البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب قتال أهل البغي]
يجب نصب الإمام. وقال بعض المتكلمين: لو تكافَّ الناس عن الظلم.. لم يجب نصب الإمام. وهذا خطأ؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم اجتمعوا على

(12/7)


نصب الإمام. ولأن الظلم من طبع الخلق، وإنما تظهره القدرة ويخفيه العجز.
ولأنهم وإن تكافُّوا عن الظلم فإنه يفتقر إليه لتجهيز الجيوش في جهاد الكفار، وأخذ الجزية والصدقة ووضعها في مواضعها.
إذا ثبت هذا: فمن شرط الإمام: أن يكون ذكرا، بالغا، عاقلا، مسلما، عدلا، عالما من الفقه ما يخرجه عن أن يكون مقلدا؛ لأن هذه الشروط تعتبر في حق القاضي.. فلأن تعتبر في حق الإمام أولى.
ومن شروط الإمام: أن يكون شجاعا له تدبير وهداية إلى مصالح المسلمين؛ لأنه لا يكمل لتحمل أعباء الأمة إلا بذلك.

(12/8)


ومن شرطه: أن يكون قرشيا، من أي بيوت قريش كان.
وقال أبُو المعالي الجويني: من أصحابنا من يجوز أن يكون من غير قريش. وهذا خطأ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأئمة من قريش» . ولأن الأمة أجمعت على ذلك.
قال القاضي أبُو الفتوح: ومن شرطه: أن لا يكون أعمى، ويجوز أن يكون النَّبي أعمى؛ لأن شعيبا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أعمى.

(12/9)


فإذا اجتمعت في الرجل شروط الإمامة.. فإن الإمامة لا تنعقد إلا بأن يستخلفه الإمام الذي كان قبله، أو بأن لم يكن هناك إمام فيقهر الناس بالغلبة، أو بأن يعقد له الإمامة أهل الحل والعقد، ولا يلتفت إلى إجماع العامة على عقده؛ لأنهم أتباع لأهل الاجتهاد.
قال الشيخُ أبُو إسحاق في " التنبيه ": ولا ينعقد إلا بعقد جماعة من أهل الحل والعقد. ومقتضى كلامه: أن أقلهم ثلاثة؛ لأن ذلك أقل الجمع عندنا.
وقال القاضي أبُو الفتوح: ينعقد بعقد واحد من أهل الحل والعقد.
ومن شرط العاقد: أن يكون ذكرا، بالغا، عاقلا، مسلما، عدلا، مجتهدا.
وهل من شرط العقد أن يكون بحضرة شاهدين؟ فيه وجهان.
ومن شرط العاقد والشاهد إذا اعتبرناه: أن يكون عدلا ظاهرا وباطنا؛ لأنه لا يشق مراعاة ذلك فيهما.
ولا يجوز نصب إمامين.
وقال الجويني: يجوز عقد الإمامة لإمامين في صقعين متباعدين. وهذا خطأ؛ لإجماع الأمة: أن ذلك لا يجوز.
فإن عقدت الإمامة لرجلين: فإن علم السابق منهما.. صح العقد الأول، وبطل العقد الثاني، ثم ينظر في الثاني: فإن عقد له مع الجهل بالأول، أو مع العلم به لكن بتأويل سائغ.. لم يعزر المعقود له ولا العاقد، وإن عقد للثاني مع العلم بالأول من غير تأويل

(12/10)


سائغ.. عزر العاقد والمعقود له؛ لما رُوِي: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا بويع لخليفتين.. فاقتلوا الآخر منهما» .
وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (من دعا إلى إمارة نفسه أو غيره.. فاقتلوه) . قال الخطابي: ولم يرد القتل، وإنما أراد: اجعلوه كمن مات أو قتل، فلا تقبلوا له قولا.
وقيل: أراد: اخلعوا الثاني وأَلغوا بيعته؛ حتى يكون في عداد من قتل.
وإن وقع العقدان معا.. بطلا، ويستأنف العقد لأحدهما.
والمستحب: أن يعقد لأفضلهما وأصلحهما، فإن عقدت الإمامة للمفضول.. صح، كما يصح في إمامة الصلاة أن يؤم من يصلح للإمامة وإن كان هناك من هو أولى منه بها.

(12/11)


وإن تيقن سبق أحدهما ولم يعرف.. بطلا، واستؤنف العقد؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
وإن عرف السابق منهما ولكن نسي، فإن رجي معرفة السابق في مدة يوم أو يومين أو ثلاثة.. انتظر؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه أوصى بالخلافة إلى أهل الشورى، وانتظروا في العقد أياما، ولم يُنكر عليهم. وإن لم يُرج انكشاف ذلك إلا بأكثر من ذلك.. استؤنف العقد؛ لأن في ترك العقد إضرارا.
وإذا انعقدت الإمامة لرجل.. كان العقد لازما، فإن أراد أن يخلع نفسه.. لم يكن له.
فإن قيل: فكيف خلع الحَسَن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما نفسه؟

(12/12)


قلنا: لعله علم من نفسه ضعفا عن تحملها، أو علم أنه لا ناصر له ولا معين.. فخلع نفسه تقية.
وإن أراد أهل الحل والعقد خلع الإمام.. لم يكن لهم ذلك إلا أن يتغير.
وإن فسق الإمام.. فهل ينخلع؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الجويني:
أحدها: ينخلع بنفس الفسق، وهو الأصح، كما لو مات.
والثاني: لا ينخلع حتى يحكم بخلعه، كما إذا فك عنه الحجر، ثم صار مبذرا.. فإنه لا يصير محجورا عليه إلا بالحكم.
والثالث: إن أمكن استتابته وتقويم أوده.. لم يخلع، وإن لم يمكن ذلك.. خلع.

(12/13)


فإن كان هناك إمام، فقهره رجل - يصلح للإمامة - بالسيف وغلبه.. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن كانت إمامة الأول ثبتت باستخلاف إمام قبله، أو بعقد أهل الحل والعقد.. لم ينعزل الأول، وإن ثبتت إمامة الأول بغلبة السيف.. انعزل الأول؛ وثبتت إمامة الثاني؛ لأن إمامة الأول ثبتت بالغلبة، وقد زالت غلبته.
وإذا تقرر هذا: فلا يجوز خلع الإمام بغير معنى موجب لخلعه، ولا الخروج عن طاعته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] [النساء: 59] .
ورُوِي عن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «بايعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله» .
ورَوَى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نزع يده من طاعة إمامه.. فإنه يأتي يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية»
ورَوَى ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من فارق الجماعة شبرا فكأنما خلع من عنقه ربقة الإسلام» .

(12/14)


ورَوَى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حمل علينا السلاح فليس منا» .

[مسألة: بغي طائفة على الإمام]
] : إذا بغت على الإمام طائفة من المسلمين، وأرادت خلعه، أو منعت حقا عليها.. تعلقت بهم أحكام يختصون بها دون قطاع الطريق والخوارج.
ولا تثبت هذه الأحكام في حقهم إلا بشروط توجد فيهم:

(12/15)


أحدها: أن يكونوا طائفة فيهم منعة يحتاج الإمام في كفهم إلى عسكر، فإن لم يكن فيهم منعة، وإنما هم عدد قليل.. لم يتعلق بهم أحكام البُغاة، فإنما هم قطاع الطريق، لما رُوِي: أن عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله قتل علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان متأولا في قتله، فأقيد به، ولم ينتفع بتأويله؛ لأنه لم يكن في طائفة ممتنعة، وإنما كانوا ثلاثة رجال تبايعوا على أن يقتلوا عليا ومعاوية وعمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في يوم واحد، فأما صاحب عمرو بن العاص: فذهب إلى مصر، فلم يخرج عمرو ذلك اليوم، وأمَّا صاحب معاوية: فذهب إليه إلى الشام، فلم يتمكن من قتله، وإنما جرحه في أليته، فأراه الطبيب، فقال له: إن كويته.. برئ، ولكن ينقطع النسل، فقال: (في يزيد كفاية) ، وكواه وبرئ، وأمَّا عبد الرحمن بن ملجم: فجرح عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - فمات - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
الشرط الثاني: أن يخرجوا من قبضة الإمام، فإن لم يخرجوا من قبضته.. لم يكونوا بُغاة، لما رُوِي: أن رجلا قال على باب المسجد - وعلي يخطب على المنبر -: لا حكم إلا لله ورسوله، تعريضا له في التحكيم في صفين، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: (كلمة حق أريد بها باطل) ثم قال: (لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدؤكم بقتال) . فأخبر: أنهم ما لم يخرجوا من قبضته.. لا يبدؤهم بقتال.

(12/16)


ولأن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتعرض للمنافقين الذين كانوا معه في المدينة، فلأن لا يتعرض لأهل البغي وهم مسلمون أولى.
الشرط الثالث: أن يكون لهم تأويل سائغ، مثل: أن تقع لهم شبهة يعتقدون عنها الخروج على الإمام، أو منع حق عليهم، وإن أخطئوا في ذلك، كما تأوَّل بَنُو حَنِيفَة منع الزكاة بقوله تَعالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103] [التوبة: 103] . قالوا: فأمر الله بدفع الزكاة إلى من صلاته سكن لنا،

(12/17)


وهو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأما ابن أبي قحافة: فليست صلاته سكنا لنا، ولهذا: لما انهزموا.. قالوا: والله ما كفرنا بعد إيماننا، وإنما شححنا على أموالنا.
فأما إذا لم يكن لهم تأويل سائغ، فحكمهم حكم قطاع الطريق.
وهل من شرطهم أن ينصبوا إماما؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك من شرطهم؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وإن ينصبوا إماما) .
فعلى هذا: إذا لم ينصبوا إماما.. كانوا لصوصا وقطاعا للطريق.
والثاني - وهو المذهب -: أن ليس من شرطهم أن ينصبوا إماما؛ لأن أحكام أهل البصرة وأهل النهروان مع عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - أحكام البُغاة، ولم ينصبوا إماما، وأمَّا ما ذكره الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنما ذكره؛ لأن الغالب من أمرهم أنهم ينصبون إماما.
قال القفال: وسواء كان الإمام عادلا أو جائرا.. فإن الخارج عليه باغ، إذ الإمام لا ينعزل بالجور، وسواء كان الخارج عليه عادلا أو جائرا.. فإن خروجه على الإمام جور.
وإذا اجتمعت هذه الشروط في الخارجين على الإمام.. قاتلهم الإمام، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] . وفى الآية خمسة أدلة:
أحدها: أن البغي لا يخرج عن الإيمان؛ لأن الله سماهم مؤمنين في حال بغيهم.
والثاني: وجوب قتالهم، حيث قال تَعالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] .
والثالث: أنهم إذا رجعوا إلى الطاعة.. لم يقاتلوا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] .

(12/18)


الرابع: أنه لا يجب عليهم ضمان ما أتلفوا في القتال.
الخامس: وجوب قتال كل من عليه حق فمنعه.
ويدل على جواز قتال البُغاة: ما رُوِي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قاتل مانعي الزكاة وكانوا بُغاة؛ لأنهم كانوا مُتأوِّلين) . و: (قاتل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه أهل الجمل وأهل صفين والخوارج بالنهروان) .
ولا يبدؤهم الإمام بالقتال حتى يراسلهم ويسألهم: ما ينقمون؟ فإن ذكروا مظلمة ردها، وإن ذكروا شبهة.. كشفها، وبين لهم وجه الصواب.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يبدؤهم بالقتال) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] .
فبدأ بالصلح قبل القتال وفي هذا إصلاح.
ورُوِي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - لما كاتب معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحكَّم.. خرج من معسكره ثمانية آلاف، ونزلوا بحروراء، وأرادوا قتاله، فأرسل إليهم ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقال لهم: ما تنقمون منه؟ قالوا: ثلاث، فقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إن رفعتها رجعتم؟ قالوا: نعم، قال: وما هي؟ قالوا: حكَّم في دين الله، ولا حكم إلا لله، وقتل ولم يسب، فإن حل لنا قتلهم.. حل لنا

(12/19)


سبيهم. ومحا اسمه من الخلافة، فقد عزل نفسه من الخلافة، يعنون اليوم الذي كتب فيه الكتاب بينه وبين أهل الشام، فكتب فيه: أمير المؤمنين، فقالوا: لو أقررنا بأنك أمير المؤمنين.. ما قاتلناك، فمحاه من الكتاب.
فقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أما قولكم: إنه حكَّم في دين الله.. فقد حكَّم اللهُ في الدين، فقال الله تَعالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] [النساء: 35] . فحكَّم الله بين الزوجين. وقال الله تَعالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] [المائدة 95] . فحكَّم الله في أرنب قيمتها درهم، فلأن يجوز أن يحكِّم في هذا الأمر العظيم بين المسلمين أولى.
وأمَّا قولكم: إنه قتل ولم يسب.. فأيكم كان يأخذ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في سهمه وقد قال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] ، وإذا ثبت أن سبي عائشة لا يجوز.. كان غيرها من النساء مثلها.
وأمَّا قولكم: إنه محا اسمه من الخلافة، فقد عزل نفسه.. فغلطٌ؛ لـ: (أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محا اسمه من النبوة) . وذلك: أنه «لما قاضَى سهيل بن عمرو يوم الحديبية.. كتب الكتاب: " هذا ما قاضَى به محمد رسول الله، سهيل بن عمرو "، فقال: لو اعترفنا بأنك رسول الله.. لما احتجت إلى كتاب، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للكاتب - وكان علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: " امحُ رسول الله "، فلم يفعل، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أين رسول الله؟ "، فأراه إياه، فمحاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإصبعه» .
فرجع منهم أربعة آلاف، وقاتل الباقين.

(12/20)


[فرع: طلب إنظار البُغاة]
] : وإذا أراد الإمام أن يقاتلهم، فسألوه أن ينظرهم.. نظرت:
فإن سألوه أن ينظرهم أبدا.. لم يجز له ذلك؛ لأنه لا يجوز لبعض المسلمين ترك طاعة الإمام.
وإن سألوه أن ينظرهم مدة.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخُ أبُو إسحاق: إن سألوه أن ينظرهم يوما أو يومين أو ثلاثا.. أنظرهم؛ لأن ذلك مدة قريبة، ولعلهم يرجعون إلى الطاعة، وإن طلبوا أكثر من ذلك.. بحث عنه الإمام، فإن كان قصدهم الاجتماع على الطاعة.. أنظرهم.. وإن كان قصدهم الاجتماع على القتال.. لم ينظرهم؛ لما في ذلك من الإضرار.
وقال ابن الصبَّاغ: إذا سألوه أن ينظرهم مدة مديدة.. كشف الإمام عن حالهم، فإن كانوا إنما سألوا ذلك ليجتمعوا أو يأتيهم مدد.. عاجلهم بالقتال ولم ينظرهم، وإن سألوا ليتفكروا ويعودوا إلى الطاعة.. أنظرهم؛ لأنه يجوز أن يلحقهم مدد في اليوم واليومين والثلاث، كما يلحقهم فيما زاد على ذلك.
وكل موضع قلنا: لا يجوز إنظارهم، فبذلوا على الإنظار مالا.. لم يجز إنظارهم؛ لأنه يأخذ المال على إقرارهم فيما لا يجوز إقرارهم عليه، ولأن فيه إجراء صغار على المسلمين، فلم يجز.
وإن بذلوا على الإنظار رهائن منهم أو من أولادهم، لم يجز قبول ذلك منهم؛ لأنهم ربما قويت شوكتهم على أهل العدل، فهزموهم وأخذوا الرهائن.
وإن كان في أيديهم أُسارى من أهل العدل، فسألوا الكف عنهم على أن يطلقوا الأسارى من أهل العدل، وأعطوا بذلك رهائن من أولادهم.. قبل الإمام ذلك منهم،

(12/21)


واستظهر لأهل العدل، فإن أطلق أهل البغي الأسارى الذين عندهم.. أطلق الإمام رهائنهم، وإن قتلوا من عندهم من الأسارى.. لم يقتل رهائنهم؛ لأنهم لا يقتلون بقتل غيرهم، فإذا انقضت الحرب.. خلى رهائنهم.
وإن كان في أهل العدل ضعف عن قتالهم.. أخر الإمام قتالهم إلى أن يكون بهم قوة؛ لأنه إذا قاتلهم مع الضعف.. لم يؤمن الهلاك على أهل العدل.

[مسألة: رجوع البُغاة إلى طاعتنا يمنع قتالهم]
] : وإن قال أهل البغي: رجعنا إلى طاعة الإمام ... لم يجز قتالهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] . و (الفيئة) : الرجوع.
وهكذا: إذا ألقوا سلاحهم.. لم يجز قتالهم؛ لأن الظاهر من حالهم ترك القتال والرجوع إلى الطاعة، فإن انهزموا.. نظرت:
فإن انهزموا لغير فيئة.. لم يجز اتباعهم، ولا يجاز على جريحهم، لما رَوَى ابن عمر، عن ابن مَسعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا ابن أم عبد.. ما حكم من يفيء من أمتي؟ " فقلت: الله ورسوله أعلم. فقال: " لا يتبع مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يقسم فيؤهم» .
ورَوَى علي بن الحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: دخلت على مروان بن الحكم، فقال: ما رأيت أكرم علينا من أبيك، ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل حتى نادى مناديه:

(12/22)


(لا يقتل مدبر ولا يذفف على جريح) . (يذفف) : يروى بالدال والذال، ومعناه: لا يجاز عليه.
ورُوِي عن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (شهدت صفين، فكانوا لا يجهزون على جريح، ولا يطلبون موليا، ولا يسلبون قتيلا) .
ولأن قتالهم للدفع والكف عن القتال، وقد حصل ذلك.
وإن انهزموا إلى فيئة ومدد ليستغيثوا بهم.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي حَنِيفَة، واختيار أبي إسحاق المَروَزِي -: (أنهم يتبعون ويقتلون) ؛ لأنهم إذا لم يتبعوا.. لم يؤمن أن يعودوا على أهل العدل، فيقاتلوهم ويظفروا بهم.
والثاني - وهو ظاهر النص -: أنه لا يجوز أن يتبعوا ويقاتلوا؛ لعموم الخبر، ولأن دفعهم وكفهم قد حصل، وما يخاف من رجوعهم لا يوجب قتالهم، كما لو تفرقوا.
وإن حضر معهم من لا يقاتل - ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز قتله؛ لأن قتالهم للكف، وقد كف نفسه.
والثاني: يجوز قصد قتله؛ لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - نهاهم عن قصد قتل

(12/23)


محمد بن طلحة السجاد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، فقتله رجل، ولم ينكر عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - قتله، ولأنه صار ردءا لهم.

[فرع: يقتل مع البُغاة نساؤهم وصبيانهم المقاتلين]
] : وإن قاتل مع أهل البغي نساؤهم وعبيدهم وصبيانهم.. جاز قتلهم مقبلين؛ لأن هذا القتال لدفعهم عن النفس، كما يجوز له قتل من قصد نفسه في غير البغي.
وإن كان لرجل من أهل العدل قريب في أهل البغي يقاتل.. فيستحب له أن ينحرف عن قتله ما دام يمكنه ذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] [لقمان: 15] . فأمره بمصاحبتهما بالمعروف في أسوأ أقوالهما، وهو: إذا دعواه إلى الشرك، وليس من المصاحبة بالمعروف أن يقتله.

(12/24)


وقال الله تَعالَى: لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] [طه: 44] . يعني به: فرعون، وقيل: إنما أمرهما الله بذلك؛ لأن فرعون كان قد تبنى موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فإن كان ذلك في حق من تبناه ... فلأن يكون في حق أبيه أولى.
ورُوِي: «أن أبا بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - أراد أن يقتل أباه يوم أحد، فكفه النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: " دعه يتولى ذلك غيرك» . و: «أراد أبُو حذيفة بن عتبة أن يقتل أباه، فكفه النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك» .
فإن لم يمكنه قتال أهل البغي إلا بقتل أبيه، فقتله.. فلا شيء عليه؛ لما رُوِي: (أن أبا عبيدة قتل أباه، وقال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سمعته يسبك) .
وإذا ثبت هذا في حق المشرك.. كان في حق أهل البغي مثله.

(12/25)


[مسألة: يحبس شباب أهل البغي ما دامت الحرب قائمة]
وإن أسر أهل العدل من أهل البغي حرا بالغا، فإن كان شابا جلدا.. فإن للإمام أن يحبسه ما دامت الحرب قائمة إن لم يرجع إلى الطاعة، فإن بذل الرجوع إلى الطاعة.. أخذت منه البيعة وخلي، وإن انقضت الحرب أو انهزموا إلى غير فيئة.. فإنه يخلى، وإن انهزموا إلى فيئة.. خلي، على المذهب، ولم يخلَّ على قول أبي إسحاق، ولا يجوز قتله.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يجوز قتله) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا يقتل أسيرهم» .
فإن قتله رجل من أهل العدل عامدا.. فهل يجب عليه القصاص؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القصاص؛ لأنه صار بالأسر محقون الدم، فصار كما لو رجع إلى الطاعة، وللولي أن يعفو عن القود إلى الدية.
والثاني: لا يجب عليه القصاص؛ لأن قول أبي حَنِيفَة شبهة تسقط عنه القصاص. فعلى هذا: تجب فيه الدية.
وإن كان الأسير شيخا لا قتال فيه أو مجنونا أو امرأة أو صبيا أو عبدا.. لم يحبسوا؛ لأنهم ليسوا من أهل البيعة على القتال.
ومن أصحابنا من قال: يحبسون؛ لأن في ذلك كسرا لقلوبهم، وإقلالا لجمعهم، والمنصوص هو الأول.

[مسألة: لا يرمى أهل البغي بالنار]
] : ولا يجوز رمي أهل البغي بالنار ولا بالمنجنيق من غير ضرورة؛ لأن القصد بقتالهم كفهم وردهم إلى الطاعة، وهذا يهلكهم، ولأن هذا يقتل من يقاتل ومن لا يقاتل، وإنما يجوز قتل من يقاتل من البُغاة.
فإن أحاط أهل البغي بأهل العدل من كل جهة، ولم يمكنهم التخلص منهم إلا

(12/26)


بالرمي بالنار أو بالمنجنيق، جاز لهم ذلك؛ لأن هذا موضع ضرورة.
وقال ابن الصبَّاغ: وكذلك إن رماهم أهل البغي بالنار أو بالمنجنيق، جاز لأهل العدل رميهم بمثل ذلك.

[فرع: لا يستعان بمن يرى قتل أهل البغي مدبرين]
] : ولا يجوز للإمام أن يستعين على قتال أهل البغي بمن يرى جواز قتلهم مدبرين من المسلمين؛ لأنه يعرف أنهم يظلمون، فإن كان لا يقدر على قتال أهل البغي إلا بالاستعانة بهم.. جاز إذا كان مع الإمام من يمنعهم من قتلهم مدبرين.
ولا يجوز للإمام أن يستعين على قتالهم بالكفار؛ لأنهم يرون قتل المسلمين مدبرين تشفيا لما في قلوبهم.

[مسألة: افتراق أهل البغي واقتتالهم]
] : وإن افترق أهل البغي فرقتين واقتتلوا، فإن قدر الإمام على قهرهما.. لم يعاون إحداهما على الآخر؛ لأنهما على الخطأ، والمعونة على الخطأ خطأ، وإن كان لا يقدر على قهرهما.. ضم إلى نفسه أقربهما إلى الحق، وقاتل معها الطائفة الأخرى، ولا يقصد بقتاله معاونة الطائفة التي ضمها إلى نفسه، وإنما يقصد رد الذين يقاتلون إلى طاعته.
فإذا انهزمت الطائفة الذين قاتلهم أو رجعت إلى طاعته.. لم يقاتل الطائفة التي ضم إلى نفسه حتى يدعوهم إلى طاعته؛ لأن بضمهم إليه صار ذلك أمانا لهم منه، فإذا امتنعت من الدخول في طاعته.. قاتلهم.
فإن استوت الطائفتان.. اجتهد في أقربها إلى الحق، وضم نفسه إليها.

(12/27)


[فرع: لا تستحل أموال أهل البغي]
] : ولا يجوز لأهل العدل أخذ أموال أهل البغي، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا يقسم فيؤهم» .
ورُوِي: أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - استؤذن يوم الجمل في النهب، فقال: (إنهم يحرمون بحرمة الإسلام، ولا يحل مالهم) .
فإن انقضت الحرب، ورجعوا إلى الطاعة، وكان في يد أهل العدل مال لأهل البغي، أو في يد أهل البغي مال لأهل العدل.. وجب رد كل مال إلى مالكه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» .
ورَوَى ابن قيس: (أن منادي عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - نادى: ألا من عرف من ماله شيئا.. فليأخذه. فمر بنا رجل، فعرف قدرا له يطبخ به، فأراد أخذها، فسألناه أن يصبر حتى نفرغ منها، فلم يفعل، فرمى برجلها وأخذها) .

(12/28)


ولا يجوز الانتفاع بسلاحهم وكراعهم بغير إذنهم من غير ضرورة.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يجوز ذلك ما دامت الحرب قائمة) .
دليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» .
ولأنه مسلم، فلم يجز الانتفاع بماله من غير إذن، كغير الكراع والسلاح، وكأهل العدل.
فإن دعته على ذلك ضرورة، بأن ذهب سلاحه، أو خاف على نفسه.. جاز أن يدفع عن نفسه بسلاحهم. وكذلك: إن خاف على نفسه، وأمكنه أن ينجو على دابة لهم.. جاز له ذلك؛ لأنه لو اضطر إلى ذلك من مال أهل العدل.. لجاز له الانتفاع به، فكذلك إذا اضطر إلى ذلك من أموال أهل البغي.

[مسألة: ضمان الفريقين المال والنفس]
وإن أتلف أحد الفريقين على الآخر نفسا أو مالا قبل قيام الحرب أو بعدها.. وجب عليه الضمان؛ لأنه أتلف عليه مالا محرما بغير القتال، فلزمه ضمانه، كما لو أتلفوه قبل البغي.
وإن أتلفوه في حال القتال.. نظرت:
فإن أتلف ذلك أهل العدل.. لم يلزمهم ضمانه بلا خلاف؛ لأنهم مأمورون بقتالهم، والقتال يقتضي إتلاف ذلك.
وإن أتلف ذلك أهل البغي على أهل العدل ... ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يجب عليهم ضمان ذلك) . وبه قال مالك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] [الإسراء: 33] . والباغي ظالم، فوجب

(12/29)


أن يكون عليه السلطان، وهو القصاص، ولأن الضمان يجب علي آحاد أهل البغي، فوجب أن يكون على جماعتهم، وعكسه أهل الحرب.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجب عليهم الضمان) ، وبه قال أبُو حَنِيفَة، وهو الأصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] الآية [الحجرات: 9] .
فأمر بقتالهم، ولم يوجب ضمان ما أتلفوه عليهم.
وروي: أن هشام بن عبد الملك أرسل إلى الزهري يسأله عن امرأة من أهل العدل ذهبت إلى أهل البغي، وكفرت زوجها، وتزوجت من أهل البغي، ثم تابت ورجعت، هل يقام عليها الحد؟
فقال الزهري: كانت الفتنة العظمى بين أصحاب النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيهم البدريون، فأجمعوا على: أنه لا حد على من ارتكب فرجا محظورا بتأويل القرآن، وأن لا ضمان على من سفك دما محرما بتأويل القرآن، وأن لا غرم على من أتلف مالا بتأويل القرآن.
وروي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - قاتل أهل الجمل، وقتل منهم خلقا عظيما، وأتلف مالا عظيما، ثم ملكهم) . ولم ينقل: أنه ضمن أحدا منهم ما أتلف من نفس أو مال، فدلَّ على: أنه إجماع.
ومن أصحابنا من قال: القولان في الأموال والديات، فأما القصاص: فلا يجب، قولا واحدا؛ لأنه يسقط بالشبهة.

[مسألة: عقد أهل البغي مع أهل الحرب لا يصح]
] : إذا عقد أهل البغي لأهل الحرب الذمة والأمان بشرط: أن يعاونوهم على قتال أهل العدل.. لم يصح هذا العقد في حق أهل العدل، فيجوز لهم قتلهم مقبلين ومدبرين،

(12/30)


ويجاز على جريحهم، ويجوز سبي ذراريهم، ويتخير الإمام فيمن أسر منهم بين القتل والمن والاسترقاق والفداء؛ لأن شرط صحة العقد لهم: أن لا يقاتلوا المسلمين، فإذا وقع العقد على شرط قتال المسلمين.. لم يصح؛ لأن أمانهم لو كان صحيحا، فقاتلوا المسلمين.. انتقض أمانهم، فإذا وقع أمانهم على شرط قتال المسلمين.. لم يصح.
وإن أتلفوا على أهل العدل نفسا أو مالا.. لم يجب عليهم ضمانه، قولا واحدا، كما لو قاتلوا المسلمين منفردين، وهل يكونون في أمان من أهل البغي؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] .
أحدهما - ولم يذكر الشيخ أبُو إسحاق، وابن الصبَّاغ غيره -: أنهم في أمان منهم؛ لأنهم قد بذلوا لهم الأمان، فلزمهم الوقاية.
والثاني: أنهم لا يكونون في أمان منهم؛ لأن من لم يصح أمانه في حق بعض المسلمين.. لم يصح في حق بعضهم، كمن أمنه صبي أو مجنون.
وأمَّا إذا استعان أهل البغي بأهل الذمة على قتال أهل العدل، فأعانوهم.. فهل تنتقض ذمتهم في حق أهل العدل؟ ينظر فيهم:
فإن قالوا: لم نعلم أنهم يستعينون بنا على المسلمين، وإنما ظننا أنهم يستعينون بنا على أهل الحرب، أو قالوا: اعتقدنا أن قوما من المسلمين، إذا استعانوا بنا على قتال قوم منهم.. جاز لنا أن نعينهم على ذلك، أو قالوا: علمنا أن يجوز لنا إعانتهم عليكم إلا أنهم أكرهونا على ذلك.. لم تنتقض ذمتهم؛ لأن عقد الذمة قد صح، فلا ينتقض بأمر محتمل.
وإن لم يدعوا شيئا من ذلك.. فهل تنتقض ذمتهم؟ فيه قولان:
أحدهما: تنتقض، كما لو انفردوا بقتال المسلمين.
والثاني: لا تنتقض؛ لأن أهل الذمة لا يعلمون المحق من المبطل، وذلك شبهة لهم.
وقال أبُو إسحاق المَروَزِي: القولان إذا لم يكن الإمام قد شرط عليهم في عقد

(12/31)


الذمة الكف عن القتال لفظا، فإن شرط عليهم الكف عن ذلك، انتقضت ذمتهم، قولا واحدا.
والطريق الأول هو المنصوص.
فإذا قلنا: تنتقض ذمتهم.. لم يجب عليهم ضمان ما أتلفوا على أهل العدل من نفس ومال، قولا واحدا، كأهل الحرب.
قال الشيخُان: ويجوز قتلهم على هذا مقبلين ومدبرين، ويتخير الإمام في الأسير منهم، كما قلنا في أهل الحرب.
وقال ابن الصبَّاغ: هل يجوز قتلهم على هذا مقبلين ومدبرين؟ فيه قولان، بناء على القولين فيهم إذا نقضوا الذمة.. فهل يقتلون في الحال، أو يجب ردهم إلى مأمنهم؟ وهل تنتقض ذمتهم في حق أهل البغي؟ ينبغي أن يكون على الوجهين اللذين مَضَيا في صحة أمان أهل البغي لأهل الحرب.
وإذا قلنا: لا تنتقض ذمتهم.. فحكمهم حكم أهل البغي، فيجوز قتلهم مقبلين، ولا يجوز قتلهم مدبرين، ولا يجاز على جريحهم، ولا يجوز سبي أموالهم، ومن أسر منهم.. كان كمن أسر من أهل البغي، إلا أنهم إذا أتلفوا على أهل العدل نفسا أو مالا.. لزمهم ضمانه، قولا واحدا.
والفرق بينهم وبين أهل البغي: أن لأهل البغي شبهة، فلذلك سقط عنهم الضمان في أحد القولين، وليس لأهل الذمة شبهة، فوجب عليهم الضمان، ولأن في إيجاب الضمان على أهل البغي تنفيرا عن رجوعهم إلى الطاعة، وقد أمرنا بإصلاحهم، وأهل الذمة لا نخاف من نفورهم، ولم نؤمر بالإصلاح بيننا وبينهم.
وإن استعان أهل البغي بمن بيننا وبينهم هدنة، فأعانوهم.. انتقض أمانهم، إلا

(12/32)


إن ادعوا: أنهم أكرهوا على ذلك، وأقاموا على ذلك بينة.
والفرق بينهم وبين أهل الذمة: أن أهل الذمة أقوى حكما، ولهذا لا تنتقض الذمة لخوف جنايتهم، والهدنة تنتقض بخوف جنايتهم، فلأن تنتقض بنفس الإعانة أولى. وإذا انتقض أمانهم.. كان حكمهم حكم أهل الحرب.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن جاء أحدهم تائبا.. لم يقتص منه؛ لأنه مسلم محقون الدم) .
فمن أصحابنا من قال: أراد بذلك: الحربي، والمستأمن، وأهل الذمة إذا قلنا: تنتقض ذمتهم.. فإن الواحد من هؤلاء إذا قتل أحدا من أهل العدل، ثم رجع إليهم تائبا.. لم يقتص منه؛ لأنه قتله قبل إسلامه، فأما أهل البغي: فلا يسقط عنهم الضمان بالتوبة؛ لأنهم مسلمون.
ومنهم من قال: ما أراد الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بذلك إلا أهل البغي، وقد نص عليه في " الأم "، ويجوز أن نعلل: بأنه مسلم محقون الدم؛ لأن قتله كان بتأويل، فلم يزل خفر ذمته، وإنما سقط عنه القصاص في أحد القولين.

[مسألة: لا يصح نصب قاضٍ من أهل البغي يستحل دماء أهل العدل]
] : وإذا نصب أهل البغي قاضيا، فإن كان يستحل دماء أهل العدل وأموالهم.. لم يصح قضاؤه؛ لأنه ليس بعدل، وإن كان لا يستحل دماء أهل العدل وأموالهم.. نفذ من أحكامه ما ينفذ من أحكام قاضي أهل العدل، ورد من أحكامه ما يرد من حكم قاضَي أهل العدل، سواء كان القاضي من أهل العدل أو من أهل البغي.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إن كان من أهل العدل.. نفذ حكمه، وإن كان من أهل البغي.. لم ينفذ حكمه) بناء على أصله: أن أهل البغي يفسقون بالبغي. وعندنا: لا يفسقون بالبغي.

(12/33)


ودليلنا: أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - لما غلب أهل البغي، وقد كانوا حكموا مدة طويلة بأحكام، وما رُوِي: أنه رد شيئا منها.
ولأن لهم تأويلا، فلم يفسقوا به، ولم يرد قضاء قاضيهم، كقاضي أهل العدل.
إذا ثبت هذا: فإن حكم قاضي أهل البغي بسقوط الضمان عن أهل البغي فيما أتلفوا على أهل العدل من نفس ومال، فإن كان قال: قد حكمت بأن كل ما يتلفونه لا شيء عليكم فيه.. فليس هذا بحكم، ولا يلتفت إليه.
وإن جاء العدل المتلف عليه بالذي أتلف عليه إلى قاضيهم لينظر بينهما، فقضى: بأن لا ضمان على الباغي فيما أتلفه، فإن كان فيما أتلفه قبل قيام الحرب أو بعدها.. لم ينفذ حكمه؛ لأنه لا يسوغ فيه الاجتهاد، وإن كان فيما أتلفه في حال قيام الحرب.. نفذ حكمه؛ لأنه يسوغ في الاجتهاد.
فإن كتب قاضي أهل البغي إلى قاضي أهل العدل بحكم.. فالمستحب له: أن لا يقبل كتابه، استهانة بهم، وكسرا لقلوبهم، فإن قبله.. جاز.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجوز) .
دليلنا: أنا قد دللنا: أنه ينفذ حكمه، ومن نفذ حكمه.. جاز قبول كتابه، كقاضي أهل العدل. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: إن كان قد نفذ القضاء قبل كتابه، وإن لم ينفذ القضاء.. فهل يقبل كتابه؟ فيه قولان.

[فرع: قبول شهادة العدل من أهل البغي]
] : وإن شهد عدل من أهل البغي.. قبلت شهادته، ووافقنا أبُو حَنِيفَة على ذلك؛ لأنهم وإن كانوا فسقة عنده.. ففسقهم عنده من جهة التدين، وذلك لا يوجب رد

(12/34)


الشهادة عنده، وإنما قبلت شهادتهم عندنا؛ لأنهم ليسوا بفسقة، فهم كأهل العدل المختلفين في الأحكام.

[مسألة: صحة تصرف أهل البغي إذا استولوا]
] : وإن استولى أهل البغي على بلد، وأقاموا فيه الحدود، وأخذوا الزكوات والجزية والخراج.. وقع ذلك موقعه.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه لا يعتد بما أخذوه من الجزية، وليس بشيء؛ لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - لما ظهر على أهل البغي.. لم يطالب بشيء مما قد كانوا جبوه من ذلك.
إذا ثبت هذا: فظهر الإمام على البلد التي كانوا غلبوا عليها، فادَّعى من عليه الزكاة: أنه قد كان دفع إليهم الزكاة، فإن علم الإمام بذلك، أو قامت به عنده بينة.. لم يطالبه بشيء، وإن لم يعلم الإمام بذلك، ولا قامت به بينة.. فإن دعوى من عليه الزكاة مخالفة للظاهر، فيحلفه، وهل تكون يمينه واجبة، أو مستحبة؟ فيه وجهان مَضَى ذكرهما في الزكاة.
وإن ادَّعى من عليه الجزية: أنه دفعها إليهم، فإن علم الإمام بذلك، أو قامت به بينة.. لم يطالبه بشيء، وإن لم يعلم الإمام بذلك، ولا قامت به بينة.. لم يقبل قول من عليه الجزية؛ لأنه يجب عليه الدفع إلى الإمام؛ لأنهم كفار ليسوا بمأمونين، ولأن

(12/35)


الجزية عوض عن المساكنة، فلا يقبل قولهم في دفعها من غير نية، كثمن المبيع والأجرة.
فإن ادَّعى من عليه الخراج: أنه دفعه إليهم، فإن علم الإمام بذلك، أو قامت به بينة.. لم يطالب بشيء، وإن لم يعلم بذلك، ولا قامت به بينة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقبل قوله مع يمينه؛ لأنه مسلم، فقبل قوله مع يمينه فيما دفعه، كما قلنا فيمن عليه الزكاة.
والثاني: لا يقبل قوله؛ لأن الخراج ثمن أو أجرة، فلا يقبل قوله في دفعه من غير بينة، كالثمن والأجرة في غير ذلك.

[مسألة: لا يقاتل الخوارج على رأيهم]
] : وإن أظهر قوم رأي الخوارج، فتجنبوا الجماعات، وسبوا السلف وكفروهم، وقالوا: من أتى بكبيرة.. خرج من الملة، واستحق الخلود في النار، ولكنهم لم يخرجوا من قبضة الإمام.. فإنه لا يقاتلهم في ذلك، كما رَوَيْنَاهُ في الرجل الذي قال لعلي على باب المسجد وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - يخطب: لا حكم إلا لله، وكان خارجيا؛ لأن هذا من كلامهم.
ورُوِي: أنه حُمِلَ ابن ملجم إلى عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - وقيل له: إنه يريد أن يقتلك، فلم يقتله، وكان ابن ملجم خارجيا.
ورُوِي: أن عاملا لعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إليه: أن قوما يرون رأي الخوارج، يسبُّونك؟! فقال: إذا سَبُّوني.. سُبُّوهم، وإذا حملوا السلاح، فاحملوا عليهم السلاح، وإذا ضربوا.. فاضربوهم.

(12/36)


وإن سَبُّوا الإمام أو غيره.. عزروا. وإن عرَّضوا بسبِّ الإمام.. ففيه وجهان.
أحدهما: لا يعزرون؛ لـ: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - صَلَّى الفجر، فسمع رجلا خلفه من الخوارج يقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] [الزمر: 65] ورفع بها صوته تعريضا له بذلك، فأجابه عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - وكان في الصلاة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] [الروم: 60] . ولم يعزره) . ولأن التعريض يحتمل السبَّ وغيره.
والثاني: يعزرون؛ لأنه إذا لم يعزرهم بالتعريض بالسب.. ارتقوا إلى التصريح بالسب، وإلى أعظم منه.
فإن بعث إليهم الإمام واليا، فقتلوه.. وجب عليهم القصاص، لما رُوِي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - بعث عبد الله بن خباب إلى أهل النهروان واليا، فسلموا وأطاعوا، ثم قتلوه، فبعث إليهم أن ابعثوا بقاتله، فأبوا وقالوا: كلنا قتله، فسار إليهم وقاتلهم) .
وهل يتحتم القصاص على القاتل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتحتم؛ لأنه قتل بتشهير السلاح، فصار بمنزلة قاطع الطريق.
والثاني: لا يتحتم؛ لأنه لم يقصد بذلك إخافة الطريق، وأخذ الأموال، فأشبه من قتل رجلا منفردا.

[فرع: انفراد أهل البغي بدار وارتكابهم ما يوجب الحدود]
] : إذا انفرد أهل البغي بدار، وباينوا الإمام، وارتكبوا ما يوجب الحدود، وحصل

(12/37)


معهم فيها أسير من أهل العدل، أو تأخر وارتكب فيها ما يوجب الحد، ثم ظهر عليهم الإمام.. أقام عليهم حدود ما ارتكبوا.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليهم) . بناه على أصله في المسلمين: إذا ارتكبوا ما يوجب الحد في دار الحرب.. فإنهم لا يحدون.
دليلنا: أن كل موضع تجب فيه العبادات في أوقاتها.. وجب فيه الحدود عند وجود أسبابها، كدار أهل العدل.
وبالله التوفيق

(12/38)


[باب حكم المرتد]
الردة محرمة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] . الآية [البقرة: 217] . وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] الآية [آل عمران: 85] . وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] الآية [المائدة: 5] . وقَوْله تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] الآية [الزمر: 65] .
إذا ثبت هذا: فإن الردة إنما تصح من كل بالغ، عاقل، مختار، فأما الصبي، والمجنون، فلا تصح ردتهما.
وقال أبُو حَنِيفَة: (تصح ردة الصبي، ولكن لا تقبل حتى يبلغ) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» .
وهل تصح ردة السكران؟ ذكر الشيخ أبُو إسحاق فيه طريقين:
أحدهما: أنها على قولين.
والثانية: لا تصح ردته، قولا واحدا. ولم يذكر الشيخ أبُو حامد، وابن الصبَّاغ، وأكثر أصحابنا غير هذه الطريقة.

(12/39)


ومن أكره على كلمة الكفر.. فالأفضل أن لا يأتي بها.
ومن أصحابنا من قال: إن كان مِمَّن يرجو النكاية في أمر العدو أو القيام في أمر الشَّرع.. فالأفضل أن يدفع القتل عن نفسه، ويتلفظ بها، وإن كان لا يرجو ذلك من نفسه.. اختار القتل.
والمذهب الأول؛ لما رَوَى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث من كن فيه.. وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ وإن يحب المرء لا يحبه إلا لله؛ وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن توقد نار فيقذف فيها» .
فإن أكره على التلفظ بكلمة الكفر، فقالها، وقصد بها الدفع عن نفسه ولم يعتقد الكفر بقلبه.. لم يحكم بردته؛ وبه قال مالك، وأبو حَنِيفَة.
وقال أبُو يوسف: يحكم بردته.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] [النحل: 106] . وفيها تقديم وتأخير، وتقديرها: من كفر بالله من بعد إيمانه، وشرح بالكفر

(12/40)


صدرا.. فعليهم غضب من الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.
ورُوِي: «أن رجلا أسلم على عهد النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم أكره على الكفر، فقالها، فأتى النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخبره بالذي عُوقبَ به، فلم يقل له شيئا» .

(12/41)


وإذا أكره الأسير على كلمة الكفر، فقالها.. لم يحكم بكفره؛ لما ذكرناه.
فإن مات ورثه ورثته المسلمون؛ لأنه محكوم ببقائه على الإسلام، فإن عاد إلى دار الإسلام.. عرض عليه الإسلام، وأمر بالإتيان به، لاحتمال أن يكون قال ذلك اعتقادا، فإن أتى بكلمة الإسلام.. عَلِمنا أنه أتى بكلمة الكفر مكرها، وإن لم يأت بالإسلام.. علمنا أنه أتى بكلمة الكفر معتقدا له.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن قامت بينة على رجل: أنه تلفظ بكلمة الكفر وهو محبوس أو مقيد، ولم تقل البينة: إنه أكره على التلفظ بذلك.. لم يحكم بكفره؛ لأن القيد والحبس إكراه في الظاهر) . وهكذا قال في الإقرار: (إذا أقر بالبيع أو غيره من العقود، وهو محبوس أو مقيد، ثم قال بعد ذلك: كنت مكرها على الإقرار.. قُبِل قوله في ذلك؛ لأن القيد والحبس إكراه في الظاهر) .
وإن قامت بينة: أنه كان يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير في دار الكفر.. لم يحكم بكفره؛ لأنها معاص، وقد يفعلها المسلم وهو يعتقد تحريمها، فلم يحكم بكفره، وإن مات ورثه ورثته المسلمون؛ لأنه محكوم ببقائه على الإسلام.

[مسألة: المرتد يقتل]
] . وإذا ارتد الرجل.. وجب قتله، سواء كان حرّا أو عبدا، لما رَوَى عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنَى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس» .

(12/42)


ورُوِي: أن معاذا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قدم على أبي موسى باليمن، ووجد عنده رجلا موثقا، كان يهوديا فأسلم، ثم تهود منذ شهرين، فقال: (والله لا أقعدن حتى تضرب عنقه، قضى الله ورسوله: أن من رجع عن دينه.. فاقتلوه)
ورُوِي: أن قوما ارتدوا، فقبض عليهم عبد الله بن مَسعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكتب إلى عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - فيهم، فكتب عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إليه: (أن اعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن أتوا به.. فخلهم، وإن أبوا.. فاقتلهم) فعرض عليهم، فمنهم من رجع فتركه، ومنهم من لم يرجع فقتله.
ورُوِي: أن قوما قالوا لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنت الإله، فأحرقهم بالنار،

(12/43)


فبلغ ذلك ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقال: لو كنت أنا لقتلتهم، سمعت النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من بدَّل دينه.. فاقتلوه، ولا تعذبوا بعذاب الله تَعالَى» ؛ فدلَّ على: أنه إجماع.
وإن ارتدت امرأة حرة أو أمة.. وجب قتلها، وبه قال أبُو بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - والحسن، والزهري، والأَوزَاعِي، والليث، ومالك، وأحمد، وإسحاق.
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (إذا ارتدت المرأة.. استرقت) . وبه قال

(12/44)


قتادة، وهي إحدَى الروايتين عن الحَسَن.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا تقتل، وإنما تحبس وتطالب بالرجوع إلى الإسلام، وإن لحقت بدار الحرب.. سبيت واسترقت، وإن كانت أمة.. أجبرها سيدها على الإسلام) . ويروَى ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
دليلنا: ما رَوَى ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من بدَّل.. دينه فاقتلوه»
وقال معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «قضى الله ورسوله: أن من رجع عن دينه.. فاقتلوه» ، وهذا عام في الرجال والنساء.
ورَوَى جابر: «أن امرأة يقال لها: أم رومان، ارتدت عن الإسلام، فبلغ أمرها إلى النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر أن تستتاب، فإن تابت، وإلا.. قتلت» .

[فرع: طلب المرتد المناظرة]
] : وإذا قال المرتد ناظروني أو اكشفوا لي الحجة.. فهل يناظر؟ قال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه وجهان:
أحدهما: يناظر؛ لأنه هو الإنصاف.
والثاني: لا يناظر؛ لأن الإسلام قد وضح، فلا معنى لحجته عليه.

(12/45)


[فرع: استتابة المرتد]
قبل القتل] : ويستتاب المرتد قبل أن يقتل.
وقال الحَسَن البَصرِي: لا يستتاب، وإنما يقتل في الحال.
وقال عطاء: إن كان مولودا على الإسلام، ثم ارتد.. فإنه لا يستتاب، وإن كان كافرا، فأسلم، ثم ارتد.. فإنه يستتاب.
دليلنا: أنه لما ورد على عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - فتح تستر.. قال لهم: (هل من مغربة خبر؟) قالوا: نعم، رجل ارتد عن الإسلام، ولحق بالمشركين، فلحقناه وقتلناه. قال: (فهلا أدخلتموه بيتا، وأغلقتم عليه بابا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستتبتموه ثلاثا؟ فإن تاب، وإلا.. قتلتموه؛ اللهم إنِّي لم أشهد، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني) . قوله: (مغربة خبر) ، يروى بفتح الغين وتشديد الراء وكسر الراء وفتحها، ومعناه: هل من خبر غريب عنا.
ورُوِي: أن ابن مَسعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - في قوم ارتدوا، فكتب إليه عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: (اعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن أجابوا.. فخلهم، وإن أبوا.. فاقتلهم)
إذا ثبت هذا: فهل الاستتابة مستحبة، أو واجبة؟ فيه قولان، قال الشيخُ أبُو حامد: وقيل هما وجهان:
أحدهما: أنها مستحبة، وبه قال أبُو حَنِيفَة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدَّل دينه فاقتلوه» ؛ فأوجب قتله، ولم يوجب استتابته، ولأنه لو قتله قاتل قبل الاستتابة.. لم

(12/46)


يجب عليه ضمانه، ولهذا: لم يوجب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - الضمان على الذين قتلوا المرتد قبل استتابته، فلو كانت الاستتابة واجبة.. لوجب ضمانه.
فعلى هذا: لا يأثم إذا قتله قبل الاستتابة.
والثاني: أن الاستتابة واجبة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] [الأنفال: 38] . فأمر الله تَعالَى بمخاطبة الكفار بالانتهاء، ولم يفرق بين الأصلي والمرتد. ولما رَوَيْنَاهُ عن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما - ولأن من لم تبلغه الدعوة.. يجب أن يُدعَى إلى الإسلام قبل القتل، فكذلك المرتد.
وأمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من بدَّل دينه.. فاقتلوه» فمعناه: بعد الاستتابة، بدليل: ما ذكرناه.
وأمَّا قوله: (لو وجبت الاستتابة.. لوجب على قاتله قبل الاستتابة ضمانه) ؛ فيبطل بقتل نساء أهل الحرب وذراريهم، فإنه يحرم قتلهم، ولو قتلهم.. لم يجب ضمانهم.
فعلى هذا: إذا قتله قبل الاستتابة.. أَثم لا غير، وفي قدر مدة الاستتابة قولان، سواء قلنا: إنها مستحبة أو واجبة:
أحدهما: يستتاب ثلاثة أيام، وبه قال مالك، وأبو حَنِيفَة، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تَعالَى - ووجهه: ما رَوَيْنَاهُ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - ولأن الاستتابة تراد لزوال الشبهة، فقدر ذلك بثلاث؛ لأنها آخر حد القلة وأول حد الكثرة.
والثاني: يستتاب في الحال، فإن تاب.. وإلا.. قتل. وهو الذي نصره الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لحديث أم رومان، ولأنه استتابة، فلم يتقدَّر بالثلاث، كاستتابة الحربي، هذا مذهبنا. وقال عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: (يستتاب شهرا) .

(12/47)


وقال الزهري: يستتاب ثلاث مرات في حالة واحدة.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يستتاب ثلاث مرات في ثلاث جمع، كل جمعة مرة) .
وقال الثوري: يستتاب أبدا، ويحبس إلى أن يتوب أو يموت.
ودليلنا عليه: ما مَضَى.

[فرع: يستتاب المرتد السكر بعد إفاقته]
] : وأمَّا السكران: فإنه لا يستتاب في حال سكره، وإنما يؤخر إلى أن يفيق، ثم يستتاب؛ لأن استتابته في حال إفاقته أرجى لإسلامه، فإن استتيب في حال سكره، فلم يتب وقتل.. جاز؛ ولكن الأحوط أن يترك حتى يفيق. وإن أسلم في حال سكره.. صح إسلامه.
وقال أبُو علي بن أبي هُرَيرَة: لا يصح إسلامه، وبه قال أبُو حَنِيفَة، والمنصوص هو الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] [النساء: 43] . فخاطبهم في حال السكر، فدلَّ على: أنه مخاطب مكلف، فكل من كان مخاطبا مكلفا.. صح إسلامه، كالصاحي.
وإذا أسلم في حال السكر.. فالمستحب: أن لا يخلى، بل يحبس إلى أن يفيق، فإن أفاق وثبت على إسلامه.. خلِّي، وإن عاد إلى الكفر.. قتل.
فإن ارتد الرجل، ثم جن أو تبرسم.. لم يقتل حتى يفيق من جنونه، ويبرأ من

(12/48)


برسامه؛ لأن المرتد لا يقتل إلا بالردة والمقام عليها باختياره، والمجنون والمبرسم لا يعلم إقامته على الردة باختياره، فلم يقتل.

[مسألة: قبول إسلام المرتد ولا يهدر دمه]
] : إذا أسلم المرتد صح.. إسلامه ولم يقتل، سواء كانت ردته إلى كفر يتظاهر به أهله كاليهودية والنصرانية وعبادة الأصنام، أو إلى كفر يستتر به أهله، كالزندقة و (الزنديق) : هو الذي يظهر الإسلام، ويبطن الكفر، فمتى قامت بينة: أنه تكلم بما يكفر به.. فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا.. قتل، فإن استتيب، فتاب.. قبلت توبته.
وقال بعض الناس: إذا أسلم المرتد.. لم يحقن دمه بحال، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدَّل دينه.. فاقتلوه» ، وهذا قد بدَّل.
وقال مالك، وأحمد، وإسحاق: (لا تقبل توبة الزنديق، ولا يحقن دمه بذلك) ، وهي إحدَى الروايتين عن أبي حَنِيفَة، والرواية الأخرى عنه كمذهبنا. ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة: 74] إلى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة: 74] الآية [التوبة: 74] . فأثبت الله لهم التوبة بعد الكفر وبعد الإسلام.
ورُوِي: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها.. عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها» وهذا قد قالها.
ورَوَى عبيد الله بن عدي بن الخيار: «أن رجلا سارَّ النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم نَدرِ ما سارَّه به، حتى جهر النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصوته، فإذا هو قد استأذنه في قتل منافق، فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أليس هو يشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال: بلى، ولا شهادة له، قال: " أليس يشهد أنِّي رسول الله؟ " قال: بلى، ولا شهادة له] فقال: " أليس يصَلَّي؟ "

(12/49)


قال: بلى.. ولا صلاة له؛ فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أُولئِكَ الَّذِينَ نَهانِي الله عن قتلهم» .
«ورَوَى المقداد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله - صَلَّى الله عليك وسَلَّم - أرأيت لو أن مشركا لقيني وقطع يدي، ثم لاذ عني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أفأقتله؟ فقال: " لا "، قال: فقد قالها بعدما قطع يدي؟! فقال: " إنما هو مثلك قبل أن تقتله» .
ولأن المنافقين في زمان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يظهرون الإسلام ويُسِرُّون الكفر، و (كان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرفهم بأعيانهم، والآيات تنزل عليه بأسمائهم وكناهم ولا يتعرض لهم) .

[فرع: كيفية إسلام الكافر والمرتد ونحوهما]
] : إسلام الكافر الأصلي والمرتد سواء، وينظر فيه:
فإن كان لا تأويل له في كفره، مثل: عَبَدَة الأوثان.. فيكفيه في الإسلام: أن يأتي بالشهادتين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا قالوها.. عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» .
وإن كان متأولا في كفره، بأن يقول: إن محمدا رسول الله، ولكنه رسول الله إلى الأميين دون أهل الكتاب، أو يقول: هو نبي، إلا أنه لم يبعث بعد.. فلا يحكم بإسلامه حتى يأتي بالشهادتين، ويبرأ معهما من كل دين مخالف دين الإسلام؛ لأنه إذا اقتصر على الشهادتين.. احتمل أن يريد ما يعتقده.
وإن ارتد بجحود فرض مُجمَعٍ عليه، كالصلاة، والزكاة؛ أو باستباحة محرم مُجمَعِ

(12/50)


عليه كالخمر، والخنزير، والزنا.. لم يحكم بإسلامه حتى يأتي بالشهادتين، ويقر بوجوب ما جحد وجوبه، وتحريم ما استباحه من ذلك؛ لأنه كذب الله ورسوله بما أخبرا به، فلم يحكم بإسلامه حتى يقر بتصديقهما بذلك.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن صَلَّى الكافرُ الأصلي في دار الحرب.. حكم بإسلامه، وإن صَلَّى في دار الإسلام.. لم يحكم بإسلامه؛ لأن الإنسان في دار الإسلام مطالب بإقامة الصلاة، محمول على فعلها، فإذا فعلها الكافر هناك.. فالظاهر أنه فعلها تقية لا اعتقادا، فلم يحكم بإسلامه، وفي دار الكفر هو غير مطالب بإقامة الصلاة، فإذا فعلها فيه.. فالظاهر أنه فعلها اعتقادا لا تقية.. فحكم بإسلامه) .
وهكذا: إن ارتد في دار الحرب، ثم شهد شاهدان: أنه يصلي هناك.. فإنه يحكم بإسلامه؛ لما ذكرناه في الحربي، وإن ارتد في دار الإسلام، ثم شهد شاهدان: أنه يصلي.. فإنه لا يحكم بإسلامه؛ لما ذكرناه في الحربي، ولأن المرتد في دار الحرب لا يمكن معرفة إسلامه إلا بالصلاة؛ لأنه لا يمكنه إظهار الشهادتين، والمرتد في دار الإسلام يمكن معرفة إسلامه بإظهار الشهادتين.
وإن أكره الذمي على الإسلام.. لم يصح إسلامه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] [البقرة: 256] .
وإن أكره الحربي أو المرتد على دين الإسلام.. صح إسلامه؛ لأنه أكره بحق.

[فرع: مكررالردة ثم الإسلام يعزر]
فرع: [مكرر الردة ثم الإسلام يعزر] : إذا ارتد ثم أسلم ثم ارتد ثم أسلم، وتكرر ذلك منه.. فإنه يحكم بصحة إسلامه، إلا أنه لا يعزر في الردة الأولى؛ لجواز أن يكون عرضت له شبهة، ويعزر فيما بعدها؛ لأنه لا شبهة له، ووافقنا أبُو حَنِيفَة على صحة إسلامه، إلا أنه قال: (يحبس في الثانية) ؛ والحبس نوع من التَّعزِير.

(12/51)


وقال أبُو إسحاق المَروَزِي: إذا تكرر منه الردة.. لم يصح إسلامه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا} [النساء: 137] [النساء: 137] ، فأخبر: أنه لا يغفر لهم في الثالثة.
ودليلنا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] [الأنفال: 38] .
وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] ، ولم يفرق.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يَجُبُّ ما قبله» . ولم يفرق.
وأمَّا الآية: فلها تأويلان:
أحدهما: أن معناها: إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا به، ثم آمنوا بعيسى ثم كفروا به، ثم آمنوا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم كفروا به.. لم يكن الله ليغفر لهم.
والثاني: أن معناها: إن الذين آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا، وأصروا على الكفر ولم يسلموا، الآية، قال: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] [النساء: 137] .

[مسألة: الإمام يقتل الحر وفي قتل السيد لمولاه المرتد]
مسألة: [الإمام يقتل الحر المرتد، وفي قتل السيد لمولاه المرتد] : إذا ارتد الحر وأقام على الردة.. فإن قتْلَه إلى الإمام؛ لأن قتْلَه حق للمسلمين، وفيهم من يحسن القتل وفيهم من لا يحسن، والإمام نائب عنهم.
فإن قتَله بعضهم بغير إذن الإمام.. فلا قَوْد عليه ولا دية ولا كفارة؛ لأنه مستحق للقتل، فإن رأَى الإمام تعزيره.. فعل؛ لأنه افتأت عليه ذلك.
وإن ارتد العبد.. فهل لسيده أن يقتله؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك، كما له أن يقيم عليه حد الزِّنَا.

(12/52)


والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه لا يتصل بصلاح ملكه، بخلاف حد الزِّنَا.

[مسألة: حكم مال المرتد]
] : وإن ارتد وله مال.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (يوقف ماله) . وقال في الزكاة: (فيه قولان:
أحدهما: أنه موقوف على إسلامه أو قتله.
والثاني: أن ملكه ثابت، فتؤخذ زكاة ماله حولا فحولا) .
وقال في التدبير: (إذا دبر المرتد عبدا.. ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن تدبيره صحيح.
والثاني: تدبيره موقوف.
والثالث: أن تدبيره باطل؛ لأن ماله خارج منه) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: في بقاء ملك المرتد على ماله، وفي جواز تصرفه قبل الحجر ثلاثة أقوال.
أحدها: أن ماله باق على ملكه، وتصرفه فيه قبل الحجر عليه صحيح؛ لأن الردة معنى يوجب القتل، فلم يزل بها الملك، ولم يبطل بها تصرفه، كزنى المحصن.
والثاني: وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -: أن ملكه يزول عن ماله بالردة.
فعلى هذا: لا يصح تصرفه فيه، لما رُوِي: أن أبا بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - قال لوفد بزاخة من أسد وغطفان: (نغنم ما أصبنا منكم، وتردون إلينا ما أصبتم منا) ، ولأنه عصم دمه وماله بالإسلام، فلما ملك المسلمون دمه بردته.. وجب أن يملكوا ماله بردته.

(12/53)


والثالث: أن ملكه وتصرفه موقوفان، فإن أسلم.. تبين أن ملكه لم يزل، وتصرفه صحيح، وإن مات على الردة أو قتل عليها.. تبينا أن ملكه زال بالردة، وإن تصرفه باطل؛ لأنه نوع ملك للمرتد، فكان موقوفا، كملكه لبضع زوجته.
ومن أصحابنا من قال: في ملكه قولان لا غير:
أحدهما: أنه موقوف.
والثاني: أنه باق.
ومعنى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لأن ماله خارج منه) أي: في التصرف.
وأمَّا تصرفه قبل الحجر: فعلى الأقوال الثلاثة، على ما مَضَى.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: إن ملكه زال عن ماله بالردة.. لم يحتج إلى الحجر عليه، وإن قلنا: إن ملكه باق على ماله، أو قلنا: إنه موقوف.. فإن القاضي يحجر عليه في ماله؛ لأنه تعلق بماله حق المسلمين، وهو متهم في إضاعته، فحجر عليه، كالمفلس. هذا نقل البغداديين.
وقال الخراسانيون: إن قلنا: إن ملكه زال بالردة.. صار محجورا عليه بنفس

(12/54)


الردة، وإن قلنا: إن ملكه باق.. حجر عليه القاضي، وإن قلنا: إنه موقوف.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه صار محجورا عليه بنفس الردة؛ لأنا لا نحكم له بالإسلام، فينفذ تصرفه:
والثاني: يحجر عليه الحاكم؛ لأنا لم نقطع ملكه بالرِّدة بعد.
وإن تصرف المرتد في ماله بعد الحجر، فإن قلنا: إن ملكه زال بالردة.. لم يصح تصرفه. وإن قلنا: إن ملكه باق أو موقوف.. ففي تصرفه القولان في تصرف المفلس بعد الحجر؛ لأن تعلق حق المسلمين بماله كتعلق حق الغرماء بمال المفلس بعد الحجر.
وإن زوج المرتد أمته، فإن قلنا: يصح تصرفه.. صح النكاح، وإن قلنا: لا يصح تصرفه.. لم يصح النكاح، وإن قلنا: إن تصرفه موقوف.. لم يصح النكاح أيضا؛ لأن النكاح لا يقع موقوفا عندنا.

[فرع: ما لزم على المرتد يؤخذ من ماله]
] : وما لزم على المرتد من دين أو أرش جناية، أو نفقة زوجة أو قريب.. فإنه يجب أداؤه من ماله على الأقوال كلها؛ لأنا إن قلنا: إن ملكه باق أو موقوف.. فلا محالة يقضي منه أو من ماله، وإن قلنا أن ملكه زال بالردة.. إلَّا أنه لم يَزُل زوالا مستقرا؛ لأنه يَعود إليه بإسلامه. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخرسانيون: إن قلنا: إن ملكه باق.. أخذت هذه الحقوق من ماله، وإن قلنا: إن ملكه زال بالردة.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الإصطخري، وهو الأصح عندهم -: أنها لا تؤخذ من ماله؛ لأنه لا ملك له.

(12/55)


والثاني: أنها تؤخذ منه؛ لأنا إنما نحكم بزوال ملكه فيما لم يكن تعلق به حق الغير، كما لو استدان، ثم ارتد.. فإن الدين يقضى من ماله.
فإن مات أو قتل على الردة، فإن بقي من ماله بعد قضاء ديونه وأرش جناياته ونفقة زوجاته شيء.. صرف ذلك إلى بيت المال فيئا للمسلمين.
وقال أبُو يوسف، ومحمد: يرث عنه ورثته المسلمون جميع أمواله.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يرث عنه ورثته المسلمون ما اكتسبه في حال الإسلام، وأمَّا ما اكتسبه بعد الردة.. فلا يورث عنه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يرث المسلم الكافر» ولم يفرق.
وإن قتل المرتد رجلا، فإن كان عمدا.. كان الولي بالخيار: بين أن يقتص منه، وبين أن يعفو عنه، فإن اقتص منه.. سقط القتل بالردة، وإن عفا عنه على مال.. تعلقت الدية بماله على طريقة أصحابنا البغداديين. وعلى طريقة الخراسانيين: على ما مَضَى.
وإن كان القتل خطأ.. قال الشيخُ أبُو حامد: فإن الدية تجب في ماله في ثلاث سنين، ولا تتحملها العاقلة؛ لأنه لا عاقلة له، فإن مات أو قتل قبل الثلاث.. أخذ ولي المقتول الدية في الحال؛ لأن الدين المؤجل يحل بموت من عليه.

[فرع: إقرار المرتد بدين ونحوه]
فرع: [لا يصح إقرار المرتد بدين ونحوه] : قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن أقر المرتد لرجل بدَيْن أو عين، فإن قلنا: إن ملكه زال بالردة.. لم يصح إقراره، وإن قلنا: إن ملكه باق.. ففي صحة إقراره القولان في إقرار المفلس، وسواء أقرَّ قبل الحجر أو بعد الحجر.

[فرع: اختلاف الورثة أمات كافرا أو مسلما]
] : فإن عرف إسلام رجل، فمات وخلف ورثة، فأقر بعضهم: أنه مات كافرا، وأقر بعضهم: أنه مات مسلما.. دفع إلى من أقر: أنه مات مسلما نصيبه؛ لأنه لا محالة

(12/56)


محكوم بإسلامه، ولا يدفع نصيب من أقر: أنه مات كافرا إليه؛ لأنه أقر: أنه لا يستحقه، وماذا يصنع به؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبُو حامد:
أحدهما: يوقف إلى أن يتبين الحال فيه؛ لأنه لا يمكن دفعه إليه؛ لأنه أقر: أنه لا يستحقه، ولا يمكن صرفه إلى بيت المال؛ لأنه إنما ينقل إليه مال كافر، وهذا محكوم بإسلامه؛ ولهذا ورثنا بعض ورثته منه.
والثاني: أنه ينقل إلى بيت المال؛ لأنه حق للوارث المقر في الظاهر، وقد أقر به لبيت المال، فقُبِل إقراره فيه.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا أقر مسلم: أن أباه مات كافرا.. سئل عن ذلك، فإن قال: تكلم بكلمة الكفر عند موته.. قبل ولم يرثه، وإن لم يقر بذلك بل أطلق.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يرثه؛ لأنه أقر: أنه لا يرثه.
والثاني: لا يقبل إقراره؛ لأنه قد يعتقد تكفير أهل البدع.

[فرع: ارتد ولحق بدار حرب وأمواله في دار الإسلام]
] : إذا ارتد رجل ولحق بدار الحرب، وترك أموالا في دار الإسلام.. فإن الإمام يحفظها؛ لأنه متردد: بين أن يسلم ويرجع إليه ماله، وبين أن يموت على الردة أو يقتل، فيكون فيئا، فإن كان ماله من العروض أو الدراهم أو الدنانير.. حفظها الإمام، وإن كان حيوانا.. فعل الإمام ما رأى فيه الحظ من بيعه وحفظ ثمنه، أو إكرائه وإنفاق كرائه عليه.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إذا لحق بدار الحرب.. كان كما لو مات، فتعتق أم ولده ومدبره، ويحل دينه المؤجل، ويقسم ماله بين ورثته عنده، فإن رجع إلى الإسلام.. لم ينتقض من هذه الأحكام شيء، إلا أن يكون عين ماله قائمة في يد ورثته، فيأخذه منهم) .

(12/57)


دليلنا: أن كل حالة لو أسلم فيها.. رد ماله إليه لم يقسم ماله فيها، كما لو كان بدار الإسلام.

[مسألة: استرقاق المرتد]
مسألة: [لا يجوز استرقاق المرتد] : ولا يجوز استرقاق المرتد، رجلا كان أو امرأة.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إن كان المرتد امرأة ولحقت بدار الحرب.. جاز استرقاقها؛ لأن أم محمد ابن الحنفية كانت من بني حَنِيفَة، وكانوا مرتدين، فملكها عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - واسترقها) .
دليلنا: أن الكفر بعد الإيمان يمنع الاسترقاق كالرجل، وأمَّا الخبر: فقد رُوِي: أنها كانت أمة، فسبيت.
وإذا قتل مالكها على الردة كانت فيئا.
وأمَّا ولد المرتد: فإن ولد قبل ردة أبويه أو أحدهما، أو ارتد أبواه وهو حمل.. فإنه محكوم بإسلامه؛ لأنه قد حكم بإسلامه تبعا لأبويه، فلم يزل إسلامه بردة أبويه، بدليل: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يعلو ولا يُعلَى» .

(12/58)


فإن بلغ هذا الولد، ووصف الإسلام.. فلا كلام، وإن امتنع من أن يصف الإسلام، أو وصف الكفر بعد بلوغه.. حكم بردته، ويقتل.
وقال أبُو العباس: وفيه قول آخر: أنه إذا لم يصف الإسلام بعد بلوغه.. أنه لا يقتل ويترك على كفره؛ لأن الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو قتله قاتل بعد بلوغه وقبل أن يصف الإسلام.. لم يكن على قاتله القود) فلو حكم له بالإسلام بعد بلوغه.. لأوجب على قاتله القود، وهذا خطأ؛ لأنه محكوم له بالإسلام؛ ولهذا لو قتله قاتل قبل أن يبلغ.. وجب عليه القود، وإنما لم يوجب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - القود على من قتله بعد بلوغه وقبل أن يصف الإسلام، لأجل شبهة عرضت، وهو: أنه لم يصف الإسلام، لا لأنه لم يحكم له بالإسلام.
وأمَّا إذا ارتد الأبوان، ثم حملت به الأم في حال ردتهما، ووضعته قبل أن يسلما أو أحدهما، أو تزوج مسلم ذمية وارتد، ثم حملت بولد في حال ردته، ووضعته قبل أن يسلما أو أحدهما.. فإن الولد محكوم بكفره؛ لأنه ولد بين كافرين، وهل يجوز استرقاقه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز سبيه؛ لأن حكم الولد الصغير في الدين حكم أبويه، وإذا لم يجز سبي أبويه.. لم يجز سبيه، كولد المسلمين.
فعلى هذا: يترك حتى يبلغ، فإن لم يصف الإسلام.. قتل.
والثاني: يجوز سبيه؛ لأنه ولد بين كافرين، ولا يجوز إقرارهما على الكفر، فجاز سبيه، كولد الكافرين الحربيين.
فعلى هذا: إذا سبي.. كان الإمام فيه بالخيار: بين القتل، والاسترقاق،

(12/59)


والمن، والفداء، غير أنه إذا استرقه.. لم يجز إقراره على الكفر؛ لأنه انتقل إلى الكفر بعد نزول القرآن. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: فيه قولان، واختلفوا فيهما:
منهم من قال:
أحدهما: أنه كالكافر الأصلي.
والثاني: أنه كأبويه.
ومنهم من قال:
أحدهما: أنه كالأصلي.
والثاني: أنه مسلم؛ لأنه متولد من شخص حرمة الإسلام فيه باقية، وهو مطالب بجميع أحكام الإسلام، إلا أنه ممتنع من أدائها بالردة، والولد لم يوجد منه امتناع بالكفر. هذا مذهبنا. وقال أبُو حَنِيفَة: (إن ولد في دار الحرب.. سبي واسترق، وإن ولد في دار الإسلام.. لم يسب ولم يسترق) .
دليلنا: أن الدار لا تأثير لها في إثبات الاسترقاق ومنعه، كما لو ولد بين الحربيين ولد في دار الإسلام، أو ولد بين المسلمين في دار الحرب ولد.

[مسألة: قتال المرتدين قبل قتال أهل الحرب]
] : وإذا ارتدت طائفة أو امتنعت.. قاتلهم الإمام؛ لأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - قاتل المرتدين، ويبدأ بقتالهم قبل قتال أهل الحرب؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهز جيش أسامة، ثم مات قبل إنفاذه، فلما ولي أبُو بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -.. أراد إنفاذه، فقالت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم -: يا خليفة رسول الله! إن العرب قد ارتدت حول المدينة، فلو أخرت هذا الجيش؟ فقال: والله لو انثالت

(12/60)


المدينة سباعا.. ما أخرت جيشا جهزه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -.
فموضع الدليل منه: أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رأت أن قتال المرتدين أولى من

(12/61)


قتال أهل الحرب، ولم ينكر عليهم أبُو بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - ذلك، وإنما اعتذر إليهم، بأن ذلك الجيش جهزه النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يؤخر، بدليل: أن أبا بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - بدأ بقتال المرتدين بغير جيش أسامة، ثم رجع إلى قتال غيرهم.
ويتبع في الحرب مدبرهم، ويجاز على جريحهم؛ لأنه إذا وجب ذلك في قتال أهل الحرب.. فلأن يجب في قتال المرتدين ـ وكفرهم أغلظ ـ أولى.
فإن أسر منهم أسير.. استتيب، فإن تاب.. وإلا قتل؛ لأنه لا يجوز إقراره على الكفر.

[مسألة: لزوم الضمان على المرتد فيما أتلفه على المسلمين]
] : وإن أتلف المرتد على المسلمين نفسا أو مالا، فإن كان في غير منعة، أو كان في منعة إلا أنه أتلفه قبل قيام الحرب أو بعدها.. لزمه الضمان؛ لأنه التزم ذلك بالإسلام، فلم يسقط عنه بالردة.
وإن كان في منعة، وأتلفه في حال قيام الحرب.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: فيه قولان، كأهل البغي:
قال الشيخُ أبُو حامد: إلا أن الصحيح في أهل البغي: أنه لا يجب عليهم الضمان، والصحيح في أهل الردة: أنه يجب عليهم الضمان.
وقال الشيخ أبو حامد: إلا أن الصحيح في أهل الردة: أنه لا يجب عليهم الضمان؛ لأن أبا بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - لما قاتل المرتدة وهزمهم، وسألوه الصلح، قال: (تدون قتلانا، وقتلاكم في النار) فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: لا يدون قتلانا، إن أصحابنا عملوا لله، وأجورهم على الله، وإنما الدنيا دار بلاغ) .

(12/62)


فرجع أبُو بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - إلى قوله، وأجمعت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على ذلك.
وقال القاضي أبُو حامد: يجب الضمان على المرتدين، قولا واحدا؛ لأنه لا ينفذ قضاء قاضيهم، وليس لهم تأويل سائغ.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: إن قلنا: لا يجب الضمان على أهل البغي.. لم يجب على المرتدين، وإن قلنا: يجب الضمان على أهل البغي.. ففي المرتدين قولان.
والفرق بينهما: أن المرتد كافر، فهو كالحربي، والباغي مسلم.

[مسألة: السحر حق وقد يقتل صاحبه]
] : للسحر حقيقة وهو: أن الساحر يوصل إلى بدن المسحور ألما قد يموت منه، أو يغير عقله، ويفرق بين المرء وزوجه. وقد يكون السحر قولا، كالرقية، وقد يكون فعلا، كالتدخين. وبه قال أكثر الفقهاء.
وقال أبُو جعفر الإستراباذي من أصحابنا: لا حقيقة للسحر، وإنما هو خيال يخيل إلى المسحور، وهو قول المقدسي من أصحاب داود؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] [طه: 66] ، ولأنه لو كان حقيقة.. لكان في ذلك نقض العادات، فيؤدي إلى إبطال معجزات الأنبياء، - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -.

(12/63)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] [الفلق: 4] . وهن السواحر. فلو لم يكن السحر حقيقة.. لما أمرنا بالاستعاذة منه.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] الآية [البقرة 102] .
وقيل: إن سليمان صلوات الله على نبينا وعليه وسلامه، كان جمع كتب السحرة ودفنها تحت مقعدته، حتى لا يعلمها الشياطين الناس.
فقيل: إن الشيطان دفن ذلك تحت سرير سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فلما مات سليمان، على نبينا وعليه الصلاة والسلام. جاء إبليس ـ لعنه الله ـ فقال: إن سليمان كان يسحر. وأمرهم أن يحفروا ذلك الموضع.. فحفروه، فأخرجوا تلك الكتب فقال بعض الناس: كان بهذا يفعل، وأنكر بعضهم ذلك، فكذب الله من صدق إبليس - لعنه الله - بقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102] الآية.
ويدل على أن له حقيقة: ما روت عائشة أم المؤمنين، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكث أياما يخيل إليه أنه يأتي النساء، ولا يأتي. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فدخل علي رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما بال الرجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبَّه؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي، قال: فيم؟ قال: في جف طلعة تحت راعوفة بئر كذا وكذا، قال: فأتيت تلك البئر، فإذا هو الذي رأيته، وإذا ماؤها كنقاعة الحناء، فأخرج فحل، فشفاني الله» وفي رواية: «فلما حُلَّ.. كأني أُنْشطت من عقال» .

(12/64)


ورُوِي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - أمر بقتل كل ساحر وساحرة) .
ورُوِي: (أن حفصة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قتلت جارية لها سحرتها) .
و: (باعت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جارية لها سحرتها) .
ورَوَى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما -: «أنه قال: ساقى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل خيبر، فكان على ذلك زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر الصدِّيق وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما - فبعث بي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - لأقسم الثمرة بينهم، فسحروني، فتكوعت يدي، فأجلاهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه» فأخبر: أن يده تكوعت

(12/65)


بسحرهم، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فدلَّ على: أنه إجماع.
وأمَّا ما ذكره من سحرة فرعون: فلا حجة فيه؛ لأنه لم ينقل: أن الساحر يقدر على نفخ الروح في الجمادات، وسحرة فرعون أرادوا أن يقابلوا عصا موسى التي يطرحها فتصير حية، فأخذوا حبالا وعصيا، وطلوا عليها الزئبق وتركوها، فلما طلعت عليه الشمس.. تحرك الزئبق، فخيل إلى موسى أنها تسعى، ليقولوا: قد فعلنا مثل فعله، وليس بصحيح؛ لأن ذلك لا يقدر عليه إلا الله.
وأمَّا قولهم: إن ذلك يؤدي إلى إبطال المعجزات.. فغير صحيح؛ لأن المعجزة هي ما أظهره الله للأنبياء مما يخالف العادة حين ادعاء النبوة وتحدي الناس، وليس كذلك السحرة؛ فإنهم لا يدعون النبوة، وقد منعهم الله من ادعائهم، ولو ادعوها.. لأبطل الله سحرهم الذي يأتون به.
إذا ثبت هذا: فإن تعليم السحر، وتعلمه، وفعله حرام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102] الآية [البقرة: 102] . ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس منا من سحر أو سحر له، أو تكهن، أو تكهن له، أو تطير أو تطير له» .

(12/66)


فإذا اعترف رجل: أنه ساحر.. قلنا له: صف سحرك، فإن وصفه وقال: ولا يمكن تعلمه إلا بالكفر، بأن يَترك الصلاة أربعين يوما، أو يعتقد أن الكواكب السبعة هي المدبرة، فيتقرب إليها لتفعل له ما يلتمس منها.. فقد اعترف بالكفر.. فيستتاب، فإن تاب، وإلا.. قتل؛ لأنه مرتد.
وإن قال: يمكن تعلمه من غير كفر، إلا أنه قال: تعلمه مباح.. فهو كافر؛ لأنه استحل محرما مجمعا عليه.
وإن قال: تعلمه محرم، إلا أنِّي قد تعلمته، ولكني لا أستعمله.. فهو فاسق، وليس بكافر، ولا يقتل.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يقتل؛ لأنه زنديق) .

(12/67)


وقال أصحاب أبي حَنِيفَة: إن اعتقد أن الشيطان يفعل له ما شاء.. فهو كافر، وإن اعتقد أنه تلبيس وتمويه.. لم يكفر.
دليلنا: أن الكفر بالاعتقاد، وهذا اعتقاده صحيح. ولأن بكونه يحسن السحر لا يجب عليه شيء، كما لو قال: أنا أحسن السرقة ولا أسرق.. فلا شيء عليه، كذلك هذا مثله.
وبالله التوفيق

(12/68)


[باب صول الفحل]
إذا قصد رجل رجلا يطلب دمه أو ماله أو حريمه، فإن كان في موضع يلحقه الغوث إذا صاح بالناس.. لم يكن له أن يقاتله ولا يضربه، بل يستغيث بالناس ليخلصوه منه؛ لأنه يمكنه التخلص منه بذلك.
وهكذا: إذا كان بينه وبينه حائل يعلم أنه لا يقدر على الوصول إليه، من نهر، أو حائط، أو حصن.. لم يجز قتاله وضربه؛ لأنه لا يخاف منه.
وإن كان في موضع لا يلحقه الغوث، مثل: أن يكون في برية، أو بلد، فخاف منه إلى أن يلحقه الغوث، أو كان بينهما حصن أو نهر أو حائط، إلا أنه يبلغه رميه أو رمحه.. فله أن يدفعه عن نفسه بأسهل ما يمكنه، فإن اندفع باليد.. لم يضربه بالعصا، وإن لم يندفع إلا بالعصا.. فله أن يضربه بالعصا.
فإن لم يندفع عنه إلا بالضرب بالسيف أو بالرمي بالسهم أو بالحجر.. فله أن يدفعه بذلك وإن أتى على نفسه؛ لما رُوِي: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قاتل دون أهله وماله،

(12/69)


فقتل.. فهو شهيد» والشهادة بالقتل لا تكون إلا بقتال جائز.
ورُوِي: أن امرأة خرجت لتحتطب، فتبعها رجل، فراودها عن نفسها، فرمته بفهر فقتلته، فرفع ذلك إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - فقال: (هذا قتيل الحق، والله لا يُودَى أبدا) . ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فدلَّ على: أنه إجماع.
وهل يجب عليه الدفع؟ ينظر فيه:
فإن طلب أخذ ماله.. لم يجب عليه الدفع؛ لأن المال يجوز إباحته.
وإن طلب يزني بحريمه.. وجب عليه دفعه؛ لأنه لا يجوز إباحته بالإباحة.
وإن طلب دما ... ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه دفعه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] [البقرة: 195] . ولأنه لو اضطر إلى الأكل، وعسر به الطعام.. لوجب عليه أكله لإحياء نفسه، فوجب عليه الدفع عن نفسه لإحيائها.

(12/70)


والثاني: لا يجب عليه الدفع؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل» ورُوِي: أن عُثمانَ بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - حصر في الدار، ومعه أربعمائة عبد، فجردوا السيوف ليقاتلوا عنه، فقال: (من أغمد سيفه.. فهو حُرّ، فأغمدوا سيوفهم، ودخل عليه الحَسَن والحسين، ابنا علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم - ليدفعا عنه فمنعهما من القتال، وترك القتال حتى قتل) ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فدلَّ على: أنه إجماع، ولأن له غرضا في ترك القتال لتحصل له الشهادة، فجاز له التعرض لها. وفي هذا المعنى ما رُوِي: «أن رجلا قال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرأيت لو انغمست في المشركين، فقتلت صابرا محتسبا، أإلى الجنة؟ قال: " نعم "، فانغمس فيهم، فقاتل حتى قتل» .

(12/71)


ويخالف الامتناع من أكل الطعام؛ لأنه ليس له غرض في الامتناع من أكله إلا قتل نفسه بغير الشهادة، فلم يكن له ذلك.
فإن أمكن المقصود أن يهرب ممن قصده.. فقد قال الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (عليه أن يهرب) وقال في موضع آخر: (له أن يهرب، وله أن يقف) .
واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرق:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيه قولان:
[أحدهما] : لا يجب عليه أن يهرب؛ لأن إقامته في هذا الموضع مباح، فلا يلزمه الانصراف عنه.
الثاني: يجب عليه أن يهرب، وليس له أن يقاتله؛ لأنه ليس له أن يدفعه إلا بأسهل ما يمكنه، ويمكنه التخلص منه هاهنا بالهرب.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين.
فحيث قال: (يلزمه أن يهرب) ، إذا كان يتحقق أنه ينجو منه بذلك.
وحيث قال: (لا يلزمه) ، إذا كان لا يتحقق أنه ينجو منه بذلك.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: يُبنى ذلك على وجوب دفعه عن نفسه، فإن قلنا: يجب عليه الدفع.. لزمه أن يهرب، وإن قلنا: لا يجب عليه الدفع.. لم يلزمه أن يهرب.
فعلى هذا الطريق: يلزمه أن يهرب بحريمه إذا علم أن القاصد يطلب ذلك؛ لأنه يجب عليه أن يدفع عن حريمه.
وإن قصد رجل رجلا، فقاتله، فولَّى القاصد عنه.. لم يكن له اتباعه ورميه، فإن فعل.. لزمه ضمان ما جنى عليه؛ لأنه قد اندفع عنه.
وهكذا: إن دخل اللصوص داره وخرجوا منه.. لم يأخذوا شيئا من ماله، أو قصده قطاع الطريق، ثم انصرفوا عنه.. لم يكن له اتباعهم ولا رميهم؛ لما ذكره.

(12/72)


[مسألة: صائل يمكن دفعه بالعصا فضربه بالسيف]
] : وإذا قصده رجل وأمكنه دفعه بالعصا، فضربه بالسيف، أو أمكنه دفعه بقطع عضو منه، فقتله.. وجب عليه الضمان؛ لأنه جنى عليه بغير حق، فهو كما لو جنى عليه قبل أن يقصده.
فإن أخذ رجل ماله.. فله أن يقاتله حتى يخلي ماله وإن أتى على نفسه، فلو طرح ماله وهرب.. فليس له أن يتبعه، فيضربه.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن اتبعه وقطع يده، وعلم أن قطع السرقة كان قد وجب عليه.. لم يضمن؛ لأن تلك اليد بعينها مستحقة في الإتلاف، بخلاف ما لو وجب عليه جلد الزِّنَا، فجلده غير الإمام.. فإنه يضمن؛ لأن الجلد مجتهد في كيفية إقامته، والمواضع التي تجلد من البدن، وشدة الضرب.

[فرع: قطع رجل يد صائل ونحوها]
] : فإن قصده رجل، فقطع المقصود يد القاصد، أو رجله، أو أثخنه بالجراح، فصار بحيث لا يمكنه قتله وقتاله.. لم يجز للمقصود أن يجيز عليه ولا يتبعه؛ لأنه قد صار لا يخاف منه، فإن قصده، فقطع يده، فولى القاصد، ثم اتبعه المقصود، فقطع يده الأخرى، فإن اندمل الجرحان.. لم يجب على المقصود ضمان اليد الأولى، ويجب عليه ضمان الثانية بالقصاص أو الدية؛ لأن الأولى مقطوعة بحق، والثانية بغير حق؛ وإن مات من الجراحتين.. لم يجب على المقصود قصاص في النفس؛ لأنه مات من جراحتين: إحداهما مباحة، والأخرى محظورة، فهو كما لو مات من قطع السرقة وجناية أخرى، وللولي أن يقتص من اليد الثانية، وإن عفا عنها.. كان له نصف الدية.
فإن قصده، فقطع يده فولَّى عنه، ثم قطع رجله، ثم قصده القاصد ثانيا، فقطع

(12/73)


يده الأخرى، فإن اندملت الجراحات.. وجب عليه ضمان الرجل بالقصاص أو الدية، ولا يجب عليه ضمان قطع اليدين؛ وإن مات من الجراحات.. لم يجب عليه قصاص في النفس؛ لأنه مات من ثلاث جراحات بعضها لا يوجب القصاص، وللولي أن يقتص من رجل المقصود، فإن عفا عن القصاص فيها.. لم يجب له إلا ثلث الدية؛ لأنه مات من ثلاث جراحات: فالأولى مباحة، والثانية محظورة، والثالثة مباحة، فقسمت الدية عليها.
فإن قصده، فقطع يده، فلم يندفع عنه، فقطع يده الثانية، فولى القاصد، ثم تبعه المقصود، فقطع رجله، ومات من الجراحات.. لم يجب عليه القصاص في النفس، لما مَضَى، وللولي أن يقتص من الرجل، وإن عفا عنها.. وجب له نصف الدية.
والفرق بينها وبين التي قبلها: أن الجراحتين المباحتين متواليتان، فكانتا كالجناية الواحدة، وفي الأولى: لما ولى بعد الجراحة الأولى.. استقر حكمها، فلما جرحه بعد أن ولى عنه جراحة ثانية وقعت محظورة.. فاستقر حكمها، فلما جرحه الثالثة في حال قصده.. استقر حكمها، فقسطت الدية عليها.
وإن قصده، فقطع يده، فولى عنه، ثم تبعه فقتله.. كان لوليه القصاص في النفس؛ لأنه لما ولى عنه.. لم يكن له قتله.
قال الطبري في " العُدة ": ولورثة المقصود أن يرجعوا في تركة القاصدة بنصف الدية؛ لأن القصاص سقط عنه بهلاكه.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أنهم لا يرجعون بشيء، كما لو اقتص منه بقطع يده، ثم قتله. ولأن النفس لا تنقص بنقصان اليد؛ ولهذا: لو قتل رجل له يدان رجلا ليس له إلا يد.. قتل به، ولا شيء لورثة القاتل.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وسواء كان القاصد صغيرا أو كبيرا، عاقلا أو مجنونا، ذكرا أو أنثى.. فله أن يدفعه عن نفسه؛ لأنه إنما جوز له ذلك؛ لأنه يخافه على نفسه، وهذا المعنى موجود في جميع هؤلاء) .

(12/74)


[فرع: عض يد رجل فندرت سنه]
] : وإن عض رجل يد رجل، وانتزع المعضوض يده، فندرت ثنية العاض أو انكسرت.. فلا شيء على المعضوض، وبه قال أكثر أهل العلم، إلا ابن أبي ليلى، فإنه قال: يجب عليه الضمان.
دليلنا: ما «رَوَى يعلى بن أمية، أنه خرج مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، وكان له أجير، فخاصم رجلا، فعض أحدهما يد صاحبه، فانتزع يده من فم العاض، فذهبت ثنيته، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبره بذلك، فأهدر ثنيته، وقال: " أيدع يده في فيك تعضها كأنها فِي فيْ فحل» .
ورُوِي: (أن رجلا خاصم رجلا، فعض يده، فانتزع يده من فيه، فانكسرت ثنيته، فرفع إلى أبي بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأهدرها) .
ولأن حرمة النفس آكد من حرمة السن. ثم ثبت أنه لو قصد قتله فلم يمكنه دفعه عن

(12/75)


نفسه إلا بقتله، فقتله.. لم يلزمه ضمانه، فلأن لا يلزمه ضمان السن أولى.
فإن لم يمكنه أن ينتزع يده إلا بأن يفك لحييه.. فله أن يفك لحييه، فإن لم يمكنه ذلك إلا بان يبعج جوفه.. كان له ذلك.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن عض رجل قفا رجل.. فإنه ينزع ذلك من فيه، فإن لم يمكنه.. فله أن يضربه برأسه مصعدا أو منحدرا، فإن لم يتخلص منه.. فله أن يضرب فكه بيديه، فإن لم يتخلص منه.. فله أن يبعج بطنه، فإن قتله.. فلا شيء عليه) . هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : لو وجأه بسكين فقتله.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه يضمن) ، فأخطأ بعض أصحابنا وأجرى ذلك على ظاهره، وقال: يضمن الطاعن وإن لم يمكنه الدفع إلا به؛ لأن القاصد قصده بغير سلاح، فليس له دفعه بالسلاح. والمذهب الأول: أنه لا ضمان عليه؛ لأنه لا يمكنه تخليص نفسه منه إلا بذلك، والنص محمول عليه إذا أمكنه دفعه بغير القتل، فقتله.

[فرع: تجارحا فالقول قول كل واحد مع يمينه ويضمناه]
وإن تجارح رجلان، وادعى كل واحد منهما، أن الآخر قصده وجرحه دفعا عن نفسه، وأنكر الآخر.. فالقول قول كل واحد منهما مع يمينه: أنه ما قصد صاحبه؛ لأن الأصل عدم القصد، ويجب على كل واحد منهما ضمان جراحته.

(12/76)


[مسألة: تعين القتل على من رأى شخصا يزني بحريمه]
] : وإن وجد رجلا يزني بامرأته، أو بأمته ولم يمكنه دفعه إلا بقتله.. فله أن يقتله، بكرا كان الزاني أو محصنا؛ لأنه إذا جاز له قتله إذا لم يندفع عن ماله إلا بقتله.. فلأن يجوز له في حريمه أولى.
وإن اندفع عنها بغير القتل، فقتله.. نظرت:
فإن كان الزاني بكرا.. وجب على القاتل القصاص.
وإن كان الزاني محصنا.. لم يجب عليه القصاص فيما بينه وبين الله تَعالَى؛ لأنه مستحق للقتل، فهو كالمرتد، وأمَّا في الظاهر: فإنه يجب عليه القصاص إلا أن يصادقه الولي أنه زنَى وهو محصن، أو أقام البينة على زناه وإحصانه؛ لما رَوَى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن سعدا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - قال: يا رسول الله، أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلا، أأمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نعم» . وفي رواية: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " كفى بالسيف شاهدا ". وقال: " لولا أن يتتابع فيه الغيران والسكران ". ثم قال: " أمهله حتى تأتي بأربعة شهداء» فأراد

(12/77)


أن يقول: شاهدا، فأمسك، وأمره أن لا يقتله حتى يأتي بأربعة شهداء، فدلَّ على: أنه لا يجوز قتله قبل ذلك.
ورَوي: (أن رجلا قتل رجلا بالشام، وادعى: أنه وجده مع امرأته، فرفع إلى معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأشكل عليه الحكم في ذلك، فكتب إلى أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليسأل عنه عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - فسأله عنه، فقال عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: ما هذا شيء كان بأرضنا، عزمت عليك لتخبرني به، فقال: كتب إلي معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسألني أن أسألك عنه، فقال عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: أنا أبُو حسن، إن جاء بأربعة شهداء، وإلا.. فليعط برمته) . ولا مخالف له، فدلَّ على: أنه إجماع.

[مسألة: صيال البهائم]
] : إذا صال على الرجل فحل من البهائم، فخافه على نفسه، ولم يمكنه دفعه عن نفسه إلا بقتله، فقتله.. فلا يجب عليه ضمانه، وبه قال ربيعة، ومالك، وأحمد، وإسحاق، رحمة الله عليهم.

(12/78)


وقال أبُو حَنِيفَة: (يجوز له قتله، ولكن يجب عليه ضمانه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91] [التوبة: 91] ، وهذا محسن بقتله البهيمة.
ولأنه لو قصده آدمي، ولم يمكنه دفعه إلا بقتله، فقتله.. لم يجب عليه ضمانه، فلأن لا يجب عليه ضمان البهيمة أولى.

[مسألة: الاطلاع إلى عورة يسقط الضمان]
] : وإن اطلع رجل أجنبي على بيت رجل من شق أو جحر، فنظر إلى حريمه.. فله أن يرمي عينه بما يفقؤها من حصاة أو شيء خفيف، فإذا فقأها.. فلا ضمان عليه.
وقال أبُو حَنِيفَة: (ليس له أن يرميه بذلك، فإن فعل وفقأ عينه.. لزمه الضمان) .
دليلنا: ما رَوَى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أن امرأ اطلع عليك، فحذفته بحصاة، ففقأت عينه.. فلا جناح عليك» .
ورَوَى سهل بن سعد الساعدي: «أن رجلا اطلع من جحر في حجرة النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان في يد النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مدرى يحك به رأسه، فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لو علمت أنك تنظر.. لطعنت بها عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر» .

(12/79)


وهل له أن يرميه قبل أن ينهاه عن النظر؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له، كما لا يجوز له قتل من يقصده إذا اندفع بغير القتل.
والثاني: يجوز له؛ للخبر.

[فرع: النظر لمن يحل له النظر]
] : قال المسعودي [" في الإبانة "] : ولو كان للناظر زوجة في الدار ينظر إليها أو محرم.. فليس لصاحب الدار فقؤ عينه، فإن فعل.. ضمن؛ لأن للناظر شبهة في النظر. قال: وإن كان لصاحب الدار حرم في الدار مستترات.. فهل له فقؤ عيني الناظر إليهن؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك، فإن فعل.. ضمن؛ لأنه لا أذى على صاحب الدار بنظر إلى الحرام المستترات.
والثاني: له فقؤ عين الناظر إليهن؛ لأن الإنسان يتأذى بنظر غيره إلى حرمه وإن كن مستترات.
وإن كان الناظر امرأة.. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فلصاحب الدار فقؤ عينها؛ لأن الإنسان قد يستر حريمه عن نظر الرجال والنساء.
وإن كان المطلع أعمى.. لم يكن له رميه؛ لأنه لا ينظر.
وإن كان المطلع على داره ذا رحم محرم لحريمه، فإن كان حريمه مستترات.. لم

(12/80)


يكن له رميه؛ لأنه غير ممنوع من نظرهن، وإن كن متجردات.. فله رميه؛ لأنه ممنوع من نظرهن متجردات.
وسواء وقف الناظر في ملك نفسه، أو في ملك صاحب الدار، أو في قارعة الطريق، وجعل ينظر.. فله رميه؛ لأن الأذى يحصل بنظره، وذلك يحصل منه، ولا اعتبار بالموضع الذي هو واقف فيه.
فإن أخطأ الناظر النظر إلى حريم رجل.. لم يكن له رميه مع العلم بحاله؛ لأن الرمي عقوبة على قصد الاطلاع والنظر، ولم يوجد منه ذلك، فإن رماه حين اطلع، فأصاب عينه، ثم قال المطلع: لم أقصد الاطلاع والنظر، وقال الرامي: بل قصدت ذلك.. فالقول قول الرامي مع يمينه؛ لأن الظاهر ممن اطلع في دار غيره أنه قصد النظر.
فإن نظر إلى حريمه من باب مفتوح أو كوة واسعة، فإن نظر وهو على اجتيازه.. لم يكن لصاحب الدار رميه؛ لأن المفرط هو صاحب الدار بفتح الباب وتوسيع الكوة، وإن وقف وجعل ينظر.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز له رميه؛ لأنه مفرط في الاطلاع والنظر، فهو كما لو قصد إلى النظر من حجر.
والثاني: لا يجوز له رميه؛ لأن صاحب الدار فرط في فتح الباب وتوسعة الكوة.
ولو لم يكن في الدار المنظور فيها حريم لصاحب الدار، ففقأ عين من ينظر فيها.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] .
أحدهما ـ وهو قول البغداديين من أصحابنا ـ: أنه يضمن؛ لأن الإنسان إنما يستضر بنظر غيره إلى حريمه، وإلى حريم غيره.
الثاني: لا يضمن؛ لأن الرجل قد يستتر أيضا عن أبصار الناس، كما يستر

(12/81)


فإن كان حريم رجل في الطريق، فنظر غيره إليهن.. لم يكن لصاحب الحريم رميه؛ لأن الموضع الذي فيه الحريم مباح يملك كل واحد النظر إليه، فلم يستحق إتلاف عضو الناظر إليه.

[فرع: يرمى المطلع على حريم بشيء خفيف]
] : وإذا اطلع رجل على داره، ونظر حريمه.. فليس له رمي عينه إلا بشيء خفيف يفقأ عينه، فإن رمى عينه بشيء خفيف، ففقأها وسرى إلى نفسه.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه مات من جناية مباحة، إن رماه بشيء ثقيل، فهشم وجهة وسرى إلى نفسه.. لزمه الضمان؛ لأنه ليس له رميه بما يودي إلى إتلاف نفسه.
إن رمى غير عينه، فأصابه.. وجب عليه الضمان؛ لأن المتعدي هي العين، فلم يجز له إتلاف غيرها.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : إلا أن يكون الناظر بعيدا، فرمى عينه وقصدها، فأصابت موضعا آخر، فحينئذ لا يضمن.
فإن اطلع رجل على حريم غيره في داره، فقبل أن يرميه صاحب الدار، انصرف المطلع.. لم يكن لصاحب الدار أن يتبعه ويرميه؛ لأنه إنما يجوز ليصرفه، فإذا انصرف.. لم يكن له رميه بعد ذلك.
فإن رمى المطلع على داره، فلم ينصرف.. استغاث عليه بالناس، فإن انصرف عنه بالغوث.. فلا كلام، وإن لم ينصرف بذلك.. كان له أن يصرفه بما يصرف به من قصد نفسه أو ماله، حتى لو لم ينصرف إلا بقتله، فقتله.. فلا شيء عليه؛ لأنه تلف بدفع جائز.

(12/82)


[مسألة: دخل دارا فأمره صاحبها بالخروج]
] : فإن دخل رجل دار غيره بغير إذنه.. أمره صاحب الدار بالخروج، فإن لم يخرج.. خوفه بالله تَعالَى، فإن لم يخرج.. استغاث عليه بالناس، فإن لم يخرج بالغوث.. فله أن يدفعه باليد، فإن لم يخرج.. فله ضربه، فإن لم يخرج إلا بضرب يودي إلى قتله، فقتله.. فلا شيء عليه، كما قلنا فيمن قصد نفسه أو ماله، وبأي عضو يبدأ بضربه؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: يبدأ بضرب رجله؛ لأنها هي الجانية، فبدأ بإتلافها، كما يبدأ بإتلاف عين الناظر؛ لأنها هي الجانية.
والثاني: له أن يبدأ بأي عضو أمكنه من بدنه؛ لأنه دخل بجميع بدنه، فجميع بدنه في تحريم الدخول سواء.
فإن دخل رجل داره، فقتله، فادعى القاتل: أنه قتله للدفاع عن داره، وأنكر ولي المقتول ذلك.. لم يقبل قول القاتل من غير بينة؛ لأن القتل متحقق، وما يدعيه خلاف الظاهر، وإن أقام بينة: أنه دخل داره مقبلا عليه بسلاح شاهر.. لم يضمن؛ لأن الظاهر أنه قصد قتله، وإن أقام بينة: أنه دخل داره بسلاح غير شاهر.. ضمنه بالقود أو الدية؛ لأن القتل متحقق، وليس هاهنا ما يدفعه.

[فرع: إزالة المنكر تبيح اقتحام البيوت وقتالهم]
قال المسعودي [في " الإبانة "] : ولو أعلم بخمر في بيت رجل أو طنبور، أو علم بشربه أو ضربه.. فله أن يهجم على صاحب البيت بيته، ويريق الخمر، ويفصل

(12/83)


الطنبور، ويمنعه من شرب الخمر والضرب، فإن لم ينته أهل الدار.. فله قتالهم، وإن أتى القتال عليهم.. فهو مثاب على ذلك.

[مسألة: ضمان ما تتلف البهائم]
وإن أفسدت ماشيته زرعا لغيره.. نظرت:
فإن لم يكن عليها يد لمالكها ولا لغيره.. فقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إن أتلفت ذلك نهارا.. لم يجب على مالكها الضمان، وإن أتلفته ليلا.. وجب على مالكها الضمان، لما «رَوَى البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (كانت لي ناقة ضارية، فدخلت حائطا، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن على أهل الحوائط حفظها نهارا، وعلى أهل المواشي حفظها ليلا، وإن عليهم ضمان ما تتلفه مواشيهم ليلا» .
ومن أصحابنا من قال: إن كان في بلد لها مرعى في موات حول البلد.. لم يجب على مالك الماشية حفظها بالنهار، بل على أهل الزرع حفظ الزرع نهارا، وإن كان في بلد يكون الرعي في حريم السواقي وحوالي الزرع، ويعلم صاحب الماشية أنه متى

(12/84)


أطلق ماشيته دخلت زرع غيره وأفسدته.. فعليه حفظ ماشيته نهارا.
وأمَّا بالليل: فإن كان في بلد ليس لبساتينها ومزارعها حيطان.. فإنه يجب على مالك الماشية حفظ ماشيته ليلا. وإن كان في بلد لبساتينها ومزارعها حيطان.. فعلى صاحب البستان والزرع إغلاق باب بستانه ومزرعته، فإن لم يغلقه.. فلا ضمان على رب الماشية فيما أتلفته من ذلك ليلا، إلا أن يكون صاحب البستان قد أغلق الباب، ولكن الماشية اقتحمت فدخلت، فيجب على مالكها الضمان. وتأول هذا القائل الخبر على: أنه كان للمدينة مراع حولها ولا حيطان على بساتينها.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : يعتبر عرف البلد؛ فلو جرت عادة أهل البلد: أن لا يرسلوا النعم نهارا إلا مع راع يحفظها، وأن لا يحفظ أصحاب الزرع زرعهم نهارا، فأفسدت نعم رجل زرعا نهارا.. ضمن مالكها.
والأول هو المشهور؛ لأن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفرق، ولأن العادة جرت: أن أرباب الزرع يحفظون زروعهم نهارا، فإذا أتلفت الماشية نهارا.. نسب التفريط إلى صاحب الزرع. وجرت العادة: أن أرباب الماشية يحفظونها ليلا، فإذا أتلفت زرعا بالليل.. كان التفريط من أصحاب الماشية، فكان عليهم الضمان.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب على رب الماشية ضمان ما تتلفه ماشيته، نهارا كان أو ليلا، إذا لم يكن معها) .
ودليلنا عليه: ما مَضَى.
وإن أغلق الباب على ماشيته بالليل، فانهدم الحائط، وخرجت الماشية من غير علم صاحبها، وأتلفت على غيره زرعا أو مالا.. لم يجب على مالكها ضمانه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «العجماء جبار» و (العجماء) : الدابة. و (جبار) : هَدَر. ولأنه

(12/85)


غير مفرط بذلك، فلم يلزمه الضمان. فأما إذا كانت يد صاحب الماشية عليها، أو يد غيره عليها. إما أجيرا عليها، أو مستأجرا لها، أو مستعيرا لها، أو مودعة عنده، أو مغصوبة عنده، فأتلفت شيئا بيدها أو رجلها أو نابها.. فضمان ذلك على من كانت يده عليها، سواء كان ذلك ليلا أو نهارا، وسواء كان راكبا لها أو سائقا أو قائدا، أو كان راكبا لدابة وسائقا لغيرها، أو كان معه قطار يقوده أو يسوقه.. فعليه ضمان ما يتلفه الجميع؛ لأن يده على الجميع.
ووافقنا أبُو حَنِيفَة إذا كان سائقا لها، فأما إذا كان راكبها أو قائدها.. فقال: (عليه ضمان ما تتلفه، بيدها أو بفيها، فأما ما تتلفه برجلها أو بذنبها.. فلا يلزمه ضمانه) .
دليلنا: أن يده ثابتة عليها، فكانت جنايتها كجنايته، فوجب عليه ضمانه كما يجب ضمان ما أتلف بنفسه، أو ما أتلفت بيدها أو بفيها عند أبي حَنِيفَة.

[فرع: ضمان ما تتلفه الدابة]
على سائقها وقائدها] : وإن كان مع الدابة قائد وسائق.. كان ضمان ما أتلفت عليهما بالسوية؛ لأن يدهما عليها، وإن كان عليها راكب وسائق.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصبَّاغ:
أحدهما: أن الضمان عليهما؛ لأن كل واحد منهما لو انفرد.. ضمن ما أتلفت، فإذا اجتمعا.. استويا في الضمان، كالسائق والقائد.
والثاني: أن الضمان على الراكب وحده؛ لأن يده أقوى عليها، وهو أقوى تصرفا بها. قال: والأول أقيس.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : ولو كان في يده دابة، فهربت غالبة له، فأتلفت

(12/86)


شيئا.. لم يضمن؛ لأنه ليس بمفرط، وإن كان راكبا لها، فعضت على اللجام وركبت رأسها غالبة له، فأتلفت شيئا.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يضمنه كما لو لم يكن راكبا لها، فانفلتت منه، وأتلفت شيئا.
والثاني: يضمنه؛ لأن الراكب يكون معه سوط يصرف بذلك مركوبه، فإذا لم يكن معه هذه الآلة.. فهو مفرط، وإن غلبته مع ذلك.. فهو مفرط أيضا، حيث لم يروضها للركوب.
وذكر صاحب " التلخيص " في الدابة إذا غلبت صاحبها قولين، سواء كان راكبا لها أو غير راكب لها، كما قلنا في السفينتين إذا تصادمتا من غير تفريط من القيمين.
قال الطبري: وعلى هذا خرج أصحابنا إذا سد باب بيته بالليل، ففتحت الدابة الباب، فانفلتت، فأفسدت زرع إنسان.. هل على صاحبها الضمان؟ على وجهين من هذين القولين.
وإن أركب رجل صبيا دابة، فأتلفت شيئا والصبي راكب عليها، فإن أركبه أجنبي.. كان الضمان على الذي أركبه؛ لأنه تعدى بالإركاب، وإن أركبه وليه أو الوصي عليه لمصلحة الصبي، بأن يضعف الصبي عن المشي.. كان ضمان ما تتلفه البهيمة على الصبي دون الولي والوصي، وإن لم يكن للصبي في الإركاب مصلحة.. كان الضمان على الولي أو الوصي.

[فرع: ربط دابة في طريق ونحوه فأتلفت شيئا]
] : وإن ربط دابة أو أوقفها في غير ملكه أو في طريق المسلمين، فأتلفت شيئا.. وجب عليه ضمانه، سواء كان معها أو غائبا عنها، وسواء كان الطريق واسعا أو ضيقا؛ لأنه إنما يملك الارتفاق بطريق المسلمين بشرط السلامة، فأما إذا أفضى إلى التلف.. وجب عليه الضمان، كما لو أخرج إلى أهل الطريق روشنا أو جناحا، فوقع على إنسان، فأتلفه. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [" في الإبانة "] : إن كان الطريق ضيقا، بحيث لا يوقف بمثله..

(12/87)


ضمن ما أتلفته؛ لأن مثل هذا الطريق لا توقف فيه الدواب، وإن كان واسعا.. لم يضمن؛ لأنه لا يضر وقوفها، وهو غير متعد بوقوفها فيه.
وأمَّا إذا ربط الدابة أو أوقفها في ملكه أو في موات.. لم يجب عليه ضمان ما أتلفته؛ لأن له التصرف في ملكه وفي الموات على الإطلاق، كما لو وقف في ملكه، فعثر به إنسان، فمات.
وإذا كان مع الدابة ولدها.. فحكمه حكم أمه في ذلك.

[فرع: نخس دابة مركوبة فقتلت أو كسرت فعليه الضمان]
] : قال في " الإفصاح ": إذا كان الرجل راكبا لدابة، فجاء آخر فنخسها، فرفست إنسانا فقتلته.. كان الضمان على الذي نخسها دون الراكب؛ لأنه هو الذي حملها على ذلك.

[فرع: ابتلاع الدابة جوهرة لرجل]
] : وإن مرت بهيمة بجوهرة لرجل؛ فابتلعتها، فإن كان على الدابة يد مالكها أو غيره ... وجب ضمان الجوهرة على صاحب اليد.
وقال أبُو علي بن أبي هُرَيرَة: إن كانت شاة.. لم يضمن، وإن كان بعيرا.. ضمن؛ لأن العادة جرت في البعير أن يضبط وفي الشاة أن ترسل. وهذا خطأ؛ لأن فعلها منسوب إليه، ولأنه لا فرق في الزرع بين الجميع، فكذلك في غير الزرع.
وإن لم يكن عليها يد لأحد.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي علي بن أبي هُرَيرَة ـ: إن كان ذلك نهارا.. لم يضمن صاحبها، وإن كان ليلا.. ضمن، كما قلنا في الزرع.
والثاني ـ وهو قول القاضي أبي حسن الماوردي: أنه يضمن، ليلا كان أو نهارا؛ لأن رعي الزرع مألوف، فلزم صاحبه حفظه منها، وابتلاع الجوهرة غير مألوف، فلم يلزم صاحبها حفظها.

(12/88)


فعلى هذا: إن كانت البهيمة غير مأكولة، وطلب صاحب الجوهرة ذبحها بإخراج الجوهرة.. لم تذبح، بل يغرم مالكها قيمة الجوهرة، فإن دفع القيمة، ثم ماتت البهيمة، وأخرجت الجوهرة من جوفها.. وجب ردها إلى مالكها، واسترجعت القيمة منه، فإن نقصت قيمتها.. ضمن صاحب البهيمة ما نقصت من قيمتها.
وإن كانت البهيمة مأكولة.. فهل يجب ذبحها؟ فيه وجهان، بناء على القولين فيمن غصب خيطا، وخاط به جرح حيوان مأكول.

[فرع: ضمان ما يؤذيه الكلب أو يأكله السنور من الطير]
] : وإن كان له كلب عقور أو سنور يأكل حمام الناس.. لزمه ربطهما وحفظهما، فإن أطلقهما.. وجب ضمان ما أتلفا من ذلك، ليلا كان أو نهارا؛ لأنه مفرط في ترك حفظهما.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه لا يلزمه ذلك ليلا أو نهارا؛ لأن العادة لم تجر بتقييد الكلاب والسنانير في البيوت. والمشهور هو الأول. وإن كانا غير معروفين بذلك.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنهما كغيرهما من البهائم، على ما مَضَى.
والثاني: لا يجب عليه ضمان ما أتلفا؛ لأن العادة لم تجر بتقييدهما وحفظهما.
وإن ربط في داره كلبا، فدخل رجل داره بغير إذنه، فأكله الكلب، فإن لم يشل الكلب عليه.. فلا ضمان عليه؛ لأن المفرط هو الداخل، وإن أشلى عليه الكلب.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو حامد:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه يلزمه الضمان؛ لأن يده على الكلب، فهو

(12/89)


كآلة له، فإذا أشلاه عليه، فجنى عليه.. كان كما لو جنى عليه بيده.
والثاني: لا يلزمه الضمان؛ لأن الكلب له قصد واختيار، فكانت جنايته عليه باختياره.
وإن دخل الدار بإذن صاحب الدار، فإن أعلمه صاحب الدار أن الكلب عقور، أو ربط دابة عضوضا، فأذن له بالدخول وأعلمه بإعضاضها، فأكله الكلب أو عضته الدابة.. لم يجب على صاحب الدار الضمان؛ لأنه لم يفرط حيث أعلمه.
وإن أذن له ولم يعلمه بعقر الكلب وإعضاض الدابة، فعقره الكلب أو عضته الدابة.. فهل يجب على صاحب الدار الضمان؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يضمن؛ لأنه غير مفرط في ربطها بملكه.
والثاني: يضمن؛ لأنه لما أذن له في الدخول.. فقد صارت الدار للداخل في حكم ملكه أو في حكم الموات.

[فرع: التقاط الطائر حب جاره أو غيره]
] : قال ابن الصبَّاغ: إذا كان له طير، فأرسله، فلقط حبا لغيره.. لم يضمنه؛ لأن تخلية الطير بالنهار معتادة.
والله أعلم بالصواب.

(12/90)