البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الديات] [باب من تجب الدية بقتله وما تجب به الدية من الجنايات]

(11/445)


كتاب الديات باب من تجب الدية بقتله، وما تجب به الدية من الجنايات تجب الدية بقتل المسلم والذمي.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] الآية (النساء: 92) ومعنى قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] إذا قتله في دار الإسلام.
ومعنى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] (النساء: 92) أي: إذا كان رجل من المسلمين في بلاد المشركين، فحضر معهم الحرب، ورماه رجل من المسلمين، فقتله.. تقديره: في قوم عدو لكم.

(11/447)


ومعنى قوله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] (النساء: 92) يعني: أهل الذمة.
ومن السنة: ما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن: «وفي النفس مائة من الإبل» .

(11/448)


وهو إجماع، لا خلاف في وجوب الدية.
إذا ثبت هذا: فالقتل يتنوع ثلاثة أنواع.
خطأ محض، وعمد محض، وشبه عمد. ويقال: عمد الخطأ.
فتجب الدية في (الخطأ المحض) ، وهو: أن يكون مخطئاً في الفعل والقصد، مثل: أن يقصد إصابة طير، فيصيب إنساناً؛ للآية.
وأمأ (العمد المحض) ، فهو: أن يكون عامداً في الفعل، عامداً في القصد، فهل يجب فيه القود والدية بدل عنه، أو يجب فيه أحدهما لا بعينه؟ فيه قولان، مضى ذكرهما.
وأما (شبه العمد) ، فهو: أن يكون عامداً في الفعل، مخطئاً في القصد، مثل: أن يقصد ضربه بما لا يقتل مثله غالباً، فيموت منه، فتجب فيه الدية.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (القتل يتنوع نوعين: خطأ محض، وعمد محض. فأما عمد الخطأ: فلا يتصور؛ لأنه يستحيل أن يكون القائم قاعداً) .

(11/449)


دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا إن في قتل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة، منها أربعون خلفة» .

[مسألة يرمى الحربيون وإن تترسوا بمسلم]
وإذا أسر المشركون مسلماً، فتتسروا به في القتل؛ يتوقون به الرمي، ويحتمون وراءه في رميهم، فقتله رجل من المسلمين بالرمي.. لم يجب عليه القصاص؛ لأنه يجوز له رميهم.
وأما الدية: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (تجب) . وقال في موضع: (لا تجب) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: تجب؛ لأنه ليس من جهته تفريط في الإقامة بينهم، فلم يسقط ضمانه.
والثاني: لا تجب؛ لأن القاتل مضطر إلى رميه.
ومنهم من قال: إن علم أنه مسلم.. لزمه ضمانه، وإن لم يعلم.. لم يلزمه ضمانه؛ لأنه يلزمه أن يتوقاه عن الرمي إذا علمه، ولا يلزمه أن يتوقاه إذا لم يعلمه.

(11/450)


وقال أبو إسحاق: إن عينه بالرمي.. ضمنه، وإن لم يعينه.. لم يضمنه وحملهما على هذين الحالين.

[مسألة قتل جماعة رجلاً]
وإن اشترك جماعة في قتل رجل.. وجبت عليهم دية، وتقسم بينهم على عددهم؛ لأنه بدل متلف يتجزأ، فقسم بينهم على عددهم، كغرامة المتلف.
فإن كان القتل موجباً للقود، واختار الولي أن يقتل بعضهم ويعفو عن الباقين على حصتهم من الدية.. كان له ذلك.
وإن شهد رجلان على رجل بما يوجب القتل أو القطع بغير حق مخطئين.. وجبت عليهما الدية؛ لما ذكرناه قبل هذا في الشاهدين عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل في السرقة.

[فرع غرق مع معلم السباحة]
إذا دفع ولده الصغير إلى سابح ليعلمه السباحة، فغرق الصبي.. فعلى عاقلة السابح ديته، وعليه الكفارة في ماله؛ لأنه قد أخذه للتعليم، فإذا تلف في طريق التعليم.. كان عليه ضمانه، كالمعلم إذا ضرب صبياً، فمات، ولأن هذا في الغالب لم يغرق إلا بتفريط من السابح، فيكون عمد خطأ.
وإن أسلم البالغ نفسه إلى السابح ليعلمه السباحة، فغرق.. لم يجب ضمانه؛ لأنه في يد نفسه، ولا ينسب التفريط في هلاكه إلى غيره، فلا يجب ضمانه.

[مسألة الوقوع والموت بصياح مفزع]
وإن كان صبي أو بالغ معتوه على حائط أو حافة نهر، فصاح رجل صياحاً شديداً،

(11/451)


ففزع من الصياح، فسقط ومات، أو زال عقله.. وجبت ديته على عاقله الصائح؛ لأن صياحه سبب لوقوعه.
فإن كان صياحه عليه.. فهو عمد خطأ، وإن كان صياحه على غيره.. فهو خطأ محض.
وإن كان الرجل بالغاً عاقلاً، فسمع الصيحة، وسقط ومات، أو زال عقله، فإن كان متيقظاً.. لم يجب ضمانه؛ لأن الله تعالى لم يجر العادة - لا معتاداً ولا نادرا - أن يقع الرجل الكبير العاقل من الصياح، فإذا مات.. علمنا أن صياحه وافق موته، فهو كما لو رماه بثوب، فمات.
وإن كان في حال غفلته، فسمع الصيحة، فمات أو زال عقله.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه لا يجب ضمانه) ؛ لما ذكرناه.
والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه يجب ضمانه؛ لأن الإنسان قد يفزع من ذلك في حال غفلته.
وإن شهر السيف على بالغ عاقل، فزال عقله.. لم يجب ضمانه.
وإن شهره على صبي أو معتوه، فزال عقله.. وجب ضمانه.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب ضمانه) .
دليلنا: أن هذا سبب في تلفه، فإن كان متعدياً.. ضمن، كما لو حفر بئراً، فوقع فيها.

[فرع أرعبت امرأة حامل فأسقطت]
وإن بعث الإمام إلى امرأة ذكرت عنده بسوء وكانت حاملا، ففزعت، فأسقطت جنيناً ميتاً.. وجب على الإمام ضمانه.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب ضمانه) .

(11/452)


دليلنا: ما روي: (أن امرأة ذكرت عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بسوء، فبعث إليها، فقالت: يا ويلها، ما لها ولعمر؟ ! فبينما هي في الطريق إذ فزعت، فضربها الطلق، فألقت ولداً، فصاح صيحتين، ثم مات، فاستشار عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فقال له عثمان، وعبد الرحمن بن عوف: لا شيء عليك، إنما أنت وال ومؤدب. وصمت علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: ما تقول؟ فقال له علي: إن اجتهدا.. فقد أخطآ، وإن لم يجتهدا.. فقد غشاك، إن ديته عليك؛ لأنك أنت أفزعتها، فألقت، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أقسمت عليك لا برحت حتى تقسمها على قومك) . يعني: قوم عمر. ولم ينكر عثمان وعبد الرحمن ذلك فدل على: أنهما رجعا إلى قوله، وصار ذلك إجماعاً.
وإن فزعت فماتت.. لم يجب ضمانها؛ لأن ذلك ليس بسبب لهلاكها في العادة.

[مسألة السبب غير الملجئ لا يوجب الضمان]
إذا طلب رجل رجلاً بصيراً بالسيف، ففر منه، فألقى نفسه من سطح وهو يراه، أو تردى في بئر أو نار وهو يراها، فمات.. لم يجب على الطالب ضمانه؛ لأنه حصل من الطالب بسبب غير ملجئ ومن المطلوب مباشرة، فتعلق الحكم بالمباشرة دون السبب، كما لو خاف منه، فقتل نفسه.
وإن طلب أعمى بالسيف، ففر منه، فوقع من سطح أو في بئر أو نار، فمات، فإن كان عالماً بالسطح والبئر والنار.. فلا ضمان على الطالب؛ لما ذكرناه في البصير، وإن كان المطلوب غير عالم بالسطح والبئر والنار، أو كان المطلوب بصيراً ولم يعلم بالسطح والبئر والنار، وفر منه على سطح يحسبه قوياً، فانخسف من تحته،

(11/453)


ومات.. وجبت الدية على عاقلة الطالب؛ لأنه ألجأه إلى الهرب.
وإن فر منه، فافترسه سبع في طريقه.. لم يجب على الطالب ضمانه؛ لأنه لم يلجئ السبع إلى قتله، وإنما ألجأ المطلوب إلى الفرار، وذلك سبب، وأكل السبع فعل، فإذا اجتمع السبب والفعل.. تعلق الضمان بالفعل دون السبب.
وإن طلب صبياً أو مجنوناً بالسيف، ففر منه، وألقى نفسه من سطح، فمات، فإن قلنا: إن عمدهما عمد.. لم يضمن الطالب الدية، وإن قلنا: إن عمدهما خطأ.. ضمن.

[فرع ألقى رجلاً من علو وقطعه آخر]
وإن رمى رجل رجلاً من شاهق مرتفع يموت منه غالباً إذا وقع، فقطعه رجل نصفين قبل أن يقع.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنهما قاتلان، فيجب عليهما القود أو الدية؛ لأن كل واحد منهما قد فعل فعلاً لو انفرد به.. لمات من غالباً، فصارا كالجارحين.
والثاني: أن القاتل هو القاطع؛ لأن التلف إنما حصل بفعله، فصار كما لو جرحه رجل وذبحه آخر، ويعزر الأول.
وإن كان الشاهق مما لا يموت منه غالباً.. كان القاتل هو القاطع، وجهاً واحداً؛ لأن ما فعله الأول لا يجوز أن يموت منه.
وإن زنى بامرأة وهي مكرهة، فحبلت منه، وماتت من الولادة.. ففيه قولان:
أحدهما: تجب عليه ديتها؛ لأنها تلفت بسبب من جهته تعدى فيه، فضمنها.
والثاني: لا تجب عليه؛ لأن السبب انقطع حكمه بنفي النسب عنه.

(11/454)


[مسألة جعل حجراً في طريق فعثر به رجل ومات]
إذا وضع رجل حجراً في طريق من طرق المسلمين، أو في ملك غيره بغير إذنه، فعثر بها إنسان لم يعلم بها، ومات منها.. وجبت ديته على عاقلة واضع الحجر، ووجبت الكفارة في ماله؛ لأنه تلف بسبب تعدى فيه، فوجب ضمانه.
وهكذا: إن نصب هناك سكيناً، فعثر رجل ووقع عليها، فمات منها.. وجبت عليه الدية؛ لما ذكرناه في الحجر.
فأما إذا وضع الحجر أو السكين، فدفع آخر عليها رجلاً ومات.. كان الضمان على الدافع؛ لأن الواضع صاحب سبب، والدافع مباشر، فتعلق الحكم بالمباشر.
وإن وضع رجل حجراً في طريق المسلمين، أو في ملك غيره بغير إذنه، ووضع آخر سكيناً بقرب الحجر، فتعثر رجل بالحجر، فوقع على السكين، ومات منها.. وجب الضمان على واضع الحجر.
وقال أبو الفياض البصري: إن كان السكين قاطعاً.. وجب الضمان على واضع السكين دون واضع الحجر، وإن كان غير قاطع.. وجب الضمان على واضع الحجر؛ لأن السكين القاطع موح. والأول هو المشهور؛ لأن واضع الحجر كالدافع له على السكين، فوجب عليه الضمان، كما لو نصب رجل سكيناً، ودفع عليها آخر رجلاً، ومات.
وإن وضع رجل حجراً في طريق المسلمين، ووضع اثنان حجراً إلى جنبه، فتعثر بهما رجل ومات.. فليس فيها نص لأصحابنا، إلا أن أصحاب أبي حنيفة اختلفوا فيها:
فقال زفر: يكون على الرجل الواضع للحجر وحده نصف الدية؛ لأن فعله مساو لفعلهما، وعلى الرجلين الواضعين للحجر الآخر النصف.
وقال أبو يوسف: تجب الدية عليهم أثلاثاً. قال ابن الصباغ: وهو قياس المذهب؛ لأن السبب حصل من الثلاثة، فوجب الضمان عليهم وإن اختلفت أفعالهم، كما لو جرحه رجل جراحة، وجرحه آخر جراحتين، ومات منها.

(11/455)


[فرع وضع حجراً في ملكه فعثر به رجل]
وإن وضع رجل في ملك نفسه حجراً، أو نصب سكيناً، فتعثر به إنسان ومات.. لم يجب على واضع الحجر أو السكين ولا على عاقلته ضمان؛ لأنه غير متعد بوضع الحجر أو السكين.
وإن وضع رجل في ملك غيره حجراً بغير إذنه، ووضع صاحب الملك بقرب الحجر سكيناً، فتعثر رجل بالحجر، ووقع على السكين ومات.. وجب الضمان على عاقلة واضع الحجر؛ لأنه كالدافع للعاثر على السكين.
وإن وضع رجل في ملكه حجراً، ووضع أجنبي سكيناً بقرب الحجر، فتعثر رجل بالحجر، ووقع على السكين فمات.. وجبت الدية على عاقلة واضع السكين دون واضع الحجر؛ لأن المتعدي هو واضع السكين دون واضع الحجر.

[مسألة حفر بئراً فوقع بها شخص ومات]
وإن حفر رجل بئراً، فوقع فيها إنسان ومات.. لم يخل: إما أن يحفرها في ملكه، أو في ملك غيره، أو في طريق المسلمين، أو في موات.
فإن حفرها في ملكه، فإن كانت ظاهرة، فدخل رجل ملكه، فوقع فيها، فمات.. لم يجب على الحافر ضمانه، سواء دخل بإذنه أو بغير إذنه؛ لأنه غير متعد بالحفر، وإن كانت غير ظاهرة، بأن غطى رأسها، فوقع فيها إنسان فمات، فإن دخل إلى ملكه بغير إذنه لم يجب ضمانه؛ لأنه متعد بالدخول.
وهكذا: لو كان في داره كلب عقور، فدخل داخل داره بغير إذنه، فعقره الكلب.. لم يجب ضمانه؛ لما ذكرناه. وإن استدعاه للدخول ولم يعلمه بالبئر والكلب، فوقع فيها، أو عقره الكلب، فمات.. فهو كما لو قدم إلى غيره طعاماً مسموماً، فأكله، على قولين، وقد مضى دليلهما.

(11/456)


فأما إذا حفرها في ملك غيره، فإن كان بإذنه.. لم يجب عليه ضمان من يقع فيها؛ لأنه غير متعد في الحفر، وإن حفرها بغير إذنه.. وجب عليه ضمان من يقع فيها؛ لأنه متعد بالحفر، فإن أبرأه صاحب الملك عن ضمان من يقع فيها. فهل يبرأ؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يبرأ؛ لأنه إبراء عما لم يجب.
والثاني: يبرأ؛ لأنه كما لو أذن له في حفرها.
قال أبو علي الطبري: فإن قال صاحب الملك: كان حفرها بإذني.. لم يصدق، خلافاً لأبي حنيفة.
وإن حفرها في طريق المسلمين، فإن كان ضيقاً.. وجب عليه ضمان من يقع فيها؛ لأنه تعدى بذلك، وسواء أذن له الإمام في ذلك أو لم يأذن له؛ لأنه ليس للإمام أن يأذن له فيما فيه ضرر على المسلمين، وإن كان الطريق واسعاً لا يستضر المسلمون بحفر البئر فيه، كالطريق في الصحارى، فإن حفرها بإذن الإمام.. لم يجب عليه ضمان من يقع فيها، سواء حفرها لينتفع بها أو لينتفع بها المسلمون؛ لأن للإمام أن يقطع من الطريق إذا كان واسعاً، كما له أن يقطع من الموات. وكذلك: إن حفرها بغير إذن الإمام، فأجاز له الإمام ذلك.. سقط عنه الضمان.
وإن حفرها بغير إذن الإمام، فإن حفرها لينتفع هو بها.. وجب عليه ضمان من يقع فيها؛ لأنه ليس له أن ينفرد بما هو حق لجماعة المسلمين بغير إذن الإمام؛ لأن ذلك موضع اجتهاد الإمام.
وإن حفرها لينتفع بها المسلمون.. فهل يجب عليه ضمان من يقع فيها؟ حكى الشيخان فيها وجهين، وحكاهما غيرهما قولين:
أحدهما - حكاه القاضي أبو حامد عن القديم -: (أنه يجب عليه الضمان) ؛ لأنه حفرها بغير إذن الإمام، فهو كما لو حفرها لنفسه.
والثاني - حكاه القاضي أبو الطيب عن الجديد -: (أنه لا يجب عليه الضمان) ؛ لأنه حفرها لمصلحة المسلمين، وقد يحتاجون إلى ذلك، فهو كما لو حفرها بإذن الإمام.

(11/457)


وإن حفرها في موات ليتملكها.. لم يجب عليه ضمان من يقع فيها؛ لأنه يملكها بالإحياء، فتصير كما لو حفرها في ملكه.
وكذلك: إن حفرها في الموات لا ليتملكها، ولكن لينتفع بها مدة مقامه، فإذا ارتحل عنها كانت للمسلمين.. فلا ضمان عليه؛ لأن له أن ينتفع بالموات، فلا يكون متعدياً بالحفر.

[فرع حفر بئراً في طريق وآخر وضع حجراً]
وإن حفر بئراً في طريق المسلمين، ووضع آخر حجراً في تلك الطريق، فتعثر بها إنسان، ووقع في البئر ومات.. وجب الضمان على واضع الحجر؛ لأنه كالدافع له في البئر.
وإن حمل السيل حجراً إلى رأس البئر، فعثر بها إنسان، فوقع في البئر ومات.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يجب ضمانه؛ لأنه إنما تلف بعثرته في الحجر، لا بتفريط من الحافر في الحجر.
والثاني - وهو قول أبي حنيفة -: (أن الضمان على حافر البئر) ؛ لأنه هو المتعدي، فوجب عليه الضمان، كما لو وضع رجل في ملكه حجراً، ووضع آخر بقربه سكيناً، فتعثر بالحجر، ووقع على السكين ومات.. وجب الضمان على واضع السكين.
وإن حفر بئراً في طريق المسلمين، ووضع آخر في أسفلها سكيناً، فتردى رجل في البئر، ووقع على السكين فقتله.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب الضمان على الحافر، وهو قول أبي حنيفة، كما قلنا في رجلين

(11/458)


وضع أحدهما حجراً والآخر سكيناً، وعثر بالحجر على السكين.. فإن الضمان على واضع الحجر.
والثاني: أن الضمان على واضع السكين؛ لأن تلفه حصل بوقوعه على السكين قبل وقوعه في البئر.
وإن حفر رجل بئراً في طريق المسلمين وطمها، فجاء آخر، فأخرج ما طمت به.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب الضمان على الحافر؛ لأنه المبتدئ بالتعدي.
والثاني: أن الضمان على الثاني؛ لأن تعدي الأول قد زال بالطم.

[فرع حفر عبد بئراً فعتق ثم وقع فيها إنسان]
وإن حفر العبد بئراً في طريق المسلمين، فأعتقه سيده، ثم وقع في البئر إنسان ومات.. وجب الضمان على العتيق.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (يجب الضمان على سيده؛ لأن الجناية حصلت بالحفر، فهو كما لو جرح إنساناً، ثم أعتق، ثم مات المجروح) .
ودليلنا: أن التلف حصل بعد الحرية، فكان الضمان عليه، كما لو قتله، ويفارق الجناية؛ لأنها حصلت قبل الحرية.

[فرع حفر بئراً في أرض مشاع]
] : وإن حفر بئراً في ملك مشترك بينه وبين رجلين بغير إذنهما، وتلف بها إنسان.. قال ابن الصباغ: فقياس المذهب: أن جميع الدية على الحافر.
وقال أبو حنيفة: (تجب عليه ثلثا الدية) .

(11/459)


وقال أبو يوسف: يجب عليه نصف الدية.
ودليلنا: أنه تعدى بالحفر، فضمن الواقع فيها، كما لو حفرها في ملك غيره بغير إذنه.

[فرع بنى مسجداً في طريق]
وإن بنى مسجداً في طريق واسع، لا ضرر على المسلمين فيه بضيق الطريق، فإن بناه لنفسه.. لم يجز، وإن سقط على إنسان.. ضمنه، وإن بناه للمسلمين، فإن كان بإذن الإمام.. جاز، ولا ضمان عليه فيمن سقط عليه، وإن بناه بغير إذن الإمام.. فهو كما لو حفر فيها بئراً للمسلمين، على ما ذكرناه هناك من الخلاف.
وإن كان هناك مسجد للمسلمين، فسقط سقفه، فأعاده رجل من المسلمين بآلته أو بغير آلته، وسقط على إنسان.. لم يجب عليه ضمانه؛ لأنه للمسلمين.
وإن فرش في مسجد للمسلمين حصيراً، أو علق فيه قنديلاً، فعثر رجل بالحصير، أو وقع عليه القنديل، فمات، فإن فعل ذلك بإذن الإمام فلا ضمان عليه، وإن فعله بغير إذن الإمام.. فهو كما لو حفر بئراً في طريق واسع للمسلمين بغير إذن الإمام، على الخلاف المذكور فيها.
وقال أبو حنيفة: (إن فرش الحصير، وعلق القنديل من الجماعة - يعني: من الجيران - فلا ضمان عليه، وإن كان من غير الجماعة.. فعليه الضمان) .
دليلنا: أنه قصد عمارة المسجد متقرباً، فلم يجب عليه الضمان، كما لو وقع السقف، فبناه.

(11/460)


[فرع طرح قشور البطيخ ونحوها فزلق بها إنسان]
قال الشيخ أبو حامد: وإن طرح على باب داره قشور البطيخ، أو الباقلاء الرطب، أو الموز، أو رشه بالماء، فزلق به إنسان، فمات.. كان ديته على عاقلته، والكفارة في ماله؛ لأن له أن يرتفق في المباح بشرط السلامة، فإذا أدى إلى التلف.. كان عليه الضمان.
وإن ركب دابة، فبالت في الطريق أو راثت، فزلق به إنسان، فمات.. كان عليه الضمان.
وكذلك: لو أتلفت إنساناً بيدها أو رجلها أو نابها.. فعليه ضمانه؛ لأن يده عليها، فإذا تلف شيء بفعلها أو بسبب فعلها.. كان كما لو أتلفه بفعله أو بسبب فعله.
وإن ترك على حائطه جرة، فرمتها الريح على إنسان، فمات.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه غير متعد بوضعها على ملكه، ووقعت من غير فعله.
وكذلك: إذا سجر تنوراً في ملكه، فارتفعت شرارة إلى دار غيره، فأحرقته.. فلا ضمان عليه؛ لما ذكرناه.

[مسألة بنى جداراً مستوياً ثم سقط]
إذا بنى حائطاً في ملكه مستوياً، فسقط على إنسان من غير أن يبقى مائلاً ولا مستهدماً.. فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يفرط.
وإن بناه معتدلاً، فمال إلى ملكه، أو بناه مائلاً إلى ملكه، فسقط على إنسان وقتله.. لم يجب عليه ضمان؛ لأن له أن يتصرف في ملكه كيف شاء.
وإن بناه مائلاً إلى الشارع، فسقط على إنسان، فقتله.. وجبت على عاقلته الدية، والكفارة في ماله؛ لأن له أن يرتفق بهواء الشارع بشرط السلامة، فإذا تلف به إنسان.. وجب ضمانه.
وإن بناه معتدلاً في ملكه، ومال إلى الشارع، ثم وقع على إنسان، فقتله.. ففيه وجهان.

(11/461)


[الأول] : قال أبو إسحاق: يجب ضمانه على عاقلته، وهو اختيار القاضي أبي الطيب، وقول أصحاب مالك؛ لأنه فرط بتركه مائلاً، فوجب عليه الضمان، كما لو بناه مائلا إلى الشارع.
و [الثاني] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يجب ضمانه، وهو المنصوص؛ لأن الميلان حدث من غير فعله، فهو كما لو سقط على إنسان من غير ميل.
فإن مال حائطه إلى هواء دار جاره.. فلجاره مطالبته بإزالته؛ لأن الهواء ملك لجاره، فكان له مطالبته بإزالة بنائه عنه، كما قلنا في الشجرة، فإن لم يزله حتى سقط على إنسان، فقتله.. فهو يجب عليه ضمانه؟ على الوجهين إذا مال إلى الشارع.
وإن استهدم من غير ميل.. فقد قال أبو سعيد الإصطخري، والشيخ أبو حامد: ليس للجار مطالبته في نقضه؛ لأنه في ملكه، فإن وقع على إنسان.. فلا ضمان عليه.
وقال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأنه ممنوع من أن يضع في ملكه ما يعلم أنه يتعدى إلى ملك غيره، كما ليس له أن يؤجج ناراً في ملكه يتعدى إلى ملك غيره مع وجود الريح، ولا يطرح في داره ما يتعدى إلى دار غيره، كذلك هذا مثله؛ لأن الظاهر أنه إذا كان مستهدماً.. أنه يتعدى إلى ملك غيره.. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا بنى الحائط معتدلاً، ثم مال إلى دار الغير، فإن طالبه الغير بنقضه وأشهد عليه، فلم ينقضها حتى سقط وقتل إنساناً.. فعليه الضمان) .
وكذلك: إذا مال إلى دار إنسان، فأمره الحاكم بنقضه، وأشهد عليه، وأمكنه نقضه، فلم يفعل حتى سقط على إنسان وقتله.. فعليه الضمان. وإن ذهب ليجيء بالصناع لينقضه، فسقط وأتلف شيئاً.. فلا ضمان عليه، وإن لم يطالب بنقضه ولم يشهد عليه.. فلا ضمان عليه.

(11/462)


دليلنا: أنه بناء وضعه في ملكه، فلم يجب عليه ضمان من يقع عليه، كما لو وقع من غير ميل، أو كما لو مال ووقع من غير أن يطالب بنقضه ويشهد عليه.
فإن وضع على حائطه عدلاً، فوقع في دار غيره أو في الشارع، أو سقط حائطه في الشارع أو في دار غيره، فعثر به إنسان، فمات.. فهل يجب عليه الضمان؟ على الوجهين.

[مسألة أنشأ على الشارع ساباطاً أو شرفة]
إذا أخرج إلى الشارع جناحاً أو روشناً يضر بالمارة.. منع منه، وأمر بإزالته، فإن لم يزله حتى سقط على إنسان، فقتله.. وجب عليه الضمان؛ لأنه متعد بذلك.
وإن أخرج جناحاً أو روشناً إلى الشارع لا يضر بالمارة.. لم يمنع منه، خلافاً لأبي حنيفة، وقد مضى في (الصلح) .
فإن وقع على إنسان، فقتله.. نظرت:
فإن لم يسقط شيء من طرف الخشب المركبة على حائطه، بل انقضت من الطرف الخارج عن الحائط، فوقعت على إنسان فقتلته.. وجب على عاقلته جميع الدية؛ لأنه إنما يجوز له الارتفاق بهواء الشارع بشرط السلامة.
وإن سقط أطراف الخشب الموضوعة على حائط له، وقتلت إنساناً.. وجب على عاقلته نصف الدية؛ لأنه هلك بما وضعه في ملكه وفي هواء الشارع، فانقسم الضمان عليهما، وسقط ما قابل ما في ملكه، ووجب ما في هواء الشارع.

(11/463)


وحكى القاضي أبو الطيب قولاً لآخر: أنه ينظر كم على الحائط من الخشبة، وكم على هواء الشارع منها. وتقسم الدية على ذلك بالقسط. وسواء أصابه الطرف الذي كان موضوعاً على الحائط أو الطرف الخارج منها، فالحكم فيه واحد؛ لأنه تلف بجميعها. والأول هو المشهور.

[فرع إخراج الميزاب إلى الشارع]
وإن أخرج ميزاباً من داره إلى الشارع.. جاز؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مر تحت ميزاب العباس بن عبد المطلب، فقطرت عليه قطرة، فأمر بقلعه، فخرج العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: (قلعت ميزاباً نصبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده؟! فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: والله لا ينصبه إلا من يرقى على ظهري، فانحنى عمر، وصعد العباس على ظهره، فنصبه) . وهو إجماع لا خلاف فيه.
فإن سقط على إنسان فقتله، أو بهيمة فقتلها.. فحكى الشيخ أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: فيه قولين:
[أحدهما] : قال في القديم: (لا يجب ضمانه) . وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه مضطر إلى ذلك، ولا يجد بداً منه، فلم يلزمه ضمان ما تلف به.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يجب ضمانه) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه ارتفق بهواء طريق المسلمين، فإذا تلف به إنسان.. وجب عليه ضمانه، كما قلنا في الجناح. وقول الأول: (لا يجد بداً منه) غير صحيح؛ لأنه يمكنه أن يحفر في بيته بئراً يجري الماء إليها.
فإذا قلنا بهذا: وسقط جميع الميزاب الذي على ملكه والخارج منه، وقتل إنساناً.. وجب ضمانه، وكم يجب من ديته؟ على المشهور من المذهب: يجب نصف ديته.

(11/464)


وعلى القول الذي حكاه القاضي أبو الطيب: تقسط الدية على الميزاب، فيسقط منها بقدر ما على ملكه من الميزاب، ويجب بقدر الخارج منه عن ملكه.
وقال أبو حنيفة: (إن أصابه بالطرف الذي في الهواء.. وجب جميع ديته، وإن أصابه بالطرف الذي على الحائط.. لم يجب ضمانه) .
ودليلنا: أنه تلف بثقل الجميع دون بعضه.
وإن انقصف الميزاب، فسقط منه ما كان خارجاً عن ملكه، وقتل إنساناً.. وجبت جميع ديته على عاقلته، فيقال في هذه وفي التي قبلها: رجل قتل رجلاً بخشبة، فوجب بعض دية المقتول، ولو قتله ببعض تلك الخشبة.. لوجبت جميع دية المقتول.
وقال الشيخ أبو حامد: إذا وقع ميزاب على إنسان، فقتله.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن عليه الضمان.
والثاني: لا ضمان عليه.
والثالث: على عاقلته نصف الدية، من غير تفصيل.

[مسألة اصطدام راكبان أو راجلان]
إذا اصطدم راكبان أو راجلان، فماتا.. وجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر، ويسقط النصف، وبه قال مالك، وزفر.
وقال أبو حنيفة وصاحباه، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى: (تجب على عاقلة كل واحد منهما جميع دية الآخر) . وروي عن علي كرم الله وجهه المذهبان.
دليلنا: أنهما استويا في الاصطدام، وكل واحد منهما مات بفعل نفسه وفعل غيره، فسقط نصف ديته لفعل نفسه، ووجب النصف لفعل غيره، كما لو شارك غيره في قتل نفسه.

(11/465)


قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وسواء غلبتهما دابتاهما أم لم تغلباهما، أو أخطآ ذلك أو تعمدا، أو رجعت دابتاهما القهقرى، فاصطدمتا، أو كان أحدهما راجعاً والآخر مقبلاً) .
وجملة ذلك: أنهما إذا غلبتهما دابتاهما، أو لم تغلباهما إلا أنهما أخطآ.. فعلى عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر مخففة.
وإن قصد الاصطدام.. فلا يكون عمداً محضاً، إنما يكون عمد خطأ، فيكون على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر مغلظة.
وقال أبو إسحاق المروزي: يكون في مال كل واحد منهما نصف دية الآخر مغلظة؛ لأنه عمد محض، وإنما لم يجب القصاص؛ لأنه شارك من فعله غير مضمون.
والأول هو المنصوص؛ لأن الصدمة لا تقتل غالباً، ولو كان كذلك.. لكان في القصاص قولان.
ولا فرق بين أن يكونا مقبلين أو مدبرين، أو أحدهما مقبلاً والآخر مدبراً؛ لأن الاصطدام قد وجد وإن كان فعل المقبل أقوى. وكذلك: لا فرق بين أن يكونا على فرسين أو حمارين أو بغلين، أو أحدهما على فرس والآخر على بغل أو حمار؛ لأن الاصطدام قد وجد منهما وإن كان فعل أحدهما أقوى من فعل الآخر، كما لو جرح رجل رجلاً جراحات، وجرحه الآخر جراحة، ومات منها.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا فرق بين أن يكونا بصيرين أو أعميين، أو أحدهما أعمى والآخر بصيراً؛ لأن الاصطدام قد وجد منهما، ولا فرق بين أن يقعا مكبوبين أو مستلقيين، أو أحدهما مكبوباً والآخر مستلقياً) .
وقال المزني: إذا وقع أحدهما مكبوباً على وجهه والآخر مستلقياً على ظهره.. فإن القاتل هو المكبوب على وجهه، فعلى عاقلته جميع دية المستلقي، ولا شيء على عاقلة المستلقي.
والمنصوص هو الأول؛ لأنهما قد اصطدما، ويجوز أن يقع مستلقياً على ظهره من

(11/466)


شدة صدمته، ألا ترى أن رجلاً إذا طرح حجراً على حجر.. رجع الحجر إلى خلفه من شدة وقوعه وثبوت الآخر؟ فكذلك هذا مثله.
وإن ماتت الدابتان.. وجب على كل واحد منهما نصف قيمة دابة الآخر؛ لأنها تلفت بفعله وفعل صاحبه، ولا تحمله العاقلة؛ لأن العاقلة لا تحمل المال.
وإن كان أحدهما راكباً والآخر ماشياً.. فالحكم فيهما كما لو كانا راكبين أو ماشيين، وإنما يتصور هذا إذا كان الماشي طويلاً والراكب أقصر منه.

[فرع اصطدام صغيرين راكبين وغيرهما]
وإن اصطدم صغيران راكبان.. نظرت:
فإن ركبا بأنفسهما أو أركباهما ولياهما.. فهما كالبالغين؛ لأن للولي أن يركب الصغير ليعلمه.
وإن أركباهما أجنبيان.. فعلى عاقلة كل واحد منهما من المركبين نصف دية كل واحد منهما؛ لأن كل واحد من المركبين هو الجاني على الذي أركبه وعلى الذي جنى عليه.
وإن كان المصطدمان عبدين، وماتا.. فقد تعلق برقبة كل واحد منهما نصف قيمة الآخر، وقد تلف، فسقط ما تعلق برقبته.
وإن مات أحدهما، وبقي الآخر.. تعلق برقبة الذي لم يمت نصف قيمة الآخر.
وإن كان أحدهما حراً والآخر عبداً.. وجبت نصف قيمة العبد في مال الحر في أحد القولين، وعلى عاقلته في الآخر.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وتجب نصف دية الحر في رقبة العبد) . واختلف أصحابنا فيه.
فمنهم من قال: تكون هدراً؛ لأن الرقبة قد فاتت.

(11/467)


ومنهم من قال: تتعلق بنصف دية الحر بنصف قيمة العبد؛ لأنهما قائمة مقام الرقبة، كما لو جنى عبد على رجل جناية، ثم قتل الرجل العبد.
فعلى هذا: إن قلنا: إن نصف قيمة العبد تجب على عاقلة الجاني.. تعلقت بها نصف دية الحر، وإن قلنا: تجب في ماله، قال الشيخ أبو حامد: وتساويا.. صار ذلك قصاصاً.
وإن كان نصف القيمة أكثر.. كان الفضل للسيد، وإن كان نصف الدية أكثر.. كانت الزيادة هدراً.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أنه لا يقع قصاصا؛ لأن قيمة العبد تجب من نقد البلد، والدية وإنما تجب من الإبل، إلا إذا أعوزت.. فيصح ذلك.

[فرع اصطدام امرأتين حاملتين]
وإن اصطدمت امرأتان حاملان، فماتتا، ومات جنيناهما.. وجب على عاقلة كل واحدة منهما نصف دية الأخرى. وكذلك: يجب على عاقلة كل واحدة منهما نصف دية جنينها، ونصف دية جنين الأخرى؛ لأن كل واحدة منهما قتلت جنينها وجنين الأخرى.
وإن خرج جنين إحداهما منها قبل موتها.. لم ترث من ديته؛ لأنها قاتلة له، ويجب على كل واحدة منهما أربع كفارات؛ لأن كل واحدة منهما قاتلة لنفسها ولجنينها، وقاتلة للأخرى وجنينها، فوجب عليها أربع كفارات.
وإن كان المصطدمتان أمي ولد لرجلين.. فعلى سيد كل واحدة منهما نصف قيمة الأخرى، ويهدر النصف، وإن كانتا حاملين من سيديهما، فسقط الولدان ميتين.. وجب على كل واحد من السيدين نصف الغرة للآخر.

(11/468)


وإن لم يكن للجنين وارث سوى السيدين.. تقاصا في الغرة، وإن كان لهما وارث سواهما - ولا يتصور إلا أم أم - فلا يهدر في حقها، وإنما ورثت الجدة هاهنا مع وجود الأم؛ لأنها مملوكة.
قال الطبري في " العدة ": وإن جر رجلان رجلاً، فانقطع الحبل وسقطا.. فهما كالمصطدمين.

[مسألة اصطدما وأحدهما واقف]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن كان أحدهما واقفاً، فصدمه الآخر، فماتا.. فدية الصادم هدر، ودية صاحبه على عاقلة الصادم) .
وجملة ذلك: أن الرجل إذا كان واقفاً في موضع، فصدمه آخر، فماتا.. نظرت: فإن دية المصدوم - وهو: الواقف - تجب على عاقلة الصادم؛ لأنه مات بفعله، وتهدر دية الصادم؛ لأن الواقف غير مفرط بالوقوف في موضعه، وسواء كان الواقف قائماً، أو قاعداً، أو مضجعا، أو نائماً، وسواء كان بصيراً أو أعمى يمكنه أن يحترز، فلم يفعل، أو لا يمكنه؛ لأن فعل الصادم مضمون. وإن أمكن المصدوم الاحتراز منه، كما لو طلب رجلاً ليقتله، وأمكن المطلوب الاحتراز منه، فلم يفعل حتى قتله، فإن انحرف الواقف، فوافق انحرافه صدمة الصادم، فماتا.. فقد مات كل واحد منهما بفعله وفعل صاحبه، فيكونان كالمتصادمين، فيجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر، ويهدر النصف، ولو صدمه بعدما استقر انحرافه.. كان كما لو لم ينحرف.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن انحرف مولياً، فمات.. فعلى عاقلة الصادم ديته كاملة) .
وصورته: أن يكون وجه الواقف إلى المقبل، فلما رآه.. انحرف مولياً ليتنحى عن طريقه، فأصابه، فمات.. فجميع ديته على عاقلة الصادم؛ لأنه لا فعل له في قتل نفسه، ودية الصادم هدر.

(11/469)


وأما إذا كان واقفاً في طريق ضيق للمسلمين.. فعلى عاقلة كل واحد منهما جميع دية الآخر؛ أما الصادم: فلأنه قاتل، وأما المصدوم: فلأنه كان السبب في قتل الصادم، وهو وقوفه في الطريق الضيق؛ لأنه ليس له الوقوف هناك.
والفرق بين هذا وبين المتصادمين: أن كل واحد من المتصادمين مات بفعله وفعل صاحبه، وهاهنا كل واحد منهما قاتل لصاحبه منفرد بقتله؛ لأن الصادم انفرد بالإصابة، والمصدوم انفرد بالسبب الذي مات به الصادم.
ومن أصحابنا من قال: ليس على عاقلة المصدوم شيء بحال. والأول أصح. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذا كان الرجل واقفاً في الطريق، فصدمه آخر، فماتا: (أن دية الصادم هدر، ودية المصدوم - وهو: الواقف - على عاقلة الصادم) . وقال فيمن نام في الطريق، فصدمه آخر، فماتا: (إن دية النائم هدر، ودية الصادم على عاقلة النائم) .
فمن أصحابنا من جعل المسألتين على قولين، ومنهم من أجراهما على ظاهرهما، وفرق بينهما بأن الإنسان قد يقف في الطريق ليجيب داعياً وما أشبهه، فأما النوم والقعود: فليس له ذلك.

[مسألة اصطدام باخرتين ونحوهما]
وإذا اصطدمت سفينتان، فانكسرتا، وتلف ما فيهما.. فلا يخلو القيمان فيهما: إما أن يكونا مفرطين في الاصطدام، أو غير مفرطين، أو أحدهما مفرطاً والآخر غير مفرط.
فإن كانا مفرطين، بأن أمكنهما ضبطهما والانحراف، فلم يفعلا.. فقد صارا

(11/470)


جانيين، فإن كانت السفينتان وما فيهما لهما.. وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينة صاحبه، ونصف قيمة ما فيها، ويسقط النصف؛ لأن سفينة كل واحد منهما تلفت بفعله وفعل صاحبه، فسقط ما قابل فعله، ووجب ما قابل فعل صاحبه، كالفارسين إذا تصادما وماتا. وإن كانت السفينتان وما فيهما لغيرهما.. وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينته، ونصف قيمة ما فيها، ونصف قيمة سفينة صاحبه، ونصف قيمة ما فيها؛ لأن كل واحدة منهما تلفت بفعلهما، وسواء كانت السفينتان وديعة أو عارية أو بأجرة، وسواء كان المال فيهما وديعة أو قراضاً أو يحمل بأجرة؛ لأن الجميع يضمن بالتفريط.
وإن كان فيهما أحرار، وماتوا، وقصدا الاصطدام، وقال أهل الخبرة: إن مثل ما قصدا إليه وفعلاه يقتل غالباً.. فإنها جناية عمد محض، فقد وجب عليهما القود لجماعة في حالة واحدة، فيقرع بين أولياء المقتولين، فإذا خرجت عليهما القرعة لواحد.. قتلا بواحد، ووجب للباقين الدية في أموالهما. وإن قالوا: لا يقتل مثله غالباً، أو لم يقصدا الاصطدام، وإنما فرطا.. وجب على عاقلة كل واحد منهما نصف ديات ركاب السفينتين.
وإن كان فيهما عبيد.. وجبت قيمتهم عليهما.
وأما إذا لم يفرط القيمان: مثل: أن اشتدت الريح، واضطربت الأمواج، فلم يمكنهما إمساكهما لطرح الأنجر، ولا بأن يعدل إحداهما عن سمت الأخرى حتى اصطدمتا وهلكتا.. ففيه قولان:
أحدهما: أن عليهما الضمان؛ لأنهما في أيديهما، فما تولد من ذلك.. كان عليهما ضمانه، وإن لم يفرطا.. كانا كالفارسين إذا تصادما، وغلبهما الفرسان. ولأن كل من ابتدأ الفعل منه.. فإنه يضمن ذلك الفعل إذا صار جناية وإن كان بمعونة غيره، كما لو رمى سهماً إلى غرض، فحمل الريح السهم إلى إنسان، وقتله.

(11/471)


والثاني: لا ضمان عليهما؛ لأنه لا فعل لهما، ابتداء ولا انتهاء، وإنما ذلك بفعل الريح، فهو كما لو نزلت صاعقة، فأحرقت السفينتين.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا لم يكن للقيم فعل، لا ابتداء ولا انتهاء، وهو في المراكب التي ينصب القيم الشراع، ويمد الحبال، ويقيمه نحو الريح، حتى إذا هبت الريح.. دفعه، فأما السفن الصغار التي تدفع بالمجذاف: فإنه يجب الضمان، قولا واحداً؛ لأن ابتداء الفعل منهما.
ومنهم من قال: القولان إذا لم يكن منهما فعل، بأن كانتا واقفتين، أو لم يسيراهما، فجاءت الريح، فغلبتهما، فأما إذا سيرا، فغلبتهما الريح.. فيجب الضمان، قولاً واحداً. ولم يفرق بين السفن التي تسير بنصب الشراع ومد الحبال، وبين السفن الصغار التي تسير بالمجذاف.
ومنهم من قال: القولان في الجميع، سواء كانتا واقفتين، أو سيراهما، وسواء كانتا تسيران بنصب الشراع أو بالمجذاف؛ لأن الفارس يمكنه ضبط الفرس باللجام، والسفينة لا يمكنه أن يسيرها سيراً لا تغلبه الريح عليها.
فإذا قلنا: يجب عليهما الضمان.. فالحكم فيهما هاهنا كالحكم إذا فرطا، إلا في القصاص، فإنه لا يجب هاهنا، وإنما تجب لركاب السفينة دية مخففة على عاقلتهما نصفان.
وإن قلنا: لا يجب الضمان، فإن كانت السفينتان وما فيهما لهما.. فلا يجب عليهما الضمان. وكذلك: إذا كانت السفينتان معهما وديعة، والمال الذي فيهما قراضاً معهما.. لم يجب عليهما الضمان؛ لأنهما لم يفرطا.
وإن استأجرا السفينتين، والمال الذي فيهما حملاه بأجرة.. فلا ضمان عليهما في

(11/472)


السفينتين، وأما المال، فإن كان رب المال معه.. لم يضمنه الأجير؛ لأن يد صاحبه عليه، وإن لم يكن رب المال معه.. فعلى قولين؛ لأنه أجير مشترك. وكذلك: إن كان قد استؤجر على القيام بالسفينتين وما فيهما.. فهما أجيران مشتركان. فإن كان رب السفينة والمال معه.. فلا ضمان، وإن لم يكن معه.. فعلى القولين.
وإن كان أحدهما مفرطاً والآخر غير مفرط.. قال الشيخ أبو حامد: فإن المفرط جان، والآخر غير جان.
فإن كانت السفينتان وما فيهما لهما.. كان على المفرط قيمة سفينة صاحبه وما فيها؛ لأنها تلفت بفعله، وأما سفينته وما فيها: فلا يرجع به على أحد؛ لأنهما هلكتا بفعله.
وإن كانتا وما فيهما لغيرهما.. فإن على المفرط قيمة سفينته وقيمة ما فيها، وعليه قيمة سفينة صاحبه وقيمة ما فيها، ولصاحب السفينة التي لم يفرط قيمها أن يطالب المفرط بذلك.
وإن أراد أن يطالب القيم الذي لم يفرط، فإن قلنا: إن القيم يضمن وإن لم يفرط.. فهاهنا له أن يضمنه، ثم يرجع الذي لم يفرط بما غرمه على المفرط.
وإن قلنا: إن القيم لا يضمن إذا لم يفرط، فإن كانت السفينة التي معه وديعة، أو المال معه قراضاً.. فلا ضمان عليه، وإن كان ذلك بيده استؤجر على حمله.. فهو أجير مشترك.
وإن لم يكن صاحبه معه، فإن قلنا: لا يضمن.. لم يكن له مطالبته، وإن قلنا: يضمن.. فله مطالبته، ثم يرجع هو بما غرمه على المفرط.
فإن انكسرت إحداهما دون الأخرى.. فالحكم في المنكسرة كما إذا انكسرتا.

(11/473)


[فرع صدمت سفينة من غير تعمد]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإذا صدمت سفينة من غير أن يتعمد بها الصدم.. لم يضمن شيئاً مما في سفينته بحال) . واختلف أصحابنا في صورتها:
فمنهم من قال: صورتها: أن يكون القيم قد عدل سفينته إلى الشط، وربطها، وطرح الأنجر، فجاءت سفينة أخرى فصدمتها، فتلفت وما فيها، فلا ضمان عليه؛ لأنه لا فعل له يلزمه به الضمان.
وهذا القائل يقول قول الشافعي: (صدمت سفينة) إنما هو بضم الصاد: فعل ما لم يسم فاعله.
ومنهم من قال: صورتها: إذا لم يكن منه تفريط. وأجاب بأحد القولين، وهو الأصح؛ لأنه قال: صدمت سفينة من غير أن يتعمد بها الصدم، ولا يقال ذلك للمصدوم، وإنما يقال مثله للصادم.

[مسألة ثقلت السفينة فألقوا المتاع]
إذا كان قوم في سفينة وفيها متاع، فثقلت السفينة من المتاع، ونزلت في الماء، وخافوا الغرق، فإن ألقى بعضهم متاعه في البحر في الماء لتخف السفينة ويسلموا.. لم يرجع به على أحد؛ لأنه أتلف ماله باختياره من غير أن يضمن له غيره عوضاً، فهو كما لو أعتق عبده.
وإن طرح مالاً لغيره بغير إذنه لتخف السفينة.. وجب عليه ضمانه؛ لأنه أتلف مال غيره بغير إذنه، فوجب عليه ضمانه كما لو حرق ثوبه.
وإن قال لغيره: ألق متاعك في البحر، ولم يضمن له عوضاً، فألقاه.. فقد قال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يجب على الذي أمره بالإلقاء ضمانه؟ فيه وجهان،

(11/474)


كما قلنا فيه إذا قال لغيره: اقض عني ديني، ولم يضمن له عوضاً.
وقال سائر أصحابنا: لا يلزمه ضمانه، وهو المنصوص؛ لأنه لم يضمن له بدله، فلم يلزمه، كما لو قال: أعتق عبدك، فأعتقه.
والفرق بينه وبين قضاء الدين: أن قضاء الدين يتحقق نفعه للطالب؛ لأن ذمته تبرأ بالقضاء، وهاهنا لا يتحقق النفع بذلك، بل يجوز أن يسلموا، ويجوز أن لا يسلموا.
وإن قال له: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، أو على أني أضمن لك قيمته، فألقاه.. وجب على الطالب ضمانه، وهو قول الفقهاء كافة، إلا أبا ثور، فإنه قال (لا يلزمه؛ لأنه ضمان ما لم يجب) . وهذا خطأ؛ لأنه استدعاء إتلاف بعوض لغرض صحيح، فصح، كما لو قال: أعتق عبدك وعلي قيمته، أو طلق امرأتك وعلي ألف.

[فرع طلب إلقاء المتاع في البحر وعلى الركاب ضمانه]
وإن قال لغيره: ألق متاعك في البحر وعلي وعلى ركاب السفينه ضمانه، فألقاه.. وجب على الطالب حصته، فإن كانوا عشرة.. لزمه ضمان عشره.
وإن قال: ألق متاعك على أن أضمنه وكل واحد من ركاب السفينة، فألقاه. وجب على الطالب ضمان جميعه؛ لأنه شرط أن يكون كل واحد منهم ضامناً له.
وإن قال: ألق متاعك وعلي وعلى ركاب السفينة ضمانه وقد أذنوا لي في ذلك؛ فإن صدقوه.. لزم كل واحد منهم بحصته، وإن أنكروا.. حلفوا، ولزم الطالب ضمان جميعه.
وإن قال: ألق متاعك وعلي وعلى ركاب السفينة ضمانه، وعلي تحصيله منهم، فألقاه.. وجب على الطالب ضمان جميعه.

(11/475)


وإن قال صاحب المتاع للآخر: ألق متاعي وعليك ضمانه، فقال: نعم، فألقاه.. وجب عليه ضمانه؛ لأن ذلك بمنزلة الاستدعاء منه.
وإن قال له: ألق متاعك وعلي نصف قيمته، وعلى فلان ثلثه، وعلى فلان سدسه، فألقاه، فإن صدقه الآخران أنهما أذنا للطالب في ذلك.. لزمه نصف قيمته، ولزم الآخرين النصف، وإن أنكر الآخران.. حلفا، ووجب الجميع على الطالب، فإن قال الطالب: ألقي أنا متاعك وعلي ضمانه، فقال صاحب المتاع: نعم، فألقاه.. لم يكن مأثوماً، ووجب عليه ضمانه، فإن قال الطالب: ألقي أنا متاعك وعلي وعلى ركاب السفينة ضمانه، فقال صاحب المتاع: نعم، فألقاه الطالب.. فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزم الملقي إلا بحصته؛ لأنه قدر ما ضمن.
والثاني: يلزمه الجميع؛ لأنه باشر الإتلاف.
وإن قال لغيره: ألق متاع فلان وأنا ضامن لك لو طالبك.. لم يصح هذا الضمان، ويلزم الضمان على الملقي؛ لأنه هو المباشر.

[فرع خرق السفينة فغرقت]
وإن خرق رجل السفينة، فغرق ما فيها، فإن كان مالاً.. لزمه ضمانه، سواء خرقها عمداً أو خطأ؛ لأن المال يضمن بالعمد والخطأ.
وإن كان فيها أحرار فغرقوا وماتوا، فإن كان عامداً، مثل: أن يقلع منها لوحاً يغرق مثلها من قلعه في الغالب.. وجب عليه القود بهم، فيقتل بأحدهم، وتجب للباقين الدية في ماله.
وإن كان مخطئاً، بأن سقط من يده حجر أو فأس، فخرق موضعاً فيها، فغرقوا.. كان على عاقلته دياتهم مخففة.
وإن كان عمد خطأ، مثل: أن كان فيها ثقب، فأراد إصلاحه، فانخرق عليه.. كان على عاقلته دياتهم مغلظة.

(11/476)


[مسألة رموا بالمنجنيق ونحوه]
إذا رمى عشرة أنفس حجراً بالمنجنيق، فأصابوا رجلاً من غيرهم، فقتلوه.. فقد اشتركوا في قتله، فإن لم يقصدوا بالرمي أحداً.. وجبت ديته مخففة، على عاقلة كل واحد منهم عشرها، وإن كانوا قصدوه بالرمي، فأصابوه.. لم يكن عمداً محضاً؛ لأنه لا يمكن قصد رجل بعينه بالمنجنيق، وإنما يتفق وقوعه ممن وقع به، فتجب ديته مغلظة، على عاقلة كل واحد منهم عشرها.
وإن رجع المنجنيق على أحدهم، فقتله.. سقط من ديته العشر، ووجب على عاقلة كل واحد من التسعة عشر ديته؛ لأنه مات بفعله وفعلهم، فهدر ما يقابل فعله، ووجب ما يقابل فعلهم، وإنما تجب الدية على من مد منهم الحبال ورمى بالحجر، فأما من أمسك خشب المنجنيق إن احتاج إلى ذلك، ووضع الحجر في الكفة، ثم تنحى.. فلا شيء عليه؛ لأنه صاحب سبب، والمباشر غيره، فتعلق الحكم بالمباشر.

[مسألة وقع في بئر أو حفرة ثم وقع آخر فوقه]
إذا وقع رجل في بئر أو زبية، فوقع عليه آخر، فمات الأول.. وجب ضمان الأول على الثاني؛ لما روي: (أن بصيراً كان يقود أعمى، فوقعا في بئر، ووقع الأعمى فوق البصير، فقضى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه بعقل البصير على الأعمى) ؛ لأنه انفرد بالوقوع عليه، ثم ينظر فيه:

(11/477)


فإن كان الثاني رمى بنفسه عليه عمداً، وكان وقوعه عليه يقتله في الغالب.. وجب على الثاني القود، وإن رمى بنفسه عليه، وكان وقوعه عليه لا يقتله غالباً.. وجبت فيه دية مغلظة على عاقلة الثاني.
وإن وقع عليه مخطئاً.. وجبت على عاقلته دية مخففة، وتهدر دية الثاني بكل حال؛ لأنه لم يمت بفعل أحد.
وإن وقع الأول، ووقع عليه ثان، ووقع فوقهما ثالث، وماتوا.. قال ابن الصباغ: فقد ذكر الشيخ أبو حامد: أن ضمان الأول على الثاني والثالث؛ لأنه مات بوقوعهما عليه، وضمان الثاني على الثالث؛ لأنه انفرد بالوقوع عليه، ويهدر دم الثالث؛ لأنه لم يمت بفعل أحد.
وذكر القاضي أبو الطيب: أن الثالث يضمن نصف دية الثاني، ويهدر النصف؛ لأن الثاني تلف بوقوعه على الأول وبوقوع الثالث عليه.
قال ابن الصباغ: وهذا أقيس؛ لأن وقوعه على غيره سبب في تلفه، كوقوع غيره عليه.
قال ابن الصباغ: فعلى قياس هذا: إذا وقع على الأول ثان، وماتا.. أن تهدر نصف دية الأول؛ لأنه مات بوقوعه وبوقوع الثاني عليه.
وإن وقع رجل في بئر، وجذب ثانياً، وماتا.. هدرت دية الأول؛ لأنه مات بجذبه الثاني على نفسه، ووجبت دية الثاني على الأول؛ لأنه مات بجذبه.
وإن جذب الأول ثانياً، وجذب الثاني ثالثاً، وماتوا.. فقد مات الأول بفعله، وهو: جذبه للثاني على نفسه، وبفعل الثاني؛ وهو: جذب الثالث، فسقط نصف دية

(11/478)


الأول، ويجب نصفها على الثاني، ويجب للثاني نصف ديته على الأول، ويسقط نصفها؛ لأنه مات بجذب الأول له وبجذبه للثالث على نفسه، ويجب للثالث جميع ديته؛ لأنه لا صنع له في قتل نفسه. وعلى من تجب؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجب على الثاني؛ لأنه جذبه.
والثاني: تجب على الأول والثاني نصفين؛ لأن الأول جذب الثاني، والثاني جذب الثالث، فكأن الثالث مات بجذبهما.
فإن كانت بحالها، وجذب الثالث رابعاً، وماتوا.. فقد حصل هاهنا ثلاث جذبات:
فأما الأول: فقد مات بفعله وفعل الثاني وفعل الثالث، فسقط ثلث الدية، لأنه جذب الثاني على نفسه، وتجب على الثاني ثلث الدية لجذبه الثالث عليه، وعلى الثالث ثلث الدية لجذبه الرابع عليه.
وأما الثاني: فقد مات بفعله وفعل الأول وفعل الثالث، فيجب له على الأول ثلث الدية وعلى الثالث ثلث الدية، ويسقط الثلث.
وأما الثالث: ففيه وجهان:
أحدهما: يسقط من ديته النصف، ويجب له على الثاني النصف؛ لأنه مات بفعله، وهو: جذبه الرابع، فسقط النصف لذلك، وبفعل الثاني، وهو: جذبه له.
والثاني: يسقط من ديته الثلث؛ لأنه مات بثلاثة أفعال، بجذبه للرابع، وبجذب الثاني له، وبجذب الأول للثاني، فيجب له على الأول ثلث الدية، وعلى الثاني ثلثا الدية.
وأما الرابع: فيجب له جميع الدية؛ لأنه لا صنع له في قتل نفسه.. وعلى من تجب؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجب على الثالث؛ لأنه هو الذي جذبه.

(11/479)


والثاني: تجب على الأول والثاني والثالث أثلاثاً؛ لأن وقوعه حصل بالجذبات.
فإن قيل: فقد روى سماك بن حرب، «عن حنش بن المعتمر الصنعاني: أن قوماً باليمن حفروا زبية ليصطادوا بها الأسد، فوقع فيها الأسد، فاجتمع الناس على رأسها يبصرونه، فتردى رجل فيها فتعلق بثان، وتعلق الثاني بثالث، وتعلق الثالث برابع، فوقعوا فيها، فقتلهم الأسد، فرفع ذلك إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فقضى للأول بربع الدية؛ لأن فوقه ثلاثة، وقضى للثاني بثلث الدية؛ لأن فوقه اثنين، وللثالث بنصف الدية؛ لأن فوقه واحداً، وللرابع بكمال الدية. فرفع ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: هو كما قضى»
قال أصحابنا: هذا حديث لا يثبته أهل النقل؛ لأن حنش بن المعتمر ضعيف، والفقه ما قدمناه

[فرع حفر بئراً من غير حق]
وإن حفر رجل بئراً في موضع ليس له الحفر فيه، فتردى فيها رجل وجذب آخر فوقه، وماتا.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما: يجب للأول على الحافر نصف الدية، ويهدر النصف؛ لأنه مات بسببين: حفر البئر وجذبه للثاني على نفسه، فانقسمت الدية عليهما، وسقط ما قابل فعله.
والثاني: حكاه القاضي أبو الطيب عن أبي عبد الله الجويني -: أنه لا يجب له شيء على الحافر؛ لأن جذبه للثاني على نفسه مباشرة، والحفر سبب، وحكم السبب يسقط بالمباشرة.
قال الطبري: والأول أصح؛ لأن الجذب سبب أيضاً؛ لأنه لم يقصد به إلقاءه على نفسه، وإنما قصد به التحرز من الوقوع، فلم يكن أحدهما بأولى من الآخر.
وبالله التوفيق

(11/480)


[باب الديات]
دية الحر المسلم مائة من الإبل؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب في الكتاب الذي كتبه لعمرو بن حزم: «وفي النفس مائة من الإبل» . وهو إجماع.
فإن كانت الدية في العمد المحض، أو في شبه العمد.. وجبت دية مغلظة، وهي: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة - و (الخلفة) : الحامل - وبه قال عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، والمغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، وعطاء، ومحمد بن الحسن.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (تجب أرباعاً، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة) .
وقال أبو ثور: (دية شبه العمد مخففة، كدية الخطأ) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم فتح مكة: «ألا إن في قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون خلفة، في بطونها أولادها» .
وروى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا إن في الدية العظمى مائة من الإبل، منها أربعون خلفة، في بطونها أولادها» .

(11/481)


وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (دية شبه العمد ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة) .
فإن قيل: فما معنى قوله: «منها أربعون خلفة في بطونها أولادها» وقد علم أن الخلفة لا تكون إلا حاملاً؟ قلنا: له تأويلان:
أحدهما: أنه أراد التأكيد في الكلام، وذلك جائز، كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] (البقرة: 196) .
والثاني: أن الخلفة اسم للحامل التي لم تضع، واسم للتي وضعت ويتبعها ولدها، فأراد أن يميز بينهما.
إذا ثبت هذا: فهل تختص الخلفة بسن أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تختص بسن، بل إذا كانت حاملاً.. فبأي سن كانت جاز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «منها أربعون خلفة في بطونها أولادها» . ولم يفرق.
والثاني: تختص بسن، وهو: أن تكون ثنية فما فوقها؛ لما روى عقبة بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «ألا إن في قتيل شبه العمد بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون خلفة، في بطونها أولادها، ما بين الثنية إلى بازل عامها» . ومراسيل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حجة؛ لأنهم أتقياء لا يتهمون.

(11/482)


وروي عن عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أنهما قالا: (ألا إن في قتيل شبه العمد مائة من الإبل، منها أربعون خلفة، في بطونها أولادها، ما بين الثنية إلى بازل عامها) . ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
ولأنه أحد أنواع إبل الدية، فاختص بسن، كالحقاق والجذاع.

[مسألة دية جناية الخطأ]
وإن كانت الجناية خطأ، ولم يكن القتل في الحرم ولا في الأشهر الحرم، ولكن المقتول ذو رحم محرم للقاتل.. فإن الدية تكون مخففة أخماساً، وهي: مائة من الإبل: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وبه قال من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ومن التابعين: عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسار، والزهري رحمة الله عليهم، ومن الفقهاء: مالك، وربيعة، والليث، والثوري - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (هي أخماس، إلا أنه يجب مكان بني لبون عشرون ابن مخاض) .
وروي عن عثمان، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أنهما قالا: (تجب من أربعة أنواع: ثلاثون جذعة، وثلاثون حقة، وعشرون بنت لبون وعشرون بنت مخاض) .

(11/483)


وقال الشعبي، والحسن البصري: تجب أرباعاً: خمساً وعشرين جذعة، وخمساً وعشرين حقة، وخمساً وعشرين بنت لبون، وخمساً وعشرين بنت مخاض. وروي مثل ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.
دليلنا: ما روى مجاهد، عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بدية الخطأ مائة من الإبل: عشرين حقة، وعشرين جذعة، وعشرين بنت لبون، وعشرين ابن لبون، وعشرين بنت مخاض» . وقد روي ذلك موقوفاً على ابن مسعود.
وروي عن سليمان بن يسار: أنهم كانوا يقولون: دية الخطأ، مائة من الإبل: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة.
وإن كان قتل الخطأ في الحرم، أو في الأشهر الحرم - وهي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم - أو كان المقتول ذا رحم محرم للقاتل.. كانت دية الخطأ مغلظة كدية العمد، فتجب ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وبه

(11/484)


قال عمر، وعثمان، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ومن التابعين: ابن المسيب، وابن جبير، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وسليمان بن يسار، وجابر بن زيد، والزهري، وقتادة رحمة الله عليهم، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وروي عن طائفة: أنها قالت: لا تتغلظ بحال. وبه قال الشعبي، والنخعي، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، وأبو حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
دليلنا: أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - غلظوا دية الخطأ في هذه المواضع الثلاثة. فروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (من قتل في الحرم، أو في الشهر الحرام، أو ذا رحم محرم.. فعليه دية وثلث) .
وروي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (أن امرأة وطئت في الطواف، فماتت، فقضى أن ديتها ستة آلاف، وألفا درهم للحرم) .
وروى ابن جبير: أن رجلاً قتل رجلاً في البلد الحرام في الشهر الحرام، فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (ديته اثنا عشر ألف درهم، وأربعة آلاف تغليظاً للشهر الحرام، وأربعة آلاف للبلد الحرام، فكلها عشرون ألفاً) . ولا مخالف لهم في

(11/485)


الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.
وإن قتل خطأ في حرم المدينة.. فهل تغلظ الدية؟ فيه وجهان:
أحدهما: تتغلظ؛ لأنه كالحرم في تحريم الصيد، فكان كالحرم في تغليظ دية الخطأ فيه.
والثاني: لا تغلظ، وهو الأصح؛ لأنه دون الحرم في الحرمة؛ بدليل: أنه يجوز قصده بغير إحرام، فلم يلحق به في الحرمة في تغليظ الدية.
وإن قتل محرماً خطأ.. فهل تغلظ ديته؟ فيه وجهان:
أحدهما: تغلظ، كما تغلظ في القتل في الحرم، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الإحرام يتعلق به ضمان الصيد، فغلظت به الدية، كالحرم.
والثاني: لا تغلظ به؛ لأن الشرع ورد بتغليظ القتل في الحرم دون الإحرام، بدليل: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعتى الناس على الله ثلاثة: رجل قتل في الحرم، ورجل قتل غير قاتله، ورجل قتل بذحل الجاهلية» والإحرام لا يلحق الحرم في الحرمة.
إذا ثبت هذا: فإن تغليظ دية الخطأ عندنا بالحرم أو في الأشهر الحرم، أو إذا قتل ذا رحم محرم إنما هو بأسنان الإبل، كما قلنا في دية العمد، ولا يجمع بين تغليظين.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تغلظ بثلث الدية، ويجمع ما بين تغليظين) ؛ لما رويناه عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
ودليلنا على أنه لا تغلظ إلا بالأسنان: أن من أوجب التغليظ في دية القتل.. أوجبه بالأسنان، كدية العمد.
ودليلنا على أنه لا يجمع بين تغليظين: أن من أوجب التغليظ.. أوجبه في الضمان

(11/486)


إذا اجتمع سببان يقتضيان التغليظ لم يجمع بينهما، كما لو قتل المحرم صيداً في الحرم.. فإنه لا يجب عليه إلا جزاء واحد.
وأما ما روي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قضوا بالدية وثلث الدية في ذلك، وجمعوا بين تغليظين.. فمحمول على أنهم قضوا بدية مغلظة بالأسنان، إلا أنها قومت، فبلغت قيمتها دية وثلثاً من دية مخففة، أو كانت الإبل قد أعوزت، فأوجبوا قيمة الإبل، فبلغت قيمتها ذلك.

[فرع قتل الصغير والمجنون عمداً]
ً] : وإن قتل الصبي أو المجنون عمداً، فإن قلنا: إن عمدهما عمد.. وجب بقتلهما دية مغلظة، وإن قلنا: عمدهما خطأ.. وجب بقتلهما دية مخففة.
وإن كانت الجناية على ما دون النفس.. كان الحكم في التغليظ بديتها حكم دية النفس، قياساً على دية النفس.

[مسألة يؤخذ من العاقلة من إبلهم]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أكلف أحداً من العاقلة غير إبله، ولا نقبل منه دونها) .
وجملة ذلك: أنه قد مضى الكلام في قدر الدية وجنسها وأسنانها.
وأما نوعها: فإن كان للعاقلة إبل.. وجب عليهم من النوع الذي معهم من الإبل؛ لأن العاقلة تحمل الدية على طريق المواساة، فكان الواجب من النوع الذي يملكونه، كما قلنا في الزكاة.
فإن طلب الولي أغلى مما مع العاقلة من النوع، وامتنعت العاقلة، أو طلبت العاقلة أن يدفعوا من نوع دون النوع الذي معها، وامتنع الولي.. لم يجبر الممتنع منهما، كما قلنا في الزكاة.
فإن كان عند بعض العاقلة من البخاتي، وعند البعض من العراب.. أخذ من كل

(11/487)


واحد من النوع الذي عنده، كما قلنا في الزكاة: أنه يجب على كل إنسان مما عنده من النوع.
وإن كان في ملك واحد منهم نوعان من الإبل.. ففيه وجهان:
أحدهما: يؤخذ منه من النوع الأكثر، فإن استويا.. دفع من أيهما شاء.
والثاني: يؤخذ من كل نوع بقسطه، بناء على القولين في الزكاة إذا كان عنده نوعان من جنس من الماشية.
وإن كانت إبلهم أو إبل بعضهم مراضاً بجرب أو غيره، أو مهزولة هزالاً فاحشاً.. لم يجبر الولي على قبولها، بل يكلف أن يسلم إبلا صحاحاً من النوع الذي عنده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في النفس مائة من الإبل» . وإطلاق هذا يقتضي الصحيح.
فإن قيل: هلا قلتم: يجبر الولي على قبول ما عند من عليه الدية وإن كانت مراضاً، كما قلنا في الزكاة؟
قلنا: الفرق بينهما: أن الواجب في الزكاة هو واجب في عين المال الذي عنده أو في ذمته والمال مرتهن به؛ فلذلك وجب مما عنده، وليس كذلك هاهنا، فإن الواجب على كل واحد منهم هو من النقد في الذمة والمال غير مرتهن به، وإنما الإبل عوض منه، فلم نقبل منه إلا السليم.
فإن لم يكن للعاقلة إبل، فإن كان في البلد نتاج غالب.. وجب عليهم التسليم من ذلك النتاج، وإن لم يكن في البلد إبل.. وجب من غالب نتاج أقرب البلاد إليهم، كما قلنا في زكاة الفطر.

[فرع دفع العوض بدل الإبل مع وجودها]
فإن أرادت العاقلة أن تدفع عوضاً عن الإبل مع وجودها.. لم يجبر الولي على قبولها.
وكذلك: إن طالب من له الدية عوض الإبل.. لم تجبر العاقلة على دفعه؛ لأن ما ضمن لحق الآدمي ببدل.. لم يجبر على غيره، كذوات الأمثال.

(11/488)


فإن تراضيا على ذلك.. قال أصحابنا: جاز ذلك؛ لأنه حق مستقر، فجاز أخذ البدل عنه، كبدل المتلفات. والذي يقتضي المذهب: أن هذا إنما يجوز على القول الذي يقول: يجوز الصلح على إبل الدية وبيعها في الذمة.

[فرع وجوب الدية على الجاني يثبت أخذ ما عنده]
وإن كانت الدية تجب على الجاني، بأن كانت الجناية عمداً، أو خطأ ثبت بإقراره.. فإن الواجب عليه من النوع الذي عنده، قياساً على العاقلة.
والحكم فيه إذا كان عنده نوعان أو كانت إبله مراضاً في أخذ العوض عنها.. حكم الإبل إذا كانت واجبة على العاقلة، على ما مضى.

[مسألة فقدان الإبل في مكان وجوب الدية]
وإن أعوزت الإبل، فلم توجد في تلك الناحية، أو وجدت بأكثر من قيمتها.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يعدل إلى بدل مقدر، فتجب على أهل الذهب ألف مثقال، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم) . وبه قال مالك رحمة الله عليه؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الدية بألف دينار، أو اثني عشر ألف درهم» .
وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن رجلا قتل رجلا، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ديته اثني عشر ألف درهم» .

(11/489)


وروي: (أن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قتلت جاناً في بيتها - وهي: الحية الصغيرة - فقيل لها في منامها: قتلت رجلاً مسلماً جاء يستمع القرآن؟ فقالت: لو كان مسلماً.. ما دخل على أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقيل لها: دخل عليك وأنت في ثيابك، فأخبرت بذلك أباها، فقال لها: تصدقي دية مسلم، اثني عشر ألف درهم) .
وروي: عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (لأن أقعد بعد العصر فأذكر الله إلى أن تغيب الشمس أحب إلي من أن أعتق رقبة من ولد إسماعيل ديتها اثنا عشر ألف درهم) .
فعلى هذا: تكون الدية ثلاثة أصول عند إعواز الإبل.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تجب قيمة الإبل من نقد البلد، بالغة ما بلغت) ؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أنه قال: «كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانمائة دينار - وروي: ثمانية آلاف درهم - فكانت كذلك إلى أن

(11/490)


استخلف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فغلت الإبل، فصعد المنبر خطيباً، وقال ألا إن الإبل قد غلت، ففرض الدية: على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم»
فموضع الدليل من الخبر: أنه قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذا وكذا، فدل على: أن الواجب هو الإبل.
ولأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قال: (ألا إن الإبل قد غلت) ، وفرض عليهم ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم، فتعلق بغلاء الإبل، فدل على: أن ذلك من طريق القيمة؛ لأن ما وجبت قيمته اختلف بالزيادة والنقصان، ولم يخالفه أحد من الصحابة.
وما روي من الأخبار للأول.. فنحمله على أن ذلك من طريق القيمة.
فعلى هذا: لا يكون للدية إلا أصل واحد، وهي الإبل، فإن كانت الدية مغلظة وأعوزت الإبل، فإن قلنا بقوله الجديد.. قومت مغلظة ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، وإن قلنا بقوله القديم.. ففيه وجهان، حكاهما في " العدة ".
أحدهما: تغلظ بثلث الدية، ولم يذكر في " المهذب " غيره؛ لما ذكرناه عن عمر، وعثمان، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.
والثاني: يسقط التغليظ؛ لأن التغليظ عندنا إنما هو بالصفة في الأصل لا بالزيادة في العدد، وذلك إنما يمكن في الإبل دون النقد، ألا ترى أن العبد لما لم يجب فيه إلا القيمة لم يجب فيه التغليظ؟ وما روي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.. فقد ذكرنا: أنما ذلك هو قيمة ما أوجبوه. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (الواجب في الدية ثلاثة أصول: مائة من الإبل، أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم. فيجوز له أن يدفع أيها شاء مع وجود الإبل ومع إعوازها) .

(11/491)


وقال الثوري، والحسن البصري، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (للدية ستة أصول: مائة من الإبل، أو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، أو مئتا بقرة، أو ألفا شاة، أو مئتا حلة) . إلا أن أبا يوسف، ومحمداً يقولان: هو مخير بين الستة، أيها شاء.. دفع مع وجود الإبل ومع عدمها. وعند الباقين: لا يجوز العدول عن الإبل مع وجودها.
دليلنا: ما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن كتاباً فيه الفرائض، والسنن، وأن في النفس مائة من الإبل» .
وروي: أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا في قتيل العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل» . وهذا يدل على: أنه لا يجوز العدول عنها إلى غيرها.

[مسألة دية الذمي]
ودية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، وبه قال عمر، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، وابن المسيب، وعطاء، وإسحاق.
وقال عروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ديته نصف دية المسلم) .
وقال الثوري:، وأبو حنيفة وأصحابه: (ديته مثل دية المسلم) . وقد روي ذلك عن عمر، وعثمان، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن قتله خطأ.. فديته مثل نصف دية المسلم، وإن قتله عمداً.. فديته مثل دية المسلم) .
دليلنا: ما روى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم» .

(11/492)


[فرع دية المجوسي]
ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (ديته مثل دية المسلم) .
وقال عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ديته مثل دية اليهودي والنصراني، وهو نصف دية المسلم عنده.
دليلنا: ما روي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: أنهم قالوا: (دية المجوسي ثمانمائة درهم، ثلثا عشر دية المسلم) . ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - فدل على: أنه إجماع.
وأما عبدة الأوثان إذا كان بيننا وبينهم هدنة، أو دخلوا إلينا بأمان فلا يجوز قتلهم، فمن قتل منهم.. وجبت فيه دية المجوسي؛ لأنه كافر لا يحل للمسلم مناكحة أهل دينه، فكانت ديته ثلثي عشر دية المسلم، كالمجوسي.
وأما الكافر الذي لم تبلغه الدعوة، وهو: أنه لا يعلم أن الله بعث رسولاً يقال له: محمد بن عبد الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه أظهر المعجزات، ويدعو إلى عبادة الله، فإن وجد ذلك.. فلا يجوز قتله حتى يعرف أن هاهنا رسولاً يدعو إلى الله، فإن أسلم، وإلا..

(11/493)


قتل، فإن قتله قاتل قبل أن تبلغه الدعوة.. وجبت فيه الدية.
وقال أبو حنيفة: (لا دية فيه) .
دليلنا: أنه قتل محقون الدم، فوجبت فيه الدية، كالذمي.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في قدر ديته:
فمنهم من قال: تجب فيه دية مسلم؛ لأنه مولود على الفطرة.
ومنهم من قال: إن كان متمسكاً بدين مبدل.. وجبت فيه دية أهل ذلك الدين، مثل: أن يكون متمسكاً بدين من بدل من اليهود والنصارى. وإن كان متمسكاً بدين من لم يبدل منهم.. وجبت فيه دية مسلم؛ لأنه مسلم لم تظهر منه عبادة.
ومنهم من قال: تجب فيه دية المجوسي؛ لأنه يقين، وما زاد.. مشكوك فيه، وهذا هو الأصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (هو كافر لا يحل قتله، وإذا كان كافراً.. وجبت فيه أقل دياتهم؛ لأنه اليقين) .
وإن قطع يد ذمي، ثم أسلم، ومات من الجراحة.. وجبت فيه دية مسلم؛ لأن الاعتبار بالدية حال الاستقرار.
وإن قطع مسلم يد مرتد، ثم أسلم، ثم مات من الجراحة.. لم يضمن القاطع دية النفس، ولا دية اليد.
وقال الربيع: فيه قولا آخر: أنه يضمن دية اليد.
والمذهب الأول؛ لأنه قطعه في حال لا يجب ضمانه، وما حكاه الربيع من تخريجه.

[مسألة دية المرأة]
ودية المرأة نصف دية الرجل، وهو قول كافة العلماء، إلا الأصم، وابن علية، فإنهما قالا: ديتها مثل دية الرجل.

(11/494)


دليلنا: ما روى عمرو بن حزم: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ودية المرأة نصف دية الرجل» .
وروي: عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: أنهم قالوا: (دية المرأة نصف دية الرجل) . ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، فدل على: أنه إجماع.
وإن قتل خنثى مشكلاً.. وجبت فيه دية امرأة؛ لأنه يقين، وما زاد.. مشكوك فهي، فلا تجب بالشك.

[مسألة في الجنين غرة عبد]
واذا ضرب ضارب بطن امرأة، فألقت جنيناً ميتاً حراً.. ففيه غرة عبد أو أمة. قيل: بإضافة الغرة إلى العبد، وقيل: بتنوين الغرة والصفة.

(11/495)


والأصل فيه: ما روى المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن امرأتين من هذيل اقتتلتا، فضربت إحداهما الأخرى بعمود، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال أحد الرجلين: كيف ندي من لا أكل ولا شرب ولا صاح ولا استهل، ومثل ذلك يطل؟ - وقد قيل: (يطل) أي: يهدر - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " سجع كسجع الأعراب "، وقضى بدية المقتولة على عصبة القاتلة، وقضى بغرة عبد أو أمة لما في جوفها» .
وروي: أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قال: «أذكر الله امرأ سمع من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجنين شيئاً، فقام حمل بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين جارتين لي - يعني: زوجتين - فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فقتلتها وما في جوفها، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجنين بغرة عبد أو أمة» .
قال أبو عبيد: و (المسطح) : عود من عيدان الخباء.
وقال النضر بن شميل: هو الخشبة التي يرقق بها الخبز.
إذا ثبت هذا: فلا فرق بين أن يكون الجنين ذكراً أو أنثى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة، ولم يفرق بين أن يكون الجنين ذكراً أو أنثى، ولأنا لو قلنا: تختلف ديتهما.. لأدى ذلك إلى الاختلاف والتنازع؛ لأنه قد يخفى ويتعذر، وقد يخرج متقطعاً، فسوى بين الذكر والأنثى قطعاً للخصومة والتنازع.

[فرع من تجب فيه الغرة]
والجنين الذي تجب فيه الغرة هو: أن يسقط جنيناً بان فيه شيء من صورة الآدمي، إما يد أو رجل أو عين.
وكذلك: إذا أسقطت مضغة لم يتبين فيها عضو من أعضاء الآدمي، ولكن قال

(11/496)


أربع نسوة من القوابل الثقات: فيها تخطيط الآدمي، إلا أنه خفي.. فتجب فيه المغرة؛ لأنهن يدركن من ذلك ما لا يدرك غيرهم.
وإن قلن: لم يتخطط إلى الآن، ولكنه مبتدأ خلق آدمي، ولو بقي.. لتخطط، فهل تجب به الغرة والكفارة، وتنقضي به العدة؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: في الجميع قولان.
ومنهم من قال: تنقضي به العدة، ولا تجب به الغرة ولا الكفارة، قولاً واحداً، وقد مضى ذلك.
وإن قلنا: هذه مضغة تصلح للآدمي ولغيره، ولا ندري لو بقيت.. هل تتخطط، أم لا؟ فلا تجب به الغرة والكفارة، ولا تنقضي به العدة؛ لأن الأصل براءة الذمة من الضمان وثبوت العدة.
وإن ألقت المرأة جنينين.. وجبت عليه غرتان، وإن ألقت ثلاثة.. وجب عليه ثلاث غرر، وإن ألقت رأسين أو أربع أيد.. لم تجب فيه إلا غرة؛ لأنه قد يكون جسدا واحداً له رأسان أو أربع أيد، فلا يجب ضمان ما زاد على جنين بالشك.

[فرع ضرب منتفخة بطن]
وأما إذا ضرب بطن امرأة منتفخة البطن، فزال الانتفاخ، أو بطن امرأة تجد حركة، فسكنت الحركة.. لم يجب عليه شيء.
وإن ضرب بطن امرأة، فماتت، ولم يخرج الجنين.. لم يجب عليه ضمان الجنين.
وقال الزهري: إذا سكنت الحركة التي تجد في بطنها.. وجب عليه ضمان الجنين.
دليلنا: أنا إنما نحكم بوجود الحمل في الظاهر، وإنما نتحققه بالخروج، فإذا لم يخرج.. لم نتحقق أن هناك حملاً، بل يجوز أن يكون ريحاً فينفش، فلا يلزمه الضمان بالشك.

(11/497)


[فرع ضرب حاملاً فماتت ثم خرج حملها]
وإن ضرب بطن امرأة، فماتت، ثم خرج الجنين منها بعد موتها.. ضمن الأم بديتها، وضمن الجنين بالغرة.
وقال أبو حنيفة: (لا يضمن الجنين) .
ودليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة» . ولم يفرق بين أن يخرج قبل موت أمه أو بعده.
ولأن كل حمل كان مضموناً إذا خرج قبل موت الأم.. كان مضموناً إذا خرج بعد موتها، كما لو ولدته حياً.
وإن ضرب بطنها، فأخرج الجنين رأسه، وماتت، ولم يخرج الباقي.. وجب عليه ضمان الجنين.
وقال مالك: (لا يجب عليه شيء) .
دليلنا: أن بظهور الرأس تحققنا أن هناك جنيناً، والظاهر أنه مات من ضربه، فوجب عليه ضمانه.

[فرع ضرب امرأة فخرج جنين وصرخ ومات]
وإن ضرب بطن امرأة، فألقت جنيناً ميتاً، فصرخ، ثم مات عقيبه، أو بقي متألما إلى أن مات.. وجبت فيه دية كاملة، سواء ولدته لستة أشهر أو لما دونها.
فإن لم يصرخ ولكن تنفس أو شرب اللبن، أو علمت حياته بشيء من ذلك، ثم مات عقيبه، أو بقي متألما إلى أن مات.. وجبت فيه دية كاملة.
وقال المزني: إن ولدته حياً لدون ستة أشهر.. لم تجب فيه دية كاملة، وإنما تجب فيه الغرة؛ لأنه لا يتم له حياة لما دون ستة أشهر.
وقال مالك، والزهري رحمهما الله: (إذا لم يستهل بالصراخ.. لم تجب فيه الدية الكاملة، وإنما تجب فيه الغرة) .

(11/498)


دليلنا: أنا قد تحققنا حياته، فوجب فيه دية كاملة، كما لو ولدته لستة أشهر عند المزني، وكما لو استهل صارخاً عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ولو ضرب بطنها، فألقت جنيناً وفيه حياة مستقرة، ثم جاء آخر وقتله.. فالقاتل هو الثاني، فيجب عليه القود إن كان مكافئاً، أو الدية الكاملة.
وأما الأول: فلا يجب عليه إلا التعزير بالضرب لا غير؛ لأنه لم يمت من ضربه.
وإن ضرب بطنها، فألقت جنيناً، فلم يستهل ولا تنفس ولا تحرك حركة تدل على حياته، ولكنه اختلج.. لم تجب فيه الدية الكاملة، وإنما تجب فيه الغرة؛ لأن هذا الاختلاج لا يدل على حياته؛ لأن اللحم إذا عصر، ثم ترك.. اختلج، ويجوز أن يكون اختلاجه لخروجه من موضع ضيق.

[فرع ضرب حاملاً فألقت يداً ثم جنينا ناقصاً]
وإن ضرب بطن امرأة، فألقت يداً، ثم أسقطت بعد ذلك جنيناً ناقص يد.. نظرت:
فإن بقيت المرأة متألمة إلى أن أسقطت الجنين، فإن ألقته ميتاً.. وجبت فيه الغرة، ويدخل فيها اليد؛ لأن الظاهر أن الضرب قطع يده، وإن ألقته حياً، ثم مات عقيب الوضع، أو بقي متألماً إلى أن مات.. ففيه دية كاملة، وتدخل فيها دية اليد.
وإن خرج الجنين حياً وعاش.. لم يجب عليه في الجنين شيء، ووجب عليه ضمان اليد، فتعرض اليد على القوابل، فإن قلن: إنها فارقت جملة لم تنفخ فيها الروح.. وجب فيها نص الغرة، وإن قلن: إنها فارقت جملة نفخ فيها الروح.. وجب فيها نصف دية كاملة.
وأما إذا سقطت اليد، ثم زال ألم الضرب، ثم ألقت الجنين.. ضمن اليد دون الجنين؛ لأنه بمنزلة من قطع يد رجل، ثم اندملت، فإن خرج الجنين ميتاً.. وجب في اليد نصف الغرة.

(11/499)


وإن خرج حياً، ثم مات أو عاش.. عرضت اليد على القوابل، فإن قلن: إنها فارقت جملة لم تنفخ فيها الروح.. وجب فيه نصف الغرة، وإن قلن: إنها فارقت جملة نفخ فيها الروح.. كان فيها نصف الدية.
وإن ضرب بطن امرأة، فألقت يداً، ثم ماتت الأم ولم يخرج الباقي.. وجبت دية الأم، ووجبت في الجنين الغرة؛ لأن الظاهر أنه جنى على الجنين، فأبان يده، ومات من ذلك.

[مسألة سن الغرة فوق سبع أو ثمان]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولمن وجبت له الغرة أن لا يقبلها دون سبع سنين أو ثمان سنين؛ لأنها لا تستغني بنفسها) .
وجملة ذلك: أن أقل سن الغرة التي يلزم ورثة الجنين قبولها سبع سنين، ولا يلزمه أن يقبل ما لها دون سبع سنين؛ لأن الغرة هي الخيار من كل شيء، وما له دون سبع سنين.. فليس من الخيار؛ لأنه يحتاج إلى من يكفله، ويخالف العتق في الكفارة؛ لأن الله تعالى نص فيها على الرقبة، والصغيرة يقع عليها اسم الرقبة.
وأما أعلى سن الغرة: فاختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو علي بن أبي هريرة: ولا يجبر على قبول الغلام بعد خمسة عشر سنة؛ لأنه لا يلج على النساء ولا على الجارية بعد عشرين سنة؛ لأنها تتغير وتنقص قيمتها.
ومنهم من قال: لا يجبر على قبولها بعد عشرين سنة، غلاماً كانت أو جارية؛ لأنها ليست من الخيار.
وقال الشيخ أبو حامد: يجبر على قبول ما له خمسون سنة وأكثر ما لم يضعف عن العمل؛ لأنه قد يكون من الخيار وإن بلغ ذلك.
قال القاضي أبو الطيب: وقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وليس لهم أن يؤدوا غرة هرمة ولا ضعيفة عن هذا العمل؛ لأن أكثر ما يراد له الرقيق للعمل) . وهذا يدل على وجوب قبولها قبل ذلك.

(11/500)


[فرع لا يجبر على قبول الغرة المعيبة]
ومن وجبت له الغرة لم يجبر على قبولها إذا كانت معيبة؛ لأن الغرة هي الخيار، والمعيبة ليست من الخيار.
فلا يلزمه أن يقبل الخصي وإن زادت قيمته بذلك؛ لأنه ناقص عضو، فهو كما لو كان مقطوع اليد.

[مسألة قيمة الغرة عشر دية المسلم]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وقيمتها إذا كان الجنين حراً نصف عشر دية المسلم) .
وجملة ذلك: أن الغرة مقدرة بنصف عشر دية الأب، أو بعشر دية الأم؛ لأنه روي ذلك عن عمر، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، ولأنه لا يمكن أن توجب فيه دية كاملة؛ لأنه لم تكمل فيه الحياة، ولا يمكن إسقاط ضمانه؛ لأنه خلق بشر، فقدرت ديته بخمس من الإبل؛ لأنه أقل أرش قدره صاحب الشرع، وهو: أرش الموضحة، ودية السن.
فإن كانت الغرة موجودة.. لم يجبر الولي على قبول غيرها؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب في الجنين الغرة كما أوجب في النفس الإبل» . ثم لا يجبر الولي على قبول غير الإبل مع وجودها، فكذلك لا يجبر على قبول غير الغرة مع وجودها. وإن أعوزت الغرة.. فإنه ينتقل إلى غيرها.
واختلف أصحابنا فيما ينتقل إليه:

(11/501)


فقال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: ينتقل إلى خمس من الإبل؛ لأنها هي الأصل في الدية، فإن أعوزت الإبل.. انتقل إلى قيمتها في القول الجديد، وإلى خمسين ديناراً أو ستمائة درهم في القول القديم.
وقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: إذا أعوزت الغرة.. انتقل إلى قيمتها في قوله الجديد، كما لو غصب منه عبداً فتلف، وينتقل إلى خمس من الإبل في قوله القديم، فإن أعوزت الإبل.. انتقل إلى قيمتها في أحد القولين، وإلى خمسين ديناراً أو ستمائة درهم في الآخر.

[فرع غرم الدية للجنين كدية الخطأ]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويغرمها من يغرم دية الخطأ) .
وجملة ذلك: أن الجناية على الجنين قد تكون خطأ محضاً، بأن يقصد غير الأم فيصيبها، فتكون الدية مخففة، وقد تكون عمد خطأ، بأن يقصد إصابة الأم بما لا يقتل، فتكون الدية مغلظة على العاقلة. وهل تكون عمداً محضاً؟ اختلف أصحابنا فيها:
فقال الشيخ أبو إسحاق: يكون عمدا محضاً.
وقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: لا تتصور الجناية على الجنين أن تكون عمداً محضاً وإن قصد الأم؛ لأنه قد يموت منه الجنين وقد لا يموت منه، ولأنه لا يتحقق وجود الجنين.

[فرع غرة ولد المسلمين]
فإن كان الأبوان مسلمين.. وجبت الغرة مقدرة بنصف عشر دية الأب، أو عشر دية الأم.
وإن كانا ذميين.. وجبت الغرة مقدرة بنصف عشر دية الأب، أو عشر دية الأم. وكذلك: إذا كان الأبوان مجوسيين.. فإنما تعتبر من ديتهما.

(11/502)


وإن كان أحد الأبوين نصرانياً والآخر مجوسياً.. اعتبر دية الجنين بعشر دية النصراني؛ لأنه إذا اتفق في بدل النفس ما يوجب الإسقاط وما يوجب الإيجاب.. غلب الإيجاب، كما قلنا في السبع المتولد بين الضبع والذئب إذا قتله المحرم. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : الجنين اليهودي أو النصراني أو المجوسي؛ لا تجب فيه الغرة، وإنما يجب فيه نصف عشر دية الأب.
وإذا كانا مختلفي الدين.. فقد خرج فيه قول آخر: أن الاعتبار بالأب.
وقال ابن سلمة: يعتبر بأقلهما دية. والأول أصح.

[فرع ضرب نصرانية حاملاً ثم أسلمت فأسقطت]
وإن ضرب بطن امرأة نصرانية حامل بنصراني، فأسلمت، ثم أسقطت جنيناً ميتاً.. ففيه غرة مقدرة بنصف عشر دية مسلم؛ لأن الاعتبار بالدية حال الاستقرار، وهي مسلمة حال الاستقرار.
وإن ضرب بطن امرأة حربية، فأسلمت، ثم أسقطت جنيناً ميتاً.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمنه، وهو قول ابن الحداد؛ لأن الابتداء لم يكن مضموناً.
والثاني: يضمنه اعتباراً بحال الاستقرار.

[فرع وطئها مسلم وذمي بشبهة ثم ضربت فألقت جنيناً]
إذا وطئ مسلم وذمي ذمية بشبهة في طهر واحد، ثم ضرب رجل بطنها، وألقت جنيناً ميتاً.. عرض على القافة، على الصحيح من المذهب.
فإن ألحقته بالمسلم.. وجب فيه غرة عبد أو أمة مقدرة بنصف عشر دية المسلم.

(11/503)


وإن ألحقته بالذمي.. وجبت فيه غرة مقدرة بنصف عشر دية اليهودي.
وإن أشكل الأمر عليها.. وجب فيه ما يجب في الجنين اليهودي؛ لأنه يقين، فإن كان يرجو انكشاف الأمر.. لم يورث هذا المال أحداً، ووقف إلى أن يتبين الأمر، وإن لم يرج انكشاف الأمر.. ترك حتى يصطلحوا عليه.
فإن أراد الذمي والذمية أن يصطلحا في قدر الثلث.. لم يجز؛ لجواز أن يكون الجميع للمسلم، لا حق لهما فيه.
وإن أراد المسلم والذمية أن يصطلحا في قدر الثلث.. جاز؛ لأنه لا حق للذمي فيه، ولا يخرج هذا القدر من بينهما.

[فرع الغرة يرثها ورثة الجنين]
الغرة الواجبة في الجنين الحر يرثها ورثته، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الليث بن سعد: (لا يورث عنه، وإنما يكون لأمه؛ لأنه كعضو منها) .
ودليلنا: أنها دية نفس، فورثت عنه، كما لو خرج حياً.
وإن ضرب بطن نصرانية، فألقت جنينا ميتاً، فادعت: أن هذا الجنين من مسلم زنى بها.. لم يجب فيه أكثر من دية جنين نصرانية؛ لأن ولد الزنى لا يلحق بالزاني.
قال الطبري: وإن قالت: وطئني مسلم بشبهة، فكذبها الجاني والعاقلة.. حلفوا على نفي العلم؛ لأن الظاهر أنه تابع لها، وإن صدقوها.. وجبت غرة مقدرة بنصف عشر دية مسلم، وإن صدقها العاقلة دون الجاني.. لم يؤثر تكذيب الجاني، وإن صدقها الجاني وكذبها العاقلة.. حملت العاقلة دية جنين النصرانية، ووجب الباقي في مال الجاني؛ لأنه وجب باعترافه.
وبالله التوفيق

(11/504)


[باب أروش الجنايات]
الجنايات على ما دون النفس شيئان: جراحات، وأعضاء.
فأما الجراحات: فضربان: شجاج في الرأس والوجه، وجراحات فيما سواهما من البدن.
فأما الشجاج في الرأس والوجه: فعشرة: الخارصة، والدامية، والباضعة، والمتلاحمة، والسمحاق، والموضحة، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، والدامغة، وقد مضى بيانها.
والتي يجب فيها أرش مقدر من هذه الشجاج: الموضحة، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة. وأما الموضحة: فيجب فيها خمس من الإبل، صغيرة كانت أو كبيرة، وبه قال أكثر الفقهاء.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن كانت في الأنف أو اللحى الأسفل.. وجبت فيها حكومة) . وقال ابن المسيب رحمة الله عليه: يجب في الموضحة عشر من الإبل.
دليلنا: ما روى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الموضحة خمس من الإبل» .
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي المواضح خمس من الإبل» .

(11/505)


وروى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الكتاب الذي كتبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أهل اليمن: «وفي الموضحة خمس من الإبل» . ولأنه قول أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، ولا فرق بين الظاهرة والمستورة بالشعر، لعموم الخبر.

[مسألة في تعدد الموضحة]
فإن أوضحه موضحة أو موضحتين أو ثلاثاً أو أربعاً.. وجبت لكل موضحة خمس من الإبل؛ لعموم الخبر، فإن كثرت المواضح حتى زاد أرشها على دية النفس.. ففيه وجهان لأصحابنا الخراسانيين:
أحدهما: لا يجب أكثر من دية النفس؛ لأن ذلك ليس بأكثر حرمة من نفسه.
والثاني: يجب لكل موضحة خمس من الإبل، وهو المشهور؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الموضحة خمس من الإبل» . ولم يفرق. ولأنه يجب في كل واحدة أرش مقدر، فوجب وإن زاد ذلك على دية النفس، كما لو قطع يديه ورجليه.

[فرع أوضحا موضحتين بينهما حاجز]
وإن أوضحه موضحتين بينهما حائل - حاجز - ثم خرق الجاني الحاجز بينهما.. لم يجب عليه أكثر من أرش موضحة؛ لأن فعل الإنسان يبنى بعضه على بعض، كما لو قطع يديه ورجليه، ثم مات.
وكذلك: إن تآكل ما بينهما بالجناية.. صار كما لو خرق ما بينهما؛ لأن سراية فعله كفعله، فصار كما لو قطع يديه ورجليه، وسرى ذلك إلى نفسه.
وإن خرق أجنبي ما بينهما.. وجب عليه أرش موضحة إن بلغ إلى العظم، ووجب

(11/506)


على الأول أرش موضحتين؛ لأن فعل الإنسان لا يبنى على فعل غيره.
وإن خرق المجني عليه ما بينهما.. صار ما فعله هدراً، ولم يسقط بذلك عن الجاني شيء.

[فرع أوضحا في رأس موضحتين وخرق أحدهما ما بينهما]
] : وإن أوضح رجلان في رأس رجل موضحتين واشتركا فيهما، ثم جاء أحدهما وخرق ما بينهما.. وجب على الخارق نصف أرش موضحة، وعلى الذي لم يخرق أرش موضحة؛ لأنهما لما أوضحاه أولاً.. وجب على كل واحد منهما أرش موضحته، فإذا خرق أحدهما الحاجز بينهما.. صار في حقه كأنهما أوضحاه موضحة واحدة، فكان عليه نصف أرشها، ولم يسقط بذلك مما وجب على الآخر شيء.

[فرع شج رجلاً موضحة وباضعة ومتلاحمة]
وإن شج رجل آخر شجة، بعضها موضحة، وبعضها باضعة، وبعضها متلاحمة.. لم يجب عليه أكثر من أرش موضحة؛ لأنه لو أوضحها جميعها.. لم يجب عليه أكثر من أرش موضحة، فلأن لا يلزمه - والإيضاح في بعضها - أولى.
وإن أوضحه موضحتين، وخرق اللحم الذي بينهما، ولم يخرق الجلد الظاهر.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه أرش موضحتين؛ اعتباراً بالظاهر.
والثاني: لا يلزمه إلا أرش موضحة؛ اعتباراً بالباطن.
وإن أوضحه موضحتين، وخرق الجلد الذي بينهما، ولم يخرق اللحم.. لم يلزمه إلا أرش موضحة، وجهاً واحداً؛ لأنه لو خرق الظاهر والباطن بينهما.. لم يلزمه إلا أرش موضحة، فلأن لا يلزمه إلا أرش موضحة - ولم يخرق إلا الظاهر - أولى.

[فرع أوضحه في الرأس ونزل إلى القفا]
وإن أوضح موضحة في الرأس، ونزل فيها إلى القفا - وهو: العنق - وجب عليه

(11/507)


أرش موضحة في الرأس، وحكومة فيما نزل إلى القفا؛ لأنهما عضوان مختلفان.
وإن أوضحه موضحة بعضها في الرأس وبعضها في الوجه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه أرش موضحتين؛ لأنهما عضوان مختلفان، فهما كالرأس والقفا.
والثاني: لا يلزمه إلا أرش موضحة؛ لأن الجميع محل للموضحة، بخلاف القفا. والأول أصح؛ لأنهما مختلفان في الظاهر.

[فرع اختلاف رقعتي الرأس وقت الاقتصاص]
وإن أوضح جميع رأسه، ورأس المجني عليه عشرون إصبعاً، ورأس الجاني خمس عشرة إصبعاً، فاقتص منه في جميع رأسه.. فإنه يجب للمجني عليه فيما بقي الأرش؛ لأنه لم يستوف قدر موضحته، وكم يجب له؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب له أرش موضحة؛ لأنه لو أوضحه قدر ذلك.. لوجب فيه أرش موضحة.
والثاني - وهو الأصح -: أنه لا يجب له إلا ربع أرش موضحة؛ لأنه أوضحه موضحة وقد استوفى ثلاثة أرباعها، فبقي له ربع أرشها.

[فرع ما يجب في الموضحة المغلظة]
وإذا وجب له أرش موضحة مغلظة.. فإنه يجب له خلفتان وثلاثة أبعرة من النوعين الآخرين.
قال القاضي أبو الطيب: فيكون له بعير ونصف من الحقاق، وبعير ونصف من الجذاع.
قال ابن الصباغ: وهذا يقتضي أن يأخذ قيمة الكسرين، إلا أن يرضى أن يأخذهما من السن الأول، وهو: أن يأخذ حقتين وجذعة.

(11/508)


[مسألة ما يجب في الهاشمة]
] : ويجب في الهاشمة عشر من الإبل، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يجب فيها خمس من الإبل، وحكومة في كسر العظم) .
دليلنا: ما روي عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (وفي الهاشمة عشر من الإبل) . ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، فدل على: أنه إجماع.
وإن ضرب رأسه أو وجهه بمثقل، فهشم العظم من غير أن يقطع جلداً ولا لحماً. ففيه وجهان.
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يجب فيها حكومة؛ لأنها ليست بموضحة ولا هاشمة، وإنما هو كسر عظم، فهو كما لو كسر يده.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: يجب عليه خمس من الإبل، وهو الأصح؛ لأنه لو أوضحه وهشمه.. لوجب عليه عشر من الإبل، ولو أوضحه ولم يهشمه.. لم يجب عليه إلا خمس من الإبل، فدل على: أن الخمسة الزائدة لأجل الإيضاح.

[فرع شجه موضحة وهاشمة ودون موضحة]
وإن شجه شجة، بعضها موضحة، وبعضها هاشمة، وبعضها دون موضحة.. لم يجب عليه إلا عشر من الإبل؛ لأنه لو هشم الجميع.. لم يجب عليه إلا عشر من الإبل، فلأن لا يلزمه - والهشم في البعض - أولى.
وإن هشمه هاشمتين بينهما حاجز.. لزمه أرش هاشمتين.
وإن أوضحه موضحتين، وهشم العظم بكل واحدة منهما، واتصل الهشم في الباطن.. وجب عليه أرش هاشمتين، وجهاً واحداً.

(11/509)


والفرق بينهما وبين الموضحتين إذا اتصلتا في الباطن: أن الحائل قد ارتفع بين الموضحتين في الباطن، وهاهنا اللحم والجلد بينهما باق، فكانتا هاشمتين، وإنما الكسر اتصل، ولا اعتبار به.

[مسألة ما يجب في المنقلة]
ويجب في المنقلة خمس عشرة من الإبل؛ لما روى عمر بن الخطاب، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل» . ولأنه قول علي، وزيد بن ثابت، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.

[مسألة ما يجب في المأمومة]
] : ويجب في المأمومة ثلث الدية؛ لما روى عمر بن الخطاب، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الآمة ثلث الدية» . وهو قول علي، وزيد بن ثابت، ولا مخالف لهما في الصحابة.
ويجب في الدامغة ثلث الدية. وقال أبو الحسن الماوردي البصري من أصحابنا: يجب فيه حكومة مع ثلث الدية؛ لخرق الغشاوة التي على الدماغ.

[فرع أوضحه رجل وهشمه آخر ونقله ثالث وآمه رابع]
وقال أبو العباس: وإن أوضحه رجل، وهشمه آخر، ونقله آخر، وآمه آخر في موضع واحد.. وجب على الذي أوضحه خمس من الإبل، وعلى الذي هشمه خمس من الإبل، وعلى الذي نقله خمس من الإبل، وعلى الذي آمه ثماني عشرة من الإبل وثلث؛ لأن ذلك قدر أرش جناية كل واحد منهم.

[فرع شجه دون الموضحة أو أكثر منها]
وأما الشجاج التي قبل الموضحة: فلا يجب فيها أرش مقدر؛ لما روى مكحول - مرسلا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل في الموضحة خمساً من الإبل، ولم يوقت فيما دون

(11/510)


ذلك شيئاً» . ولأن تقدير الأرش يثبت بالتوقيف، ولا توقيف هاهنا. فإن أمكن معرفة قدرها من الموضحة؛ بأن كان في رأس المجني عليه موضحة، ثم شج في رأسه دامية أو باضعة، فإن عرف قدر عمقها من عمق الموضحة التي في رأسه.. وجب فيها بقدر ذلك من أرش الموضحة، وإن لم يمكن معرفة قدر عمقها من عمق الموضحة.. وجب فيها حكومة تعرف بالتقويم، على ما يأتي بيانه.
فإن تيقنا أنها نصف الموضحة، وشككنا: هل تزيد، أم لا؟ فإنه يقوم، فإن خرجت حكومتها بالتقويم نصف أرش الموضحة لا غير.. لم تجب الزيادة؛ لأنا علمنا أن الزيادة لا حكم لها. وإن خرجت حكومتها أكثر من نصف أرش الموضحة.. وجب ذلك؛ لأنا علمنا أن الشك له حكم. وإن خرجت حكومتها أقل من نصف أرش الموضحة.. وجب نصف أرش الموضحة؛ لأنا قد تيقنا وجوب النصف، وعلمنا أن التقويم خطأ.

[مسألة جراحات غير الرأس والوجه]
وأما الجراحات في غير الرأس والوجه: فضربان: جائفة، وغير جائفة.
فأما (غير الجائفة) ، وهي: الموضحة، والهاشمة، والمنقلة، وما دون الموضحة من الجراحات: فلا يجب فيها أرش مقدر، وإنما تجب فيه حكومة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر الموضحة وما بعدها من الجراحات، وذكر بعدها المأمومة، والمأمومة لا تكون إلا في الرأس، فعلم أن ما قبلها لا يكون إلا في الرأس، والوجه في معنى الرأس. ولأن هذه الجراحات في سائر البدن لا تشارك نظائرها في الرأس والوجه في الشين والخوف عليه منها، فلم يشاركها في تقدير الأرش.
وأما (الجائفة) : فهي الجراحة التي تصل إلى الجوف من البطن، أو الصدر، أو ثغرة النحر، أو الورك، فيجب فيها ثلث الدية.

(11/511)


وقال مكحول: إن تعمدها.. وجب فيها ثلثا الدية.
دليلنا: ما روى عمر بن الخطاب، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الجائفة ثلث الدية» . وهو قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، ولا مخالف له في الصحابة.
فإن أجافه جائفتين بينهما حاجز.. وجب عليه أرش جائفتين، وإن طعنه، فأنفذه من ظهره إلى بطنه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه إلا أرش جائفة؛ لأن الجائفة هي: ما ينفذ من خارج إلى داخل، فأما الخارج من داخل إلى خارج: فليس بجائفة، فيجب فيها حكومة.
والثاني: يجب عليه أرش جائفتين، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو المذهب؛ لأنه روي ذلك عن أبي بكر الصديق، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولأنهما جراحتان نافذتان إلى الجوف، فهو كما لو نفذتا من خارج إلى داخل.

[فرع أجافه رجل فأدخل فيها رجل سكيناً]
ً] : وإن أجاف رجل رجلاً جائفة، ثم جاء آخر وأدخل السكين في تلك الجائفة، فإن لم يقطع شيئاً.. فلا شيء عليه، وإنما يعزر به. وإن وسعها في الظاهر والباطن.. وجب عليه أرش جائفة؛ لأنه أجاف جائفة أخرى. وإن وسعها في الظاهر دون الباطن أو في الباطن دون الظاهر، أو أصاب بالسكين كبده أو قلبه، وجرحه.. وجبت عليه حكومة.
وإن قطع أمعاءه، أو أبان حشوته.. فهو قاتل؛ لأن الروح لا تبقى مع هذا، والأول خارج.
وإن وضع السكين على فخذه، فجره حتى بلغ به البطن وأجافه، أو وضعه على

(11/512)


كتفه وجره حتى بلغ به الظهر وأجافه.. وجب عليه أرش جائفة، وحكومة للجراحة في الفخذ والكتف؛ لأنهما جراحة في غير محل الجائفة.
وإن وضع السكين على صدره وجره حتى بلغ به إلى بطنه أو ثغرة النحر، وأجافه.. لم يجب عليه إلا أرش جائفة؛ لأن الجميع محل للجائفة، ولو أجافه في الجميع.. لم يلزمه إلا أرش جائفة، فلأن لا يلزمه ولم يجفه إلا في بعضه أولى.

[فرع أجافه جائفة فخاطها ثم فتقها غيره]
] : إذا أجافه جائفة فخيط الجائفة، فجاء آخر وفتق تلك الخياطة، فإن كان الجرح لم يلتحم ظاهرًا ولا باطنًا.. لم يلزم الثاني أرش، وإنما يعزر، كما لو أدخل سكينًا في الجائفة قبل الخياطة، وتجب عليه قيمة الخيط وأجرة المثل، وإن كانت الجراحة قد التحمت فقطعها ظاهرًا أو باطنًا.. وجب عليه أرش جائفة؛ لأنه عاد كما كان. وإن التحمت الجراحة في الظاهر دون الباطن أو في الباطن دون الظاهر، ففتقه.. وجبت عليه الحكومة.
وكل موضع وجب عليه أرش الجائفة أو الحكومة.. فإنه يجب عليه معه قيمة الخيط، وتدخل أجرة الخياطة في الأرش أو في الحكومة.

[فرع ضرب وجنته وكسر عظمها]
] : وإن ضرب وجنته، فكسر العظم، ووصل إلى فيه.. ففيه قولان:
أحدهما: يجب عليه أرش جائفة؛ لأنها جراحة وصلت إلى جوف الفم، فهو كما لو وصلت إلى جوف البطن أو الرأس.
والثاني: لا يجب عليه إلا أرش هاشمة لهشم العظم، وحكومة لما زاد عليه؛ لأن هذه دون الجائفة إلى البطن أو الرأس في الخوف عليه منها.
وإن جرحه في أنفه، فخرقه إلى باطنه.. قال أبو علي الطبري: ففيه قولان، كما لو هشم عظم وجنته، فوصلت إلى فيه.

(11/513)


وإن خرق شدقه إلى داخل فيه.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان، كما لو هشم وجنته، فوصل إلى فيه. وقال ابن الصباغ: لا يجب عليه أرش جائفة، قولًا واحدًا.

[فرع أدخل خشبة في إسته]
] : وإن أدخل خشبة في دبر إنسان، فخرق حاجزًا في البطن.. فهل يلزمه أرش جائفة؟ فيه وجهان، كما قلنا فيمن خرق الباطن بين الموضحتين دون الظاهر.
وإن أذهب بكارة امرأة بيده أو بخشبة.. فليست بجائفة؛ لأنه لا يخاف عليها من ذلك، فإن كانت أمة.. وجب عليه ما نقص من قيمتها، وإن كانت حرة.. ففيها حكومة، فإن أكرهها على الزنا.. وجب عليه حكومة، ولإذهاب البكارة المهر.

[مسألة ما يجب في العين]
] : وأما الأعضاء: فيجب في العينين الدية؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي العينين الدية» .
ويجب في إحداهما نصف الدية؛ لما روى معاذ، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي إحدى العينين خمسون من الإبل» ، ولأنه قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.
وإن قلع عين الأعور.. لم يجب عليه إلا نصف الدية، وبه قال النخعي، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال الزهري، ومالك، والليث، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يجب فيها جميع الدية) . وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.

(11/514)


دليلنا: حديث معاذ، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولم يفرق. وقد روي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.
ولأن ما ضمن ببدل مع بقاء نظيره.. ضمن به مع فقد نظيره، كاليد.
وإن قلع الأعور عين من له عينان، وللجاني مثلها.. كان للمجني عليه القصاص.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ليس له القصاص منه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] . ولم يفرق.
وإن عفا المجني عليه عن قلع عين الأعور.. لم يستحق عليه إلا نصف الدية.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يستحق عليه جميع الدية) .
دليلنا: أنه قلع له عينًا واحدة، فإذا عفا عن القصاص.. لم يجب له أكثر من ديتها، كما لو كانتا سليمتين.

[فرع جنى على عينه فأذهب بصرها]
] : وإن جنى على عينه أو رأسه، فذهب ضوء بصره والحدقة باقية.. وجبت عليه الدية؛ لما روى معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي البصر مائة من الإبل» ، ولأنه أذهب المنفعة المقصودة بالعين، فوجب عليه أرشها، كما لو جنى على يده، فشلت.
وإن أذهب البصر من إحدى العينين.. وجب عليه نصف الدية، كما لو أشل إحدى يديه.

(11/515)


وإن قلع عينًا عليها بياض، فإن كان على غير الناظر، أو على الناظر إلا أنه رقيق يبصر بها من تحته.. وجب عليه جميع ديتها؛ لأن البياض لا يؤثر في منفعتها، وإنما يؤثر في جمالها، فهو كما لو قطع يدًا عليها ثآليل.
وإن كان لا يبصر.. لم يجب عليه الدية، وإنما تجب عليه الحكومة، كما لو قطع يدًا شلاءً.
وإن نقص بصرها بالبياض.. وجب عليه من ديتها بقدر ما بقي من بصرها.

[فرع عودة البصر بعد أخذ الدية]
] : وإن جنى على عينه، فذهب ضوؤها، فأخذت منه الدية، ثم عاد ضوؤها.. وجب رد ديتها؛ لأنا علمنا أنه لم يذهب ضوؤها.
وإن ذهب ضوؤها، وقال رجلان من أهل الخبرة: ترجى عودته، فإن لم يقدرا ذلك إلى مدة.. لم ينتظر، وإن قدراه إلى مدة.. انتظر، فإن عاد الضوء.. لم تجب الدية، وإن انقضت المدة ولم يعد الضوء.. أخذ الجاني بموجب الجناية، وإن مات المجني عليه قبل انقضاء تلك المدة.. لم يجب القصاص؛ لأنه موضع شبهة، وهل تجب عليه الدية؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما قلنا في السن.
ومنهم من قال: تجب الدية، قولًا واحدًا؛ لأن عود الضوء غير معهود، وعود السن معهود.

[فرع نقص بصر العين بالجناية]
] : وإن جنى على عينيه، فنقص ضوؤهما.. نظرت:
فإن عرف أنه نقص نصف ضوئهما، بأن كان يرى الشخص من مسافة، فصار لا يراه إلا من نصفها.. وجبت عليه نصف الدية.

(11/516)


وإن لم يعرف قدر النقصان، وإنما ساء إدراكه.. وجبت عليه حكومة.
وإن نقص بصره في إحدى العينين.. وجب عليه من دية تلك العين بقدر ما نقص من ضوئها.
وإن أمكن معرفة قدر ذلك.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والإمكان: أن تعصب عينه العليلة، وتطلق الصحيحة، ويقام له شخص على ربوة من الأرض، ثم يقال له: انظر إليه، ثم يتباعد الشخص عنه إلى أن ينتهي إلى غاية يقول: لا أرى إلى أكثر منها، ثم يعلم على ذلك الموضع، ويغير عليه ثياب الشخص؛ لأنه متهم، فإذا غير عليه، وأخبر به.. علمنا صحة ذلك، ثم تطلق العين العليلة، وتعصب الصحيحة، ويوقف له الشخص على ربوة، ثم لا يزال يبعد عنه إلى الغاية التي يقول: أبصره إليها ولا أبصره إلى أكثر منها، فيعلم على ذلك الموضع، ويوقف له الشخص من جميع الجهات، فإن أخبر أنه يبصره على أكثر من تلك الغاية أو أقل.. علمنا كذبه؛ لأن النظر لا يختلف باختلاف الجهات، فإذا اتفقت الجهات.. علمنا صدقه، ثم ننظر كم الغاية الثانية من الأولى؟ فيؤخذ بقدر ما نقص من الدية) .

[فرع الجناية على عين القاصر]
] : وإن جنى على عين صبي أو مجنون، فقال أهل الخبرة: قد زال ضوؤها، ولا يرجى عوده.. ففيه وجهان.

(11/517)


أحدهما: يحكم على الجاني بموجب الجناية؛ لأن الجناية قد وجدت، فتعلق بها موجبها.
والثاني: لا يحكم عليه بموجبها حتى يبلغ الصبي، ويفيق المجنون، ويدعي زوال الضوء؛ لجواز أن الضوء لم يذهب.
وإن جنى على عين رجل، فشخصت - أي: ارتفعت - أو احولت، ولم يذهب من ضوئها شيء.. وجبت عليه الحكومة؛ لأنه أذهب جمالًا من غير ذهاب منفعة.
وإن قلع عينًا قائمة، وهي: العين التي ذهب ضوؤها، وبقيت حدقتها.. وجبت عليه الحكومة دون الدية؛ لأنه أذهب عضوًا فيه جمال من غير منفعة.

[مسألة أزال أجفانه الأربعة]
] : وإن قطع أجفان عيني رجل الأربعة.. وجبت عليه دية، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا تجب عليه إلا الحكومة) .
دليلنا: أن فيها جمالا ًومنفعة، فوجب فيها الدية، كالعينين.
وإن قطع بعضها.. وجب فيها من الدية بقسطه، كما لو قلع إحدى العينين.
وإن قطع أهداب العينين، ولم تعد.. فعليه الحكومة.
وقال أبو حنيفة: (عليه الدية) .
دليلنا: أنه أذهب جمالًا من غير منفعة، فلم تجب فيه الدية، كالأظفار.
وإن قطع الأجفان وعليها الأهداب.. ففيه وجهان:
أحدهما: تجب عليه الدية للأجفان، والحكومة للأهداب، كما لو قطع الأهداب، ثم الأجفان.
والثاني: تجب عليه الدية لا غير، كما لو قطع يدًا وعليها شعر وأظفار.
وإن قلع العينين والأجفان.. وجبت عليه ديتان، كما لو قطع يديه ورجليه.

(11/518)


[فرع قلع الحاجبين]
] : وإن قلع الحاجبين.. لم تجب فيهما الدية. وقال أبو حنيفة: (تجب فيهما الدية) .
دليلنا: أن فيهما جمالًا من غير منفعة، فلم تجب فيهما الدية، كلحم الوجه، وتجب فيهما الحكومة.

[مسألة في الأذنين الدية]
] : وتجب في الأذنين الدية، وفي إحداهما نصف الدية، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد رحمهما الله، وإحدى الروايتين عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في الرواية الثانية: (لا تجب فيهما إلا الحكومة) . وحكاه أصحابنا الخراسانيون قولًا آخر للشافعي، وليس بمشهور.
وروي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (وفي الأذن خمس عشرة من الإبل) .
والدليل على وجوب الدية فيهما: ما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الأذن خمسون من الإبل» . فدل على: أنه يجب فيهما مائة.
ولأنه روي ذلك عن عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما.
ولأن فيهما جمالًا ومنفعة، فوجبت فيهما الدية، كالعينين.

(11/519)


[مسألة قطع بعض الأذن]
فرع: [قطع بعض الأذن] : وإن قطع بعض الأذن.. وجب عليه من ديتها بقدر ما قطع منها؛ لأنه يمكن تقسيط الدية عليها. وإن جنى على أذنه، فاستحشفت - أي: يبست - ففيه قولان:
أحدهما: يجب عليه ديتها، كما لو جنى على يده، فشلت.
والثاني: لا تجب عليه إلا الحكومة؛ لأن منفعتها باقية مع استحشافها، وإنما نقص جمالها.
وإن قطع أذنًا مستحشفة.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إن قلنا: إنه إذا جنى عليها فاستحشفت وجبت عليه الدية.. وجب هاهنا على قاطع المستحشفة الحكومة، كما لو قطع يدًا شلاء، وإن قلنا هناك: لا يجب عليه إلا الحكومة.. وجب هاهنا على قاطعها ديتها.
وقال الشيخ أبو حامد: هذا تخليط لا يحكى، بل تجب عليه الحكومة، قولًا واحدًا، كما قلنا فيمن قلع عينًا قائمة، أو قطع يدا شلاء.
وإن قطع أذن الأصم.. وجب عليه ديتها؛ لأن ذهاب السمع، لعلة في الرأس لا في الأذن.

[مسألة وجوب الدية في ذهاب السمع]
] : ويجب في السمع الدية؛ لما روى معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي السمع دية» .
وروى أبو المهلب: (أن رجلًا ضرب رجلًا بحجر في رأسه، فذهب سمعه وبصره وعقله ونكاحه، فقضى فيه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه بأربع ديات وهو حي) . ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

(11/520)


فإن أذهب سمعه من إحدى الأذنين.. وجب عليه نصف الدية، كما لو أذهب الضوء من إحدى العينين.
فإن أذهب سمعه، فأخذت منه الدية، ثم عاد السمع.. وجب رد الدية؛ لأنا علمنا أنه لم يذهب.

[فرع ادعاء ذهاب حواسه أو بعضها]
] : وإن جنى عليه جناية، فادعى: أنه ذهب بها سمعه أو بصره أو شمه.. أري اثنين من أهل الخبرة بذلك من المسلمين، فإن قالا: مثل هذه الجناية لا يذهب بها السمع والبصر والشم.. فلا شيء له على الجاني؛ لأنا علمنا كذب المدعي، وإن قالا: مثلها يذهب بها السمع أو البصر أو الشم، فإن كان في البصر.. رجع إلى قولهما، أو إلى اثنين من أهل الخبرة، فإن قالا: قد ذهب البصر ولا يعود.. حكمنا على الجاني بموجب الجناية، وإن كان في السمع والشم.. لم يرجع إلى قولهما في ذهابه؛ لأنه لا طريق لهما إلى المعرفة بذهابه، بخلاف البصر.
فإذا ادعى المجني عليه ذهاب السمع أو الشم، فإن قال اثنان من أهل الخبرة من المسلمين: لا يرجى عوده.. حكم على الجاني بموجب الجناية، وإن قالا: يرجى عوده إلى مدة.. فهو كما لو قالا: يرجى عود البصر، وقد مضى بيانه.
فإن كانت الجناية عمدًا.. لم يقبل فيه إلا قول رجلين، وإن كانت خطأ، أو عمد خطأ.. قبل فيه قول رجل وامرأتين، كما قلنا في الشهادة بذلك.

(11/521)


[فرع ما يجب في نقص السمع]
] : وإن جنى عليه جناية، فنقص سمعه بها، فإن عرف قدر نقصانه.. وجب فيه من الدية بقدره، وإن لم يعرف قدر نقصانه، وإنما ثقل.. وجبت في الحكومة.
وإن ادعى نقصان السمع من إحدى الأذنين.. سدت الأذن العليلة، وأطلقت الصحيحة، وأمر من يخاطبه وهو يتباعد منه إلى أن يبلغ إلى غاية يقول: لا أسمعه إلى أكثر منها، ويعلم عليها، ويمتحن بذلك من جميع الجهات؛ لأنه متهم، فإذا اتفقت الجهات.. أطلقت العليلة، وسدت الصحيحة، وخاطبه كمخاطبته الأولى وهو يتباعد منه إلى أن يقول: لا أسمعه إلى أكثر منها، ويمتحن بمخاطبته أيضًا في ذلك من جميع الجهات، فإذا اتفقت.. علم على ذلك الموضع، وينظر كم قدر ذلك من المسافة الأولى؟ ويجب له من دية الأذن بقدر ما بقي من المسافة التي لم يسمع منها في العليلة.
وإن قطع أذنيه، فذهب سمعه منهما.. وجبت عليه ديتان، كما لو قطع يديه ورجليه.

[مسألة في الأنف الدية]
] : وتجب في الأنف الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الأنف إذا أوعى مارنه مائة من الإبل» ، ولأنه قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
والذي تجب به الدية من الأنف هو (المارن) ، وهو: المستلان منها دون القصبة؛ لما «روى ابن طاووس، عن أبيه: أنه قال: كان في كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند أبي: " وفي الأنف إذا أوعى مارنه جدعًا الدية» . ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أوعى "،

(11/522)


أي: استوعب. ولأن المنفعة والجمال فيه، فوجبت فيه الدية.
وإن قطع بعض المارن.. وجب فيه من الدية بقسط ما قطع منه.
وإن قطع أحد المنخرين.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه نصف الدية؛ لأنه أذهب نصف الجمال ونصف المنفعة.
والثاني: لا يجب عليه إلا ثلث الدية؛ لأن المارن يشتمل على المنخرين والحاجز بينهما.
والأول هو المنصوص.
فإن قطع الحاجز بين المنخرين.. وجب عليه على الوجه الأول حكومة، وعلى الثاني ثلث الدية.
وإن قطع أحد المنخرين والحاجز بينهما.. وجب عليه على الوجه الأول نصف الدية وحكومة، وعلى الثاني ثلثا الدية.
وإن قطع المارن وقصبة الأنف.. وجب عليه دية في المارن، وحكومة في القصبة، كما لو قطع يده من المرفق.
وإن قطع المارن والجلدة التي تحته إلى الشفة.. وجبت عليه دية في المارن، وحكومة للجلدة التي تحته.
وإن أبان مارنه، فأخذه المجني عليه، فألصقه، فالتصق.. لم تسقط الدية عن الجاني؛ لأنها وجبت عليه بالإبانة، والإلصاق لا حكم له؛ لأنه يجب إزالته، فلم تسقط به الدية.
وإن قطع المارن ولم ينته، فألصقه، فالتصق.. كان للمجني عليه أن يقتص، فيقطع مارنه حتى يجعله معلقًا كمارن المجني عليه.
وإن عفا عن القصاص.. لم تجب له الدية، وإنما تجب له الحكومة؛ لأنها جناية لم تذهب بها منفعة، وإنما نقص بها جمال.

[فرع جنى على أنفه فيبس]
وإن جنى على أنفه، فاستحشف.. فهل تجب عليه الدية أو الحكومة؟ فيه

(11/523)


قولان، كما قلنا في الأذن إذا استحشفت بالجناية.
وإن قطع أنفًا مستحشفًا.. ففيه طريقان، كما قلنا فيمن قطع أذنًا مستحشفًا.
وإن قطع أنفًا أخشم.. وجبت عليه الدية؛ لعموم الخبر، ولأن ذهاب الشم لمعنى في غير الأنف.

[مسألة في إزالة الشم الدية]
] : ويجب في الشم الدية؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في كتاب عمرو بن حزم: «وفي الشم الدية» ، ولأنه حاسة تختص بمنفعة، فأشبه السمع والبصر.
وإن أذهب الشم من أحد المنخرين.. وجب عليه نصف الدية، كما قلنا فيه إذا أذهب البصر من إحدى العينين.
وإن نقص شمه من المنخرين أو من أحدهما.. فهو كما قلنا فيمن نقص سمعه من الأذنين أو من إحداهما.. وإن لم يعرف قدر نقصه.. وجبت فيه الحكومة.
وإن قطع مارنه، فذهب شمه.. وجبت عليه ديتان؛ لأن الدية تجب في كل واحد منهما إذا انفرد.. فوجبت في كل واحد منهما الدية وإن اجتمعا، كما لو قطع يديه ورجليه.

[مسألة فيما يجب بإذهاب العقل]
] : وإن جنى عليه، فذهب عقله.. لم يجب فيه القصاص؛ لأنه لا يعرف محله؛ لأن من الناس من قال: محله الرأس، ومنهم من قال: محله القلب، ومنهم من قال: هو بينهما.
وتجب فيه الدية؛ لما روى عمرو بن حزم: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي العقل الدية» ، ولأنه قول عمر، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف

(11/524)


لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأن التكليف يزول بزوال العقل، كما يزول بخروج الروح، فلما وجبت الدية بخروج الروح.. وجبت بزوال العقل.
فإن ذهب بعض عقله وعرف قدر الذاهب، بأن صار يجن يومًا ويفيق يومًا.. وجبت فيه نصف الدية، وإن لم يعرف قدر الذاهب، بأن صار يفزع مما لا يفزع منه العقلاء.. وجبت فيه الحكومة.
إذا ثبت هذا: فإن كانت الجناية التي ذهب بها العقل مما لا أرش لها، بأن لطمه، أو لكمه، أو ضربه بحجر أو غيره، ولم يجرحه.. وجبت دية العقل، على ما مضى، وإن كان لها أرش.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يدخل الأقل منهما في الأكثر، مثل: إن أوضحه فذهب عقله.. فإن أرش الموضحة يدخل في دية العقل.. وإن قطع يديه من المرفقين.. دخلت دية العقل في دية اليدين، والحكومة فيهما) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأن العقل معنى يزول التكليف بزواله، فدخل في ديته أرش الطرف، كالروح.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يدخل أحدهما في الآخر) . وهو الأصح؛ لأنها جناية أذهبت منفعة حالة في غير محل الجناية مع بقاء النفس، فلم يتداخل الأرش، كما لو أوضحه وذهب بصره. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: إن كانت الجناية وجبت بها دية كاملة.. لم تدخل إحدى الديتين في الأخرى، قولًا واحدًا؛ لما تقدم من خبر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

[مسألة ما يجب بإزالة الشفتين]
] : وتجب في الشفتين الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الشفتين الدية» . وهو قول أبي بكر،

(11/525)


وعلي، وزيد بن ثابت، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم.
ولأن فيهما جمالًا ومنفعة، أما الجمال: فظاهر، وأما المنفعة: فلأنهما يقومان الكلام، ويمسكان الطعام والريق.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وحد الشفة: ما زاد عن جلد الذقن والخدين من أعلى وأسفل) . ولا فرق بين أن تكونا غليظتين، أو دقيقتين، أو ناتئتين، أو صغيرتين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الشفتين الدية» . ولم يفرق.
فإن قطع إحداهما.. وجب عليه نصف الدية، وبه قال أبو بكر الصديق، وعلي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.
وقال زيد بن ثابت: (إن قطع العليا.. وجب عليه ثلث الدية، وإن قطع السفلى.. وجب عليه ثلثا الدية) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الشفتين الدية» . فأوجب فيهما الدية، والظاهر أنهما متساويان، كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو.
وإن قطع بعض الشفة.. وجب فيه من الدية بقدره.

(11/526)


وإن جنى عليهما، فشلتا، بأن صارتا مسترخيتين لا تنقبضان، أو تقلصتا، بحيث لا تنبسطان ولا تنطبق إحداهما على الأخرى.. وجبت الدية فيهما، كما لو جنى على يديه، فشلتا.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن جنى على شفته حتى صارت بحيث إذا مدها امتدت، وإذا تركها تقلصت.. ففيها حكومة؛ لأنها إذا انبسطت وامتدت إذا مدت.. فلا شلل فيها، بل فيها روح، فلم تصر شلاء، وإنما فيها نقص، فوجبت فيها الحكومة) .
وإن شق شفتيه.. فعليه الحكومة، سواء التأم الشق أو لم يلتئم؛ لأن ذلك جرح، والجروح تجب فيها الحكومة.

[مسألة في اللسان الدية]
] : وتجب في اللسان الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي اللسان الدية» . وهو قول أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولأن فيه جمالًا ومنفعة. أما المنفعة: فإنه يتكلم به، وأما الجمال: «فروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: قلت: يا رسول الله، فيم الجمال؟ قال: " في اللسان» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للعباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أعجبني جمالك يا عم "،

(11/527)


قال: يا رسول الله، وما الجمال في الرجل؟ قال: " اللسان» .
فإن لم يقطع اللسان، ولكن جنى عليه، فخرس وذهب كلامه.. وجبت عليه الدية؛ لأنه أذهب منفعة اللسان، كما لو جنى على يده، فشلت.

[فرع في ذهاب بعض الكلام]
] : فإن ذهب بعض كلامه.. وجب عليه من الدية بقدر ما ذهب من كلامه، وبماذا تعتبر؟ فيه وجهان.
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: تعتبر بجميع حروف المعجم، وهي ثمانية وعشرون حرفًا، ولا اعتبار بـ (لا) ؛ لأنها مكررة، وهي: لام وألف. فإن تعذر عليه النطق بحرف منها.. وجب عليه جزء من ثمانية وعشرين جزءًا من الدية.
و [الثاني] : - على هذا -: قال أبو سعيد الإصطخري: تعتبر بحروف اللسان، وهي ثمانية عشر حرفًا لا غير. ولا تعتبر حروف الحلق، وهي ستة: الهمزة،

(11/528)


والهاء، والحاء، والخاء، والعين، والغين. ولا تعتبر حروف الشفة، وهي أربعة: الباء، والميم، والفاء، والواو؛ لأن الجناية على اللسان، فاعتبرت حروفه دون غيرها. والمنصوص هو الأول؛ لأن هذه الحروف وإن كانت مخارجها من الحلق والشفة، إلا أنه لا ينطق بها إلا باللسان.
إذا ثبت هذا: فإن لم يذهب من كلامه إلا حرف واحد، لكنه تعطل بذهابه جميع الاسم الذي فيه ذلك الحرف، مثل: أن تتعذر الميم لا غير، فصار لا ينطق بـ: محمد.. لم يجب عليه إلا حصة الميم من الدية؛ لأن الجاني إنما يضمن ما أتلفه، فأما ما لم يتلفه بفعله وكان سليمًا إلا أن منفعته تعطلت لتعطل التالف.. فلا يضمنه، كما لو قصم ظهره، فلم تشل رجلاه، إلا أنه لا يمكنه المشي بهما لقصم ظهره.. فلا يلزمه إلا دية قصم ظهره، فكذلك هذا مثله.
وإن جنى عليه، فذهب من كلامه حرف إلا أنه استبدل به حرفًا غيره، بأن ذهب منه الراء، وصار ينطق بالراء لامًا في موضعه.. وجبت عليه دية الراء؛ لأن ما استبدل به لا يقوم مقامه.
فإن جنى عليه آخر، فأذهب هذا الحرف الذي استبدله بالذاهب.. وجب عليه دية ذلك الحرف، لا لأجل أنه أتلف عليه حرفًا قام مقام الأول، ولكن لأجل أن هذا الحرف إذا تلف في هذا الموضع.. تلف في موضعه الذي هو أصله. وإن لم يذهب بجنايته حرف، وإنما كان ألثغ، فزادت لثغته بالجناية، أو كان خفيف اللسان، سهل الكلام، فثقل كلامه، أو حصلت بكلامه عجلة، أو تمتمة.. وجب على الجاني حكومة؛ لأنه أذهب كمالًا من غير منفعة.

(11/529)


[فرع فيمن قطع بعض لسانه]
] : وإن قطع بعض لسانه، فذهب بعض كلامه.. نظرت:
فإن استويا، بأن قطع ربع لسانه، فذهب ربع كلامه.. وجب عليه ربع الدية، وإن قطع نصف لسانه، فذهب نصف كلامه.. وجب عليه نصف الدية؛ لأن الذي فات منهما سواء.
وإن اختلف.. اعتبرت الدية بالأكثر، مثل: أن يقطع ربع اللسان، فيذهب نصف الكلام، فتجب عليه نصف الدية، أو يقطع نصف اللسان، فيذهب ربع الكلام، فيجب عليه نصف الدية، بلا خلاف بين أصحابنا في الحكم، وإنما اختلفوا في علته:
فمنهم من قال: لأن منفعة اللسان - وهو الكلام - مضمونة بالدية، واللسان مضمون بالدية، فإذا اجتمعا.. اعتبر أكثر الأمرين منهما، كما لو جنى على يده، فشلت.. ففيها جميع دية اليد، ولو قطع خنصره وبنصره.. وجب فيهما خمسا دية اليد وإن كانت منفعتهما أقل من خمسي منفعة اليد، ولكن اعتبارًا بأكثر الأمرين من منفعة اليد، وعضوها.
وقال أبو إسحاق: الاعتبار باللسان؛ لأنها هي المباشرة بالجناية، إلا أنه إذا قطع ربع لسانه، فذهب نصف كلامه.. فإنما وجب عليه نصف الدية؛ لأنه دل ذهاب نصف كلامه على شلل ربع آخر منها غير المقطوع.
إذا ثبت هذا: فقطع رجل ربع لسان رجل، فذهب نصف كلامه.. فقد ذكرنا: أنه يجب عليه نصف الدية، فإن جاء آخر، فقطع الثلاثة الأرباع الباقية من لسانه.. فإنه يجب عليه على التعليل الأول ثلاثة أرباع الدية؛ اعتبارًا بما بقي من اللسان، وعلى تعليل أبي إسحاق: يجب عليه نصف الدية وحكومة؛ لأنه قطع نصف لسان صحيحًا، وربعاَ أشل.
وإن قطع رجل نصف لسان رجل، فذهب ربع كلامه.. فقد ذكرنا: أنه يجب عليه نصف الدية، فإن جاء آخر، فقطع ما بقي من اللسان.. وجب عليه على التعليل الأول ثلاثة أرباع الدية؛ اعتبارًا بما بقي من الكلام، وعلى تعليل أبي إسحاق: يجب عليه نصف الدية لا غير؛ اعتبارًا بما بقي من اللسان.

(11/530)


وإن قطع رجل نصف لسان رجل، فذهب نصف كلامه، وقلنا: له أن يقتص منه في نصف اللسان، فاقتص منه، فذهب نصف كلام الجاني.. فقد استوفى المجني عليه حقه، فإن ذهب ربع كلام الجاني.. وجب للمجني عليه ربع الدية، وإن ذهب ثلاثة أرباع كلام الجاني.. لم يجب على المقتص شيء؛ لأن التالف بالقود غير مضمون عندنا.

[فرع قطع أحد طرفي لسان]
] : وإن كان لرجل لسان له طرفان، فقطع قاطع أحدهما.. نظرت:
فإن ذهب كلامه.. وجبت عليه الدية.
وإن ذهب بعض كلامه، فإن كان الطرفان متساويين، فإن كان ما قطعه بقدر ما نقص من الكلام.. وجب فيه من الدية بقدره، وإن كان أحدهما أكبر.. اعتبر الأكبر، على ما مضى في التي قبلها.
وإن لم يذهب من الكلام شيء.. وجب بقدر ما قطع من اللسان من الدية.
وإن قطعهما قاطع.. وجب عليه الدية، وإن كان أحدهما منحرفًا عن سمت اللسان.. فهي خلقة زائدة تجب فيها الحكومة، وفي الأخرى الدية.

[فرع في لسان الأخرس حكومة]
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وفي لسان الأخرس حكومة) . وقال النخعي: تجب فيه الدية.
دليلنا: أن لسان الأخرس قد ذهبت منفعته، فلم تجب فيه الدية، كاليد الشلاء.

(11/531)


وإن قطع لسان طفل، فإن كان قد تكلم ولو بكلمة واحدة، أو قال: بابا أو ماما، أو تكلم في بكائه بالحروف.. وجبت عليه الدية؛ لأنا قد علمنا أنه لسان ناطق.
وإن كان في حد لا يتلكم مثله بحرف، مثل: أن يكون ابن شهر وما أشبهه ولم يتكلم، فقطع قاطع لسانه.. وجبت فيه الدية.
وقال أبو حنيفة: (لا دية فيه؛ لأنه لسان لا كلام فيه، فهو كلسان الأخرس) .
دليلنا أن ظاهره السلامة، وإنما لم يتكلم لطفوليته، فوجبت فيه الدية، كما تجب الدية بأعضائه وإن لم يظهر بها بطش.
وإن بلغ حدًا يتكلم فيه مثله، فلم يتكلم، فقطع قاطع لسانه.. لم تجب عليه الدية، وإنما تجب فيه الحكومة؛ لأن الظاهر من حاله أنه أخرس.

[فرع جنى عليه فذهب ذوقه]
] : وإن جنى عليه، فذهب ذوقه.. قال الشيخ أبو حامد: فلا نص فيه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولكن يجب فيه الدية؛ لأنه أحد الحواس التي تختص بمنفعة، فهو كحاسة السمع والبصر.
وقال القاضي أبو الطيب: قد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (على إيجاب الدية فيه) .
قال ابن الصباغ: قلت أنا: قد نص الشافعي: (على أن لسان الأخرس فيه حكومة وإن كان الذوق يذهب بذهابه) .
واختار الشيخ أبو إسحاق وجوب الدية في الذوق، وقال: إنما تجب في لسان الأخرس الحكومة إذا بقي ذوقه بعد قطع لسانه، فأما إذا لم يبق ذوقه: ففيه الدية.
إذا ثبت هذا: فقال الشيخ أبو إسحاق: إذا لم يحس بالحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة والعذوبة.. وجب على الجاني عليه الدية. وإن لم يحس بواحد منها، أو باثنين.. وجب فيه من الدية بقدره. وإن كان يحس بها، إلا أنه لا يحس بها على الكمال.. وجب في ذلك الحكومة دون الدية.

(11/532)


[فرع أخذ دية ذهاب الكلام ثم عاد]
] : وإن جنى عليه، فذهب كلامه، ثم عاد كلامه.. وجب رد الدية؛ لأنا علمنا أن الكلام لم يذهب.
وإن قطع لسانه، فأخذت منه الدية، ثم نبت له لسان مكانه.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هل يجب رد الدية؟ فيه قولان، كما قلنا في السن.
ومنهم من قال: لا يجب رد الدية، قولًا واحدًا؛ لأن عود السن معهود، وعود اللسان غير معهود، فعلم أنه هبة محددة.

[فرع قطع لهاته]
] : قال في " الأم " [6/106] : (فإن قطع لهاة رجل.. قطعت لهاته. فإن أمكن، وإلا.. وجبت حكومة) . و (اللهاة) : لحم في أصل اللسان.

[مسألة ما يجب في قلع السن]
] : ويجب في السن خمس من الإبل؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في السن خمس من الإبل» . وروى عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي كل سن خمس من الإبل» .
إذا ثبت هذا: فإنه لا فرق بين الثنايا والأضراس والرباعيات، وبه قال علي، وابن عباس، ومعاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.

(11/533)


وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (في الثنايا خمس خمس، وفي الأضراس بعير بعير) .
وقال عطاء: في الثنيتين والرباعيتين والنابين خمس خمس، وفي الباقي بعيران بعيران. وهي الرواية الثانية عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل سن خمس من الإبل» . ولم يفرق.
وروي: أن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان أصيب بأضراسه، فقال: (أنا أعرف بالأضراس من عمر) ، يعني: بمنفعتها. ولأنه جنس ذو عدد، فلم تختلف ديتها، كدية الأصابع.
والسن الذي يجب فيه خمس من الإبل: هو ما ظهر من اللثة، وهو: اللحم الذي ينبت فيه السن؛ لأن المنفعة والجمال في ذلك، كما تجب دية اليد في الأصابع وحدها.
وإن قلع ما ظهر من السن، ثم قلع هو أو غيره (سنخ السن) ، وهو: أصلها النابت في اللحم.. وجب على قالع السنخ الحكومة، كما لو قطع رجل أصابع رجل، ثم قطع هو أو غيره الكف.
وإن قلع السن وسنخها.. وجبت عليه دية سن لا غير؛ لأن السنخ يتبع السن في

(11/534)


الدية إذا قلع معها، كما لو قطع الأصابع مع الكف. فإن ظهر السنخ المغيب بعلة.. اعتبر المكسور من الموضع الذي كان ظاهرًا قبل العلة، لا بما ظهر بالعلة.
فإن اتفقا: أنه كسر القدر الذي كان ظاهرًا قبل العلة.. فعليه خمس من الإبل.
وإن قال الجاني: كسرت بعض الظاهر، فعلي أقل من خمس من الإبل، وقال المجني عليه: بل كسرت كل الظاهر.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به.

[فرع كسر بعض سن]
] : وإن كسر بعض سنه من نصف أو ثلث أو ربع.. وجب عليه من ديتها بقدر ما كسر منها؛ لأن ما وجب في جميعه الدية.. وجب في بعضه بقسطه من الدية، كالأصابع.
فإن قلع قالع ما بقي من السن مع السنخ.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [6/114] : (وجب على الثاني بقدر ما بقي من السن من ديتها، ووجب في السنخ الحكومة؛ لأن السنخ إنما يتبع جميع السن، فأما بعض السن: فلا يتبعها) .
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: وهذا فيه تفصيل: فإن كسر الأول نصف السن في الطول، وبقي النصف، فقلع الثاني الباقي منهما مع السنخ.. وجب نصف دية السن، ويتبعه ما تحته من السنخ في نصف ديته، ووجبت في نصف السنخ الباقي الحكومة، كما لو قطع إصبعين وجميع الكف.. فإنه تجب عليه دية إصبعين، ويتبعهما ما تحتهما من الكف وحكومة في الباقي.
وإن كسر الأول نصف السن في العرض، وقلع الآخر الباقي مع السنخ.. تبعه ما تحته من السنخ، كما لو قطع قاطع من كل إصبع من الكف أنملة، فجاء آخر، فقطع ما بقي من أنامل الأصابع مع الكف.. فإنه يجب عليه أرش ما بقي من الأنامل، ويتبعها الكف، كذلك هذا مثله.

[فرع اضطراب سن لمرض]
] : إذا اضطربت سن رجل لمرض أو كبر، ونقصت منفعتها، فقلعها قالع.. ففيه قولان:

(11/535)


أحدهما: تجب فيه الدية؛ لأن جمالها باق، ومنفعتها باقية، وإنما نقصت منفعتها، ونقصان المنفعة لا يوجب سقوط الدية، كاليد العليلة.
والثاني: لا يجب فيها الدية، وإنما تجب فيها الحكومة؛ لأن معظم منفعتها تذهب بالاضطراب، فصارت كاليد الشلاء.
وإن ضرب سن رجل، فاضطربت، فإن قيل: إنها تستقر إلى مدة.. انتظر إلى تلك المدة، فإن استقرت ولم يذهب شيء من منفعتها.. فلا شيء على الجاني. وإن سقطت.. وجبت عليه ديتها.
فإن قلعها قالع قبل استقرارها.. فهل تجب عليه الدية، أو الحكومة؟ فيه قولان، كما لو قلعها وهي مضطربة بمرض أو كبر.
قال الشيخ أبو حامد: إلا أنا إذا أوجبنا الحكومة هاهنا.. فإنها تكون أقل من الحكومة في التي قبلها؛ لأن المجني عليه لم ينتفع بالاضطراب الحادث من المرض، وهاهنا المجني عليه قد انتفع بالاضطراب الحادث من الجناية الأولى.
وإن قلع رجل سنًا فيها شق أو أكلة، فإن لم يذهب من أجزائها شيء.. وجب فيها دية سن، كاليد المريضة، وإن ذهب من أجزائها شيء.. سقط من ديتها بقدر الذاهب، ووجب الباقي.

[فرع قلع سنه بسنخها]
] : وإن قلع رجل سن رجل بسنخها وأبانها، ثم ردها المجني عليه إلى مكانها، فنبتت وعادت كما كانت.. وجب على الجاني الدية؛ لأن الدية وجبت عليه بإبانته السن، ورده لها لا حكم له؛ لأنه تجب إزالتها، فإن قلعها قالع.. فلا شيء عليه؛ لأنه يجب قلعها.
وإن لم يرد المقلوعة، وإنما رد مكانها عظمًا طاهرًا، أو قطعة ذهب أو فضة، فنبت عليه اللحم، ثم قلعها إنسان.. ففيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد.
أحدهما: لا يجب عليه شيء؛ لأنه أزال ما ليس من بدنه، فلم يجب عليه

(11/536)


شيء، كما لو أعاد سنه المقلوعة، ثم قلعها قالع.
والثاني: يجب عليه حكومة؛ لأنه أبيح له أن يتخذ سنًا من عظم طاهر أو ذهب أو فضة، وقد حصل له في ذلك جمال ومنفعة، وقد أزالها، فلزمه الحكومة لذلك.

[فرع اختلاف السن طولًا وقصرًا]
وإن نبتت أسنان رجل أو أضراسه قصارًا أو طوالا، فقلع رجل بعضها.. وجب في كل سن ديتها. وكذلك: إن كانت أضراسه قصارًا أو ثناياه طوالًا.. وجب في كل سن ديتها؛ لأن العادة أن الأضراس أقصر من الثنايا.
وإن كان بعض الأضراس طوالًا وبعضها قصارًا، أو كان بعض الثنايا طوالًا وبعضها قصارًا، أو بعض الرباعيات طوالًا وبعضها قصارًا.. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن كان النقصان قريبًا.. ففي كل سن ديتها؛ لأن هذا من خلقة الأصل، وإن كان النقصان كثيرًا.. ففيها بقسطها من الدية، فإن كانت القصيرة نصف الطويلة.. وجب فيها نصف دية السن، وإن كانت ثلثيها.. ففيها ثلث ديتها؛ لأن هذا القدر من النقص لا يكون إلا من سبب مرض أو غيره) .

[فرع نبات الأسنان سودًا مرة ثانية]
] : إذا نبتت أسنان الصبي سوداء، فسقطت، ثم نبتت سوداء، فإن كانت كاملة المنفعة غير مضطربة، فقلع قالع بعضها.. ففي كل سن ديتها؛ لأن هذا السواد من أصل الخلقة، فهو كما لو كانت العين عمشاء. من أصل الخلقة.
فأما إذا نبتت أسنانه بيضاء، فسقطت، ثم نبتت سوداء، ثم قلع قالع بعضها.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (سألت أهل الخبرة، فإن قالوا: لا يكون هذا من مرض.. ففيها الحكومة؛ لأنها ناقصة الجمال والمنفعة، وإن قالوا: قد يكون من

(11/537)


مرض وغيره.. وجبت في كل سن ديتها؛ لأن الأصل سلامتها من المرض) .
وإن ضرب رجل سن رجل، فاحمرت أو اصفرت ولم يذهب شيء من منفعتها.. وجبت فيها الحكومة؛ لأنه أذهب جمالًا من غير منفعة، وإن اسودت.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (فيها الحكومة) ، وقال في موضع: (فيها الدية) . فقال المزني: فيها قولان.
وقال سائر أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (تجب فيها الدية) أراد: إذا ذهبت منفعتها.
وحيث قال: (تجب فيها الحكومة) أراد: إذا لم تذهب منفعتها.
وكل موضع قلنا: تجب فيه الحكومة إذا اسودت.. فإنه يجب فيها أكثر من الحكومة إذا احمرت أو اصفرت؛ لأن الشين في السواد أكثر.

[فرع قلع لرجل جميع أسنانه]
] : وإن قلع رجل جميع أسنان رجل، فإن قلعها واحدة بعد واحدة.. وجب عليه لكل سن خمس من الإبل، فيجب عليه مائة وستون بعيرًا؛ لأن الأسنان اثنان وثلاثون سنًا: أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربعة أنياب، وأربعة أضراس، واثنتا عشرة رحًا - وتسمى: الطواحن - وأربعة نواجز، وهي: آخر ما ينبت من الأسنان.
وإذا قلع أسنانه دفعة واحدة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه إلا دية نفس، وهي مائة من الإبل؛ لأن كل جنس من البدن يجب فيه أرش مقدر لم يجب فيه أكثر من دية النفس، كأصابع اليدين والرجلين.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يجب عليه أرش مقدر في كل سن خمس من الإبل) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي كل سن خمس من الإبل» . ولم يفرق. ولأن ما ضمن بأرش مقدر.. لم تنقص ديته بانضمامه إلى غيره في غير النفس، كالموضحة. وما قاله الأول.. يبطل به إذا قطع أصابع يديه ورجليه دفعة واحدة.

(11/538)


[مسألة ما يجب في اللحيين]
] : ويجب في (اللحيين) - وهما: العظمان اللذان ينبت عليهما الأسنان - الدية؛ لأن فيهما منفعة وجمالًا، وفي أحدهما نصف الدية؛ لأن ما وجبت الدية في اثنين منه.. وجب في أحدهما نصفها، كالعينين.
وإن قلع اللحيين وعليهما الأسنان.. فحكى المسعودي [في " الإبانة "] فيه وجهين:
أحدهما: لا يجب عليه إلا دية واحدة، كما لو قطع الأصابع مع الكف.
والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا العراقيين -: أنه يجب في اللحيين الدية، وفي كل سن خمس من الإبل؛ لأن كل واحد منهما يجب فيه دية مقدرة، فلم يدخل أحدهما في الآخر، كدية الأسنان والشفتين، ولأن اللحيين كانا موجودين قبل الأسنان، فلم يتبعا ما حدث عليهما من الأسنان، والكف والأصابع وجدا معًا، فتبع الكف الأصابع.

[مسألة في اليدين الدية]
] : وفي اليدين الدية، وفي إحداهما نصف الدية؛ لما روى معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي اليدين الدية، وفي الرجلين الدية» .
وروى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي اليد خمسون من الإبل، وفي الرجل خمسون من الإبل» . وهو قول عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولأن فيهما جمالًا ومنفعة.

(11/539)


إذا ثبت هذا: فاليد التي تجب فيها الدية هي من مفصل الكوع، فإن قطعها من بعض الساعد، أو من المرفق، أو من المنكب.. وجبت الدية في الكف، وفيما زاد عليه الحكومة.
وقال أبو يوسف: ما زاد على الأصابع إلى المنكب يتبع الأصابع كما يتبعها الكف. وقال أبو عبيد بن حربويه - من أصحابنا -: اليد التي تجب بقطعها الدية هي اليد من المنكب.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] فأمر الله بقطع يد السارق مطلقًا، وقطعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مفصل الكوع، فكان فعله بيانًا للآية؛ لأن المنفعة المقصودة باليد من الأخذ والدفع تحصل بالكف، فوجبت الدية فيه. وإن جنى على كف فشلت.. وجبت عليه ديتها؛ لأنه قد أذهب منفعتها، فهو كما لو قطعها.

[فرع ما يجب في الإصبع]
] : ويجب في كل إصبع من أصابع اليدين عشر من الإبل، ولا يفضل إصبع على إصبع، وبه قال علي، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه روايتان:
إحداهما: مثل قولنا:
والثانية: يجب في الخنصر ست من الإبل، وفي البنصر تسع، وفي الوسطى عشر، وفي السبابة اثنتا عشرة، وفي الإبهام ثلاث عشرة، فقسم دية اليد على الأصابع.

(11/540)


دليلنا: ما روى عمرو بن شعيب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في كل إصبع بعشر من الإبل» .
وروى عمر بن حزم في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل إصبع مما هنالك من اليد والرجل عشر من الإبل» .
وقيل: إن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه لما وجد هذا في الكتاب عند آل حزم.. رجع عن التفصيل. وروي: (أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يقول: في كل إصبع عشر من الإبل، فوجه إليه مروان، وقال له: أما سمعت قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه؟ فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولى من قول عمر) .
ولأن الدية إذا وجبت بعدد.. قسمت عليه على عدده لا على منافعه، كاليدين والرجلين.
ويجب في كل أنملة من الأصابع ثلث دية الإصبع، إلا الإبهام.. فإنه يجب في كل أنملة منها نصف دية الإصبع، وهو قول زيد بن ثابت.
وحكي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أنه قال: (للإبهام أيضًا ثلاث أنامل، إحداهن باطنه) .
دليلنا: أن كل إصبع لها أنملة باطنة، ولا اعتبار بها، وإنما الاعتبار بالأنامل الظاهرة ووجدنا لكل إصبع غير الإبهام ثلاث أنامل، وللإبهام أنملتين، فقسمت الدية عليهما.
وإن جنى على إصبع فشلت، أو على أنملة فشلت.. وجب عليه ديتها؛ لأنه أذهب منفعتها، فهو كما لو قطعها.

(11/541)


[فرع له كفان من كوع ونحوهما]
] : إذا خلق له كفان على كوع أو يدان على مرفق أو منكب، فإن لم يبطش بواحدة منهما.. فهما كاليد الشلاء، فلا يجب فيهما قود ولا دية، وإنما تجب فيهما الحكومة.
وإن كان يبطش بإحداهما دون الأخرى.. فالباطشة هي الأصلية، والأخرى زائدة، سواء كانت الباطشة على مستوى الذراع أو منحرفة عن سمت الذراع؛ لأن الله تعالى جعل البطش في اليد كما جعل البول في الذكر، فاستدل بالبطش على الأصلية، كما استدل على الخنثى بالبول.
وإن كان يبطش بهما، إلا أن إحداهما أكثر بطشا من الأخرى.. فالتي هي أكثر بطشا هي الأصلية، والأخرى خلقة زائدة.
وإن كانا في البطش سواء، فإن كانت إحداهما على مستوى الخلقة، والأخرى زائلة عن المستوى.. فالمستوية هي الأصلية، والزائلة هي الزائدة، وإن كانتا على مستوى الخلقة، فإن كانت إحداهما لها خمس أصابع وللأخرى أربع أصابع.. فالأصلية هي كاملة الأصابع، والأخرى زائدة.
فإن استويا في ذلك كله إلا أن في إحداهما إصبعًا زائدة.. لم يحكم بكونها أصلية بذلك؛ لأن الإصبع الزائدة قد تكون في اليد الأصلية وفي الزائدة، ومتى حكمنا أن إحداهما أصلية والأخرى زائدة.. أوجبنا في الأصلية القود والدية الكاملة، وفي الأخرى الحكومة.
وإن تساويا ولم تعلم الزائدة منهما من الأصلية.. قال الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ: (فهما أكثر من يد وأقل من يدين، فإن قطعهما قاطع.. قطعت يده، ووجب عليه مع القصاص حكومة للزيادة، وإن عفا عن القصاص، أو كانت الجناية خطأ.. وجب على الجاني دية يد وزيادة حكومة. وإن قطع قاطع إحداهما.. لم يجب عليه القصاص؛ لأنه ليس له مثلها، ولكن يجب عليه نصف دية يد وحكومة.. وإن قطع

(11/542)


إصبعًا من إحداهما.. وجب عليه نصف دية إصبع وحكومة. وإن قطع أنملة منهما.. وجب عليه نصف دية أنملة وحكومة) .

[مسألة في الرجلين الدية]
وتجب في الرجلين الدية، وفي إحداهما نصف الدية؛ لما ذكرناه من حديث معاذ، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو قول عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
والرجل التي تجب بقطعها الدية: هي القدم، فإن قطعها من نصف الساق أو من الركبة أو من الورك.. وجب الدية في القدم، والحكومة فيما زاد؛ لما ذكرناه في اليد، ويجب في كل إصبع منها وفي كل أنملة منها ما يجب في أصابع اليد وأناملها؛ لما ذكرناه في اليد.

[فرع فيمن كان له قدمان على كعب]
] : وإن خلق له قدمان على كعب واحد، أو ساقان على ركبة، أو ركبتان على فخذ واحد.. فالحكم فيه كالحكم فيمن خلق له كفان على مفصل، إلا أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال هاهنا: (إذا كان أحد القدمين أطول من الأخرى، وكان يمشي على الطويلة.. فالظاهر أن الأصلية هي الطويلة التي يمشي عليها. فإن قطع قاطع القدم الطويلة.. لم يجب على القاطع في الحال الدية، بل ننظر في المقطوع: فإن لم يمش على القصيرة، أو مشى عليها مشيًا ضعيفًا.. وجبت الدية في الطويلة؛ لأنا علمنا أن الأصلية هي الطويلة، والقصيرة زائدة، فيجب على قاطعها الحكومة.. وإن مشى على القصيرة مشي العادة.. وجب على قاطع الطويلة الحكومة؛ لأنا علمنا أن الأصلي هو القصيرة، وإنما منعه من المشي عليها الطويلة، وإن قطع قاطع القصيرة.. وجبت عليه الدية) .

(11/543)


فإن جنى رجل على الطويلة، فشلت.. وجبت عليه الدية؛ لأنها هي الأصلية في الظاهر، فإن قطعها قاطع بعد الشلل.. وجبت عليه الحكومة، ثم ينظر فيه:
فإن لم يمش على القصيرة، أو مشى عليها مشيًا ضعيفًا.. فقد علمنا أن الأصلية هي الطويلة، واستقر ما أخذه.
وإن مشى على القصيرة مشي العادة.. علمنا أن القصيرة هي الأصلية، فيجب عليه أن يرد على الجاني الأول على الطويلة ما زاد على الحكومة إلى الدية، وإن قطع قاطع القصيرة.. كان عليه الدية.

[فرع في يد الأعسم ورجل الأعرج الدية]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وفي يد الأعسم ورجل الأعرج إذا كانتا سالمتين الدية) .
وجملة ذلك: أنه يجب في يد الأعسم وقدم الأعرج إذا كانتا سالمتين الدية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي اليد خمسون من الإبل، وفي الرجل خمسون من الإبل» . ولم يفرق. ولأن العرج إنما يكون لقصر الساق أو لمرض فيه أو في غيره من الرجل، والقدم سالم بنفسه، فلم تنقص دية القدم لذلك. وأما الأعسم: فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد: هو (الأعسر) : وهو الذي يكون بطشه بيساره أكثر.
وقال ابن الصباغ: (الأعسم) : هو الذي يكون في رسغه مثل الاعوجاج. و (الرسغ) : طرف الذراع مما يلي الكوع. وهو ظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق.

[فرع لا تفاضل بين يسار ويمين]
] : ولا تفضل يمين على يسار في الدية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي اليد خمسون من الإبل، وفي الرجل خمسون من الإبل» . ولم يفرق.

(11/544)


فإن كسر يده، فجبرت، فانجبرت، فإن عادت مستقيمة.. وجبت عليه حكومة للشين، وإن عادت غير مستقيمة.. وجبت عليه الحكومة أكثر مما لو عادت مستقيمة؛ لأنه أحدث بها نقصًا، فإن قال الجاني: أنا أكسرها وأجبرها فتعود مستقيمة.. لم يمكن من ذلك؛ لأن ذلك ابتداء جناية، فإن بادر وكسرها وجبرها، فعادت مستقيمة.. لم يجب رد الحكومة الأولى إليه؛ لأنها استقرت عليه بالانجبار الأول. قال الشيخان: ويجب عليه للكسر الثاني الحكومة.
وقال ابن الصباغ: فيه وجهان، كالجناية إذا اندملت، ولم يكن لها شين.

[مسألة ما يجب في الأليتين]
ويجب في (الأليتين) الدية - وهما: المأكمتان المشرفتان على الظهر إلى الفخذين - لأن فيهما جمالًا ومنفعة، ويجب في إحداهما نصف الدية؛ لأن الدية إذا وجبت في اثنتين.. وجب في إحداهما نصفها، كاليدين.
وإن قطع بعض إحداهما، وعرف قدر المقطوع.. وجب فيه من الدية بقدره، وإن لم يعرف، أو جرحها.. وجبت عليه الحكومة؛ لأن الجرح إذا اندمل.. وجبت فيه الحكومة دون الدية.
ولا فرق بين أليتي الرجل والمرأة في ذلك وإن كان الانتفاع بأليتي المرأة أكثر؛ لأن الدية لا تختلف باختلاف المنفعة، كما قلنا في اليمين واليسار.

[مسألة ما يجب في كسر الصلب]
] : وإن كسر صلبه، فأذهب مشيه.. وجبت فيه الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الصلب الدية» .
وقال زيد بن ثابت: (إذا كسر ظهره، فذهب مشيه.. ففيه الدية) . ولا مخالف له.

(11/545)


ولأن المشي منفعة جليلة، فشابه البصر والسمع.
وإن لم يذهب المشي، وإنما يحتاج في مشيه إلى عكازة.. وجب فيه حكومة، وإن لم يحتج إلى عكازة ولكنه يمشي مشيًا ضعيفًا.. وجبت عليه حكومة أقل من الحكومة الأولى. وإن عاد مشيه كما كان إلا أن ظهره أحدب.. لزمته حكومة للشين الحاصل بذلك.

[فرع ما يجب في ذهاب الجماع]
] : وإن كسر صلبه، فذهب جماعه.. وجبت عليه الدية؛ لأنه روي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم، ولأنه منفعة جليلة، فشابه السمع والبصر.
وإن كسر صلبه، فذهب ماؤه وبعد.. فقد قال القاضي أبو الطيب: الذي يقتضي المذهب: أنه يجب فيه الدية، وهو قول مجاهد؛ لأنه منفعة مقصودة، فوجب في

(11/546)


إذهابه الدية، كالجماع. وإن كسر صلبه، فذهب مشيه وجماعه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه إلا دية واحدة؛ لأنهما منفعتا عضو واحد.
والثاني: تجب عليه ديتان، وهو المنصوص؛ لأنهما منفعتان تجب في كل واحدة منهما الدية عند الانفراد، فوجب في كل واحدة منهما دية عند الاجتماع، كالسمع، والبصر.

[فرع ما يجب في اعوجاج العنق]
] : وإن جنى على عنقه، فأصابه (صعر) -: وهو التواء لا يمكنه أن يحول وجهه - لزمته الحكومة؛ لأنه إذهاب جمال من غير منفعة.
وإن يبس عنقه، فلا يمكنه أن يلتفت يمينًا ولا شمالًا.. ففيه حكومة أقل من الحكومة بالصعر؛ لأن الشين فيه أقل، وإن أمكنه أن يلتفت التفاتًا قليلًا.. لزمته حكومة دون الحكومة إذا لم يمكنه الالتفات أصلًا؛ لأن الضرر في هذا أقل.
وإن جنى على عنقه، فيبست حتى لا يدخل فيها الطعام والشراب.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن هذا لا يعيش، فعلى الجاني إن مات القود أو الدية، وإن لم يمت.. فحكومة) . هذا نقل البغداديين.
وقال الخراسانيون: عليه الدية وإن لم يمت.. وكذلك قالوا: إذا ضرب عنقه، فأذهب منفعة المضغ.. ففيه الدية.

(11/547)


[مسألة في الإحليل الدية]
] : وفي الذكر الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الذكر الدية» . وهو قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، ولا مخالف له. ولأن فيه منفعة وجمالًا، فوجبت فيه الدية. وسواء قطع ذكر صبي أو شيخ أو شاب، أو ذكر خصي أو عنين؛ لعموم الخبر. وإن جنى عليه، فصار أشل، إما منبسطًا لا ينقبض، أو منقبضًا لا ينبسط.. وجبت عليه الدية، كما لو جنى على يد، فشلت.
وإن قطع رجل ذكرًا أشل.. وجبت عليه الحكومة، كما لو قطع يدًا شلاء.
والذكر الذي تجب فيه الدية هو الحشفة؛ لأن منفعة الذكر تذهب بذهابها.
فإن قطع قاطع باقي الذكر.. وجبت عليه الحكومة، كما لو قطع رجل أصابع رجل، ثم قطع آخر كفه.
وإن قطع رجل الحشفة والقضيب.. فقال أصحابنا البغداديون: تجب فيه الدية، ولا يفرد القضيب بالحكومة؛ لأن اسم الذكر يقع على الجميع، فهو كما لو قطع يده من مفصل الكوع. وقال الخراسانيون: هل يفرد القضيب بالحكومة؟ فيه وجهان. وكذلك عندهم إذا قطع المارن مع القصبة، أو قلع السن مع السنخ.. فهل تفرد القصبة عن المارن، والسنخ عن السن بالحكومة؟ فيه وجهان.

[فرع قطع بعض الحشفة]
] : وإن قطع بعض الحشفة.. ففيه قولان:

(11/548)


أحدهما: ينظر كم قدر تلك القطعة من الحشفة بنفسها؟ فيجب فيها من الدية بقدرها من الحشفة؛ لأن الدية تجب بقطع الحشفة وحدها.
والثاني: ينظر كم قدر تلك القطعة من جميع الذكر؟ فيجب فيها من دية الذكر بقدرها؛ لأنه لو قطع جميع الذكر.. لوجبت فيه الدية، فإذا قطع بعضه.. اعتبر المقطوع منه.
وإن قطع رجل قطعة مما دون الحشفة والحشفة باقية.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (نظر فيه: فإن كان البول يخرج على ما كان عليه.. وجب بقدر تلك القطعة من جميع الذكر من الدية. وإن كان البول يخرج من موضع القطع.. وجب عليه أكثر الأمرين من حصة القطعة من الدية من جميع الذكر، أو الحكومة) .
وإن جرح ذكره، فاندمل ولم يشل، فادعى المجني عليه: أنه لا يقدر على الجماع.. لم تجب الدية، وإنما تجب الحكومة؛ لأن الجماع لا يذهب مع سلامة العضو، فإذا لم يقدر عليه.. كان لعلة أخرى في غير الذكر، فلا يلزم الجاني دية الجماع. وإن جرح ذكره، فوصلت الجراحة إلى جوف الذكر.. لم يجب أرش الجائفة، وإنما يجب فيه الحكومة؛ لأنه وإن كان له جوف إلا أنه جوف لا يخاف من الوصول إليه التلف.

[مسألة ما يجب في الخصيتين]
] : ويجب في الأنثيين الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الأنثيين الدية» . وروي ذلك عن عمر، وعلي، وزيد بن ثابت

(11/549)


- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم. ولأن فيهما جمالًا ومنفعة، فهما كاليدين، ويجب في كل واحدة منهما نصف الدية.
وقال ابن المسيب: في اليسرى ثلثا الدية؛ لأن النسل منها، وفي اليمين ثلث الدية؛ لأن الإنبات منها، ومنفعة النسل أكثر.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الأنثيين الدية» . وظاهر هذا: أن الدية مقسطة عليهما بالسوية. وأما قوله: (إن النسل من اليسرى) فلا يصح؛ لأنه روي عن عمرو بن شعيب: أنه قال: عجبت ممن يقول: إن النسل من اليسرى! كان لي غنيمات، فأخصيت، فألقحت. وإن صح.. فإن العضو لا تفضل ديته بزيادة المنفعة، كما لا تفضل اليد اليمنى على اليسرى، وكما لا يفضل الإبهام على الخنصر في الدية.

[فرع قطع القضيب والخصيتين]
] : وإن قطع الذكر والأنثيين معًا، أو قطع الذكر ثم الأنثيين.. وجبت عليه ديتان بلا خلاف.
وإن قطع الأنثيين أولًا، ثم قطع الذكر بعدهما.. وجب عليه ديتان عندنا.

(11/550)


وقال أبو حنيفة: (تجب عليه دية الأنثيين، وحكومة في الذكر؛ لأن بقطع الأنثيين قد ذهبت منفعة الذكر؛ لأن استيلاده قد انقطع) .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الذكر الدية» . ولم يفرق. ولأن كل عضوين لو قطعا معًا.. وجبت فيهما ديتان، فإذا قطع أحدهما بعد الآخر.. وجبت فيهما ديتان، كما لو قطع الذكر، ثم الأنثيين. وما قاله.. لا نسلمه؛ لأن منفعة الذكر باقية؛ لأنه يولجه. وأما الماء: فإن محله في الظهر لا في الذكر.
وقد قيل: إنه بقطع الأنثيين لا ينقطع الماء، وإنما يرق، فلا ينعقد منه الولد.

[مسألة جراحات الرجل والمرأة]
] : قد ذكرنا: أن دية نفس المرأة على النصف من دية الرجل، وأما ما دون النفس: فاختلف الناس فيه:
فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في الجديد إلى: (أن أرشها نصف أرش الرجل في جميع الجراحات والأعضاء) . وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، والليث بن سعد، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال في القديم: (تساوي المرأة الرجل إلى ثلث الدية، فإذا زاد الأرش على ثلث الدية.. كانت على النصف من الرجل) . وبه قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، وربيعة؛ لما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عقل المرأة كعقل الرجل إلى ثلث الدية وهو المأمومة» .

(11/551)


وقال ابن مسعود: (تساوي المرأة الرجل إلى أن يبلغ أرشها خمسًا من الإبل، فإذا بلغ خمسًا.. كانت على النصف من أرش الرجل، فيكون من أرش موضحتها بعيرين ونصفًا) . وبه قال شريح.
وقال زيد بن ثابت: (تساويه إلى أن يبلغ أرشها خمس عشرة من الإبل، فإذا بلغ ذلك.. كانت على النصف) . وبه قال سليمان بن يسار.
وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (تساوي المرأة الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت إلى ثلث الدية.. كانت على النصف) . وبه قال ابن المسيب، ومالك، وأحمد، وإسحاق.

(11/552)


وروي: أن ربيعة الرأي قال: قلت لابن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل، قلت: فكم في إصبعين؟ قال: عشرون، قلت: فكم في ثلاث؟ قال: ثلاثون، قلت: فكم في أربع؟ فقال: عشرون من الإبل، فقلت: لما عظمت مصيبتها قل أرشها؟! قال: هكذا السنة يا ابن أخي.
وقال الحسن البصري: تساوي المرأة الرجل إلى نصف الدية، فإذا بلغت نصف الدية.. كانت على النصف من الرجل.
دليلنا: ما روى عمرو بن حزم: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «دية المرأة على النصف من دية الرجل» . ولم يفرق بين القليل والكثير.
ولأنه جرح له أرش مقدر، فوجب أن يكون في أرشه على النصف من أرش الرجل أصله مع كل طائفة ما وافقتنا عليه.
وأما حديث عمرو بن شعيب، وابن المسيب: فهما مرسلان، وعلى أن قول ابن المسيب: هكذا السنة، يحتمل أن يريد به غير سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

[مسألة دية ثديي المرأة]
] : وتجب في ثديي المرأة الدية؛ لأن فيهما جمالًا ومنفعة، أما الجمال: فظاهر، وأما المنفعة: فإن الصبي يعيش منهما. ولأن الدية إذا وجبت في أذنها وهي أقل منفعة من ثديها.. فلأن تجب في الثدي أولى.
ويجب في أحدهما نصف الدية؛ لأن كل اثنين وجبت الدية فيهما.. وجب في أحدهما نصفها، كاليدين.
والثديان اللذان تجب فيهما الدية هما (الحلمتان) -: وهما رأس الثدي اللتان

(11/553)


يلتقمهما الصبي - لأن الجمال والمنفعة توجد فيهما.
وإن قطع قاطع الحلمتين، ثم قطع آخر باقي الثديين.. وجب على الأول الدية، وعلى الثاني الحكومة، كما لو قطع رجل الأصابع، وقطع آخر بعده الكف.
وقد أوهم المزني أن في الثديين بعد الحلمتين الدية حين قال: وفي الثديين الدية، وفي حلمتهما ديتها. وليس بشيء، وقد بينه في " الأم " [6/114] .
وإن قطع الحلمتين والثديين من أصلهما.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: تجب الدية في الحلمتين والحكومة في الثديين، كما لو قطع الحلمتين، ثم قطع الثديين.
والثاني - وهو قول البغداديين من أصحابنا -: أنه لا يجب عليه إلا دية، كما لو قلع السن مع سنخها.

[فرع فيمن قطع الثدي وأجافه]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن قطع ثديها، فأجافها.. فعليه نصف الدية للثدي، وثلث دية للجائفة، وإن قطع ثدييها، وأجافهما.. فعليه في الثديين كمال الدية، وفي الجائفتين ثلثا الدية؛ لأن كل واحد منهما فيه دية مقدرة إذا انفرد، فإذا اجتمعا.. وجب في كل واحد منهما ديته، كما لو قطع أذنه، فذهب سمعه) .
وإن قطع ثديها وشيئًا من جلد صدرها.. ففي الثدي الدية، وفي الجلد الحكومة.
وإن جنى عليهما، فشلًا.. وجبت فيهما الدية؛ لأن كل عضو وجبت الدية في قطعه، وجبت في شلله، كاليدين، وإن لم يشلا، ولكن استرخيا وكانا ناهدين.. وجبت فيهما الحكومة؛ لأنه نقص جمالهما.

(11/554)


وإن كان لهما لبن، فجنى عليهما، فانقطع لبنهما أو نقص.. وجبت عليه الحكومة؛ لأنه نقص منفعتهما.
وإن جنى عليهما قبل أن ينزل بهما اللبن، فلم ينزل اللبن فيهما في وقته، فإن قال أهل الخبرة: إن انقطاع اللبن لا يكون إلا من الجناية.. وجبت عليه الحكومة، وإن قالوا: قد ينقطع من غير جناية.. لم تجب الحكومة؛ لأنه لا يعلم أن انقطاعه من الجناية.

[فرع ما يجب في قطع الحلمتين للرجل]
] : وإن قطع حلمتي الرجل.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (فيهما الحكومة) ، وقال في موضع آخر: (قد قيل: إن فيهما الدية) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: تجب فيهما الدية؛ لأن كل عضو اشترك فيه الرجل والمرأة، وكانت الدية تجب فيه من المرأة.. وجبت فيه من الرجل، كاليدين، والرجلين.
والثاني: لا تجب فيهما الدية؛ لأنه لا منفعة فيهما من الرجل، وإنما فيهما جمال.
ومنهم من قال: لا تجب فيهما الدية، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه، وما ذكره.. فليس بقول له، وإنما حكى قول غيره.

[فرع وجود الثديين يدل على الأنوثة]
] : وإن كان للخنثى المشكل ثديان، كثدي المرأة.. فهل يكونان دليلًا على أنوثيته؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي الطبري: يكونان دليلًا على أنوثيته؛ لأنهما لا يكونان إلا للمرأة.

(11/555)


و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يكونان دليلًا على أنوثيته؛ لأنهما قد يكونان للرجل.
فإن قطعهما قاطع، فإن قلنا بقول أبي علي.. وجبت على قاطعه دية ثدي امرأة، وإن قلنا بقول عامة أصحابنا.. فإن قلنا: تجب الدية في ثدي الرجل.. وجبت هاهنا دية ثدي امرأة؛ لأنه اليقين، وإن قلنا: لا تجب الدية في ثدي الرجل. لم تجب هاهنا إلا الحكومة.
وإن ضرب ثدي الخنثى وكان ناهدًا، فاسترسل ولم يجعله دليلًا على أنوثيته. قال القاضي أبو الفتوح: لم تجب على الجاني حكومة؛ لأنه ربما كان رجلًا، ولا جمال له فيهما، ولا يلحقه نقص باسترسالهما، فإن بان امرأة.. وجبت عليه الحكومة.
وإن كان للخنثى لبن، فضرب ضارب ثديه، وانقطع لبنه، فإن قلنا بقول أبي علي.. وجبت عليه الحكومة، وإن قلنا بقول عامة أصحابنا.. بني على الوجهين في لبن الرجل، هل يحكم بطهارته، ويثبت التحريم والحرمة بإرضاعه، ويجوز بيعه، ويضمن بالإتلاف؟
فإن قلنا: تثبت هذه الأحكام.. وجبت هاهنا فيه الحكومة.
وإن قلنا: لا تثبت هذه الأحكام.. لم تجب هاهنا الحكومة، ولكن يعزر به الجاني إذا كان عامدًا؛ للتعدي.

[مسألة في الشفرين دية]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وفي إسكتيها - وهما: شفراها جانبا فرجها - إذا أوعبتا.. ديتها) .
وجملة ذلك: أن (الإسكتين) - وهما: اللحمان المحيطان بالفرج كإحاطة الشفتين بالفم، ولم يفصل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بين الإسكتين والشفرين، وأهل اللغة يقولون: الشفران حاشية الإسكتين، كما أن أشفار العينين أهدابهما - فإذا

(11/556)


قطعهما قاطع.. وجبت عليه الدية؛ لأن فيهما جمالًا ومنفعة، أما الجمال: فظاهر، وأما المنفعة: فإن لذة الجماع بهما.
وإن قطع أحدهما.. وجب عليه نصف الدية؛ لأن كل اثنين وجب فيهما الدية.. وجبت في أحدهما نصف الدية، كاليدين، والرجلين.
ولا فرق بين شفري الصغيرة والعجوز، والبكر والثيب، وسواء كانا صغيرين أو كبيرين، رقيقين أو غليظين، كما قلنا في الشفتين، وسواء كانت قرناء أو رتقاء؛ لأن ذلك عيب في غيرهما، وسواء كانت مخفوضة أو غير مخفوضة؛ لأن الخفض لا تعلق له بالشفرين. فإن جنى على شفريها، فشلا.. وجبت عليه الدية؛ لأن كل عضو وجبت الدية بقطعه.. وجبت بشلله، كاليدين. وإن قطع الشفرين و (الركب) - وهو: عانة المرأة التي ينبت عليها الشعر - وجبت الدية في الشفرين، والحكومة في الركب.

[مسألة فيما يجب بالإفضاء]
] : وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن أفضاها ثيبًا.. كان عليه ديتها) .
وجملة ذلك: أنه إذا أراد: وطئ امرأة فأفضاها، أو أفضاها بغير الوطء، وجبت عليه الدية. واختلف أصحابنا في كيفية الإفضاء:

(11/557)


فقال الشيخ أبو حامد: هو أن يجعل مسلك البول ومسلك الذكر واحدًا؛ لأن ما بين القبل والدبر فيه بعد وقوة فلا يرفعه الذكر، ولأنهم فرقوا بين أن يستمسك البول أو لا يستمسك، وهذا إنما يكون إذا انخرق الحاجز بين مسلك البول ومدخل الذكر.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: وهو أن يزيل الحاجز بين الفرج والدبر، وهو قول القاضي أبي الطيب والجويني. قال الشيخ أبو إسحاق: لأن الدية لا تجب إلا بإتلاف منفعة كاملة، ولا يحصل ذلك إلا بإزالة الحاجز بين السبيلين، فأما إزالة الحاجز بين الفرج وثقبة البول: فلا تتلف بها المنفعة، وإنما تنقص بها المنفعة، فلا يجوز أن تجب فيه دية كاملة. وذكر ابن الصباغ له علة أخرى، فقال: لأنه ليس في البدن مثله، ولو كان المراد به ما بين مسلك البول ومسلك الذكر.. لكان له مثل، وهو ما بين القبل والدبر، ولا تجب فيه الدية.
فإن أفضاها واسترسل البول ولم يستمسك.. وجب عليه مع دية الإفضاء حكومة للشين الحاصل باسترسال البول.
إذا ثبت هذا: فلا تخلو المرأة المفضاة: إما أن تكون زوجته، أو أجنبية أكرهها على الوطء، أو وطئها بشبهة.
فإن كانت زوجته، فوطئها وأفضاها، فإن كان البول مستمسكًا.. فقد استقر عليه المهر بالوطء، ووجبت عليه دية الإفضاء، وإن أفضاها بالوطء واسترسل البول.. وجب عليه المهر، ودية الإفضاء، والحكومة؛ لاسترسال البول.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب عليه دية الإفضاء، وإنما عليه المهر فقط) .
دليلنا: أنها جناية وقعت بالوطء، فلم يسقط حكمها باستحقاق الوطء، كما لو وطئها وقطع ثديها أو شجها.
وإن كانت أجنبية، فأكرهها على الوطء وأفضاها.. وجب عليه المهر، ودية الإفضاء، وإن استرسل البول.. وجب عليه الحكومة مع دية الإفضاء.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب المهر، وأما الإفضاء: فإن كان البول لا يحتبس..

(11/558)


فعليه دية، وإن كان البول يحتبس.. فعليه ثلث دية) . وبه قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما.
دليلنا على إيجاب المهر: أنه وطء في غير ملك لا حد فيه على الموطوءة، فوجب عليه المهر، كما لو وطئها بشبهة.
وعلى إيجاب الدية: أنه إفضاء مضمون، فوجبت فيه الدية، كما لو لم يحتبس البول. فقولنا: (مضمون) احتراز منه إذا وطئ أمته، فأفضاها.
إذا ثبت هذا: فإن كانت ثيبا.. وجب عليه مهر ثيب، وإن كانت بكرًا.. وجب عليه المهر والدية، ويدخل أرش البكارة في الدية.
ومن أصحابنا من قال: لا يدخل أرش البكارة، كما لو أكره بكرًا، فوطئها وافتضها.. فإن أرش البكارة لا يدخل في المهر.
المذهب الأول: لأن الدية تجب بإتلاف عضو، وأرش البكارة بإتلاف العضو، فتداخلا، والمهر يجب بغير ما تجب به الدية، وهو الوطء، فلم يتداخلا.
وإن وطئها بشبهة أو في عقد فاسد وأفضاها.. وجب عليه المهر والدية، فإن كان البول مسترسلًا.. وجبت عليه الحكومة مع الدية. وإن كانت بكرًا.. فهل يدخل أرش البكارة في الدية؟ على وجهين، كما لو أكرهها.
وقال أبو حنيفة: (إن كان البول مسترسلًا.. وجبت الدية، ودخل فيها المهر، وإن كان البول مستمسكًا.. وجب المهر وثلث الدية) .
دليلنا: أن هذه جناية ينفك الوطء عنها، فلم يدخل بدله فيها، كما لو وطئها، فكسر صدرها. وإن طاوعته على الزنا، فأفضاها.. فلا مهر لها، وعليه دية الإفضاء، وإن كانت بكرًا.. لم يجب لها أرش البكارة؛ لأنها أذنت في إتلافها.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب له دية الإفضاء؛ لأنه تولد من مأذون فيه، وهو الوطء، فهو بمنزلة إذهاب البكارة) .

(11/559)


ودليلنا: أن الإفضاء ينفك عنه الوطء، فكان مضمونًا مع الإذن في الوطء، ككسر الصدر. ويخالف إذهاب البكارة، فإنه لا ينفك عن الوطء.

[فرع إفضاء الخنثى]
] : وإن افضى الخنثى المشكل.. قال القاضي أبو الفتوح: فإن قلنا: إن الإفضاء ما ذكره الشيخ أبو حامد.. لم تجب الدية؛ لأنه ليس بفرج أصلي، وإنما تجب الحكومة إن وجد في فرج الخنثى المشكل المسلكان، وإن لم يوجد فيه إلا مسلك البول.. فلا يتصور فيه الإفضاء على هذا. وإن قلنا: إن الإفضاء ما ذكره القاضي أبو الطيب.. فعلى تعليل ابن الصباغ - حيث قال: لأنه ليس في البدن مثله - تجب هاهنا دية الإفضاء. وعلى تعليل الشيخ أبي إسحاق - حيث قال: لا تجب الدية إلا بإتلاف منفعة كاملة - فلا تجب الدية بإفضاء الخنثى، وإنما تجب الحكومة.
وإن افتض البكارة من فرج الخنثى المشكل.. قال القاضي أبو الفتوح: فإن الحكومة تجب، ولكن لا بموجب حكومة البكارة، وإنما بموجب حكومة جراح وأرش جناية وألم؛ لأن البكارة لا تكون إلا في الفرج الأصلي.

[فرع يكون العمد بالإفضاء]
] : وكل موضع قلنا: تجب الدية بالإفضاء، فإن العمد المحض يتصور في الإفضاء، وهو: أن يطأها صغيرة أو ضعيفة، الغالب إفضاؤها، فتجب الدية مغلظة في ماله، ويتصور فيه عمد الخطأ، مثل: أن يقال: قد يفضيها وقد لا يفضيها، والغالب أنه لا يفضيها، فإن أفضاها.. فهو عمد خطأ، فتجب فيه دية مغلظة على عاقلته، وهل يتصور فيه الخطأ المحض بالوطء؟ فيه وجان:
أحدهما: أنه يتصور، مثل: أن يقال: لا يفضي بحال، فأفضاها، أو كان له زوجة قد تكرر وطؤه لها، فوجد امرأة على فراشه، فظنها زوجته، فوطئها،

(11/560)


فأفضاها، فيكون خطأ محضًا، كما لو رمى هدفًا فأصاب إنسانًا، فتجب فيه دية مخففة على العاقلة.
والثاني: لا يتصور فيه الخطأ المحض؛ لأنه يكون قاصدًا إلى الفعل بكل حال.

[مسألة لا قصاص في الشعور ولا دية]
] : وأما الشعور: فلا يجب فيه قصاص ولا دية، وبه قال أبو بكر الصديق، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وقال أبو حنيفة: (تجب في شعر الرأس الدية، وفي شعر الحاجبين الدية، وفي أهداب العينين الدية، وفي اللحية الدية، وهو إذا لم تنبت هذه الشعور بعد حلقها؛ لما روي: أن رجلًا أفرغ على رجل قدرًا، فتمعط شعره، فأتى عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فقال له: اصبر سنة، فصبر سنة، فلم ينبت شعره، فقضى فيه بالدية) .
ودليلنا: أنه إتلاف شعر، فلم يكن فيه أرش مقدر، كشعر الشارب والصدر.
وما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.. يعارضه ما روي عن أبي بكر الصديق، وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أنهما لم يوجبا الدية.
إذا ثبت هذا: فإنه إذا حلق شعر رجل، أو طرح عليه شيئًا فتمعط، فإن نبت كما

(11/561)


كان من غير زيادة ولا نقصان.. لم يجب على الجاني شيء، كما لو قلع سن صغير، ثم نبت.
وإن لم ينبت أصلًا، وأيس من نباته.. وجبت فيه حكومة؛ للشين الحاصل بذهابه، وتختلف الحكومة باختلاف الجمال في ذلك الشعر. وإن نبت الشعر، إلا أنه أقل من الأول.. ففيه حكومة، وإن كان الثاني أحسن من الأول؛ لأنه بعضه.
وإن نبت أكثر مما كان، وكان فيه قبح.. وجبت فيه الحكومة؛ لأن فيه شينًا.

[فرع أزال لحية امرأة]
] : وإن نبت للمرأة لحية، فحلقها حالق، فلم تنبت.. فهل تجب فيها الحكومة؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي العباس ابن سريج -: أنه لا حكومة فيها؛ لأن بقاء اللحية في حقها شين، وزوالها في حقها زين.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يجب فيها الحكومة) ؛ لأن ما ضمن من الرجل.. ضمن من المرأة، كسائر الأعضاء، قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إلا أن الحكومة فيها أقل من الحكومة في لحية الرجل؛ لأن للرجل جمالًا بها، ولا جمال في اللحية للمرأة، وإنما الحكومة للألم والعدوان) .
وإذا ثبت هذا: فإن نبت للخنثى المشكل لحية.. فهل يكون دليلًا على ذكوريته؟ فهي وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي الطبري: تكون دليلًا على ذكوريته. فعلى هذا: إذا نتفها رجل ولم تنبت.. كان عليه حكومة، كالحكومة في لحية الرجل.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا تكون دليلًا على ذكوريته. فعلى هذا: إذا نتفها رجل ولم تنبت.. كان في وجوب الحكومة فيها وجهان، كلحية المرأة.

(11/562)


[مسألة ما يجب في الترقوة والضلع]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وفي الترقوة جمل، وفي الضلع جمل) ، وقال في موضع: (تجب في كل واحد منهما حكومة) . واختلف أصحابنا فيهما:
فذهب المزني، وبعض أصحابنا إلى: أن فيهما قولين:
أحدهما: يجب في كل واحد منهما أرش مقدر، وهو جمل، وبه قال أحمد، وإسحاق؛ لما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قضى في الترقوة بجمل، وفي الضلع بجمل) .
والثاني: لا يجب فيهما أرش مقدر، وإنما تجب فيهما حكومة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، واختاره المزني، وهو الأصح؛ لأنه كسر عظم باطن لا يختص بجمال ومنفعة، فلم يجب فيه أرش مقدر، كسائر عظام البدن. وما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.. فيحتمل أنه قضى بذلك على سبيل الحكومة.
ومنهم من قال: لا يجب فيه أرش مقدر، وإنما تجب الحكومة، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه.
إذا ثبت هذا: فإن الضلع معروف، وأما (الترقوة) : فهي العظم المدور من النحر إلى الكتف. وللإنسان ترقوتان، الواحدة: ترقوة - بفتح التاء - على وزن: فعلوة. وقيل: ليس في كلام العرب على هذا الوزن إلا ترقوة. و (عرقوة الدلو) : وهي العود المعترض فيه.

(11/563)


[مسألة يعزر الجاني إذ لم يكسر ولم يضيع منفعة أو جمالًا]
] : فإذا جنى على رجل جناية لم يحصل بها جرح ولا كسر ولا إتلاف حاسة، بأن لطمه الجاني، أو لكمه، أو ضربه بخشبة، فلم يجرح ولم يكسر.. نظرت:
فإن لم يحصل به أثر، أو حصل به سواد أو خضرة ثم زال.. لم يجب على الجاني أرش؛ لأنه لم ينقص شيئًا من جماله ولا من منفعته، ويعزر الجاني لتعديه.
وإن اسود موضع الضرب أو اخضر أو احمر.. ينظر إلى الوقت الذي يزول مثل ذلك في العادة، فإن لم يزل.. وجبت على الجاني الحكومة؛ لأن في ذلك شينًا، فإن أخذت منه الحكومة، ثم زال ذلك الشين.. وجب رد الحكومة، كما لو كان ابيضت عينه، فأخذ أرشها، ثم زال البياض.
وإن جنى على حر جناية نقص بها جمال أو منفعة ولا أرش لها مقدر.. فقد ذكرنا: أنه تجب فيها الحكومة.
وكيفية ذلك: أن يقوم هذا المجني عليه لو كان عبدًا قبل الجناية، ثم يقوم بعد اندمال الجناية، فإن بقي للجناية شين ونقصت قيمته به.. وجب على الجاني من الدية بقدر ما نقص من القيمة، وإن نقص العشر من قيمته.. وجب العشر من ديته، وإن نقص التسع من قيمته.. وجب التسع من ديته؛ لأنه لما اعتبر العبد بالحر في الجنايات التي لها أرش مقدر.. اعتبر الحر بالعبد في الجنايات التي ليس لها أرش مقدر، ولأن جملته جملة مضمونة بالدية، فكانت أجزاؤه مضمونة بجزء من الدية، كما أن المبيع لما كان مضمونًا على البائع بالثمن.. كان أرش العيب الموجود فيه مضمونًا بجزء من الثمن، ولا سبيل إلى معرفة ما ليس فيه أرش مقدر إلا بالتقويم، كما أنه لا يعلم أرش المبيع إلا من جهة التقويم.
وحكى الشيخ أبو إسحاق: أن من أصحابنا من قال: يعتبر ما نقص من القيمة من دية العضو المجني عليه، لا من دية النفس، فإن كان الذي نقص هو عشر القيمة، والجناية على اليد.. وجب عشر دية اليد، وإن كان على الإصبع.. وجب عشر دية

(11/564)


الإصبع، وإن كان على الرأس أو الوجه فيما دون الموضحة.. وجب عشر دية الموضحة، وإن كان على البدن فيما دون الجائفة.. وجب عشر دية الجائفة.
والمذهب الأول؛ لأنه لما وجب تقويم النفس.. اعتبر النقص من ديتها، ولأن القيمة قد تنقص بالسمحاق عشر القيمة، فإذا أوجبنا عشر أرش الموضحة.. تقاربت الجنايتان، وتباعد الأرشان.
إذا ثبت هذا: فإنه لا يبلغ بالحكومة أرش العضو المجني عليه، فإن كانت الجناية على الإصبع، فبلغت حكومتها دية الإصبع، أو على البدن مما دون الجائفة، فبلغت الحكومة أرش الجائفة.. نقص الحاكم من الحكومة شيئًا بقدر ما يؤديه إليه اجتهاده؛ لأنه لا يجوز أن تجب فيما دون الإصبع ديتها، ولا فيما دون الجائفة ديتها.
وإن قطع كفًا لا إصبع له.. ففيه وجهان حكاهما الخراسانيون.
أحدهما: لا يبلغ بحكومته دية إصبع.
والثاني: لا يبلغ بحكومته دية خمس أصابع.

[فرع يؤخذ بالأكثر من الشين أو الجراح]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن جرحه، فشان وجهه أو رأسه شينًا يبقى، فإن كان الشين أكثر من الجراح.. أخذ بالشين، وإن كان الجراح أكثر من الشين.. أخذ بالجراح ولم يرد للشين) .
وجملة ذلك: أنه إذا شجه في رأسه أو وجهه شجة دون الموضحة، فإن علم قدرها من الموضحة.. وجب بقدرها من أرش الموضحة، وإن اختلف قدرها من الموضحة والحكومة.. وجب أكثرهما، وقد مضى بيان ذلك ولا تبلغ الحكومة فيما دون الموضحة أرش الموضحة.
وإن كانت الموضحة على الحاجب فأزالته، وكان الشين أكثر من أرش

(11/565)


الموضحة.. وجب ذلك؛ لأن الحاجب تجب بإزالته حكومة، فإذا انضم إلى ذلك الإيضاح.. لم ينقص عن حكومته.

[فرع زال العيب أو بقي أثر لا تنقص به القيمة]
] : وإن لم يبق للجناية شين بعد الاندمال، أو بقي لها شين لم تنقص به القيمة.. فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: لا تجب فيها الحكومة؛ لأن الحكومة إنما تجب لنقص القيمة، ولم تنقص به القيمة، فلم تجب الحكومة، كما لو لطمه، فاسود الموضع، ثم زال السواد.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: تجب عليه الحكومة، وهو المنصوص؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (وإن نتف لحية امرأة أو شاربها.. فعليه الحكومة أقل من حكومة في لحية الرجل؛ لأن الرجل له فيها جمال، ولا جمال للمرأة فيها، ولأن جملة الآدمي مضمونة، فإذا أتلف جزءًا منها.. وجب أن يكون مضمونًا، كسائر الأعيان) .
فإذا قلنا بهذا: فإنه يقوم في أقرب أحواله إلى الاندمال؛ لأنه لا بد أن ينقص، فإن لم ينقص منه.. قوم قبله، فإن لم ينقص.. قوم والدم جار، كما قلنا في ولد الأمة إذا غر رجل بحريتها: أنه يقوم حالة الوضع؛ لأنه أول حالة إمكان تقويمه.
وإن نتف لحية امرأة وأعدمها النبات.. قال أبو إسحاق المروزي: اعتبرتها بعبد كبير، فأقول: هذا العبد الكبير كم قيمته وله مثل هذه اللحية؟ فإن قيل: مائة.. فكم قيمته ولا لحية له؟ فإن قيل: تسعون.. وجب على الجاني عشر دية المرأة. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: يجب ما رآه الحاكم باجتهاده.
وإن قطع أنملة لها طرفان.. فإنه يجب في الطرف الأصلي ديته، ويجب في الزائدة حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده، ولا يبلغ به أرش الأصلي. هذا نقل أصحابنا

(11/566)


البغداديين. وقال الخراسانيون: إذا قطع إصبعًا زائدة.. فيه وجهان:
أحدهما: يجب ما رآه الحاكم باجتهاده.
والثاني: يقال: كم ينقص من قيمة العبد وقت الجناية؟
وإن قلع سنًا زائدًا - وهو: الخارج عن سمت الأسنان ومن ورائه إلى داخل الفم سن أصلية - فلم ينقص قيمته بقلعها.. فإنه يقال: لو كان هذا عبدًا.. كم كانت قيمته وله هذا السن الزائدة وليس له ما وراءه من السن الأصلي؛ لأن الزائد يسد الفرجة إذا لم يكن له السن الأصلية؟ فإن قيل: مائة.. قيل: فكم قيمته وليس له السن الزائد ولا الأصلي الذي من ورائه؟ فإن قيل: تسعون.. علم أنه نقص عشر قيمته، فيجب له عشر الدية.

[فرع كسر عظمًا فانجبر وعاد كما كان]
] : وإن كسر له عظمًا في غير الرأس والوجه، فجبره، فانجبر، فإن عاد مستقيمًا كما كان.. فقد قال القاضي أبو الطيب: هل تجب فيه الحكومة؟ فيه وجهان، كما قلنا فيه إذا جرحه جراحة لا أرش لها مقدر، واندملت ولم يبق لها شين.
وقال الشيخ أبو حامد: تجب الحكومة، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا بد أن يبقى في العظم بعد كسره وانجباره ضعف.
قال ابن الصباغ: والأول أصح.
وإن انجبر وبقي له شين.. وجبت فيه الحكومة أكثر مما لو عاد مستقيمًا.
وإن انجبر وبقي معوجًا.. وجبت فيه الحكومة أكثر من الحكومة إذا بقي الشين من غير اعوجاج.

[فرع أفضى امرأة بعد جرحها فعليه حكومة]
] : وإن أفضى امرأة، ثم التأم الجرح.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لم تجب الدية، ووجبت الحكومة) .

(11/567)


وإن أجافه جائفة، فالتأمت الجائفة.. ففيه وجهان، حكاهما أبو علي في " الإفصاح ":
أحدهما: لا يجب أرش الجائفة، وإنما تجب الحكومة، كما قلنا فيه إذا أفضى امرأة، والتأم الجرح.
والثاني - وهو اختيار القاضي أبي الطيب، ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غيره -: أن أرش الجائفة يجب؛ لأن أرش الجائفة إنما وجب لوجود اسمها، فلم يسقط بالالتئام، كأرش الموضحة والهاشمة.
ودية الإفضاء إنما وجبت لإزالة الحاجز، فإذا عاد الحاجز.. لم تجب الدية، كما لو ذهب ضوء العين، ثم عاد.

[فرع فزع شخصًا فأحدث في ثيابه]
] : فإن فزع إنسانًا، فأحدث في الثياب.. لم يلزمه ضمان؛ لأنه لم يحدث نقصًا في جمال ولا منفعة.

[مسألة في قتل القن وجوب قيمته]
] : وإن قتل حر عبدًا أو أمة لغيره.. وجبت عليه قيمته، سواء بلغت دية حر أو أكثر، وسواء قتله عمدًا، أو خطأ، أو عمد خطأ، وسواء ضمنه باليد أو بالجناية، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (إن كانت قيمته دون دية الحر.. وجبت، وإن كانت مثلها أو أكثر منها.. نقصت عن دية الحر عشرة دراهم. وإن كانت أمة، فبلغت قيمتها دية حرة.. نقصت عشرة دراهم - في إحدى الروايتين، وفي الأخرى: خمسة دراهم - هذا إذا ضمنه بالجناية، وإن ضمنه باليد، بأن يغصب عبدًا، فيموت في يده.. ضمنه بقيمته بالغة ما بلغت) . كقولنا.
دليلنا: أنه مضمون بالإتلاف؛ لحق الآدمي بغير جنسه، فضمن بقيمته بالغة ما بلغت، كسائر الأموال.

(11/568)


فقولنا: (بالإتلاف) احتراز مما لو غصب عبدًا وهو باق في يده؛ فإنه مضمون يَردُّهُ. وقولنا: (لحق الآدمي) احتراز من الكفارة، ومن جزاء الصيد الذي له مثل. وقولنا: (من غير جنسه) احتراز ممن غصب شيئًا من ذوات الأمثال وتلف أو أتلفه.

[فرع يضمن من القن ما يضمن من الحر]
] : وأما ما دون النفس من العبد: فهو معتبر بالحر، فكل شيء وجب فيه من الحر الدية.. وجب فيه من العبد قيمته، وكل شيء مضمون من الحر بحر، ومقدر من الدية.. ضمن من العبد بمثل ذلك الجزء من قيمته، وكل شيء ضمن من الحر بالحكومة. ضمن من العبد بما نقص من قيمته، وبه قال عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، وابن المسيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعن أبي حنيفة روايتان:
إحداهما: كقولنا.
والثانية: ما لا منفعة فيه، كالأذنين، واللحية، والحاجبين.. فإن فيه ما نقص من قيمته. ونحن نوافقه على الحاجبين في العبد، إلا أنه يخالفنا في الحاجبين من الحر.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يضمن بما نقص من قيمته إلا الموضحة والمنقلة والمأمومة والجائفة، فإنه يضمن بجزء من قيمته) .
وقال محمد بن الحسن: يضمن جميع أطرافه وجراحاته بما نقص من قيمته. وحكاه أصحابنا الخراسانيون قولًا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وليس بمشهور.
والدليل على صحة ما قلناه: أنه قول عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فدل على: أنه إجماع.

(11/569)


ولأنه حيوان يضمن بالقصاص والكفارة، فكانت أطرافه وجراحاته مضمونة ببدل مقدر من بدله، كالحر.

[فرع قتل وجناية عبد على قن]
] : وإن قتل عبد عبدًا عمدًا.. فقد ذكرنا: أن لسيده أن يقتص منه؛ لأنه مساو له، فإن عفا عنه على مال، أو كانت الجناية خطأ أو عمد خطأ.. تعلق الأرش برقبة الجاني، ولا شيء على سيده، فيكون سيده بالخيار: بين أن يسلمه ليباع، أو يفديه. فإن سلمه للبيع، فبيع.. نظرت:
فإن كان ثمنه أكثر من أرش الجناية.. كان الفضل لسيده.
وإن كان الأرش أكثر.. لم يجب على سيد الجاني الزيادة؛ لأنه ليس عليه أكثر من تسليم عبده.
وإن اختار أن يفديه، فإن كانت قيمة القاتل مثل قيمة المقتول أو أكثر.. فداه بقيمة المقتول، وإن كانت قيمة المقتول أكثر.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه إلا قدر قيمة القاتل؛ لأنه إنما يفدي رقبته، فلم يلزمه أكثر من قيمتها.
والثاني: يلزمه قيمة المقتول بالغة ما بلغت، أو يسلم عبده للبيع؛ لأنه ربما رغب من يشتري عبده بأكثر من قيمته.

[فرع قتل جماعة عبيد عبدًا]
] : وإن قتل عشرة أعبد عبدًا لرجل عمدًا.. فسيد المقتول بالخيار: بين أن يقتل جميع العبيد، أو يعفو عنهم. فإن قتلهم.. فلا كلام، وإن عفا عنهم.. تعلق برقبة كل واحد منهم عشر قيمة المقتول. وإن قتل بعضهم، وعفا عن بعضهم.. جاز، وتعلق برقبة كل واحد ممن عفا عنه عشر قيمة المقتول.
وإن قتل عبد لرجل عبدين لرجلين، لكل واحد منهما عبد، عمدًا.. ثبت لهما القصاص عليه، فيقتل بالأول منهما، فإذا قتل به.. سقط حق سيد العبد المقتول

(11/570)


ثانيًا، وإن عفا سيد العبد المقتول أولًا عن القصاص على مال.. تعلق برقبة القاتل قيمة العبد المقتول أولًا، ولسيد العبد المقتول ثانيًا أن يقتص منه؛ لأن تعلق المال برقبته لا يمنع من وجوب القصاص عليه، كما لو قتل العبد المرهون غيره.
وإن عفا سيد العبد المقتول ثانيًا عن القصاص، أو كانت الجنايتان خطأ.. تعلق برقبة العبد الجاني قيمة العبدين، فيباع، فإن اتسع ثمنه لقيمتهما، وإلا.. قسم بينهما على قدر قيمتهما. ولا يقدم سيد العبد المقتول أولًا كما يقدم في القصاص؛ لأن القصاص لا يتبعض، والمال يتبعض، فهو كما لو أتلف على جماعة أموالًا.
وإن قتلهما معًا عمدًا.. أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. كان كما لو جنى عليه أولًا. وإن عفوا على مال، أو كانت الجنايتان خطأ.. تعلقت قيمة المقتولين برقبة العبد القاتل.

[فرع قتل قن عبدًا لرجلين]
] : وإن قتل عبد لرجل عبدًا لرجلين عمدًا.. ثبت لهما القصاص، فإن عفوا، أو عفا أحدهما.. سقط القصاص، وحكم المال في العفو قد مضى.
وإن قتل عبد مكاتبًا.. وجب القصاص.
وقال أبو حنيفة: (إن خلف وفاء وله وارث غير المولى.. لم يجب القصاص) .
دليلنا: أنه لو كان قنًا.. لوجب له القصاص، كما لو لم يخلف وفاء.

[مسألة قطع حر يد عبد فأعتق]
] : وإن قطع حر يد عبد وأعتق العبد، ثم مات من القطع.. لم يجب القصاص؛ لأنه غير مكافئ له في حال الجناية، ويجب فيه دية حر؛ لأن الاعتبار بالأرش حال استقرار الجناية، وهو حر حال الاستقرار. ويجب للسيد من ذلك أقل الأمرين من نصف القيمة أو جميع الدية؛ لأن نصف القيمة إن كان أقل.. لم يجب للسيد أكثر

(11/571)


منها؛ لأنها هي التي وجبت له في ملكه، وإن كانت الدية أقل.. لم يجب للسيد أكثر منها؛ لأن نصف القيمة نقصت بفعل السيد، وهو إعتاقه للعبد. وهكذا ذكر أصحابنا. وذكر القاضي أبو الطيب فيه قولين:
أحدهما: هذا.
والثاني: له أقل الأمرين من جميع قيمته أو جميع ديته. وقال: إن أوضحه رجل، ثم أعتق أو مات.. وجب فيه دية حر، وكم للمولى منها؟ فيه قولان:
أحدهما: الأقل من نصف عشر قيمته، أو جميع ديته.
والثاني: الأقل من جميع قيمته أو جميع ديته. والطريق الأول هو المشهور.

[فرع قطع حر لعبد عضوين فيهما الدية]
] : وإن قطع رجل يدي عبد أو رجليه، أو فقأ عينيه، وقيمته مثل قيمة ديتين.. نظرت: فإن مات من الجناية قبل الاندمال والعتق.. وجبت قيمته.
وإن اندملت الجناية أو عتق، ثم مات.. وجبت قيمته لسيده، سواء اندملت الجناية قبل العتق أو أعتق قبل الاندمال. وهكذا: إن اندملت الجناية ولم يعتق؛ لأن الجناية استقرت بالاندمال. وإن أعتق ومات من الجناية.. لم تجب فيه إلا دية حر.
وقال المزني: تجب قيمته؛ لأنها وجبت بالجناية. وهذا خطأ؛ لأن الاعتبار بالأرش حال الاستقرار، وحال الاستقرار بالجناية هو حر، كما لو كانت قيمته دون الدية، فقطعت يده وأعتق، ثم مات.. فإن الواجب فيه دية حر، وتجب الدية هاهنا للسيد؛ لأنها وجبت في ملكه، وإنما نقصت بإعتاقه.
وإن قطع رجل يد عبد، ثم جاء آخر فقطع يده الأخرى، ومات من الجنايتين.. فإنه يجب على الأول نصف قيمته سليما؛ لأنه قطعه وهو سليم، ويجب على الثاني نصف قيمته مجروحا؛ لأنه جرحه وهو مجروح، فيكون على الأول أكثر.

[فرع قطع حر يد عبد فأعتق ثم قطع الأخرى رجل فمات]
] : وإن قطع حر يد عبد، فأعتق، ثم قطع آخر يده الأخرى، ومات من الجنايتين..

(11/572)


لم يجب على الأول قصاص في الطرف ولا في النفس؛ لأنه غير مكافئ له في حال الجناية، وعليه نصف الدية؛ لأن المجني عليه حر وقت استقرار الدية، وأما الثاني: فيجب عليه القصاص في الطرف؛ لأنه مكافئ له وقت الجناية، وهل يجب عليه القصاص في النفس؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو الطيب بن سلمة: لا يجب عليه القصاص في النفس؛ لأن الروح خرجت من سراية جنايتين: إحداهما توجب القصاص، والأخرى لا توجبه، فلم يجب القصاص، كحرين قتلا من نصفه حر ونصفه عبد.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يجب عليه القصاص في النفس؛ لأنه مكافئ له حال الجناية، وإنما سقط القصاص عن شريكه لمعنى يختص به، فلم يسقط القصاص عنه، كما لو قتل عبد وحر عبدًا. فإن عفا عنه عن القصاص إلى المال، أو كانت الجنايتان أو إحداهما خطأ.. وجب على الجانيين دية حر، على كل واحد منهما نصفها؛ لأن الاعتبار بالأرش حال الاستقرار، ويكون للسيد أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية؛ لأن نصف القيمة إن كانت أقل.. فهو الذي وجب في ملكه، والزيادة حصلت بالحرية، لا حق له فيها، ويكون الباقي من الدية لورثة المقتول، وإن كان نصف الدية أقل.. لم يجب له أكثر منه؛ لأن نصف القيمة نقصت بإعتاقه، ويكون النصف الثاني لورثة المقتول.
فإن قطع حر يد عبد، فأعتق العبد، ثم قطع آخر يده الأخرى، ثم قطع آخر رجله، ومات من الجنايات.. لم يجب على الأول قصاص في الطرف ولا في النفس، وأما الآخران: فيجب عليهما القصاص في الطرفين، وهل يجب عليهما القصاص في النفس؟ على الوجهين.
فإن عفا عنهما عن القصاص على مال، أو كانت الجنايات أو بعضها خطأ.. وجب فيه دية حر، وكم يستحق المولى؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه يستحق أقل الأمرين من أرش الجناية، وهو: نصف القيمة هاهنا، أو ما يجب على الجاني في ملكه، وهو: ثلث الدية؛ لأن الذي وجب في ملكه هو أرش جناية الأول، فقوبل بين الذي وجب عليه حال الجناية، وحال استقرارها،

(11/573)


ووجب للسيد أقلهما، كما لو لم يجن عليه غيره، وأما الآخران: فإنهما جنيا عليه وهو في غير ملكه، فكانت جنايتهما هدرًا في حقه.
فعلى هذا: إن كان جناية الأول قطع إصبع.. قوبل بين عشر قيمة العبد، وبين ثلث الدية، ووجب له أقلهما.
والقول الثاني: أنه يجب له أقل الأمرين من ثلث القيمة أو ثلث الدية؛ لأن الذي جنى عليه في ملكه هو الأول، وجناية الآخرين في غير ملكه، فكانت هدرًا في حقه.
ولو مات عبد وهدرت جناية الآخرين في حق السيد.. لم يجب على الأول إلا ثلث القيمة، مثل: أن يجني عليه الأول وهو مسلم، ثم يرتد العبد ويجني عليه الآخران بعد الردة، ثم يموت، فإن جناية الآخرين هدر في حق السيد، فكذلك: لما أعتق، ثم جنى الآخران عليه.. أهدرنا جنايتهما في حقه، وقابلنا بين ثلث القيمة وثلث الدية، ووجب للسيد أقلهما.
وقد ينسرق أحد القولين في الآخر، وهو: إذا جنى عليه الأول في الرق جائفة أو مأمومة، ثم جنى عليه اثنان بعد الحرية، ومات من الجنايات.. فإنه يجب للسيد أقل الأمرين من أرش الجائفة، وهو: ثلث القيمة، أو ثلث الدية هاهنا، قولًا واحدًا.
وإن جنى عليه في حال الرق واحد، وفي حال الحرية ثلاثة، فمات من الجنايات.. فعلى القول الأول: يجب للسيد على الأول الأقل من أرش الجناية أو ربع الدية.
وعلى القول الثاني: يجب له أقل الأمرين من ربع القيمة أو ربع الدية.
وإن جنى عليه واحد في الرق، وتسعة بعد الحرية، ومات من الجنايات.. فعليهم الدية بينهم، ويستحق السيد على القول الأول أقل الأمرين من أرش الجناية أو عشر الدية، وعلى الثاني أقل الأمرين من عشر القيمة أو عشر الدية.
وإن كان بالعكس من هذا، بأن جنى عليه اثنان في حال الرق، وواحد بعد

(11/574)


الحرية، ومات من الجنايات.. فعليهم الدية بينهم أثلاثًا، ويستحق السيد على القول الأول أقل الأمرين من أرش الجناية أو ثلثي الدية، وعلى الثاني أقل الأمرين من ثلثي القيمة أو ثلثي الدية.
وإن جنى عليه تسعة في حال الرق، وواحد في حال الحرية، ومات من الجنايات.. استحق السيد على الأولين على القول الأول أقل الأمرين من أرش الجنايات التسع الأول والتسعة أعشار الدية، وعلى الثاني يستحق أقل الأمرين من تسعة أعشار القيمة أو تسعة أعشار الدية.

[فرع قطع يد عبد فأعتق ثم اشترك وآخر وقطعا الثانية فمات]
] : وإن قطع حر يد عبد، فأعتق، ثم عاد الجاني الأول هو وآخر وقطعا يده الأخرى، ومات من الجنايتين.. وجبت عليهما دية حر، وكم يستحق السيد؟ على القولين:
أحدهما: أنه يستحق أقل الأمرين من نصف قيمته أو ربع دية حر.
والثاني: له أقل الأمرين من ربع قيمته أو ربع الدية.

[فرع قطع يد عبد فلما أعتق قطع رجله فمات]
] : وإن قطع حر يد عبد لغيره، فأعتق العبد، ثم عاد الجاني فقطع رجله، ومات من الجنايتين.. لم يجب على الجاني القصاص في النفس؛ لأنه مات من سراية جنايته، وإحداهما توجب القصاص والأخرى لا توجب، ولا تتميز إحداهما عن الأخرى، فهو كما لو جنى عليه جناية خطأ وجناية عمد، ومات منهما، ويجب عليه القصاص في الرجل.
فإن عفا عن القصاص عنه، أو كانت الجنايتان أو إحداهما خطأ.. وجب على الجاني دية حر؛ اعتبارًا بحال المجني عليه عند استقرار الجناية، ويجب للمولى هاهنا أقل الأمرين من نصف قيمته أو نصف الدية؛ لأن الجناية الثانية في حال الحرية، فصارت هدرًا في حق السيد.
وإن اندملت الجراحتان.. وجب للسيد نصف القيمة، وللمجني عليه القصاص في الرجل أو نصف الدية إن عفا.

(11/575)


[فرع قطع يد عبد فأعتق ثم قطع آخر رجله ثم ذبحه الأول]
] : وإن قطع حر يد عبد، ثم أعتق، ثم جاء آخر فقطع رجله، ثم عاد الأول فذبحه.. فإن ذبحه بعد اندمال يده التي قطعها.. فإن على الذابح للسيد نصف القيمة، وعليه للورثة القصاص في النفس، وإن عفوا عنه.. كان عليه جميع الدية، وعلى قاطع الرجل القصاص للورثة، وإن عفوا عنه.. كان عليه لهم نصف الدية.
وإن ذبحه قبل اندمال جراحة يده.. فقد قال أبو سعيد الإصطخري، وأبو العباس: لا يدخل أرش الطرف في بدل النفس، فتكون عليه نصف القيمة للسيد، وعليه القصاص للورثة في النفس، وإن عفوا عنه.. كان عليه جميع الدية لهم.
والمذهب: أن أرش الطرف يدخل في دية النفس؛ لأنه مات بفعله قبل الاندمال، فهو كما لو سرت جنايته إلى النفس. فعلى هذا: يجب عليه القصاص في النفس للورثة، فإن اقتصوا منه في النفس.. سقط حق السيد؛ لأن الذي وجب للسيد أرش الطرف، وقد دخل في ضمان النفس. وإن عفا الورثة عن القصاص على الدية.. كان على الذابح دية حر، وللسيد منها أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية. وأما الثاني: فإنه يجب عليه القصاص للورثة في الرجل، فإن عفوا.. فقد استحقوا عليه نصف الدية، ولا حق للسيد فيها؛ لأنها وجبت في غير ملكه.
وإن كان الثاني هو الذي ذبحه.. فإن بذبحه استقرت جناية الأول، فيجب على الأول للسيد نصف القيمة. وأما الثاني: فإن ذبحه بعد اندمال جنايته على رجله.. لم يدخل بدل الرجل في النفس، فيكون لورثة المقتول أن يقتصوا منه في الرجل، فإن عفوا عنها.. استحقوا عليه نصف الدية للرجل، ولهم أن يقتصوا منه في النفس، وإن عفوا عنه.. استحقوا عليه جميع دية النفس.
وإن ذبحه قبل اندمال الرجل، فعلى قول أبي سعيد، وأبي العباس: لا تدخل دية الرجل في دية النفس، فيكون كما لو اندملت. وعلى المذهب: تدخل دية الرجل في دية النفس، فيجب عليه القصاص، وإن عفوا عنه.. استحقوا عليه الدية.
وإن كان الذابح له أجنبيًا.. فإن بذبحه قد استقرت جناية الأول والثاني، فيجب

(11/576)


على الأول نصف القيمة للسيد، وعلى الثاني القصاص في الرجل، أو نصف الدية إن عفا عنه الورثة، وعلى الذابح القصاص في النفس، أو جميع الدية إن عفا عنه الورثة.

[مسألة جنى عبد جناية أرشها أكثر من ثمنه فبيع فيها]
] : وإن جنى العبد جناية أرشها أكثر من قيمته، فبيع في الجناية، وسلم الثمن إلى المجني عليه، وبقي من أرشه بقية، أو اختار السيد أن يفديه، وقلنا: لا يلزمه إلا قدر قيمته، فدفع قدر قيمته، وبقي من الأرش بقية، ثم أعتق العبد.. فهل يطالب ببقية الأرش؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما: لا يطالب به؛ لأنه لم يجب إلا قدر قيمته.
والثاني: يطالب بباقي الأرش، قال القاضي أبو الطيب: وهو الأصح؛ لأن الذي وجب بالجناية هو جميع الأرش، وإنما لم يجب على السيد أكثر من قيمة العبد، والباقي في ذمة العبد، إلا أنه كان قبل العتق كالمعسر، فإذا أعتق وملك المال.. طولب به، كالحر إذا أيسر. ولأن العبد لو أقر بجناية خطأ أو سرقة مال ولم يصادقه المولى ولا قامت به بينة.. فإنه لا يقبل قوله على السيد، ولو أعتق.. لزمه ما أقر به، فدل على: أن الجناية تعلقت بذمته.

[فرع جناية عبد على يد حر ثم عتق فعاد وآخر فقطعا يده الأخرى]
] : إذا قطع عبد يد حر، فأعتق العبد، ثم عاد العبد المعتق هو وآخر وقطعا يد ذلك الحر، ومات قبل الاندمال.. فقد قال ابن الحداد: تجب على شريك العبد المعتق نصف الدية، ويجب على العبد المعتق وعلى سيده نصف الدية، إلا أن على السيد الأقل من ربع الدية أو قيمة عبده الجاني، وهذا على القول الأصح: أنه إذا اختار السيد أن يفدي عبده.. فداه بأقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمة عبده الجاني. فأما على القول الذي يقول: يلزمه جميع الأرش.. فإنه يلزمه هاهنا ربع الدية.

(11/577)


فإذا قلنا بهذا: فقد استوفى وارث المقتول حقه؛ لأنه يأخذ من الشريك نصف الدية، ومن السيد ربعها، ومن العبد المعتق ربعها.
وإذا قلنا بالأول: وكانت القيمة أقل من ربع الدية.. فهل يكون ما بقي من الدية في ذمة العبد؟ على الوجهين الأولين.
وإن أوضح عبد رأس حر، فأعتق العبد، ثم عاد بعد إعتاقه وجرح هو وآخر المجني عليه، ومات من الجنايات.. قال ابن الحداد: وجب على شريك العبد المعتق نصف الدية، وعلى العبد المعتق وسيده نصف الدية، على السيد منها الأقل من أرش الموضحة أو قيمة العبد الجاني. وهذا على الصحيح من القولين، وإنما اعتبر أرش الجناية هاهنا مع تلف النفس لحق السيد؛ لأن الأرش هو الذي وجب في ملكه، وما زاد على ذلك.. في ذمة العبد المعتق.
وإن جرح عبد عبدًا، فأعتق الجاني، ثم عاد الجاني بعد العتق فجرح العبد الأول، ومات من الجنايتين.. لم يجب عليه القصاص في النفس، وعليه القصاص في الجناية الأولى إن كانت مما يجب بها القصاص، فإن عفا عنه على مال.. كان عليه جميع الدية، وعلى السيد منها أقل الأمرين من أرش الجناية في ملكه أو قيمة الجاني.

[فرع قطع عبد يد حر ثم حر يد العبد ثم قطع العبد الجاني يد حر آخر فماتوا]
وإن قطع عبد يد حر، ثم قطع حر يد هذا العبد الجاني، ثم قطع العبد الجاني يد حر آخر، وماتوا جميعًا قبل الاندمال، وقيمة العبد الجاني اثنا عشر ألف درهم، ونقص بالقطع ستة آلاف درهم.. فإن الذي قطع يد العبد الجاني يجب عليه جميع قيمته، وهو: اثنا عشر ألف درهم، فيدفع ما نقص بالقطع - وهو: ستة آلاف درهم - إلى وارث المقطوع أولًا؛ لأن المقطوع الثاني لم يتعلق به حقه، ويتضارب وارثًا الحرين المقتولين في الباقي على الثلث والثلثين؛ لأنه بقي للأول نصف الدية، وللثاني جميع الدية، فيحصل مع الأول ثمانية آلاف، ومع الثاني أربعة آلاف.

(11/578)


فإن كانت بحالها، ونقص العبد بقطع اليد ثلث قيمته، وهو: أربعة آلاف.. فإن الأول ينفرد به، ويتضارب الأول والثاني في الثمانية الآلاف الباقية على ثلثي دية الأول، وجميع دية الثاني، وذلك خمسة أسهم، فيكون للأول خمسا الثمانية آلاف، وهو: ثلاثة آلاف ومائتان، وللثاني ثلاثة أخماسها، وهو: أربعة آلاف وثمانمائة.

[مسألة ضرب بطن أمة فأسقطت جنينًا ميتًا]
] : وإن ضرب ضارب بطن أمة حامل بمملوك، وألقت جنينًا ميتًا.. وجب فيه عشر قيمة أمة، سواء كان الجنين ذكرًا أو أنثى، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق.
وقال الثوري، وأبو حنيفة، ومحمد: (إن كان الجنين ذكرًا.. وجب فيه نصف عشر قيمته - يعني: الجنين - وإن كان أنثى.. وجب فيه عشر قيمتها) .
دليلنا: أنه جنين، فاستوى في ضمانه الذكر والأنثى، كجنين الحر.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في الوقت الذي يعتبر فيه قيمة الأم:
فقال المزني، وأبو سعيد الإصطخري: تعتبر قيمتها يوم الإسقاط؛ لأنه حال استقرار الجناية، والاعتبار بالجناية حال الاستقرار، بدليل: أنه لو جرح عبدًا، ثم مات من الجراحة.. وجبت فيه دية حر.
وقال أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: تعتبر قيمتها يوم الجناية. وهو المنصوص؛ لأن المجني عليه هو الجنين، ولم تتغير صفته تغيرًا يختلف به بدل نفسه، فكان الاعتبار بحاله يوم الجناية، وإنما تغير غيره، فاعتبر بنفسه، كما لو جرح عبدًا قيمته مائة، ثم رخص العبيد لكثرة الجلب حتى صارت قيمة مثله خمسين، ثم مات.. فإن قيمته تعتبر يوم الجناية.

[فرع ضرب أمة فأعتقت ثم أسقطت ميتًا]
وإن ضرب بطن أمة حامل بمملوك، فأعتقت، ثم ألقت جنينًا ميتًا.. وجب فيه دية جنين حر.

(11/579)


وكذلك: لو ضرب بطن نصرانية حامل بنصراني، فأسلمت، ثم ألقت جنينًا ميتًا.. وجب فيه دية جنين مسلم؛ لأن الاعتبار بالجناية حال استقرار الجناية.
وإن ضرب بطن أمة حامل بمملوك، فألقت جنينًا ميتًا، ثم أعتقت، وألقت جنينًا آخر من ذلك الضرب.. وجب في الجنين الأول عشر قيمة الأم، وفي الثاني دية جنين حر؛ لأن الأول مملوك، والثاني حر.
وإن ضرب بطن أمة حامل بمملوك، فأعتقها سيدها، ثم أسقطت جنينًا ميتًا.. فإنه تجب فيه الغرة.
قال ابن الحداد: ويكون للسيد من ذلك أقل الأمرين من عشر قيمة الأم أو الغرة؛ لأن الغرة إن كانت أكثر.. لم يستحق الزيادة؛ لأنها زادت بالحرية وزوال ملكه، وإن كانت الغرة أقل.. كانت له؛ لأن النقصان إنما حصل بإعتاقه، فلا يضمن له. وهذا: كما لو قطع يد عبد، فأعتقه سيده، ثم مات.. فإنه يجب فيه دية حر، للسيد منها أقل الأمرين من نصف قيمته أو ديته.
قال القاضي أبو الطيب: هذا عندي غير صحيح، بل لا يكون للسيد شيء؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قد قال: (لو ضرب بطن أمة، فألقت جنينًا ميتًا، ثم أعتقت وألقت جنينًا آخر.. فعليه عشر قيمة أمه لسيدها في الأول، ويجب في الآخر ما يجب في جنين حر يرثه ورثته) . ولم يجعل للسيد منها شيئًا.
ووجهه: أن الإسقاط حصل في حال الحرية. ويخالف إذا قطع يد عبد ثم أعتق؛ لأن الجناية كانت في حال الرق وقد وجب بها الأرش، وهاهنا الضرب لا يتعلق به أرش، وإنما يتعلق ذلك بالإسقاط.

[فرع وطء أمة بشبهة يكون ولدها حرًا]
] : وإن وطئ حر أمة غيره بشبهة، فأحبلها.. كان الولد حرًا، وعلى الواطئ قيمة الولد يوم الولادة.

(11/580)


فإن ضرب ضارب بطنها، فألقت جنينًا ميتًا.. وجبت فيه غرة مقدرة بنصف عشر دية أبيه، وعلى الواطئ عشر قيمة الأمة لسيدها، سواء كان عشر قيمة الأمة أقل من قيمة الغرة، أو مثلها، أو أكثر؛ لأن ضمان أحدهما ضمان حر، وضمان الثاني ضمان مملوك، ولا يمتنع ذلك فيهما، كما يقول في قيمة العبد ودية الحر المقتولين.

[فرع ضربت أم الولد بطنها فألقت جنينًا لا ضمان]
] : وإن ضربت أم ولد لرجل بطنها، فألقت جنينًا ميتًا.. فقد قال ابن الحداد: لا ضمان، إلا أن تكون أمها حرة باقية.. فيكون على السيد الأقل من قيمة أم ولده أو سدس الغرة؛ لأن جناية أم الولد على سيدها، وهو وارث الجنين، فلا يجب عليه لنفسه ضمان، وإنما يجب ضمان نصيب الحرة.

[مسألة أمة مشتركة حملت من زوج فضربت وأسقطت]
] : إذا كانت أمة بين رجلين نصفين، فحملت من زوج أو زنا، فضربها رجل، فأسقطت جنينًا ميتًا.. وجب عليه عشر قيمة الأم لسيدها.
وإن ضربها أحد الشريكين، فأسقطت جنينًا ميتًا.. وجب عليه لشريكه نصف عشر قيمة الأم، وهدر نصيبه.
فإن ضربها أحد الشريكين، ثم أعتقها الضارب، ثم ألقت جنينًا ميتًا، فإن كان المعتق معسرًا حال الإعتاق.. فقد عتق نصفها ونصف جنينها لا غير، فيجب عليه نصف عشر قيمة الأم لشريكه بنصف الجنين الرقيق، وهل يجب عليه ضمان نصفه الحر؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال ابن الحداد: لا يلزمه ضمانه؛ لأنه حين الجناية لم يكن مضمونًا عليه، والاعتبار في الضمان بحال الجناية، وحال الجناية حال الضرب؛ ولهذا اعتبرنا قيمة الأم حال الضرب.
و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: يلزمه ضمانه بنصف غرة، وهو المنصوص في " الأم "؛ لأن الجناية على الجنين حال الإسقاط، وإنما الضرب سبب الجناية؛ لأنه

(11/581)


يحصل بالأم، ولمن يكون نصف هذه الغرة؟ يبنى على القولين فيمن نصفه حر ونصفه مملوك، إذا مات.. فهل يورث؟ وفيه قولان:
أحدهما: يورث عنه، فيكون لورثته، ولا ترث أمه منها شيئًا؛ لأنه لم تكمل فيها الحرية، ولا يرث السيد منها؛ لأنه قاتل. والثاني: لا يورث عنه.
فعلى هذا: يكون لمالك نصفه على المنصوص. وقال أبو سعيد الإصطخري: يكون لبيت المال.
وإن كان المعتق موسرًا، فإن قلنا: يعتق نصيب شريكه بنفس اللفظ.. ضمن الضارب الجنين بغرة عبد أو أمة، وتكون موروثة عنه. وإن قلنا: إنه لا يعتق نصيب شريكه إلا بدفع القيمة، فإن دفع القيمة قبل الإسقاط.. كان الحكم فيه حكم ما لو قلنا: يعتق باللفظ، وإن لم يدفع القيمة إلا بعد الإسقاط.. كان حكمه حكم المعسر. وإن قلنا: إنه مراعى.. نظرت:
فإن دفع القيمة.. كان حكمه حكم ما لو قلنا: يعتق باللفظ.
وإن لم يدفع القيمة.. كان حكمه حكم المعسر.
وإن أعتقها، ثم ضربها المعتق.. سقط قول ابن الحداد هاهنا، ولم يبق إلا الوجه المنصوص؛ لأنه جنى عليها، فلم يملك شيئًا منها.
فأما إذا أعتقها أحدهما، وضربها الشريك الآخر، وأسقطت من ضربه جنينًا ميتًا، فإن كان المعتق معسرًا.. فقد عتق نصيب المعتق من الجارية وحملها، وأما نصيب الشريك منهما: فلا يعتق، ولا يجب على الضارب في نصيبه شيء؛ لأن الإنسان لا يضمن نصيبه بالإتلاف.
وأما النصف الحر من الجنين: فإن قلنا: لا يورث عنه، بل يكون لمالك نصفه.. لم يجب على الضارب فيه شيء؛ لأنه لو وجب فيه شيء.. لكان له، ولسنا نجعله له من طريق الإرث فنحرمه إياه بالقتل، وإنما يستحقه بسبب ملكه. وإن قلنا: يرثه عنه

(11/582)


ورثته.. وجب فيه نصف غرة، ولا تستحق الأم منها شيئًا؛ لأن الحرية لم تكمل فيها. وإن قلنا بقول أبي سعيد الإصطخري: يكون لبيت المال.. كان نصف الغرة لبيت المال.
وإن كان المعتق موسرًا، فإن قلنا: يعتق باللفظ.. فقد أتلف جنينًا حرًا، فيجب عليه فيه غرة، وتكون موروثة عنه، وتستحق أمه ميراثها منها؛ لأن جميعها حر. وإن قلنا: إنه يعتق بأداء القيمة، فإن أداها قبل الإسقاط.. كان كما لو قلنا: يعتق باللفظ، وإن أداها بعد الإسقاط.. كان الحكم كما لو كان معسرًا. وإن قلنا: إنه مراعى.. نظرت:
فإن أدى القيمة.. كان الحكم فيه كما لو كان موسرًا.
وإن لم يؤد القيمة.. كان كما لو كان معسرًا.
فإن كانت بحالها، فضربها السيدان ضربة واحدة، ثم أعتقاها بكلمة واحدة، أو وكلا وكيلًا فأعتقها.. فقد قال ابن الحداد: على كل واحد منهما ربع الغرة؛ لأن بدل النفس يتغير بالحرية، وبدل الجنين إذا كان مملوكًا.. فهو عشر قيمة أمه، وإذا كان حرًا.. فهو غرة عبد أو أمة قيمتها عشر دية أمه، فإذا جنى عليه سيداه.. صار كل واحد منهما متلفًا نصف ملكه - وهو: الربع - وصاحبه متلفًا للنصف الآخر، وما أتلفه في ملكه.. فهو غير مضمون وسرايته غير مضمونة، وإذا كان كذلك.. سقط ضمان نصف النصف الذي لكل واحد منهما، وبقي النصف مضمونًا، وقد صار بدله بالعتق من الغرة، فوجب على كل واحد منهما ربع الغرة، ويكون للمولى منه أقل الأمرين من ربع عشر قيمة الأم أو ربع الغرة.
قال القاضي أبو الطيب: وكثير من حفاظ أصحابنا ردوا ذلك، وقالوا: هذا خطأ على مذهب الشافعي، والذي يجيء على المذهب: أن يكون على كل واحد منهما نصف الغرة؛ لأن الجناية على الجنين حال الإسقاط، ولا يكون لها فيها حق؛ لأن

(11/583)


الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو ضرب أمة، فألقت جنينًا ميتًا، ثم أعتقها مولاها، ثم ألقت جنينًا ميتًا آخر من ذلك الضرب.. وجب على الضارب في الجنين الأول عشر قيمة أمه لسيده، وفي الثاني غرة عبد أو أمة موروثة لورثته) .

[فرع ضرب أمته الحامل على بطنها ثم أعتقها ثم ألقت جنينًا ميتًا]
] : وإن ضرب رجل بطن أمته الحامل، ثم أعتقها، فألقت جنينًا ميتًا.. فعلى قول ابن الحداد في التي قبلها: لا ضمان عليه. وعلى قول أكثر أصحابنا: عليه الضمان.
وإن ضرب بطن حربية حامل، ثم أسلمت وألقت جنينًا ميتًا.. فعلى قول ابن الحداد: لا ضمان عليه. وعلى قول أكثر أصحابنا: عليه الضمان.
وإن ارتدت امرأة وهي حامل، فضربها رجل، ثم رجعت إلى الإسلام، وألقت جنينًا ميتًا.. وجب على الضارب ضمانه، سواء أسقطته قبل الرجوع إلى الإسلام أو بعده؛ لأن جنينها محكوم بإسلامه، ولا يصير مرتدًا بارتدادها.
قال ابن الصباغ: وإن ضرب ذمي بطن زوجته الذمية وهي حامل فأسلم، ثم أسقطت من ضربه جنينًا ميتًا.. فعلى قول ابن الحداد: يجب على عاقلته من أهل الذمة بقدر ما يجب في الجنين الكافر، وما زاد بالإسلام.. يكون في مال الجاني. وعلى قول سائر أصحابنا: تكون الغرة على عاقلته المسلمين؛ اعتبارًا بحال إسقاط الجنين.
قال ابن الصباغ: فلو كان هناك حر، أمه معتقة، وأبوه مملوك ضرب بطن امرأة حامل، ثم أعتق أبوه فجر ولاءه من مولى الأم، ثم أسقطت المرأة جنينًا ميتًا.. فعلى قول ابن الحداد: يتحمل بدل الجنين مولى الأم؛ لأنه كان مولاه حال الجناية، فهي على عاقلته. وعلى قول سائر أصحابنا: تكون على مولى الأب؛ لأن الاعتبار بحال الإسقاط.

(11/584)


[فرع ضرب عبد زوجة سيده المتوفى فأسقطت جنينًا ميتًا]
] : وإن مات رجل، وخلف عبدًا، وزوجة حاملًا، وأخا من أب وأم، فضرب العبد الزوجة، فأسقطت جنينًا ميتًا.. وجب فيه غرة عبد أو أمة، ويتعلق برقبة العبد، إلا ما صادف من جنايته حق مواليه.. فإنه يكون هدرًا، وجناية هذا العبد صادفت حقها في ربع الثلث؛ لأن لها ثلث بدل الجنين؛ لأنها أمه، فورثت الثلث منه، وحقها من العبد ربعه بإرثها من زوجها، فسقط ضمانه، وصادفت جنايته في الثلثين، للعم ثلاثة أرباعها؛ لأن له ثلثي الغرة، وله ثلاثة أرباع العبد، فسقط ذلك، وكان ثلاثة أرباع ثلثها مضمونًا على العم في هذا العبد، وربع ثلثيه مضمونًا على الأم في هذا العبد، فتصح من اثني عشر: ثلثها أربعة، هدر منها ربعها: سهم، ووجب على العم ثلاثة أسهم، وثلثاها ثمانية، هدر منها ثلاثة أرباعها: ستة، ووجب على الأم ربعها: سهمان، فيقاص سهمين بسهمين، وبقي لها عليه سهم، وهو: نصف سدس، فيجب عليه أقل الأمرين من نصف سدس قيمة العبد أو نصف سدس الغرة، والعبد ملكهما على ثلاثة أرباع، وربع كما كان.
وبالله التوفيق

(11/585)


[باب العاقلة وما تحمله من الديات]
العقل: اسم للدية. قال الشاعر:
وما أبقت الأيام للمال عندنا ... سوى حذم أذواد محذفة النسل
ثلاثة أثلاث فأثمان خيلنا ... وأقواتنا أو ما نسوق إلى العقل
وإنما سميت الدية: العقل؛ لأنها تعقل بباب ولي المقتول. والعصبة الذين يتحملون الدية يسمون: العاقلة، وإنما سموا بذلك؛ لأنهم يأتون بالدية، فيعقلونها عند باب الولي. وقيل: لأنهم يمنعون من القاتل. و (العقل) : المنع، ولهذا سمي العقل عقلًا؛ لأن يمنع صاحبه من فعل القبيح.
إذا ثبت هذا: فقتل الحر حرًا خطأ محضًا أو عمد خطأ.. كانت دية المقتول على عاقلة القاتل.. وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال الأصم، وابن علية، والخوارج: يجب الجميع في مال القاتل.
وقال علقمة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وعثمان البتي، وأبو ثور: (دية الخطأ المحض على العاقلة، وأما دية عمد الخطأ: ففي مال القاتل) .
دليلنا: ما روى المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل، فاقتتلتا، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح - وقيل: رمتها بحجر - فقتلتها

(11/586)


وأسقطت جنينها، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعقلها على عاقلة القاتلة، وفي جنينها غرة عبد أو أمة» .
فإذا حملت العاقلة دية عمد الخطأ.. فلأن تحمل دية الخطأ المحض أولى.
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه ذكرت عنده امرأة معينة بسوء، فأرسل إليها رسولًا، فأجهضت ذا بطنها في الطريق من فزعها منه، فاستشار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم في ذلك، فقال عثمان وعبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: إنما أنت مؤدب، ولا شيء عليك. فقال لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: ما تقول؟ فقال: إن اجتهدا.. فقد أخطآ، وإن علما.. فقد غشاك، عليك الدية. فقال عمر: عزمت عليك لتقسمنها على قومك) - يعني: على عاقلتي - ولم ينكر عليهما عثمان ولا عبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.
وروي: (أن مولاة لصفية جنت جناية، فقضى عمر بأرش جنايتها على عاقلة صفية) . ولا مخالف لهم في الصحابة، فدل على: أنه إجماع.

[مسألة ما تحمله العاقلة من دية أو غيرها]
] : وهل تحمل العاقلة ما دون دية النفس؟ قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد: (تحمل العاقلة ما قل أو كثر من الأرش) . وبه قال عثمان البتي. وقال في القديم: (تحمل العاقلة دية النفس، ولا تحمل ما دون دية النفس، بل تجب في مال الجاني) .
وحكى بعض أصحابنا: أن قوله في القديم: (إن العاقلة تحمل ثلث الدية فأكثر، ولا تحمل ما دون ثلث الدية) . وبه قال مالك، وابن المسيب، وعطاء، وأحمد، وإسحاق. وقال الزهري: تحمل العاقلة ما فوق ثلث الدية، فأما ثلث الدية فما دونه.. ففي مال الجاني. وقال أبو حنيفة: (تحمل أرش الموضحة مما زاد، وما دون أرش الموضحة.. ففي مال الجاني) .

(11/587)


فإذا قلنا بقوله القديم.. فوجهه: أن ما دون دية النفس يجري ضمانه مجرى ضمان الأموال، بدليل: أنه لا تثبت فيه القسامة، ولا تجب فيه الكفارة، فلم تحملها العاقلة، كما لو أتلف عليه مالًا.
وإذا قلنا بقوله الجديد.. فوجهه: أن من حمل دية النفس حمل ما دون الدية، كالجاني، ولأن العاقلة إنما حملت الدية عن القاتل في الخطأ وعمد الخطأ؛ لئلا يجحف ذلك بماله، وهذا يوجد فيما دون دية النفس.
قال الشيخ أبو حامد: وهل تحمل العاقلة دية الجنين؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في الجديد: (تحمل ديته بكل حال) ؛ لما ذكرناه من حديث المغيرة بن شعبة.
و [الثاني] : قال في القديم: (لا تحملها، بل تكون في مال الجاني) . وبه قال مالك؛ لأن العاقلة لا تحمل ما دون ثلث الدية.
فإن وجب له القصاص في الطرف، فاقتص بحديدة مسمومة، فمات.. وجب على المقتص نصف الدية، فهل تحمل عنه العاقلة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تحمله عنه؛ لأنه ليس بعمد محض.
والثاني: لا تحمله العاقلة؛ لأنه قصد قتله بغير حق.

[فرع قتل أو جنى على عبد غيره فهل تحمله العاقلة]
؟] : وإن قتل الحر عبدًا لغيره خطأ أو عمد خطأ، أو جنى على طرفه خطأ أو عمد خطأ.. فهل تحمل عاقلته بدله؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تحمله العاقلة، بل تكون في ماله، وبه قال مالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحمل العاقلة عمدًا ولا عبدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا» . ولأنه يضمن

(11/588)


بالقيمة، فلم تحمله العاقلة، كالبهيمة.
والثاني: تحمله العاقلة، وبه قال الزهري، والحكم، وحماد، وهو الأصح؛ لأنه يجب بقتله القصاص والكفارة، فحملت العاقلة بدله، كالحر لحر.
وأما الخبر: فقيل: إنه موقوف على ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والقياس مقدم عليه، وإن صح.. كان تأويله: لا تحمل العاقلة عن عبد إذا جنى. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (تحمل العاقلة بدل نفس العبد، ولا تحمل ما دون بدل النفس) .

(11/589)


دليلنا: أن من حملت العاقلة بدل نفسه.. حملت ما دون بدل نفسه، كالحر، وعكسه البهيمة.

[مسألة جنى الرجل على نفسه أو طرفه]
] : وإن قتل الرجل نفسه أو جنى على طرفه عمدًا.. كان ذلك هدرًا، وهو إجماع؛ لأن أرش العمد في مال الجاني، والإنسان لا يثبت له مال على نفسه.
وإن قتل نفسه خطأ أو جنى على طرفه خطأ.. كان ذلك هدرًا، وبه قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: (تكون على عاقلته، فإن كانت الجناية على نفسه.. كانت ديته لورثته، وإن كانت على طرفه.. أخذها لنفسه) . وروي ذلك عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
دليلنا: ما روي: «أن عوف بن مالك ضرب مشركًا بالسيف، فرجع عليه السيف فقتله، فامتنع أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصلاة عليه، وقالوا: قد أبطل جهاده، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بل مات مجاهدًا شهيدًا» . ولم يقل: إن ديته على عاقلته، ولو

(11/590)


وجبت عليهم.. لبينها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه وقت الحاجة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وقيل: إن الذي رجع عليه سيفه فقتله هو أبو عوف، وهو مالك.

[فرع أرش خطأ الإمام على عاقلته أو في بيت المال]
] : وما يجب من الأرش بخطأ الإمام.. ففيه قولان:
أحدهما: أن عاقلته تحمل ذلك عنه؛ لما ذكرناه من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.
والثاني: يجب ذلك في بيت المال؛ لأن الخطأ يكثر منه في اجتهاده وأحكامه، فلو أوجبنا ذلك على عاقلته.. لأجحف بهم.
فإذا قلنا: تحمله عاقلته.. وجبت كفارة قتله في الخطأ وعمد الخطأ في ماله.
وإذا قلنا: تجب دية ذلك في بيت المال.. ففي الكفارة وجهان:
أحدهما: تجب في بيت المال؛ لما ذكرناه في الدية.
والثاني: تجب في ماله؛ لأن الكفارة لا تحمل العاقلة بحال.

[مسألة دية المقتول عمدًا في مال الجاني]
] : وإن قتل غيره عمدًا، أو جنى على طرفه عمدًا.. وجبت الدية في مال الجاني، سواء كانت الجناية مما يجب فيها القصاص أو مما لا يجب فيها القصاص.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كانت لا قصاص فيها، مثل: الهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، والجائفة.. فإن العاقلة تحمله وإن كانت الجناية عمدًا) .

(11/591)


دليلنا: أن الخبر إنما ورد في حمل العاقلة دية الخطأ تخفيفًا على القاتل؛ لأنه لم يقصد القتل، والعامد قصد القتل، فلم يلحق به في التخفيف، ولأنه أرش جناية عمد محض، فلم تحمله العاقلة، كما لو قتل الأب ابنه.
إذا ثبت هذا: فإن أرش العمد يجب حالًا.
وقال أبو حنيفة: (يجب مؤجلًا في ثلاث سنين) .
دليلنا: أن ما وجب بالعمد المحض كان حالًا، كالقصاص، وأرش أطراف العبيد.
وأما الأرش الذي يجب بعمد الخطأ أو بالخطأ المحض؛ فإن كان دية كاملة.. فإنه يجب مؤجلًا في ثلاث سنين.
وقال بعض الناس: يجب حالًا. وقال ربيعة: يجب مؤجلًا في خمس سنين.
دليلنا: ما روي عن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهما قالا: (دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين) . ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم. ولأن العاقلة تحمل الدية على سبيل الرفق والمواساة، وما وجب على سبيل الرفق والمواساة.. لم يكن وجوبه حالًا، كالزكاة.
إذا ثبت هذا: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولم أعلم خلافًا فيما علمته «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين» . وأنكر أصحاب الحديث

(11/592)


ذلك، وقالوا: لم يرو في تأجيل الدية على العاقلة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خبر صحيح ولا سقيم، فأجاب أصحابنا عن ذلك بجوابين:
أحدهما: أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قد روى ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والثاني: أن لكلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تأويلًا، ومعنى قوله: (ولم أعلم خلافًا في الدية التي قضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على العاقلة) أنها في ثلاث سنين، لا أنه قضى بها في ثلاث سنين، وقد بينه في " الأم " [6/103] هكذا، وإنما المزني اختصر.

[فرع ابتداء الأجل لأداء الدية]
] : أما أول ابتداء الأجل: فإن كانت الجناية على النفس.. كان ابتداء الأجل من حين الموت؛ لأنه حال استقرار الجناية. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال أصحابنا الخراسانيون: من حين الترافع إلى القاضي.
وإن كانت الجناية على الطرف، فإن لم يسر إلى طرف آخر.. كان ابتداء الأجل من حين الجناية؛ لأنه حين وجوبه، وإن سرت إلى طرف آخر، مثل: أن قطع إصبعه، فسرت الجناية إلى كفه.. كان ابتداء الأجل من حين الاندمال؛ لأنه وقت استقرار الجناية.

(11/593)


وحكى أصحابنا الخراسانيون وجهًا آخر: أن دية الإصبع من حين الجناية، ودية ما زاد عليها من وقت الاندمال. والأول أصح. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (أول مدة الأجل من حين يحكم القاضي على العاقلة بالدية) .
دليلنا: أنه مال يحل بحلول الأجل، فكان أول الأجل من حين وجوب الأجل، كالثمن في البيع.

[فرع وقت أداء ما دون الدية]
] : وإن كان الواجب أقل من الدية.. نظرت:
فإن كان ثلث الدية فما دون.. وجب في آخر السنة الأولى؛ لأن العاقلة لا تحمل حالًا.
وإن كان أكثر من الثلث، ولم يزد على الثلثين.. وجب في آخر السنة الأولى ثلث الدية، وفي آخر السنة الثانية الباقي.
وإن كان أكثر من الثلثين، ولم يزد على الدية. وجب في آخر السنة الأولى ثلث الدية، وفي آخر السنة الثانية الثلث، وفي آخر الثالثة الباقي.
وإن كان الواجب أكثر من الدية، بأن وجب بجنايته ديتان، فإن كانت لاثنتين.. حملت العاقلة لكل واحد من المجني عليهما ثلث الدية في كل سنة. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: فيه وجهان:
أحدهما: هذا، وهو الأصح.
والثاني: أن العاقلة لا تحمل في كل سنة إلا ثلث الدية للمجني عليهما.
وإن كانتا لواحد، مثل: أن قطع يديه ورجليه.. لم تحملهما العاقلة إلا في ست سنين، في كل سنة ثلث الدية. وهذا نقل أصحابنا العراقيين.

(11/594)


وقال الخراسانيون: فيه وجهان: أحدهما: هذا.
والثاني: أن العاقلة تحملها في ثلاث سنين.

[فرع كيفية دفع الدية الناقصة]
] : وإن وجب بالخطأ أو بعمد الخطأ دية ناقصة عن دية الحر المسلم، كدية المرأة، ودية الجنين، والكافر.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنها تقسم في ثلاث سنين؛ لأنها بدل نفس، فكانت في ثلاث سنين، كدية الحر المسلم.
والثاني: أنه يجب في آخر كل سنة ثلث دية حر مسلم؛ لأنه ينقص عن الدية الكاملة، فكان كأرش الطرف.
وإن قتل العبد خطأ أو عمد خطأ، وقلنا: تحمل العاقلة قيمته.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنها تقسم على العاقلة في ثلاث سنين وإن زادت حصة كل سنة على ثلث الدية أو نقصت؛ لأنه بدل نفس.
والثاني: أنه كأرش الطرف، فتحمل في كل سنة ثلث دية الحر المسلم؛ اعتبارًا بما تحمله من دية الحر المسلم.

[مسألة من هم العاقلة]
؟] : و (العاقلة) : هم العصبة. ولا يدخل فيهم أبو الجاني ولا جده وإن علا، ولا ابنه ولا ابن ابنه وإن سفل. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يدخلون فيهم) .
دليلنا: ما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن امرأتين من هذيل اقتتلتا، ولكل واحدة منهما زوج وولد، فقتلت إحداهما الأخرى، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية المقتولة على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها، فقالت عصبة المقتولة: ميراثها لنا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لا، [ميراثها] لزوجها ولولدها» .

(11/595)


«وروى أبو رمثة قال: دخلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعي ابن لي، فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من هذا؟ " فقلت: ابني، فقال: " أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه» . ومعلوم أنه لم يرد: أنه لا يجرحك ولا تجرحه، وإنما أراد: أنك لا تؤخذ بجنايته ولا يؤخذ بجنايتك.
وروى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، ولا يؤخذ أحد بجريرة ابنه، ولا يؤخذ ابن بجريرة أبيه» .
ولأن مال الولد والوالد كماله، بدليل: أن نفقتهما تجب في مالهما، كما تجب في ماله، فلما لم تجب في ماله.. لم يحمل عنه.
فإن كان للمرأة ابن هو ابنُ ابنِ عمها.. لم يعقل عنها؛ لعموم الخبر.

(11/596)


وقال أبو علي السنجي: ويحتمل أن يقال: يحمل عنها؛ لأن فيه شيئين يحمل في أحدهما دون الآخر، فغلب الآخر، كولايته في النكاح على أمه. والأول هو المشهور.

[فرع الدية على العاقلة وليس على الجاني شيء]
] : ولا يحمل القاتل مع العاقلة من الدية شيئًا.
وقال أبو حنيفة: (يحمل ما يحمل أحدهم) .
دليلنا: ما ذكرناه من خبر جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المرأتين.
فإن لم يكن للجاني عصبة وله مولى من أعلى.. حمل عنه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» . والنسب يعقل به، فكذلك الولاء، ولا يحمل المولى إلا بعد العاقلة من النسب، كما لا يرث إلا بعدهم.
فإن كان المعتق له جماعة.. لم يحملوا إلا ما يحمله الشخص الواحد من العصبة؛ لأنهم يقومون مقام الواحد من العصبة.
فإن لم يكن معتق.. حمل عصبة المعتق، كالأخ وابن الأخ، والعم وابن العم، وهل يحمل ابن المعتق وأبوه؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: لا يحملان، كما لا يحمل ابن الجاني ولا أبوه.
والثاني: يحملان؛ لأن المعتق عصبة يحمل لو كان باقيًا، فحمل ابنه وأبوه، بخلاف ابن الجاني وأبيه، فإن الجاني لا يحمل، فكذلك لم يحملا.
فإن لم يكن للمعتق عصبة.. حمل معتقه، ثم عصبته، على ما ذكرناه في الإرث.
فإن لم يكن للجاني عصبة ولا مولى ولا عصبة مولى ولا مولى مولى، فإن كان مسلمًا.. حملت عنه الدية في بيت المال؛ لأنه لما نقل ماله إلى بيت المال إذا مات إرثًا.. حمل عنه بيت المال، كالعصبة. وإن كان كافرًا.. لم يحمل عنه في بيت المال؛ لأن مال بيت المال للمسلمين، وليس هو منهم، وإنما ينقل ماله إلى بيت المال إذا لم يكن له وارث فيئًا لا إرثًا.
وإن كان للجاني مولى من أسفل.. فهل يحمل عنه؟ فيه قولان:

(11/597)


أحدهما: لا يحمل عنه، وهو الأصح؛ لأنه لا يرثه، فلم يحمل عنه، كالأجنبي.
والثاني: يحمل عنه، وبه قال أبو حنيفة، وأصحاب مالك رحمة الله عليه؛ لأنه لما حمل عنه المولى الأعلى عن الأسفل.. حمل الأسفل عن الأعلى، كالأخوين.
فعلى هذا: لا يحمل إلا بعد عدم المولى من أعلى، ويقدم على بيت المال؛ لأنه من العاقلة الخاصة له.
وأما عصبة المولى من أسفل: فلا يحملون، قولًا واحدًا؛ لأن الجاني لا يحمل عنهم، فلم يحملوا عنه.
وإن كان للمولى من أسفل مولى من أسفل.. فهل يحمل عن الجاني؟
الذي يقتضي المذهب: أنه على قولين، كمولاه من أعلى؛ لأن الجاني يحمل عنه.
فإن لم يكن للجاني عصبة من النسب، ولا من يحمل من جهة الولاء، وليس هناك بيت مال.. فهل تجب الدية في مال الجاني؟ فيه قولان، بناء على أن الدية هل تجب على العاقلة ابتداء، أو على الجاني ثم تحمل العاقلة عنه؟ فيه قولان:
أحدهما: أنها تجب على العاقلة ابتداءً؛ لأنهم هم المطالبون بها. فعلى هذا: لا تجب في مال الجاني.
والثاني: أنها تجب على الجاني ابتداء، ثم تتحملها العاقلة عنه؛ لأنه هو المباشر للجناية. فعلى هذا: يجب أداء الدية من ماله.
فإذا قلنا بهذا: وكان له أب وابن.. فهل يحملان؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي الطبري: يحملان، ويقدمان على الجاني؛ لأنا إنما لم نحمل عليهما؛ إبقاء على الجاني، فإذا حمل الجاني.. كانا أولى بالحمل
و [الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق: لا يحملان؛ لأنا إنما قلنا يحمل الجاني على هذا؛ لأن الدية وجبت عليه ابتداء، فإذا لم يوجد من يتحمل عنه.. بقي الوجوب في محله، والأب والابن لم تجب الدية عليهما في الابتداء، ولا هما من أهل التحمل، فلم يحملا بحال.

(11/598)


[مسألة جماعة لا يتحملون العقل]
] : ولا يعقل (العديد) ، وهو: الرجل القريب الذي يدخل في قبيلة ويعد فيهم.
ولا يحمل (الحليف) ، وهو: أن يحالف رجل رجلًا على أن ينصر أحدهما الآخر، ويعقل أحدهما عن الآخر، ويرث أحدهما الآخر.
ووافقنا أبو حنيفة في العديد، وخالفنا في الحليف إذا لم يكن له قرابة من النسب.. فإنه يرث، ويعقل.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] [الأنفال: 75] . فجعل الله القرابات أولى من غيرهم، وهذا ليس منهم.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حلف في الإسلام» . ولم يرد بذلك: أنه لا يجوز التحالف بين المسلمين على النصرة، بل ذلك من مقتضى الدين، وإنما أراد: لا حكم للحلف في الإسلام.

[فرع لا يعقل أهل الديوان إلا العصبات]
] : ولا يعقل أهل الديوان من غير أهل العصبات.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمهما الله: (إذا حزب الإمام الناس، وجعلهم فرقًا

(11/599)


تحت يد كل عريف فرقة، فإذا جنى واحد من أهل تلك الفرقة خطأ أو عمد خطأ.. حمل أهل ديوانه من فرقته عنه) .
دليلنا: أنهم لا يرثون، فلم يعقلوا كالأجانب.

[فرع العصبة من يعرف اتصال نسبه]
] : ولا يعقل عن الجاني إلا من يعرف اتصال نسبه إليه، فإن عرف رجل أنه من قبيلة بعينها، ولكن لا يعرف اتصال نسبه ونسبهم إلى أب.. لم يعقلوا عنه؛ لأن معرفته أنه منهم إذا لم يعرف اجتماع نسبه ونسبهم إلى أب.. لا يقتضي أن يعقلوا عنه، كما لا يعقل عنه سائر بني آدم من غير تلك القبيلة وإن علمنا أن الجميع من ولد آدم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه.
وإن كان هناك رجل مجهول النسب، فانتسب إلى قبيلة، وأمكن صدقه وصادقوه على ذلك.. ثبت نسبه منهم، وعقلوا عنه.
فإن قال جماعة من الناس: سمعنا أنه ليس منهم، وشهدوا بذلك.. لم ينتف نسبه منهم بذلك. وقال مالك: (ينتفي نسبه) . وهذا غلط؛ لأنه نفي نسب محض، فلم يزل به نسب حكم بثبوته. فإن جاء آخر من غيرهم، وقال: هو ابني وولد على فراشي، وأقام على ذلك بينة.. ثبت نسبه منه، وانتفى نسبه من الأولين؛ لأن البينة أقوى من مجرد الدعوى.

[مسألة المسلم والكافر يعقل أحدهما عن الآخر]
وعقل أهل الذمة والحرابة عن بعضهم] : ولا يعقل مسلم عن كافر، ولا كافر عن مسلم؛ لأنهما لا يتوارثان.
ويعقل أهل الذمة بعضهم عن بعض إذا ثبت اتصال نسبهم إلى أب، سواء كانوا على ملة واحدة، كاليهودية، أو على ملتين، كاليهودية والنصرانية.
وقال أبو حنيفة: (ولا يعقل ذمي عن ذمي) .
دليلنا: أنهم يتوارثون، فتعاقلوا، كالمسلمين.

(11/600)


ولا يعقل ذمي عن حربي؛ ولا حربي عن ذمي وإن جمعتهما ملة واحدة وأب واحد؛ لأنهما لا يتوارثان، فلم يتعاقلا، كالأجنبيين.
فإن لم يكن للذمي عاقلة من النسب، وله مولى من أعلى.. حمل عن إذا كان يرثه، وكذلك: إن كان له عصبة: مولى أو مولى مولىً، وهل يحمل عنه المولى من أسفل؟ على القولين، فيمن لم يكن له عاقلة، أو كان له عاقلة لا تقدر على جميع الدية. فهل تجب في ماله؟ على القولين في المسلم.
فإن قلنا: تجب في ماله.. فهل يحمل عنه أبوه وابنه؟ على الوجهين في المسلم.

[فرع رمى ذمي غرضًا وأسلم ثم أصاب شخصًا]
] : وإن رمى ذمي سهمًا إلى غرض، فأسلم، ثم وقع السهم في إنسان فقتله.. وجبت الدية في ماله؛ لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين؛ لأن الرمي وجد منه وهو ذمي، ولا يمكن إيجابها على عاقلته من أهل الذمة؛ لأن الإصابة وجدت وهو مسلم، فلم يبق إلا إيجابها في ماله.
وإن رمى مسلم سهمًا إلى صيد، فارتد، ثم أصاب السهم إنسانًا فقتله.. وجبت الدية في ماله؛ لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين؛ لأن الإصابة وجدت وهو مرتد، ولا يمكن إيجابها على عاقلته من الكفار؛ لأنه لا عاقلة له منهم.
فإن قطع ذمي يد رجل خطأ، فأسلم الذمي، ثم مات المقطوع من الجناية.. قال الشيخ أبو إسحاق: عقلت عنه عصباته من أهل الذمة دون المسلمين؛ لأن الجناية وجدت وهو ذمي؛ ولهذا يجب بها القصاص، ولا يسقط عنه بالإسلام.
وقال ابن الحداد: يجب على عاقلته من أهل الذمة أرش الجراحة لا غير، ولا تحمل ما زاد؛ لأنه وجب بعد الإسلام، وتجب الزيادة في مال الجاني، ولا تحمله عاقلته من المسلمين؛ لأن سببها كان في الكفر.
قال ابن الحداد: وإن جني ذمي على رجل خطأ، ثم أسلم الجاني، ثم جنى على المجني عليه جناية أخرى خطأ، ومات من الجنايتين.. فإن على عاقلته من المسلمين

(11/601)


نصف الدية، وعلى عاقلته من أهل الذمة أقل الأمرين من أرش الجناية في حال الذمة أو نصف الدية، فإن كان نصف الدية أقل.. لزمهم ذلك، وإن كان أرش الجناية أقل.. لزمهم قدر الأرش، وما زاد عليه إلى تمام نصف الدية.. يجب في مال الجاني؛ لأنه وجب بعد الإسلام.
ولا فرق بين أن يجرحه في حال الذمية جراحة وبعد الإسلام جراحات، أو يجرحه في حال الذمة جراحات وبعد الإسلام جراحة واحدة، فإن الدية مقسومة على الحالين، فيجب على عاقلته من المسلمين نصف الدية، وعلى عاقلته من أهل الذمة أقل الأمرين من نصف الدية أو أرش الجناية وأرش الجراحة أو الجراحات في حال الذمة.
وإن جرحه في حال الذمة جراحة خطأ ثم أسلم، ثم قتله خطأ.. دخل الأرش في دية النفس على المذهب، فكانت الدية على عاقلته من المسلمين.
وعلى قول أبي سعيد الإصطخري، وأبي العباس: لا يدخل، فيكون أرش الجراحة على عاقتله من أهل الذمة، ودية النفس على عاقلته من المسلمين.
وإن جرح مسلم إنسانًا خطأ، ثم ارتد الجارح، وبقي في الردة زمانًا يسري في مثله الجرح، ثم أسلم، ثم مات المجروح.. وجبت الدية، وعلى من تجب؟ فيه قولان:
أحدهما: تجب على عاقلته؛ لأن الجراحة والموت وجدا في الإسلام.
والثاني: يجب على العاقلة نصف الدية، وفي مال الجاني النصف؛ لأنه وجد سراية في حال الإسلام وسراية في حال الردة، فحملت ما سرى في الإسلام ولم تحمل ما سرى في الردة.

[فرع قطع ولد عبد ومعتقة يد إنسان خطأ ثم عتق أبوه]
] : وإن تزوج عبد معتقة لآخر، فولدت منه ولدًا، فقطع الولد يد إنسان خطأ، ثم أعتق الأب، ثم سرت الجناية إلى نفس المقطوع ولا عصبة لأبي الولد.. قال ابن الحداد: وجب على مولى أم الولد دية اليد؛ لأنه وجب وهو مولاه، ووجب باقي الدية في مال الجاني؛ لأنه لا يمكن إيجابها على مولى الأم؛ لأنه وجب بعد انتقال

(11/602)


ولاء الولد عنه، ولا يمكن إيجابه على مولى الأم؛ لأنه وجب بعد انتقال ولاء الولد عنه، ولا يمكن إيجابه على معتق الأب؛ لأن سببه وجد وهو غير مولى له، فكان في مال الجاني.

[مسألة جناية المعتوه وأضرابه خطأ]
] : وإن جنى الصبي أو المجنون أو المعتوه جناية خطأ، أو عمد خطأ، أو عمدًا محضًا، وقلنا: إن عمده خطأ.. فإن عاقلته تحمل عنه الدية؛ لأن تحمل العاقلة للدية جعل بدلًا عن التناصر في الجاهلية بالسيف، وهو ممن لا تنصرهم عاقلتهم.
وإن جنى أحد من عصبة الصبي والمجنون والمعتوه خطأ أو عمد خطأ.. لم يحمل الصبي والمجنون والمعتوه؛ لأنهم ليسوا من أهل النصرة.
وإن جنت المرأة أو الخنثى المشكل خطأ أو عمد خطأ.. حملت عاقلتهما عنهما الدية. وإن جنى أحد من عصباتهما.. لم يحملا عنه الدية؛ لما ذكرناه في الصبي والمجنون. فإن بان الخنثى رجلًا.. تحمل العقل.
وإن أعتقت امرأة عبدًا أو أمة، فجنى المعتق على غيره خطأ.. لم تحمل المولاة عنه؛ لأنها إذا لم تحمل بالنسب.. فلأن لا تحمل بالولاء أولى. قال المسعودي [في " الإبانة "] : ولكن تحمل عصبتها الذين يحملون جنايتها إذا جنت.

[فرع لا يحمل الزمن ولا الهرم]
] : ويحمل المريض إذا لم يبلغ الزمانة، والشيخ إذا لم يبلغ الهرم؛ لأنهما من أهل النصرة، فإن بلغ الشيخ الهرم والشاب المريض الزمانة.. فهل يحملان الدية؟
قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان، بناء على القولين في جواز قتلهما إذا أسرا.
وقال ابن أبي هريرة: إن كانت الزمانة من اليدين والرجلين.. لم يحملا.
وذكر الشيخ أبو حامد: أنهما يحملان، وجهًا واحدًا.

(11/603)


[مسألة لا يحمل العقل إلا الغني والمتوسط]
] : ولا يحمل العقل من العاقلة إلا الغني والمتوسط، فأما (الفقير) : وهو من لا يملك ما يكفيه على الدوام.. فإنه لا يحمل العقل. وقال أبو حنيفة: (يحمل) .
دليلنا: أن العاقلة إنما تحمل الدية عن القاتل على طريق الرفق والمواساة، والفقير ليس من أهل المواساة.
ولأن الدية إنما نقلت إلى العاقلة تخفيفًا عن القاتل؛ لئلا يجحف بماله، فلو أوجبنا ذلك على الفقير.. لدفعنا الضرر عن القاتل، وألحقناه بالفقير، والضرر لا يزال بالضرر.
ويجب على المتوسط ربع دينار مثقال؛ لأنه لا يمكن إيجاب الكثير عليه؛ لأنه يجحف به، فقدر ما يؤخذ منه بربع دينار؛ لأنه ليس في حد التافه؛ ولهذا قالت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (ما كانت اليد تقطع على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشيء التافه) . وقد ثبت أن اليد لا تقطع بدون ربع دينار.
ويجب على الغني نصف دينار؛ لأنه لا يجوز أن يكون ما يؤخذ من الغني والمتوسط واحدًا، فقدر ما يؤخذ من الغني بنصف دينار؛ لأنه أول قدر يؤخذ منه في زكاة الذهب.
إذا ثبت هذا: فهل يجب هذا القدر على المتوسط والغني مقسومًا في الثلاث سنين، أو يجب هذا القدر في كل سنة من الثلاث سنين؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن هذا القدر يجب مقسومًا في ثلاث سنين لا غير.
فعلى هذا: لا يجب على المتوسط أكثر من ربع دينار، في كل سنة نصف سدس

(11/604)


دينار. ويجب على الغني نصف دينار في ثلاث سنين، في كل سنة سدس دينار؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (يحمل من كثر ماله نصف دينار) . وهذا يقتضي أن هذا جميع ما يحمله. ولأن إيجاب ما زاد على ذلك عليه يجحف به.
والثاني - وهو الأصح -: أن هذا القدر يجب في كل سنة من الثلاث سنين، فيكون جميع ما يجب على المتوسط في الثلاث سنين ثلاثة أرباع دينار، وجميع ما يجب على الغني في الثلاث سنين دينار ونصف دينار؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (يحمل الغني نصف دينار، والمتوسط ربع دينار حتى يشترك النفر في بعير) . وظاهر هذا أنهم يحملون هذا القدر كل سنة من الثلاث. ولأنه حق يتعلق بالحول على سبيل المواساة، فتكرر بتكرر الأحوال، كالزكاة.
إذا ثبت هذا: فإن الجماعة من العاقلة يشتركون في شراء بعير؛ لأن الواجب عليهم الإبل لا الدنانير. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (الفقير والغني والمتوسط سواء، فأكثر ما يحمله الواحد منهم أربعة دراهم، وأقله ليس له حد) .
ودليلنا: أنه حق مخرج على وجه المواساة، فاختلف بكثرة المال وقلته، كالزكاة. ويعتبر حال كل واحد منهم بالبلوغ، والعقل، واليسار، والإعسار، والتوسط عند حلول الحول، كما يعتبر النصاب في آخر الحول، فإن كان معسرًا عند حلول الحول.. لم يجب عليه شيء، فإن أيسر بعد ذلك.. لم يجب عليه شيء من الثلث الواجب قبل يساره، فإن كان موسرًا عند حلول الحول الثاني.. وجب عليه. وإن كان موسرًا عند حلول الحول، فأعسر قبل دفع ما عليه.. كان دينًا في ذمته إلى أن يوسر؛ لأنه قد وجب عليه.
وإن مات واحد منهم بعد الحول وهو موسر.. لم يسقط عنه، بل يجب قضاؤه من تركته. وقال أبو حنيفة: (يسقط) .
دليلنا: أنه مال استقر وجوبه في حال الحياة، فلم يسقط بالموت، كالدين.

(11/605)


[مسألة معرفة العاقلة وأقربهم الإخوة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ومعرفة العاقلة: أن ينظر إلى إخوته لأبيه وأمه فيحملهم) .
وجملة ذلك: أن الحاكم إذا أراد قسمة العقل.. فإنه يبدأ بالإخوة للأب والأم أو للأب؛ لأنهم أقرب العاقلة، فيؤخذ من الغني منهم نصف دينار، ومن المتوسط ربع دينار، فإن وفى ذلك بثلث الدية.. لم يحمل على من بعدهم، وإن لم يف ذلك.. حمل على بني الإخوة وإن سفلوا، فإن لم يف ذلك.. حمل على الأعمام، فإن لم يف ذلك.. حمل على بني الأعمام إلى أن يستوعب جميع القبيل الذين يتصل أبو الجاني بأبيهم، فإن لم يف ما حمل عليهم بثلث الدية.. حمل عنه المولى ومن أدلى به، فإن لم يف ما حمل عليهم بثلث الدية.. حملت تمام الثلث في بيت المال. وعلى هذا في الحول الثاني والثالث.
وقال أبو حنيفة: (يقسم على القريب والبعيد منهم، ولا يقدم القريب) .
دليلنا: أنه حكم يتعلق بالتعصيب، فاعتبر به الأقرب فالأقرب، كالميراث.
إذا ثبت هذا: فاجتمع في درجة واحدة اثنان: أحدهما يدلي بالأب والأم، والآخر بالأب لا غير، كأخوين أو ابني أخ أو عمين أو ابني عم.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (هما سواء؛ لأنهما متساويان في قرابة الأب، وأما الأم: فلا مدخل لها في النصرة وحمل العقل، فلم يرجح بها) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (يقدم من يدلي بالأب والأم؛ لأنه حق يستحق بالتعصيب، فقدم فيه من يدلي بالأبوين على من يدلي بأحدهما، كالميراث) .

[فرع اجتماع جماعة من العاقلة بدرجة]
] : وإن اجتمع جماعة من العاقلة في درجة واحدة، فكان الأرش الواحد بحيث إذا قسم عليهم.. خص الغني منهم دون نصف دينار، والمتوسط منهم دون ربع دينار.. ففيه قولان:

(11/606)


أحدهما: يقسم عليهم على عددهما؛ لأنهم استووا في الدرجة والتعصيب، فقسم المال بينهما على عددهم، كالميراث.
والثاني: يخص به الحاكم من رأى منهم؛ لأنه ربما كان العقل قليلًا، فخص كل واحد منهم فلس، وفي تقسيط ذلك مشقة.

[فرع وجود العاقلة في بلد القاتل أو غيابهم]
] : إذا كان جميع العاقلة حضورًا في بلد القاتل.. فإن الحاكم يقسم الدية عليهم على ما مضى. وإن كانوا كلهم غائبين عن بلد القاتل، وهم في بلد واحد.. فإن حاكم البلد الذي فيه القاتل إذا ثبت عنده القتل.. يكتب إلى حاكم البلد الذي فيه العاقلة ليقسم الدية عليهم.
وإن كان بعض العاقلة حضورًا في بلد القاتل وبعضهم غائبًا عنه في بلد آخر.. نظرت: فإن حضر معه الأقربون إليه، وأمكن أن يحمل ثلث الدية على الأقربين.. لم يحمل على من بعدهم، وإن لم يمكن حمل ثلث الدية على الأقربين.. حمل على من بعدهم وإن كانوا غائبين.
وإن كان جماعة من العاقلة في درجة واحدة، وبعضهم حاضر في بلد القاتل وبعضهم غائب عنه في بلد آخر، فإن لم يكن في الحضور سعة لاستغراق الدية.. فإن الدية تحمل عليهم وعلى من غاب، وإن كان في الحاضرين سعة لاستغراق الدية.. ففيه قولان:
أحدهما: أن الحاكم يقسم الدية على الحاضرين دون الغائبين، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لأن الحاضرين أحق بالنصرة من الغائبين.
والثاني: تقسم الدية على الجميع، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه حق مال يستحق بالتعصيب، فاستوى فيه الحاضر والغائب، كالميراث.
وإن حضر معه الأبعدون، وغاب الأقربون.. فاختلف أصحابنا فيه:

(11/607)


فقال الشيخ أبو إسحاق، والمسعودي [في " الإبانة "] : هي على القولين في التي قبلها.
وقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: يقدم الأقربون، قولًا واحدًا؛ لأنه مبني على التعصيب، فكل من قرب.. كان أولى، كالميراث.

[مسألة تقويم النجوم وقت الحلول]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يقوم نجم إلا بعد حلوله) :
وجملة ذلك: أن الدية إذا وجبت على العاقلة، فإن كانت الإبل موجودة معهم أو في بلدهم بثمن مثلها عند الحول.. وجب عليهم أن يجمعوا ما وجب على كل واحد منهم ويشتروا به إبلًا، وإن كان معدومة أو موجودة بأكثر من ثمن مثلها.. انتقلوا إلى بدلها، وبدلها في قوله القديم: (اثنا عشر ألف درهم أو ألف مثقال) ، وفي قوله الجديد: (قيمتها) .
فإذا قلنا: تجب قيمتها.. فإنها تقوم عليهم عند حلول الحول أقل إبل، لو بذلوها.. لزم الولي قبول ذلك، فإن أخذ الولي القيمة، ثم وجدت الإبل.. لم يكن له المطالبة بالإبل؛ لأن الذمة قد برئت بالقيمة، وإن قومت الإبل، ثم وجدت الإبل قبل قبض القيمة.. كان للولي أن يطالب بالإبل؛ لأن حقه في الإبل لم يسقط بالتقويم.
وبالله التوفيق

(11/608)


[باب اختلاف الجاني وولي الدم]
إذا قتل حر رجلًا، فقال القاتل: كان المقتول عبدًا، وقال ولي المقتول: بل كان حرًا، ولا بينة.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هاهنا: (القول قول الولي) ، وقال فيمن قذف رجلًا، فقال القاذف: هو عبد، وقال المقذوف: بل أنا حر: (القول قول القاذف) .
فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين:
أحدهما: القول قول الجاني والقاذف مع يمينه؛ لأن الأصل حقن دمه وحمى ظهره.
والثاني: القول قول الولي والمقذوف مع يمينه؛ لأن الظاهر منه الحرية.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما وفرق بينهما، وقال: لأنا إذا جعلنا القول قول الجاني.. أسقطنا عنه القصاص، فيكون ذلك إسقاطًا للقصاص الذي يقع به الردع، وإذا جعلنا القول قول القاذف.. سقط الحد، ولم يسقط التعزير، فيقع به الردع.
وإن قال الجاني: قتلته وأنا صبي، وقال الولي: بل قتلته وأنت بالغ، ولا بينة.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل فيه الصغر.
وإن قال القاتل: قتلته وأنا مجنون، وقال الولي: بل قتلته وأنت عاقل، فإن لم يعرف له حال جنون.. فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الجنون، وإن عرف له حال جنون ولم يعلم أنه قتله في حال الجنون أو في حال العقل.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأنه أعرف بحاله، والأصل براءة ذمته مما يدعى عليه.
وحكى ابن الصباغ وجهًا آخر: أن القول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل السلامة، والأول أصح.

(11/609)


فإن أقام الولي شاهدين: أنه قتله وهو عاقل، وأقام القاتل شاهدين: أنه قتله وهو مجنون.. تعارضت البينتان وسقطتا.
وإن اتفق الجاني والولي أنه قتله وهو زائل العقل، ولكن اختلفا بما زال به عقله: فقال الجاني: زال بالجنون، وقال الولي: بل زال بالسكر، وقلنا: يجب القصاص على السكران.. فالقول قول الجاني؛ لأنه أعرف بحاله، ولأن الأصل عدم وجوب القصاص عليه.

[مسألة وجب قصاص في إصبع فقطع اثنتين]
مسألة: [وجوب قصاص في إصبع فقطع اثنتين] : وإن وجب له القصاص في إصبع، فقطع له إصبعين، وقال المقتص: أخطأت، وقال المقتص منه: بل تعمدت.. فالقول قول المقتص مع يمينه؛ لأنه أعلم بفعله.
وإن قال المقتص: حصلت الزيادة باضطراب الجاني، وقال الجاني: بل قطعتها عامدًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول الجاني؛ لأن الأصل عدم الاضطراب.
والثاني: القول قول المقتص؛ لأن الأصل براءة ذمته من الضمان.

[فرع جرح ثلاثة رجلًا فمات واختلفوا بأيها مات]
] : وإن جرح ثلاثة رجلًا ومات، فقال أحدهم: اندملت جراحتي ثم مات من جراحة الآخرين، وصدقه الولي، وكذبه الآخران، فإن كانت الجنايات موجبة للقصاص، فأراد الولي القصاص.. لم يؤثر تكذيب الآخرين؛ لأن القصاص يجب عليهما بكل حال. وإن عفا الولي عن القصاص إلى الدية، أو كانت الجنايات غير موجبة للقصاص.. قبل تصديق الولي في حق نفسه دون الآخرين؛ لأن عليهما في ذلك ضررًا؛ لأنه إذا مات من جراحة ثلاثة.. وجب على كل واحد منهم ثلث الدية، وإذا مات من جراحة اثنين.. وجب على كل واحد منهما نصف الدية.

(11/610)


وإن قد رجلًا ملفوفًا، فقال الضارب: كان ميتًا، وقال الولي: بل كان حيًا.. ففيه قولان:
أحدهما: القول قول الجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته.
والثاني: القول قول الولي؛ لأن الأصل فيه الحياة.

[مسألة قطع عضو شخص ثم اختلفا بحاله]
] : وإن قطع رجل عضو رجل، ثم اختلفا: فقال الجاني: قطعته وهو أشل، وقال المجني عليه: قطعته وهو سليم.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: القول قول الجاني، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن الأصل براءة ذمته من الضمان.
والثاني: القول قول المجني عليه، وهو قول أحمد؛ لأن الأصل سلامته من الشلل.
ومنهم من قال: إن كان اختلافهما في الأعضاء الظاهرة، كاليد، والرجل، واللسان، والبصر، وما أشبهها.. فالقول قول الجاني، وإن كان اختلافهما في الأعضاء الباطنة، كالذكر، والأنثيين.. فالقول قول المجني عليه؛ لأن الأعضاء الظاهرة يمكن للمجني عليه إقامة البينة على سلامتها، فلم يقبل قوله في سلامتها، والباطنة لا يمكنه إقامة البينة على سلامتها، فقبل قوله في سلامتها، كما قلنا فيمن علق طلاق امرأته على دخول الدار.. فإنه لا يقبل قولها، ولو علق طلاقها على حيضها.. قبل قولها.
فإذا قلنا: القول قول الجاني في الأعضاء الظاهرة، وإنما لا يكون ذلك إذا لم يقر الجاني: أن المجني عليه كان صحيحًا، فأما إذا أقر: أنه كان صحيحًا، ثم ادعى: أنه طرأ عليه الشلل وجنى عليه وهو أشل، وقال المجني عليه: بل كان صحيحا وقت الجناية.. ففيه قولان:

(11/611)


أحدهما: القول قول الجاني مع يمينه؛ لأن البينة لا تتعذر على المجني عليه على سلامته، فلم يقبل قوله في سلامته.
والثاني: القول قول المجني عليه؛ لأنهما قد اتفقا على سلامته قبل الجناية، والأصل بقاء سلامته، فلم يقبل قول الجاني.
ومتى قلنا القول قول الجاني، فأراد المجني عليه إقامة البينة على سلامة العضو المجني عليه.. نظرت:
فإن شهدت: أن الجاني جنى عليه وهو سليم.. قبلت.
وإن شهدت عليه: أنه كان غير سليم قبل الجناية، فإن قلنا: إن الجاني إذا أقر بسلامته قبل الجناية فإن القول قوله.. لم تقبل هذه البينة، وإن قلنا هناك: القول قول المجني عليه.. قبلت؛ لأن المجني عليه يحتاج أن يحلف معها؛ لجواز أن يحدث عليها الشلل بعد الشهادة وقبل الجناية.

[فرع أوضحه اثنتين وأزال الحاجز بينهما]
] : وإن أوضحه موضحتين ثم زال الحاجز بينهما، فقال الجاني: تأكَّل ما بينهما بجنايتي، فلا يلزمني إلا أرش موضحة، وقال المجني عليه: لم يتأكل ما بينهما، وإنما أنا خرقت ما بينهما أو جنى عليه آخر.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء وجوب الأرشين على الجاني.
وإن أوضح رأسه، فقال الجاني: أوضحته موضحة، وقال المجني عليه: بل أوضحتني موضحتين، وأنا خرقت ما بينهما.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على أرش موضحة.
وإن قطع إصبعه، ثم زال كفه، فقال المجني عليه: سرى القطع إليه، وقال

(11/612)


الجاني: لم يسر إليه القطع، وإنما زال بسب آخر.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل عدم السراية. فأما إذا داوى المجني عليه موضع القطع، فقال الجاني: تأكَّلت بالدواء، وقال المجني عليه: تأكلت بالقطع.. سئل أهل الخبرة بذلك الدواء؟ فإن قالوا: إنه تأكل اللحم الميت والحي.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الظاهر أنه تأكل به. وإن قالوا: إنه تأكل الميت دون الحي.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه، فإن لم يعرف ذلك.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه أيضًا؛ لأنه أعلم بصفة الدواء، ولأن الظاهر أنه لا يداوي الجرح بما يضره ويزيد فيه.

[مسألة قطع أطرافه الأربعة فمات]
] : فإن قطع رجل يدي رجل ورجليه، ومات المجني عليه، فقال الجاني: مات من الجناية، فلا يلزمني إلا دية واحدة، وقال الولي: بل اندملت الجراحتان، ثم مات بسبب آخر، فعليك ديتان.. فإن كان بين الجناية والموت زمان لا يمكن أن تندمل فيه الجراحات.. فالقول قول الجاني بلا يمين؛ لأنا قد علمنا صدقه.
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال في " التعليق ": يحلف مع ذلك؛ لجواز أن يكون مات بحادث آخر، كلدغ الحية والعقرب.
قال ابن الصباغ: والأول أولى؛ لأن الولي ما ادعى ذلك، وإنما ادعى الاندمال، وقد علم كذبه، فأما إذا ادعى: أنه مات بسبب آخر.. حلفنا الجاني؛ لإمكانه.
وإن كان بينهما زمان لا تبقى إليه الجراحات غير مندملة، كالسنين الكثيرة.. فالقول قول الولي بلا يمين. وإن كان بينهما زمان يمكن أن تندمل فيه الجراحات ويمكن أن لا تندمل فيه.. فالقول قول الولي فيه مع يمينه؛ لأن الديتين قد وجبتا بالقطع، وشك في سقوط إحداهما بالاندمال، والأصل بقاؤهما.
وإن أقام الجاني بينة: أنه لم يزل ضمنًا من حين الجراحة إلى أن مات.. القول قوله مع يمينه، ولا يجب عليه إلا دية؛ لأن الظاهر أنه مات من الجنايتين.

(11/613)


وإن اختلفا في مضي مدة تندمل في مثلها الجراحات.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل عدم مضيها. وإن كان بينهما زمان لا تندمل في مثله الجراحات، وادعى الولي: أنه مات بسبب آخر، بأن قال: ذبح نفسه أو ذبحه آخر، وقال الجاني: بل مات من سراية الجناية.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق المروزي -: أن القول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء الجناية وحصول الموت منها.
والثاني - وهو قول أبي علي الطبري -: أن القول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء الديتين.
وإن قطع يده، ثم مات، فقال الولي: مات من سراية الجناية، فعليك الدية، وقال الجاني: بل اندملت الجناية، ثم مات بسبب آخر، فلا يلزمني إلا نصف الدية، فإن لم يمض من الزمان ما تندمل في مثله الجراحات.. فالقول قول الولي؛ لأن الظاهر أنه مات من سراية الجناية، وهل يحلف على ذلك؟ يحتمل وجهين:
أحدهما: يحلف؛ لجواز أن يكون قتله آخر، أو شرب سمًا، فمات منه.
والثاني: لا يحلف، كما قال ابن الصباغ في التي قبلها؛ لأنا قد علمنا كذب الجاني، ولأنه لم يدع الموت في ذلك، وإنما ادعى الاندمال.
وإن كان قد مضى من الزمان ما تندمل في مثله الجراحات، فإن كان مع الولي بينة: أنه لم يزل ضمنًا من حين الجناية إلى الموت.. فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأن الظاهر أنه مات بذلك، وإن لم يكن معه بينة على ذلك.. فالقول قول الجاني، وهل يلزمه اليمين؟ يحتمل الوجهين في التي قبلها.
وإن مضى زمان يمكن أن تندمل في مثله الجراحات ويمكن أن لا تندمل.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على نصف الدية.
وإن قطع يده، ومات في زمان لا تندمل فيه الجراحة، فقال الولي: مات من سراية الجناية، فعليك الدية، وقال الجاني: بل شرب سمًا، فمات منه، أو قتله آخر.. ففيه وجهان، كالتي قبلها.

(11/614)


[مسألة جنى على عين إنسان واختلفا في وجود الرؤية بها]
] : وإن جنى على عين رجل، ثم اختلفا: فقال الجاني: جنيت عليها وهو لا يبصر بها، وقال المجني عليه: بل كنت أبصر بها.. نظرت:
فإن قال الجاني: خلقت عمياء لا يبصر بها.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأنه لا يتعذر على المجني عليه إقامة البينة على أنه كان يبصر بها.
وإن قال الجاني: قد كان يبصر بها، ولكن طرأ عليها العمى قبل الجناية.. ففيه قولان، كما قلنا في الجاني إذا أقر بصحة العضو، ثم ادعى: أن الشلل طرأ عليه قبل الجناية.
وإذا أراد المجني عليه أن يقيم البينة: أنه كان يبصر بها.. فيكفي الشاهدين أن يشهدا: أنه كان يبصر بها، ويسوغ لهما أن يشهدا بذلك إذا رأياه يبصر الشخص ويتبعه في النظر، كلما عطف الشخص جهة.. أتبعه ببصره، أو يتوقى البئر إذا أتاها، أو يغمض عينه إذا جاء إنسان يتحسسها؛ لأن الظاهر ممن فعل هذا أنه يبصر، ويسعهما أن يشهدا على سلامة اليد إذا رأياه يرفع بها ويضع.
وليس للحاكم أن يسألهما إذا شهدا لرجل عن الجهة التي تحملا بها الشهادة على ذلك، كما ليس له أن يسألهما إذا شهدا لرجل بملك عين عن الجهة التي علما بها ملكه.

[فرع جنى على عين فذهب نور بصرها]
] : وإن جنى على عين رجل، فذهب ضوؤها، وقال أهل الخبرة: إنه يرجى عوده إلى مدة، فمات المجني عليه، وادعى الجاني: أن ضوءها قد عاد قبل موته، وقال الولي: لم يعد.. فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل عدم العود، فيحلف: أنه لا يعلم أن ضوء عين مورثه قد عاد؛ لأنه يحلف على نفس فعل غيره.
وإن جنى على عين رجل جناية ذهب بها ضوء عينه وبقيت الحدقة، ثم جاء آخر، فقلع الحدقة، فادعى الجاني الأول: أن الثاني قلع الحدقة بعد أن عاد ضوؤها، وقال الجاني الثاني: قلعتها قبل عود ضوئها، فإن صدق المجني عليه الجاني الأول.. قبل تصديقه في حق الأول؛ لأن ذلك يتضمن إسقاط حقه عنه، ولا يقبل قوله على

(11/615)


الثاني؛ لأن ذلك يوجب الضمان عليه، والأصل براءة ذمته من الضمان، فيحلف الثاني: أنه قلعها قبل أن عاد ضوؤها، ولا يلزمه إلا الحكومة.

[مسألة جنى على أذن فأذهب سمعها]
] : وإن جنى على أذنه جناية، وادعى المجني عليه: أنه ذهب بها سمعه، وكذبه الجاني.. فإن المجني عليه يراعى أمره في وقت غفلاته، فإن كان يضطرب عند صوت الرعد، أو إذا صيح به وهو غافل أجاب أو اضطرب أو ظهر منه شيء يدل على أنه سامع.. فالقول قول الجاني؛ لأن الظاهر أنه لم يذهب سمعه، ويحلف الجاني: أنه لم يذهب سمعه؛ لجواز أن يكون ما ظهر منه اتفاقًا لا أنه يسمع.
وإن كان لا يضطرب لصوت الرعد، ولا يجيب إذا صيح به مع غفلته ولا يضطرب لذلك.. فالقول قول المجني عليه؛ لأن الظاهر أنه لا يسمع، ويحلف: أنه قد ذهب سمعه؛ لجواز أن يكون قد تصنع لذلك.
وإن ادعى: أنه ذهب سمعه في إحدى الأذنين دون الأخرى.. سدت الصحيحة، وأطلقت العليلة، وامتحن في أوقات غفلاته على ما ذكرناه.
وإن ادعى: أنه نقص سمعه بالجناية ولم يذهب.. فالقول قوله مع يمينه في قدر نقصه؛ لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهته.

[فرع جنى على منخريه فادعى ذهاب شمه]
] : وإن جنى على أنفه جناية، فادعى المجني عليه: أنه ذهب بها شمه، وأنكر الجاني: أنه لم يذهب شمه.. قربت إليه الروائح الطيبة والمنتنة في أوقات

(11/616)


غفلاته، فإن هش إلى الروائح الطيبة وعبس للروائح المنتنة.. فالقول قول الجاني مع يمينه، وإن لم يظهر منه ذلك.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لما ذكرناه في السمع. وإن ادعى ذهاب شمه من أحد المنخرين، أو ادعى نقصان شمه.. فعلى ما ذكرناه في السمع.
وإذا حلف المجني عليه: أن سمعه أو شمه قد ذهب بالجناية، وأخذ الدية، فاضطرب عند صوت رعد، فإن ادعى الجاني: أن سمعه قد عاد، أو ارتاح إلى رائحة طيبة، أو غطى أنفه عند رائحة منتنة، فادعى الجاني: أن شمه قد عاد، وادعى المجني عليه: أنه لم يعد.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لأن الأصل عدم عوده، وما ظهر منه.. يحتمل أن يكون اتفاقًا، أو غطى أنفه لغبار أو لريح دخل بها.

[فرع قطع لسان امرئ وادعى بكمه]
] : وإن قطع لسان رجل، فادعى الجاني: أنه كان أبكم قبل الجناية، وادعى المجني عليه: أنه لم يكن أبكم.. نظرت:
فإن ادعى الجاني: أنه خلق أبكم.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأنه لا يتعذر على المجني عليه إقامة البينة على الكلام.
وإن أقر الجاني: أنه كان يتكلم بلسانه، وادعى: أن البكم طرأ عليه قبل الجناية.. ففيه قولان، كما قلنا فيمن أقر بصحة العضو، وادعى طريان الشلل عليه قبل الجناية.
وإن جنى على ظهره، فادعى المجني: أنه ذهب بذلك جماعه، وأنكر الجاني.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لأنه لا يتوصل إلى العلم بذلك إلا من جهته.

[مسألة ادعت إسقاط جنين ميت من ضربه]
إذا أسقطت امرأة جنينًا ميتًا، فادعت على إنسان: أنه ضربها وأسقطت من ضربته، فإن أنكر الضرب، ولا بينة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم

(11/617)


الضرب، وإن أقر بالضرب، وأنكر: أنها أسقطت جنينًا.. فعليها أن تقيم البينة بأنها أسقطت جنينًا؛ لأنه يمكنها إقامة البينة على ذلك، فإن لم يكن معها بينة.. فالقول قول الضارب مع يمينه؛ لأنه لا يعلم أنها أسقطت جنينًا؛ لأن الأصل عدم الإسقاط.
وإن أقامت البينة: أنها أسقطت جنينًا، أو أقر الضارب: أنها أسقطت جنينًا، إلا أنه أنكر: أنها أسقطته من ضربه.. نظرت:
فإن أسقطت عقيب الضرب، أو بعد الضرب بزمان، إلا أنها بقيت متألمة من حين الضرب إلى أن أسقطت.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الظاهر أنها أسقطته من ضربه.
وإن أسقطته بعد الضرب بزمان وكانت غير متألمة بعد الضرب.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الضمان.
وإن اختلفا: فادعت: أنها بقيت متألمة بعد الضرب إلى أن أسقطت، وأنكر ذلك، ولا بينة لها على التألم.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التألم.

[فرع أسقطت من ضربه جنينًا ثم مات]
] : فإن أسقطت من ضربه جنينًا حيًا، ثم مات، فقال ورثة الجنين: مات من الضرب، وقال الجاني: مات بسبب آخر، فإن مات عقيب الإسقاط، أو بعد الإسقاط بزمان إلا أنه بقي متألمًا إلى أن مات.. فالقول قول ورثة الجنين مع أيمانهم؛ لأن الظاهر أنه مات من الضرب، وإن مات بعد الإسقاط بزمان وكان غير متألم بعد الإسقاط.. فالقول قول الضارب مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الضمان.
وإن اختلفوا في تألمه.. فالقول قول الضارب مع يمينه؛ لأن الأصل عدم تألمه.
وإن ادعى ورثة الجنين: أنه سقط حيًا ومات من الضرب، وقال الجاني: بل سقط ميتًا.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحياة فيه، فإن أقام ورثته بينة: أنه سقط حيًا، وأقام الجاني أو عاقلته بينة: أنه سقط ميتًا.. قدمت بينة ورثة الجنين؛ لأن معها زيادة علم.

(11/618)


وإن أسقطت من ضربه جنينًا حيًا، ومات من الضرب، فقال ورثة الجنين: إنه كان ذكرًا، فعليك دية ذكر، وقال الجاني: بل كان أنثى.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على دية أنثى.
وإن أسقطت من ضربه جنينين ذكرًا وأنثى، فاستهل أحدهما ومات من الضرب، وأحدهما سقط ميتًا، فإن عرف المستهل منهما.. وجبت فيه الدية الكاملة، وفي الآخر الغرة، وإن لم يعرف المستهل منهما.. لم يلزم العاقلة إلا دية أنثى وغرة عبد أو أمة؛ لأنه اليقين، وما زاد مشكوك فيه.

[مسألة ادعى قتلًا يثبت الدية فكذبته العاقلة]
] : وإن ادعى على رجل قتلًا تثبت فيه الدية على عاقلته، فإن أقر بذلك، وكذبته العاقلة.. كانت الدية في ماله؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحمل العاقلة عمدًا، ولا عبدًا، ولا صلحًا، ولا اعترافًا» ، ولأنا لو قبلنا إقراره على العاقلة.. لم يؤمن أن يواطئ من يقر له بقتل الخطأ؛ ليدخل الضرر على عاقلته، فلم يقبل إقراره. فإن ضرب بطن امرأة، فأسقطت من ضربه جنينًا، فادعى ورثة الجنين: أنه سقط حيًا ومات من ضربته، وصدقهم الجاني، وقالت العاقلة: بل سقط ميتًا.. فالقول قولهم مع أيمانهم، فإذا حلفوا.. لم يلزمهم أكثر من قدر الغرة، ويجب تمام الدية في مال الجاني؛ لأنه وجبت باعترافه.
وهكذا: لو أسقطت جنينًا حيًا، ومات من الضرب، فقال ورثة الجنين: كان ذكرًا، وصدقهم الجاني، وقالت العاقلة: بل كان أنثى.. فالقول قول العاقلة مع أيمانهم، فإذا حلفوا.. لم يلزمهم إلا دية امرأة، ووجب في مال الجاني تمام دية الرجل؛ لأنه وجب باعترافه.

[فرع في قتل العمد يجب الحوامل من الإبل]
] : إذا وجب على قاتل العمد الخلفات، فأحضر إبلا ليدفعها، وقال: هن

(11/619)


خلفات، وقال الولي: ليست بخلفات.. عرضت على أهل الخبرة بالإبل، فإن قالوا: هن حوامل.. كلف الولي أخذها، وإن قالوا: ليست بحوامل.. كلف الجاني إحضار الحوامل ودفعهن.
فإن أخذ الولي الإبل - بقول أهل الخبرة: إنهن حوامل - أو اتفق هو والقاتل: أنهن حوامل، فإن صح أنهن حوامل.. فقد استوفى حقه، وإن خرجن غير حوامل.. نظرت:
فإن كانت الإبل حاضرة ولم يغيبها.. كان للولي ردها والمطالبة بحوامل.
وإن كان الولي قد غيبها مدة يمكن أن تضع فيها، فقال القاتل: كن حوامل وقد وضعن في يدك، وقال الولي: لم يكن حوامل، فإن كان الولي قد أخذ الإبل باتفاقهما لا بقول أهل الخبرة.. فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحمل، وإن كان قد أخذها بقول أهل الخبرة.. ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول الولي مع يمينه؛ لأن أهل الخبرة إنما يخبرون من طريق الظن والاستدلال، ويجوز أن لا يكون صحيحًا، فكان القول قول الولي مع يمينه، كما لو أخذها الولي باتفاقهما.
والثاني: أن القول قول الجاني مع يمينه؛ لأنا قد حكمنا بكونها حوامل بقول أهل الخبرة، فإذا ادعى الولي: أنها ليست بحوامل.. كان قوله مخالفًا للظاهر، فلم يقبل قوله.
وبالله التوفيق

(11/620)


[باب كفارة القتل]
الأصل في وجوب الكفارة في القتل: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] الآية [النساء: 92] . فذكر الله تعالى في الآية ثلاث كفارات.
إحداهن: إذا قتل مسلم مسلمًا في دار الإسلام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] .
الثانية: إذا قتل مؤمنًا في دار الحرب، بأن كان أسيرًا في صفهم أو مقيمًا باختياره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . ومعناه: في قوم عدو لكم.
والثالثة: إذا قتل ذميًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] .
إذا ثبت هذا: فظاهر الآية أنه ليس له أن يقتله عمدًا، وله قتله خطأ؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات. قال الشيخ أبو حامد: ولا خلاف بين أهل العلم أن قتل الخطأ محرم كقتل العمد، إلا أن قتل العمد يتعلق به الإثم، وقتل الخطأ لا إثم فيه.
واختلف أصحابنا في تأويل قوله: {إِلا خَطَأً} [النساء: 92] :
فمنهم من قال: هو استثناء مقطوع من غير الجنس، فيكون تقديره: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ، معناه: لكن إن قتله خطأ.. فتحرير رقبة؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} [النساء: 29] [النساء: 29] . وتقديره: لكن كلوا بالتجارة؛ لأنه لو كان استثناء من الجنس.. لكان تقديره: إلا أن تكون تجارة بينكم عن تراض منكم.. فكلوها بالباطل، وهذا

(11/621)


لا يجوز. ومنهم من قال: هو استثناء من مضمر محذوف، فيكون تقديره: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا، فإن قتله.. أثم، إلا أن يكون خطأ، فاستثنى الخطأ من الإثم المحذوف المضمر في الآية. ومنهم من قال: تأويل قَوْله تَعَالَى: {إِلا خَطَأً} [النساء: 92] بمعنى: ولا خطأ؛ كقوله تعالى: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] [البقرة: 150] . يعني: ولا الذين ظلموا منهم.
قال ابن الصباغ: وهذا التأويل بعيد؛ لأن الخطأ لا يتوجه إليه النهي. قال: وقول الشيخ أبي حامد: إن قتل الخطأ محرم لا إثم فيه.. مناقضة؛ لأن حد المحرم ما يأثم فيه، والخطأ لا يوصف بالتحريم ولا بالإباحة، كفعل المجنون والبهيمة.

[مسألة القتل بأنواعه تجب فيه كفارة]
] : وإن قتل من يحرم قتله لحق الله تعالى عمدًا، أو خطأ، أو عمد خطأ.. وجبت عليه بقتله الكفارة، وبه قال الزهري.
وقال ربيعة، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (تجب الكفارة بقتل الخطأ، ولا تجب بقتل العمد المحض، ولا بعمد الخطأ) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . فنص على وجوب الكفارة في قتل الخطأ؛ لينبه بذلك على وجوبها في العمد المحض وعمد الخطأ؛ لأن الخطأ أخف حالًا من قتل العمد؛ لأنه لا قود فيه ولا إثم، والدية فيه مخففة، فإذا وجبت فيه الكفارة.. فلأن تجب في قتل العمد المحض وعمد الخطأ أولى.
«وروى واثلة بن الأسقع، قال: أتينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعتقوا عنه رقبة.. يعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار» . ولا يستوجب النار إلا في قتل العمد.

(11/622)


وروي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قال: يا رسول الله، إني وأدت في الجاهلية؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعتق بكل موءودة رقبة» و (الموءودة) : البنت المقتولة عندما تولد، كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك مخافة العار والفقر.
ولأنه حيوان يضمن بالكفارة إذا قتل خطأ، فوجب أن يضمن بالكفارة إذا قتل عمدًا، كالصيد. وعكسه المرتد، فإن قتل نساء أهل الحرب وذراريهم.. لم تجب عليه الكفارة؛ لأن قتلهم إنما حرم لحق المسلمين لا لحق الله، فلم تجب به الكفارة، كما لو ذبح بهيمة غيره بغير إذنه.

(11/623)


[فرع تجب الكفارة في قتل العبد والذمي والمعاهد]
] : وإن قتل عبدًا لنفسه أو لغيره، أو قتل ذميًا أو معاهدًا.. وجبت عليه الكفارة.
وقال مالك رحمة الله عليه: (لا تجب في ذلك كله الكفارة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . وهذا عام في الحر والعبد. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . وهذا يقع على الذمي والمعاهد.
ولأنه آدمي يجري القصاص بينه وبين نظيره، فوجبت بقتله الكفارة، كالحر المسلم. وإن قتل نفسه.. وجبت الكفارة عليه في ماله.
وقال بعض أصحابنا الخراسانيين: لا تجب الكفارة.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . وهذا عام. ولأنه يحرم عليه قتل نفسه، بل لا يجوز له قتل نفسه بحال، فإذا وجبت عليه الكفارة بقتل غيره.. فلأن تجب بقتل نفسه أولى.

[فرع ضرب بطن امرأة فألقت جنينًا فعليه كفارة]
] : وإن ضرب بطن امرأة، فألقت من ضربه جنينًا ميتًا.. وجبت عليه الكفارة، وبه قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، والزهري، والنخعي، والحسن، والحكم - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.

(11/624)


وقال أبو حنيفة: (لا تجب فيه الكفارة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . وقد حكمنا للجنين بالإيمان تبعًا لأبويه، فيكون داخلًا في عموم الآية.
ولأنه آدمي محقون الدم بحرمته، فوجبت فيه الكفارة كغيره.
فقولنا: (آدمي) احتراز من غير الآدمي من الحيوان.
وقولنا: (محقون الدم) احتراز من المرتد، والحربي، ومن جاز له قتله.
وقولنا: (لحرمته) احتراز من نساء أهل الحرب وذراريهم، فإنه ممنوع من قتلهم لا لحرمتهم، ولكن لحق الغانمين.

[فرع الكفارة فيمن حرم قتله لِحَقِّه تبارك وتعالى]
] : وإن قتل من يحرم قتله لحقِّ الله تعالى بسبب يجب به ضمانه، بأن حفر بئرًا في غير ملكه متعديًا، فسقط فيها إنسان ومات.. وجبت عليه الكفارة.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب الكفارة إلا بالمباشرة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . ولم يفرق بين أن يقتله بالمباشرة أو بالسبب.
ولأنه قتل آدميًا ممنوعًا من قتله لحرمته، فوجبت عليه الكفارة، كما لو قتله بالمباشرة.

[فرع وجوب الكفارة على القاتل ولو صبيًا أو كافرًا]
] : وإن كان القاتل صبيًا أو مجنونًا أو كافرًا.. وجبت عليه الكفارة.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب على واحد منهم الكفارة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . ولم يفرق بين أن يكون القاتل صبيًا أو مجنونًا أو كافرًا.

(11/625)


فإن قيل: الصبي والمجنون لا يدخلان في الخطاب؟
قلنا: إنما لا يدخلان في خطاب المواجهة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] [الأحزاب: 70] ، ويدخلان في خطاب الإلزام، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي كل أربعين شاةً شاةٌ» . وروي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قال: يا رسول الله، إني وأدت في الجاهلية؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعتق بكل موؤدة رقبة» . وهذا نص في إيجاب الكفارة على الكافر. ولأنه حق مال يتعلق بالقتل، فتعلق بقتل الصبي والمجنون، كالدية. ولأن الكفارة تجب على المسلم للتكفير، وعلى الكافر عقوبة، كما أن الحدود تجب على المسلم كفارات، وعلى الكافر عقوبة.

[فرع يكفر جماعة قتلوا إنسانًا]
إذا اشترك جماعة في قتل واحد.. وجب على كل واحد منهم كفارة.
قال عثمان البتي: تجب عليهم كفارة واحدة.
وحكى أبو علي الطبري: أن هذا قول آخر للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنها كفارة تتعلق بالقتل، فإذا اشترك الجماعة في سببها.. وجبت عليهم كفارة واحدة، كما لو اشتركوا في قتل صيد. والأول هو المشهور؛ لأنها كفارة وجبت لا على سبيل البدل عن النفس، فوجب أن تكون على كل واحد من الجماعة إذا اشتركوا في سببها ما كان يجب على الواحد إذا انفرد، ككفارة الطيب للمحرم. وقولنا: (لا على سبيل البدل) احتراز من جزاء الصيد.

[مسألة كفارة القتل]
] : و (كفارة القتل) : عتق رقبة مؤمنة لمن وجدها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]

(11/626)


[النساء: 92] . ولا خلاف في ذلك.
فإن لم يجد الرقبة.. وجب عليه صوم شهرين متتابعين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] [النساء: 92] .
فإن لم يقدر على الصوم.. ففيه قولان:
أحدهما: يجب عليه أن يطعم ستين مسكينًا؛ لأن الله تعالى ذكر الإطعام في كفارة الظهار، ولم يذكره في كفارة القتل، فوجب أن يحمل المطلق في القتل على المقيد في الظهار، كما قيد الله الرقبة في القتل بالإيمان، وأطلقها في كفارة الظهار، فحمل مطلق الظهار على مقيد القتل.
والثاني: لا يجب عليه الإطعام، وهو الأصح؛ لأن الله تعالى أوجب الرقبة في كفارة القتل، ونقل عنها إلى صوم الشهرين، ولم ينقل إلى الإطعام، فدل على: أن هذا جميع الواجب فيها.
وما ذكره الأول.. فغير صحيح. ولأن المطلق إنما يحمل على المقيد إذا كان

(11/627)


الحكم مذكورًا في موضعين، إلا أنه قيده في موضع بصفة، وأطلقه في الموضع الآخر، كما ذكر الله تعالى الرقبة في كفارة القتل مقيدة بالإيمان، وذكرها في الظهار مطلقة، فحمل مطلق الظهار على مقيد القتل، وكما ذكر الله تعالى اليدين في الطهارة وقيدهما إلى المرفقين، وذكرهما في التيمم مطلقًا، فحمل مطلق التيمم فيهما على ما قيده فيهما في الطهارة. وهاهنا الإطعام لم يذكره في الموضعين، وإنما ذكره في الظهار، فلم يجز نقل حكمه إلى كفارة القتل، كما لم يجز نقل حكم مسح الرأس وغسل الرجلين إلى التيمم، وحكم الرقبة والصوم والإطعام إذا أوجبناه، على ما قد تقدم في كفارة الظهار.
والله أعلم بالصواب

(11/628)