إلى اليهودية، وقال: " ما حملك على ما صنعت؟ "، فقالت: قلت: إن كنت نبياً.. لم يضرك الذي صنعت، وإن كنت ملكاً.. أرحت الناس منك. فأكل منها بشر بن البراء بن معرور، فمات، فأرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليهودية، فقتلها، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما زالت أكلة خيبر تعادني، فهذا أوان قطعت أبهري» .

(11/346)


ومعنى قوله: " تعادني " أي: يأتيني ألمها لوقت معلوم.
و (الأبهر) : عرق متصل بالقلب، متى انقطع.. مات الإنسان.
ولأن العادة جرت أن من قدم إليه الطعام.. فإنه يأكل منه، فصار كأنه ألجأه إلى أكله، فوجب عليه القود، كما لو أكرهه عليه.
والثاني: لا يجب عليه القود؛ لأنه أكله باختياره، فصار كما لو قتل نفسه بسكين.
فإذا قلنا بهذا: فهل تجب عليه الدية؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال القاضي أبو الطيب: فيه قولان:
أحدهما: لا تجب عليه الدية؛ لأنه هو الجاني على نفسه.
والثاني: تجب عليه الدية؛ لأن التلف حصل بسبب منه، فصار كما لو حفر بئراً في طريق الناس، فهلك فيها إنسان.
وقال الشيخ أبو حامد: تجب عليه الدية، قولا ًواحداً؛ لما ذكرناه. ولا يعرف هاهنا قولان.
وإن خلط السم بطعام، وقدمه إلى رجل، وقال: فيه سم يقتل غالباً، فأكله، فمات.. فلا قود عليه ولا دية؛ لأنه قتل نفسه.
وإن خلط السم بطعام، وقدمه إلى صبي لا يميز، أو إلى بالغ مجنون، أو إلى أعجمي لا يعقل ولا يميز، وقال: كله، فإن فيه سماً قاتلاً، فأكله، فمات.. وجب عليه القود؛ لأنه لا تمييز له، فهو كما لو قتله بيده.

(11/347)


وإن خلط السم بطعام له، وتركه في بيته، فدخل رجل بيته، وأكل الطعام، ومات.. لم يجب عليه قود ولا دية؛ لأن الآكل فرط وتعدى بأكل طعام غيره بغير إذنه.
وإن خلط السم بطعام لغيره، فجاء صاحب الطعام، فأكل طعامه، ولم يعلم بالسم، فمات.. وجب على الذي خلط فيه السم قيمة الطعام؛ لأنه أفسده، وهل يجب عليه القود في الذي أكله؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كما لو خلطه بطعام نفسه، وقدمه إلى من أكله؛ لأن الإنسان يأكل طعامه بحكم العادة والحاجة، فصار كما لو خلطه بطعام، ودعاه إلى أكله.
ومنهم من قال: لا يجب عليه القود، قولاً واحدا؛ لأنه لم يوجد منه أكثر من إفساد الطعام.

[مسألة سحر إنساناً فمات]
وإذا سحر رجل رجلاً، فمات المسحور.. سئل الساحر عن سحره، فإن قال: سحري يقتل غالباً، وقد قتلته به.. وجب عليه القود.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه القود) .
دليلنا: أنه قتله بما يقتل غالباً، فهو كما لو قتله بسيف.
وإن قال: سحري لا يقتل.. وجب عليه دية مخففة؛ لأنه خطأ.

(11/348)


وإن قال: قد يقتل وقد لا يقتل، والغالب منه السلامة.. وجبت عليه دية مغلظة في ماله.
وإن قال الساحر: قتلت بسحري جماعة، ولم يعين من قتل.. لم يقتل.
وقال أبو حنيفة: (يقتل حداً؛ لأنه يسعى في الأرض بالفساد) .
ودليلنا: أن السعي في الأرض بالفساد هو: إشهار السلاح، وإخافة الطريق، وأما القتل: فليس بالسعي بالفساد، كما لو قتل جماعة مستخفاً بقتلهم.

[مسألة أمر بقتل رجل]
] : إذا أمر الإمام رجلاً أن يقتل رجلا بغير حق، فقتله.. فلا يخلو: إما أن يكرهه على قتله، أو لا يكرهه.
فإن لم يكرهه، بل قال له: اقتله، فإن كان المأمور يعلم أنه أمر بقتله بغير حق.. لم يجز له قتله؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» ،

(11/349)


وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أمركم من الولاة بغير طاعة الله.. فلا تطيعوه» .
فإن خالف وقتله.. فسق المأمور بذلك، ووجب عليه القود والكفارة؛ لأنه قتله بغير حق، ولا يلحق الإمام إلا الإثم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعان على قتل امرئ مسلم ولو بشطر كلمة.. جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله» . هذا نقل البغداديين.
وقال الخراسانيون: هل يكون مجرد أمر الإمام أو السلطان إكراهاً؟ فيه وجهان.
وأما إذا كان المأمور لا يعلم أنه أمر بقتله بغير حق.. وجب على الإمام القود والكفارة؛ لأن الإمام لا يباشر القتل بنفسه، وإنما يأمر به غيره، فإذا أمر غيره وقتله بغير حق.. تعلق الحكم بالإمام، كما لو قتله بيده، وأما المأمور: فلا يجب عليه إثم ولا قود ولا كفارة؛ لأن اتباع أمر الإمام واجب عليه؛ لأن الظاهر أنه لا يأمر إلا بحق.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب له أن يكفر) .
وأما إذا أمره أو أكرهه الإمام على القتل، وعلم المأمور أنه يقتل بغير حق.. فلا يجوز للمأمور القتل؛ لما ذكرناه إذا لم يكرهه، فإن قتل.. فإنه يأثم بذلك ويفسق، ويجب على الإمام القود والكفارة في ماله، وأما المكره المأمور: فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان:

(11/350)


أحدهما: لا يجب عليه القود، وهو قول أبي حنيفة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» ، ولأنه قتله لاستبقاء نفسه.. فلم يجب عليه القود، كما لو قصد رجل نفسه، فلم يمكنه دفعه إلا بقتله.
والثاني: يجب عليه القود، وبه قال مالك، وأحمد رحمة الله عليهما، وهو الأصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» . وهذا قاتل، ولأنه قصد قتل من يكافئه لاستبقاء نفسه، فوجب عليه القود، كما لو جاع.. فقتله ليأكله، ولأن رجلين لو كانا في مضيق أو بيت، فدخل عليهما أسد أو سبع، فدفع أحدهما صاحبه إليه خوفاً على نفسه، فأكله الأسد أو السبع.. لوجب القصاص على الدافع.
وكذلك: لو كان جماعة في البحر، فخافوا الغرق، فدفعوا واحداً منهم في البحر لتخف السفينة، وغرق، ومات.. وجب عليهم القود وإن كان ذلك لاستبقاء أنفسهم، فكذلك هذا مثله.
فإذا قلنا: يجب على المأمور القود.. كان الولي بالخيار: بين أن يقتل المكره، وبين أن يعفو عنهما، ويأخذ منهما الدية.
وإن قلنا: لا يجب على المأمور المكره القود.. فعليه نصف الدية؛ لأنه قد باشر القتل، ويجب على كل واحد منهما الكفارة على القولين معاً. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: إذا قلنا: لا يجب على المأمور القود.. فهل يجب عليه نصف الدية؟ فيه وجهان.

(11/351)


فإن قلنا: عليه نصف الدية.. كان عليه الكفارة.
وإن قلنا: لا تجب عليه نصف الدية.. فهل تجب عليه الكفارة؟ فيه وجهان.
إذا ثبت هذا: فإنه لا فرق بين الإمام وبين النائب عنه في ذلك؛ لأن طاعته تجب كما تجب طاعة الإمام.
وكذلك: إذا تغلب رجل على بلد أو إقليم بتأويل، وادعى: أنه الإمام، كالإمام الذي نصبه الخوارج.. فحكمه حكم الإمام في ذلك؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يرد من أفعاله إلا ما يرد من أفعال الإمام العدل، وكذلك قاضيهم.
وأما إذا تغلب رجل على بلد بغير تأويل، بل باللصوصية، وأمر رجلاً بقتل رجل بغير حق، أو أمره رجل من الرعية بقتل رجل بغير حق، فإن لم يكرهه الآمر على القتل، فقتله.. وجب على المأمور القاتل القود والكفارة، سواء علم أنه أمره بقتله بحق أو بغير حق؛ لأنه لا يجب عليه طاعته بخلاف الإمام، ولا يلحق الإمام إلا الإثم؛ للمشاركة بالقول.
وأما القود والدية والكفارة: فلا تجب عليه؛ لأنه لم يلجئه إلى قتله.
وأما إذا أكرهه على قتله: وجب على الآخر القود والكفارة؛ لأنه توصل إلى قتله بالإكراه، فهو كما لو قتله بيده.
وأما المأمور: فإن كان يمكنه أن يدفع الآمر بنفسه أو بعشيرته أو بمن يستعين به.. فلا يجوز له أن يقتل، فإن قتل.. فعليه القود والكفارة. وإن لم يمكنه أن يدفع الآمر بنفسه، فقتل.. فهل يجب عليه القود؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: فيه قولان، كما قلنا في الذي أكرهه الإمام.
ومنهم من قال: يجب عليه القود، قولا ًواحداً؛ لأن الذي أكرهه الإمام له شبهة في أمر الإمام؛ لجواز أن يكون الإمام قد علم بأمر يوجب القتل على المقتول وإن لم يعلم به المأمور، وطاعة الإمام تجب، بخلاف المتغلب باللصوصية وآحاد الرعية،

(11/352)


فإنه لا يجوز له ذلك، ولا يجب على المأمور طاعته.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: لا يجب القود على من أكرهه الإمام، قولاً واحداً، ويجب القود على من أكرهه غير الإمام، قولاً واحداً؛ لما ذكرناه من الفرق بينهما. والطريق الأول أصح.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " الأم ": (ولو أمر الإمام رجلاً بقتل رجل ظلماً، ففعل المأمور ذلك.. كان عليهما القود) . واختلف أصحابنا في تأويله:
فقال أبو إسحاق: أراد: إذا أكرهه وأجاب، على أحد القولين.
ومنهم من قال: لم يرد بذلك إذا أكرهه؛ لأنه ذكر الإكراه بعد ذلك، وإنما تأويله: أن يقتل مسلماً بكافر، والإمام والمأمور يعتقدان أنه لا يقتل به، إلا أن المأمور اعتقد أن الإمام قد أداه اجتهاده إلى ذلك.. فيجب عليهما القود؛ أما الإمام: فلأنه ألجأه إلى قتله بأمره؛ لأن طاعة أمره واجبة، وأما المأمور: فلأن القتل إذا كان محرماً.. لم يجز له أن يفعله، وإن كان الإمام يرى إباحته.. فيلزمهما القود.

[فرع كيفية الإكراه]
واختلف أصحابنا في كيفية الإكراه على القتل:
فقال ابن الصباغ: لا يكون الإكراه عليه إلا بالقتل، أو بجرح يخاف منه التلف، فأما إذا أكرهه بضرب لا يموت منه، أو بأخذ مال.. فلا يكون إكراهاً؛ لأن ذلك لا يكون عذراً في إتلاف النفس لحرمتها؛ ولهذا: يجب عليه الدفع عن نفسه في أحد الوجهين، ولا يجب عليه الدفع عن ماله، بل يجب عليه بذله لإحياء نفس غيره.
وقال الشيخ الإمام أبو حامد في " التعليق ": إذا أكرهه بأخذ المال عن القتل.. كان إكراهاً، كما قلنا في الإكراه على الطلاق.

(11/353)


وقال الطبري: إذا أكرهه على القتل بما لا تحتمله نفسه.. كان إكراهاً، كما قلنا في الطلاق.

[فرع أمر الصغير والمطيع]
فإن أمر عبده الصغير الذي لا يميز، أو كان أعجمياً لا يميز، ويعتقد طاعته في كل ما يأمره به، بقتل رجل بغير حق، فقتله.. وجب القود والكفارة على الآمر، ولا يجب على المأمور شيء؛ لأن المأمور كالآلة للآمر، فصار كما لو قتله بيده.
وكذلك: إذا كان المأمور عبداً لغيره، أو حراً يعتقد طاعة كل من أمره.. فالحكم فيه وفي غيره واحد.
ولو أمره بسرقة نصاب لغيره من حرز مثله، فسرقه.. لم يجب على الآمر القطع؛ لأن وجوب القصاص آكد من وجوب القطع في السرقة؛ ولهذا: يجب القصاص في السبب، ولا يجب القطع بالسبب.
ولو قال للصغير الذي لا يميز، أو للأعجمي الذي يعتقد طاعته في كل ما يأمره به: اقتلني، فقتله.. كان دمه هدراً؛ لأنه آلة له، فهو كما لو قتل نفسه، ويجب عليه الكفارة في ماله.
وإن أمر الصغير الذي لا يميز، أو البالغ المجنون أن يذبح نفسه، فذبحها، أو يجرح مقتلاً من نفسه، فجرحه، فمات، فإن كان عبده.. لم يجب عليه ضمانه؛ لأنه ملكه، ولكنه يأثم، وتجب عليه الكفارة، وإن كان عبداً لغيره.. وجب عليه ضمانه والكفارة، ولا يجب عليه القود إن كان الآمر حراً، لأنه لا يكافئه، وإن كان الآمر له عبداً، أو كان المأمور حراً.. وجب على الآمر القود والكفارة، كما لو قتله.
وإن قال لأعجمي يعتقد طاعة كل من يأمره: اذبح نفسك، فذبحها.. لم يجب

(11/354)


على الآمر الضمان؛ لأنه لا يجوز أن يخفى عليه أن قتل نفسه لا يجوز وإن جاز أن يخفى عليه أن قتل غيره يجوز.
وإن أمره أن يجرح مقتلاً من نفسه، فجرحه، ومات.. فإن الشيخ أبا حامد ذكر: أن حكمه حكم ما لو أمره بقتل نفسه.
وذكر ابن الصباغ في " الشامل ": أنه يجب على الآمر ضمانه؛ لأنه يجوز أن يخفى عليه أنه يقتله، بخلاف أمره له بقتله لنفسه.
وإن أمر عبداً أعجمياً، بالغاً، عاقلاً، لا يعتقد وجوب طاعة من يأمره بغير حق، بقتل إنسان بغير حق، فقتله، فإن لم يكرهه على القتل.. لم يجب على الآمر قود ولا دية ولا كفارة، وإنما عليه الإثم فقط، ويتعلق حكم القتل بالعبد، فيجب عليه القود، وإن عفا عن القود.. تعلقت الدية برقبته، وإن أكرهه على القتل.. وجب على الآمر القود، وهل يجب القود على العبد المأمور؟ على ما مضى في إكراه الحر.
وإن أمر عبداً مراهقاً، يعلم أن طاعته لا تجوز بما لا يوافق الشرع بقتل إنسان بغير حق، فإن لم يكرهه على القتل.. لم يجب على كل واحد منهما القود، وتتعلق الدية برقبة العبد، وإن أكرهه على القتل.. لم يجب على الصبي قود، وهل يجب القود على الآمر؟
إن قلنا: إن عمد الصبي عمد.. وجب عليه القود.
وإن قلنا: إن عمده خطأ.. لم يجب عليه القود.

[فرع الإكراه على إتلاف مال آخر]
] : وإن أكره رجلاً على إتلاف مال لغيره.. فإن الضمان يتقرر على الآمر، وهل للمالك أن يطالب المأمور؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري:
أحدهما: له أن يطالبه؛ لأنه باشر الإتلاف.

(11/355)


فعلى هذا: يرجع المأمور على الآمر.
والثاني: ليس للمالك مطالبة المأمور؛ لأنه آلة للآمر.

[مسألة إذا قتل بشهادتهما فعليه القود]
وإن شهد شاهدان على رجل بما يوجب القتل بغير حق، فقتل بشهادتهما، وعمدا الشهادة عليه، وعلما أنه يقتل بشهادتهما.. وجب القود عليهما؛ لما روي: أن رجلين شهدا عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل: أنه سرق، فقطعه، ثم رجعا عن شهادتهما، فقال: (لو أعلم أنكما تعمدتما الشهادة عليه.. لقطعت أيديكما) . وغرمهما دية يده. ولأنهما توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالباً، فهو كما لو جرحاه، فمات.

[فرع أمره بقطع يده فقطع فلا قود]
لو قال لرجل: اقطع يدي، فقطع يده.. فلا قود على القاطع ولا دية؛ لأنه أذن له في إتلافها، فهو كما لو أذن له في إتلاف ماله، فأتلفه.
وإن قال له: اقتلني، فقتله، أو أذن له في قطع يده، فقطعها، فسرى القطع إلى نفسه فمات.. لم يجب عليه القود.
وأما الدية: فقال أكثر أصحابنا: تبنى على القولين، متى تجب دية المقتول؟
فإن قلنا: تجب في آخر جزء من أجزاء حياته.. لم تجب هاهنا.
وإن قلنا: إنها تجب بعد موته.. وجبت ديته لورثته.
قال ابن الصباغ: وعندي في هذا نظر؛ لأن هذا الإذن ليس بإسقاط لما يجب بالجناية، ولو كان إسقاطاً لها.. لما سقط، كما لا يصح أن يقول له: أسقطت عنك

(11/356)


ما يجب لي بالجناية أو إتلاف المال، وإنما سقط لوجود الإذن فيه، ولا فرق بين النفس فيه والأطراف، وهذا يدل على: أن الدية تسقط عنده، قولاً واحداً.
وإن فصده أو حجمه، فمات، فإن كان بغير أمره.. وجب عليه القود، وإن كان بأمره.. لم يجب عليه قود ولا دية، قولاً واحداً؛ لأن الفصد مباح، بخلاف القتل.
وبالله التوفيق والعون، وهو حسبي ونعم الوكيل

(11/357)


[باب القصاص في الجروح والأعضاء]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والقصاص فيما دون النفس شيئان: جرح يستوفى، وطرف يقطع) .
وجملة ذلك: أن القصاص يجب فيما دون النفس من الجروح والأعضاء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] .
ولما روي: «أن الربيع بنت معوذ - وقيل: بنت أنس - كسرت ثنية جارية من الأنصار، فعرضوا عليهم الأرش، فلم يقبلوا، فطلبوا العفو، فأبوا، فأتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر بالقصاص، فقال أنس بن النضر: والذي بعثك بالحق نبياً لا تكسر ثنيتها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كتاب الله القصاص "، فعفا القوم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» .
ولأن القصاص في النفس إنما جعل لحفظ النفس، وهذا موجود فيما دون النفس.
إذا ثبت هذا: فكل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس.. جرى القصاص بينهما فيما دون النفس، فتقطع يد الحر المسلم بيد الحر المسلم، ويد الكافر بيد الكافر، ويد المرأة بيد المرأة. وهذا إجماع.
وتقطع يد المرأة بيد الرجل، ويد الرجل بيد المرأة، ويد العبد بيد الحر والعبد عندنا، وبه قال مالك، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال أبو حنيفة: (إذا اختلف الشخصان في الدية.. لم يجز القصاص بينهما فيما دون النفس، فلا تقطع يد الرجل بيد المرأة، ولا يد المرأة بيد الرجل، ولا يد العبد بيد الحر، ولا يد العبد بيد العبد إذا اختلفت قيمتهما) .

(11/358)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ولم يفرق.
ولأن كل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس.. جرى القصاص بينهما فيما دون النفس، كالحرين المسلمين.

[مسألة اشتراك جماعة في إبانة عضو]
وإن اشترك جماعة في إبانة عضو، أو جراحة يثبت بها القصاص، ولم يتميز فعل بعضهم عن بعض، مثل: أن أجرى جماعة سيفاً في أيديهم على يد رجل أو رجله، فقطعوها، أو على رأسه، فأوضحوه.. قطعت يد كل واحد منهم، وأوضح كل واحد منهم، وبه قال ربيعة، ومالك، وأحمد.
وقال الثوري، وأبو حنيفة: (لا يقتص منهم، بل ينتقل حق المجني عليه إلى الدية) .
دليلنا: ما روي: أن رجلين شهدا عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل بالسرقة، فقطع يده، ثم أتياه برجل آخر، وقالا: هذا الذي سرق وأخطأنا في ذلك.. فلم يقبل شهادتهما على الثاني، وغرمهما دية يد، وقال: (لو أعلم أنكما تعمدتما.. لقطعت أيديكما) . وروي: (لقطعتكما) . ولا مخالف له في الصحابة.
ولأن كل جناية وجب بها القصاص على الواحد.. وجب بها القصاص على الجماعة، كالنفس.
وإن قطع أحدهما بعض العضو وأبانه الثاني، أو وضع أحدهما السكين على المفصل، ووضع الآخر عليه السكين من الجانب الآخر، ثم قطعاه وأباناه.. لم يجب على أحدهما قصاص في إبانة العضو؛ لأن جناية كل واحد منهما وقعت متميزة في بعض العضو، فلا يقتص منه في جميعه.

(11/359)


[فرع يعتبر في المجني به ما يعتبر بالنفس]
ويعتبر في المجني به على ما دون النفس ما يعتبر في النفس، فإن رماه بحجر كبير يوضحه مثله في الغالب، فأوضحه.. وجب عليه القود.
وإن لطمه، وورم، وانتفخ، وصار موضحة.. فلا قود عليه فيها، وتجب فيها الدية.
وإن رماه بحجر صغير لا يوضح مثله في الغالب، فأوضحه.. لم يجب عليه القود، ووجبت عليه الدية، كما قلنا في النفس.
وحكى ابن الصباغ في " الشامل ": أن الشيخ أبا حامد قال: إذا كان الحجر مما يوضح غالباً، ولا يقتل غالباً.. فإنه يجب القصاص في الموضحة، فإذا مات.. لم يجب القصاص.
قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأن من أوضح غيره بحديدة، فمات منها.. وجب عليه القود، فإذا كانت هذه الآلة توضح في الغالب.. كانت كالحديدة.

[مسألة القصاص في الجروح والأعضاء]
ويجب القصاص فيما دون النفس في شيئين: الجروح والأعضاء.
والجروح ضربان: جروح في الرأس والوجه، وجروح فيما سواهما من البدن.
فأما الجروح في الرأس والوجه: فتسمى: الشجاج.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (هي عشر:
أولها: (الخارصة) : وهي التي تكشط الجلد كشطاً لا يدمي، ومنه يقال: (خرص القصار الثوب) : إذا كشط درنه ووسخه.
وبعدها (الدامية) : وهي التي كشطت الجلد، وخرج منها الدم.

(11/360)


وبعدها (الباضعة) : وهي التي تبضع اللحم، أي: تشقه بعد الجلد.
وبعدها (المتلاحمة) : وهي التي تنزل في اللحم.
وبعدها (السمحاق) : وهي التي وصلت إلى جلدة رقيقة بين اللحم والعظم، وتسمى تلك الجلدة: السمحاق.
وبعداه (الموضحة) : وهي التي أوضحت العظم، وكشفت عنه.
وبعدها (الهاشمة) : وهي التي هشمت العظم.
وبعدها (المنقلة) : قال الشيخ أبو حامد: ولها تأويلان:
أحدهما: أن تنقل العظم من موضع إلى موضع.
والثاني: أنه في تداويه لا بد من إخراج شيء من العظم منه.
وبعدها (المأمومة) : وتسمى: الآمة، وهي التي قطعت العظم، وبلغت إلى قشرة رقيقة فوق الدماغ.
وبعدها (الدامغة) : وهي التي بلغت إلى الدماغ) .
وحكي عن أبي العباس ابن سريج: أنه زاد الدامغة بعد الدامية، وقال: (الدامية) : التي يخرج منها الدم ولا يجري، و (الدامغة) : ما يخرج منها الدم ويجري.
وقال الأزهري: (الدامغة) : قبل الدامية، وهي التي يخرج منها الدم بقطرة، و (الدامية) : هي التي يخرج منها الدم أكثر.

(11/361)


إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " الأم ": (لا قصاص فيما دون الموضحة من الشجاج) ، ونقل المزني: لو جرحه، فلم يوضحه.. اقتص منه بقدر ما شق من الموضحة. واختلف أصحابنا فيه:
فقال الخراسانيون: هل يجب القصاص فيما دون الموضحة من الشجاج؟ فيه قولان.
وقال أكثر أصحابنا البغداديين: لا يجب القصاص فيما دون الموضحة، وما نقله المزني فيه سهو؛ لأن القصاص هو المماثلة، ولا يمكن المماثلة فيما دون الموضحة، فلو أوجبنا فيها القصاص.. لم نأمن أن نأخذ في موضحة بمتلاحمة؛ لأنه قد يكون رأس المجني عليه غليظ الجلد كثير اللحم، ويكون رأس الجاني رقيق الجلد قليل اللحم، فإذا قدرنا العمق في المتلاحمة في رأس المجني عليه، وأوجبنا قدره في رأس الجاني.. فربما بلغت إلى العظم، وذلك لا يجوز.
وقال الشيخ أبو حامد: يمكن عندي القصاص فيما دون الموضحة من الشجاج على ما نقله المزني، بأن يكون في رأس المجني عليه موضحة، وفي رأس الجاني موضحة، فينظر إلى المتلاحمة التي في رأس المجني عليه، وينظر كم قدرها من الموضحة التي في رأس الجاني، فإن كانت قدر نصفها.. نظر كم قدر الموضحة التي في رأس الجاني، فيقتص منه نصف موضحته التي في رأسه.
والمشهور: أنه لا قصاص في ذلك.
وأما الموضحة: فيجب فيها القصاص؛ لأن المماثلة فيها ممكنة من غير حيف، فتقدر الموضحة بالطول والعرض، ويعلم عليه بخيط أو سواد، ولا يعتبر العمق؛ لأنه يأخذ إلى العظم.

(11/362)


وإن كانت الشجة في الرأس، وعلى موضعها في رأس الجاني شعر.. فالمستحب: أن يحلق ذلك الشعر؛ لأنه أسهل في الاستيفاء، وإن اقتص ولم يحلق الشعر.. جاز؛ لأنه لا يأخذ إلا قدر حقه.

[فرع اختلاف كبر الرأس وصغره مع الشجة]
وإذا شج رجل رجلاً في رأسه شجة.. فلا يخلو: إما أن تستوي رأساهما في الصغر والكبر، أو تختلفا.
فإن استوى رأساهما في الصغر أو الكبر.. فإنه يستوفي مثل موضحته بالطول والعرض في موضعها، إما في مقدم الرأس، أو مؤخره، أو بين قرنيه.
وإن اختلفا.. نظرت:
فإن كان رأس الجاني أكبر، ورأس المجني عليه أصغر، فجنى عليه موضحة من منبت الشعر فوق الأذن إلى منبت الشعر فوق الأذن، وكان قدر طولها وعرضها في رأس الجاني ينتهي إلى أعلى من ذلك الموضع لسعته.. فليس للمجني عليه أن يأخذ إلا قدر موضحته طولاً وعرضاً لا يزيد عليه، ولكن له أن يبتدئ بالاقتصاص من أي الجانبين شاء.
وإن أوضح جميع رأسه.. فللمجني عليه أن يقتص قدر موضحته طولاً وعرضاً في أي موضع شاء من رأس الجاني؛ لأنه قد جنى عليه في ذلك الموضع في رأسه.
فإن أراد أن يقتص بعضها في مقدم رأس الجاني، وبعضها في مؤخر رأس الجاني، ويكون بينهما فاصل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له ذلك؛ لأنه يأخذ موضحتين بموضحة.
والثاني - وهو قول الشيخ أبي إسحاق -: أنه يجوز؛ لأنه لا يأخذ إلا قدر حقه، إلا إن قال أهل الخبرة: إن في ذلك زيادة ضرر، أو زيادة شين.. فيمنع من ذلك.

(11/363)


وإن كان رأس المجني عليه أكبر من رأس الجاني، فأوضحه موضحة في مقدم رأسه، وكان قدر طولها وعرضها في رأس الجاني يزيد على ذلك الموضع.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن للمجني عليه أن يقتص في مقدم رأس الجاني، ويستكمل قدر طول موضحته وعرضها مما يلي ذلك من مؤخر رأس الجاني؛ لأنه عضو واحد.
فإن زادت موضحته على قدر الرأس.. لم يكن له أن يستوفي باقيها في الوجه ولا في القفا، وهو: ما نزل عن منبت شعر الرأس من العنق؛ لأنهما عضوان آخران.
والوجه الثاني: أنه لا يجوز له أن يتجاوز عن سمت موضع الشجة؛ لأنه غير موضع الشجة، فلم يتجاوزه، كما لا يجوز له أن يتجاوز عن موضحة الرأس إلى الوجه والقفا.
فعلى هذا: إن كانت الموضحة في مقدم الرأس، وزاد قدرها على مقدم رأس الجاني.. لم ينزل إلى مؤخره، وإن كانت بين قرني الرأس - وهما: جانباه - وزاد قدرها على ما بين قرني رأس الجاني. فللمجني عليه أن يقتص إلى ما فوق الأذنين؛ لأنه في سمتها، وليس له أن يستوفي في مقدم الرأس ولا في مؤخره؛ لأنه في غير سمته.

[فرع يقتص من الموضحة]
وأما الهاشمة والمنقلة والمأمومة: فله أن يقتص في الموضحة منها، وليس له أن يقتص فيما زاد عليها؛ لأن كسر العظم لا يمكن المماثلة فيه؛ لأنه يخاف فيه الحيف، وإتلاف النفس.

[فرع جراحة غير الرأس والوجه]
وأما الجراحة في غير الرأس والوجه: فينظر فيها:
فإن وصلت إلى عظم.. وجب فيها القصاص.

(11/364)


ومن أصحابنا من قال: لا يجب فيها القصاص؛ لأنها لما خالفت موضحة الرأس والوجه في تقدير الأرش.. خالفتها في وجوب القصاص.
والمنصوص هو الأول؛ لأنه يمكن القصاص فيها من غير حيف، فهي كالموضحة في الرأس والوجه.
فعلى هذا: إن كانت في موضع عليه شعر كثير.. فالمستحب: أن يحلق موضعها، ويعلم على موضعها بسواد أو غيره، ويقدر الطول والعرض على ما ذكرناه في موضحة الرأس. وإن كانت الجراحة في العضد، فزاد قدرها على عضد الجاني.. لم ينزل في الزيادة إلى الساعد. وإن كانت في الفخذ، وزاد قدرها على فخذ الجاني.. لم ينزل في الزيادة إلى الساق. وإن كانت في الساق، وزاد قدرها على ساق الجاني.. لم ينزل في الزيادة إلى القدم، كما لا ينزل في موضحة الرأس إلى الوجه والقفا.
وإن كانت فيما دون الموضحة.. لم يجب فيها القصاص، على المشهور من المذهب؛ لأنه لا يمكن المماثلة في ذلك، وعلى ما اعتبره الشيخ أبو حامد، وحكاه الخراسانيون فيما دون الموضحة من الجراحات على الرأس والوجه: يكون هاهنا مثله.
وإن كانت الجراحة جائفة، أو كسرت عظماً.. لم يجب القصاص فيها؛ لأنه لا يمكن المماثلة فيها، ويخاف فيها الحيف، بل إن كانت في موضع، ووصلت إلى العظم، ثم كسرت أو أجافت.. وجب القصاص فيها إلى العظم، ووجب الأرش فيما زاد.

[مسألة القصاص في الأطراف]
وأما الأطراف: فيجب فيها القصاص في كل ما ينتهي منها إلى مفصل، فتؤخذ العين بالعين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] الآية [المائدة: 45] ، ولأنها تنتهي إلى مفصل.

(11/365)


فإذا ثبت هذا: فتؤخذ العين الصحيحة بالصحيحة، والقائمة بالقائمة، وهي: التي ذهب ضوءها، وبقيت حدقتها، ولا تؤخذ الصحيحة بالقائمة؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويجوز أن تؤخذ القائمة بالصحيحة؛ لأنه يأخذ أقل من حقه باختياره.

[فرع أوضح رأسه فذهب ببصره]
وإن أوضح رأسه رجل، فذهب ضوء العين.. فالمنصوص: (أنه يجب القصاص في الضوء) .
وقال الشافعي فيمن قطع إصبع رجل، فتآكل الكف وسقط: (إنه لا يجب عليه القصاص في الكف) .
واختلف أصحابنا في ضوء العين:
فنقل أبو إسحاق جوابه في الكف إلى العين، وجعل في ضوء العين قولين:
أحدهما: أنه لا يجب فيه القصاص؛ لأنه سراية فيما دون النفس، فلم يجب فيه القصاص، كالكف.
والثاني: يجب فيه القصاص؛ لأنه لا يمكن إتلافه بالمباشرة، وإنما يتلف بالجناية على غيره، فوجب فيه القصاص بالسراية، كالنفس.
وقال أكثر أصحابنا: لا يجب القصاص في الكف بالسراية، قولاً واحداً، ويجب القصاص بالضوء في السراية، قولاً واحداً.
والفرق بينهما: أن الكف يمكن إتلافه بالمباشرة، فلم يجب فيه القصاص بالسراية، والضوء لا يمكن إتلافه بالمباشرة بالجناية، وإنما يتلف بالجناية على غيره، فوجب القصاص فيه بالسراية، كالنفس.

(11/366)


[فرع الجفن بالجفن]
قال الشيخ أبو إسحاق: ويؤخذ الجفن بالجفن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنه ينتهي إلى مفصل، فيؤخذ جفن البصير بجفن الضرير، وجفن الضرير بجفن البصير؛ لأنهما متساويان في السلامة، وعدم البصر نقص في غيره.

[مسألة الأنف بالأنف]
ويؤخذ الأنف بالأنف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنه ينتهي إلى مفصل، فيؤخذ الأنف الكبير بالصغير، والغليظ بالدقيق، والأقنى بالأفطس؛ لأن الأطراف يجب القصاص فيها وإن اختلفت بالصغر والكبر.
ولا يجب القصاص في الأنف، إلا في المارن وهو: اللين، وأما القصبة: فلا يجب فيها القصاص؛ لأنها عظم.
ويؤخذ أنف الشام بأنف الأخشم، وأنف الأخشم بأنف الشام، لأن الخشم ليس بنقص في الأنف، وإنما هو لعلة في الدماغ، والأنفان متساويان في السلامة.
ويؤخذ الأنف الصحيح بالأنف المجذوم ما لم يسقط بالجذام شيء منه؛ لأن الطرف الصحيح يؤخذ بالطرف العليل، فإن سقط من الأنف شيء.. لم يؤخذ به الصحيح؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه.

(11/367)


فإن قطع من سقط بعض مارنه مارناً صحيحاً.. قطع جميع ما بقي من مارن الجاني، وأخذ منه من الدية بقدر ما كان ذهب من مارنه.
وإن قطع بعض مارن غيره.. نظر، كم القدر الذي قطع؟ فإن كان نصف المارن أو ثلثه أو ربعه.. اقتص من مارنه بنصفه أو ثلثه أو ربعه، ولا يقدر بالمساحة بالطول والعرض، كما قلنا في الموضحة؛ لأنه قد يكون أنف الجاني صغيراً، وأنف المجني عليه كبيراً، فإن قلنا: يقطع من أنف الجاني قدر ما قطع من أنف المجني عليه بالمساحة طولاً وعرضاً.. لم يؤمن أن يقطع جميع أنفه ببعض أنف المجني عليه.
ويؤخذ المنخر بالمنخر، والحاجز بينهما بالحاجز
وإن قطع المارن والقصبة.. اقتص من المارن، وأخذ الحكومة في القصبة؛ لأنه لا يمكن القصاص فيها.

[مسألة القصاص في الأذن]
ويجب القصاص في الأذن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] . فيؤخذ الكبير بالصغير، والصغير بالكبير، والغليظ بالدقيق، والصحيح بالمجذوم، والأصم بالسميع، والسميع بالأصم؛ لما ذكرناه في الأنف.
ويؤخذ المثقوب بالصحيح، والصحيح بالمثقوب؛ لأن الثقب ليس بنقص في الأذن، وإنما تثقب للجمال بالخرص، فإن انخرم الثقب.. صار نقصاً، فلا يؤخذ به الصحيح؛ لأن الكامل لا يؤخذ بالناقص.
وإن قطع من أذنه مخرومة أذناً صحيحة.. اقتص منه المجني عليه في المخرومة، وأخذ من دية أذنه بقدر ما انخرم من أذن الجاني.

(11/368)


وتؤخذ الأذن المستحشفة وهي: الأذن اليابسة، بالأذن الصحيحة، لأنه يأخذ أنقص من أذنه باختياره، وهل تؤخذ الأذن الصحيحة بالأذن المستحشفة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تؤخذ بها، كما لا يجوز أخذ اليد الصحيحة باليد الشلاء.
والثاني: تؤخذ بها؛ لأن الأذن المستحشفة تساوي الأذن الصحيحة في المنفعة، فأخذت الصحيحة بها، بخلاف اليد الشلاء، فإنها لا تساوي الصحيحة في المنفعة.

[فرع قطع بعض الأذن]
وإن قطع بعض أذنه.. اقتص منه، ويقدر ذلك بالجزء، كالنصف والثلث والربع، ولا تقدر بالمساحة بالطول والعرض؛ لما ذكرناه في الأنف.
وحكى ابن الصباغ، عن القاضي أبي الطيب: أنه لا يثبت القصاص في بعض الأذن.
والأول أصح؛ لأنه يمكن القصاص فيها.

[فرع قطع بعض الأذن ثم ألصقه فالتصق]
قال الشيخ أبو إسحاق: إذا قطع بعض أذنه وألصقه، فالتصق.. لم يجب القصاص؛ لأنه لا يمكن المماثلة فيما قطع منه. ولعله أراد: إذا اندمل موضع القطع وخفي.
وإن قطع أذنه حتى جعلها معلقة.. فله أن يقطع أذنه كذلك، لأن المماثلة ممكنة.
وإن قطع أذنه، فأبانها، فأخذها المجني عليه، فألصقها، فالتصقت.. لم يسقط القصاص؛ لأنه وجب بالإبانة، فلم يسقط بالإلصاق.

(11/369)


وإن قطع أذنه، فأبانها، فاقتص منه كذلك، ثم أخذ الجاني أذنه، فألصقها، فالتصقت.. لم يكن للمجني عليه أن يطالبه بإزالتها؛ لأنه قد استوفى حقه، والإزالة إلى السلطان.
وإن قطع أذنه وأبانها، فقطع المجني عليه بعض أذن الجاني، وألصقه الجاني، فالتصق.. فللمجني عليه أن يعود ويقطعه؛ لأن حقه الإبانة، ولم توجد.
وإن جنى على رأسه، فذهب عقله، أو شمه، أو سمعه، أو ذوقه، أو نكاحه، أو إنزاله.. لم تجب فيها القصاص؛ لأن هذه الأشياء ليست في موضع الجناية فيمكن القصاص فيها.

[مسألة في الشفتين القود]
ويجب في الشفتين القود.
ومن أصحابنا من قال: لا قود فيهما؛ لأنه قطع لحماً من لحم غير منفصل.
والأول هو المنصوص؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأن الشفتين هما اللحم الجافي من لحم الذقن، و (الشدق) : مستدير على الفم طولا ًوعرضاً، وطولهما ما تجافى عن لحم الذقن إلى أصل الأنف، وذلك من لحم له حد معلوم، فوجب القصاص فيه.
واختلف أصحابنا في القصاص في اللسان:
فمنهم من قال: يجب القصاص في جميعها وفي بعضها؛ لأن له حداً ينتهي إليه، فهو كالأنف والأذن.
فعلى هذا: يقتص في بعضها بالجزء، كالنصف والثلث والربع، لا بالمساحة بالطول والعرض؛ لما ذكرناه في الأنف والأذن.
وقال أبو إسحاق: لا قصاص فيه. وإليه ذهب بعض أصحاب أبي حنيفة،

(11/370)


واختاره ابن الصباغ؛ لأن أصله لا يمكن استيفاء قطعه إلا بقطع غيره، وإذا قطع بعضه.. لم يمكن تقدير بعضه من الجملة. هذا ترتيب ابن الصباغ.
وأما الشيخ أبو إسحاق فذكر: أن القصاص يثبت في جميعها، وهل يثبت في بعضها؟ على وجهين.

[مسألة من قلع سناً قلعت سنه]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن قلع سن من قد أثغر.. قلع سنه، وإن كان المقلوع سنه لم يثغر.. وقف حتى يثغر) .
وجملة ذلك: أن القصاص يجب في السن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] .
ولما روي: «أن الربيع بنت معوذ كسرت سن جارية، فأمر رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكسر سنها، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع؟ لا والله، لا تكسر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كتاب الله القصاص " فعفا الأنصاري، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن من عباد الله من لو أقسم على الله.. لأبره» .
إذا ثبت هذا: فإنه يقال للصبي إذا سقطت رواضعه - وهي: الأسنان التي تنبت له وقت رضاعه -: ثغر، فهو مثغور، فإذا نبتت له مكانها غيرها.. قيل له: أثغر واثّغر، لغتان.
فإذا قلع سن غيره.. فلا يخلو المقلوع سنه: إما أن يكون لم يثغر، أو كان قد ثغر.
فإن كان لم يثغر.. فإن القصاص لا يجب على الجاني في الحال؛ لأن العادة جرت: أن سن من لم يثغر تعود إذا قلعت، وما كان يعود إذا قلع.. لا يجب فيه القصاص، كالشعور. ويسأل أهل الخبرة: كم المدة التي تعود هذه السن في مثلها؟

(11/371)


وينتظر إلى تلك المدة، فإذا جاءت تلك المدة ولم تعد السن.. وجب على الجاني القصاص؛ لأنه قد أيس من عودها.
وإن نبت للمجني عليه سن مكانها في تلك المدة أو أقل منها، فإن نبتت الثانية مثل الأولى، من غير زيادة ولا نقصان.. لم يجب على الجاني قصاص ولا دية، وهل تجب عليه حكومة الجرح الذي حصل بفعله؟ ينظر فيه:
فإن جرح موضعاً آخر غير موضع السن بالقلع.. وجبت عليه فيه الحكومة.
وإن لم يجرح إلا الموضع الذي قلع منه السن.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه الحكومة؛ لأنه لما قلع السن أدمى، فإذا أدمى.. وجبت فيه الحكومة.
والثاني: لا يجب عليه الحكومة؛ لأن الحكومة إنما تجب إذا جرح وأدمى، فأما إذا أدمى من غير جرح.. فلا حكومة عليه، كما لو لطمه فرعف.. فإنه لا يجب عليه لخروج الدم بالرعاف حكومة.
وإن كانت السن التي نبتت مكان المقلوعة أنقص من التي تليها.. وجب على الجاني من ديتها بقدر ما نقص منها؛ لأن الظاهر أنها إنما نقصت بجنايته.
وإن كانت التي نبتت أزيد من التي قبلها.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يجب على الجاني شيء؛ لأن الزيادة لا تكون من الجناية.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق: تلزمه حكومة للشين الحاصل بالزيادة، كما يلزمه للشين الحاصل بالنقصان؛ لأن الظاهر أن ذلك من جنايته.
وإن كانت النابتة خارجة من صف الأسنان، فإن كانت بحيث لا ينتفع بها.. كان كما لو لم تنبت؛ لأن وجودها كعدمها، وإن كانت ينتفع بها.. وجب عليه حكومة للشين الحاصل بها.

(11/372)


وإن نبتت له سن خضراء أو صفراء أو سوداء، وكانت المقلوعة بيضاء.. وجب على الجاني الحكومة؛ للشين الحاصل باللون.
وإن مات المجني عليه بعد مضي المدة التي يرجى فيها عود السن قبل أن تعود. فلوليه أن يقتص من الجاني؛ لأنه مات بعد استقرار القصاص.
وإن مات قبل مضي المدة التي يرجى عود السن فيها قبل أن تعود.. لم يجب على الجاني القصاص؛ لأنه يجوز أن لو بقي لعادت السن؛ وذلك شبهة تسقط القصاص.
وهل تجب له دية سن؟ حكى الشيخ أبو إسحاق فيها قولين، وحكاهما الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ وجهين:
أحدهما: تجب دية السن؛ لأنه قلع سناً لم تعد، والأصل عدم العود.
والثاني: لا تجب؛ لأن الغالب أنها قد كانت تعود، وإنما قطعها الموت.
وأما إذا قلع سن من قد أثغر: فإن قال أهل الخبرة: إنها لا تعود.. وجب له القصاص في الحال، وإن قالوا: إنها تعود إلى مدة.. فهل له القصاص قبل مضي تلك المدة؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: ليس له أن يقتص قبل مضي تلك المدة، كما قلنا فيمن قلع سن صبي لم يثغر.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: له أن يقتص في الحال؛ لأن الظاهر أنها لا تعود.
إذا ثبت هذا: فإن قلع سن من قد ثغر، وقيل: إنها لا تعود، فاقتص منه في الحال، أو قلنا: له أن يقتص بكل حال، أو اقتص منه بعد الإياس من عودها، ثم نبت للمجني عليه سن في موضع السن المقلوعة.. ففيه قولان:
أحدهما: أن هذا السن من نبات السن المقلوعة من هذا الموضع؛ لأنه مثله في

(11/373)


موضعه، فصار كما لو نتف شعرة، ثم نبتت، أو كما لو قلع سن صبي لم يثغر، ثم نبت مكانه سن، وكما لو لطم عينه، فذهب ضوءها، ثم عاد.
فعلى هذا: لا يجب على المجني عليه القصاص للجاني في السن التي اقتص منه بها؛ لأنه قلعها، وكان يجوز له قلعها، وإنما تجب عليه دية سن الجاني.
وإن كان المجني عليه عفا عن القصاص، وأخذ دية سنه.. وجب عليه رد الدية إلى الجاني.
والقول الثاني: أن السن النابت هبة مجددة من الله تعالى للمجني عليه؛ لأن العادة أن سن من أثغر إذا قلعت لا تعود، فإذا عادت.. علمنا أن ذلك هبة من الله تعالى له.
فعلى هذا: إن كان المجني عليه قد اقتص من الجاني، أو أخذ منه الأرش.. فقد وقع ما فعله موقعه، ولا شيء عليه للجاني.
وإن قلع سن رجل، فقلع المجني عليه سن الجاني، ثم نبت للجاني سن مكان سنه المقلوعة التي اقتص منه، ولم يعد للمجني عليه مثلها.. فإن قلنا: إن النابت هبة من الله تعالى مجددة.. فلا شيء للمجني عليه، وإن قلنا: إن النابت هو من الأول.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن للمجني عليه أن يقلعه ولو نبت مراراً؛ لأنه أعدمه سنه، فاستحق أن يعدمه سنه.
والثاني: ليس له أن يقلع سنه؛ لأنه يجوز أن يكون من المقلوع، ويجوز أن يكون هبة مجددة من الله تعالى، وذلك شبهة، فسقط بها القصاص.
فعلى هذا: للمجني عليه دية سنه على الجاني، فإن خالف المجني عليه وقلع هذه السن للجاني.. وجب عليه ديتها، ويتقاصان.
وإن قلع سنه، فاقتص منه، فعاد للمجني عليه سن مكان سنه، ولم يعد للجاني، ثم عاد الجاني فقلعها.. وجب عليه ديتها؛ لأنه ليس له مثلها.

(11/374)


فإن قلنا: إنه من الأول.. فقد قلنا: إن على المجني عليه دية سن الجاني، فيتقاصان.
وإن قلنا: إن النابت هبة مجددة.. فلا شيء على المجني عليه للجاني.

[فرع تؤخذ السن الكبيرة بالصغيرة]
] : وتؤخذ السن الكبيرة بالصغيرة، والصغيرة بالكبيرة، كما قلنا في الأنف والأذن.
ولا يؤخذ سن صحيح بمكسور؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه. ويؤخذ المكسور بالصحيح؛ لأنه أنقص من حقه. ويأخذ من دية سنه بقدر ما ذهب من سن الجاني.
وإن كسر بعض سنه من نصفها أو ربعها.. فهل يجب فيها القصاص؟ اختلف الشيخان:
فقال الشيخ أبو إسحاق: إن أمكن أن يقتص.. اقتص، وإن لم يمكن.. لم يقتص.
وقال الشيخ أبو حامد: لا يقتص منه؛ لأن القصاص بالكسر لا يجب باتفاق الأمة - قال - وما روي في خبر الربيع بنت معوذ بن عفراء: أنها كسرت ثنية جارية من الأنصار، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تكسر ثنيتها» .. أراد بالكسر: القلع، لا الكسر من بعضها.

[فرع قلع سن زائدة]
وإن قلع لرجل سناً زائدة، وللجاني سن زائد في ذلك الموضع يساوي السن الذي قلع.. وجب فيها القصاص؛ لأنهما متساويان.
وإن لم يكن للجاني سن زائد.. لم يجب عليه القصاص؛ لأنه ليس له مثلها.

(11/375)


وإن كان له سن زائد في غير ذلك الموضع.. لم يجب فيه القصاص؛ لأنه ليس له مثلها، لاختلاف المحل.
وإن كان له سن زائد في ذلك الموضع، إلا أنه أكبر من سن المجني عليه.. ففيه وجهان:
أحدهما: - وهو قول أكثر أصحابنا -: لا يجب فيها القصاص؛ لأن القصاص في العضو الزائد إنما يجب بالاجتهاد، فإذا كانت سن الجاني أزيد.. كانت حكومتها أكثر، فلم يجب قلعها بالتي هي أنقص منها، بخلاف السن الأصلية، فإن القصاص فيها ثبت بالنص، فلا يعتبر فيها التساوي.
والثاني - حكاه ابن الصباغ، عن الشيخ أبي حامد، واختاره -: أنه يجب فيها القصاص؛ لأن ما ثبت بالاجتهاد.. يجب اعتباره بما ثبت بالنص. والأول هو المنصوص.

[مسألة يقطع العضو بالعضو]
وتقطع اليد باليد، والرجل بالرجل، والأصابع بالأصابع، والأنامل بالأنامل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأن لها مفاصل يمكن القصاص فيها من غير حيف.
إذا ثبت هذا: فإن قطع أصابعه من مفاصلها.. فله أن يقتص، وإن قطع يده من وسط الكف.. فليس له أن يقتص من وسط الكف؛ لأن كسر العظم لا يثبت فيه القصاص بإجماع الأمة.
وإن أراد أن يقتص من الأصابع من أصولها.. كان له ذلك؛ لأن الأصابع يمكن القصاص فيها.
فإن قيل: وكيف يضع السكين في غير الموضع الذي وضعه الجاني عليه؟

(11/376)


قلنا: لأنه لا يمكن وضعها في الموضع الذي وضعها الجاني فيه.
فإذا اقتص من الأصابع.. فهل له أن يأخذ حكومة فيما زاد على الأصابع من الكف؟ فيه وجهان يأتي بيانهما.
وإن قطع يده من الكوع.. كان له أن يقتص من ذلك الموضع؛ لأنه مفصل.
وإن قطع يده من بعض الذراع.. فليس له أن يقتص من بعض الذراع؛ لأنه كسر عظم.
وإن أراد أن يقتص من الكوع، ويأخذ الحكومة فيما زاد عليه.. كان له ذلك؛ لأنه داخل في الجناية، يمكن القصاص فيه.
وإن قطع يده من المرفق.. فله أن يقتص من المرفق، فإن أراد أن يقتص من الكوع، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. لم يكن له ذلك؛ لأنه يمكنه استيفاء حقه بالقصاص.
وإن قطع يده من بعض العضد.. فليس له أن يقتص من بعض العضد، فإن أراد أن يقتص من المرفق، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. كان له ذلك، وإن أراد أن يقتص من الكوع، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. فقد اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو إسحاق: له ذلك؛ لأن الجميع مفصل داخل في الجناية.
وقال ابن الصباغ، والطبري في " العدة ": ليس له ذلك؛ لأنه يمكنه أن يقطع من المرفق، ومتى أمكنه استيفاء حقه قصاصاً.. لم يكن له أن يستوفي بعضه قصاصاً وبعضه أرشاً، كما لو قطع يده من الكوع.

(11/377)


وإن أراد أن يقتص من الأصابع، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. فليس له ذلك. قال ابن الصباغ: وهذه لم يذكرها أصحابنا.
وإن قطع يده من الكتف: فإن قال اثنان من المسلمين من أهل الخبرة: إنه يمكن القصاص فيه من غير أن يخاف منه جائفة.. فله أن يقتص، وإن أراد أن يقتص من الكوع أو من المرفق، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. لم يكن له ذلك؛ لأنه يمكنه استيفاء حقه قصاصاً.
وإن قالا: إنه يخاف من القصاص الجائفة.. لم يكن له أن يقتص من الكتف؛ لأنه لا يمكن أن يأخذ زيادة على حقه، فإن أراد أن يقتص من المرفق، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. كان له ذلك. وإن أراد أن يقتص من الكوع، ويأخذ الحكومة فيما زاد على ذلك.. فقال الشيخ أبو إسحاق: له ذلك.
وعلى ما قال ابن الصباغ: إذا قطع يده من بعض العضد، وأراد أن يقتص من المرفق.. ليس له أن يقتص هاهنا من الكوع؛ لأنه يمكنه استيفاء حقه قصاصاً من المرفق، ومتى أمكنه أن يأخذ حقه قصاصاً.. فليس له أن يستوفي بعضه قصاصاً وبعضه أرشاً.
وحكم الرجل إذا قطعت أصابعها، أو من مفصل القدم، أو الركبة، أو الورك، أو ما بين ذلك.. حكم اليد في القصاص، على ما مضى.

[فرع قطع عضواً من مفصل وبقيت الجلدة معلقة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا قطع يده من المفصل، فتعلقت بالجلد.. وجب القصاص، فتقطع إلى أن تبقى معلقة بمثل ذلك، ويسأل أهل الطب، فإن قالوا:
المصلحة
في قطعها.. قطعناها، وإن قالوا: المصلحة في تركها.. تركناها) .

(11/378)


[فرع قطع يداً شلاء]
وإن قطع من له يد صحيحة يداً شلاء.. لم يكن للمجني عليه أن يقتص، بل له الحكومة.
وقال داود: له أن يقتص.
دليلنا: أن اليد الشلاء لا منفعة فيها، وإنما فيها مجرد جمال، فلا يأخذ بها يداً فيها منفعة.
وإن قطع من له يد شلاء يداً صحيحة، فاختار المجني عليه أن يقطع الشلاء بالصحيحة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (له القصاص) .
وقال أصحابنا: يرجع إلى عدلين من المسلمين من أهل الخبرة، فإن قالا: إذا قطعت هذه الشلاء لم يخف عليها أكثر مما يخاف عليه إذا قطعت لو كانت صحيحة.. فللمجني عليه أن يقتص. وإن قالا: يخاف عليه أكثر من ذلك، بأن تبقى أفواه العروق منفتحة لا تنحسم، فتدخل الريح فيها، فيخشى على النفس التلف.. لم يكن له أن يقتص؛ لأنه أخذ نفس بيد، وهذا لا يجوز.
وهل يجوز أخذ اليد الشلاء باليد الشلاء، أو الرجل الشلاء بالرجل الشلاء؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنهما متماثلان.
والثاني: لا يجوز؛ لأن الشلل علة، والعلل يختلف تأثيرها في البدن، فلا تتحقق المماثلة بينهما، ولا يتصور الوجهان إلا إذا قال أهل الخبرة: إنه لا يخاف على الجاني أن تبقى العروق منفتحة لا تنحسم. فأما إذا خيف عليه ذلك: فلا يجوز القصاص، وجهاً واحداً، على ما مضى في أخذ الشلاء بالصحيحة.

(11/379)


[فرع قطع لرجل كفه مع خمس أصابع وكان للجاني أصبع زائدة]
إذا كان لرجل يد لها ست أصابع، فقطع كف رجل لها خمس أصابع.. نظرت في الإصبع الزائدة للجاني.
فإن كانت خارجة عن عظم الكف.. كان للمجني عليه أن يقتص من كف الجاني؛ لأنه يمكنه أن يأخذ مثل كفه من غير أن يتناول محل الزائدة.
وإن كانت نابتة على الكف، أو ملتزمة بإحدى الأصابع، أو على إحدى أنامل أصابع اليد.. لم يكن له أن يقتص من الكف؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه، فيكون المجني عليه بالخيار: بين أن يأخذ دية يده، وبين أن يقتص من الأصابع الخمس إذا كانت الزائدة على سائر الأصابع غير ملتزقة بواحدة منهن ولا نابتة على إحداهن، فإذا اقتص منها.. فهل يتبعها ما تحتها من الكف في القصاص؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتبعها، كما يتبعها في ديتها.
والثاني: لا يتبعها، بل يأخذ مع القصاص الحكومة؛ لأن الكف تتبع الأصابع في الدية، ولا تتبعها في القصاص؛ فلهذا: لو قطعت أصابعه، فتآكل منها الكف، واختار الدية.. لم يلزمه أكثر من دية الأصابع، ولو طلب القصاص.. قطعت الأصابع، وأخذ الحكومة في الكف.
وإن كانت الإصبع الزائدة نابتة على أنملة من الأصابع الخمس.. فليس للمجني عليه أن يقتص من الكف، وله أن يقتص من الأصابع التي ليس عليها الزائدة.
وأما الإصبع التي عليها الزائدة: فإن كانت على الأنملة العليا.. لم يكن له أن يقتص منها، وإن كانت على الوسطى.. فله أن يقتص من الأنملة العليا، ويجب له ثلثا دية إصبع، وإن كانت على الأنملة السفلى.. فله أن يقتص من الأنملتين العليتين

(11/380)


وله ثلث دية إصبع، ويتبعها ما تحتها من الكف، وهل يتبع ما تحت الأصابع الأربع ما تحتها من الكف في القصاص؟ على الوجهين.
وإن قطع من له خمس أصابع كف يد لها أربع أصابع.. لم يكن له أن يقتص من الكف؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه، وله أن يقتص من أصابع الجاني الأربع المماثلة لأصابعه المقطوعة. وهل يتبعها ما تحتها من الكف في القصاص، أو يجب له مع ذلك حكومة؟ على الوجهين.

[فرع له كف بخمس أصابع فقطع كف من له أربع أصابع]
إذا كان لرجل كف فيه خمس أصابع أصلية، فقطع كف يد فيه أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة - وإنما يحكم بأنها زائدة.. إذا كانت مائلة عن بقية الأصابع ضعيفة - فليس للمجني عليه أن يقتص من كف الجاني؛ لأنه ليس له أن يأخذ أكمل من يده.
فإن اختار الأرش.. كان له دية الأربع الأصابع الأصلية، وحكومة في الزائدة.
وإن أراد أن يقتص من الأربع الأصابع الأصلية.. كان له ذلك، ويأخذ مع ذلك حكومة في الزائدة، ويتبعها ما تحتها من الكف في الحكومة، وهل يتبع ما تحت الأصابع الأصلية ما تحتها من الكف في القصاص، أو تجب له فيه الحكومة؟ على الوجهين.
وإن قطع كفا له خمس أصابع أصلية، ويد القاطع لها أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة، فإن اختار المجني عليه أن يقطع كف الجاني.. كان له ذلك؛ لأنها أنقص من كفه.
قال المزني في " جامعه ": إنما يجوز له ذلك إذا كانت الزائدة في محل الأصلية، فأما إذا كانت في غير محلها: فليس له أخذها، وهذا صحيح؛ لأنهما إذا اختلفا في المحل.. كانتا كالجنسين. وكذلك: إذا كانت الزائدة أكثر أنامل.. لم تؤخذ بالأصلية.

(11/381)


وإن قطع يداً وعليها إصبع زائدة، وللقاطع يد عليها إصبع زائدة، فإن اتفق محل الزائدتين وقدرهما.. كان للمجني عليه أن يقتص من الكف؛ لتساويهما، وإن اختلفا في المحل.. لم يكن له أن يقتص من الكف.
فإن اتفقتا في المحل واختلفتا في القدر، فإن كانت إصبع الجاني أكثر أنامل.. لم يكن للمجني عليه أن يقتص من الكف؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه، وإن كانت أقل أنامل.. كان له أن يقتص، ويأخذ في الزيادة الحكومة.

[فرع قطع كفا ذات ثلاث أصابع صحيحة وثنتين شلاوين]
وإن قطع كفاً له ثلاث أصابع صحيحة وإصبعان شلاوان، وكف القاطع صحيحة الأصابع.. فليس للمجني عليه أن يقتص من الكف؛ لأنه يأخذ أكمل من يده، وإن رضي الجاني بذلك.. لم يجز؛ لأن القصاص لم يجب فيها، فلم يجز بالبذل، كما لو قتل حر عبداً، ورضي أن يقتل به.
وللمجني عليه أن يقتص من الأصابع الثلاث الصحيحة، فإذا اقتص منها.. فهل يتبعها ما تحتها من الكف في القصاص، أو تجب فيها الحكومة؟ فيه وجهان.
وأما الإصبعان الشلاوان: فله فيهما حكومة، ويتبعهما ما تحتهما من الكف في الحكومة، وجهاً واحداً.
وإن كانت كف المقطوع صحيحة الأصابع، وكف القاطع فيها إصبعان شلاوان.. فالمجني عليه بالخيار: بين أن يأخذ دية يده، وبين أن يقتص من كف الجاني؛ لأنها أنقص من كفه، ولا شيء للمجني عليه؛ لنقصان كف الجاني بالشلل. أما إذا اختار الدية: فله دية يده، لا نعلم فيه خلافاً؛ لأنه عجز عن استيفاء حقه على الكمال بالقصاص، فكانت له الدية، كما لو لم يكن للقاطع يد. وهذا قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد.

(11/382)


وإن قطع كفاً له خمس أصابع، وكف الجاني لها ثلاث أصابع لا غير، وإصبعان مفقودتان.. فللمجني عليه أن يقتص من كف الجاني، ويأخذ منه دية الإصبعين الناقصتين.
وقال أبو حنيفة: (هو بالخيار: بين أن يأخذ دية يده، وبين أن يقتص من يد الجاني، ولا شيء له) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] الآية [البقرة: 194] . ويد الجاني ليست مثل يد المجني عليه. ولأنه استوفى بعض حقه، فكان له أرش ما لم يستوفه، كما لو قطع له إصبعين، ولم توجد له إلا واحدة.

[فرع يد القاطع ذات أظفار بخلاف المقطوع له]
وإن كانت يد القاطع لها أظفار، ويد المقطوع لا أظفار لها.. لم تقطع بها؛ لأنه يأخذ أكمل من حقه، فإن سقطت أظافيره.. قطعت، ولو لم يكن لواحد منهما أظافير حالة القطع.. يقتص منه.
فلو نبت للقاطع أظافير قبل أن يقتص منه.. لا يقتص؛ لطروء الزيادة.
ويجوز أن يأخذ اليد التي لا أظفار لها باليد التي لها أظفار؛ لأنها أنقص من يده.

[فرع قطع أنملة له طرفان]
وإن قطع أنملة لها طرفان، فإن كانت أنملة القاطع لها طرفان من تلك الإصبع بتلك اليد.. فللمجني عليه قطعها؛ لأنها مثل حقه، وإن كانت أنملة القاطع لها طرف واحد.. فللمجني عليه قطعها، ويأخذ حكومة في الطرف الزائد، كما لو كان للمجني عليه إصبع زائدة في يده.
وإن قطع أنملة لها طرف، ولتلك الأنملة في القاطع طرفان.. لم يكن للمجني عليه

(11/383)


القصاص؛ لأنها أزيد من حقه، ويكون للمجني عليه أرش الأنملة.
فإن قال المجني عليه: أنا أصبر على القصاص إلى أن تسقط الأنملة الزائدة، وأقتص في الأصلية.. كان له ذلك؛ لأن له تأخير القصاص. هذا ترتيب البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن علمت الأصلية منهما.. قطعت، ولا شيء عليه. وإن لم تعلم الأصلية.. قطعت إحداهما، ويغرم الجاني التفاوت ما بين سدس دية إصبع وثلثها.

[فرع قطع أنملة المشيرة]
وإن قطع أنملة من سبابة رجل، وقطع الأنملة الوسطى من تلك الإصبع من رجل آخر، فإن جاء المجني عليهما.. قطعت العليا لصاحب العليا، وقطعت الوسطى لصاحب الوسطى، وإن جاء صاحب الوسطى أولاً، وطلب القصاص.. لم يكن له ذلك؛ لأنه لا يمكن قطعها من غير قطع العليا، ويكون بالخيار: بين أن يأخذ دية الأنملة، وبين أن يصبر إلى أن يقتص صاحب العليا، أو تسقط بأكلة.
وهكذا: إن عفا صاحب العليا عن القود، أو لم يقطع الأنملة العليا من إنسان لكن قطع الأنملة الوسطى من رجل، وجاء صاحب الوسطى يطلب القصاص، وللجاني الأنملة العليا والوسطى.. فللمجني عليه أن يصبر إلى أن تقطع العليا أو تسقط، ثم يقتص من الوسطى.
وقال أبو حنيفة: (لا قصاص له؛ لأنه حين قطعها لم يجب القصاص عليه فيها؛ لتعذر استيفائها، فإذا لم يجب حال الجناية.. لم يجب بعد ذلك) .
دليلنا: أن القصاص إنما تعذر لمتصل به، فإذا زال ذلك المتصل.. كان له استيفاء القصاص، كما لو قتلت الحامل غيرها، ثم ولدت.

(11/384)


فإن لم يصبر صاحب الوسطى، وقطع الوسطى والعليا.. فقد فعل ما لا يجوز له، ولا عليا للمقتص، فيجب عليه ديتها، وقد استوفى القصاص في الوسطى.
فإن قطع العليا من إصبع زيد، وقطع العليا والوسطى من تلك الإصبع من عمرو، فإن حضرا معاً، وطلبا القصاص.. اقتص زيد من العليا؛ لأنه أسبق، واقتص عمرو من الوسطى، وأخذ دية العليا.
وكذلك: إن حضر زيد وحده.. فله أن يقتص من العليا، وإن حضر عمرو.. فليس له أن يقتص؛ لأن حق زيد تعلق بالعليا قبله، فإن خالف واقتص من العليا والوسطى.. فقد أساء بذلك، ولكنه يصير مستوفياً لحقه، ويكون لزيد دية الأنملة العليا على الجاني.

[فرع لو كان للمجني عليه أربع أنامل في أصبع]
ذكر الطبري في " العدة ": لو كان للمجني عليه أربع أنامل في إصبع.. فله أربعة أحوال:
أحدها: أن يقطع من له ثلاث أنامل أنملة من الأربع.. فلا قصاص عليه.
و [الثاني] : إن قطع أنملتين من الأربع.. قطع من الجاني أنملة، ويغرم الجاني التفاوت فيما بين النصف والثلث من دية الإصبع، وهو بعير وثلثان.
و [الثالث] : إن قطع له ثلاث أنامل.. قطع منه أنملتين، ويغرم ما بين ثلثي دية إصبع وبين ثلاثة أرباع ديتها.
و [الرابع] : إن قطع له أربع أنامل.. قطعت أنامل القاطع الثلاث، ووجبت عليه مع ذلك زيادة حكومة.
فأما إذا كان للقاطع أربع أنامل، وللمقطوع ثلاث أنامل.. فله ثلاثة أحوال:
[أحدها] : إن قطع أنملة منه.. قطعت أنملة منه، ويغرم الجاني ما بين ثلث دية إصبع وبين ربعها، وهو خمسة أسداس بعير.

(11/385)


و [الثاني] : إن قطع أنملتين.. قطع منه أنملتان، ويغرم التفاوت بين نصف دية الإصبع وثلثها.
و [الثالث] : إن قطع جميع أنامله.. قطع منه ثلاث أنامل، ويغرم التفاوت بين ثلاثة أرباع دية الإصبع وجميع ديتها.

[فرع قطع أصبعاً فتآكل الكف منها]
وإن قطع إصبع رجل، فتآكل منها الكف وسقط.. فللمجني عليه القصاص في الإصبع المقطوعة، وله دية الأصابع الأربع، وما تحت الأصابع الأربع من الكف.. يتبعها في الدية، وما تحت الإصبع التي اقتص فيها.. هل يتبعها في القصاص، أو تجب له حكومة؟ فيه وجهان. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب له القصاص في الإصبع المقطوعة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] .
وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) . وقد اعتدى بقطع الإصبع، فوجب أن تقطع منه.
ولأنها جناية، لو لم تسر.. وجب فيها القصاص، فوجب إذا سرت إلى ما لا قصاص فيه أن لا يسقط القصاص، كالمرأة إذا قطعت يد المرأة، فأسقطت جنينا، فلا يسقط القصاص في اليد.

[فرع قطع قدم زائدة مع الأصلية]
قال القفال: لو كان له قدمان على ساق واحدة، يمشي عليهما، أو يمشي على إحداهما، والأخرى زائلة عن سنن منبت القدم، فقطعهما رجل له قدم.. قطعت رجله، وطولب بحكومة للزيادة.

(11/386)


وإن قطع إحداهما، فإن قطع الزائدة.. فعليه حكومة، وإن استويا في المنبت، وكان يمشي عليهما.. ففي المقطوعة ربع الدية، وزيادة حكومة.
وإن كان الجاني هو صاحب القدمين، فإن عرفنا الزائدة من الأصلية، وأمكن قطعها من غير أن تتلف الزائدة.. قطعت، وإن لم تعرف، أو عرفت ولا يمكن قطعها إلا بإتلاف الأخرى.. لم تقطع، وعليه دية الرجل المقطوعة.

[مسألة تؤخذ الأليتان بالأليتين]
قال الشيخ أبو إسحاق: وتؤخذ الأليتان بالأليتين، وهما: الناتئتان بين الظهر والفخذ.
ومن أصحابنا من قال: لا تؤخذ، وهو قول المزني؛ لأنه لحم متصل بلحم، فأشبه لحم الفخذ.
والمذهب الأول؛ لأنهما ينتهيان إلى حد فاصل، فهما كاليدين.

[مسألة يقطع الإحليل بالإحليل]
ويقطع الذكر بالذكر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنه عضو ينتهي إلى مفصل، فوجب فيه القصاص، كاليد.
إذا ثبت هذا: فيقطع ذكر الرجل بذكر الصبي، ويقطع ذكر الشاب بذكر الشيخ؛ لأن كل عضو جرى القصاص فيه بين الرجل والرجل.. جرى فيه القصاص بين الصبي والرجل، كاليد والرجل.
ويقطع ذكر الفحل بذكر الخصي والعنين.
وقال مالك، وأحمد رحمهما الله: (لا يقطع به) .
دليلنا: أنهما متساويان في السلامة، وإنما عدم الإنزال والجماع؛ لمعنى في غيره، فلم يمنع القصاص، كأذن السميع بأذن الأصم.
ولا يقطع الذكر الصحيح بالذكر الأشل؛ لأنه لا يساويه.

(11/387)


وإن قطع بعض ذكره.. اقتص منه.
وقال أبو إسحاق: لا يقتص منه، كما قال في اللسان.
والأول أصح؛ لأنه إذا أمكن في جميعه.. أمكن في بعضه.
فعلى هذا: يعتبر المقطوع بالجزء، كالنصف والثلث والربع، كما قلنا في الأذن والأنف.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويقاد ذكر الأغلف بذكر المختون، كما تقطع اليد السمينة باليد المهزولة، ولأن تلك الجلدة مستحقة للقطع، فلا تمنع من القصاص) .

[فرع قطع الأنثيين فيقطع منه]
] : وإن قطع أنثييه.. أقتص منه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنه طرف يمكن اعتبار المماثلة في أخذ القصاص فيه، فشابه سائر الأطراف.
فإن قطع إحدى أنثييه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (سألت أهل الخبرة، فإن قالوا: يمكن أن يقتص من إحدى البيضتين من القاطع ولا تتلف الأخرى.. اقتص منه، وإن قيل: تتلف الأخرى.. لم يقتص منه؛ لأنه لا يجوز أخذ أنثيين بواحدة، ويجب له نصف الدية) . وهل تتبعها جلدتها، أو تنفرد بحكومة؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ".

[مسألة القصاص في الشفرين]
وهل يجب القصاص في (الشفرين) : وهما اللحم المحيط بالفرج؟ فيه وجهان:

(11/388)


أحدهما: يجب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنهما لحمان محيطان بالفرج من الجانبين يعرف انتهاؤهما، فوجب فيهما القصاص.
والثاني: لا يجب، وهو قول الشيخ أبي حامد؛ لأنه لحم، وليس له مفصل ينتهي إليه، فلم يجب فيه القصاص، كلحم الفخذ. والأول هو المنصوص.

[فرع قطع ذكر مشكل مع أخريات]
إذا قطع قاطع ذكر خنثى مشكل، وأنثييه، وشفريه.. فلا يخلو القاطع: إما أن يكون رجلاً، أو امرأة، أو خنثى مشكلاً.
فإن كان القاطع رجلاً.. لم يجب عليه القصاص في الحال؛ لجواز أن يكون الخنثى امرأة، والذكر والأنثيان فيه زائدان، فلا يؤخذ الأصليان بالزائدين، وقيل له: أنت بالخيار: بين أن تصبر إلى أن يتبين حالك، فيجب لك القصاص إن بان أنك رجل، وبين أن تعفو وتأخذ المال، فإن قال: أعطوني ما وجب لي من المال.. نظرت:
فإن عفا عن القصاص في الذكر والأنثيين، أو لم يكن للجاني ذكر ولا أنثيان، بأن كانا قد قطعا.. قال أصحابنا البغداديون: فإنه يعطى دية الشفرين، وحكومة للذكر والأنثيين لا تبلغ ديتهما؛ لأنه يستحق ذلك بيقين.
وقال الخراسانيون والجويني: يعطى حكومة للذكر والأنثيين، وحكومة للشفرين؛ لأنه يستحق ذلك بيقين، ويشك في الزيادة.
وإن قال: لا أقف، ولا أعفو عن القصاص، وطلب المال.. فهل يعطى شيئاً؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا يعطى؛ لأنه مطالب بالقود، ولا يجوز أن يأخذ المال وهو مطالب بالقود.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يعطى، وهو الأصح؛ لأنه يستحقه بيقين.
فإذا قلنا بهذا: فكم القدر الذي يعطى؟ اختلف أصحابنا فيه:

(11/389)


فقال القفال: يعطى حكومة في الشفرين؛ لأنه يستحق ذلك بيقين.
وقال القاضي أبو حامد: يعطى دية الشفرين؛ لأنا لا نتوهم وجوب القصاص فيهما.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: يعطى أقل الحكومتين في آلة الرجال أو في آلة النساء؛ لأن ذلك هو اليقين.
ومن أصحابنا من قال: يعطى الحكومة في الذي قطعه آخراً. والأول أصح.
وإن كان القاطع امرأة، فإن قلنا بقول الشيخ أبي حامد، وأنه لا قصاص في الشفرين.. فإنا لا نتوهم وجوب القصاص، فيعطى حكومة في آلة الرجال، وحكومة في آلة النساء، فإن بان رجلاً.. تمم له دية الذكر ودية الأنثيين وحكومة للشفرين، وإن بان امرأة.. تمم له دية الشفرين وحكومة للذكر والأنثيين. وإن قلنا بالمنصوص، وأنه يجب القصاص فيهما.. فإنه لا يجب للخنثى القصاص في الحال؛ لجواز أن يكون رجلاً، فلا يجب القصاص على المرأة في الفرج الزائد.
فإن طلب المال.. نظرت:
فإن عفا عن القصاص، أو لم يعف ولكن ليس للقاطعة شفران.. فعلى قول البغداديين من أصحابنا: يعطى دية الشفرين، وحكومة للذكر والأنثيين، فإن بان امرأة.. فقد استوفت حقها، وإن بان رجلاً.. تمم له دية الذكر ودية الأنثيين، وحكومة الشفرين.
وعلى قول الخراسانيين: يعطى حكومة للشفرين، وحكومة للذكر والأنثيين.
وإن لم يعف عن القصاص، وكان للقاطعة شفران وطلب المال.. فعلى قول أبي علي بن أبي هريرة: لا يعطى، وعلى قول أكثر أصحابنا: يعطى.
فإذا قلنا بهذا: فكم يعطى على قول القفال؟ يعطى حكومة للذكر والأنثيين.
وعلى قول القاضي أبي حامد: يعطى دية الذكر والأنثيين.
وعلى قول بعض أصحابنا الخراسانيين: يعطى أقل الحكومتين في آلة الرجال وآلة النساء.

(11/390)


وإن كان القاطع خنثى مشكلاً.. فإنه لا يجب القصاص في الحال؛ لأنا لا نتيقن عين الزائد من الآلتين فيهما، ولا عين الأصلي، فلو أوجبنا القصاص في الحال.. لم نأمن أن نأخذ أصلياً بزائد، وذلك لا يجوز.
فإن طلب حقه من المال.. نظرت:
فإن عفا عن القصاص.. قال أصحابنا البغداديون: أعطي دية الشفرين، وحكومة للذكر والأنثيين؛ لأنه يستحق ذلك بيقين. وقال الخراسانيون: يعطى الحكومة في الذكر والأنثيين والشفرين.
وإن لم يعف عن القصاص.. فهل يعطى شيئاً من المال؟
إن قلنا بقول الشيخ أبي حامد، وأنه لا قصاص في الشفرين.. أعطي الحكومة فيهما؛ لأنا لا نتوهم وجوب القصاص فيهما، وإن قلنا بالمنصوص، وأنه يجب فيهما القصاص.. فهل يعطى شيئاً؟
إن قلنا بقول أبي علي بن أبي هريرة: أنه لا يعطى شيئاً إذا كان القاطع رجلاً أو امرأة.. فهاهنا أولى أن لا يعطى، وإن قلنا هناك يعطى.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: لا يعطى، وهو قول القفال؛ لأن القصاص متوهم في جميع الآلات.
والثاني: يعطى أقل الحكومتين في آلة الرجال وآلة النساء.
والصحيح: أنه لا يعطى هاهنا شيئاً.

مسألة: [القصاص لا يعتبر فيه الصحة والكبر] :
وكل عضو وجب فيه القصاص.. فإنه يجب فيه وإن اختلف العضوان في الصغر والكبر، والصحة والمرض، والسمن والهزال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] (المائدة: من الآية 45) ولم يفرق. ولأنا لو اعتبرنا هذه الأشياء.. لشق وضاق، فسقط اعتباره، كما سقط اعتبار ذلك في النفس.
وما كان من الأعضاء منقسماً إلى يمين ويسار، كالعينين والأذنين واليدين

(11/391)


والرجلين.. لا يجوز أخذ اليمنى منه باليسرى، ولا اليسرى باليمنى.
وقال ابن شبرمة: يجوز.
دليلنا: أن كل واحد منهما يختص باسم ينفرد به، فلا يؤخذ بغيره، كما لا تؤخذ اليد بالرجل.
وكذلك: لا يؤخذ الجفن الأعلى بالجفن الأسفل، ولا الأسفل بالأعلى، وكذلك الشفتان مثله.
ولا تؤخذ سن بسن غيرها، ولا إصبع بإصبع غيرها، ولا أنلمة بأنملة غيرها، كما لا تؤخذ نفس بجناية نفس غيرها، ولا يؤخذ ذلك وإن رضي الجاني والمجني عليه.
وكذلك: إذا رضي الجاني بأن يؤخذ العضو الكامل بالناقص، والصحيح بالأشل.. لم يجز؛ لأن الدماء لا تستباح بالإباحة.

[مسألة قطع عضوه ثم قتله]
إذا قطع يد رجل، ثم عاد فقتله.. كان له أن يقطع يده، ثم يقتله، وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف، ومحمد: ليس له إلا القتل.
دليلنا: قوله تعلى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) وهذا قد اعتدى بقطع اليد، فلم يمنع من قطع يده.
ولأنهما جنايتان يجب القصاص في كل واحدة منهما إذا انفردت، فوجب القصاص فيهما عند الاجتماع، كقطع اليد والرجل.

[مسألة قتل جماعة]
إذا قتل واحد جماعة.. قتل بواحد، وأخذ الباقون الدية.
وقال أبو حنيفة، ومالك: (يقتل بالجماعة، فإن بادر واحد وقتله.. سقط حق الباقين) . وهو قول بعض أصحابنا الخراسانيين.

(11/392)


وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن طلبوا القصاص.. قتل لجماعتهم وإن طلب بعضهم القصاص، وبعضهم الدية.. قتل لمن طلب القصاص، وأعطيت الدية من طلبها) .
وقال عثمان البتي: يقتل بجماعتهم، ثم يعطون دية باقيهم، فيقسمونها بينهم، مثل: أن يقتل عشرة، فإنه يقتل، ويعطون تسع ديات، ويقسمونها بين العشرة.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين، إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» .
ولأنها حقوق مقصودة لآدميين يمكن استيفاؤها.. فوجب أن لا تتداخل، كالديون.
فقولنا: (حقوق مقصودة) احتراز من آجال الدائنين.
وقولنا: (لآدميين) احتراز من حقوق الله تعالى، وهي الحدود في الزنا والشرب.
إذا ثبت هذا: فإن قتل واحداً بعد واحد.. اقتص للأول، فإن عفا الأول.. اقتص للثاني، فإن عفا الثاني.. اقتص للثالث.
وإن كان ولي الأول غائباً أو صغيراً.. انتظر قدوم الغائب، وبلوغ الصغير.
وإن قتلهم دفعة واحدة، بأن هدم عليهم بيتاً أو حرقهم فماتوا معاً.. أقرع بينهم، فمن خرجت له القرعة.. قتل به، وكان للباقين الدية.
وقال بعض أصحابنا الخراسانيين: يقتل بالجميع، ويرجع كل واحد من الأولياء بحصته الموروثة من الدية.
وإن قتلهم واحداً بعد واحد، إلا أنه أشكل الأول منهم، فإن أقر القاتل لأحدهم: أنه الأول.. قبل إقراره، وقتل به، وإن لم يقر.. أقرعنا بينهم؛ لاستواء حقوقهم،

(11/393)


فإن بادر واحد منهم فقتله.. فقد استوفى حقه، وانتقل حق الباقين إلى الدية.
وحكى الخراسانيون من أصحابنا - أنه إذا قتل واحداً بعد واحد، وكان ولي الأول غائباً أو مجنوناً أو صغيراً - قولين:
أحدهما: يستوفي ولي الثاني.
والثاني: لا يستوفي، بل ينتظر حضور الغائب، وإفاقة المجنون، وبلوغ الصبي.
وإن قتل جماعة في قطع الطريق، وقلنا بالمشهور من المذهب: أنه يقتل بواحد في غير قطع الطريق.. فهاهنا وجهان وحكاهما الخراسانيون قولين:
أحدهما: حكمه حكم ما لو قتلهم في غير قطع الطريق؛ لما ذكرناه هناك.
والثاني: يقتل بالجميع، ولا شيء للباقين؛ لأنه يقتل حداً، بدليل: أنه لا يصح العفو عنه، وإن قطع عضواً من جماعة.. فحكمه حكم ما لو قتل جماعة، على ما مضى.

[مسألة قطع يد رجل وقتل غيره]
وإن قطع يد رجل، وقتل آخر.. قطعت يده للمقطوع، ثم قتل للمقتول، سواء تقدم قطع اليد أو تأخر، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال مالك: (يقتل للمقتول، ولا تقطع يده للمقطوع) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] الآية (المائدة: 45) . فأخبر: أن النفس تؤخذ بالنفس، والطرف بالطرف، فمن قال غير هذا.. فقد خالف الآية.
ولأنهما جنايتان على شخصين، فلا تتداخلان، كما لو قطع يدي رجلين، وإنما

(11/394)


قدمنا القطع هاهنا وإن كان متأخراً؛ لأنه يمكن إيفاء الحقين من غير نقص على أحدهما، ومتى أمكن إيفاء الحقين.. لم يجز إسقاط أحدهما.
وإن قطع إصبعاً من يمين رجل، ثم قطع يمين آخر.. قطعت إصبعه للأول، ثم قطعت يده للثاني، ولزمه أن يغرم للثاني دية إصبعه التي لم يقتص منها، ويخالف إذا قتل رجل مقطوع اليد لرجل غير مقطوع اليد؛ فإنه لا يغرم له شيئاً؛ لأن اليد تنقص بنقصان الإصبع؛ ولهذا: لا تؤخذ يد كاملة الأصابع بيد ناقصة الأصابع، والنفس لا تنقص بنقصان اليد، ولهذا: يقتل من له يدان بمن له يد واحدة.
وإن قطع يمين رجل، ثم قطع إصبعاً من يمين آخر.. قطعت يمينه للأول، وأخذ الآخر دية إصبعه المقطوعة، ويخالف إذا قطع يمين رجل، ثم قتل آخر؛ حيث قلنا: يقدم القطع وإن كان متأخراً؛ لأن اليد تنقص بنقصان الإصبع، والنفس لا تنقص بنقصان اليد.

[فرع قتل ثم ارتد أو قطع ثم سرق]
إذا قتل رجلاً وارتد، أو قطع يمين رجل وسرق.. قدم حق الآدمي من القتل والقطع؛ لأنه مبني على التشديد، وحق الله تعالى مبني على المسامحة.
وبالله التوفيق

(11/395)


[باب استيفاء القصاص]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولم يختلفوا في أن العقل موروث كالمال) .
وجملة ذلك: أنه إذا قتل رجل رجلاً عمداً أو خطأ، وعفا عنه على المال.. فإن الدية تكون لجميع ورثة المقتول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] (النساء: 92) .
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» و (الأهل) : يقع على الذكر والأنثى، وهو إجماع لا خلاف فيه.
وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وأرضاه: أنه لم يورث امرأة من دية زوجها، فقال له الضحاك بن قيس - وقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: الضحاك بن سفيان -: كتب إلي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فرجع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يتوارث أهل ملتين شتى، وترث المرأة من دية زوجها» .

(11/396)


وقال الشيخ أبو إسحاق: ويقضى من الدية دينه، وتنفذ منها وصاياه.
وقال أبو ثور: (لا يقضى منها دينه، ولا تنفذ منها وصاياه) .
والذي يقتضي المذهب: أن تبنى على القولين، متى تجب الدية؟
فإن قلنا: بآخر جزء من أجزاء حياة المقتول.. قضي منها دينه، ونفذت منها وصاياه، وإن قلنا: تجب بعد موته.. لم يقض منها دينه، ولم تنفذ منها وصاياه. ولعله ذكر ذلك على الأصح عنده.
وأما إذا كان القتل يقتضي القصاص.. فإن القصاص موروث، وفيمن يرثه من الورثة ثلاثة أوجه، حكاها ابن الصباغ:
أحدها: أنه لا يرثه إلا العصبة من الرجال، وبه قال مالك، والزهري؛ لأن القصاص يدفع العار عن النسب، فاختص به العصبات، كولاية النكاح، فإن اقتصوا.. فلا كلام، وإن عفوا على مال.. كان لجميع الورثة.
والثاني: أنه يرثه من يرث بنسب دون سبب، فيخرج من ذلك من يرث بالزوجية، وبه قال ابن شبرمة؛ لأن القصاص يراد للتشفي، والزوجية تزول بالموت.
والثالث - وهو المنصوص، ولم يذكر الشيخان غيره -: (أنه يرثه جميع الورثة، من يرثه بنسب، ومن يرثه بسبب) ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد رحمة الله

(11/397)


عليهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» و (الأهل) : يقع على الرجال والنساء.
ولأنه جعل القود لمن جعل له الدية، ولا خلاف أن الدية لجميع الورثة، فكذلك القود.
وروت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأهل القتيل: أن يتحجزوا، الأول فالأول، وإن كانت امرأة» قال أبو عبيد [في " غريب الحديث " (2/160) ] : ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يتحجزوا " يكفوا عن القصاص، ولو لم يكن للمرأة حق في القصاص.. لما جعل لها الكف عنه.
وروي: (أن رجلا قتل رجلاً، فأراد أولياء المقتول القود، فقالت أخت المقتول - وكانت زوجة القاتل -: عفوت عن نصيبي من القود، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الله أكبر عتق من القتل) .

[مسألة قطع طرف رجل فارتد المقطوع]
إذا قطع طرف مسلم، فارتد المقطوع، ثم مات على الردة - وقلنا: يجب القصاص في الطرف - فمن الذي يستوفيه؟
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لوليه المسلم أن يقتص) . واعترض المزني عليه، فقال: كيف يجوز لوليه أن يقتص وهو لا يرثه؟ واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: لا يقتص وليه المسلم كما قال المزني؛ لأنه لا يرثه، ولم يرد

(11/398)


الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الولي هاهنا: المناسب؛ وإنما أراد به: الإمام.
وقال أكثرهم: بل يجوز لوليه المناسب أن يقتص؛ لأن القصاص للتشفي، وذلك إلى المناسب لا إلى الإمام.
وقول الأول غير صحيح؛ لأنه قد يثبت القصاص لمن لا يرث، وهو: إذا قتل رجل وعليه دين يحيط بتركته.
فإذا قلنا: إن الإمام هو الذي يقتص.. كان بالخيار: بين أن يقتص، وبين أن يعفو على مال، فإذا عفا على مال.. كان فيئاً.
وإذا قلنا: يقتص الولي المناسب، فإن اقتص.. فلا كلام، وإن عفا على مال.. فهل يثبت؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا يثبت؛ لأن أرش الطرف يدخل في أرش النفس، فلما لم يجب أرش النفس.. لم يجب أرش الطرف.
والثاني: يجب الأرش، وهو الأصح؛ لأن الجناية وقعت في حالة مضمونة، فلا يسقط حكمها بسقوط حكم السراية.
فإذا قلنا بهذا: فكم الأرش الذي يجب؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: يجب أقل الأمرين من أرش الطرف أو دية النفس؛ لأن دية النفس إذا كانت أكثر من أرش الطرف.. لم تجب الزيادة على أرش الطرف؛ لأن الزيادة وجبت بالسراية، وإن كان أرش الطرف أكثر.. لم يجب ما زاد على دية النفس؛ لأنه لو مات وهو مسلم.. لم يجب فيه أكثر من دية مسلم، فكذلك هاهنا مثله.
و [الثاني] : قال أبو سعيد الإصطخري: يجب أرش الطرف بالغاً ما بلغ؛ لأن الدية إنما تجب في النفس في الموضع الذي لو كان دون الدية وصار نفساً. وجبت فيه الدية، وهاهنا لا حكم للسراية في الزيادة، فكذلك في النقصان. والأول أصح.

(11/399)


[مسألة حق القصاص لقاصر]
وإن كان القصاص لصغير أو مجنون، أو لغير رشيد.. لم يستوف له الولي، وبه قال أحمد، وأبو يوسف.
وقال مالك، وأبو حنيفة، ومحمد: (يجوز للأب والجد أن يستوفيا له القصاص في النفس والطرف، ويجوز للوصي والحاكم أن يستوفيا له في الطرف دون النفس) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» . فجعل الخيرة للأهل، فلو جعلنا للولي استيفاءه.. لفوتنا ما خير فيه.
ولأنه لا يملك إيقاع طلاق زوجته، فلا يملك استيفاء القصاص في النفس، كالوصي.
وإذا ثبت هذا: فإن القاتل يحبس إلى أن يبلغ الصبي، ويفيق المجنون، ويصلح المفسد؛ لأن في ذلك مصلحة للقاتل؛ بأن يعيش إلى مدة، ويتأخر قتله، وفيه مصلحة لولي المقتول؛ لئلا يهرب القاتل، ويفوت القصاص.
فإن أراد الولي أن يعفو عن القود على مال، فإن كان المولى عليه له كفاية.. لم يجز، وإن كان محتاجاً إلى ذلك المال لنفقته.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه محتاج إلى ذلك.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يملك إسقاط حقه من القصاص، ونفقته في بيت المال.
وإن وثب الصبي أو المجنون، فاقتص.. فهل يصير مستوفياً؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصير مستوفياً، كما لو كانت له وديعة، فأتلفها.
والثاني: لا يصير مستوفياً، وهو الأصح؛ لأنه ليس من أهل الاستيفاء.

(11/400)


وإن كان القصاص لغائب.. حبس القاتل إلى أن يقدم الغائب، كما قلنا فيه إذا كان لصغير أو مجنون.
فإن قيل: فهلا قلتم: لا يحبس القاتل للغائب؛ لأنه لا ولاية للحاكم على الغائب، كما لو كان للغائب مال مغصوب.. فليس للحاكم أن يحبس الغاصب، وينتزع منه المال المغصوب؟
فالجواب: أن القود يثبت للميت، وللحاكم على الميت ولاية، وليس كذلك الغائب إذا غصب ماله؛ لأنه لا ولاية له عليه وهو رشيد؛ فوزانه: أن يموت رجل، ويخلف مالاً، وله وارث غائب، فجاء رجل، وغصب ماله.. فللإمام حبس الغاصب إلى أن يقدم الغائب.

[فرع كان القصاص لجماعة وبعضهم غائب]
فإن كان القصاص لجماعة، وبعضهم حاضر وبعضهم غائب.. لم يجز للحاضر أن يستوفي بغير إذن الغائب، بلا خلاف.
وإن كان القصاص بين صبي وكبير، أو بين مجنون وعاقل.. لم يجز للكبير والعاقل أن يستوفي القصاص حتى يبلغ الصبي، ويفيق المجنون، ويأذن في الاستيفاء، وبه قال عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأبو يوسف.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجوز للكبير والعاقل أن يستوفيا قبل بلوغ الصغير وإفاقة المجنون) . إلا أن أصحاب أبي حنيفة اختلفوا في الذي يستوفيه:
فمنهم من قال: يستوفي حقه وحق الصبي والمجنون.
ومنهم من قال: يستوفي حقه، ويسقط حق الصغير والمجنون.
دليلنا: أنه قصاص موروث، فوجب أن لا يختص باستيفائه بعض الورثة، كما لو كان لحاضر وغائب.
وإذا ثبت هذا: فإن القاتل يحبس إلى أن يبلغ الصبي، ويفيق المجنون، كما قلنا فيه إذا كان جميع القود له.

(11/401)


فإن أقام القاتل كفيلاً ليخلى.. لم يجز تخليته؛ لأن فيه تغريراً لحق المولى عليه، ولأن الكفالة لا تصح في القصاص، فإن فائدتها استيفاء الحق من الكفيل إن تعذر إحضار المكفول به، ولا يمكن استيفاؤه من غير القاتل، فلم تصح الكفالة به، كالحد.
وإن وجب القصاص في قتل من لا وارث له غير المسلمين.. كان القصاص إلى الإمام؛ لأنه نائب عنهم.
وإن كان هناك من يرث البعض، ويرث المسلمون الباقي.. كان استيفاء القصاص إلى الإمام وإلى الوارث.

[مسألة يستوفي القصاص أحد أصحاب الحق]
وإن قتل رجل رجلاً، وله أخوان أو ابنان من أهل استيفاء القصاص.. لم يكن لهما أن يستوفيا القصاص جميعاً؛ لأن في ذلك تعذيباً للقاتل، فإما أن يوكلا رجلا يستوفي لهما القصاص، وإما أن يوكل أحدهما الآخر في الاستيفاء.
فإن طلب كل واحد منهما أن يوكله الآخر.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فإذا خرجت القرعة لأحدهما.. أمر الآخر أن يوكله، وإن بادر أحدهما وقتل القاتل بغير إذن أخيه.. نظرت:
فإن كان الذي لم يقتل لم يعف عن حقه من القصاص.. فهل يجب على القاتل منهما القود؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القود؛ لأنه ممنوع من قتله، وقد يجب القتل بإتلاف بعض النفس، كما لو قتل جماعة واحداً.
والثاني: لا يجب عليه القود، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وهو الأصح؛ لأن له في قتله حقاً، فلم يجب عليه القود، كما لو وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة.
وإن قتله بعد أن عفا أخوه عن القود.. نظرت:

(11/402)


فإن كان قد حكم الحاكم بسقوط القود.. وجب القود على القاتل، قولاً واحداً، قال ابن الصباغ: سواء علم القاتل بذلك أو لم يعلم؛ لأن بحكم الحاكم زالت الشبهة، وحرم عليه قتله، فهو كما لو قتل غير القاتل.
وإن كان بعد عفو أخيه، وقبل حكم الحاكم بسقوط القود.. نظرت:
فإن لم يعلم بعفو أخيه.. فهل يجب القود على القاتل؟ فيه قولان، كما لو لم يعف أخوه. قال الشيخ أبو حامد: إلا أن الأصح هناك: أن لا يجب عليه القود، والأصح هاهنا: أن عليه القود.
وإن قتله بعد أن علم بعفو أخيه، فإن قلنا: يجب عليه القود إذا لم يعلم بعفو أخيه.. فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: لا يجب عليه القود.. فهاهنا قولان:
أحدهما: يجب عليه القود؛ لأنه قتله ولا حق له في قتله.
والثاني: لا يجب عليه القود؛ لأن على قول مالك لا يسقط القود بعفو أحد الشريكين، فصار ذلك شبهة في سقوط الحد عنه. وهذا ترتيب الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قتله قبل عفو أخيه.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان.
فإذا قلنا: لا يجب عليه القود.. فله معنيان:
أحدهما: لاختلاف العلماء في جواز استيفاء أحدهما.
والثاني: لأجل حقه في القصاص.
وإن قتله بعد عفو أخيه، وهو عالم بعفوه، فإن قلنا في الأولى: يجب القصاص.. فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: لا يجب.. فهاهنا قولان:
[أحدهما] : إن قلنا: العلة هناك اختلاف العلماء.. فلا قود هاهنا؛ لأن الاختلاف موجود.
و [الثاني] : إن قلنا: العلة هناك حقه في القصاص.. وجب عليه هاهنا القود.

(11/403)


وإن قتله جاهلاً بعفو أخيه، فإن قلنا: لا يجب عليه القود إذا كان عالماً بعفو أخيه.. فهاهنا أولى أن لا يجب، وإن قلنا هناك: يجب القود.. فهاهنا قولان، بناء على القولين فيمن قتل مسلماً ظنه حربياً في دار السلام.
إذا ثبت هذا: فإذا قلنا: يجب القود على القاتل.. فلوليه أن يقتص منه، فإذا قتله.. وجبت دية المقتول الأول في تركة القاتل الأول، نصفها للأخ الذي لم يقتل، ونصفها لورثة أخيه المقتول. وإن قلنا: لا يجب القود على الأخ القاتل.. فقد استوفى حقه، وبقي حق أخيه، وقد تعذر استيفاء حقه من القصاص، فيكون له نصف دية أبيه، وعلى من يرجع بها؟ فيه قولان:
أحدهما: يرجع بها على أخيه القاتل؛ لأن نفس قاتل أبيه كانت لهما، فإذا قتله أحدهما.. فقد أتلف ما يستحقه هو وأخوه، فوجب عليه ضمان حق أخيه، كما لو كانت لهما وديعة، فأتلفها أحدهما.
فعلى هذا: إن أبرأ أخاه.. صح إبراؤه، وإن أبرأ قاتل أبيه.. لم يصح إبراؤه.
والقول الثاني: أنه يرجع بها في تركة قاتل أبيه؛ لأنه قود سقط إلى مال، فوجب المال في تركة قاتل الأب، كما لو قتله أجنبي، ويخالف الوديعة، فإنه لو أتلفها أجنبي.. لرجع عليه بضمانها، وهاهنا لو قتله أجنبي.. لم يرجع عليه بشيء.
فعلى هذا: إن أبرأ أخاه.. لم يصح إبراؤه، وإن أبرأ قاتل أبيه.. صح إبراؤه، ويكون لورثة قاتل الأب أن يرجعوا على القاتل بنصف دية مورثهم؛ لأنه لا يستحق إلا نصف نفسه.
وإن عفا الأخوان جميعاً عنه، ثم عادا فقتلاه، أو عفا عنه أحدهما، ثم عاد فقتله.. وجب القود، قولاً واحداً؛ لأنه لم يبق للقاتل حق بعد عفوه، فصار كما لو قتل أجنبياً.
فإن كان القصاص لجماعة، واختلفوا فيمن يقتص منهم.. أقرع بينهم، وهل يدخل في القرعة من لا يحسن؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ":

(11/404)


أحدهما: لا يدخل؛ لأنه لا فائدة فيه.
والثاني: يدخل؛ لأنه يستنيب من شاء.
ومتى خرجت القرعة لأحدهم.. لم يستوف القصاص إلا بتوكيل الباقين له.

[مسألة القصاص بإذن الحاكم]
ومن وجب له القصاص.. لم يجز له أن يقتص بغير إذن السلطان أو بغير حضوره؛ لاختلاف العلماء في وجوب القصاص في مواضع، فلو قلنا: له أن يستوفيه من غير إذن السلطان.. لم نأمن أن يقتص فيما لا يستحق فيه القصاص، فإن خالف واقتص بغير إذن السلطان.. فقد استوفى حقه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويعزر، ولا شيء عليه) .
ومن أصحابنا من قال: لا يعزر؛ لأنه استوفى حقه.
والأول أصح؛ لأنه افتأت على السلطان.
والمستحب: أن يكون ذلك بحضرة شاهدين؛ لئلا ينكر المقتص الاستيفاء، فإن اقتص بغير حضور شاهدين.. جاز؛ لأنه استيفاء حق، فلم يكن من شرطه حضور الشهود، كالدين.
ويتفقد السلطان الآلة التي يستوفي بها القصاص، فإن كانت كالة.. منع من الاستيفاء بها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قتلتم.. فأحسنوا القتلة» . فإن استوفى القصاص بآلة كالة.. فقد أساء، ولا تعزير عليه.
وإن أراد الاستيفاء بآلة مسمومة.. قال الشيخ أبو حامد: منع من ذلك، سواء كان في الطرف أو في النفس؛ لأنه إذا كان في الطرف.. سرى إلى نفسه، وإن كان في

(11/405)


النفس.. هرى بدنه، ومنع من غسله، فإن خالف، واقتص بآلة مسمومة.. عزر.
وقال القفال: إن كان الاستيفاء في الطرف.. منع منه، وإن كان في النفس.. لم يمنع منه.
فإن اقتص في الطرف بآلة مسمومة، وسرى ذلك إلى نفسه.. وجب على المقتص نصف الدية؛ لأنه مات من مباح ومحظور.

[فرع طلب من له القصاص أن يقتص]
] : إذا طلب من له القصاص أن يقتص بنفسه، فإن كان القصاص في النفس، وكان يصلح للاستيفاء.. مكنه السلطان من الاستيفاء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] (الإسراء: 33) ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» .
وإن كان لا يحسن الاستيفاء.. أمر بالتوكيل، فإن لم يوجد من يتطوع بالاستيفاء عنه بغير عوض.. استؤجر من يستوفي له القصاص.
وقال أبو حنيفة: (لا تصح الإجارة على القصاص في النفس، وتصح في الطرف) .
دليلنا: أنه عمل معلوم، فصحت الإجارة عليه، كالقصاص في الطرف.
وإن كان القصاص في الطرف.. فقال أصحابنا البغداديون: لا يمكن المجني عليه أن يقتص بنفسه، بل يؤمر بالتوكيل؛ لأن الاقتصاص في الطرف يحتاج إلى التحفظ؛ لئلا يستوفي أكثر من حقه الواجب، والمجني عليه قلبه مغتاظ على الجاني، فلا يؤمن منه - إذا استوفى بنفسه - أن يأخذ أكثر من حقه.
وقال الخراسانيون: فيه وجهان:
أحدهما: لا يمكن من ذلك؛ لما ذكرناه.
والثاني: يمكن منه، كما يمكن من استيفاء القصاص في النفس.
والأول أصح؛ لأن المقصود بالقتل إزهاق الروح، فلا معنى للتحفظ، بخلاف الطرف.

(11/406)


[فرع استحباب تعيين من يقيم الحدود]
ويستحب للإمام أن يقيم رجلاً يقيم الحدود، ويقتص للناس بإذنهم، ويرزقه من بيت المال، وهو خمس الخمس؛ لأنه للمصالح،
وهذا من المصالح،
فهو كأجرة الكيال والوزان في الأسواق، فإن لم يكن هناك شيء من سهم المصالح، أو كان ولكنه يحتاج إليه إلى ما هو أهم من ذلك.. كانت الأجرة على المقتص منه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على: (أن أجرة القصاص على المقتص منه) ، ونص: (أن أجرة الجلاد في بيت المال) . واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: فيهما قولان:
أحدهما: تجب على المقتص منه وعلى المحدود؛ لأن الإيفاء حق عليه.
والثاني: تجب أجرة القصاص على المقتص له، وأجرة الجلاد في بيت المال، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه استيفاء حق، فكانت أجرة الاستيفاء على المستوفي، كما لو اشترى طعاماً وأراد نقله.. والأول أصح.
ومنهم من قال: تجب أجرة القصاص على المقتص منه، وأجرة الجلاد في بيت المال؛ لأن في القصاص: الجاني مأمور بالإقرار بالجناية ليقتص منه، فمؤنة التسليم عليه، وفي الحد: هو مأمور بالستر على نفسه.
فإن قال الجاني: أنا أقطع طرفي ولا أؤدي الأجرة.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: تجب إجابته إلى ذلك؛ لأن المقصود قطع طرفه، فلا تلحقه رحمة في ذلك.

(11/407)


والثاني: لا تجب إجابته إلى ذلك - ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غيره - لأن المقصود بالقصاص التشفي، وذلك لا يحصل بفعل الجاني، وإنما يحصل بفعل المجني عليه أو من ينوب عنه غير الجاني.

[مسألة لا يقتص من الحامل حتى تضع]
وإن وجب القصاص على امرأة حامل.. لم يجز قتلها قبل أن تضع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] (الإسراء: 33) . وفي قتلها في هذه الحالة إسراف؛ لأنه يقتل من قتل ومن لم يقتل.
وروي: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته: أنها زنت وهي حبلى، فدعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليها، وقال: " أحسن إليها، فإذا وضعت.. فجئني بها "، فلما أن وضعت.. جاء بها، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها فرجمت، وأمرهم فصلوا عليها» .
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمر بقتل امرأة بالزنى وهي حامل، فقال له معاذ بن جبل: إن كان لك عليها سبيل.. فلا سبيل لك على ما في بطنها - يعني: حملها - فترك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتلها، وقال: كاد النساء أن يعجزن أن يلدن مثلك يا معاذ) .
إذا ثبت هذا: فولدت.. لم تقتل حتى تسقي الولد اللبأ؛ لأنه لا يعيش إلا به، فإذا سقته اللبأ.. نظرت:
فإن وجدت امرأة راتبة ترضعه.. جاز للولي أن يقتص منها؛ لأن الولد يستغني بإرضاعها.

(11/408)


فإن لم توجد امرأة راتبة ترضعه، وإنما وجد جماعة نساء يتناوبنه في الرضاع، أو وجدت بهيمة يسقى من لبنها.. فالمستحب له: أن لا يقتص حتى ترضعه أمه حولين؛ لأن على الولد ضرراً باختلاف لبن المرضعات عليه، ولبن البهيمة يغير طبعه، فإن اقتص منها.. جاز؛ لأن بدنه يقوم بذلك.
فإن لم توجد من ترضعه، ولا وجدت بهيمة يسقى لبنها.. لم يجز للولي أن يقتص منها إلى وقت يستغني عن لبنها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للمرأة: «اذهبي حتى ترضعيه» ، ولأنه إذا وجب تأخير القصاص لأجله وهو حمل.. فلأن يجب تأخيره لأجله بعد الوضع أولى.
قال الشيخ أبو حامد: قال أصحابنا: فإن خالف الولي، واقتص من الأم في هذه الحالة، ثم مات الطفل.. فهو قاتل عمد، وعليه القود؛ لأنه بمثابة من حبس رجلاً، ومنعه الطعام والشراب حتى مات.. فإنه قاتل عمد، ويجب عليه القود. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا وجد من يرضعه، فإن كان القتل لله، كالرجم في الزنا.. لم تقتل حتى تنقضي مدة الرضاع، وإن كان للآدمي.. قتلت.

[فرع حبس مدعية الحمل حتى يتبين أمرها]
إذا وجب على المرأة القتل، فادعت: أنها حامل.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تحبس حتى يتبين أمرها) . واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال أبو سعيد الإصطخري: لا تحبس حتى يشهد أربع من القوابل: أنها حبلى، فإن لم يشهدن: أنها حبلى.. قتلت في الحال؛ لأن القصاص قد وجب، فلا يؤخر لقولها.

(11/409)


وقال أكثر أصحابنا: تحبس وإن لم يشهدن: أنها حبلى؛ لأن للحمل أمارات ظاهرة يشاهدها القوابل، وأمارات خفية لا يعلم ذلك منها إلا نفسها، فوجب حبسها إلى أن يتبين أمرها.

[فرع تمكين المقتص من الحامل يترتب عليه أمور]
فإن مكن الإمام أو الحاكم المقتص من الحامل، فقتلها.. فالكلام في الإثم، والضمان، والكفارة.
فأما الإثم: فإن كان الحاكم والمقتص عالمين بأنها حامل.. أثما، وإن كانا جاهلين بحملها.. لم يأثما، وإن كان أحدهما عالماً بحملها والآخر جاهلاً به.. أثم العالم منهما دون الجاهل.
وأما الضمان والكفارة: فينظر فيه:
فإن كان لما قتلت الحامل لم يخرج الجنين من بطنها.. فلا ضمان ولا كفارة؛ لأنه يجوز أن يكون ريحاً، وهو كما لو ضرب امرأة فماتت، ولم يخرج من بطنها جنين.
وإن خرج من بطنها، فإن خرج حياً، ثم مات.. ففيه دية كاملة وكفارة، وإن خرج ميتاً.. ففيه غرة عبد أو أمة وكفارة.
وأما من يجب عليه الضمان والكفارة: فإن كانا عالمين بحملها.. فالضمان والكفارة على الإمام أو الحاكم دون الولي؛ لأنه هو الذي مكنه من الاستيفاء، ولأن الحاكم هو الذي يعرف الأحكام، وإنما يرجع الولي إلى اجتهاده.
وهكذا: إن كان الحاكم هو العالم لحملها دون الولي.. فالضمان والكفارة على الحاكم؛ لما ذكرناه.
وإن كان الولي عالماً والحاكم جاهلاً.. فالضمان والكفارة على الولي دون الحاكم؛ لأن الحاكم إذا لم يعلم.. فلم يسلطه على إتلاف الحمل.

(11/410)


وإن كانا جاهلين بحملها.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الضمان والكفارة على الحاكم؛ لأنهما إذا استويا.. كان الضمان عليهما، كما لو كانا عالمين.
والثاني: أن الضمان والكفارة على الولي؛ لأن الحاكم إذا لم يعلم.. سقط عنه حكم الاجتهاد فيه، والولي هو المباشر، فلزمه الضمان. هكذا ذكر ابن الصباغ.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وصاحب " الفروع ": إذا كانا جاهلين بأن ذلك لا يجوز.. فالضمان والكفارة على الإمام، قولاً واحداً.
وإن كانا عالمين بأن ذلك لا يجوز.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: الضمان والكفارة على الإمام؛ لأنهما في العلم سواء، وللإمام مزية في التمكين.
و [الثاني] : قال غيره من أصحابنا: يكون الضمان والكفارة على الولي؛ لأنه هو المباشر.
وإن كان أحدهما عالماً والآخر جاهلاً.. فالضمان على العالم منهما دون الجاهل.
وقال المزني: الضمان على الولي بكل حال. وليس بشيء. هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن كان الولي عالماً.. فالضمان على عاقلته، سواء علم القاضي أو جهل.
وإن كان الولي جاهلاً.. ففيه وجهان، سواء علم القاضي أو جهل، بناء على القولين في إطعام طعام الغاصب أجنبياً؛ فإن قلنا: إن ضمانه على الطاعم.. فالضمان هاهنا على الولي. وإن قلنا: على المطعم.. كان الضمان هاهنا على الحاكم.

(11/411)


[مسألة لا قصاص قبل استقرار الجناية]
إذا قطع طرفه، وأراد المجني عليه أن يقتص.. فالمستحب له: أن لا يقتص حتى تستقر الجناية بالاندمال أو السراية إلى النفس؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستقادة من الجرح حتى يندمل»
وروي: «أن رجلاً جرح حسان بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فجاء قوم من الأنصار - يعني: رهطه - إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليقتص لهم، فقال لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اصبروا حتى يستقر الجرح، فإن اندمل.. أخذتم القصاص في الجرح، وإن صار نفساً.. أخذتم القصاص في النفس» فإن اقتص قبل الاندمال.. جاز.

(11/412)


وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (لا يجوز) . وبنوه على أصولهم: أن الطرف إذا صار نفساً.. سقط القصاص فيه؛ للخبرين الأولين.
دليلنا: ما روى عمرو بن دينار، عن محمد بن طلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن رجلا طعن رجلاً بقرن في رجله، فجاء المجني عليه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطلب القصاص، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " انتظر حتى تبرأ "، فجاءه ثانياً، فقال: " انتظر حتى تبرأ "، فجاءه ثالثاً، فاقتص له، ثم برئت رجل الجاني وشلت رجل المجني عليه، فجاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: يا رسول الله، برئت رجل الجاني، وشلت رجلي، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اذهب، فلا حق لك ". وفي رواية أخرى: أبعدك الله، فقد خالفت أمري» فدل على: جواز الاقتصاص. فمعنى قوله: (لا حق لك) أي: في القصاص.
وأما الخبران الأولان: فمحمولان على الاستحباب، بدليل هذا الخبر.
وإن عفا عن القود، وطلب الأرش قبل الاستقرار.. فهل يعطى الأرش؟ فيه قولان:

(11/413)


أحدهما: يعطى، كما يجوز له استيفاء القصاص.
والثاني: لا يعطى؛ لأن الأرش لا يستقر قبل الاندمال؛ لأنه ربما سرى إلى النفس، فدخل في ديتها، أو يشاركه غيره في الجناية، فمات من الجميع.
فإذا قلنا: يعطى قبل الاندمال.. فكم يعطى؟ فيه وجهان:
أحدهما: يعطى أقل الأمرين من أرش الجناية أو دية النفس؛ لأن ما زاد على دية النفس لا يتيقن استقراره قبل الاندمال.
والثاني: يعطى أرش الجناية بالغاً ما بلغ؛ لأنه قد وجب له في الظاهر.
فإن اقتص المجني عليه قبل الاندمال، ثم سرت الجناية على المجني عليه إلى عضو آخر واندمل.. كانت السراية مضمونة بالدية.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تكون مضمونة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اذهب، فلا حق لك»
ودليلنا: أن هذه جناية مضمونة، فكانت سرايتها مضمونة، كما لو لم يقتص، والخبر محمول على أنه أراد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا حق لك في القصاص.

[مسألة المماثلة في القصاص بالآلة]
] : إذا قتل بالسيف.. لم يقتص منه إلا بالسيف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) ، ولأنه أوحى الآلات.
وإن حرقه، أو غرقه، أو رماه بحجر، أو من شاهق، فمات، أو ضربه بخشبة، أو حبسه ومنعه الطعام والشراب حتى مات.. فللولي أن يقتص منه بهذه الأشياء، وبه قال مالك.
وأما أبو حنيفة: فإنه يقول: (هذه الجنايات لا توجب القصاص، إلا التحريق بالنار، فإنه يوجب القصاص، ولكن: لا يجوز أن يقتص منه إلا بالسيف) .

(11/414)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) .
ولما روى البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غرق.. أغرقناه، ومن حرق.. حرقناه» .
وروي: «أن يهودياً رض رأس جارية من الأنصار بين حجرين، فوجدت وفيها رمق، فقيل: من فعل بك هذا؟ أفلان؟ فأومأت برأسها - أي: لا - إلى أن سئلت عن يهودي، فأومأت برأسها - أي: نعم - فأخذوا اليهودي، فاعترف، فأمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرضخ رأسه بين حجرين» .
ولأنه معنى يجوز به قتل المشركين، فجاز استيفاء القصاص به، كالسيف، وللولي أن يقتص بالسيف؛ لأنه أوحى وأروح من التعذيب.

[فرع من قتل بالسحر وغيره اقتص منه بالسيف]
وإن قتله بالسحر.. قتله بالسيف؛ لأن السحر لا مثل له.
وإن قتله باللواط.. فهل يجب فيه القصاص؟ فيه وجهان، حكاهما أصحابنا الخراسانيون:
أحدهما: لا يجب فيه القصاص؛ لأن المقصود به طلب اللذة، فكان عمده خطأ.

(11/415)


والثاني - وهو قول البغداديين، وهو الأصح -: أنه يجب به القصاص؛ لأنه قتله بما يقتل مثله غالباً، فوجب عليه القصاص، كما لو قتله بالسيف.
فعلى هذا: في كيفية استيفاء القصاص منه وجهان:
أحدهما: يقتل بالسيف؛ لأن اللواط محرم، فقتل بالسيف، كالسحر.
والثاني: يعمل به مثل ما عمل بخشبة إلى أن يموت؛ لأنه أقرب إلى فعله.
وإن قتله بشرب الخمر.. وجب عليه القصاص، وكيف يستوفى منه القصاص؟ فيه وجهان:
أحدهما: يقتل بالسيف؛ لأن الخمر محرم، فهو كالسحر.
والثاني: يقتل بسقي الماء؛ لأنه أقرب إلى فعله.

[فرع يضربه بالسيف حتى يموت]
وإن ضربه بالسيف فلم يمت.. فإنه يوالي عليه الضرب إلى أن يموت؛ لأنه أوحى الآلات.
وإن فعل به مثل ما فعل به من الضرب بالمثقل والرمي من الشاهق، أو منعه من الطعام والشراب مثل الذي منعه، فلم يمت.. ففيه قولان:
أحدهما: يكرر ذلك عليه إلى أن يموت، كما قلنا في السيف.
والثاني: لا يكرر عليه ذلك، بل يقتله بالسيف؛ لأنه قد فعل به مثل ما فعله به، ولم يبق إلا إزهاق الروح، فوجب بالسيف.
وإن جنى عليه جناية يجب فيها القصاص، بأن أوضح رأسه، أو قطع يده أو رجله من المفصل، فمات.. فللمجني عليه أن يوضح رأسه، ويقطع يده.
وقال أبو حنيفة: (ليس له ذلك) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) .

(11/416)


فإن فعل به مثل ذلك، فمات.. فقد استوفى حقه، وإن لم يمت.. قتله بالسيف؛ لأنه لا يمكنه أن يوضحه موضحة أخرى، ولا أن يقطع له يداً أخرى؛ لأن ذلك أكثر مما فعل به.
وإن جنى عليه جناية لا يجب فيها القصاص، مثل: أن هشمه، أو أجافه، أو قطع يده من بعض الساعد أو العضد، فمات.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز له الاقتصاص بهذه الجنايات، بل له أن يقتله بالسيف؛ لما روى العباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في المنقلة قصاص» ، ولأنها جناية لا يجب بها القصاص إذا لم تسر إلى النفس، فلم يجب بها القصاص وإن سرت إلى النفس، كاللواط.
والثاني: يجوز له الاقتصاص بها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) ، ولقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنها جراحة يجوز بها قتل المشرك، فجاز استيفاء القصاص بها، كالقتل بالسيف.
فعلى هذا: إذا فعل به مثل ما فعل به، فلم يمت.. قتله بالسيف؛ لأنه قد فعل به مثل ما فعل به، ولم يبق إلا إزهاق الروح، فكان بالسيف.

[فرع أوضحه بضرب]
وإن أوضحه بالضرب بالسيف أو بالرمي بالحجر.. لم يوضحه بضرب السيف ولا بالرمي بالحجر، بل يوضحه بحديدة ماضية بعد أن يضبط الجاني؛ لئلا يستوفي منه أكثر مما جنى.

(11/417)


[مسألة جناية تذهب بصر العين]
وإن جنى عليه جناية ذهب بها ضوء العين.. نظرت:
فإن كانت جناية لا يجب فيها القصاص، كالهاشمة والمنقلة.. لم يقتص منه بالهاشمة والمنقلة؛ لأنها لا يجب فيها القصاص، ولكن يذهب ضوء العين بكافور يطرح في العين، أو بإدناء حديدة حامية إليها؛ لأن ذلك أسهل ما يمكن، ولا تقلع الحدقة؛ لأنه لم يقلع حدقته.
وإن كانت جناية يجب فيها القصاص، كالموضحة.. اقتص منه في الموضحة، فإن ذهب ضوء عينيه.. فقد استوفى حقه، وإن لم يذهب الضوء.. عولج الضوء بما يذهبه، بالكافور، أو بإدناء حديدة حامية من العين على ما مضى.
وإن لطمه، فأذهب ضوء عينه.. فهل له أن يلطمه؟ اختلف أصحابنا فيها:
فقال الشيخ أبو إسحاق: ليس له أن يلطمه، وإنما يعالج إذهاب الضوء بما ذكرناه؛ لما روى يحيى بن جعدة: (أن أعرابياً قدم بحلوبة له إلى المدينة، فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فنازعه، فلطمه، ففقأ عينه، فقال له عثمان: هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه، فأبى، فرفعهما إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فدعى علي بمرآة فأحماها، ثم وضع القطن على عينه الأخرى، ثم أخذ المرآة بكلبتين، فأدناها من عينه حتى سال إنسان عينه) ، ولأن اللطم

(11/418)


لا يمكن اعتبار المماثلة فيه؛ ولهذا: لو انفرد من إذهاب الضوء.. لم يجب فيه القصاص.
وقال الشيخ أبو حامد: يلطمه كما لطمه، وهو المنصوص في " الأم ". فإن ذهب ضوء عينه.. فقد استوفى حقه، وإن لم يذهب.. عولج بما يذهب الضوء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن لطمه الجاني، فأذهب ضوء عينه، وابيضت، وشخصت - يعني: ارتفعت - فإنه يلطمه مثله، فإن أذهب ضوء عينه، وابيضت، وشخصت.. فقد استوفى حقه، وإن لم تبيض، ولم تشخص، فإن أمكن معالجة العين حتى تبيض وتشخص.. فعل، وإن لم يمكن.. فلا شيء عليه؛ لأن الجناية إنما هي إذهاب الضوء، وأما البياض والشخوص: فإنما هو شين، والشين لا يوجب شيئاً، كما لو شجه موضحة، فاقتص منه مثلها، ثم برئ رأس المجني عليه وبقي عليه شين، وبرئ رأس الشاج ولا شين عليه.. فإنه لا يجب له شيء، فكذلك هذا مثله) .
وإن قلع عينه بإصبعه، فإن قلع المجني عليه عينه بحديدة.. جاز؛ لأنه أوحى، وإن أراد أن يقلع عينه بإصبعه.. ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) .
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه لا يمكن اعتبار المماثلة فيه.

[مسألة تمكين الولي من ضرب عنق الجاني]
إذا وجب له القصاص بالسيف.. فإن الحاكم يمكن الولي من ضرب عنق الجاني، فإن ضرب عنقه بالسيف، فأبانه.. فقد استوفى حقه، وإن ضربه في غير العنق، فإن مات.. فقد استوفى حقه، وإن لم يمت.. سئل عن ذلك:
فإن قال: تعمدت ضرب ذلك الموضع.. عزره الحاكم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

(11/419)


{فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] (الإسراء: 33) . معناه: لا يمثل به في القتل، وقيل: معناه: لا يقتل غير قاتله. ويؤمر أن يوكل من يقتص له، ولا يلزمه ضمان؛ لأن له إتلاف جملته.
وإن قال: أخطأت، فإن ضرب موضعاً يجوز أن يخطئ في مثله، مثل: أن أصاب الكتف، وما يلي الرأس من العنق.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن ما يدعيه ممكن، ولا تعزير عليه. وإن أصاب موضعاً لا يجوز أن يخطئ في مثله، مثل: أن أصاب وسط رأسه أو ظهره أو رجله.. لم يقبل قوله؛ لأنه خلاف الظاهر، ويعزر، ولا يضمن أيضاً.
وإن قال: لا أحسن الاقتصاص.. أمر بالتوكيل، فإن قال: أنا أحسن، وطلب أن يقتص بنفسه.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (ليس له ذلك، ويؤمر بالتوكيل) . وقال في موضع: (يمكن ثانياً من الاقتصاص) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يمكن؛ لأنه لا يؤمن مثل ذلك منه.
والثاني: يمكن؛ لأن الظاهر أنه لا يعود إلى مثله.
ومنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (يؤمر بالتوكيل) أراد: إذا كان لا يحسن، ولم يوجد منه قبل ذلك.
وحيث قال: (يمكن) أراد: إذا علم أنه يحسن الاستيفاء.

[فرع أخذ أو زاد في الاقتصاص فوق حقه]
وإن وجب له القصاص في أنملة، فاقتص من أنملتين، فإن كان عامداً.. وجب عليه القصاص، وإن كان مخطئاً.. وجب عليه الأرش دون القود.
وإن استوفى أكثر من حقه باضطراب الجاني.. لم يلزم المقتص شيء؛ لأنه حصل بفعل الجاني، فهدر.

(11/420)


[مسألة اقتص بالشمال بدل اليمين]
إذا وجب له القصاص في اليمين، فقال المقتص للجاني: أخرج يمينك لأقطعها، فأخرج الجاني يساره، فقطعها المقتص.. نظرت في الجاني:
فإن قال: تعمدت إخراج اليسار، وعلمت أن قطعها لا يجزئ عن اليمين.. فلا قود على المقتص ولا دية، سواء علم المقتص أنها اليسار أو لم يعلم؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها، فهو كما لو قال: اقطع يدي، فقطعها، غير أن المقتص إن كان عالماً أنها اليسار.. عزر؛ لأنه فعل فعلاً محرماً، وإن لم يعلم.. لم يعزر، وسواء أذن الجاني في قطعها بالقول أو قال له المقتص: أخرج يمينك لأقطعها، فأخرج يساره وهو ساكت ومدها، فقطعها المقتص؛ لأنه بذلها له بإخراجها إليه لا على سبيل العوض، والفعل في ذلك يقوم مقام النطق، كما لو دفع رجل إلى رجل صرة، وقال: ارمها في البحر، فأخذها ورماها.. فلا ضمان عليه. وكذلك: لو قال: ادفع إلى صرتك لأرميها في البحر، فدفعها إليه وهو ساكت، فرماها.. فلا ضمان عليه. وكما لو قدم إليه طعاماً، وقال: كله، فهو كما لو استدعى منه الطعام، وقدمه إليه، وأكله.
فإن مات المقطوعة يساره من قطعها.. فلا قود على المقتص. قال ابن الصباغ: ولا يجب عليه دية النفس. وهل تجب الكفارة على المقطوعة يساره؟
قال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه وجهان، بناءً على الوجهين فيمن قتل نفسه.
وطريقة أصحابنا البغداديين: أن من قتل نفسه.. وجب عليه الكفارة، وجهاً واحداً.
فعلى هذا: يجب عليه الكفارة هاهنا.
وإن قال المقتص منه: وقع في سمعي أنه قال: أخرج يسارك، فأخرجتها، أو سمعت أنه قال: أخرج اليمين، ولكن دهشت، فأخرجت اليسار، وظننتها اليمين، أو قال: أخرجت اليسار عامداً، ولكن ظننت أن قطعها يجزئ عن اليمين.. نظرت في المقتص:

(11/421)


فإن لم يعلم أنها اليسار.. فلا قود عليه؛ للشبهة، وهل تجب عليه الدية؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه الدية؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها، فهو كما لو قال: اقطع يدي، فقطعها.
والثاني: تجب عليه الدية، وهو الأصح؛ لأن الجاني بذل يساره لتكون عوضاً عن اليمين، فإذا لم تقع عنها.. وجب له قيمتها، كما لو باع سلعة بيعاً فاسداً، وسلمها إلى المشتري، وتلفت.
وإن كان المقتص عالماً بأنها اليسار.. فهل يجب عليه القود في يساره؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو حفص بن الوكيل: يجب عليه القصاص؛ لأنه قطع يداً غير مستحقة له مع العلم بتحريمها.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يجب عليه القصاص، وهو الأصح؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها، ويجب عليه ديتها؛ لأن صاحبها بذلها لتكون عوضاً عن اليمين، فإذا لم تقع.. وجب له قيمتها، كما لو باع سلعة بيعاً فاسداً، وقبضها المشتري، وتلفت عنده.
إذا ثبت هذا: فإن القصاص باق للمقتص في يمين الجاني؛ لأنه لم يسقط حقه عنها.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يقتص منه في اليمين حتى تندمل يساره) . وقال فيمن قطع يدي رجل أو رجليه دفعة واحدة: (إنه يقطع يديه أو رجليه دفعة واحدة) .
فمن أصحابنا الخراسانيين من جعل المسألتين على قولين، ومنهم من حملهما على ظاهرهما، ولم يذكر أصحابنا البغداديون غيره.

(11/422)


وفرق بينهما؛ بأنه إذا قطع يدي رجل أو رجليه.. فقد جمع عليه بين ألمين، فجاز له أن يجمع عليه بينهما، وهاهنا الجاني لم يجمع عليه بين ألمين.. فلا يجوز له أن يجمع عليه بينهما.
فإن قيل: أوليس لو قطع يمين رجل ويسار آخر.. لم يؤخر القصاص عليه في إحداهما إلى اندمال الأخرى؟
قلنا: الفرق بينهما: أن القطعين مستحقان قصاصاً؛ فلهذا جمعنا بينهما، وهاهنا أحدهما غير مستحق عليه، فلم يجمع بينهما.
وإن سرى قطع اليسار إلى نفس الجاني في الموضع الذي قال: ظننتها اليمين، أو ظننت أن قطعها يجزئ عن اليمين.. قال ابن الصباغ: فإنه يجب على المقتص دية كاملة، وقد تعذر عليه القصاص في اليمين، فيجب له دية يده، فيقاص بها فيما عليه.
قال: وحكي عن الشيخ أبي حامد: أنه قال: عندي: أنه استوفى حقه من اليمين بتلفه، كما لو كان له قصاص في اليد، فقطعها، ثم قتله.
ووجه الأول: أن حقه في قطع اليد، ولم يحصل، وإنما قتله، فقد ضمنها مع النفس بالدية.
قال ابن الصباغ: ويلزمه أن يقول فيه إذا بذلها مع العلم بها وسرت أيضاً، أن يكون مستوفياً لليمين؛ لأن البذل فيما استحق إتلافه لا يمنع استيفاء الحق به، وإنما تكون سرايتها هدراً فيما لا يستحقه.

[فرع اختلفا ببذل اليسار للقطع]
] : وإن اختلفا: فقال المقتص: بذلت لي اليسار وأنت عالم بأنها اليسار، وأنه لا يجزئ قطعها عن اليمين. وقال الجاني: بذلتها ولم أعلم أنها اليسار، أو لم أعلم أن قطعها لا يجزئ عن اليمين.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأنه أعلم بنفسه.

(11/423)


فإن حلف.. كان الحكم فيه حكم ما لو صادقه المقتص على أنه بذلها ولم يعلم أنها اليمين.
وإن نكل الجاني.. حلف المقتص، وكان الحكم فيه حكم ما لو أقر الجاني: أنه بذلها مع علمه أنها اليسار، وأنه لا يجزئ قطعها عن اليمين.

[فرع وجب القصاص على قطع اليمين وتراضيا على قطع اليسار]
] : وإن وجب له القصاص في اليمين، فاتفقا على أن يقتص منه باليسار بدلاً عنها.. لم يقع عن اليمين؛ لأن ما لا يجوز قطعه بالشرع لا يجوز بالتراضي، كما لو قتل غير القاتل برضاه. ولا قصاص على المقتص؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها، ويجب عليه دية اليسار.
فإن كانا عالمين بأن ذلك لا يجوز.. أثما، وإن كانا جاهلين.. لم يأثما.
وإن كان أحدهما عالماً والآخر جاهلاً.. أثم العالم منهما، وهل يسقط حق المقتص من القصاص في اليمين؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط؛ لأنه لما رضي بأخذ اليسار عن اليمين.. صار ذلك عفواً منه عن اليمين.
فعلى هذا: يجب عليه دية يد، وله دية يد، فيتقاصان إن استويا، وإن تفاضلا، بأن كان أحدهما رجلاً والآخر امرأة، أو كان المقتص مسلما والجاني كافراً.. رجع من له الفضل بما له من الفضل.
والثاني: لا يسقط حقه من القصاص في اليمين؛ لأنه إنما رضي بإسقاط حقه من القصاص بأن تكون اليسار بدلاً عن اليمين، فإذا لم يصح أن تكون بدلاً عنها.. كان حقه باقياً في المبدل، كما لو صالح على الإنكار.
فعلى هذا: ليس له أن يقتص في اليمين إلا بعد اندمال اليسار.
قال ابن الصباغ: والأول أصح؛ لأن غرضه قد حصل له، وهو القطع.

(11/424)


[فرع الاعتبار بأهلية المقتص]
وإن كان المقتص منه مجنوناً، والمقتص عاقلاً، فقال له: أخرج يمينك، فأخرجها المجنون، فقطعها.. فقد استوفى حقه؛ لأن المقتص من أهل الاستيفاء وإن كان المقتص منه ليس من أهل البذل، والاعتبار بالمقتص.
وإن قال المقتص: أخرج يمينك، فأخرج المجنون يساره، فقطعها المقتص، فإن كان المقتص عالماً أنها اليسار.. وجب عليه القصاص باليسار، وله القصاص في اليمين، وإن كان المقتص غير عالم بأنها اليسار.. لم يجب عليه القصاص في اليسار؛ للشبهة، ولكن عليه دية اليسار؛ لأن بذل المجنون لا يصح، وله القصاص في اليمين. ولا يقطعها حتى تندمل يساره.
وإن كان المقتص منه عاقلاً، والمقتص مجنوناً، فقال له المجنون: أخرج يمينك لأقطعها، فأخرجها العاقل باختياره، فقطعها المجنون.. لم يصر مستوفياً؛ لأنه ليس من أهل الاستيفاء، ولا ضمان عليه؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها، ووجب للمجنون على العاقل دية يمينه؛ لأن يمينه قد زالت.
وإن أخرج إليه العاقل يساره، فقطعها المجنون.. هدرت اليسار، وكان حق المجنون باقياً في القصاص في اليمين.
وأما إذا أكرهه المجنون، فقطع يمينه: فهل يصير مستوفياً لحقه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في الصبي، الصحيح: أنه لا يصير مستوفياً.
فإن قلنا: إنه يصير مستوفياً.. فلا كلام.
وإن قلنا: لا يصير مستوفياً.. كان للمجنون دية يده على الجاني، ووجب للجاني دية يده، فإن قلنا: إن عمد المجنون عمد.. وجبت الدية في ماله، وإن قلنا: إن عمده خطأ.. وجبت على عاقلته.
وإن كان المقتص والمقتص منه مجنونين، وكان القصاص في اليمين، فقطع

(11/425)


المقتص يمين المقتص منه.. فهل يصير مستوفياً لحقه؟ على الوجهين، سواء قطعها ببذل المقتص منه أو أكرهه؛ لأن بذله لا يصح.
فإن قلنا: يصير مستوفياً.. فلا كلام.
وإن قلنا: لا يصير مستوفياً.. وجب للمقتص دية يده في مال الجاني، ويجب للجاني دية يده، فإن قلنا: إن عمد المجنون عمد.. وجبت في ماله، وإن قلنا: إن عمده خطأ، وجبت الدية على عاقلته.
وإن قطع المقتص يسار الجاني.. وجب ضمانها بالدية، سواء قطعها ببذل صاحبها أو بغير بذله؛ لأنه لا يصح بذله. وفي محل وجوبها القولان في جنايته، هل هي عمد، أو خطأ؟ ويبقى للمقتص القصاص في اليمين، ولا يقتص من الجاني حتى تندمل يساره.

[مسألة اقتص من الجاني فمات]
إذا قطع رجل يد رجل، فاقتص المجني عليه من الجاني، فاندملت يد المجني عليه، ومات الجاني.. هدر دمه، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.
وقال أبو حنيفة: (يكون على المجني عليه دية كاملة) .
دليلنا: ما روي عن عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: (من مات من حد أو قصاص.. فلا دية له؛ الحق قتله) . ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فثبت: أنه إجماع.

(11/426)


ولأنه جرح مباح غير مجتهد فيه، فلم تكن سرايته مضمونة، كالقطع في السرقة.
فقولنا: (مباح) احتراز من القطع بغير حق.
وقولنا: (غير مجتهد فيه) احتراز من المولى عليه إذا كان به أكلة أو سلعة، فاجتهد الإمام في قطعها، فقطعها، فمات منه.
وإن قطع يد رجل، فقطع المجني عليه يد الجاني، ثم سرى القطع إلى نفس الجناية.. كانت السراية إلى نفس الجاني قصاصاً؛ لأن السراية في النفس لما كانت كالجناية في إيجاب القصاص.. كانت كالجناية في استيفاء القصاص.
فإن كانت بحالها إلا أن الجاني مات من القطع أولاً، ثم مات المجني عليه بعده من القطع.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن السراية إلى نفس الجاني تكون قصاصاً؛ لأن نفسه خرجت مخرج القصاص، فكانت قصاصاً، كما لو مات المجني عليه، ثم مات الجاني.
والثاني: أن السراية إلى نفس الجاني لا تكون قصاصاً، وهو الأصح؛ لأن السراية سبقت وجوب القصاص، فلم تقع قصاصاً، وإنما تكون السراية هدراً.
فعلى هذا: يجب للمجني عليه في مال الجاني نصف الدية؛ لأنه قد أخذ يداً بنصف الدية.
وإن كانت الجناية موضحة.. أخذ منه تسعة أشعار الدية ونصف عشرها؛ لأنه أخذ منه ما يساوي نصف عشر الدية.

[مسألة موت القاتل يوجب الدية]
إذا قتل رجل رجلاً عمداً، فمات القاتل قبل أن يقتص منه ولي المقتول، أو قتله رجل غير ولي المقتول.. وجبت دية المقتول في مال القاتل، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

(11/427)


وقال أبو حنيفة: (يسقط حقه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» . وقوله: " بين خيرتين " أي: شيئين، إذا تعذر أحدهما.. تعين له الآخر، كما قلنا في كفارة اليمين.
وإن وجب له القصاص في طرف، فزال الطرف قبل استيفاء القصاص.. كان له أرش الطرف في مال الجاني؛ لما ذكرناه في النفس.

[فرع وجب قتله فدخل الحرم]
ومن وجب عليه قتل بقصاص، أو كفر، أو زنى، والتجأ إلى الحرم.. قتل، ولم يمنع الحرم منه.
وقال أبو حنيفة: (لا يستوفى منه القصاص ولا الجرم في الحرم، ولكن لا يبايع، ولا يشارى، ولا يكلم حتى يخرج من الحرم، ويستوفى منه القصاص والحد) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] (المائدة: 45) . ولم يفرق.
وقَوْله تَعَالَى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89] (النساء: 89) . وهذا عام.
ولأنه قتل لا يوجب الحرم ضمانه، فلم يمنع منه، كقتل الحية والعقرب، وفيه احتراز من قتل الصيد.
وبالله التوفيق والعون، وهو حسبي ونعم الوكيل.

(11/428)


[باب العفو عن القصاص]
إذا قتل غيره عمداً وهما متكافئان.. فما الذي يجب على القاتل؟ فيه قولان:
أحدهما: أن الواجب عليه هو القود وحده، وإنما الدية تجب بالعفو بدلاً عنه، وهو قول أبي حنيفة، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] إلى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] (البقرة: 178) .
فموضع الدليل: أنه قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] ولم يذكر الدية، فعلم أنها لم تجب بالقتل، وأيضاً فإنه قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] فأمره باتباع الدية إذا عفا عن القود، فعلم أن الدية تجب بالعفو لا بالقتل. ولأن ما ضمن بالبدل في حق الآدمي.. ضمن ببدل معين، كالمال.
فقولنا: (ضمن ببدل) احتراز من العين المغصوبة إذا كانت باقية.
وقولنا: (في حق الآدمي) احتراز من جزاء الصيد.
والقول الثاني: أن الواجب عليه أحد شيئين: القود أو الدية. فإن استقاد الولي.. علمنا أن الواجب كان هو القود، وإن عفا عن القود على الدية.. علمنا أن الواجب كان هو الدية. وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» فخيرهم بين القود والدية، فعلم أنهما سواء في الوجوب.
إذا تقرر هذا: فقال الولي: عفوت عن القود إلى الدية.. سقط القود، ووجبت الدية على القولين.
وإن قال: عفوت عن القود والدية.. سقطا جميعاً على القولين. وإن قال عفوت عن القود على غير مال.. سقط القود، ولم تجب الدية على القولين. وإن

(11/429)


قال: عفوت عن القود وأطلق، فإن قلنا: إن الواجب بقتل العمد أحد شيئين.. وجبت الدية؛ لأنها واجبة لم يعف عنها، وإن قلنا: إن الواجب هو القود وحده.. ففيه طريقان. من أصحابنا من قال: فيه قولان، ومنهم من يحكيهما وجهين:
أحدهما: لا تجب الدية؛ لأنها لا تجب على هذا إلا باختياره لها، ولم يخترها، فلم تجب.
والثاني: تجب الدية؛ لئلا تهدر الدماء. والأول أصح.
ومنهم من قال: لا تجب الدية، قولاً واحداً، وهو قول أبي إسحاق المروزي، والشيرازي؛ لما ذكرناه للأول.
فإن قال: عفوت عن القود إلى الدية، أو قال: عفوت عن القود، ولم يقل: إلى الدية، وقلنا: تجب الدية، ثم أراد أن يطالب بالقود.. لم يكن له؛ لأنه قد سقط.
وإن قال: عفوت عن الدية، فإن قلنا: إن الواجب هو القصاص وحده.. لم يصح عفوه، وكان له أن يقتص.
فإن عفا عن القود بعد ذلك، أو على الدية، أو عفا مطلقاً، وقلنا: تجب الدية بالإطلاق.. استحق الدية؛ لأن عفوه الأول عنها كان قبل وجوبها. وإن قلنا: إن الواجب أحد الشيئين.. سقطت الدية، وتعين حقه في القصاص، فإن اقتص منه.. فلا كلام. وإن مات القاتل قبل أن يقتص منه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (له أن يأخذ الدية؛ لأنه لما سقط القود بغير اختياره.. كان له الرجوع إلى بدله) . وإن كان القاتل حياً، وأراد الولي أن يعفو عن القود إلى الدية.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ليس له ذلك؛ لأنه كان له أن يختار الدية، فلما لم يخترها وتركها.. لم يكن له العود إليها) .
وقال أبو إسحاق: له أن يعفو عن القود ويختار الدية؛ لأنه انتقال من البدل الأغلظ إلى الأخف.
وإن قال: اخترت القصاص.. فهل له أن يرجع ويعفو عنه إلى الدية؟ فيه وجهان:

(11/430)


أحدهما: له أن يرجع؛ لأن القصاص أعلى، فجاز أن ينتقل عنه إلى الأدنى.
والثاني: ليس له أن يرجع إلى الدية؛ لأنه تركها، فلم يرجع إليها، كالقصاص.
إذا ثبت هذا: فللولي أن يعفو عن القود إلى الدية، سواء رضي القاتل به أو لم يرض، وبه قال ابن المسيب، وعطاء، والحسن، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يستحق الولي الدية إلا برضا القاتل) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] وإلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] (البقرة: 178) قيل في التفسير: معناه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} [البقرة: 178] يريد به: القاتل {مِنْ أَخِيهِ} [البقرة: 178] المقتول شَيْءٌ، أي: على شيء {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] يريد به: على مال. {فَاتِّبَاعٌ} [البقرة: 178] ؛ لأنه كان في شريعة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: الذي يجب بالقتل هو القصاص فقط، وفي شريعة عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: الدية فقط، فجعل الله لهذه الأمة القود في القتل، وجعل لهم العفو عنه على مال؛ تخفيفاً منه ورحمة.
ومن الدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» . ولم يعتبر رضا القاتل.
وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (الولي في ذلك مخير بين القتل والدية) . ولا مخالف له في الصحابة، فدل على: أنه إجماع.

(11/431)


[مسألة جناية العبد برقبته]
وإن جنى عبد لرجل على آخر خطأ.. تعلق الأرش برقبته، فإن باعه سيده من المجني عليه بأرش الجناية، فإن لم يعلم المتبايعان أو أحدهما عدد الإبل أو أسنانها.. لم يصح البيع؛ لجهالة الثمن، وإن كانا يعلمان عدد الإبل وأسنانها.. فهل يصح البيع؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ:
أحدهما: لا يصح؛ لأنها مجهولة الصفة.
والثاني: يصح؛ لأنها معلومة السن والعدد.
وحكاهما الشيخ أبو حامد في التعليق وجهين، المنصوص: (أنه يصح) .
وإن كانت الجناية عمداً تقتضي القصاص، فاشتراه المجني عليه بالأرش.. سقط القود؛ لأن اختياره ليملكه بالأرش، فضمن العفو عنه، وهل يصح الشراء؟
إن كانا جاهلين أو أحدهما بعدد الإبل أو بأسنانها.. لم يصح.
وإن كانا عالمين.. فهل يصح؟ على القولين.
فإذا قلنا: يصح.. سقط الأرش عن العبد، وإن وجد بالعبد عيباً، فرده.. رجع بالأرش إلى رقبة العبد.
قال الشيخ أبو حامد: فإن ابتاع المجني عليه العبد بالحق الواجب من القصاص على العبد.. لم يصح البيع؛ لأن أخذ العوض عن القصاص لا يجوز، ويسقط القصاص؛ لأن تراضيهما بالابتياع إسقاط من المجني عليه حق الاقتصاص، ورضاً بالعدول إلى غيره، فسقط القصاص، وتجب الدية في رقبة العبد، فإن ابتاعه بها.. فعلى ما مضى.

(11/432)


[مسألة عفو بعض الجماعة عن القصاص]
وإن كان القصاص لجماعة، فعفا بعضهم عن القود.. سقط القود عن القاتل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» وهؤلاء لم يحبوا؛ لأن فيهم من يحب وفيهم من لم يحب.
وروي: أن رجلاً قتل رجلاً، فأراد ورثة المقتول أن يقتصوا، فقالت زوجة القاتل - وكانت أخت المقتول -: قد عفوت عن نصيبي من القود، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (عتق من القتل) .
وكذلك روي عن ابن مسعود، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فدل على: أنه إجماع.
ولأن القصاص يقع مشتركاً لا يتبعض، فإذا سقط بعضه.. سقط الجميع، وينتقل حق الباقين إلى الدية؛ لما روي: (أن رجلاً دخل على امرأته، فوجد معها رجلاً، فقتلها، فقال بعض إخوتها: قد تصدقت بنصيبي، فقضى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لسائرهم بالدية) . ولأن حقهم قد سقط من القصاص بغير اختيارهم، فانتقل حقهم إلى البدل مع وجوده، كما ينتقل حق الشريك في العبد إذا أعتقه شريكه إلى القيمة.

[مسألة وجب القصاص فباشر أو وكل]
وإن وجب له القصاص على رجل، فرمى إليه بسهم أو بحربة، ثم عفا عنه بعد الرمي وقبل الإصابة.. لم يصح العفو؛ لأنه لا معنى لهذا العفو كما لو جرحه ثم عفا عنه.
وإن وجب له القصاص.. فقد ذكرنا: أنه يجوز له أن يوكل من يستوفي له القصاص بحضرة الموكل، وهل يصح أن يوكل من يستوفي له القصاص بغيبته - أعني:

(11/433)


الموكل - فيه ثلاث طرق، مضى ذكرها في (الوكالة) ؟ الصحيح: أنه يصح.
قال ابن الصباغ: إلا أنا إذا قلنا، لا تصح الوكالة، فاستوفى الوكيل القصاص.. فقد حصل به الاستيفاء؛ لأنه استوفاه بإذنه، كما نقول فيه إذا باع الوكيل في الوكالة الفاسدة، وإنما يفيد فسادها هاهنا أن الحاكم لا يمكن الوكيل من الاستيفاء.
فلو وكل في الاستيفاء، ثم عفا الموكل عن القصاص، فإن عفا بعد أن قتله الوكيل.. لم يصح عفوه، وإن عفا قبل أن يقتله الوكيل، ثم قتله الوكيل بعد علمه بالعفو.. فعلى الوكيل القود، وإن لم يعلم، هل كان العفو قبل القتل أو بعده.. فلا شيء على الوكيل، لأن الأصل أن لا عفو.
وإن عفا الموكل عن القصاص؛ ثم قتله الوكيل ولم يعلم بالعفو.. فهل يصح العفو؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح العفو؛ لأنه عفا عنه في وقت لا يمكن تلافيه، فلم يصح، كما لو عفا بعد رمي الحربة إلى الجاني.
والثاني: يصح؛ لأنه عفا عن قود غير متحتم قبل أن يشرع فيه الوكيل، فصح، كما لو علم الوكيل بالعفو قبل القتل.
واختلف أصحابنا في مأخذ القولين:
فمنهم من قال: أصلهما القولان في الوكيل، هل ينعزل قبل أن يعلم بالعزل؟ ولم يذكر ابن الصباغ غيره.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: أصلهما إذا رأى رجلاً في دار الحرب، فظنه حربيا فرماه بسهم، ثم بان أنه كان مسلماً، ومات.. فهل تجب الدية؟ فيه قولان.
وقال الشيخ أبو حامد: القولان هاهنا أصل بأنفسهما، ومنهما أخذ الوجهان في الوكيل، هل ينعزل قبل أن يعلم بالعزل؟
فإذا قلنا: إن عفوه لا يصح.. فلا شيء على الموكل والوكيل.
وإذا قلنا: إن عفوه يصح.. فلا شيء على الموكل، وأما الوكيل: فلا قصاص عليه، لأن له شبهة في قتله، وتجب عليه الدية، وإن قلنا: لا تجب عليه الدية..

(11/434)


فهل تجب عليه الكفارة؟ فيه وجهان حكاهما الطبري في " العدة ":
فـ[الأول] : إن قلنا: إن مأخذ القولين في الدية من الرمي إلى من ظنه حربياً.. فتجب الكفارة؛ لأن الدية هاهنا لم تجب.
و [الثاني] : إن قلنا: إن مأخذهما من عزل الوكيل.. فلا تجب عليه الكفارة، وتكون الدية مغلظة؛ لأنها إما دية عمد محض، أو دية عمد خطأ.
وهل تجب في مال الوكيل، أو على عاقلته؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد -: أنها تجب في ماله؛ لأنه قصد قتله، وإنما سقط القصاص لمعنى آخر.
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: هو دية عمد خطأ، فتجب دية مؤجلة على العاقلة؛ لأنه قتله وهو معذور.
فإن قلنا: إنها على العاقلة.. لم يرجع بها الوكيل على الموكل.
وإن قلنا: إنها تجب على الوكيل.. لم يرجع الوكيل على الموكل؛ لذلك.
وقال أبو العباس: فيه قول آخر: أنه يرجع عليه، كما قلنا في من قدم طعاماً مغصوباً إلى رجل، فأكله ولم يعلم أنه مغصوب.. فإنه يرجع على المقدم إليه في أحد القولين، وكما قلنا فيمن غر بحرية امرأة.
والمذهب الأول؛ لأن العفو مندوب إليه، والغرور محرم.
إذا تقرر هذا: فإن كان الموكل قد عفا عن القود والدية، أو عفا مطلقاً، وقلنا: لا تجب له الدية.. فلا كلام، وإن عفا عن القود إلى الدية، أو عفا مطلقاً، وقلنا: تجب له الدية.. وجبت له الدية في مال الجاني، ويكون لورثة الجاني مطالبة الوكيل بدية الجاني، وليس كالأخوين إذا قتل أحدهما قاتل أبيه بغير إذن أخيه؛ حيث قلنا في محل نصيب الأخ الذي لم يقتل من الدية قولان:
أحدهما: في تركة قاتل أبيه.
والثاني: في ذمة أخيه.

(11/435)


والفرق بينهما: أن الأخ أتلف حق أخيه، فوجب عليه بدله، وهاهنا أتلفه الوكيل بعد سقوط حق الموكل عنه بالعفو. هذا ترتيب البغداديين.
وقال الخراسانيون: إن قلنا: لا دية على الوكيل.. فلا دية للموكل على الجاني، وكأن الوكيل استوفى القصاص، وإن قلنا: عليه الدية.. فله الدية في مال المجني عليه.

[مسألة سرت الجناية بعد عفو المجني عليه]
إذا أتى عليه جناية يجب فيها القصاص، بأن قلع عينه، أو قطع يده أو رجله، فعفا المجني عليه عن القصاص، ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه.. لم يجب القصاص.
وحكي عن مالك: أنه قال: (يجب القصاص؛ لأن الجناية صارت نفساً) .
ودليلنا: أنه يتعذر استيفاء القصاص في النفس دون ما عفي عنه، فسقط القصاص في النفس، كما لو عفا بعض الأولياء.
ولأن الجناية إذا لم يجب فيها القصاص.. لم يجب في سرايتها، كما لو قطع يد مرتد، ثم مات.
إذا ثبت هذا: فإن كان المجني عليه قد عفا على مال وجبت فيه دية كاملة، فإن كان أخذ دية العضو المقلوع.. استوفى الولي باقي دية النفس، وإن لم يأخذ شيئا ًمن الدية.. أخذ الولي جميع الدية.
وإن كان المجني عليه عفا عن العين أو اليد أو الرجل على غير مال.. وجب لوليه نصف الدية.
وقال أبو حنيفة: (تجب الدية كاملة) .
وقال أبو يوسف، ومحمد: لا شيء على الجاني.
دليلنا: أن بالجناية وجب عليه نصف الدية، فإذا عفا عن الدية.. سقط ما وجب

(11/436)


دون ما لم يجب، فإذا صارت نفساً.. وجب بالسراية نصف الدية، ولم يسقط أرشها بسرايتها، وإنما دخل في أرش النفس.
وإن كان قد جنى عليه جناية لا يجب القصاص فيها، كالجائفة، وكسر الظهر، فعفا المجني عليه عن القصاص فيها، ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه، فمات.. كان لوليه أن يقتص في النفس؛ لأنه عفا عن القصاص فيما لا قصاص فيه، فلم يؤثر العفو فيه.

[فرع قطع يده فعفى المجني عليه عنه]
وإن قطع يد رجل، فعفا المجني عليه عن القصاص على مال أو على غير مال، ثم عاد الجاني فقتله قبل الاندمال.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أن للولي القصاص في النفس؛ لأن الجناية الثانية منفردة عن الأولى، فلم يدخل حكمها في حكمها، كما لو قتله آخر، فإن عفا عنه على مال.. كان له كمال الدية؛ لأن الجناية على الطرف إذا وردت عليها الجناية على النفس.. صارت في حكم المندملة، فلم يدخل أرش أحدهما في أرش الآخر.
والوجه الثاني: أنه لا يجب القصاص؛ لأن الجناية والقتل كالجناية الواحدة، فإذا سقط القصاص في بعضها.. سقط في جميعها، كما لو سرى قطع اليد إلى النفس، فإن عفا عنه على مال.. كان له نصف الدية؛ لأنه قد وجب له جميع الدية، وقد أخذ نصفها، أو سقط حقه عنه، فبقي حقه في نصف الدية.
والثالث - وهو المنصوص -: (أن للولي أن يقتص في النفس) ؛ لأنهما جنايتان عفا عن إحداهما ولم يعف عن الأخرى، فصار كما لو قتله آخر.
وإن عفا عنه الولي: كان له نصف الدية؛ لأن أرش الطرف يدخل في أرش النفس، فإذا أخذه أو سقط حقه عنه بالعفو.. بقي الباقي له من الدية.

(11/437)


[مسألة قطع إصبع رجل فعفى عنه]
إذا قطع رجل إصبع رجل عمداً، فقال المجني عليه: عفوت عن هذه الجناية، قودها وديتها.. نظرت:
فإن اندمل الجرح، ولم يسر إلى عضو ولا نفس.. سقط القود والدية، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال أبو يوسف، ومحمد: إن العفو عن الجناية عفو عما يحدث منهما.
وممن قال بصحة عفو المجروح عن دمه: مالك، وطاووس، والحسن وقتادة، والأوزاعي.
وقال المزني: لا يصح العفو عن الأرش؛ لأنه أسقطه قبل وجوبه، بدليل: أنه لا يملك المطالبة به قبل الاندمال، وهذا خطأ؛ لأنه وجب بالجراحة، فصح إسقاطه، وأما المطالبة به: فإنه يملك المطالبة به في أحد القولين، ولا يملكه في الآخر، فيكون كالدين المؤجل، يصح إسقاطه قبل محل دفعه.
وإن سرت الجناية إلى كفه، واندملت.. سقط القود والدية في الإصبع؛ لما ذكرناه.
وأما الكف: فلا قود فيه؛ لأن القود في العضو لا يجب بالسراية، ولا تصح البراءة من دية ما زاد على الإصبع.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: تصح؛ لأنه سراية جرح غير مضمون.
والأول أصح؛ لأنه إبراء عما لم يجب.
وإن سرت الجناية إلى النفس.. نظرت:
فإن قال: عفوت عن هذه الجناية قودها وديتها، ولم يقل: وما يحدث منها.. فإن القصاص لا يجب في الإصبع؛ لأنه عفا عنه بعد الوجوب، ولا يجب القصاص في النفس؛ لأن القصاص إذا سقط في الإصبع.. سقط في النفس؛ لأنه لا يتبعض.

(11/438)


وحكى أصحابنا الخراسانيون عن ابن سريج قولا ًآخر مخرجاً: أنه يجب؛ لأنه عفا عن القود في الطرف لا في النفس. وهذا ليس بمشهور.
وأما الأرش: فقد عفا عن أرش الإصبع بعد وجوبه، فينظر فيه:
فإن كان ذلك بلفظ الوصية، بأن قال: عفوت عن الجاني عن قود هذه الجناية، وأوصيت له بأرشها.. فقد وجد ذلك منه في مرض موته، فإن قلنا: لا تصح الوصية للقاتل.. لم تصح هذه الوصية، وإن قلنا: تصح الوصية للقاتل.. اعتبر أرش الإصبع من ثلث تركته، فإن خرج من الثلث.. صحت الوصية فيه للقاتل، وإن لم يخرج من الثلث.. لم تصح.
وإن كان بلفظ العفو أو الإبراء، بأن قال: عفوت عن قود هذه الجناية وديتها، أو قال: أبرأته من أرشها.. ففيه قولان:
أحدهما: حكمه حكم الوصية؛ لأنه يعتبر من الثلث.
فعلى هذا: تكون على قولين، كالوصية للقاتل بلفظ الوصية.
والثاني: ليس بوصية؛ لأن الوصية ما تكون بعد الموت، وهذا إسقاط في حال الحياة.
فعلى هذا: يصح الإبراء عن أرش الإصبع، ويجب عليه تسعة أعشار دية النفس؛ لأنه لم يبرأ منها.
وأما إذا قال: عفوت عن هذه الجناية قودها وديتها وما يحدث منها.. فإن القود يسقط في الإصبع والنفس؛ لأن العفو يصح عن القصاص الذي لم يجب، بدليل: أنه لو قال لرجل: اقتلني ولا شيء عليك، فقتله.. لم يجب عليه قصاص؛ لما تقدم ذكره.
وأما الأرش: فإن كان ذلك بلفظ الوصية، بأن قال: أوصيت له بأرش الجناية وأرش ما يحدث منها، فإن قلنا: تصح الوصية للقاتل، وخرج جميع الدية من الثلث.. صحت الوصية، وإن خرج بعضها من الثلث.. صح ما خرج من الثلث، ووجب الباقي. وإن قلنا: لا تصح الوصية للقاتل.. وجب جميع الدية.

(11/439)


وإن قال: أبرأته عن أرش هذه الجناية وأرش ما يحدث منها، فإن قلنا: إن حكم الإبراء حكم الوصية.. كان على قولين، كما لو كان بلفظ الوصية، وإن قلنا: إن حكم الإبراء ليس كالوصية.. صحت البراءة في دية الإصبع؛ لأنه إبراء عنها بعد الوجوب، ولم تصح البراءة فيما زاد على دية الإصبع؛ لأنه إبراء عنها قبل الوجوب. هكذا ذكر الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق.
وقال ابن الصباغ: في صحة براءته من أرش ما زاد على دية الإصبع قولان، من غير بناء على حكم الوصية:
أحدهما: لا تصح البراءة؛ لأنه إبراء عما لم يجب، فأشبه إذا عفا عما يتولد من الجناية، فسرت إلى الكف.
والثاني: تصح؛ لأن الجناية على الطرف جناية على النفس؛ لأن النفس لا تباشر بالجناية، وإنما يجنى على أطرافها، فإذا عفا بعد الجناية عليها.. صح، ويفارق الكف؛ لأن الجناية على الإصبع ليس بجناية على النفس؛ لأنه يباشر بالجناية، فإذا قلنا: يصح.. بني على القولين في الوصية للقاتل على ما مضى.

[فرع قطع يدي رجل فبرئتا فقطع يد الجاني وعفا عن الأخرى]
لو قطع يدي رجل عمداً، فبرئت اليدان، فقطع المجني عليه إحدى يدي الجاني، وعفا عن الأخرى على الدية، وقبضها، ثم انتقضت يد المجني عليه ومات.. لم يكن لورثته القصاص؛ لأنه مات من جراحتين إحداهما لا قصاص فيها وهي المعفو عنها، ولا يستحق شيئاً من الدية؛ لأنه قد استوفى نصف الدية وما قيمته نصف الدية.
وإن لم يمت المجني عليه، ولكن الجاني انتقضت عليه يده، ومات.. لم يرجع ورثته على المجني عليه بشيء؛ لأن القصاص لا تضمن سرايته.

(11/440)


وإن قطع إحدى يدي الجاني، فمات من قطعها ولم يأخذ بدل اليد الأخرى.. كان له أن يأخذه؛ لأنه وجب له القصاص في اليدين، وقد فاته القصاص في أحدهما بما لا ضمان عليه فيه، فهو كما لو سقط بأكلة، أو مات حتف أنفه.
وإن مات المجني عليه من قطع اليدين، ولم تبرأ، فقطع الوارث إن إحدى يدي الجاني، فمات من قطع يده قبل أن تقطع الأخرى.. لم يرجع بدية اليد الأخرى؛ لأن الجناية إذا صارت نفساً.. سقط حكم الأطراف، وقد سرى قطع يد الجاني إلى النفس، فاستوفى النفس بالنفس، وليس كذلك إذا برئت اليدان ولم يمت، فإن الاعتبار بالطرفين، ولا يسقط بدل أحدهما باستيفاء بدل الآخر. وهكذا حكم كل طرفين متميزين، مثل: الرجلين، والعينين.

[مسألة قطع يد رجل فسرى إلى نفسه فقطع الولي يده]
] : وإن قطع يد رجل، فسرى القطع إلى نفسه، فقطع الولي يده، ثم عفا عنه.. فلا ضمان عليه في اليد. وكذلك: لو قتل رجل رجلاً، فبادر الولي فقطع يد الجاني، ثم عفا عنه.. فلا ضمان عليه في اليد.
وقال أبو حنيفة: (يلزمه دية اليد) .
دليلنا: أنه قطع يده في حال أبيح له قطعها، فلم يلزمه ضمانها، كما لو قطع يد مرتد فأسلم.
وأما العفو: فإنما ينصرف إلى ما بقي دون ما استوفى.
وإن قطع يهودي يد مسلم، فاقتص المسلم من اليهودي، ثم مات المسلم.. فلوليه أن يقتل اليهودي، فإن عفا عنه على مال.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب له نصف الدية؛ لأن المجني عليه قد أخذ يد اليهودي بيده، واليد تقوم بنصف الدية، فكأنه رضي أن يأخذ يداً ناقصة بيد كاملة.

(11/441)


والثاني: يستحق خمسة أسداس دية المسلم؛ لأن دية يد اليهودي سدس دية يد المسلم.
وإن قطع اليهودي يدي المسلم، فاقتص المسلم وقطع يدي اليهودي، ثم مات المسلم، واختار وليه العفو على مال.. لم يستحق شيئاً على الوجه الأول على ما مضى، ويستحق على الثاني ثلثي دية مسلم.
وإن قطعت امرأة يد رجل، فاقتص منها، ثم مات المجني عليه.. فلوليه أن يقتلها، فإن عفا عنها على مال.. استحق على الوجه الأول نصف الدية، وعلى الثاني ثلاثة أرباع الدية. فإن قطعت يديه، فاقتص منها، ثم مات من الجناية، ولم يقتلها وليه، ولكن عفا عنها على مال.. لم يستحق شيئاً على الوجه الأول، وعلى الوجه الثاني يستحق نصف الدية.
وإن قطع رجل يدي رجل وهما متساويان في الدية، فاقتص منه في اليدين، ثم مات المجني عليه، ولم يختر وليه قتله، ولكن عفا عنه على مال.. لم يستحق شيئاً، وجهاً واحداً؛ لأنه يستحق الدية، وقد أخذ ما يساوي الدية.

[فرع جرح مرتداً فأسلم المرتد ثم جرحه آخرون]
وإن جرح رجل مرتداً جراحة، فأسلم المرتد، ثم عاد الجارح مع ثلاثة رجال، فجرحه كل واحد منهم جراحة يموت من مثلها، ومات من الجراحات الخمس.. لم يجب القصاص في النفس؛ لأنه مات من جراحة مضمونة وغير مضمونة، فيجب فيه سبعة أثمان الدية، وعلى الذي جرحه في حال الردة ثمن الدية، وعلى كل واحد من الثلاثة ربع الدية، لأنه مات من خمس جراحات، إلا أن الذي جرحه في حال الردة سقط عنه ما يخص الجراحة في حال الردة؛ لأن الدية تقسم على عدد الجارحين لا على عدد الجراحات، فكان الذي يخص الجاني الأول ربع الدية، فيسقط عنه الثمن.
وإن جنى عليه ثلاثة رجال في ردته، فأسلم، ثم جنى عليه آخر من غيرهم، ومات

(11/442)


من الجراحات.. وجب على الذي جرحه بعد أن أسلم ربع ديته، ويسقط عنه ثلاثة أرباع ديته.
وإن كان الذي جنى عليه بعد الإسلام أحد الثلاثة.. وجب عليه سدس الدية، ولم يجب على الباقين شيء.
وإن جرحه ثلاثة في حال ردته، ثم عاد إلى الإسلام، وجاء أحد الثلاثة مع أربعة غير الثلاثة وجرحوه، ومات من الجراحات.. فقد مات من جراحة سبعة، فيسقط سبعا الدية، وهما ما يخص الرجلين الجارحين في الردة، ويجب على الأربعة الذين انفردوا بالجراحة في الإسلام أربعة أسباع الدية، ويجب على الذي جرحه في الردة والإسلام نصف سبع الدية.
وإن جرحه أربعة في ردته، ثم عاد أحدهم وجرحه بعد إسلامه، ومات من الجراحات.. وجب على الذي جرحه بعد إسلامه ثمن الدية، وتسقط باقي ديته.
وبالله التوفيق والعون، وهو حسبي ونعم الوكيل

(11/443)