البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب السير]

(12/91)


كتاب السير قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لما مضت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مدة من هجرته.. أنعم الله فيها على جماعات باتباعه، حدثت لهم ـ مع عون الله ـ قوة بالعدد لم يكن قبلها فرض الله عليهم الجهاد) .
وجملة ذلك: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قبل أن يبعث متمسكا بدين إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولم يعبد صنما ولا وثنا؛ ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما كفر بالله نبي قط» .
فـ: «أول ما ابتدأه الله بالوحي: بالمنامات الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. وكان قد حببت إليه الخلوة، وكان يصعد إلى حراء ـ جبل

(12/93)


بمكة ـ وكان كل شجر وحجر مر به يقول له: السلام عليك يا رسول الله، فلا يرى أحدا ففزع من ذلك.. فبينما هو ذات يوم إذ أتاه جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال: يا محمد، اقرأ. فقال: " وما أقرأ؟ قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2] [العلق: 1 - 2] ، ففزع من ذلك وراح إلى بيت خديجة، فقال: (زملوني دثروني) ، وأخبر خديجة قصته، وقال: (أتاني شخص، أترين بي جنة؟) قالت له: ما كان الله ليفعل بك هذا، ثم قالت له: إذا جاءك فعرفني. فلما جاء جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.. قال لها: " قد جاءني " فجاءت وأقعدته على فخذها الأيمن، وقالت له: أين هو؟ قال: " واقف "، فدارته إلى فخذها الأيسر، وقالت: أين هو؟ قال: " واقف "، فكشفت عن رأسها وقالت: أين هو؟ قال: " قد غاب " قالت له: أبشر، فإنه ملك؛ حيث

(12/94)


غاب عندما كشفت العورة، ولو كان شيطانا.. لم يغب لذلك» .
ثم أمره الله تَعالَى بالإنذار وأن يدعو الناس إلى الله، فقال تَعالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] [المدثر: 1 - 4] وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] [الكافرون: 1] إلى آخرها، وقال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] [الشعراء: 214] .
«وكان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتخوف أن يدعو قريشا إلى الله فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] [المائدة: 67] ، فضمن له العصمة من الناس، فقام النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجمع قومه ودعاهم إلى الله تَعالَى، فقال أبُو لهب: ألهذا دعوتنا، تبا لهذا الحديث، فأنزل الله تَعالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] [المسد: 1] إلى آخرها» . فأمره الله تَعالَى بالإعراض عنهم، فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] [الأنعام: 68] وقال تَعالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا} [الأنعام: 108] الآية [الأنعام: 108] ، فكان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرض عنهم، فكثر تأذي النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فأذن الله تَعالَى لهم في الهجرة، ولم يوجبها عليهم، فقال تَعالَى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100] الآية [النساء: 100] فهاجر بعض أصحاب النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الحبشة، وبعضهم

(12/95)


إلى الشام، وتفرقوا. وكان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج في المواسم ومعه أبُو بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيعرض نفسه على قبائل العرب، فلم يقبله أحد حتى قدم مكة الأوس والخزرج ـ قوم من المدينة ـ فعرض النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفسه عليهم، فقالوا: وراءنا رهط من قومنا، وإنا نرجع إليهم ونعرفهم ذلك، فإن قبلوك.. انتقلت إلينا ونصرناك. فلما رجعوا إلى المدينة.. أخبروا قومهم به وعرفوهم حالة فقبلوه. فلما كان وقت الموسم.. قدموا مكة، وقالوا: قد أخبرنا قومنا بخبرك فقبلوك، فسر معنا. فوجه معهم مصعب بن عمير؛ ليعلمهم الإسلام، فعلمهم الإسلام، وكان يصَلَّى بهم.
ثم هاجر النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم، فلما استقر بالمدينة، وأسلم خلق كثير، أذن لهم الله تَعالَى بالقتال، ولم يفرضه عليهم بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] الآية [الحج: 39] ، فلما كثر المسلمون واشتدت شوكتهم بعد مدة.. فرض الله عليهم القتال، فقال عز وجل: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 41] [التوبة: 41] وقال عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] وقال تَعالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] ، وفي ذلك آي كثير.
فهذا معنى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لما مضت برسول الله مدة من هجرته) إلى آخر كلامه.
ثم أوجب الله على من بقي من المسلمين مع الكفار الهجرة، وقيل - إن سبب وجوبها -: أن قريشا لما خرجوا إلى بدر لقتال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. أكرهوا من معهم من المسلمين على الخروج معهم والقتال، فقيل: إنه قتل من المسلمين الذين معهم ناس، فقال الله تَعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] [النساء: 97] الآية، فتواعدهم على ترك الهجرة، والتواعد لا يكون إلا على واجب. وقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

(12/96)


«أنا بريء من كل مسلم مع مشرك» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسلم والكافر: «لا تراءى ناراهما» .
إذا ثبت هذا: فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أحدهما: أن يكون ممن أسلم وله عشيرة تمنع منه، ولكنه يقدر على الهجرة، ويقدر على إظهار دينه، ولا يخاف الفتنة في دينه.. فهذا يستحب له أن يهاجر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] [المائدة: 51] ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تراءى ناراهما» . ولا تجب عليه الهجرة.
والضرب الثاني: أن يكون ممن أسلم ولا عشيرة له تمنع منه، ولا يقدر على الهجرة لعجزه عن المشي، ولا له مال يمكنه أن يكتري منه ما يحمله.. فهذا لا تجب عليه الهجرة، بل يجوز له المقام مع الكفار.

(12/97)


والضرب الثالث: أن يكون ممن أسلم ولا عشيرة له تمنع منه، ولكنه يقدر على الهجرة بالمشي، وله مال يمكنه أن يكتري منه ما يحمله.. فهذا تجب عليه الهجرة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] [النساء: 97] الآية. فأخبر الله: أن من كان مستضعفا بين المشركين وهو يقدر على الخروج من بينهم فلم يفعل.. فإن مأواه النار. فدليل خطابه: أن من لم يكن مستضعفا بينهم، بل يتمكن من إظهار دينه.. أنه لا شيء عليه، فثبت وجوب الهجرة على المستضعف الذي يقدر على الخروج بنص الآية، وسقوط الهجرة عمن ليس بمستضعف بدليل خطابها، ثم استثنى فقال: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98] [النساء: 98] الآية، فأخبر: أن المستضعف الذي لا يقدر على الخروج خارج من الوعيد.
فإن وجبت الهجرة على رجل من بلد، ففتح ذلك البلد وصار دار إسلام.. لم تجب عليه الهجرة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا هجرة بعد الفتح» وأراد به: لا هجرة من مكة

(12/98)


بعد أن فتحت، ولم يرد: أن الهجرة تنقطع من جميع البلاد بفتح مكة؛ بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» .

[مسألة: الجهاد فرض على الكفاية وماذا لو كان في الأشهر الحرم؟]
؟] : الجهاد فرض من فروض الكفاية منذ فرضه الله تَعالَى إلى وقتنا هذا. فإذا قام به بعض المسلمين.. سقط الفرض عن الباقين.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه كان فرضا على الأعيان في أول الإسلام لقلتهم. والأول هو المشهور.
وقال ابن المسيب: هو فرض على الأعيان في كل زمان.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى:

(12/99)


{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] [النساء: 95] الآية، فمنها دليلان:
أحدهما: أنه فاضل بين المجاهدين والقاعدين، والمفاضلة لا تكون إلا بين جائزين.
والثاني: قَوْله تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] [النساء: 95] ، فلو كان القاعد تاركا لفرض.. لما وعد بالحسنى. ولـ: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج عام بدر وأحد، وبقي ناس لم يخرجوا معه، فلم ينكر عليهم» . وقد: «كان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج بنفسه تارة، وتارة يبعث بالسرايا» . فدلَّ على أنه ليس بفرض على الأعيان. وبعث النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بني لحيان، وقال: «ليخرج من كل رجلين رجل، ويخلف الآخر الغازي في أهله وماله» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير.. كان له مثل نصف أجر الخارج» . ورُوِي: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من جهز غازيا.. فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله وماله بخير.. فقد غزا» . ولأنا لو قلنا: إنه فرض على الأعيان.. لانقطع الناس به عن معاشهم، فدخل الضرر عليهم.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن دخل المشركون بلدا من بلاد الإسلام.. وجب الجهاد على أعيان من يقرب عن ذلك البلد.

(12/100)


أراد: وإن لم يجد زادا وراحلة. قال: ويجب الجهاد على أعيان من كان بعيدا من ذلك البلد إذا وجد الزاد والراحلة، وهل يجب على أعيان من كان بعيدا من ذلك البلد وإن لم يجدوا زادا ولا راحلة؟ فيه وجهان.
أحدهما: يجب على أعيانهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] [التوبة: 41] ، فيجب عليهم أن يتحركوا للقتال.
والثاني: لا يجب عليهم؛ لأن عليهم مشقة عظيمة في ذلك، فلم يجب عليهم، كما لا يجب عليهم الحج.
إذا ثبت هذا: فإن الجهاد في سبيل الله كان محرما في الأشهر الحرم في أول الإسلام، وفي البلد الحرام إلا إن ابتدئوا بالقتال.
والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 217] [البقرة: 217] الآية، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] الآية، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] [البقرة: 191] .
ثم نسخ ذلك كله، فقال تَعالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] ، ولم يفرق. ولـ: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الطائف في ذي القعدة فقاتلهم، وسار إلى مكة ليفتحها من غير أن يبدؤوه بقتال» .

[فرع: يستحب للإمام أن يكثر من الجهاد إذا توفرت أمور]
] : ومتى علم الإمام في المسلمين قوة، وعددا، وقوة نية في القتال.. فالمستحب له: أن يكثر من الجهاد؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال:

(12/101)


" الإيمان بالله ورسوله، ثم جهاد في سبيل الله» . وروى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والذي نفسي بيده، لوددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا» ، فكان أبُو هُرَيرَة، يقول ثلاثا: أشهد.
ورَوَى أبُو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا أبا سعيد، من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبيا.. وجبت له الجنة "، فقال: أعدها يا رسول الله، ففعل، ثم قال: " وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: " الجهاد في سبيل الله» ورُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزا سبعا وعشرين غزوة، وبعث خمسا وثلاثين سرية» .

(12/102)


وأقل ما يجزئ الإمام أن يغزو بنفسه أو بسراياه في السنة مرة؛ لأن الجهاد يسقط ببذل الجزية، والجزية تجب في كل سنة مرة، فكذلك الجهاد، فإن دعت الحاجة إلى القتال في السنة أكثر من مرة.. وجب ذلك.
وإن علم الإمام في المسلمين قلة عدد، أو ضعفا في نياتهم، أو فيما يحتاجون إليه.. جاز له أن يؤخر الجهاد أكثر من سنة إلى أن يكثر عددهم، وتقوى نياتهم أو يوجد ما يحتاج إليه في القتال؛ لأن القصد بالقتال النكاية في العدو، فإذا قاتلهم مع وجود هذه الأشياء.. لم يؤمن أن تكون النكاية في المسلمين.

[مسألة: لا يجاهد عن غيره بعوض ولا بغير عوض]
] : ولا يجوز أن يجاهد أحد عن غيره بعوض ولا بغير عوض. فإن فعل.. وقع الجهاد عن المجاهد، ووجب عليه رد العوض؛ لأن الجهاد فرض على الكفاية، فإذا حضر المجاهد الصف.. تعين عليه الجهاد بنفسه ولم يقع عن غيره، كما لو استأجر شخصا يحج عنه من لم يحج عن نفسه.

[مسألة: الجهاد على الرجال الأحرار دون غيرهم]
] : ولا يجب على المرأة الجهاد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] [الأنفال: 65] ، وهذا خطاب للذكور. ورُوِي: «أن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سألت رسول الله: هل على النساء جهاد؟ فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " جهادكن الحج " أو قال: " حسبكن الحج» .

(12/103)


ورُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى امرأة مقتولة، فقال: " ما بالها تقتل وإنها لا تقاتل؟!» .
ولا يجب الجهاد على الخنثى المشكل؛ لجواز أن يكون امرأة.
ولا يجب الجهاد على العبد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] [التوبة: 41] ، والعبد لا مال له، ولقوله تَعالَى:

(12/104)


{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] [التوبة: 91] ، والعبد لا يجد ما ينفق. ورُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جاءه من يسلم ولم يعرفه قال له: " أحر أنت أو عبد؟» ، فإن قال: حر.. بايعه على الإسلام والجهاد. وإن قال: عبد.. بايعه على الإسلام فقط. «وروى عبد الله بن عامر قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزاة، فمررنا بقوم من مزينة، فتبعنا مملوك امرأة منهم، فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أستأذنت مولاتك؟ "، فقال: لا. قال: " إن مت.. لم أصل عليك، ارجع واستأذنها وأقرئها سلامي» ، فرجع العبد إليها وأقرأها السلام من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأذنت له في الخروج، ولأن الجهاد قربة يتعلق بقطع مسافة بعيدة، فلم يجب على العبد، كالحج. وفيه احتراز من الهجرة؛ قال الشيخُ أبُو حامد: فإنها تجب على العبد؛ لأن الهجرة عبادة هي قطع المسافة؛ لأن قطع المسافة هو أداء العبادة.
ولا يجب الجهاد على من بعضه حر وبعضه عبد؛ لأنه ناقص بالرق، فهو كالقن.

[فرع: لا يجب الجهاد على صغير ولا مجنون]
] : ولا يجب الجهاد على صبي ولا مجنون؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ورُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد أنسا وابنَ عُمر، وعشرين من أصحابه؛

(12/105)


استصغرهم» . ولأن الجهاد عبادة بدنية، فلم تجب على الصبي والمجنون، كالصلاة والصوم.

[مسألة: لا جهاد على الأعمى وماذا لو كان في بصره أو جسده علة؟]
؟] : ولا يجب الجهاد على الأعمى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] [النور: 61] ، ولم يختلف أهل التفسير أنها في الفتح [وهي في سورة الفتح: 17] : نزلت في الجهاد. ولقوله تَعالَى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة: 91] [التوبة: 91] . قال ابن عبَّاس: (أنا ضعيف وأمي ضعيفة ـ يعني: أنا أعمى وأمي امرأة ـ فلا حرج علينا بترك الجهاد) . ورُوِي: أنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] [النساء: 95] . قال ابن أم

(12/106)


مكتوم: فضل الله المجاهدين علينا، فنزل قَوْله تَعَالَى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] ، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " اكتبوها بين الكلمتين؛ بين قَوْله تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] ، وبين قوله: {وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء: 95] . ولأن المقصود من الجهاد القتال، والأعمى ممن لا يقاتل.
ويجب الجهاد على الأعور؛ لأنه يدرك بالعين الواحدة ما يدركه البصير في القتال.
ويجب الجهاد على الأعشى ـ وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار ـ لأنه يدرك ما يدرك البصير في القتال.
وإن كان في بصره سوء، فإن كان يدرك الشخص وما يتقيه من السلاح.. وجب عليه الجهاد؛ لأنه يقدر على القتال. وإن كان لا يدرك الشخص وما يتقيه من السلاح.. لم يجب عليه الجهاد؛ لأنه لا يقدر على الجهاد.
ولا يجب الجهاد على الأعرج. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والأعرج هو: المقعد) وقيل: هو الذي يعرج من إحدَى رجليه. وهذا ينظر فيه: فإن كان مقعدا ولا يمكنه الركوب والنزول، أو لم يكن مقعدا ولكن عرج في إحدَى رجليه بحيث

(12/107)


لا يمكنه الركوب ولا النزول مسرعا ولا المشي مسرعا.. لم يجب عليه الجهاد؛ للآية. وإن كان عرجه يسيرا، كالذي يخمع، ويمكنه الركوب والنزول والمشي مسرعا.. وجب عليه الجهاد؛ لأنه يتمكن من القتال.
ولا يجب الجهاد على مقطوع اليد أو أشل اليد، ولا على من قطعت أكثر أصابع يده؛ لأنه لا يتمكن من القتال.
وأمَّا المريض: فإن كان مرضه ثقيلا.. لا يجب عليه الجهاد للآية، ولأنه لا يقدر على القتال. وإن كان مرضا يسيرا، كالصداع اليسير والحمى اليسيرة.. وجب عليه الجهاد؛ لأنه يقدر على القتال.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن حضر الكفار.. وجب على المرأة والعبد والأعمى والأعرج أن يتحركوا على أنفسهم ويدفعوا عن أنفسهم وعمن يحضرهم. ولا يتصور الوجوب على الصبيان والمجانين بحال.

[مسألة: وجود الزاد والراحلة وماذا لو كان معسرا وبذل له ذلك؟]
؟] : وأمَّا وجود الزاد والراحلة: فهل يعتبران في المجاهد؟
قال الشيخُ أبُو إسحاق: إن كان القتال على باب البلد وحواليه.. لم يعتبرا في حقه؛ لأنه لا يحتاج إليهما.
وقال الشيخُ أبُو حامد: إن كان العدو منه على مسافة لا تقصر إليها الصلاة.. فلا يجب عليه الجهاد حتى يجد نفقة الطريق، ولا يعتبر فيه وجود الراحلة. وإن كان بينه وبين العدو مسافة تقصر إليها.. فلا يجب عليه الجهاد حتى يجد نفقة الطريق والراحلة فاضلا عن قوت عياله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] [التوبة: 91] .

(12/108)


وقوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] [التوبة: 92] .
فإن كان معسرا، فبذل له الإمام ما يحتاج إليه من ذلك.. وجب عليه قبوله ووجب عليه الجهاد؛ لأن ما بذله له.. حق له. وإن بذل له ذلك غير الإمام.. لم يجب عليه قبوله؛ لأن عليه منة في ذلك.

[مسألة: جهاد المدين]
حالا أو مؤجلا وماذا لو كان من المرتزقة؟] : وإن كان على الرجل دين.. نظرت: فإن كان الدين حالا.. لم يكن له أن يجاهد من غير إذن من له الدين؛ لما روى أبُو قتادة: «أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا ألي الجنة؟ فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نعم إلا الدين؛ بذلك أخبرني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» ، فأخبر: أن الدين يمنع الجنة، فعلم أنه يمنع الاستشهاد؛ فإذا منع الاستشهاد.. علم أن جهاده ممنوع منه. فإن استناب من يقضيه من مال له حاضر.. جاز له أن يجاهد من غير إذن الغريم؛ لأنه يصل إلى حقه. وإن كان من مال غائب.. لم يجز له أن يجاهد من غير إذن غريمه؛ لأنه قد يتلف المال فلا يصل الغريم إلى دينه.
وإن كان الدين مؤجلا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز له أن يجاهد من غير إذن الغريم، كما يجوز له أن يسافر للتجارة والزيارة من غير إذنه.
والثاني: ليس له أن يجاهد من غير إذنه، وهو المذهب؛ لأن القصد من الجهاد

(12/109)


طلب الشهادة، والدين يمنع الاستشهاد، فلم يجز من غير إذن من له الدين.
هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: إن كان الدين مؤجلا، فإن كان لم يخلف وفاء.. فليس له أن يجاهد بغير إذن الغريم وجها واحدا. وإن خلف وفاء.. فهل له أن يغزو بغير إذن الغريم؟ فيه وجهان.
قالوا: وإن كان على أحد من المرتزقة دين مؤجل.. فهل له الخروج بغير إذن الغريم إن لم يخلف وفاء للدين؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له، كغير المرتزقة.
والثاني: له ذلك؛ لأنه قد استحق عليه هذا الخروج بكتب اسمه في الديوان، ولعله لا يمكنه أداء الدين إلا بما يأخذه من الرزق أو بما يصيب من المغنم.

[مسألة: الجهاد بإذن الأبوين]
وإن كان لرجل أبوان مسلمان أو أحدهما.. لم يجز له أن يجاهد من غير إذن المسلم منهما؛ لما روى أبُو سعيد الخدري: «أن رجلا هاجر إلى النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من اليمن، فقال له النَّبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " هجرت الشرك وبقي هجرة الجهاد "، ثم قال له: " ألك أحد باليمن؟ " فقال أبواي، فقال: " أذنا لك؟ " فقال لا، فقال: " مر إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك.. فجاهد. وإن لم يأذنا لك.. فبرهما» .
ورُوِي: «أن رجلا أتى النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليبايعه على الجهاد فقال له النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ألك أبوان؟ " قال: نعم، قال: " ارجع، ففيهما فجاهد» ورُوِي: «أن رجلا أتى

(12/110)


النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليبايعه على الجهاد، فقال: تركت أبوي يبكيان، فقال له النَّبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما» . «ورَوَى ابن مَسعُودٍ، قال: سألت النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الأعمال أفضل؟ فقال: " الصلاة لميقاتها " قلت: ثم ماذا؟ قال: " بر الوالدين " قلت: ثم ماذا؟ قال: " الجهاد في سبيل الله» فدلَّ على: أن بر الوالدين مقدم على الجهاد.
فإن خرج بغير إذنهما.. فله أن يرجع قبل أن يلتقي الزحفان، وإن التقيا.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: يجب عليه أن يرجع؛ لأن ابتداء السفر كان معصية، فالرجوع عنه أبدا واجب.
والثاني: ليس له أن يرجع؛ لأنه التزم الجهاد بحضوره التقاء الزحفين.
وإن لم يكن له أبوان، وله جد وجدة مسلمان.. لزمه استئذانهما؛ لأنهما يقومان مقام الأبوين في البر والشفقة.
وإن كان له أب وجد وأم وجدة.. فهل يلزمه استئذان الجد مع الأب، واستئذان الجدة مع الأم؟ فيه وجهان.

(12/111)


أحدهما: لا يلزمه؛ لأن الأب والأم يحجبان الجد والجدة عن الولاية والحضانة.
والثاني: ـ وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق ـ: أنه يلزمه استئذانهما؛ لأن وجود الأبوين لا يسقط بر الجد والجدة ولا ينقص شفقتهما عليه.
وإن كان الأبوان كافرين.. جاز له أن يجاهد من غير إذنهما؛ لأن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول كان يجاهد مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبوه منافق يخذل الناس عن الخروج مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعلوم أنه كان لا يأذن له. ولأن الكافر متهم في الدين فلم يعتبر إذنه.
وإن كان الأبوان مملوكين.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز له أن يجاهد من غير إذنهما؛ لأن المملوك لا إذن له في نفسه، فلا يعتبر إذنه في حق غيره.
والثاني: ـ وهو قول الشيخ أبي إسحاق ـ: أنه لا يجوز له أن يجاهد من غير إذنهما؛ لأن الرق لا يمنع بره لهما، ولا شفقتهما عليه.

[فرع: سفر الولد للتجارة والعلم بغير إذن الوالدين]
فرع: [جواز سفر الولد للتجارة والعلم الذي يحتاج إليه كالصلاة ونحوها بغير إذن] : قال الشيخُ أبُو إسحاق: وإن أراد الولد أن يسافر في تجارة أو طلب علم.. جاز من غير إذن الأبوين؛ لأن الغالب من سفره السلامة.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا أراد الولد الخروج لطلب العلم.. نظر فيه:

(12/112)


فإن كان يطلب ما يحتاج إليه لنفسه من العلم، كالطهارة والصلاة والزكاة، وله مال ولم يجد ببلده من يعلمه ذلك.. فقد تعين عليه الخروج لتعلمه، وليس للأبوين منعه منه.
وأمَّا ما لا يحتاج إليه لنفسه، كالعلم بأحكام النكاح ولا زوجة له، وبالزكاة ولا مال له ونحو ذلك، فإن لم يكن ببلده من يعلمه ذلك.. فهذا النوع من العلم فرض على الكفاية، وله أن يخرج لتعلم هذا العلم بغير رضا الأبوين. فإن كان ببلده من يعلم هذا النوع.. فهل له أن يخرج لطلبه من غير إذن الأبوين؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له ذلك؛ لأن هذا ليس بفرض عليه، فصار كالجهاد.
والثاني: يجوز له أن يخرج بغير إذنهما؛ لأنه طاعة ونصرة للدين، ولا خوف عليه في المسافرة لأجله، بخلاف الجهاد.

[مسألة: رجوع الغريم والأبوين عن الإذن في الجهاد]
وماذا لو أحاط بهم العدو أو مرض؟] : وإن أذن له الغريم في الجهاد ثم رجع الغريم، أو أذن له أبواه ثم رجعا، أو كانا كافرين ثم أسلما، فإن كان ذلك قبل التقاء الزحفين.. وجب عليه أن يرجع؛ لأنه في هذه الحالة كما لو كان في وطنه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إلا أن يخاف إن رجع تلفا.. فلا يرجع) .
قال: (وأحب أن يتوقى موضع الاستشهاد؛ لأنه يجاهد بغير إذن أبويه، فلا ينبغي له أن يطلب الاستشهاد) .
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وكذلك إن خاف أن تنكسر قلوب المسلمين لرجوعه.. فليس له أن يرجع بحال.
وإن كان ذلك بعد التقاء الزحفين.. ففيه قولان:
أحدهما: ليس له أن يرجع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16]

(12/113)


[الأنفال: 16] الآية. وهذا ليس بمتحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة، ولأن رجوعه في هذه الحالة ربما كان سببا لهزيمة المسلمين، فلم يكن له ذلك.
والثاني: يجب عليه الرجوع؛ لأن طاعة الوالدين واجب والجهاد فرض، إلا أن طاعة الوالدين أسبق، فكانت بالتقديم أحق.
فإن أحاط بهم العدو.. جاز له الجهاد من غير إذن الوالدين، ومن غير إذن الغريم؛ لأن ترك الجهاد في هذه الحال يؤدي إلى الهلاك.
وإن مرض المجاهد مرضا يمنع وجود الجهاد عليه، أو عمي أو عرج، فإن كان قبل التقاء الزحفين.. جاز له أن يرجع. وإن كان بعد التقاء الزحفين.. جاز له أن يرجع أيضا على المشهور من المذهب. وخرج بعض أصحابنا الخراسانيين وجها آخر: أنه ليس له أن يرجع، كما قلنا في أحد القولين في رجوع الغريم والأبوين بعد التقاء الزحفين. والأول أصح؛ لأنه لا يمكنه الجهاد مع المرض والعمى والعرج، بخلاف رجوع الغريم والأبوين.

[فرع: الجهاد والغزو بإذن الإمام]
] : ويكره الغزو بغير إذن الإمام أو الأمير من قبله؛ لأن الغزو على حسب الحاجة؛ وهما أعلم بالحاجة إليه. ولا يحرم؛ لأن التغرير بالنفس يجوز في الجهاد.

[مسألة: توزيع الجيش وقواده]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (وأحب للإمام أن يبعث إلى كل طرف من أطراف بلاد الإسلام جيشا، ويجعلهم بإزاء من يليهم من المشركين، ويولي عليهم

(12/114)


رجلا عاقلا دينا قد جرب الأمور؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك.. فربما خرج عسكر المشركين وأضروا بمن يليهم إلى أن يجتمع عسكر من المسلمين) هكذا حكى الشيخ أبُو حامد.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق: أنه يجب على الإمام أن يشحن ما يلي الكفار بجيوش يكفون من يليهم.
وإن احتيج إلى حفر خندق أو بناء حصن وأمكن الإمام ذلك.. استحب له أن يفعله؛ لـ: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حفر الخندق حول المدينة» ، ولأن المشركين ربما أغاروا على المسلمين على غفلة أو بيتوهم ليلا، فإن لم يكن هناك خندق ولا حصن.. نكوا فيهم.
ويبتدئ الإمام بقتال من يليه من الكفار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] [التوبة: 123] ، ولأن ذلك أخف مؤنة، إلا أن يكون أبعد منهم قوم من المشركين فيهم قوة وإن غفل عن قتالهم.. اشتدت شوكتهم وخيف منهم، فحينئذ يبتدئ بقتالهم؛ لأنه موضع ضرورة.
وقال في " الأم ": (وإذا غزا الإمام في هذا العام جهة.. غزا في العام القابل جهة أخرى؛ ليعمهم بالنكاية، إلا أن يكون في جهة من الجهات عدو شديد.. فيجوز له أن يقصده في كل عام؛ ليكسر قلوبهم) .
فإذا أراد الإمام أن يغزو المشركين.. فإنه يغزو بكل قوم إلى من يليهم من الكفار، ولا ينقل أهل الجهة إلى جهة أخرى؛ لأنهم بقتال من يليهم أخبر، ولأنه أخف مؤنة، إلا أن يكون العدو في جهة من الجهات كبيرا شديد الشوكة، وليس بإزائهم من المسلمين من يقوم بقتالهم، فحينئذ له أن ينقل إليهم قوما من جهة أخرى؛ لأنه موضع ضرورة.

(12/115)


[مسألة: عرض الجيش على الإمام قبل الخروج]
وماذا لو كان فيه تخذيل ونحوه؟] : وإذا أراد الإمام الخروج.. عرض الجيش، ولا يجوز له أن يأذن بالخروج لمن ظهر منه تخذيل للمسلمين، أو إرجاف بهم، أو من يعاون الكفار.
فـ (المخذل) : هو أن يقول: بالمشركين كثرة، وخيولهم جياد، وسلاحهم جيد، ولا طاقة لنا بهم؛ لأنه يجبن الناس إذا سمعوا ذلك.
و (الإرجاف) : هو أن يقول: وراء المشركين مدد ونصرة، ووراءهم كمين وما شاكله.
و (العون) : هو أن ينقل أخبار المسلمين إلى المشركين، ويوقفهم على عوراتهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} [التوبة: 47] [التوبة: 46 - 47] يعني: ضررا وفسادا. و: {وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} [التوبة: 47] [التوبة: 47] قيل: لأوقعوا بينكم الخلاف. وقيل: لأسرعوا في تفريق جمعكم.
فإن قيل: فقد كان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج معه عبد الله بن أبي بن سلول وهو رأس المنافقين وكان مخذلا؟
فالجواب: أنه كان مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عدد كثير من الصحابة الأبرار الأتقياء لا يلتفتون إلى تخذيله، بخلاف غير النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولأن الله تَعالَى كان يطلع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على كيد المنافقين وتخذيلهم فلا يستضر به، بخلاف غيره.

[فرع: لا يستعين إمام المسلمين بالكفار]
] : ولا يجوز للإمام أن يستعين بالكفار على قتال الكفار من غير ضرورة؛ لما «رُوِي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: خرجت مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض غزواته، فلما بلغ في

(12/116)


موضع كذا.. لقينا رجل من المشركين موصوفا بالشدة، فقال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أقاتل معك؟ فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنا لا أستعين برجل من المشركين "، قالت: فأسلم وانطلق معنا» .
وإن دعت إلى ذلك حاجة؛ بأن يكون في المسلمين قلة، ومن يستعين به من الكفار يعلم منه حسن نية في المسلمين.. جاز له أن يستعين به؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بصفوان بن أمية وهو مشرك على قتال هوازن، واستعار منه أدرعه» ؛ لأنه كان له فيه حسن نية في المسلمين؛ بدليل: ما رُوِي: أنه لما ولى المسلمون في قتال هوازن.. سمع رجلا يقول: غلبت هوازن وقتل محمد، فقال صفوان: بفيك الحجر، لرب من قريش أحب إلينا من رب من هوازن. وأراد بالرب هاهنا: المالك. ورُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بقوم من يهود بني قينقاع، فرضخ لهم ولم يسهم» .

(12/117)


[فرع: استئجار الكفار للقتال والإذن بخروج النساء ومن اشتد من الصبيان]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويستأجر الكافر من مال لا مالك له بعينه، وهو سهم النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما كان كذلك؛ لأن الجهاد لا يقع له. وفي القدر الذي يستأجر به وجهان:
أحدهما: لا يجوز أن تبلغ الأجرة سهم الراجل؛ لأنه ليس من أهل فرض الجهاد فلا يبلغ سهم راجل، كالصبي والمرأة.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يجوز أن تبلغ به سهم الراجل؛ لأنه عرض في الإجارة، فجاز أن يبلغ به سهم الراجل، كالإجارة في سائر الإجارات.
إذا ثبت هذا: فإنه لا يفتقر في الإجارة هاهنا إلى بيان المدة ولا العمل؛ لأن القتال لا ينحصر، فعفي عن ذلك لموضع الحاجة.
فإن لم يكن قتال. لم يستحق الكافر شيئا. وإن كان هناك قتال، فإن قاتل الكافر.. استحق، وإن لم يقاتل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يستحق شيئا؛ لأنه لم يفعل ما استؤجر عليه.

(12/118)


والثاني: يستحق؛ لأن الاستحقاق هاهنا بالحضور، وقد حضر.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن أكره الإمام الكفار على أن يقاتلوا معه، فقاتلوا معه.. استحقوا أجرة المثل، كما لو أكرهوا على سائر الأعمال) . ويجوز للإمام أن يأذن للنساء بالخروج معه ولمن اشتد من الصبيان؛ لأن فيهم معونة. ولا يأذن للمجانين؛ لأنه لا معونة لهم؛ لأنه يعرضهم للهلاك. ويتعاهد الخيل، ولا يأذن بإخراج الفرس الكبير ولا الصغير ولا الكسير ولا المهزول؛ لأنه لا فائدة بحضورهم.

[فرع: أخذ الميثاق على المقاتلين وبعث العيون وعقد الرايات ونحوه]
] : ويأخذ الإمام البيعة على الجيش أن لا يفروا؛ لما روى جابر، قال: «كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة رجل، فبايعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على: أن لا يفروا، ولم نبايعه على الموت» .
ويوجه الطلائع، ومن يتجسس أخبار الكفار؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم الخندق: " من يأتيا بخبر القوم؟ " فقال الزبير: أنا، فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن لكل نبي حواريا، وإن حواري الزبير» . والحواري: الناصر، وإنما سمي بذلك؛

(12/119)


لأن حواري عيسى ابن مريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا الحواريين؛ وهم الذين يبيضون الثياب.
ويستحب أن يخرج يوم الخميس؛ لـ: «أن أكثر أسفار النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج فيها يوم الخميس» ، ويعقد الرايات ويجعل تحت كل راية عريفا؛ لـ: (أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك يوم الفتح) ، ويدخل دار الحرب على هيئة الحرب؛ لـ: (أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك) . ولأنه أبلغ في الإرهاب.

[مسألة: الدية في قتل الكفار باعتبار بلوغ الدعوة وعدمه]
] : وإذا غزا الإمام قوما من الكفار.. نظرت: فإن كانوا لم تبلغهم الدعوة؛ بأن لم يعلموا أن الله بعث محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولا إلى خلقه، وأظهر المعجزات الدالة على صدقه، وأنه يدعو إلى الإيمان بالله.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا أعلم أن أحدا لم

(12/120)


يبلغه هذا الأمر إلا أن يكون قوم وراء الترك لم يعلموا، فإن وجد قوم كذلك.. لم يجز قتالهم حتى يدعوهم إلى الإسلام؛ لأنهم لا يلزمهم الإسلام قبل العلم ببعث الرسول، فإن قتل منهم إنسان قبل ذلك.. ضمن بالدية والكفارة.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا دية فيه ولا كفارة) ؛ لأن الخلق عنده محجوجون بعقولهم قبل بعث الرسل وعندنا ليسوا بمحجوجين قبل بعث الرسل.
والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] [الإسراء: 15] ، ولأنه ذكر بالغ محقون الدم، فكان مضمونا، كالمسلم.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن كان يهوديا أو نصرانيا.. ففيه ثلث دية المسلم، وإن كان مجوسيا.. ففيه ثلثا عشر دية المسلم. وإن لم يعرف دينه، أو كان من عَبَدَة الأوثان.. ففيه دية المجوسي) .
قال أبُو إسحاق: إنما أوجب الشافعي في اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم إذا كان من أولاد من غير التوراة والإنجيل وبدلها، فأما إذا كان من أولاد من لم يغيرها ولم يبدلها.. ففيه دية المسلم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] [الأعراف: 159] وأراد به: من لم يغير ولم يبدل. والأول أصح، وقد مَضَى ذلك في (الجنايات) .
وإن كان الكفار ممن بلغتهم الدعوة.. فالمستحب للإمام: أن لا يقاتلهم حتى يدعوهم إلى الإسلام؛ لما روي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم خيبر: " إذا نزلت بساحتهم.. فادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم؛ فوالله: لأن يهدي الله بهداك رجلا واحدا.. خير لك من حمر النعم» . فإن قاتلهم قبل أن

(12/121)


يدعوهم إلى الإسلام.. جاز؛ لـ: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغار على بني المصطلق وهم غافلون» ولأن الدعوة قد بلغتهم وإنما عاندوا.
وإذا قاتل الإمام الكفار، فإن كانوا ممن لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب، كمن يعبد الأوثان والشمس والقمر والنجوم.. فإن يقاتلهم إلى أن يسلموا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فإذا قالوها.. عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» .
وإن كانوا ممن لهم كتاب، كاليهود والنصارى، أو ممن لهم شبهة كتاب كالمجوس.. قاتلهم إلى أن يسلموا أو يبذلوا الجزية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] .

[فرع: الاستنصار بالضعفة والتحريض على القتال والدعاء والتكبير عند لقاء العدو]
] : قال الشيخُ أبُو إسحاق: ويستحب الاستنصار بالضعفاء؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ائتوني بضعفائكم؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم» .

(12/122)


وقال: ويستحب أن يدعو عند التقاء الصفين؛ لما روى أنس: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دعا قال: " اللهم أنت عضدي وناصري، وبك أقاتل» . وروى أبُو موسى: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خاف قال: " اللهم إنِّي أجعلك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم» .
ويستحب أن يحرض الجيش على القتال؛ لما روى أبُو هُرَيرَة: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " يا معشر الأنصار، هذه أوباش قريش، إذا لقيتموهم غدا.. فاحصدوهم» «ورَوَى سعد، قال: نثل لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد كنانته وقال: " ارم فداك أبي وأمي» ، وقيل: إن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل ذلك إلا لسعد.
ويستحب أن يكبر عند لقاء العدو؛ لما روى أنس: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزا خيبر فلما رأى القرية.. قال: " الله أكبر، خربت خيبر» .

(12/123)


ولا يرفع الصوت بالتكبير؛ لما روى أبُو موسى، قال: كان الناس في غزاة، فأشرفوا على واد، فجعلوا يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم بذلك، فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيها الناس، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا إنه معكم» وفي رواية أخرى: " أقرب إليكم من حبل الوريد ".

[مسألة: حالات وجوب مصابرة المسلمين]
] : وإذا التقى المسلمون والمشركون وقاتلوهم.. نظرت: فإن كان عدد المشركين مثلي عدد المسلمين أو أقل منهم ولم يخف المسلمون بقتالهم.. وجب عليهم مصابرتهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] [الأنفال: 15] . فأوجب على المسلمين مصابرة المشركين في هذه الآية على العموم، ثم خص هذا العموم في آية أخرى، فقال تَعالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] [الأنفال: 65] . فأوجب على كل مسلم مصابرة عشرة من الكفار، وكان ذلك في أول الإسلام؛ حيث كان المسلمون قليلا، فشق ذلك على المسلمين، فنسخ ذلك بآية أخرى، فقال تَعالَى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] [الأنفال: 66] ، فأوجب على المسلم مصابرة الاثنين، واستقر الشَّرع على ذلك؛ بدليل: ما رُوِي عن ابن عبَّاس أنه قال: (من فر من ثلاثة.. فلم يفر، ومن فر من اثنين.. فقد فر) وأراد: من فر من ثلاثة.. فلم يفر الفرار المذموم في القرآن. ومن فر من

(12/124)


اثنين.. فقد فر الفرار المذموم في القرآن.
فإن قيل: فصيغة الآية صيغة الخبر، فكيف جعلتموها أمرا؟
فالجواب: أن الخبر من الله عما يقع بالشرط لا يجوز أن يقع بخلاف ما أخبر به، وقد يوجد الواحد من الكفار يغلب الاثنين والثلاثة والعشرة من المسلمين، فدلَّ على: أنها أمر بلفظ الخبر. ولأن الله تَعالَى قال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] [الأنفال: 66] والتخفيف يقع في الأمر لا في الخبر.
ومن تعين عليه فرض الجهاد.. فلا يجوز له أن يولي إلا في حالتين:
أحدهما: أن يولي متحرفا للقتال؛ وهو: أن يرى المصلحة في الانتقال من موضع ضيق إلى موضع متسع، أو من موضع متسع إلى موضع ضيق وما أشبهه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] [الأنفال: 16] ورُوِي عن ابن مَسعُودٍ، أنه قال: «لما ولى المسلمون يوم حنين.. بقي مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانون نفسا، فنكصنا على أعقابنا قدر أربعين خطوة، ثم قال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعطني كفا من تراب " فأعطيته، فرماه في وجوه المشركين، فقال لي: " اهتف بالمسلمين " فهتفت بهم، فأقبلوا شاهرين سيوفهم» . وإنما ولوا متحرفين للقتال من مكان إلى مكان.
والثاني: أن يولي متحيزا إلى فئة ليعود معهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] [الأنفال: 16] وسواء كانت الفئة قريبة منه أو بعيدة مسيرة يومين أو أكثر؛ لعموم الآية، ولما رُوِي عن ابن عمر: أنه قال: «كنت في سرية من سرايا النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحاص الناس حيصة عظيمة، وكنت فيمن حاص، فلما فررنا.. قلت: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بغضب ربنا؟ فجلسنا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل صلاة الفجر، فلما خرج.. قمنا إليه، فقلنا: نحن الفرارون، فقال: " لا، بل أنتم العكارون ". فدنونا فقبلنا يده، فقال: " أنا فئة المسلمين» يروى هذا: (فجاض القوم) بالجيم والضاد

(12/125)


المعجمة، ويروى: بالحاء والصاد غير المعجمة.
ويروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «أنا فئة كل مسلم» وهو بالمدينة وجيوشه بالآفاق.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن كان هربه على غير هذا المعنى.. خفت عليه إلا أن يعفو الله تَعالَى ـ أن يكون باء بغضب من الله) وهذا صحيح؛ إذا تعين عليه فرض الجهاد وولى غير متحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة.. فقد أثم وارتكب كبيرة؛ لما روى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الكبائر سبع: أولهن الشرك بالله، وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا، وفرار يوم الزحف، ورمي المحصنات، والانتقال إلى الأعراب» . وهذا تصريح من الشافعي، بأن مذهبه

(12/126)


كمذهب أصحاب الحديث؛ أن من ارتكب كبيرة.. فقد أثم، ولكن الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه. وقالت المعتزلة: من ارتكب كبيرة. استوجب النار، ويكون مخلدا، ولا يجوز أن يعفوا الله عنه. وهذا موضعه في أصول الدين.
ومن تعين عليه الجهاد، وغلب على ظنه: أنه إن لم يفر هلك.. فلا خلاف: أنه لا يلزمه الفرار؛ لأن التغرير بالنفس جائز في الجهاد، ولكن: هل يجوز له أن يولي غير متحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة؟ فيه وجهان.
أحدهما: لا يجوز له ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] [الأنفال: 16] الآية: ولم يفرق.
والثاني: يجوز له ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] [البقرة: 195] ، وفي بقائه على القتال تهلكة لنفسه.
وإن زاد عدد المشركين على مثلي عدد المسلمين.. لم يجب على المسلمين مصابرتهم؛ لأن الله تَعالَى لما أوجب على الواحد مصابرة الاثنين.. دل على: أنه لا يجب عليه مصابرة ما زاد عليهما. ولما رَوَيْنَاهُ عن ابن عبَّاس. فإن علم المسلمون أنهم إذا ثبتوا لقتالهم غلبوا الكفار أو ساووهم، ولم يخشوا منهم القتل ولا الجراح ... فالمستحب لهم: أن يثبتوا لقتالهم؛ لأنهم إذا انهزموا.. اشتدت شوكة الكفار. وإن غلب على ظن المسلمين أنهم إن ثبتوا لقتالهم هلكوا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمهم الهرب منهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] [البقرة: 195] .

(12/127)


والثاني: لا يلزمهم الهرب منهم؛ لما رُوِي: «أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت لو انغمست في المشركين فقاتلت فقتلت، ألي الجنة؟ فقال: " نعم، إن قاتلت وأنت مقبل غير مدبر» . فانغمس الرجل في صف المشركين، فقاتل حتى قتل، ومعلوم أن الواحد من المسلمين إذا انغمس في صف المشركين أنه يهلك، فدلَّ على أنه يجوز.
فعلى هذا: يجوز لهم الفرار.

[فرع: جواز الفرار من اثنين إذا طلباه للقتال]
] : وإن لقي رجل من المسلمين رجلين من المشركين، فإن طلباه للقتال.. جاز له أن يفر منهما؛ لأنه غير متأهب للقتال.. وإن طلبهما للقتال.. فهل له أن يفر منهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز له أن يفر منهما؛ لأن فرض الجهاد في الجماعة دون الانفراد.
والثاني: لا يجوز له أن يفر منهما؛ لأنه مجاهد لهما حيث ابتدأهما بالقتال.

[مسألة: استحباب توقي قتل الأب والرحم المحرم المشرك]
إذا كان للمسلم أب مشرك.. فيستحب له أن يتوقى قتله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] [لقمان: 15] فأمره بمصاحبتهما بالمعروف عند دعائهما له إلى الشرك، وقتلهما ليس من المصاحبة بالمعروف. ولأن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي بكر حين أراد قتل ابنه: «دعه يتولى

(12/128)


قتله غيرك» وكذلك قال لأبي حذيفة حين أراد قتل أبيه".
فإن سمعه يسب الله ورسوله.. لم يكره له قتله؛ لما روي: «أن أبا عبيدة بن الجراح سمع أباه يسب النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقتله، ولم ينكر عليه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .

[مسألة: لا تقتل نساء الكفار إذا لم يقاتلن ولا الذراري]
] : ولا يجوز قتل نساء الكفار ولا صبيانهم إذا لم يقاتلوا؛ لما رَوَى ابن عمر: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل النساء والولدان» ووجد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، امرأة مقتولة في بعض غزواته، فقال: «ما بال هذه تقتل وإنها لا تقاتل؟» .

(12/129)


ولا يجوز قتل الخنثى المشكل إذا لم يقاتل؛ لجواز أن يكون امرأة.
فإن قتلهم قاتل.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنهم مشركون لا أمان لهم ولا ذمة.
فإن قاتلوا.. جاز قتلهم؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال: "من قتل هذه؟ " فقال رجل: أنا يا رسول الله، غنمتها فأردفتها خلفي، فلما رأت الهزيمة فينا.. أهوت إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها، فلم ينكر عليه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ولأنه إذا جاز قتلهن إذا قاتلن وهن مسلمات.. فلأن يجوز قتلهن إذا قاتلن وهن مشركات أولى.
وإن أسر منهم مراهق وشك فيه، هل هو بالغ أم لا.. كشف عن مؤتزره، فإن كان قد نبت على عانته الشعر الخشن.. فحكمه حكم البالغ على ما يأتي ذكره. وإن كان لم ينبت.. فحكمه حكم الصبي؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم سعدًا في بني قريظة، فقال سعد: فكشفنا عن مؤتزرهم، فمن أنبت. قتلناه، ومن لم ينبت.. جعلناه في الذرية، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» والأرقعة: السماوات، واحدها رقيع.
وفي بعض الروايات: «من فوق سبع سماوات» .

(12/130)


[مسألة: لا يقتل شيوخهم إلا عند القتال أو التدبير له وجرت السنة بعدم قتل الرسل]
] : وأمَّا شيوخ الكفار: فإن كان منهم قتال.. فهم كالشبان، وإن كان لا قتال منهم ولكن فيهم رأي وتدبير في الحرب.. فهم كالشباب ويجوز قتلهم؛ لما روي: «أن دريد بن الصمة قتل يوم حنين، وكان يومئذ ابن مائة وخمس وخمسين سنة، وكان له رأي في الحرب، وإنما أحضرته هوازن ليدبر لهم الحرب، وكان أمير هوازن مالك بن عوف، وقد أحضر النساء والذراري والأموال خلف العسكر، فقال له دريد: أخر هذه الذراري، والأموال أصعدها إلى الجبل، فإن كانت لنا.. أنزلناها، وإن كانت علينا.. لم تؤخذ. فقال له مالك بن عوف: لا، إن العرب تقاتل على الأهل والمال أشد. فقال دريد: تبًا لك مع هذا التدبير. وتركه وانصرف وصعد الجبل، فلما ولت هوازن وأخذ نساؤهم وأموالهم وذراريهم.. قال دريد في ذلك.
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
فكان الناس يمرون به ويقول لمن معه: من هذا؟ فيخبره، فمر به رجل فقال: من هذا؟ فقال: فلان بن فلان، فقال: إنه قاتلي، فجاءه الرجل ليقتله، فقال: من أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان، فقال له: إذا رجعت إلى أمك فقل لها: قتلت دريد بن الصمة وإنه قد أعتق أربعة من أحمائك، ولم ينكر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قتله» .
وإن لم يكن فيهم رأي ولا قتال في الحرب.. ففيهم وفي أصحاب الصوامع والرهبان قولان:

(12/131)


أحدهما: لا يجوز قتلهم ـ وبه قال أبو حَنِيفَة ـ لما رَوَى ابن عبَّاس: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا «تقتلوا المرأة ولا أصحاب الصوامع» وروي ذلك عن أبي بكر؛ لأنهم ممن لا يقاتل فلم يجز قتلهم، كالنساء.
والثاني: يجوز قتلهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] ، ولم يفرق.
ورَوَى سمرة: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم» .
وأراد بـ (شرخهم) : أحداثهم الذين لم يبلغوا. ولأنه كافر ذكر مكلف حر حربي، فجاز قتله، كما لو كان له رأي.
ولا يقتل رسولهم؛ لما رَوَى ابن مَسعُودٍ: «أن رجلين أتيا النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رسولين

(12/132)


لمسيلمة الكذاب لعنه الله، فقال لهما: "أتشهدان أني رسول الله؟ " فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله. فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو كنت قاتلًا رسولًا.. لضربت أعناقكما» فجرت السنة أن لا يقتل الرسل.

[مسألة: تترس الكفار بمن لا يقتل]
إذا تترس المشركون بأطفالهم ونسائهم، فإن كان بالمسلمين حاجة إلى رميهم، بأن كان ذلك في حال التحام القتال، وخاف المسلمون إن لم يرموهم غلبوهم.. جاز للمسلمين رميهم، ولكن يقصد بالرمي المتترس دون المتترس به.
وإن كان يعلم أنه لا يصل إلى المتترس إلا بأن يقتل المتترس به.. جاز قتله؛ لأنا لو منعناه من ذلك.. لأدى إلى تعطيل الجهاد، وظفر المشركون بالمسلمين.
وإن لم يكن بالمسلمين حاجة إلى رميهم وقتالهم.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبُو إسحاق: يكره لهم الرمي؛ لأن فيه قتل النساء والصبيان بغير ضرورة، ولا يحرم ذلك؛ لأنهم لا يقصدون قتلهم.
ومن أصحابنا من قال فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز قتلهم؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل النساء والولدان» . ولأنهم لا حاجة بهم إلى ذلك.

(12/133)


والثاني: يجوز رميهم؛ لأنا لو منعنا من ذلك.. منعنا من الجهاد، فأدى إلى الظفر بالمسلمين. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا لم يكن ضرورة إلى رميهم.. فهل يكره رميهم؟ فيه قولان.
فأما إذا تترس المشركون بمن معهم من أسارى المسلمين: فهل يجوز رميهم للمسلمين؟ نظرت: فإن لم يكن بالمسلمين حاجة إلى رميهم؛ بأن كان ذلك في غير التحام القتال.. لم يجز لهم رميهم؛ لأنه لا حاجة بهم إلى ذلك. فإن رمى مسلم إليهم وقتل مسلمًا.. وجب عليه القود والكفارة؛ لأنه قتل مسلمًا لغير ضرورة.
وإن دعت الحاجة إلى قتالهم؛ مثل أن يكون في حال التحام القتال، أو خاف المسلمون إن لم يقاتلوهم غلبوهم.. جاز رميهم، ويتوقون المسلمين ما أمكنهم، ويقصدون رمي المشركين دون المسلمين؛ لأن حفظ من معنا من المسلمين أولى من حفظ من معهم.
وكل موضع قلنا: (يجوز رميهم) فرماهم مسلم وقتل المسلم الذي تترسوا به.. فلا يجب على الرامي القصاص؛ لأنا قد جوزنا له الرمي.
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (وعليه الكفارة) . وقال في موضع: (عليه الدية والكفارة) واختلف أصحابنا فيه.
فقال المزني: هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال فيه: (عليه الكفارة) إذا لم يعلم أنه مسلم، فرماه فقتله فبان مسلمًا.
والموضع الذي قال: (عليه الكفارة والدية) إذا رماه وعرف أنه مسلم.
وقال أبُو إسحاق: هي على اختلاف حالين آخرين غير هذين:
فحيث قال: (عليه الكفارة والدية) إذا قصده بالرمي.

(12/134)


وحيث قال: (عليه الكفارة) إذا لم يقصده بالرمي.
ومن أصحابنا من قال فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه الكفارة والدية؛ لأنه غير مفرط في المقام بين المشركين.
والثاني: عليه الكفارة، ولا دية عليه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنا بريء من كل مسلم مع مشرك قيل: لم يا رسول الله؟ قال: لا تراءى ناراهما» ولأن الرامي مضطر إلى الرمي. هذا ترتيب أصحابنا البغداديين.
وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إن أمكن المسلمين قصد المتترس واتقاء المتترس به.. جاز قتالهم، ويتوقون المتترس به حسب جهدهم. وإن لم يمكنهم قصد المتترس إلا بقصد المتترس به.. لم يجز قصد الترس بحال سواء كانت ضرورة أو لم تكن. فلو قصده وقتله.. فهل يجب عليه القود؟ بنيناه على من أكرهه السلطان على القتل ظلمًا فإن قلنا يجب هناك القود.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: لا يجب القود.. فهاهنا قولان. والفرق: أنه هناك ملجأ إلى القتل وهاهنا غير ملجأ؛ لأنه قد كان يمكنه الهرب.
وإذا تترسوا بأهل الذمة، أو بمن بيننا وبينه أمان.. فحكمهم حكم المسلمين إذا تترسوا بهم في جواز الرمي وفي الدية والكفارة.

[مسألة: محاصرة المشركين في بلادهم]
] : يجوز للإمام أن يحاصر المشركين في بلد أو حصن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] ولـ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاصر أهل الطائف» .
وأمَّا رميهم بالمنجنيق والحيات والعقارب، وتغريقهم بالماء، وتحريقهم بالنار

(12/135)


وغير ذلك مما يعمهم بالقتل، والهجم عليهم ليلًا، فإن لم يكن معهم أُسارى من المسلمين.. جاز له ذلك وإن كان فيهم نساء وأطفال؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصب المنجنيق على أهل الطائف» وإن كانوا لا يخلون من نساء وأطفال. ورَوَى ابن عبَّاس: «أن الصعب بن جثامة سأل النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن المشركين يبيتون وفيهم النساء والصبيان، فقال: "إنهم منهم» .
وإن كان فيهم أسارى من المسلمين.. فهل يجوز رميهم بهذه الأشياء؟ ينظر من ذلك.
فإن كان الإمام مضطرًا إلى ذلك؛ مثل أن يخشى إن لم يرمهم غلبوا المسلمين.. جاز رميهم؛ لأن استبقاء من معنا من المسلمين أولى من استبقاء من معهم.
وإن لم يكن مضطرًا إلى ذلك، فإن كان المسلمون الذين معهم قليلًا، كالواحد والثلاثة والجماعة الذين يقل عددهم فيما بينهم.. جاز رميهم؛ لأنه ليس الغالب أن الحجر يصيب المسلمين دونهم. وإن كان عدد المسلمين مثل عدد المشركين أو أكثر منهم. لم يجز رميهم؛ لأن الغالب أنه يصيب المسلمين. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إن لم يكن فيهم أسارى من المسلمين، فإن دعت إلى ذلك ضرورة، أو كان الفتح لا يحصل إلا بذلك.. جاز رميهم من غير كراهية، وإلا.. كره ولم يحرم.

(12/136)


وإن كان فيهم أُسارى من المسلمين، فإن دعت إلى ذلك ضرورة، أو كان الفتح لا يحصل إلا بذلك.. جاز رميهم بالمنجنيق والنار. وإن لم يكن هناك ضرورة ويحصل الظفر بغير ذلك.. فهل يجوز رميهم؟ فيه قولان.
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه يخشى قتل المسلمين ولا ضرورة إلى ذلك.
والثاني: يجوز؛ لأن إصابة المسلمين متوهمة.

[مسألة: قتل دواب الكفار وتخريب بيوتهم وغيره]
ويجوز قتل ما يقاتل عليه الكفار من الدواب؛ لما روي: «أن حنظلة بن الراهب عقر دابة أبي سفيان بن حرب، فسقط عنها، فقعد حنظلة بن الراهب على صدره ليذبحه، فرآه ابن شعوب، فقتل حنظلة واستنقذ أبا سفيان، ولم ينكر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، على حنظلة عقر دابة أبي سفيان» وروي: «أن رجلًا اختبأ لرومي خلف صخرة، فلما مر عليه.. خرج فعقر دابته، فسقط عنها، فقتله وأخذ سلبه. ولم ينكر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ذلك عليه» .
وأمَّا قطع أشجار المشركين وتحريقها بالنار وتخريب منازلهم.. فينظر فيه: فإن

(12/137)


دخل الإمام بلاد المشركين وقهرهم عليها وأخرجهم منها.. لم يجز قطع أشجارهم وتخريب منازلهم؛ لأنها صارت غنيمة للمسلمين. وهكذا: إن دخلها صلحا على أن تكون الدار لهم أو لنا.. لم يجز قطع أشجارهم وتخريب منازلهم.
وأمَّا إن دخلها غارة، ولا يريد أن يقر فيها.. فاختلف الشيخان فيها.
فقال الشيخ أبُو حامد: يجوز قطع أشجارهم وتحريقها وتخريب منازلهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] [الحشر: 5] قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (واللينة: النخلة) ، وقال ابن عبَّاس: (اللينة: النخلة) ، وقيل: الجعرور، وقال بعض الناس: (اللينة) : الدقل ولقوله تَعالَى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] [الحشر: 2] .
وروي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرق نخيل بني النضير» و: «حرق الشجر بخيبر وبالطائف» وهي آخر غزاة غزاها.

(12/138)


وقال الشيخ أبُو إسحاق: إن احتيج إلى ذلك ليظفروا بهم.. جاز ذلك. وإن لم يحتج إليه، فإن لم يغلب على الظن أنها تملك.. جاز فعله وتركه. وإن غلب على الظن أنها تملك.. ففيه وجهان.
أحدهما: لا يجوز؛ لأنها تصير غنيمة.
والثاني: أن الأولى أن لا يفعل فإن فعل.. جاز؛ لما مَضَى.

[فرع: إتلاف ما غنم من الكفار]
فإن غنم المسلمون شيئًا من أموال الكفار.. نظرت: فإن لم يخش عودها إلى الكفار لم يجز للإمام إتلافها؛ لأنها صارت غنيمة للمسلمين، وإن خشي عودها إليهم؛ مثل أن يخاف من كرتهم على المسلمين وغلبتهم لهم، فإن كان غير الحيوان.. جاز للإمام إتلافها؛ لأنه لا يؤمن أن يأخذها الكفار ويتقووا به على المسلمين، وإن كان حيوانًا.. لم يجز قتله أو عقره. وبه قال الأَوزَاعِي.
وقال أبو حَنِيفَة: (يجوز) .
دليلنا: ما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل الحيوان صبرًا» وهذا قتل الحيوان صبرًا.

(12/139)


ورُوِي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل عصفورًا بغير حقه..حوسب عليه" قيل: يا رسول الله، ما حقه؟ قال: "يذبحه ليأكله، ولا يرمي برأسه» . ولأن كل حيوان لا يجوز قتله إذا لم يخش عليه كرة المشركين.. لم يجز قتله وإن خشي عليه كرة المشركين، كالنساء والصبيان.
وإن كان الذي أصابه المسلمون خيلًا.. فهل يجوز للمسلمين إتلافها إذا خافوا كرة المشركين عليهم؟ اختلف الشيخان فيه.
فقال الشيخ أبُو حامد: لا يجوز إتلافها؛ لما ذكرناه.
وقال الشيخ أبُو إسحاق: إذا لم يكن للكفار خيل وخيف أن يأخذوا ما غنم منهم من الخيل ويقاتلوا عليها.. جاز قتلها؛ لأنها إذا لم تقتل.. أخذها الكفار وقاتلوا عليها المسلمين.

[مسألة: عقد الأمان للكفار]
يجوز عقد الأمان للمشركين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] [التوبة: 6] قال الشافعي: (يعني: بعد مَضَي مدة الأمان يبلغ إلى مأمنه) .
وإذا عقد الأمان لمشرك..حقن بذلك دمه وماله، كما يحقن ذلك بالإسلام.
إذا ثبت هذا: فإن كان الذي يعقد الأمان هو الإمام.. جاز أن يعقد الأمان لآحاد المشركين ولجماعتهم ولأهل إقليم أو صقع، كالترك والروم، ويأتي بيان ذلك. ويجوز للأمير من قبل الإمام أن يعقد الأمان لآحاد المشركين ولأهل صقع يلي ولايته ولا يجوز أن يعقد لأهل صقع لا يلي ولايته.
وإن كان الذي يعقد الأمان واحد من الرعية.. لم يجز أن يعقد الأمان لجماعات

(12/140)


المشركين ولا لأهل صقع، لأنا لو جوزنا ذلك لغير الإمام والأمير الذي من قبله.. لأدى ذلك على تعطيل الجهاد، ويجوز أن يعقد الأمان لآحاد المشركين الذين لا يتعطل الجهاد بعقد الأمان لهم، كالواحد والعشرة والمائة وأهل قلعة؛ لما رَوَى عبد الله بن مسلمة: «أن رجلًا أجار رجلًا من المشركين، فقال عمرو بن العاص وخالد بن الوليد: لا نجير ذلك، فقال أبُو عبيدة بن الجراح: ليس لكما ذلك؛ سمعت رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقول: "يجير على المسلمين بعضهم» فأجاروه. ورُوِي «عن عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: ما عندي شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أن ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلمًا.. فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» .
ويصح عقد الأمان من المرأة لما رُوِيَ: «أن أم هانئ بنت أبي طالب أجارت حموين لها من المشركين يوم الفتح، فأراد عليّ قتلهما، وقال لها: أتجيرين على المشركين، والله لأقتلنهما، فقالت: يا رسول الله، يزعم ابن أمي أنه قاتل من أجرت. فقال له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس لك ذلك، من أجرت.. أجرناه؛ ومن أمنت.. أمناه» ورُوِيَ: (أن أبا العاص بن الربيع لما وقع في الأسر.. قالت زينب بنت رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي زوجته: قد أجرته، فخلِّيَ لها) ، ومعنى قولها (قد

(12/141)


أجرته) : أني قد كنت أجرته قبل الأسر. ورَوَى الساجي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ذمة المسلمين واحدة، فإذا أجارت جارية.. فلا تخفروها؛ فإن لكل غادر لواء من نار يوم القيامة» .
ويصح أمان الخنثى؛ لأنه لا يخلو: إما أن يكون رجلًا أو امرأة، وأمانهما يصح.

[فرع: من يصح أمانه من المسلمين وماذا لو عقده كافر يقاتل مع المسلمين؟]
ويصح عقد الأمان من العبد، سواء كان مأذونًا له في القتال أو غير مأذون له فيه، وبه قال الأَوزَاعِي ومالك.
وقال أبو حَنِيفَة: (إن كان مأذونًا له في القتال.. صح أمانه. وإن كان غير مأذون له في القتال.. لم يصح أمانه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يجير على المسلمين بعضهم» ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذمة المسلمين واحدة» وهذا مسلم. ورَوَى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن

(12/142)


النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المسلمون «تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم» وأدنى المسلمين عبيدهم. وروي ذلك عن عمر ولا مخالف له في ذلك. ولأنه مسلم مكلف، فصح أمانه كما لو كان مأذونًا له في القتال.
ولا يصح عقد الأمان من الصبي والمجنون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ؛ وعن النائم حتى يستيقظ؛ وعن المجنون حتى يفيق» فإذا كان القلم مرفوعًا عنه.. لم يصح أمانه. هذا نقل البغداديين.
وقال الخراسانيون: هل يصح عقد الأمان من المراهق؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح ـ وبه قال أبو حَنِيفَة ـ لما ذكرناه.
والثاني: يصح ـ وبه قال محمد بن الحَسَن ـ لأنه عقد شرعي، فصح من المراهق كالصلاة.
وإن كان المسلم أسيرًا في أيدي الكفار، فأكره على عقد الأمان فعقده.. لم يصح، كما لو أكره على سائر العقود. وإن عقد الأمان غير مكره. فهل يصح أمانه؟ فيه وجهان، حكاهما المسعوديُّ [في " الإبانة "] .
أحدهما: يصح أمانه؛ لأنه مسلم مكلف، فهو كغير الأسير.
والثاني: لا يصح؛ لأنه محبوس لا يشاهد الأحوال ولا يرى المصالح.
وقال القفال: لا يتصور الأمان من الأسير؛ لأن الأمان يقتضي أن يكون المؤمن

(12/143)


آمنًا وهذا الأسير غير آمن في أيديهم، فصار عقده للأمان يقترن به ما يضاده، فلم يصح.
فإن دخل مشرك دار الإسلام على أمان صبي أو مجنون أو مكره، فإن عرف أن أمانهم لا يصح.. كان حكمه حكم ما لو دخل بغير أمان. وإن لم يعرف أن أمانهم لا يصح.. لم يحل دمه إلى أن يرجع إلى مأمنه؛ لأنه دخل على أمان فاسد، وذلك شبهة.
ولا يصح عقد الأمان من الكافر وإن كان يقاتل مع المسلمين؛ لأنه متهم في ذلك وليس هو من أهل النظر للمسلمين.

[فرع: عقد الأمان للكافر وإقرار المسلم به]
ويصح عقد الأمان للكافر، سواء كان في دار الحرب، أو في حال القتال، أو في حال الهزيمة؛ لأنه لا يد عليه للمسلمين. وإن أقر مسلم أنه أمن هذا المشرك.. قبل إقراره؛ لأنه يملك عقد الأمان فملك الإقرار به.

[فرع: أمان الكافر في الأسر]
وإن وقع كافر في الأسر، فأمنه رجل من الرعية.. لم يصح أمانه.
وقال الأَوزَاعِي: (يصح) .
دليلنا: أن صحة الأمان فيه تبطل ما ثبت للإمام فيه من القتل والاسترقاق والمن والفداء.
وإن وقع في الأسر فقال رجل من الرعية: قد كنت أمنته قبل ذلك.. لم يقبل إقراره؛ لأنه لا يصح أمانه له في هذه الحالة، فلم يقبل إقراره فيه. وإن شهد له بذلك شاهدان.. قبلت شهادتهما.

(12/144)


قال الشيخ أبُو حامد: وإن قال جماعة: نشهد أنا قد كنا أمناه قبل الأسر.. يقبل قولهم؛ لأنهم يشهدون على فعل أنفسهم.

[فرع: ألفاظ الأمان وصحة الأمان من الإمام للأسير]
وإذا قال رجل من المسلمين لرجل من المشركين: قد أجرتك، أو أمنتك، أو أنت مجار، أو أنت آمن.. صح؛ لما ذكرناه في حديث أم هانئ؛ ولأن هذا صريح في الأمان.
وإن قال لا تخف، أو لا تفزع، أو لا بأس عليك، أو قال: بالعجمية مترس.. فهو أمان؛ لما رُوِيَ: (أن الهرمزان لما حمله أبُو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: تكلم. فقال الهرمزان: كلام حي أو ميت؟ فقال له عمر: لا تفزع، لا بأس عليك، مترس. فتكلم به الهرمزان، ثم أراد عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قتله، فقال له أنس بن مالك: ليس لك قتله. فقال: كيف أتركه وقد قتل البراء بن مالك؟ فقال: قد أمنته. فتركه) .

(12/145)


فإن قيل: فهو أسير، فكيف يصح عقد الأمان له؟ فالجواب: أن عمر الإمام يومئذ، والإمام يصح منه الأمان للأسير. ورُوِي عن ابن مَسعُودٍ: أنه قال: (إن الله تَعالَى يعلم كل لسان، فمن أتى منكم أعجميًا فقال له مترس.. فقد أمنه) .
وإن قال: من أكفأ سلاحه. فهو آمن، أو من دخل داره.. فهو آمن، ففعل رجل ذلك.. صار آمنًا؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم الفتح: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن» .
ويصح الأمان بالإشارة التي يفهم منها الأمان، لما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: والذي نفس عمر بيده: لو أن أحدكم أشار بإصبعه إلى مشرك، ثم نزل إليه على ذلك ثم قتله.. لقتلته) فإن أشار مسلم إلى مشرك بشيء، فنزل المشرك إليه ظنًا

(12/146)


منه أنه أشار إليه بالأمان؛ فإن اعترف المسلم أنه أراد بالإشارة الأمان له.. كان آمنا وإن قال لم أرد الأمان.. قبل قوله؛ لأنه أعلم بما أراد، ويعرف المشرك أنه لا أمان له، فلا يحل قتله حتى يرجع إلى مأمنهم؛ لأنه دخل على شبهة أمان.
وإن أمن مشركًا، فرد الأمان.. لم يصح الأمان؛ لأنه إيجاب حق لغيره، فلم يصح مع الرد، كالإيجاب في البيع والهبة.

[مسألة: ما يصنع الإمام بالأسرى من فداء ونحوه]
وإن أسر صبي أو امرأة.. رقًا بالأسر؛ لـ: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلهم) و: (قسم سبي بني المصطلق) ، و: (اصطفى صفية من سبي خيبر) .
وإن أسر حر بالغ من أهل القتال.. فاختلف الناس فيه على أربعة مذاهب:
فـ[الأول] : مذهبنا أن الإمام بالخيار: بين القتل، والمن، والفداء بالمال أو بمن أسر من المسلمين، والاسترقاق. ولسنا نريد أنه بالخيار على أنه يفعل ما شاء وإنما نريد أنه يفعل ما فيه المصلحة للمسلمين في ذلك؛ مثل أن يكون الأسير فيه بطش وقوة ويخاف من شره إن خلاه، أو من مكره إن استرقه.. فالمصلحة في قتله. وإن كان

(12/147)


ضعيفًا نحيفًا ذا مال.. فالمصلحة أن يفادي.. وإن كان ذا صنعة أو حسن الوجه فالمصلحة أن يسترق، وإن كان ضعيفًا ذا قوم.. فالمصلحة أن يمن عليه ليسلم قومه، وبه قال الأَوزَاعِي والثوريُّ وأحمد.
و [الثاني] : قال أبو حَنِيفَة: (هو بالخيار: بين القتل والاسترقاق، ولا يجوز المن والفداء) .
و [الثالث] : قال مالك: (هو بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين القتل، والاسترقاق، والفداء بالنفس. فأما الفداء بالمال أو المن.. فلا يجوز) .
و [الرابع] : قال أبُو يوسف ومحمد: هو بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين القتل، والاسترقاق، والفداء بالنفس والمال. وأمَّا المن.. فلا يجوز.
والدليل: على أن له القتل: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] [البقرة: 191] وروي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وابن الخطل، وهو متعلق بأستار الكعبة» ورُوِي: «أن أبا عزة الجمحي وقع في الأسر يوم

(12/148)


بدر، فقال: يا محمد إني ذو عيلة، فمن عليّ، فمن عليه رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخلاه على أن لا يعود إلى قتاله، فلما عاد إلى مكة. قال: سخرت بمحمد، وعاد إلى القتال يوم أحد، فوقع في الأسر، فقال: يا محمد إني ذو عيلة فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يلسع المؤمن من جحر مرتين، أخليك حتى تقول في نادي قريش: سخرت من محمد؟ !. فقتله بيده، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
والدليل: على جواز المن: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] [محمد: 4] ، فأمر بقتل الكفار وأسرهم وبين حكم الأسير وإن له عليه المن والفداء، وجعل الغاية: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] [محمد: 4] .
قال أهل التفسير: حتى لا يبقى على وجه الأرض ملة غير ملة الإسلام، وهو إذا نزل عيسى ابن مريم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. ولـ: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من على أبي عزة الجمحي) . ورُوِي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم بدر: «لو كان مطعم بن عدي حيًا فكلمني في أمر هؤلاء ـ يعني: أسارى بدر ـ لأطلقتهم» فدلَّ على جواز ذلك. ورُوِى أبُو هُرَيرَة: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وجه سرية قبل نجد، فأسروا رجلًا من بني حَنِيفَة يقال له: ثمامة بن أثال، وكان سيد بني حَنِيفَة، فشده إلى سارية في المسجد، فمر به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا محمد، إن تقتل.. تقتل ذا دم، وإن تنعم.. تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال.. فسل تعط، فلم يجبه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقالها ثانيًا وثالثًا، فأطلقه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فخرج فتطهر وأسلم» .

(12/149)


وأمَّا الدليل على جواز الافتداء بالمال: فروى ابن عبَّاس: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استشار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، في أسارى بدر، فقال أبُو بكر: هم قومك وعشيرتك تأخذ منهم المال، فتقوي به المسلمين على المشركين فلعل الله أن يهديهم، وقال عمر: سلمهم إلينا لنقتلهم، فاختلف الناس فيما قال أبُو بكر وعمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، حتى ارتفعت ضجتهم فقال قوم: قصدوا قتل رسول الله، ويشير أبُو بكر بتخليتهم؟! وقال قوم: لو كان لعمر فيهم أب أو أخ.. ما أشار بقتلهم، فمال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلى رأي أبي بكر، وأخذ منهم المال» . قال ابن عبَّاس: (فدى كل واحد منهم بأربعة آلاف) .
وروت عائشة أم المؤمنين، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن أهل مكة لما وجهوا فداء أسراهم.. وجهت زينب بنت رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فداء زوجها أبي العاص بن الربيع، فكان فيما وجهت قلادة أدخلتها بها خديجة على أبي العاص، فلما رآها رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عرفها فرق لها، وقال للمسلمين: "إن رأيتم: أن تخلوا لها أسيرها وتردوا عليها

(12/150)


مالها" ففعلوا ذلك. فأنزل الله تَعالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] [الأنفال: 68] . قال النَّبيّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، "لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر بن الخطاب» .
وأمَّا الدليل على جواز الفداء لمن أسر من المسلمين: ما رَوَى عمران بن الحصين: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسرى سرية، فأسر رجل من بني عقيل، فاستوثق منه وشد وترك في الحرة فقال: يا محمد، بم أخذت وأخذت سابقة الحاج؟ ـ يعني: ناقته ـ فقال: "بجريرة حلفائك من ثقيف " فقال: يا محمد، إني جائع فأطعمني، وإني عطشان فاسقني، وإني قد أسلمت. فأطعمه وسقاه وقال له: "لو قلت هذه الكلمة قبل هذا. أفلحت كل الفلاح» يعني: جمعت الإسلام والحرية. ثم فادى به برجلين من المسلمين أسرتهم ثقيف.
وأمَّا الاسترقاق: فإن كان الأسير من غير العرب.. نظرت: فإن كان ممن له كتاب أو شبهة كتاب.. جاز استرقاقه.
والدليل عليه: ما رُوِيَ عن ابن عبَّاس: أنه قال في قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] الآية [الأنفال: 67] : (إن ذلك كان يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم.. أنزل الله تَعالَى في الأسارى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] [محمد: 4] قال ابن عبَّاس: فجعل الله النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار: إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم، وإن شاءوا فادوهم) . وأيضًا فهو إجماع.

(12/151)


وإن كان الأسير من غير العرب من عَبَدَة الأوثان.. فهل يجوز استرقاقه؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي سعيد الإصطخري ـ: أنه لا يجوز. بل يكون الإمام فيه بالخيار: بين القتل والمن والفداء؛ لأن كل من لم يجز حقن دمه ببذل الجزية.. لم يجز حقن دمه بالاسترقاق، كالمرتد.
والثاني: يجوز استرقاقه، وهو المنصوص؛ لما رَوَيْنَاهُ عن ابن عبَّاس؛ فإنه لم يفرق. ولأن كل من جاز للإمام المفاداة به والمن عليه.. جاز استرقاقه، كأهل الكتاب، وما قاله الأول: ينتقض بالصبيان.
فإن كان الأسير من العرب.. فهل يجوز استرقاقه؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في الجديد: (يجوز استرقاقه) ؛ لما رَوَيْنَاهُ عن ابن عبَّاس، ولأن من جاز المن عليه والمفاداة به.. جاز استرقاقه كغير العرب.
والثاني: قال في القديم: (لا يجوز استرقاقه، بل يكون الإمام فيه بالخيار: بين القتل والمن والفداء) ؛ لما رَوَى معاذ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حنين: "لو كان الاسترقاق ثابتًا على العرب.. لكان اليوم، وإنما هو إسار وفداء» .
فإن تزوج مسلم عربي بأمة مسلمة لرجل، فأتت منه بولد.. فعلى القول الجديد: الولد مملوك لسيدها. وعلى القول القديم: الولد حر ولا ولاء عليه لأحد، وعلى الزوج قيمة الولد لسيده يوم الولادة.

(12/152)


[فرع: طلب الأسير بذل الجزية وأن تعقد له الذمة]
] : وإن بذل الأسير الجزية، وطلب أن تعقد له الذمة، وهو ممن يجوز أن تعقد له الذمة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب قبولها؛ كما إذا بذلها في غير الأسر.
والثاني: لا يجب قبولها؛ لأن ذلك يسقط ما ثبت للإمام فيه من اختيار القتل والمن والفداء والاسترقاق.
والذي يقتضي المذهب: أنه لا خلاف أنه يجوز قبول ذلك منه، وإنما الوجهان في الوجوب؛ لأنه إذا جاز أن يمن عليه من غير مال أو بمال يؤخذ منه مرة واحدة.. فلأن يجوز بمال يؤخذ منه في كل سنة أولى.

[فرع: قتل الأسير أو إسلامه قبل أن يبت في أمره وماذا لو كان شيخًا كبيرًا]
] : وإن أسر رجل من المشركين، فقبل أن يختار فيه الإمام أحد الأشياء الأربعة قتله رجل.. عزر القاتل؛ لأنه افتأت على الإمام، ولا ضمان عليه.
وقال الأَوزَاعِي: (عليه الضمان) .
دليلنا: أنه بنفس الأسر لا يصير غنيمة، وإنما هو كافر لا أمان له، فلم يجب على قاتله الضمان، كالمرتد.
وإن أسلم الأسير قبل أن يختار الإمام فيه أحد الأشياء الأربعة.. لم يجز قتله لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها.. عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» . وهل يجوز المن عليه والمفاداة به؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز المن عليه والمفاداة به، بل يصير رقيقًا بنفس إسلامه؛ لأنه أسير لا يجوز قتله فصار رقيقًا، كالصبي والمرأة.
والثاني: يكون الإمام فيه بالخيار: بين الاسترقاق والمن والفداء؛ لـ: (أن

(12/153)


النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فادى بالأسير العقيلي بعد أن أسلم) . ولأن من خير فيه بين أشياء، إذا سقط بعضها.. لم يسقط الباقي، كالمكفر عن اليمين إذا عجز عن الرقبة.. لم يسقط تخييره في الإطعام.
فعلى هذا: لا يجوز أن يفادى به إلا أن يكون له عشيرة يأمن على نفسه بينهم على إظهار دينه.
وإذا أسر شيخ من الكفار ممن لا قتال منه ولا رأي، فإن قلنا: يجوز قتله.. خير الإمام فيه بين الأربعة الأشياء، كالشباب. وإن قلنا: لا يجوز قتله.. فاختلف الشيخان فيه:
فقال الشيخ أبُو إسحاق: هو كغيره من الأسارى إذا أسلم. وأراد: أنه يكون على القولين.
وقال الشيخ أبُو حامد: يبنى على القولين في الأسير إذا أسلم. فإن قلنا: يرق بنفس الأسر.. فهذا أولى أن يرق، ولا خيار للإمام فيه. وإن قلنا: لا يرق الأسير بنفس الأسر، بل يخير الإمام فيه بين الثلاثة الأشياء.. ففي هذا وجهان:
أحدهما: يكون الإمام فيه مخيرًا بين الأشياء الثلاثة؛ لم ذكرناه في الأسير إذا أسلم.
والثاني: لا يخير فيه، بل يرق. والفرق بينهما: أن الأسير كان قد ثبت للإمام فيه الخيار بين الأشياء الأربعة، فإذا سقط القتل بالإسلام.. لم تسقط الأشياء الثلاثة، وهذا لم يثبت فيه للإمام الخيار في القتل في الأصل، فهو كالصبي وبالمرأة أشبه.

[فرع: كيفية قتل الأسير وحكم التمثيل بالمشركين]
فرع: [قتل الأسير يكون بضرب عنقه ولا يمثل بالمشركين وماذا لو فاداه أو من عليه أو كان عبدًا؟] :
وإن اختار الإمام قتل الأسير.. ضرب عنقه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] [محمد: 4] الآية. ولا يمثل به، بقطع يد ولا رجل ولا غير ذلك

(12/154)


لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قتلتم.. فأحسنوا القتلة» ورُوِي: أنه كان إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية.. قال: «اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تغلوا» .
قال الشيخ أبُو حامد: وأمَّا نقل رؤوس من قتل من الكفار إلى بلاد الإسلام فليست منصوصة لنا، ولكن أجمع أهل العلم على: أنه مكروه؛ لما رُوِيَ عن الزهريّ: أنه قال: لم يحمل إلى رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يوم بدر ولا غيره رأس مشرك، ولقد حمل إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رؤوس مشركين كثيرة، فأنكر ذلك وقال: (لم تحمل جيفهم إلى مدينة رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .

(12/155)


ورُوِي: (أن عقبة بن عامر أتى أبا بكر بفتح دمشق، ومعه جماعة رؤوس من المشركين، فقال له أبُو بكر: ما أصنع بهذه؟! كان يكفيك كتاب أو خبر) .
وحمل إلى عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رؤوس المشركين، ففزع من ذلك وقال: (ما كان يصنع هذا في عهد رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا في عهد أبي بكر، ولا في عهد عمر) .
وإن اختار الإمام أن يفادي الأسير بمال.. كان ذلك المال للغانمين؛ لأنه لو استرقه.. لكان للغانمين، والمال بدل عن رقبته. وإن أراد أن يسقط المال.. لم يجز إلا برضا الغانمين؛ لما رُوِيَ: أن وفد هوازن جاءوا مسلمين، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن إخوانكم هؤلاء قد جاءوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب بذلك.. فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا.. فليفعل" فقال الناس: قد طيبنا لك يا رسول الله» . ورُوِي:

(12/156)


(أنه، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رد عليهم ستة آلاف من الرجال والنساء والصبيان) .
وإن أسر عبد فهو غنيمة؛ لأنه مال. ولا يجوز للإمام أن يمن عليه إلا برضا الغانمين.
قال الشيخ أبُو إسحاق: وإن رأى الإمام قتله لشره وقوته.. قتله وضمن قيمته للغانمين؛ لأنه مال لهم.

[مسألة: المبارزة وأحكامها وماذا لو صال مسلم على آخر؟]
؟] : قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا بأس بالمبارزة) .
وجملة ذلك: أن المبارزة على ضربين: مستحبة، ومباحة غير مستحبة.
فأما (المستحبة) : فهو أن يخرج رجل من المشركين ويطلب المبارزة.. فيستحب أن يبرز إليه رجل من المسلمين؛ لما رُوِيَ: أنه تقدم يوم بدر عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وقال عتبة: من يبارز؟ فخرج إليه شاب من الأنصار، فقال: ممن أنت؟ فقال: من الأنصار، فقال: لا حاجة لي فيك، وإنما أريد بني عمي. ويروى أنه قال: لا أعرف الأنصار، أين أكفاؤنا من قريش؟ فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لحمزة وعبيدة بن الحارث وعلي بن أبي طالب: "اخرجوا إليهم"، فخرج حمزة إلى عتبة، وعلي إلى شيبة وعبيدة إلى الوليد فقتل حمزة عتبة، وقتل عليّ شيبة، واختلفت الضربتان بين الوليد وعبيدة، فأثخن كل واحد منهما صاحبه. قال علي: فملنا على الوليد فقتلناه، وأخذنا عبيدة. وروي: (أن عليّ بن أبي طالب بارز عمرو بن عبد ود العامري،

(12/157)


فقال له عمرو: من أنت؟ فقال: عليّ بن أبي طالب، فقال: ما أحب أن أقتلك يا ابن أخي، فقال علي: أنا أحب أن أقتلك، فغضب عمرو وبارزه، فقتله عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) .
وأمَّا (المبارزة المباحة التي ليست بمستحبة ولا مكروهة) : فهو أن يدعو المسلم أولًا إلى المبارزة إذا عرف من نفسه شدة في القتال؛ لأن فيه تقوية لقلوب المسلمين. وإنما قلنا: إنها ليست بمستحبة؛ لأنه ربما قتل فانكسرت قلوب المسلمين.
وحكي عن أبي عليّ بن أبي هُرَيرَة أنه قال: إنها مكروهة. وليس بصحيح؛ لأن «النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن المبارزة بين الصفين، فقال: "لا بأس» .
فإن بارز ضعيف في الحرب.. جاز وكره.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز؛ لأن القصد بالمبارزة إظهار القوة، وذلك لا يحصل بمبارزة الضعيف.
والصحيح هو الأول؛ لأن التّغرِير بالنفس في الجهاد يجوز. وهل يجوز أن يبارز من غير إذن الأمير؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ربما طرأ عليه ما ينكسر به الجيش.
والثاني: يجوز؛ لأن التَّغرِير بالنفس في الجهاد يجوز، إلا أنه يستحب أن لا يبارز

(12/158)


إلا بإذنه؛ لأنه ربما احتاج منه إلى معاونة في حال القتال.
وإن بارز المشرك، وشرط أن لا يقاتله أحد غير من يبرز إليه.. لم يجز لأحد أن يرميه غير من يبرز إليه ليوفى له بالشرط. فإن ولى أحدهما عن الآخر مثخنًا أو مختارًا.. جاز لكل واحد رميه؛ لأنه شرط أن لا يقاتله أحد غير من برز إليه في القتال، إلا أن يشرط أن لا يقاتله أحد حتى يرجع إلى موضعه، فيوفى له بشرطه.
وإن ولى المسلم عنه فتبعه المشرك.. جاز لكل واحد رميه؛ لأنه نقض الشرط فسقط أمانه.
وإن استعان المشرك بأصحابه في القتال فأعانوه، أو أعانوه من غير أن يسألهم فلم يمنعهم.. جاز لكل واحد رميه؛ لأنه لم يف بالشرط، فلم يوف له.
وإن أعانه أصحابه فمنعهم، فلم يمتنعوا.. لم يجز لغير من برز إليه أن يرميه؛ لأنه لم ينقض الشرط.
وإن لم يشرط شيئا ً، ولم تجر العادة في المبارزة أن لا يقاتله غير من برز إليه.. جاز لكل واحد رميه؛ لأنه حربي لا أمان له. وإن لم يشرط شيئًا ولكن جرت العادة أن لا يقاتله غير من برز إليه.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يجوز لكل واحد رميه؛ لأنه حربي لا أمان له.
و [الثاني] : قال الشيخ أبُو إسحاق: لا يجوز لغير من برز إليه أن يرميه، لأن العادة كالشرط.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : فلو قصد كافر مسلمًا ليقتله.. لم يجز للمسلم

(12/159)


الاستسلام ليقتله الكافر، بل يجب عليه قتاله. ولو قصده مسلم ليقتله.. فهو بالخيار: بين أن يقاتله دفاعًا عن نفسه، وبين أن يستسلم له ليقتله.
ولأصحابنا البغداديين في هذا وجه آخر: أنه يجب عليه أن يمنعه عن نفسه، وقد مَضَى.

[مسألة: للقاتل السلب]
والسلب للقاتل، سواء شرطه الإمام له أو لم يشرطه.
قال مالك وأبو حَنِيفَة: (إن شرط الإمام في أول القتال أن السلب للقاتل.. كان له. وإن لم يشرطه.. لم يكن له) .
دليلنا: ما رَوَى أنس: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حنين: «من قتل قتيلًا.. فله سلبه» ، فقتل أبُو طلحة يومئذ عشرين رجلًا، وأخذ أسلابهم، فقضى رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بأن السلب للقاتل، ولم يفرق. ورَوَى أبُو قتادة قال: «خرجنا مع رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في غزاة

(12/160)


حنين، فلما التقينا بالمشركين.. كان للمسلمين جولة ـ يعني: اضطرابًا ـ فرأيت رجلًا من المشركين قد علا رجلًا من المسلمين، فاستدرت إليه من ورائه وضربت على حبل عاتقه بالسيف، فأرسله، ورجع إلي فضمني ضمة شممت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلقيت عمر بن الخطاب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقلت: ما بال الناس؟! قال: أمر الله، ثم رجعنا، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قتل قتيلًا له به بينة.. فله سلبه"، فقمت وقعدت، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما لك يا أبا قتادة؟ "، فقلت: قتلت قتيلًا، فقال رجل من القوم: صدق، وسلب ذلك القتيل عندي فأرضه منه، فقال أبُو بكر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لاها الله، إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله، يقاتل عن الله ورسوله، فيعطيك سلبه! اردده، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صدق، فأعطه إياه" فأعطانيه، فبعث الدرع فابتعت به مخرفًا في بني سلمة، وإنه أول مال تأثلته في الإسلام» .
فموضع الدليل: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن شرط يوم حنين في أول القتال أن السلب للقاتل؛ لأنه لو شرطه.. لأخذه أبُو قتادة.
إذا ثبت هذا: فإن السلب لا يكون للقاتل إلا بشروط.
أحدها: أن يكون القاتل ممن يستحق السهم في الغنيمة. فأما إذا كان لا يسهم له لتهمة فيه، كالمخذل والمرجف، والكافر إذا حضر عونًا للمسلمين.. فإنه لا يستحق السلب؛ لأنه إذا لم يستحق السهم الراتب.. فلأن لا يستحق السلب أولى.

(12/161)


وإن كان لا يسهم له لنقص فيه، كالصبي والعبد والمرأة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يستحق السلب؛ لأنه لا يستحق السهم الراتب، فلم يستحق السلب، كالمخذل والمرجف.
والثاني: يستحق السلب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلًا وله به بينة.. فله سلبه» . ولم يفرق.
الشرط الثاني: أن يقتله والحرب قائمة، سواء قتله مقبلًا أو مدبرًا. فأما إذا انهزموا ثم قتله.. فلا يستحق سلبه.
والشرط الثالث: أن يغرر القاتل بنفسه في قتله؛ بأن يبارزه فيقتله، أو يحمل على صف المشركين ويطرح بنفسه عليه فيقتله.. فأما إذا رمي إلى الصف فقتل رجلًا.. لم يستحق سلبه.
الشرط الرابع: أن يكون المقتول ممتنعًا. فأما إذا قتل أسيرًا.. فلا يستحق سلبه.
الشرط الخامس: أن يكفي المسلمين شره؛ بأن يكون المقتول حين قتله صحيحًا غير زمن. فأما إذا قتل مقعدًا أو زمنًا لا يقاتل.. فلا يستحق سلبه.
فإن قطع يديه ورجليه.. استحق سلبه؛ لأنه قد كفي المسلمين شره؛ لأنه لا يقدر بعد ذلك على القتال. فإن قطع إحدَى يديه، أو إحدَى رجليه.. لم يستحق سلبه؛ لأنه لم يكف المسلمين شره؛ لأنه يقدر على القتال. وإن قطع يديه أو رجليه.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق.
أحدهما: يستحق سلبه؛ لأنه قد كفى المسلمين شره.
والثاني: لا يستحق سلبه؛ لأنه لم يكف المسلمين شره، لأنه بعد قطع يديه قد يعدو على رجليه ويصيح، وللصياح أثر في الحرب، وبعد قطع رجليه يرمي بيديه ويصيح.
وإن أثخن رجل مشركًا، ولم يكف المسلمين شره لو بقي، فقتله آخر.. لم

(12/162)


يستحق أحدهما سلبه؛ لـ: (أن ابن مَسعُودٍ، قتل أبا جهل، وقد كان أثخنه غلامان من الأنصار، فلم يدفع النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سلبه إلى ابن مَسعُودٍ، ولا إليهما) .
وإن اشترك اثنان في قتله.. اشتركا في سلبه؛ لأنهما قاتلان. فإن قطع أحدهما يديه أو رجليه، ثم قتله الآخر.. ففيه قولان حكاهما الشيخ أبُو حامد:
أحدهما: أن السلب للأول؛ لأنه هو الذي كفى المسلمين شره.
والثاني: أن السلب للثاني؛ لأن شره لم ينقطع عن المسلمين إلا بفعل الثاني.
وإن غرر بنفسه من له سهم، فأسر رجلًا مقبلًا على الحرب.. ففيه قولان:
أحدهما: يستحق سلبه؛ لأن ذلك أبلغ من قتله.
والثاني: لا يستحق سلبه؛ لأنه لم يكف المسلمين شره.
فإن استرقه الإمام أو فاداه. كان في رقبته أو المال المفادى به القولان في سلبه.

[فرع: المقصود بالسلب]
] : و (السلب) : هو ما كان معه من جنة القتال أو آلة الحرب، كالثياب التي عليه، والدرع، والبيضة، والمغفر، والسيف، والسكين، والقوس، والرمح، وما أشبه ذلك؛ لأن ذلك كله جنة وزينة وآلة للقتال.
فأما ما لم يكن جنة ولا زينة، كالمتاع والخيمة، أو آلة قتال ليست بمشاهدة تحت يده، كالسلاح والقوس الذي في خيمته.. فليس من السلب.
وأمَّا ما كان مشاهدًا في يده مما ليس بجنة ولا آلة للقتال ولكنه زينة، كالمنطقة، والخاتم، والسوار، والتاج، والجنيب الذي معه، والنفقة التي في وسطه.. فهل

(12/163)


ذلك من السلب؟ قال الشيخ أبُو حامد فيه وجهان، وحكاهما الشيخ أبُو إسحاق قولين:
أحدهما: أنه ليس من السلب؛ لأنه ليس بجنة للقتال ولا آلة للحرب، فهو كالمتاع والخيمة.
والثاني: أنه من السلب؛ لما روي: (أن عمر لما قسم خزائن كسرى بن هرمز.. دعا بسراقة بن مالك بن جعشم، وأعطاه سواري كسرى، وقال له: البسهما، فلبسهما، وقال له: قل الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما أعرابيًا من بني مدلج) فسمى السوارين سلبًا، ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة. ولأن يده عليه، فهو كجنة الحرب.

[فرع: لا يخمس السلب عندنا ويعطى من أصل الغنيمة]
] : ولا يخمس السلب.
وقال ابن عبَّاس: (يخمس) .
وقال عليّ بن أبي طالب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إن كان كثيرًا.. خمس، وإن كان قليلًا.. لم يخمس) .

(12/164)


دليلنا: ما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالسلب للقاتل» وهو عام.
ويستحق القاتل السلب من أصل الغنيمة.
وقال مالك: (يستحقه من خمس الخمس) .
دليلنا: ما رَوَى سلمة بن الأكوع قال: «خرجنا مع رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في غزاة، فأتانا رجل على جمل أحمر، فنزل وأطلق الناقة وأكل مع القوم، ثم قام وركب وانطلق، فقالوا: طليعة القوم، فانطلقت وراءه، فأخذت بزمام ناقته وقلت: إخ، فبركت، فاخترطت السيف، فقتلته، وأخذت سلبه، فاستقبلني الناس، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قتله؟ " فقالوا: سلمة بن الأكوع، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "له سلبه أجمع» .

[مسألة: المعاقدة بعد الحصار للحكم في أمرهم]
قال أبُو العباس: وإن حاصر الإمام أهل بلد أو حصن أو قرية، فعقد بينه وبينهم عقدًا على أن ينزلوا على حكم حاكم.. جاز؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاصر بني قريظة، فعقد لهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ» .
إذا ثبت هذا: فيفتقر الحاكم في ذلك إلى سبع شرائط، وهي: أن يكون رجلًا، حرًا، مسلمًا، بالغًا، عاقلًا، عدلًا، فقيهًا؛ كما يشترط في حق القاضي إلا أنه يجوز أن يكون أعمى؛ لأن عدم بصره هاهنا لا يضر بالمسلمين؛ لأن الذي يقتضي الحكم هو المشهور من أمرهم، وذلك يدركه بالرأي مع فقد البصر.
وإن حكموا رجلًا يعلم أن قلبه يميل إليهم.. كره ذلك وصح حكمه؛ لأن شروط الحكم موجودة فيه.
وإن نزلوا على حكم رجلين أو أكثر.. جاز، كما يجوز التحكيم في اختيار الإمام إلى اثنين. ولا يكون الحكم إلا على ما اتفقا عليه.

(12/165)


وإن نزلوا على حكم حاكم غير معين يختاره الإمام.. جاز؛ لأنه لا يختار إلا من يصلح للحكم.
وإن نزلوا على حكم حاكم يختارونه.. لم يجز؛ لأنهم ربما اختاروا من لا يصلح للحكم. فإن نزلوا على حكم حاكم يصح حكمه فمات الحاكم قبل الحكم، أو نزلوا على حكم حاكم لا يصلح للحكم؛ فإن اتفقوا هم والإمام بعد نزولهم على حكم حاكم يصلح للحكم.. جاز ذلك. وإن لم يتفقوا على ذلك.. وجب ردهم إلى الموضع الذي نزلوا منه، ورجع الإمام إلى حصارهم. وكذلك: إذا تركوا على حكم رجلين فمات أحدهما، فإن اتفقوا على من يقوم مقامه. جاز وإن لم يتفقوا عليه وجب ردهم إلى حيث كانوا.
وأمَّا صفة حكم الحاكم فيهم: فإن حكم فيهم بقتل مقاتلهم وسبي نسائهم وأطفالهم.. صح حكمه؛ لأن سعد بن معاذ حكم في بني قريظة بذلك، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» .
وإن حكم بقتل مقاتلتهم، وترك نسائهم وأطفالهم، أو بترك الجميع.. صح حكمه، كما يجوز المن على الأسارى وكذلك: إن حكم فيهم بإطلاق مقاتلتهم بمال يدفعونه. صح حكمه، كما يجوز مفاداة الأسير بمال.
وإن حكم على مقاتلتهم وترك نسائهم وأطفالهم، أو بترك الجميع.. صح حكمه، كما يجوز المن على الأساري. وكذلك: إن حكم فيهم بإطلاق مقاتلتهم بمال يدفعونه.. صح حكمه، كما يجوز مفاداة الأسير بمال.
وإن حكم على مقاتلتهم بعقد الذمة وإعطاء الجزية.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن ذلك عقد، فلم يصح إلا برضا منهم.
والثاني: يصح ويلزمهم ذلك؛ لأنهم قد رضوا بحكمه.
وإن حكم باسترقاقهم.. صح حكمه؛ لأنه إذا صح حكمه بقتل مقاتلتهم.. فلأن يصح باسترقاهم أولى.
فإن حكم عليهم بالقتل وأخذ أموالهم، فعفا الإمام عن واحد منهم وماله.. صح

(12/166)


عفوه؛ لـ: (أن سعد بن معاذ حكم بقتل رجال بني قريظة وسبي نسائهم وأموالهم فسأل ثابت بن قيس بن الشماس رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن يعفو عن واحد من بني قريظة فأجابه إلى ذلك) .
وإن حكم الحاكم باسترقاقهم، ثم أراد المن عليهم.. لم يجز إلا برضا الغانمين لأنهم قد صاروا مالًا لهم.
وإن حكم بقتل مقاتلتهم، ثم أرادوا استرقاقهم.. قال الشيخ أبُو إسحاق: لم يجز؛ لأنهم لم ينزلوا على ذلك.

[مسألة: إسلام الكفار قبل الأسر]
إذا أسلم الكافر قبل الأسر.. عصم دمه وأمواله وأولاده الصغار، سواء خرج إلى دار الإسلام أو لم يخرج.
وقال مالك: (إذا أسلم في دار الحرب.. حقن دمه وماله الذي في دار الإسلام، وأمَّا ماله الذي في دار الحرب.. فيغنم) .
وقال أبو حَنِيفَة: (يحقن بالإسلام دمه وماله الذي يده المشاهدة ثابتة عليه. وما كان وديعة له عند ذمي ويد الذمي عليه.. فيغنم. فأما ما لم تكن يده المشاهدة ثابتة عليه، مثل الدواب والعقار والضياع.. فيغنم) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد

(12/167)


رسول الله، فإذا قالوها.. عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ، ولم يفرق.
ولأن «الأسير العقيلي قال للنبي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا محمد، إني جائع فأطعمني، وإني عطشان فاسقني، وإني أسلمت، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو تكلمت بهذه الكلمة قبل هذا أفلحت كل الفلاح ـ يعني: حقنت دمك ومالك ـ وأمَّا الآن: فلا تحقن إلا دمك» .
وروي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاصر بني قريظة، فأسلم ابنا سعية، فحقنا دماءهما وأموالهما وأولادهما الصغار» ولأن كل من لم يجز أن يغنم ماله، إذا كانت يده ثابتة عليه.. لم يجز أن يغنم وإن لم تكن يده ثابتة عليه، كالمسلم.
وإن كان للكافر منفعة تملك بالإجارة فأسلم.. لم تملك عليه؛ لأنها كالمال.

[فرع: سبي واسترقاق الحربية التي زوجها مسلم أو حربي فأسلم]
وإن تزوج المسلم حربية، أو تزوج الحربي حربية فأسلم.. فالمنصوص: (أنه يجوز سبيها واسترقاقها) ؛ لأنه لما جاز أن يطرأ على هذا النكاح الفسخ بالعيوب.. جاز أن يكون هذا السبي والاسترقاق سببًا لفسخه.
ومن أصحابنا من قال لا يجوز سبيها؛ لأن فيها حقًا للمسلم وهو الاستمتاع. وليس بشيء؛ لأن الاستمتاع ليس بمال ولا يجري مجرى المال؛ ولهذا لا يضمن بالغصب.

[فرع: أسلم وله حمل وماذا لو تزوج المسلم ذمية أو حربية؟]
؟] : وإن أسلم وله حمل.. لم يجز استرقاقه.
وقال أبو حَنِيفَة: (يجوز) .
دليلنا: أنه مسلم بإسلام أبيه، فلم يجز استرقاقه، كما لو كان منفصلًا.

(12/168)


وإن كانت الحامل به حربية وقلنا بالمنصوص: (أنه يجوز استرقاقها إذا كانت حائلًا) .. فهل يجوز استرقاقها هاهنا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز ـ وبه قال أبو حَنِيفَة ـ لأنها حربية لا أمان لها.
والثاني: لا يجوز استرقاقها؛ لأنه لما لم يجز استرقاق حملها.. لم يجز استرقاقها. ألا ترى أن الأمة إذا كانت حاملًا بحر.. فإنه لا يجوز بيعها، كما لا يجوز بيع حملها؟
فإن تزوج حربي بحربية، فحملت منه وسبيت المرأة.. استرقت وولدها، فإن أسلم أبوه.. حكم بإسلام الحمل ولا يبطل رقه؛ لأن الإسلام طرأ على الرق فلم يبطله.
فإن تزوج المسلم ذمية أو حربية، فحملت منه.. فالولد مسلم، فإن سبيت الأم رقت ولا يرق الحمل؛ لأنه مسلم، فيجوز بيعها بعد ولادتها وإن كان الولد صغيرًا لأنهما غير مجتمعين في الملك، فجاز التفريق بينهما.
ويحتمل وجهًا آخر: أنه لا يجوز استرقاقها، كما قلنا في التي قبلها.

[فرع: إسلام المحاصرين وماذا لو أسلم رجل وله ابن صغير؟]
فإن حصر الإمام قومًا من المشركين في بلد أو حصن، فأسلموا.. فهو كما لو أسلموا قبل الحصار؛ لـ: (أن ابني سعية أسلما في الحصر فحقن إسلامهما دمهما وأموالهما وأولادهما الصغار) .
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : فإن أسلم رجل وله ولد ابن صغير.. فهل يحرره؟
فيه وجهان:
أحدهما: أنه يحرره، كالأب.
والثاني: لا يحرره؛ لأن الجد لما خالف الأب في الميراث.. خالفه هاهنا.
واختلف قول القفال في هذين الوجهين؛ فقال في مرة: الوجهان هاهنا إذا كان الأب حيًا، فأما إذا كان الأب ميتًا.. فيحرره الجد وجهًا واحدا. وقال في مرة:

(12/169)


الوجهان إذا كان الأب ميتًا، فأما إذا كان الأب حيًا.. فلا يحرره الجد وجهًا واحدًا.

[مسألة: يحكم بإسلام الصغير لو أسلم أحد أبويه ولكن ماذا لو سبي؟]
وإن أسلم أحد الأبوين ولهما ولد صغير.. تبع الولد المسلم منهما، وقد تقدم ذكرها في (اللقيط) .
وإن سبي صغير، فإن سبي معه أبواه أو أحدهما.. تبعهما في الدين، ولا يتبع السابي. وبه قال أبو حَنِيفَة.
وقال الأَوزَاعِي: (يتبع السابي في الإسلام) .
وقال مالك: (إن سبي معه الأب.. تبعه في الدين دون السابي. وإن سبيت معه الأم.. تبع الولد السابي دون الأم) .
دليلنا: ما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مولود يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، فأخبر أن الأبوين يهودانه وينصرانه ويمجسانه، فمن قال: إنهما لا يهودانه ولا ينصرانه ولا يمجسانه إذا سبي معهما، أو أن الأم لا تهوده ولا تنصره ولا تمجسه.. فقد خالف ظاهر الخبر. ولأن الولد مخلوق من ماء الأب والأم، فإذا تبع الأب في الدين.. وجب أن يتبعها أيضًا.
إذا ثبت هذا: فسبي الصغير وأحد أبويه وبلغا دار الإسلام، ثم مات الوالد وبقي

(12/170)


الولد.. كان باقيًا على الكفر؛ لأنه قد حكم بكفره في دار الإسلام تبعًا لوالده، فلم يحكم بإسلامه بموت والده.
فأما إذا سبي الصغير وحده.. فقد اختلف الشيخان فيه:
فقال الشيخ أبُو حامد: يحكم بإسلامه تبعًا للسابي ـ قال ـ: وهذا إجماع؛ لأنه لا يستقل بنفسه، بكونه لا حكم لكلامه.
وقال الشيخ أبُو إسحاق: فيه وجهان:
أحدهما: هذا.
والثاني أنه باق على كفره ـ قال ـ: وهو ظاهر المذهب؛ لأن يد السابي يد ملك، فلا توجب إسلامه، كيد المشتري.

[فرع: لا يحكم بإسلام الصبي والمجنون]
وإن وصف الكافر المجنون، أو صبي غير مميز من أولاد الكفار الإسلام.. لم يحكم بإسلامه؛ لأنه لا حكم لقوله.
وإن وصف الإسلام صبي مميز من أولاد الكفار.. فهل يحكم بإسلامه؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها الشيخ أبُو حامد.
أحدها: يصح إسلامه؛ لما روي: (أن عليًا، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أسلم قبل أن يبلغ) . ولأنه تصح صلاته وصومه، فصح إسلامه، كالبالغ.
والثاني: لا يصح إسلامه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ولأنه غير مكلف، فلم يصح إسلامه، كالمجنون والصبي الذي لا تمييز له.
والثالث: أن إسلامه موقوف. فإن بلغ ثم وصف الإسلام.. حكمنا بصحة إسلامه

(12/171)


من حين أسلم قبل بلوغه. وإن وصف الكفر بعد بلوغه، أو لم يصف الإسلام.. لم يحكم بصحة إسلامه؛ لأنه لا يتبين ما كان منه في الصغر إلا بما انضاف إليه بعد البلوغ.
والصحيح: أنه لا يصح إسلامه، وما رُوِيَ عن عليّ.. فقد روي: (أنه كان يوم أسلم ابن إحدَى عشرة سنة) فيحتمل أنه أقر بالبلوغ ثم أسلم.
فعلى هذا: يحال بينه وبين أبويه؛ لئلا يزهداه في الإسلام. فإن بلغ ووصف الإسلام.. حكم بإسلامه من حين وصفه بعد البلوغ. وإن وصف الكفر.. قرع فإن أقام على ذلك.. رد إلى أهله.

[مسألة: لا يفرق في السبي بين أم وولدها]
وإن سبيت امرأة وولدها الصغير.. لم يجز أن يفرق بينهما؛ لما رَوَى أبُو أيوب الأنصاري: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من فرق بين والدة وولدها.. فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» ورَوَى عمران بن الحصين: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ملعون، ملعون من فرق بين والدة وولدها» ورَوَى أبُو سعيد الخدري: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع امرأة تبكي، فقال: "ما لها؟ قيل له: فرق بينها وبين ولدها، فقال، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا توله والدة بولدها» . قال الشيخ أبُو حامد: وهذا الإجماع لا خلاف فيه.

(12/172)


وإلى أي سن لا يجوز التفرقة بينهما؟ فيه قولان:
أحدهما: إلى أن يبلغ الولد سبع سنين.
والثاني: إلى أن يبلغ.
وقد مَضَى توجيههما في البيوع.
وقال مالك: (تحرم التفرقة بينهما إلى أن يسقط سنه وينبت) .
وقال الليث: إلى أن يأكل بنفسه ويلبس بنفسه.
وقولهما قريب من قولنا في بلوغه سبع سنين.
وقال أحمد: (تحرم التفرقة بينهما أبدًا) . وهذا خطأ؛ لأنه إذا بلغ.. استغنى بنفسه، فلم تحرم التفرقة بينهما.

[فرع: التفرقة بين الرجل وولده أو بينه وبين جده أو جدته]
] : وإن سبي الرجل وولده الصغير.. فهل تحرم التفرقة بينهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تحرم؛ لأنا إنما منعنا التفرقة بينه وبين الأم؛ لئلا يفقد لبنها وحضانتها، وهذا لا يوجد في حق الأب.
والثاني: تحرم، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لما رُوِيَ عن عُثمانَ بن عفان، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: (لا يفرق بين الوالد وولده) . ولأن الأب وإن لم يكن له لبن.. فله حضانة؛ لأنه يكتري له الحاضنة ويشرف عليه. فإذا فرق بينهما.. استضر بذلك.
وتحرم التفرقة بين الولد الصغير وبين جدته أم أمه وإن علت. وتحرم التفرقة بينه وبين جدته أم أبيه وأم أبي أبيه؛ لأن لها لبنًا وحضانة، فهي بمنزلة أم أمه. وأمَّا التفرقة بينه وبين جده.. فعلى الوجهين في التفرقة بينه وبين الأب.

(12/173)


[فرع: التفرقة بين الأخوين ونحوهما]
ولا تحرم التفرقة بين الولد الصغير وبين أخيه، وعمه، وخاله، وعمته، وخالته.
وقال أبو حَنِيفَة: (تحرم) . وروي ذلك عن عمر.
دليلنا: أنهما شخصان تقبل شهادة أحدهما للآخر، فلم تحرم التفرقة بينهما، كابني العم.

[مسألة: السبي وفسخ النكاح]
] : إذا سبي الزوج وحده.. لم ينفسخ نكاحه حتى يسترقه الإمام. وإن سبيت الزوجة وحدها.. انفسخ نكاحها.. ووافقنا أبو حنيفة في الحكم في هذا وخالفنا في العلة؛ فالعلة عندنا: حدوث الرق، والعلة عنده: اختلاف الدارين.
وإن سبي الزوجان معًا.. انفسخ نكاحهما. وبه قال الليث والثوريُّ وأبو ثور.
وقال أبو حَنِيفَة: (لا ينفسخ النكاح؛ لأن اختلاف الدارين لم يوجد) .
دليلنا: ما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث سرية إلى أوطاس، فأصابوا نساء ذات أزواج، فتأثم ناس من وطئهن لأجل أزواجهن، فنزل قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] » .
والمراد بالمحصنات هاهنا: الزوجات، فاستحلوا وطأهن، ولم يفرق بين أن يسبى زوجها أو تسبى وحدها. ورُوِي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم سبي أوطاس وبني المصطلق، وقال: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض» ولم يفرق بين ذات زوج

(12/174)


وغير ذات زوج. ولأنها ملكت بالقهر والغلبة، فبانت من زوجها، كما لو سبي أحدهما دون الآخر.
وإن سبي الزوجان أو أحدهما وهما مملوكان.. فهل ينفسخ نكاحهما؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: ينفسخ نكاحهما؛ لأنه حدث سبب يوجب الاسترقاق، كما أن الزِّنَى يوجب الحد وإن صادف حدًا.
و [الثاني] : قال الشيخ أبُو إسحاق: لا ينفسخ نكاحهما؛ لأنه لم يحدث بالسبي رق، وإنما حدث انتقال ملك، فلم ينفسخ النكاح، كما لو انتقل الملك فيهما بالبيع.

[فرع: سبيت زوجة مشرك وعنده أسرى من المسلمين]
إذا سبيت زوجة مشرك فجاء زوجها يطلبها وقال: عندي فلان وفلان من المسلمين مأسورين، فإن أطلقتموها أطلقتهما.. قال الشيخ أبُو حامد: فإن الإمام يقول له: أحضرهما، فإذا أحضرهما.. أطلقهما الإمام ولم يطلق له زوجته؛ لأنهما حران، فلا يجوز أن يكونا ثمن مملوكة له، بل يقال له: إن اخترت أن تشتريها.. فاشترها.

[مسألة: اغتنام ما يؤكل]
إذا دخل المسلمون دار الحرب، وغنموا منها ما يؤكل، كالحب والخبز واللحم والعسل وما أشبهه، واحتاجوا إلى أكله.. جاز لهم أكله ولا قيمة عليهم فيه؛ لما روي: عن عبد الله بن أبي أوفى، أنه قال: «أصبنا مع رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بخيبر طعامًا، فكان كل واحد منا يأخذ قدر كفايته منه» ، ورُوِي عن ابن عمر: «أن جيشًا على

(12/175)


عهد رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، غنموا طعامًا وعسلًا، فلم يؤخذ منهم الخمس» يعني: مما أكلوا ولأن الحاجة إلى إباحة ذلك للغانمين؛ لأنه يشق عليهم حمل ما يقتاتون إلى دار الحرب ويشق عليهم أن يشتروا من المشركين. ولأنه ربما فسد إذا حمل إلى دار الإسلام، وربما كانت المؤنة بنقله أكثر من قيمته، فكانت إباحته للغانمين من غير عوض أولى.
وهل لهم أن يأكلوا منه من غير حاجة لهم إلى الأكل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز لهم أكله، كما لا يجوز للإنسان أكل مال غيره بغير إذنه من غير حاجة به إليه.
والثاني ـ وهو ظاهر المذهب ـ: أنه يجوز لهم أكله؛ لما رُوِيَ عن عبد الله بن مغفل، أنه قال: «ولي جراب فيه شحم يوم خيبر، فأتيته فالتزمته، ثم قلت: لا أعطي أحدًا منه شيئًا، فالتفت فإذا برسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خلفي يبتسم» ، فلو لم يجز أكل ما زاد على الحاجة.. لنهاه عن ذلك.

[فرع: قرض طعام الغنيمة]
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإذا أقرض غيره شيئًا من ذلك الطعام.. جاز) .
قال أصحابنا: لم يرد بذلك أنه قرض في الحقيقة؛ لأنه لا يملكه، وإنما أبيح له أخذه، فإذا أخذه. كان أحق به من غيره. فأما إذا أقرضه غيره من الغانمين ودفعه إليه. صار الثاني أحق به من الأول؛ لأن يد الأول زالت عنه وثبتت يد الثاني عليه. فإذا رده إلى الأول.. صار أحق به أيضًا. وإن دفعه لغير الغانمين.. وجب عليه رده إلى الغنيمة.

(12/176)


قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن باع شيئًا من ذلك الطعام من بعض الغانمين بطعام آخر.. جاز) .
وقال أصحابنا: لم يرد به لأنه ليس ببيع في الحقيقة؛ لما ذكرناه فيما لو أقرضه، وإنما أراد: أن الثاني يصير أحق به من الأول؛ لثبوت يده عليه، ولا يلزمه بدله.
وإن باع منه صاع طعام بصاعين أو أكثر.. جاز للثاني أكله؛ لأنه ليس ببيع فلا يكون ربًا.
وإن باعه من غير الغانمين.. لم يجز؛ لأن الأول لا يملكه والثاني لا يستحقه. فإذا أخذه بعض الغانمين من المشتري أو دفعه إليه.. صار أحق به.

[فرع: علف المركوب وغيره وماذا لو رجع ومعه بقية طعام؟]
ويجوز للمجاهد أن يعلف مركوبه وما يحمل عليه رحله من البهائم من العلف الذي يؤخذ من المشركين في دار الحرب، ولا ضمان عليه فيه؛ لأن الحاجة إلى ذلك كحاجته إلى الطعام.
وإن كان مع المجاهد بزاة، أو صقور، أو كلاب صيد.. فليس له أن يطعمها من الغنيمة؛ لأنه لا حاجة به إلى حملها إلى دار الحرب.
وإن خرج المجاهد إلى دار الإسلام ومعه بقية من الطعام.. فقد قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، في موضع: (يرده إلى المغنم؛ لأن حاجته إليه قد زالت) ، وقال في موضع آخر: (يكون له) .
فمن أصحابنا من قال فيه قولان:
أحدهما: يلزمه رده إلى المغنم؛ لأن حاجته إليه قد زالت.

(12/177)


والثاني: يكون أحق به؛ لأنه لما جاز له أكله في دار الحرب.. جاز له أكله في دار الإسلام.
ومنهم من قال: إن كان كثيرًا.. وجب عليه رده إلى المغنم قولًا واحدًا، وإن كان قليلًا.. فعلى القولين. والطريق الأول أصح.
وقال الأَوزَاعِي وأبو حَنِيفَة: (إن كان قبل القسمة.. رده إلى المغنم. وإن كان بعد القسمة.. باعه وتصدق بثمنه) .
دليلنا: أنه إن كان له.. فلا يجب عليه أن يتصدق به. وإن كان للغانمين.. لم يجز له أن يتصدق به.

[فرع: غنيمة الأدوية وتوقيح الدابة ولبس ثياب وركوب دابة الغنيمة]
] : وإن غنموا أدوية.. لم يجز لأحد منهم أن يتناول منها شيئًا؛ لأنها ليست بقوت والحاجة إليها نادرة. فإن احتاج بعض الغانمين إلى تناول شيء منها لعلة فيه.. جاز له ذلك، وكان عليه ضمانه.
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وليس له أن يوقح دابته بدهن من الغنيمة) . و (التوقيح) : أن يدهن حافر الدابة؛ لأن هذا دواء وليس بقوت، وكذلك ليس له أن يدهن من دهن الغنيمة؛ لما ذكرناه.
وإن كان في الغنيمة ثياب وفي الغزاة عار.. فليس له أن يلبس شيئًا منها من غير أن يضمنه، ولا لأحد أن يركب شيئًا من دواب الغنيمة من غير ضرورة؛ لما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر.. فلا يركب دابة من فيء المسلمين، حتى إذا أعجفها.. ردها فيه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر.. فلا يلبس ثوبًا من فيء المسلمين حتى إذا خلق.. رده فيه» .

(12/178)


[فرع: غنموا حيوانًا مأكولًا أو ركاء وسطائح]
] : فإن غنموا شيئًا من الحيوان المأكول واحتاجوا إلى ذبحه لأكله.. ففيه وجهان:
أحدهما: لهم ذلك، ولا ضمان عليهم فيه، كما لو وجدوا طعامًا أو لحمًا.
والثاني: ليس لهم ذلك؛ لأن الحاجة إليه نادرة، والأول أصح.
فأما جلد هذا الحيوان: فلا يجوز لهم الانتفاع به؛ لأنه ليس بقوت.
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن اتخذوا منه سيورًا أو ركاء، أو سطائح.. كان عليهم ردها، وأجرة مثلها للمدة التي أقامت في أيديهم، وأرش ما نقصت) .
وقال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يجوز أن يذبحوا دابة من دواب الغنيمة لأجل الركاء والسطائح) ؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة» .
وإن غنموا ركاء وسطائح.. لم يكن لهم استعمالها؛ لأنها ليست بقوت.

[فرع: غنيمة الكتب]
وإن غنم المسلمون من المشركين كتبًا، فإن كان فيها طب أو نحو أو شعر مباح.. فهي غنيمة؛ لأنها مال. وإن كان فيها كفر، أو التوراة، أو الإنجيل.. لم يجز تركها؛ لئلا تقع في يد مسلم فتغويه.

(12/179)


فعلى هذا: ينظر فيها: فإن أمكن محو كتابتها، والانتفاع بما كتب عليه.. فعل ذلك. وإن لم يمكن ذلك.. مزقت، ولا تحرق بالنار؛ لأنه ربما انتفع بالمكتوب عليه بعد التمزيق، ولا يمكن ذلك بعد التحريق. ولأنها لا تخلو من أن يكون فيه اسم الله تَعالَى.

[فرع: أصابوا خمرًا أو خنزيرًا أو كلابًا أو ما يباح تملكه كالصقر ونحوه]
وإن أصاب المسلمون في دار الحرب خمرًا في دنان.. فإن الخمر يراق، كما لو وجدت في يد مسلم.
وأمَّا الدنان: فإن كان المسلمون قد غلبوا على الدار.. فإن الدنان غنيمة. وإن لم يغلبوا على الدار، فإن أمكنهم أخذ الدنان.. أخذوها، وإن لم يمكنهم ذلك كسرت؛ لئلا يعصوا الله بها ويتقووا بها على المعاصي.
وإن أصابوا خنازير.. قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (تقتل، ولا أترك عاديًا عليّ مسلم وأقدر على قتله) .
فمن أصحابنا من قال: إن كان فيها عدو.. قتلت؛ لما فيها من الضرر. وإن لم يكون فيها عدو.. لم تقتل؛ لأنه لا ضرر فيها.
ومنهم من قال: تقتل بكل حال؛ لأنه يحرم الانتفاع بها، فوجب إتلافها، كالخمر.
وإن أصابوا كلابًا، فإن كان عقارة.. قتلت؛ لما فيها من الضرر. وإن كانت ينتفع بها للصيد والماشية والزرع.. قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (قسمت بين الغانمين) يعني: تقر أيديهم عليها، لا أنهم يتملكونها؛ لأن الكلاب لا تملك عندنا. فإن كان في الغانمين وأهل الخمس أهل صيد أو ماشية أو زرع.. دفعت إليهم. وإن لم يكن فيهم من ينتفع بها.. قال الشيخ أبُو حامد: قتلت أو تركت؛ لأن اقتناء الكلب لا يجوز لغير حاجة.
وإن وجد في دار الحرب سنانير، أو بزاة، أو صقور.. كانت غنيمة؛ لأنها مملوكة مباحة.

(12/180)


[فرع: ما وجد مباحًا أو لقطة في دار الحرب فهو كالمباح في دار الإسلام]
وكل ما كان مباحًا في دار الإسلام، كالصيد الذي لا علامة عليه في البرية، والأشجار في الموات، والأحجار في الجبال؛ فإن وجد شيء من ذلك في دار الحرب.. فهو لمن أخذه، كما قلنا فيمن وجد ذلك في دار الإسلام.
وإن كان على ذلك أثر يد؛ مثل الصيد المقرط أو الموسوم، أو الشجر في الموات المحوط عليه، والتراب المحوط، والأحجار في البناء.. فهو غنيمة؛ لأن الظاهر من هذه العلامات ثبوت اليد عليها، فكانت غنيمة.
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن وجد في دار الحرب ما يمكن أن يكون ملكًا للمشركين، ويمكن أن يكون سقط من المسلمين.. أحببت لمن وجده أن يعرفه اليوم واليومين، فإن لم يظهر مالكه.. فهو غنيمة) . هكذا ذكر الشيخ أبُو حامد.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق: أنه يعرفه سنة.

[فرع: موات دار الحرب وفتحت مكة عندنا صلحًا لا عنوة]
وإن فتحت أرض عنوة وأصيب فيها موات، فإن لم يمنع الكفار منها.. فهي لمن أحياها، وإن منعوا منها.. ففيها وجهان مَضَى ذكرهما في إحياء الموات.
وإن فتحت صلحًا على أن تكون الأرض لهم.. لم يجز للمسلمين أن يملكوا فيها مواتًا بالإحياء؛ لأن الدار للكفار، فلا يملك المسلمون إحياءها.
إذا ثبت هذا: فإن مكة دخلها رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يوم الفتح صلحًا عندنا لا عنوة، ولسنا نريد بذلك أنه عقد الصلح مع جميع أهل مكة، وإنما عقد الصلح مع أبي سفيان وحده، وعقد لهم الأمان بشرط، ثم وجد الشرط فلزمه الأمان، ولم يكن للنَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سبي أموالهم وذراريهم، ولا قتل من وجد فيه منهم شرط الأمان إلا من استثناه. وبه قال مجاهد.

(12/181)


وقال مالك والأَوزَاعِي وأبو حَنِيفَة: (دخلها رسول، الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عنوة، وكان له أن يقتل ويسبي ويغنم، ولكنه عفا عنهم) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} [الرعد: 31] [الرعد: 31] الآية. فأخبر أن مشركي قريش لا يزال تصيبهم القوارع من سرايا رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلى أن يحل رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قريبًا بقرب ديارهم وتنقطع عنهم القوارع، وهذا لا يكون إلا على قولنا. ولقوله تَعالَى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] إلى قوله: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} [الفتح: 21] [الفتح: 20-21] والتي عجل لهم: هي غنائم حنين والتي لم يقدروا عليها: قال بعض أهل التفسير: هي غنائم مكة؛ لأنها فتحت صلحًا لا عنوة.
ولما رُوِيَ: أن النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سار إلى مكة.. نزل بمر الظهران. قال العباس: فقلت في نفسي: إن دخل رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مكة قبل أن يخرجوا إليه فيستأمنوه.. إنه لهلاك قريش، فركبت بغلة رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لعلي أجد ذا حاجة أخبره بذلك، فيخبر أهل مكة ليخرجوا إليه فيستأمنوه، فبينا أنا سائر إذا أنا بأبي سفيان بن حرب وبديل بن ورقاء، فقلت: أبا حنظلة، فقال أبا الفضل؟ ! قلت نعم. قال: بأبي أنت وأمي، ما لك؟ فقلت: رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والناس، فقال: ما ترى؟ قلت: اركب خلفي، فركب خلفي، ورجع بديل بن ورقاء، فأتيت به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمنه، وقال لي: خذه إلى الغد، فلما أن كان من الغد.. جئت به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلقيني عمر، فقال: الحمد لله الذي أمكن من هذا المنافق بغير إيمان ولا أمان، فقلت له: إن رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قد أمنه، ثم دخلت على رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا، فقال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من دخل دار أبي سفيان.. فهو آمن" قال: "وما تغني داري؟ فقال: "ومن دخل المسجد فهو آمن"، فقال: وما يغني المسجد؟ فقال: "ومن أغلق عليه بابه.. فهو آمن، ومن ألقى

(12/182)


السلاح.. فهو آمن". قال العباس: فقلت له: النجاء إلى قومك فحذرهم، فقال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أوقفه في المضيق؛ ليرى جند الله"، فأوقفته في المضيق، فمرت به القبائل على راياتها، فمرت بنا مزينة وغطفان، فقال: من هؤلاء؟ فقلت: مزينة وغطفان، فقال: ما لي ومزينة، فأقبل رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في الكتيبة الخضراء من المهاجرين والأنصار لا تبين منهم إلا الحدق، فقال: من هؤلاء؟! فقلت: رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في المهاجرين والأنصار، فقال لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكًا عظيمًا فقلت: ما هذا بملك، إنما هو نبوة، فقال: نعم. ثم سار أبُو سفيان إلى مكة، وقال: إن محمدًا قد أتاكم بعسكر لا قبل لكم به. قالوا: فمه؟ قال: من دخل داري.. فهو آمن قالوا: وما تغني دارك؟ قال: ومن دخل المسجد الحرام.. فهو آمن. قالوا: وما يغنى المسجد؟ قال: ومن أغلق عليه بابه.. فهو آمن، ومن ألقى السلاح.. فهو آمن ـ قال ابن عبَّاس ـ: فتفرق الناس إلى دورهم والمسجد.
وفي رواية أخرى: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نزل بمر الظهران.. قال لهم: "إن أبا سفيان بالقرب منكم"، فتفرق الناس يطلبونه، فوجده العباس، فأتى به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له: "أسلم"، فقال: قومي قومي؟ فقال: "من ألقى سلاحه.. فهو آمن ". قال: فما لي؟ قال: "من دخل دارك.. فهو آمن".
ورُوِي: أن العباس لما أوقفه في المضيق فمرت به القبائل.. استشعر أبُو سفيان فقال: أغدرا يا بني عبد مناف؟ ! قال العباس: لا. وهذا يدل على تقدم عقد الأمان.

(12/183)


ورَوَى مصعب بن سعد عن أبيه: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمن يوم الفتح الناس كلهم إلا ستة أنفس: مقيس بن صبابة، وعكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، وابن خطل، والقينتين جاريتين كانتا لعبد الله بن سعد تغنيان بهجو رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
ولـ: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة ولم يقتل غير من استثناه، ولم يسب، ولم يغنم الأموال والديار، بل عفا عن بعض من أمر بقتلهم) ، وهذه علامات الصلح لا علامات العنوة.

[مسألة: غلول بعض الغانمين لا قطع فيه وماذا لو كان من غيرهم؟]
؟] : إذا سرق بعض الغانمين نصابًا من الغنيمة قبل إخراج الخمس.. لم يقطع؛ لأن له حقًا في الخمس وفي الأربعة الأخماس.
وإن سرق نصابًا بعد إخراج الخمس، فإن سرقه من الخمس.. لم يقطع؛ لأن له فيه حقًا.
وإن سرقه من أربعة أخماسها، فإن سرق قدر حقه أو دونه.. لم يقطع؛ لأن له فيما سرقه شبهة. وإن سرق أكثر من حقه، والزائد على حقه نصاب.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقطع؛ لأنه لا شبهة له في سرقة النِّصَاب.
والثاني: لا يقطع؛ لأن حقه شائع في الجميع.
وإن سرق غير الغانمين نصابًا من الغنيمة، فإن سرق منها قبل إخراج الخمس أو من الخمس بعد إخراجه.. لم يقطع؛ لأن له شبهة في الخمس.
وإن سرق من أربعة أخماسها، فإن لم يكن في الغانمين من له شبهة في ماله، كالولد والوالد والسيد.. قطع؛ لأنه لا شبهة له فيه. وإن كان في الغانمين من له شبهة في ماله.. قال الشيخ أبُو إسحاق: لم يقطع؛ لأن له شبهة فيما سرق.

(12/184)


والذي يقتضي المذهب: أنه ينظر: فإن سرق قدر نصيبه أو دونه.. لم يقطع. وإن سرق أكثر من نصيبه.. ففيه وجهان، كما لو كان السارق من الغانمين.

[مسألة: وطء أحد الغانمين جارية من السبي]
إذا غنم المسلمون أموال الكفار وحازوها، فإن كان فيها جارية، فوطئها رجل من الغانمين.. نظرت: فإن كان عددهم غير محصور.. لم يجب عليه الحد. وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة وأكثر الفقهاء.
وقال الأَوزَاعِي وأبو ثور: (عليه الحد) .
دليلنا: أنه ملك أن يملك سهمًا منها، وإن كان ذلك السهم غير معلوم.. فصار ذلك شبهة، فسقط به الحد عنه.
وأمَّا التَّعزِير: فإن كان قد نشأ في بلاد الإسلام، وعلم تحريم ذلك.. عزر. وإن نشأ في بادية بعيدة، ولم يعلم تحريم ذلك.. لم يعزر. ويجب عليه جميع المهر؛ لأنه وطء في غير ملك يسقط فيه الحد عن الموطوءة، فوجب عليه المهر، كما لو وطئ في نكاح فاسد. فإن ملكها بعد ذلك.. لم يسقط عنه شيء من المهر، كما لو وطئ جارية غيره بشبهة ثم ملكها.
فإن كانت بحالها، وأخرج الإمام الخمس لأهل الخمس، وقسم أربعة أخماسها بين الغانمين، فدفع جارية من المغنم إلى عشرة من الغانمين بحصتهم من الغنيمة؛ لأن له أن يفعل، فوطئها أحدهم.. نظرت: فإن وطئها بعد أن اختاروا تملكها.. فهي كالجارية بين الشركاء يطؤها أحدهم، فلا يجب عليه الحد، ويجب عليه تسعة أعشار المهر، ويسقط العشر؛ لأن ذلك حصة ملكه.
وإن وطئها قبل أن يختاروا تملكها.. فلا حد عليه، وعليه جميع المهر.
فإن لم يختر الواطئ تملك نصيبه منها بعد وطئه.. أخذ منه جميع المهر.

(12/185)


وإن اختار تملك نصيبه منها بعد وطئه.. سقط عنه عشر مهرها؛ لأنه لا معنى في أن يؤخذ منه جميع المهر، ثم يرد إليه العشر منه.
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن أحضر المغنم، فعلم كم قدر حقه منها.. سقط عنه من المهر بقدر حصته) .
قال أبُو إسحاق: يحتمل أنه أراد هاتين المسألتين: الأولى والثانية.
وقال الشيخ أبُو حامد: الظاهر أنه أراد به الثانية وحدها؛ لأن المهر في الثانية قد وجب كله، ثم سقط منه حصته، وفي الأولى لم تجب حصته من المهر أصلًا.
وأمَّا إذا كان عدد الغانمين محصورًا، فوطئ رجل منهم الجارية قبل القسمة، واختار التملك.. لم يجب عليه الحد للشبهة، ويجب عليه جميع المهر، ثم ينظر فيه.
فإن لم يختر نصيبه منها بعد ذلك.. استوفي منه جميع المهر للغانمين.
وإن اختار تملك نصيبه منها.. أخرج من المهر الخمس لأهل الخمس، ويسقط من أربعة أخماسه ما يخص نصيبه من الجارية، وأخذ الباقي منه للغانمين.
والفرق بين هذه وبين الأولى: أن عدد الغانمين إذا كان غير محصور.. لا يعلم قدر حصته من الغنيمة، فلم يسقط عنه قدر نصيبه من المهر. وإذا كان عددهم محصورًا.. علم قدر حصته منها.. فلذلك سقط عنه ما يخص نصيبه من المهر.
هذا الكلام إذا لم يحبلها، فأما إذا أحبلها الواطئ.. نظرت: فإن كان عدد الغانمين غير محصور.. فإن الولد حر، ويلحق الواطئ نسبه.
وقال أبو حَنِيفَة: (لا يلحقه نسبه، ويكون مملوكًا للغانمين) .
دليلنا: أنه وطء يسقط فيه الحد عن الواطئ للشبهة، فلحقه نسبه، كما لو وطئ امرأة بنكاح فاسد. ولا تصير الجارية أم ولد له في الحال؛ لأنها علقت منه بحر في غير

(12/186)


ملكه. فإن ملكها بعد ذلك.. فهل تصير أم ولد؟ فيه قولان. وهل تقوم الجارية على الواطئ، أو تقسم بين الغانمين؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إن قلنا: إنها تصير أم ولد له إذا ملكها فيما بعد.. قومت عليه، لأن الذي يمنع من كونها أم ولد له هو أنها ليست بمملوكة له، وقد يمكن أن تصير مملوكة بالقيمة حتى تصير أم ولد له. وإن قلنا: لا تصير أم ولد له فيما بعد.. لم تقوم عليه.
وقال أبُو إسحاق: تقوم عليه قولًا واحدًا لأنه لا يجوز قسمتها بين الغانمين ولا بيعها؛ لأنها حامل بحر، ولا يجوز أن تؤخر قسمتها إلى أن تضع؛ لأن فيه ضررًا على الغانمين، فلم يبق إلا التقويم.
فإذا قلنا: لا تقوم عليه.. فلا كلام. وإن قلنا: تقوم عليه، فإن كانت قيمتها قدر حقه.. أخذها. وإن كانت قيمتها أقل من حقه من الغنيمة.. أخذها وأخذ تمام حقه من الغنيمة. وإن كانت قيمتها أكثر من حصته من الغنيمة. وجب عليه دفع الفضل إلى الغانمين، فإن لم يكن معه الفضل.. قال الشيخ أبُو حامد: بقي منها قدر الزيادة رقيقًا للغانمين، وصار الباقي أم ولد له. وهل تلزمه قيمة الولد؟
إن قلنا: تقوم الجارية عليه، فقومت عليه، ثم وضعت الولد.. لم يجب عليه قيمته؛ لأنها وضعته في ملكه.
وإن قلنا: لا تقوم عليه الأم، أو قلنا: تقوم ولكن لم تقوم حتى وضعت.. فعليه قيمة الولد؛ لأنها وضعته في غير ملكه.
فأما إذا أفرد الجماعة منهم جارية، فاختاروا تملكها، ثم وطئها أحدهم وأحبلها.. فالحكم فيها كالحكم في الجارية المشتركة إذا أحبلها أحدهم، وقد مَضَى بيانها في (العتق) .

(12/187)


[فرع: وجد في المغنم من يعتق على بعضهم]
وإن كان في الغنيمة من يعتق على بعض الغانمين إذا ملكه.. نظرت: فإن كان عدد الغانمين غير محصور.. فإن الغانم لا يملك شيئًا من الغنيمة إلا بالقسمة واختيار التملك. فإن قسمت الغنيمة، فخرج في سهمه من يعتق عليه واختار تملكه.. عتق عليه.. وإن خرج بعضه في سهمه واختار تملكه.. عتق عليه منه سهمه، وقوم عليه الباقي وعتق إن كان موسرًا به، ولا يقوم عليه ولا يعتق إذا كان معسرًا.
وإن كان عدد الغانمين محصورًا.. فإن الغانم لا يملك شيئًا قبل اختيار التملك. فإن اختار التملك.. عتق عليه نصيبه منه، وقوم عليه الباقي إن كان موسرًا، ولا يقوم عليه إن كان معسرًا.

[فرع: أسر من يعتق عليه]
قال ابن الحداد: إذا أسر أباه منفردًا به.. لم يعتق عليه؛ لأن الأسير لا يصير رقيقًا إلا باسترقاق الإمام واختياره. فإن اختار الإمام استرقاقه واختار الولد تملكه.. عتق عليه أربعة أخماسه، وقوم عليه الخمس إن كان موسرًا، ولا يقوم عليه إن كان معسرًا.
وأمَّا إذا أسر الرجل أمه أو ولده الصغير.. فإنهما يصيران رقيقين بنفس الأسر، فإن اختار تملكهما.. عتق عليه أربعة أخماسهما، وقوم عليه الباقي إن كان موسرًا، ولا يقوم عليه إن كان معسرًا. وإن لم يختر تملكهما.. كان أربعة أخماسهما لأهل المصالح، والخمس لأهل الخمس.

[فرع: بيع الحربي وزوجته أو أصوله أو فروعه]
قال ابن الحداد: ولو أن حربيًا باع من المسلمين امرأته وقد قهرها.. جاز. ولو باع أباه أو ابنه وقد قهرهما.. لم يجز؛ لأنه إذا قهر زوجته.. ملكها، فإذا باعها.. صح بيعه، وإذا قهر أباه أو ابنه.. عتق عليه، فإذا باعه.. لم يصح بيعه.

(12/188)


[مسألة: موجب الحد في دار الحرب]
] : من فعل في دار الحرب معصية يجب عليه فيها الحد إذا فعلها في دار الإسلام، كالزنا والقذف والسرقة.. وجب عليه الحد فإن كان الإمام في دار الحرب، أو الأمير من قبله على الإقليم وهو غير مشغول بالقتال.. أقام عليه الحد، وإن كان مشغولًا بالقتال.. أخر إقامته إلى أن يفرغ من القتال، أو إلى الخروج إلى دار الإسلام.
وإن لم يكن في دار الحرب إلا الأمير على الجيش، فإن جعل الإمام إليه إقامة الحد.. أقام عليه الحد. وإن لم يجعل إليه إقامة الحد.. لم يقمه عليه، فيقيمه الإمام إذا خرج إلى دار الإسلام.
وقال أبو حَنِيفَة: (إن كان معهم الإمام في دار الحرب أو الأمير على الإقليم.. أقام عليه الحد. وإن لم يكن معهم إلا الأمير على الجيش.. لم يقم عليه الحد، ولا يقيمه عليه إلا الإمام بعد خروجه إلى دار الإسلام) .
دليلنا: الظواهر في وجوب هذه الحدود، ولم تفرق. ولأن كل دار لو كان فيها إمام أقيم فيها الحد.. وجب إذا لم يكن فيها إمام أن يقام فيها الحد، كدار الإسلام.

[فرع: قتل مسلم مسلما في دار الحرب]
] : وإن قتل مسلم مسلما في دار الحرب.. وجب عليه بقتله ما يجب عليه بقتله في دار الإسلام.
وقال أبو حنيفة: (إن كان المقتول حربيًا أسلم ولم يخرج إلى دار الإسلام، أو كان أسيرًا.. فلا قَوْد على قاتله ولا دية عليه، بل عليه الكفارة. وإن كان حرًا.. ففيه الدية والكفارة) .
دليلنا: الظواهر في وجوب القود والدية، ولم تفرق. ولأنه حكم يتعلق بالقتل في دار الإسلام، فجاز أن يتعلق بالقتل في دار الحرب كالكفارة.

(12/189)


[فرع: نقل أخبار المسلمين إلى الكفار]
] : إذا تجسس المسلم للكفار، وأوقفهم على أخبار المسلمين، ودلهم على عوراتهم.. فلا يجب قتله بذلك؛ لما رُوِيَ: «أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إليهم عام الفتح وأرسله مع امرأة، فأمر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من تبعها، فأخرجت الكتاب من عقاصها ـ وهي: ضفيرة رأسها ـ وأتى به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما حملك على هذا يا حاطب؟ ! "فقال: "والله يا رسول الله، ما تغيرت منذ أسلمت، ولكن لكل أحد من المهاجرين عشيرة، ولي فيها مال، وليس لي فيها أهل ولا عشيرة، فأردت أن أصطنع إليهم وأتخذ عندهم يدًا أحفظ بها مالي. فقام عمر فقال: دعني يا رسول الله، أضرب عنق هذا المنافق، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك: لعل الله قد اطلع على أهل بدر؟ فقال: "اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم» .

[مسألة: غنيمة المشركين من المسلمين]
إذا قهر المشركون المسلمين، وأخذوا شيئًا من أموالهم.. لم يملكه المشركون بذلك، ومتى ظهر المسلمون عليهم وأخذوا ذلك المال.. فمالكه أحق به، فإنه كان وجده قبل القسمة.. أخذه، وإن لم يجده إلا بعد القسمة.. أخذه ممن وقع في سهمه، وأعطى الإمام من وقع في سهمه عوضه من سهم المصالح. هذا مذهبنا، وبه قال أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعبادة بن الصامت، وإحدى الروايتين عن عمر

(12/190)


- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو قول ربيعة والزهريُّ.
وقال عمرو بن دينار: إذا حازه المشركون إلى دار الحرب.. ملكوه، فإذا ظهر المسلمون عليهم وغنموه.. فهو للغانمين، سواء كان قبل القسمة أو بعد القسمة.
وقال الأَوزَاعِي ومالك وأبو حَنِيفَة وأصحابه: (إذا حازه المشركون إلى دار الحرب.. ملكوه، فإذا ظهر المسلمون عليهم وغنموه، فإن وجده صاحبه قبل القسمة.. فهو أحق به، فيأخذه بلا شيء. وإن وجده بعد القسمة.. فهو أحق به بالقيمة، فيرد قيمته على من وقع في سهمه) ، إلا أن أبا حَنِيفَة قال: (إذا أسلم هذا الكافر الذي حصل في يده.. فإنه أحق به من صاحبه. وإن دخل مسلم دار الشرك متلقصا وسرق ذلك المال.. فصاحبه أحق به بالقيمة.. وإن ملكه مسلم من المشرك ببيع.. فصاحبه أحق به. ويرد الثمن على المشتري. وإن ملكه مسلم منه بهبة.. فصاحبه أحق به بقيمته.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب: 27] [الأحزاب: 27] . فامتن علينا بأن ملكنا أرض المشركين وأموالهم بالقهر والغلبة، فلو كان المشركون يملكون ذلك علينا بالقهر والغلبة.. لساوونا في ذلك وبطل موضع الامتنان. ورَوَى عمران بن الحصين: «أن المشركين أغاروا على سرح رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذهبوا به وذهبوا بالعضباء ـ ناقة النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأسروا امرأة من المسلمين وأوثقوها، فانفلتت من وثاقها ذات ليلة، فأتت الإبل، فكلما مست بعيرًا.. رغى، حتى أتت العضباء فمستها فلم ترغ، فركبتها

(12/191)


وصاحت بها، فانطلقت، فطلبت فلم يروها، فركبوا خلفها، فنذرت إن نجاها الله عليها.. لتنحرنها، فلما قدمت المدينة.. عرفت الناقة: أنها ناقة رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرت نذرها، فأخبر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بذلك فقال: "سبحان الله! بئس ما جزتها، لا وفاة لنذر ينذر في معصية الله، ولا فيما لا يملكه ابن آدم» . فلو كانوا قد ملكوها.. لما جاز للنبي أخذها من المرأة.

[مسألة: المسلم يأسره الكفار ويقدر على الهروب]
إذا أسر المشركون مسلما ً، وحملوه إلى دار الحرب، ثم أطلقوه، وأمنوه بلا ثمن.. نظرت:
فإن أطلقوه وأمنوه على أن يكون في ديارهم.. فلا يجوز له المقام في دار الشرك لأن مقامه فيها معصية، فيجب عليه أن يهرب، ولكن لا يجوز له أن يسبي أحدا منهم ولا يقتله ولا يأخذ شيئًا من أموالهم؛ لأنهم إذا أمنوه.. اقتضى أن يكونوا منه في أمان.
وحكى الشيخ أبُو إسحاق عن أبي عليّ بن أبي هُرَيرَة أنه قال لا أمان لهم منه لأنهم لم يستأمنوه. والأول هو المشهور.
وإن أطلقوه على أن يقيم في أرضهم ولم يؤمنوه.. وجب عليه الهرب منهم وجاز له قتلهم وسبيهم وأخذ أموالهم؛ لأنه لا أمان بينه وبينهم.
وإن أطلقوه على أن يقيم في أرضهم وحلفوه على أن لا يخرج، فإن أكرهوه على اليمين.. لم يلزمه حكم اليمين، وعليه أن يخرج.
قال الشيخ أبُو حامد: ولا يجوز له أن يقتل منهم ولا يسبي ولا يأخذ شيئًا من أموالهم؛ لأن إحلافهم له أمان منهم.

(12/192)


وإن لم يكرهوه على اليمين، بل حلف من عند نفسه.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنها يمين إكراه. فإن خرج.. لم تلزمه الكفارة؛ لأنه لا يقدر على الخروج إلا باليمين، فهو كما لو أكرهوه عليها.
والثاني: أنها ليست بيمين إكراه، وهو المشهور؛ لأنه حلفها باختياره، إلا أنها يمين على فعل ما لا يجوز له فعله، فيلزمه الخروج، وإذا خرج.. لزمته كفارة.

[فرع: وعد الأسير المسلم أن يدفع للمشركين مالًا]
وإن أطلقوه على أن ينفذ إليهم من دار الإسلام مالًا اتفقوا عليه، فإن لم ينفذه إليهم.. عاد إليهم، وهل يلزمه إنفاذ المال إليهم إذا وجده؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبُو إسحاق: لا يلزمه؛ لأنه ضمان مال بغير حق، إلا أن المستحب، أن ينفذه إليهم؛ ليكون ذلك طريقًا إلى إطلاق الأسارى.
وقال الشيخ أبُو حامد، وأكثر أصحابنا: يلزمه إنفاذ المال إليهم؛ لأن فيه مصلحة؛ لأنه إذا لم ينفذه إليهم.. لم يثقوا بقول الأسارى في ذلك، فلا يطلقوهم.
والذي يقتضي المذهب: أنه متى أنفذ إليهم المال، إما مستحبًا على قول الشيخ أبي إسحاق، أو واجبًا على قول غيره.. فإنهم لا يملكونه، بل يكون كالذي أخذوه منه قهرًا على ما مَضَى؛ لأنهم أخذوه بغير حق.
وإن لم يقدر على المال الذي شرطوه عليه.. لم يلزمه العود إليهم.
وقال الأَوزَاعِي: (يلزمه العود إليهم) .
دليلنا: أن مقامه في دار الشرك معصية، فلا يلزمه العود إليها.

[فرع: أخذ الأسير مالا من أحد المشركين على أن يرده وماذا لو وكله المشرك]
] : وإن أخذ الأسير مالا من بعض المشركين على أن ينفذ إليهم عوضه من دار

(12/193)


الإسلام.. لزمه أن ينفذ إليهم عوضه؛ لأنه أخذه منهم بعقد، وعقد المسلم مع الكافر صحيح؛ بدليل: أنه لا يصح أن يبتاع منه درهمين بدرهم.
وإن أعطاه المشرك شيئا ليبيعه له في دار الإسلام ويرده عليه.. كان وكيلا ًله، كما لو وكله مسلم على بيع ماله.

[مسألة: في إظهار الله تَعالَى للإسلام]
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: قال الله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] [التوبة: 33] . فاعترض على هذا، وقيل: كيف أخبر الله تَعالَى: أنه يظهر دين الإسلام على الأديان كلها وقد وجدنا الأديان كلها باقية؛ مثل دين اليهود والنصارى والمجوس؟
فأجاب أصحابنا عن ذلك بأربعة أجوبة:
أحدها: أنه أراد إظهار الإسلام بالحجج والبراهين؛ لأنه ما من أحد يتفكر في معجزات النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي أتى بها في حياته.. إلا ويعلم أن دين الإسلام حق، وإن غيره باطل.
والثاني: أنه أراد بالآية إظهار الإسلام في الحجاز دون غيره من البلاد؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث فيه وكانت فيه أديان مختلفة، فأسلم بعضهم، وقتل بعضهم، ودخل تحت الجزية والصغار بعضهم.
والثالث: أن الإسلام قد ظهر على كل دين؛ لأنه ما من دين إلا وقد أثر الإسلام فيه، وإن كان قد بقي منه بقية.
والرابع: أنه أراد بالآية: أنه إذا نزل عيسى ابن مريم؛ لأنه لا يبقى على وجه الدنيا دين غير دين الإسلام؛ بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يوشك أن ينزل عيسى ابن مريم،

(12/194)


فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب» . وهذا موافق لما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» . وإنما يكون ذلك إذا نزل عيسى ابن مريم، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقوله: «زويت لي الأرض» أي: جمعت.
وبالله التوفيق

(12/195)


[باب الأنفال]
واحد الأنفال: نفل، يقال: بتحريك الفاء وسكونها. وإنما سمي بذلك؛ لأنه زائد على السهم الراتب، كما سميت صلاة التطوع نافلة؛ لأنها زائدة على الصلاة الواجبة.
والنفل: أن يعلق الإمام أو الأمير على الجيش استحقاق مال من الغنيمة بفعل يفضي إلى الظفر بالعدو؛ بأن يقول: من دلنا على القلعة الفلانية، أو من فتحها، أو من تقدم في السرية الفلانية.. فله كذا. فإذا فعل رجل ذلك.. استحق ما شرطه له

(12/196)


الإمام؛ لما رَوَى ابن عمر قال: «بعث رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سرية قبل نجد فيها عبد الله بن عمر، فأصابوا إبلًا كثيرة، فبلغت سهامهم اثني عشر بعيرًا، ونفلهم رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بعيرا بعيرًا» .
ورَوَى عبادة بن الصامت: (أن «النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل في البدأة الربع، وفي القفول الثلث» . وروي: «في الرجعة الثلث» . و (القفول) : الرجوع. واختلف تأويل البدأة والرجعة.
فقيل: (البدأة) : هي السرية التي ينفذها الإمام أول ما يدخل بلاد العدو، و (الرجعة) : هي السرية التي ينفذها بعد رجوع الأولى؛ لأن عمل الثانية أشق من عمل الأولى؛ لأن الأولى تدخل والعدو وعلى غفلة، والثانية تدخل والعدو على حذر.
وقيل: (البدأة) : هي السرية التي ينفذها الإمام وقت دخوله بلاد العدو. و (الرجعة) : التي ينفذها بعد رجوعه من بلاد العدو. ولأن حال الأولى أسهل؛ لأن الإمام من ورائهم يعضدهم، والثانية ليس وراءها من يعضدها.
إذا ثبت هذا: فالنفل عندنا غير مقدر، بل هو إلى رأي أمير الجيش، ويختلف باختلاف قلة العمل وكثرته؛ لـ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل في البدأة الربع، وفي الرجعة الثلث» وإنما خالف بينهما؛ لأن العمل فيهما يختلف على ما مَضَى.

(12/197)


[مسألة: مصدر النفل من خمس الخمس من الغنيمة]
النفل مستحق من خمس الخمس؛ لما رُوِيَ عن سعيد بن المسيب أنه قال: كانوا يعطون النفل من الخمس، ومعناه: من خمس الخمس. ولأنه مال يدفع لمصلحة المسلمين، فأشبه ما يصرف في المساجد والقناطر.
وما رُوِيَ في الخبر: (أنه نفل في البدأة الربع، وفي القفول الثلث) .. فله تأويلان:
أحدهما: أنه شرط لكل واحد منهم قدر ربع سهمه الذي يصيبه في البدأة، وقدر ثلث سهمه الذي يصيبه في القفول.
والثاني ـ وعليه أكثر أهل العلم ـ: أنه جعل لهم في البدأة قدر ربع ما يغنمون بعد الخمس، وقدر ثلث ذلك في القفول، ويخرجه في الحالين من الخمس؛ لما رُوِيَ عن رجل من فهر: أنه قال: «شهدت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نفل في البدأة الربع، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس» .
فإن قيل: قد رُوِيَ عن ابن عمر: أنه قال: «كنت في سرية فنفلهم رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بعيرًا بعيرًا، وبلغت سهامهم اثني عشر بعيرًا» ، وهذا أكثر من خمس الخمس؟.
قلنا: فيه تأويلان:
أحدهما: أنه كان في الغنيمة غير الإبل، فخرجت الإبل التي صرفها في النفل من خمس خمس تلك الغنيمة.
والثاني: أن الإبل التي صرفها في النفل.. لم تكن تخرج من خمس تلك الغنيمة، وإنما تممها رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من سهم المصالح في بيت المال، وللإمام أن يفعل ذلك. وأمَّا دفع رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في هذا النفل بعيرًا بعيرًا.. فله تأويلان أيضًا:

(12/198)


أحدهما: أنه كان قد شرط لهم بعيرًا بعيرًا.
والثاني: أنه كان قد شرط لهم نصف سدس سهامهم، فبلغ سهم كل واحد منهم اثني عشر بعيرًا، وكان نصف سدس سهمه بعيرًا.

[مسألة: جعل الإمام جارية لمن دله على قلعة فدله واحد]
إذا قال: الإمام أو الأمير على الجيش: من دلنا على القلعة الفلانية فله منها الجارية الفلانية وسماها، أو قال له منها جارية ولم يسمها.. فإن ذلك جعالة صحيحة؛ لما رَوَى عدي بن حاتم: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كأني بالحيرة قد فتحت" فقال رجل: يا رسول الله، هب لي جارية منها، فقال: "قد فعلت"، فلما فتحت الحيرة بعد رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أعطي ذلك الرجل جارية منها، فقال له أبوها: بعنيها بألف درهم، فقال: نعم، فقيل له: لو طلبت بها ثلاثين ألفًا لأعطاك، فقال: وهل عدد أكثر من ألف؟!!» فلما وهب له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها جارية مجهولة لا يملكها؛ لأنها من المشركين.. جاز عقد الجعالة عليها.
وروي: (أن أبا موسى الأشعري عاقد دهقانًا على أن يفتح له قلعة على أن يختار أربعين نفسًا منها، فلما فتحها لهم.. كان يختار، وأبو موسى يقول: اللهم أنسه نفسه، فلما اختار الأربعين ولم يختر نفسه.. أخذه أبُو موسى فقتله) . ولا مخالف له في الصحابة.

(12/199)


فإن قيل: كيف صحت هذه الجعالة بمال لا يملكه الباذل وهو مجهول أيضًا؟
فالجواب: أن الجعالة إنما تفتقر إلى عوض معلوم يملكه الباذل، إذا عقد ذلك في أموال المسلمين، فأما إذا عقد في أموال المشركين.. فيصح أن يكون العوض مجهولًا لا يملكه الباذل، كما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل في البدأة الربع، وفي القفول الثلث» ، وإنما يأخذونه من خمس الخمس وإن كان غير مملوك وقت العقد ولا معلوم.
قال أصحابنا البغداديون: ولا فرق بين أن يكون الدليل مسلمًا أو كافرًا.
وقال الخراسانيون: إن كان الدليل مسلمًا.. فهل يصح هذا العقد معه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن الشافعي، إنما نص فيها على دلالة العلج، و (العلج) : لا يكون إلا كافرًا. ولأنه عقد فيه نوع غرر فلم يجز مع المسلمين، كسائر العقود.
والثاني: يصح، وهو المشهور؛ لأنه عقد جعالة يصح مع الكافر فصح مع المسلم، كالجعالة على رد الآبق. وإنما نص الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على دلالة العلج؛ لأنه هو الذي يعرف طرقهم في الغالب.
إذا ثبت هذا، فدلهم رجل على هذه القلعة.. فينظر فيه: فإن لم تفتح القلعة.. لم يستحق الدليل شيئًا.
ومن أصحابنا من قال: يرضخ له لدلالته. وليس بشيء؛ لأنه لما قال: من دلنا على القلعة الفلانية فله جارية منها.. فالظاهر أنه جعل له الجارية بشرطين: الدلالة والفتح، فإذا لم يوجد أحدهما.. لم يستحق شيئًا.
وإن فتحت القلعة.. نظرت: فإن فتحت عنوة وكان الشرط على جارية معلومة وهي فيها، أو كان الشرط على جارية مجهولة وليس في القلعة غير جارية واحدة، فإن

(12/200)


كانت الجارية كافرة.. سلمت إلى الدليل، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، ولا يستحق أهل الخمس ولا الغانمون منها شيئًا؛ لأن الدليل استحقها بسبب سابق، وسواء كانت حرة أو أمة للمشركين. وإن أسلمت الجارية الحرة قبل أسرها.. لم تسلم إلى الدليل سواء كان مسلمًا أو كافرًا؛ لأن إسلامها قبل أسرها يمنع من استرقاقها.
قال أبُو العباس: وفيها قول آخر: أنها تسلم إلى الدليل؛ لأنه قد استحقها قبل إسلامها. وليس بشيء.
فإذا قلنا: لا تسلم إليه. فهل يستحق الدليل شيئًا؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يستحق شيئًا؛ لأنها صارت كالمعدومة.
والثاني ـ وهو قول أصحابنا البغداديين، وهو الأصح ـ: أنه يستحق قيمتها؛ لأن الشَّرع لما منع استرقاقها لإسلامها.. أوجب دفع قيمتها، كما: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صالح أهل مكة على أن يرد إليهم من جاءه من المسلمات ومنعه الله تَعالَى من ردهن.. أمره برد مهورهن إليهم) .
وإن أسلمت بعد ما أسرت، فإن كان الدليل مسلما ً.. سلمت إليه. وإن كان كافرًا.
فإن قلنا: يصح شراء الكافر للجارية المسلمة.. سلمت إليه، وأجبر على إزالة ملكه عنها.
وإن قلنا: لا يصح شراؤه لها.. لم تسلم إليه، وسَلَّم إليه قيمتها، وقسمت بين الغانمين.
فإن فتحت عنوة، وكانت الجارية قد ماتت.. ففيه قولان:
أحدهما: أن للدليل قيمتها؛ لأن تسليمها قد تعذر بموتها، فوجبت له قيمتها كما لو أسلمت.

(12/201)


والثاني: لا يجب له قيمتها؛ لأنه إنما استحقها بعينها، فإذا ماتت.. لم يستحق شيئًا، كما لو قال من رد عبدي الآبق فله هذا العبد.. فمات العبد المبذول.
هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: إن ماتت قبل الظفر بها.. لم يستحق الدليل شيئًا. وإن ماتت بعد الظفر بها، وأرادوا قبل تسليمها إليه.. فهل يستحق قيمتها؟ فيه قولان.
وإن لم يكن في القلعة من المال غير الجارية.. ففيه وجهان، حكاهما المسعوديُّ [في " الإبانة "] :
أحدهما: تسلم إلى الدليل للشرط السابق.
والثاني: لا تسلم إليه؛ لأن هذا تنفيل، ولا يجوز للإمام أن ينفل جميع الغنيمة، وهذه الجارية جميع الغنيمة.
وإن فتحت القلعة صلحًا.. نظرت: فإن شرط على أن يكون جميع ما فيها لنا، أو كان الصلح على أن ما في القلعة لأهلها إلا الجارية.. فهو كما لو فتحت القلعة عنوة.
وإن كان على أن لصاحب القلعة أهله وعشيرته أو من يختاره منها، وكانت الجارية من أهله وعشيرته أو ممن اختاره.. قال الشيخ أبُو حامد: فإن أبا إسحاق قال الصلح صحيح والجعالة صحيحة، ثم يقال للدليل: هذه الجارية التي جعلناها لك قد صالحنا عليها، أفترضى بقيمتها؟ فإن رضي بقيمتها.. دفعت إليه القيمة وأمضينا الصلح. وإن لم يرض إلا بالجارية.. قيل لصاحب القلعة: صالحناك على ما جعلناه لغيرك، أفتسلم الجارية ونعطيك قيمتها؟ فإن سلمها.. سلمت إلى الدليل، ودفع إلى صاحب القلعة قيمتها، وأمضينا الصلح. وإن لم يسلمها صاحب القلعة.. قيل له: صالحناك على شيء ولا يمكن الوفاء به، فترد عليك ونتركك حتى تمتنع كما كنت، وتصير حربًا لنا.

(12/202)


وأمَّا الشيخ أبُو إسحاق: فحكى فيها وجهين:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق المَروَزِيُّ ـ: أن الجارية للدليل، وشرطها في الصلح لا يصح.
والثاني: شرطها في الصلح صحيح؛ لأن الدليل لو عفا عنها.. أمضي الصلح ولو كان العقد فاسدا ً.. لافتقر إلى عقد آخر.

[فرع: جعل الأمير جارية لمن دل على موقع فدله جماعة]
إذا قال الأمير: من دلنا على القلعة.. فله منها جارية، فدله عليها اثنان أو ثلاثة أو أكثر.. استحقوا الجارية، كما قلنا في رد العبد الآبق.

[فرع: شرط الإمام بأن من أخذ شيئًا فهو له]
قال في " الأم ": (إذا قال الإمام قبل التقاء الفريقين: من أخذ شيئًا.. فهو له بعد الخمس.. فذهب بعض الناس إلى جوازه؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم بدر: «من أخذ شيئًا فهو له» قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وهذا الحديث لا يثبت،

(12/203)


والصحيح في السنة: أنه يقسم الخمس لأهل الخمس وأربعة أخماسها للغانمين، ولو قال قائل بذلك.. كان مذهبًا) ، فأومأ فيه إلى قولين:
أحدهما: يكون على ما شرطه الإمام ـ وبه قال أبو حَنِيفَة ـ لما ذكرناه من الخبر يوم بدر.
والثاني: لا يصح شرط الإمام في ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغنيمة لمن شهد الوقعة» ، وهذا يقتضي: اشتراكهم فيها من غير تخصيص، وهو قول النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في يوم بدر؛ لأن الغنائم كلها كانت له يومئذ برمتها.
وبالله التوفيق

(12/204)


[باب قسم الغنيمة]
الغنيمة: ما أخذه المسلمون من أهل الحرب بالقهر. وكانت الغنيمة محظورة في شرع من قبلنا، تنزل نار من السماء فتحرقها. وكانت في شرعنا في أول الإسلام للنبي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] [الأنفال: 1] الآية. ثم نسخت هذه الآية بقوله تَعالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية.

(12/205)


فإذا قهر الجيش الذي مع الإمام، أو الجيش الذي خرج بإذنه أهل الحرب على شيء.. نظر فيه: فإن كان مما ينقل، كالدراهم والدنانير وما أشبههما، فإن كان فيه مال للمسلم.. دفعه إليه. وإن كان فيه سلب لقاتل.. دفعه إليه ـ على ما مَضَى ـ ثم يدفع من الباقي أجرة النقال والحافظ؛ لأنه مصلحة للغانمين. ثم يدفع الرضخ من الباقي إذا قلنا: يرضخ من رأس الغنيمة. وما بقي.. قسم على خمسة أسهم: سهم لأهل الخمس، والباقي للغانمين على ما يأتي بيانه إن شاء الله عز وجل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية. فأضاف الغنيمة إلى الغانمين، ثم قطع الخمس لأهله، فكان الظاهر أن ما بقي بعد الخمس على مقتضى الإضافة.
وإن كانت الغنيمة مما لا ينقل، كالأرض والدور.. فمذهبنا: أن الحكم فيها كالحكم فيما ينقل. وبه قال الزبير وبلال.
وقال عمر، ومعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وسفيان الثوريُّ، وابن المبارك: (الإمام فيها بالخيار: إن شاء قسمها كما قلنا، وإن شاء وقفها على المسلمين) .
وقال أبو حَنِيفَة وأصحابه: (الإمام فيها بالخيار: إن شاء قسمها بين الغانمين، وإن شاء وقفها على المسلمين، وإن شاء أقرها في أيدي أهلها وضرب عليهم الخراج على وجه الجزية، وإذا أسلموا.. لم يسقط عنهم ذلك، ويجوز أن يخرج عنها أهلها ويسكنها قومًا آخرين ويضرب عليهم الخراج) .
وقال مالك: (تصير وقفًا على المسلمين بنفس الفتح) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية، ولم يفرق بين ما ينقل وما لا ينقل.

(12/206)


[مسألة: ما يغنم بغير إذن الإمام]
وإن غزت سرية من المسلمين دار الحرب بغير إذن الإمام فغنمت مالًا.. فإنه يخمس.
وحكى الشيخ أبُو حامد: أن من أصحابنا من قال لا يخمس. وليس بشيء.
وقال أبو حَنِيفَة: (إن كانت لهم منعة.. خمس. وإن لم تكن لهم منعة.. لم يخمس) .
وقال أبُو يوسف: إن كانوا تسعة أو أكثر.. خمس. فإن كانوا أقل.. لم يخمس. وقال الحَسَن البَصرِيّ: يؤخذ منهم جميع ما غنموه عقوبة لهم؛ حيث غزوا بغير إذن الإمام.
وقال الأَوزَاعِي: (الإمام بالخيار: بين أن يخمسه وبين أن لا يخمسه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية، ولم يفرق بين أن يغزوا بإذن الإمام أو بغير إذنه. ولأنه مال مأخوذ من حربي بالقهر فكان غنيمة، كما لو غزوا بإذن الإمام.

[فرع: شروط تملك الغنيمة]
ومكان تقسيمها على الغانمين] : وإذا غنم المسلمون من المشركين مالًا وحازوه وانقضى القتال.. فإنهم لا يملكونه بذلك، وإنما ملكوا أن يملكوه، ولا يملك أحد منهم سهمه إلا بأن يختار التملك، أو بأن يقسم له الإمام سهمه ويسلمه إليه ويقبله.

(12/207)


فإن كان الإمام والجيش في دار الحرب بعد انقضاء القتال وحيازة الغنيمة.. نظرت:
فإن كان هناك عذر يدعو إلى تأخير قسمة الغنيمة إلى أن يخرجوا إلى دار الإسلام؛ بأن كانوا يخافون كرة المشركين عليهم عند اشتغالهم بالقسمة، أو كانوا في موضع قليل العلف أو الماء مع حاجتهم إليه.. لم يكره تأخير القسمة إلى أن يزول العذر، أو إلى الخروج إلى دار الإسلام.
وإن لم يكن هناك عذر يدعو إلى تأخير القسمة.. قسم الإمام الغنيمة، ويكره له تأخيرها إلى الخروج إلى دار الإسلام.
وقال أبو حَنِيفَة: (يكره له قسمة الغنيمة في دار الحرب مع التمكن من القسمة فيها، فإن قسمها هناك.. صحت القسمة، إلا أن يحتاج الغانمون إلى شيء من الغنيمة مثل الثياب وغيرها.. فلا تكره قسمتها في دار الحرب) .
دليلنا: ما روي: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم غنائم بدر في شعب من شعاب الصفراء قريب من بدر) ، وبدر كانت دار شرك؛ لأنه قريب من مكة.
وروي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم غنائم بني المصطلق على مياههم» و: «غنائم

(12/208)


هوازن في ديارهم، وغنائم حنين في أوطاس» ، وهو واد من حنين ولم يزل الخلفاء بعده يقسمون الغنائم حيث يأخذونها.

[مسألة: تقسيم الأربعة الأخماس]
وإذا أخرج الإمام خمس الغنيمة لأهل الخمس.. فإنه يقسم الأربعة الأخماس الباقية بين الغانمين، وينظر فيهم: فإن كانوا فرسانًا كلهم أو رجالة كلهم.. قسمها بينهم بالسوية؛ لأن الله تَعالَى أضاف أربعة أخماس الغنيمة إلى الغانمين، والإضافة تقتضي التسوية.
وإن كان بعضهم فرسانًا وبعضهم رجالة.. فإنه يقسم للفارس ثلاثة أسهم؛ سهمًا له وسهمين لفرسه، وللراجل سهمًا. وبه قال من الصحابة: عمر وعلي، ومن التابعين: الحَسَن، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، ومن الفقهاء: مالك وأهل المدينة، والأَوزَاعِي، وأهل الشام، والليث، وأبو يوسف، ومحمد، وأكثر أهل العلم.

(12/209)


وقال أبو حَنِيفَة وحده: (يقسم للفارس سهمين؛ سهمًا له وسهمًا لفرسه، وللراجل سهمًا، وقال: لا أفضل بهيمة على مسلم) .
دليلنا: ما رَوَى ابن عمر وابن عبَّاس: (أن «النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم للفارس ثلاثة أسهم؛ سهمًا له، وسهمين لفرسه» وهذا نص. ورُوِي: (أن الزبير بن العوام كان يضرب في المغنم بأربعة أسهم: سهم له وسهمين لفرسه، وسهم لأمه صفية؛ لأنها من ذوي القربى) . ولأن السهم إنما يستحق بما يلزم من المؤنة والتأثير في القتال، ومؤنة الفرس أكثر من مؤنة الفارس، وتأثيره في القتال أكثر، فيجب أن يزيد سهمه على سهمه.
وأمَّا قوله: (لا أفضل بهيمة على مسلم) فيقال له: فلا تساو بينهما! فلما جازت المساواة بينهما.. جازت المفاضلة بينهما.

[فرع: مصرف الأربعة الأخماس]
ولا يجوز أن يصرف الإمام شيئًا من أربعة أخماس الغنيمة إلى غير الغانمين، ولا يفضل فارسًا على فارس، ولا راجلًا على راجل، ولا يفضل من قاتل على من لم يقاتل.

(12/210)


وقال أبو حَنِيفَة: (يجوز أن يصرف منها شيئًا إلى غير الغانمين) .
وقال مالك: (يجوز أن يصرف شيئًا منها إلى غير الغانمين، ويجوز تفضيل بعضهم على بعض) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية. فأضاف الغنيمة إلى الغانمين بلام التمليك، ثم قطع الخمس منها لأهل الخمس، فدلَّ على: أن الباقي لهم. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغنيمة لمن شهد الوقعة» فدلَّ على: أنه لا شيء لغيرهم فيها إلا ما خصه الدليل، ولم يفرق بين من قاتل ومن لم يقاتل. ولأن من لم يقاتل.. فقد أرصد نفسه للقتال ويحصل به الإرهاب، فهو كالمقاتل.

[فرع: الإسهام للخيل]
ولا يسهم لمركوب غير الخيل، وهو إجماع؛ ولأن غير الخيل لا يغني غناء الخيل ولا يسد مسدها في القتال، فلم يلحق بها في السهم.
ويسهم للفرس العربي: وهو الذي أبواه من الخيل العراب، ويسمى: العتيق. ويسهم للبرذون: وهو الفرس الذي أبواه نبطيان، وللهجين: وهو الذي أبوه عربي وأمه نبطية، وللمقرف: وهو الذي أبوه نبطي وأمه عربية. وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة.
وحكى المسعوديُّ [في " الإبانة " ق \ 454] قولًا آخر: أنه لا يسهم للبرذون والهجين الذي لا يصلح للكر والفر، كالبغل. والأول هو المشهور.
وقال الأَوزَاعِي: (لا يسهم للبرذون، ويسهم للهجين سهمًا واحدًا) .
وقال أحمد: (يسهم للعربي سهمين، ولغيره سهمًا واحدًا) وهي إحدَى الروايتين عن أبي يوسف والأخرى كقولنا.

(12/211)


دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» وأراد به الغنيمة، ولم يفرق. ولأنه حيوان يسهم له، فلم يختلف باختلاف أنواعه، كالرجل.
فإن نفل الإمام رجلا حضر الحرب بفرس حطم: وهو الذي قد تكسر وضعف، أو بفرس قحم: وهو الهرم، أو بفرس ضرع: وهو الصغير الذي لم يبلغ مبلغ القتال عليه، أو بفرس أعجف: وهو المتناهي في الهزال.. فقد قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (قد قيل: لا يسهم له، وقيل: يسهم) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يسهم له؛ لأنه حيوان يسهم له، فلم يسقط سهمه لضعفه وكبره، كالرجل.

(12/212)


والثاني: لا يسهم له؛ لأن القصد من الفرس القتال عليه، فإذا لم يمكن القتال عليه كان كالبغل.
وقال أبُو إسحاق المَروَزِيُّ: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فحيث قال: (يسهم له) إذا كان يمكن القتال عليه مع ضعفه. وحيث قال: (لا يسهم له) إذا كان لا يمكن القتال عليه بحال.

[فرع: لا يسهم إلا لفرس واحد]
عندنا] : وإذا حضر الرجل بفرسين أو أكثر.. فإنه لا يسهم له إلا لفرس واحد، وهو قول كافة العلماء، إلا الأَوزَاعِي وأحمد، فإنهما قالا: (يسهم له لفرسين، ولا يسهم له لأكثر) .
دليلنا: ما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حضر في بعض غزواته بثلاثة أفراس، فلم يأخذ السهم إلا لفرس واحد» وروي: «أن الزبير حضر يوم حنين بأفراس، فلم يسهم له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلا لفرس واحد» ، ولأنه لا يقاتل إلا على واحد، وما زاد عليه يحمل للزينة، فلم يستحق السهم إلا لواحد.

(12/213)


وقال في " الأم ": (وإن كان القتال في الماء أو على حصن، فحضر رجل بفرس.. أسهم له وإن لم يحتج إلى الفرس للقتال عليه؛ لأنه ربما ينزل الناس من الحصن أو يخرجون من الماء، فيحتاج إلى القتال على الفرس) .

[فرع: اغتصب أو استعار أو اكترى فرسًا للقتال]
] : وإن غصب فرسًا وحضر به القتال.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: يسهم للفرس وجهًا واحدًا، ولكن من يستحقه؟ فيه وجهان:
أحدهما: الغاصب.
والثاني: المغصوب منه.
بناء على القولين فيمن غصب من رجل دراهم، فابتاع به شيئًا في ذمته، ثم نقد الدراهم في الثمن، ثم باع ما اشتراه وربح.. فمن يستحق الربح؟ فيه قولان.
وقال القاضي أبُو الطيب: هل يسهم للفرس هاهنا؟ فيه وجهان:
وإن استعار فرسًا أو اكتراه وحضر به القتال.. أسهم له واستحقه المستعير والمكتري؛ لأنه ملك القتال عليه فملك السهم عليه، كما لو حضر بفرس يملكه.

[فرع: دخول المقاتل دار الحرب بفرس ثم نفق أو غار أو بدون فرس]
وإن دخل رجل دار الحرب بفرس فنفق الفرس ـ أي مات ـ أو وهبه لغيره أو باعه، فإن كان قبل انقضاء الحرب.. لم يسهم له لفرسه.
وحكى القفال عن الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أنه يسهم له إذا نفق) . والمشهور هو الأول.
فإن دخل دار الحرب ولا فرس معه، ثم اشترى فرسًا، أو اتَّهَبَهُ، أو استأجره، أو استعاره وحضر به القتال فانقضت الحرب وهو معه.. أسهم له ولفرسه.
وقال أبو حَنِيفَة: (الاعتبار بدخوله دار الحرب، فمتى دخل دار الحرب، وهو فارس ثم نفق فرسه أو باعه أو وهبه وما أشبهه.. أسهم له ولفرسه، وإن دخل دار

(12/214)


الحرب ولا فرس معه، ثم حصل له فرس.. لم يسهم له للفرس) .
دليلنا: على الفعل الأول: أن فرسه نفق قبل انقضاء الحرب، فلم يسهم له لفرسه، كما لو كان القتال في دار الإسلام وعلى الفعل الثاني: أن فرسه وجد عند انقضاء الحرب، فاستحق السهم له، كما لو دخل دار الحرب فارسًا.
وإن حضر القتال بفرس، ثم غار فرسه ولم يجده إلا بعد تقضي الحرب.. لم يسهم له.
ومن أصحابنا من قال: يسهم له؛ لأنه خرج عن يده بغير اختياره.
والمذهب الأول؛ لأن خروج الفرس من يده قبل انقضاء القتال يسقط سهمه وإن كان بغير اختياره، كما لو نفق.

[فرع: حضر الوقعة فمرض أو مات أو فر من القتال]
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إذا حضر القتال ثم مرض.. أسهم له) . واختلف أصحابنا البغداديون فيه: فقال أكثرهم: إن كان مرضًا قليلا ً، كالحمى الخفيفة والصداع اليسير وما أشبههما مما لا يمنعه القتال.. أسهم له؛ لأن ذلك لا يمنعه عن القتال، وإن كان مرضًا كثيرًا، كالزمانة وقطع اليدين والرجلين.. لم يسهم له؛ لأنه ليس من أهل القتال.
وقال الخراسانيون: إن كان مرضًا يرجى زواله.. استحق السهم وإن لم يقاتل وإن كان مرضًا لا يرجى زواله.. ففيه قولان:

(12/215)


أحدهما: لا يسهم له لأنه خرج عن أن يكون من أهل القتال.
والثاني: يسهم له؛ لأنه في الجملة من أهل القتال، إلا أنه عرض له عارض، فهو كالمرض الذي يرجى زواله.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة " ق \ 453] : فإن مات رجل من المجاهدين، أو قتل في حال القتال، أو قبل انقضاء القتال.. لم يرث ورثته سهمه، وبطل حقه. وإن مات بعد انقضاء القتال.. ورث ورثته سهمه. وإن فر غير متحرف للقتال ولا متحيز إلى فئة.. لم يستحق السهم، فإن عاد قبل انقضاء القتال.. استحق السهم. وإن فر متحرفًا للقتال أو متحيزًا إلى فئة.. لم يسقط سهمه وإن لم يقاتل؛ لأنه مشغول بأمر القتال.
ولو قيل له: فررت لغير التحرف والتحيز، وقال: بل فررت متحيزًا أو متحرفًا.. فالقول قوله؛ لأنه أعلم بحال نفسه.

[فرع: إسقاط حق الغانم أو هبته أو بيعه]
قال ابن الصبَّاغ: لو قال بعض الغانمين قبل القسمة: أسقطت حقي من الغنيمة: سقط حقه؛ لأن حقه لم يستقر.
وإن قال: وهبت نصيبي من الغانمين.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبُو إسحاق: يصح، ويكون ذلك إسقاطًا لحقه؛ لأن الإسقاط يصح بلفظ الهبة.
وقال أبُو عليّ بن أبي هُرَيرَة: إن أراد به الإسقاط.. سقط به حقه. وإن أراد به التمليك والهبة.. لم يصح؛ لأن حقه مجهول ولم يستقر ملكه عليه.

(12/216)


والأول أصح؛ لأن الملك لم يحصل له، وإنما له حق التملك، فانصرفت الهبة إلى إسقاطه.
وإن باع حقه من الغنيمة قبل القسمة، فإن كان قد اختار التملك، وكان معلومًا صح البيع. وإن لم يختر التملك.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبُو إسحاق: يصح البيع إذا كان معلومًا؛ لأنه ملك حقه بالحيازة.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال لا يصح؛ لأن ملكه لم يستقر عليه.

[مسألة: لا يقسم لمخذل أو ناقل الأخبار]
ويقسم لمن حضر بغير إذن والديه أو غريمه وماذا لو كان كافرًا؟] : وإن حضر القتال مخذل، أو مرجف، أو من يعاون المشركين بالمكاتبة وحمل الأخبار.. لم يسهم له ولم يرضخ له؛ لأن السهم والرضخ للمقاتلة أو لمن يعينهم، وهؤلاء ليسوا من المقاتلة ولا ممن يعينهم، بل الضرر في حضورهم.
وإن حضر رجل القتال بغير إذن والديه، أو من عليه دين فحضر بغير إذن الغريم.. استحق السهم.
والفرق بينه وبين المخذل والمرجف: أن المعصية في حضور المخذل والمرجف تؤثر في الجهاد فهي كالمعصية بالصلاة في الثوب النجس، والمعصية بحضور الولد ومن عليه دين بغير إذن غريمه لا يؤثر في الجهاد، فهو كالمعصية في الصلاة في الدار المغصوبة.

(12/217)


وإن حضر مشرك مع المسلمين في القتال بغير إذن الإمام.. لم يسهم له، ولم يرضخ له؛ لأن ضرره أعظم من ضرر المخذل والمرجف بالمسلمين. وإن حضر بإذن الإمام.. رضخ له ولم يسهم له، وهو قول كافة العلماء، إلا الأَوزَاعِي؛ فإنه قال: (يسهم له) .
دليلنا: ما رَوَى ابن عبَّاس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بيهودي من بني قينقاع في بعض غزواته.. فرضخ له ولم يسهم له» .
وإن دخل أهل الكتاب دار الحرب وغنموا منه.. فقال أبُو إسحاق المَروَزِيُّ: ينظر فيه: فإن كان الإمام أذن لهم في الدخول إلى دار الحرب.. كان الحكم فيما غنموا على ما شرط لهم منه، وإن لم يأذن لهم في الدخول.. احتمل وجهين:
أحدهما: يرضخ لهم منه وينزع الباقي؛ لأنهم لا يستحقون السهم من الغنيمة.
والثاني: يقرون عليه ولا يخمس، ولا ينزع منهم، وهو المنصوص، كما إذا غلب المشركون على مال بعضهم وأخذوه في دار الحرب.

[فرع: حضور العبد أو النساء أو الصبيان القتال]
] : وإن حضر العبد القتال.. لم يسهم له، وإنما يرضخ له، سواء قاتل بإذن مولاه أو بغير إذنه، لما رَوَى عمير مولى آبي اللحم قال: «غزوت مع رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنا عبد مملوك، فلما فتح الله على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خيبر.. قلت: يا رسول الله، سهمي؟ فلم يضرب لي سهمًا، وأعطاني سيفًا» وقال ابن عبَّاس: (العبد يرضخ له ولا يسهم

(12/218)


له) . ولا مخالف له في ذلك من الصحابة. ولأنه ليس من أهل القتال؛ ولهذا: لو حضر الصف.. لم يتعين عليه القتال.
وإن حضر صبيان المسلمين أو نساؤهم القتال.. رضخ لهم ولم يسهم لهم. وهو قول كافة العلماء إلا الأَوزَاعِي، فإنه قال: (يسهم للنساء والصبيان) .
دليلنا: أن نجدة الحروري كتب إلى ابن عبَّاس: هل كان رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يحمل النساء إلى الجهاد، وهل كان يسهم لهن؟ فكتب إليه ابن عبَّاس: (كان رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يحملهن معه ليسقين الماء ويداوين الجرحى، وكان لا يسهم لهن، بل كان يرضخ لهن) ولأن السهم للمقاتلة، والنساء والصبيان ليسوا من المقاتلة، بدليل أنهم لو حضروا الصف.. لم يتعين عليهم القتال، فلم يستحقوا السهم وإن حضروا، كالعبيد والكفار.
وإن خرج نساء أهل الذمة مع الإمام بإذنه.. فهل يرضخ لهن؟ فيه وجهان حكاهما المسعوديُّ [في " الإبانة "] :
أحدهما: يرضخ لهن، كنساء المسلمين.

(12/219)


والثاني: لا يرضخ لهن؛ لأنهن لا قتال فيهن ولا بركة بحضورهن، بخلاف نساء المسلمين؛ فإنه يتبرك بدعائهن إذا حضرن.
وإن دخل العبيد، أو النساء، أو الصبيان إلى دار الحرب منفردين وغنموا.. ففيه ستة أوجه:
أحدها: أنه يخمس، ويقسم الإمام الباقي بينهم على ما يراه من المفاضلة، كما يقسم الرضخ بينهم.
والثاني: يخمس، ويقسم الباقي بينهم بالسوية، كما لو غنمت الرجالة من الرجال.
والثالث: يرضخ لهم منه، ويرد الباقي إلى بيت المال؛ لأنه لا حق لهم إلا الرضخ.
والرابع: يخمس هذا المال، ويرضخ لهم من الباقي، ثم يرد الباقي إلى بيت المال؛ لما ذكرناه في الذي قبله.
والخامس: يخمس، ويقسم الباقي بينهم: للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم، كما لو كانوا رجالًا بالغين أحرارًا.
والسادس: أنه لا يحكم لهذا المال بحكم الغنيمة، بل حكمه حكم المسروق، فيكون كله لهم وقتالهم كلا قتال.

[مسألة: مصدر الرضخ ومقداره]
ومن أين يخرج الرضخ؟
من أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أوجه، ومنهم من قال: هي أقوال للشافعي:
أحدها أنه يخرج من أصل الغنيمة؛ لأن في أهل الرضخ مصلحة للغانمين، فكان ما يستحقونه من أصل الغنيمة، كأجرة الحافظ والنقال.
والثاني: أنه يخرج من أربعة أخماس الغنيمة؛ لأنه يستحقه بالحضور، فهو كسهم الفارس والراجل.

(12/220)


والثالث: أنه يخرج من خمس الخمس؛ لأن أربعة أخماس الغنيمة لأهلها، وإنما يرضخ لأهل الرضخ للمصلحة، فكان من سهم المصالح.
ومن أصحابنا من قال: هذا القول يختص بأهل الذمة؛ لأنهم ليسوا من أهل الجهاد.
إذا ثبت هذا: فإن الرضخ غير مقدر، بل هو موكول إلى اجتهاد الإمام، ويختلف باختلاف قلة العمل وكثرته.
قال الشيخ أبُو إسحاق: ولا يبلغ به سهم راجل؛ لأنه تابع لمن له سهم فنقص عنه، كالحكومة لا يبلغ بها أرش العضو.

[مسألة: خروج الأجير مع المقاتلين]
وإن خرج مع المقاتلين أجير.. نظرت: فإن كانت إجارته على عمل في الذمة وحضر القتال.. فإنه يسهم له؛ لأن العمل في ذمته، فلا يمنع استحقاق السهم إذا حضر القتال، كما لو كان عليه دين في ذمته. وإن كانت الإجارة على مدة بعينها، فحضر الأجير للقتال في تلك المدة.. ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يستحق الأجرة، ويسهم له؛ لأن الأجرة مستحقة بالتمكين من العمل، والسهم مستحق بالحضور، وقد وجد الجميع.
والثاني: لا يسهم له، بل يرضخ له، ويستحق الأجرة مع الرضخ؛ لأن منفعته مستحقة لغيره وقت القتال، فلم يستحق السهم، كالعبد.
والثالث: يخير الأجير: بين السهم والأجرة. فإن اختار السهم.. استحقه وسقطت الأجرة. وإن اختار الأجرة.. استحقها ولم يسهم له، بل يرضخ له؛ لأن منفعته في ذلك الوقت واحدة فلا يستحق بها حقين، هذا قول أكثر أصحابنا.
وقال أبُو عليّ الطبري: القول في تخيير الأجير إنما يأتي في الإمام إذا استأجر من سهم الغزاة من الصدقات أجيرًا للغزاة لحفظ دوابهم وما أشبهه.. فإن الإمام يخيره؛ ليوفر سهمه أو أجرته على الغزاة، فأما إذا كان الأجير لواحد

(12/221)


بعينه.. فلا معنى لتخييره؛ لأنه لا معنى لتوفير الأجرة عليه ودفع السهم من نصيب الغانمين وإنما يكون فيه القولان الأولان.
ومن أصحابنا من قال لم يرد الشافعي بما ذكره من التخيير للأجير في الحقيقة، وإنما أراد المجاهدين الذين يغزون إذا نشطوا؛ فإنهم إذا حضروا.. يقول لهم الإمام: أنتم بالخيار: بين أن تأخذوا كفايتكم من الصدقات، وبين أن تأخذوا السهم من الغنيمة.
والأصح هو الطريق الأول:
فإذا قلنا: يخير.. فإن أصحابنا البغداديين قالوا: يخير قبل القتال وبعده. فأما قبل القتال: فيقال له: إن أردت الجهاد.. فاقصده واطرح الأجرة. وإن أردت الأجرة.. فاطرح الجهاد. ويقال له بعد القتال: إن كنت قصدت الجهاد.. أسهم لك وتركت الأجرة، وإن كنت قصدت الخدمة.. أعطيت الأجرة دون السهم. وإنما تسقط الأجرة إذا اختار السهم في الحالة التي حضر فيها القتال وترك خدمة المستأجر، فأما قبل ذلك.. فإنه يستحق الأجرة؛ لأنه قد وجد منه التمكين من العمل فيها.
وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا اختار السهم واطرح الأجرة.. فمن أي وقت تطرح؟ فيه وجهان:
أحدهما: من حين دخوله دار الحرب؛ لأنه يصير مجاهدًا بنفس دخوله دار الحرب.
والثاني: من حين حضوره الوقعة؛ لأن ذلك حقيقة القتال.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وهذا إذا حضر وقاتل، فأما إذا لم يقاتل.. فإنه لا يسهم له قولا ًواحدًا.

(12/222)


[فرع: حضور التجار في المعركة]
] : وإن كان مع المجاهدين تجار، فانقضى القتال وهم معهم.. فهل يسهم لهم؟ فيه قولان:
أحدهما: يسهم لهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغنيمة لمن شهد الوقعة» ، وقد شهدوها.
والثاني: لا يسهم لهم؛ لأن السهم إنما يستحقه المجاهدون، وهؤلاء لم يقصدوا الجهاد، وإنما قصدوا التجارة.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا حضروا ولم يقاتلوا، فأما إذا حضروا وقاتلوا.. فإنه يسهم لهم قولًا واحدًا؛ لأن الجهاد هو القتال، وقد وجد منهم.
ومنهم من قال: القولان إذا حضروا وقاتلوا، فأما إذا لم يقاتلوا.. فإنه لا يسهم لهم قولًا واحدًا؛ لأنهم وإن قاتلوا.. فلم يقصدوا الجهاد عند دخول دار الحرب.
ومن أصحابنا من قال: القولان في الحالين، سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا.

[مسألة: انفلات الأسير من المشركين ولحوقه بجيش المسلمين]
أو حصول مدد لهم] :
إذا انفلت أسير من المشركين فلحق بجيش المسلمين، أو لحق بجيش المسلمين مدد.. فهل يشاركونهم في الغنيمة؟ ينظر فيه: فإن لحقهم قبل انقضاء الحرب.. فإنه يشاركهم في الغنيمة قولًا واحدًا؛ لأنه أدرك وقت استحقاق الغنيمة. وإن لحقهم بعد انقضاء القتال وبعد حيازة الغنيمة.. فإنه لا يشاركهم قولًا واحدًا؛ لأن الغانمين قد ملكوا أن يملكوا الغنيمة، وتعلقت بها حقوقهم فلم يشاركهم

(12/223)


غيرهم فيها. وإن لحق بهم بعد انقضاء القتال وقبل حيازة الغنيمة.. فهل يشاركهم فيها غيرهم؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يشاركهم فيها؛ لأنه لم يشهد الوقعة.
والثاني: يشاركهم؛ لأنه قد حضر قبل أن يملكوا الغنيمة.
وهذان القولان مبنيان على القولين، متى يملكون أن يملكوا الغنيمة؟
أحدهما: أنهم لا يملكون أن يملكوا إلا بعد انقضاء القتال وحيازة الغنيمة.
فعلى هذا: يشاركهم من لحقهم.
والثاني: أنهم يملكون أن يملكوا الغنيمة بعد انقضاء القتال وقبل حيازة الغنيمة.
فعلى هذا: لا يشاركهم من لحقهم.
هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: إذا لحقهم مدد بعد انقضاء القتال.. لم يشاركهم به المدد. وإن لحقهم في حال القتال.. فما أحرزوه من المال بعد لحوق المدد.. شاركهم به المدد، وما كانوا قد أحرزوه من المال قبل لحوق المدد بهم.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يشاركهم فيه؛ لأنهم انفردوا بإحرازه، فهو كما لو لحقهم بعد انقضاء القتال.
والثاني: يشاركهم فيه؛ لأن ذلك المال كالمتداول بين المسلمين والمشركين، ولأن القتال قائم، فلعلهم يستردونه فما لم ينقض القتال.. لم يكمل الإحراز.
وأمَّا الأسير إذا انفلت وانضاف إلى المقاتلين، فإن كان من هذا الجيش.. فإنه يشاركهم، سواء قاتل أو لم يقاتل. وإن كان من جيش آخر وقاتل.. شاركهم، وإن لم يقاتل.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يسهم له؛ لأنه لحقهم هاربًا وقصد الخلاص من الكفار قبل القتال، فإذا لم يوجد منه نفس القتال ولا قصده.. لم يستحق السهم.
والثاني: يسهم له، كسائر من شهد الوقعة ولم يقاتل.

(12/224)


قال: وخرج فيه قول آخر: أنه لا يسهم له وإن قاتل، تخريجًا من الأجير.
هذا مذهبنا، وقال أبو حَنِيفَة: (إذا لحقهم مدد بعد انقضاء القتال وقبل القسمة وهم في دار الحرب.. فإنه يشاركهم، إلا الأسارى.. فإنهم لا يشاركونهم) .
دليلنا: أنه مدد لحقهم بعد انقضاء القتال فلم يشاركهم، كما لو لحقهم بعد القسمة، ولأن كل حالة لو لحق الأسير فيها لم يشارك، فإذا لحق غيره فيها.. لم يشارك، كما لو لحق المدد بعد إخراج الغنيمة إلى دار الإسلام.

[مسألة: شتراك السرايا بالغنيمة]
مسألة: [اشتراك السرايا بالغنيمة] :
إذا خرج الأمير بالجيش من البلد، ثم أنفذ سرية إلى الجهة التي يقصدها أو إلى غيرها، أو أنفذ سرية من البلد، ثم سار بالجيش بعدها، فغنمت السرية بعد خروج الجيش من البلد، أو غنم الجيش.. فإن الجيش والسرية يتشاركان فيما غنما، وهو قول كافة العلماء، إلا الحَسَن البَصرِيّ، فإنه قال لا يتشاركان.
دليلنا: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فتح هوازن بحنين بعث سرية من الجيش قبل أوطاس فغنمت، فقسم رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، غنائمهم بينهم وبين الجيش» ورُوِي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المسلمون يد واحدة على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وترد سراياهم على قاعدهم» . ولأن الجميع جيش واحد.
وهكذا: إذا أنفذ الأمير سريتين من الجيش إلى جهة واحدة من طريق أو من طريقين.. فإن الجيش والسريتين يتشاركون فيما غنموا أو غنم بعضهم؛ لأنهم جيش واحد

(12/225)


وإن أنفذ الأمير سريتين إلى جهتين.. فإن الجيش يشاركهما فيما يغنمان، ويشاركانه فيما يغنم، وهل تشارك كل واحدة منهما الأخرى؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يتشاركان؛ لأن إحداهما ليست بأصل للأخرى.
والثاني: يتشاركان، وهو المذهب؛ لأنهما من جيش واحد.
وإن أنفذ الأمير سرية وهو مقيم في البلد، فغنمت السرية.. لم يشاركها الجيش الذي مع الإمام؛ لـ: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث السرايا من المدينة ويقيم هو بها، فلا يشارك بينهم) .
وإن بعث سريتين من البلد إلى جهتين مختلفتين، وأقام هو مع الجيش في البلد.. فإن كل واحدة من السريتين لا تشارك الأخرى فيما تغنمه إلا أن يلتقيا في طريق فيجتمعا على جهة واحدة.. فإنهما يصيران جيشًا واحدًا.
وإن بعث الأمير سرية من الجيش من البلد، وعزم على المسير وراءها مع الجيش، فغنمت السرية قبل خروج الإمام من البلد.. فلا يشاركها الجيش؛ لأن الغنيمة إنما يستحقها المجاهد، والجيش قبل خروجه من البلد غير مجاهد.
هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: إذا بعث الإمام سرية أو سرايا إلى قلاع، فغنم بعضهم.. شاركهم سائر السرايا والإمام في الغنيمة إن كانوا متقاربين، بحيث يصلح بعضهم أن يكون عونًا لبعض. وإن كانوا متباعدين، بحيث لا يوجد منهم التناصر إن احتيج إلى ذلك.. لم تشارك السرية التي لم تغنم السرية التي غنمت.
وقال القفال: يشاركهم الإمام ومن لم يغنم إذا كانوا كلهم في دار الحرب، فأما إذا كان الإمام في دار الإسلام وبعث سرية إلى دار الحرب فغنمت.. فالإمام لا يشاركهم.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وليس بشيء، بل الاعتبار بالتقارب والتباعد.

(12/226)


[فرع: إرسال الإمام جاسوسًا إلى المشركين]
إذا بعث الإمام جاسوسًا إلى المشركين لينظر عدتهم وينقل أخبارهم، فغنم الجيش قبل رجوعه إليهم ثم رجع إليهم.. ففيه وجهان حكاهما ابن الصبَّاغ:
أحدهما: لا يشاركهم؛ لأنه لم يحضر الاغتنام.
والثاني: يشاركهم؛ لأنه كان في مصلحتهم وخاطر بما هو أعظم من الثبات في الصف.
والله أعلم

(12/227)


[باب قسم الخمس]
قد ذكرنا أن الغنيمة تقسم على خمسة أسهم، وقد مَضَى الكلام في قسمة أربعة أخماسها بين الغانمين، وأمَّا خمسها: فإنه يقسم عندنا على خمسة أسهم: سهم لرسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.
وقال أبُو العالية الرياحي: يقسم الخمس على ستة أسهم: سهم لله يصرف في رتاج الكعبة وزينتها، وخمسة أسهم على ما ذكرناه.
وقال مالك: (خمس الغنيمة موكول إلى اجتهاد الإمام) .
وقال أبو حَنِيفَة: (خمس الغنيمة يقسم على ثلاثة أسهم: سهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل، ويسقط سهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بموته. وأمَّا سهم ذوي القربى: فقد كان لذوي القربى الذين كانوا في عهد رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد سقط بموتهم) . فقال بعض أصحابه: كان يفرقه عليهم بمعنى الفقر والمسكنة، لا على جهة استحقاقهم له بالقرابة، ويسقط بموتهم.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية.
فموضع الدليل منها على أبي العالية: أن الله تَعالَى قسم الخمس على خمسة أسهم، وأبو العالية يقسمه على ستة.
وموضع الدليل منها على مالك: أن الله أضاف الخمس إلى جميع الأصناف المذكورين في الآية، فلا يجوز صرفه إلى غيرهم.

(12/228)


وعلى أبي حَنِيفَة: أن الله جعل لنبيه، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سهمًا ولذوي القربى سهمًا في خمس الغنيمة، فاقتضى أن ذلك على التأبيد.
إذا ثبت هذا: فإن سهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصرف عندنا بعد موته في مصالح المسلمين.
ومن الناس من قال: يكون للإمام أن يصرفه في نفقته ونفقة عياله؛ إذ هو خليفة رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن الناس من قال: يصرف إلى باقي الأصناف المذكورين في الآية.
دليلنا: ما رَوَى جبير بن مطعم: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» وهذا يقتضي رده على جميع المسلمين، ولا يمكن ذلك إلا إذا صرف إلى مصالحهم.

[مسألة: سهم ذوي القربى]
فأما سهم ذوي القربى: فإنه لمن ينتسب إلى هاشم والمطلب ابني عبد مناف ولأن عبد مناف كان له خمسة أولاد: هاشم جد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمطلب جد الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعبد شمس جد عُثمانَ بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ونوفل جد جبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأبو عمرو ولا عقب له. فقسم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم ذوي القربى بين بني

(12/229)


هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل. «قال جبير بن مطعم: فأتيت أنا وعثمان إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقلنا له: يا رسول الله، هؤلاء بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» وشبك بين أصابعه.
إذا ثبت هذا: فإنه يشترك في هذا السهم الأغنياء والفقراء من ذوي القربى؛ لـ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعطى منه العباس بن عبد المطلب وكان موسرًا، وكان يعول أكثر بني عبد المطلب» .
ويستحقه الرجال والنساء منهم، لـ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم لأم الزبير منه» . ولأنه مستحق بالقرابة، فاشترك فيه الرجال والنساء، كما لو وصى بماله لقرابته.
ولا يفضل رجل على رجل، ولا امرأة على امرأة، كما قلنا في الوصية للقرابة.
ويعطى الرجل مثل حظ الأنثيين.
وقال المزني وأبو ثور: (يسوى بين الرجل والمرأة؛ لأنه مال مستحق بالقرابة، فلا يفضل فيه الذكر على الأنثى كالوصية للقرابة) . وهذا خطأ؛ لأنه مال مستحق بقرابة الأب بالشَّرعِ، ففضل فيه الذكر على الأنثى، كميراث ولد الأب.
فقولنا: (بقرابة الأب) احتراز من ميراث الإخوة من الأم.

(12/230)


وقولنا: (بالشَّرعِ) احتراز من الوصية للقرابة.
ويدفع ذلك إلى من ينتسب إلى هاشم والمطلب من أولادهما وأولاد أولادهما وإن سفلوا من الأعلى والأسفل، من قبل البنين دون أولاد البنات؛ لأن أولا البنات ينسبون إلى آبائهم دون أمهاتهم.

[فرع: اشتراك ذوي القربى فيما وجد من خمس الخمس وإن قل]
ومتى لاح درهم من خمس الخمس.. فهو لجميع ذَوِي القربى في جميع أقاليم الأرض.
وقال أبُو إسحاق: ينفرد من كان في إقليم من ذوي القربى بما حصل من خمس الخمس في مقر ذلك الإقليم؛ لأنه يشق نقل ما حصل في إقليم إلى جميع ذَوِي القربى في جميع الأقاليم.
والمنصوص هو الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية [لأنفال: 41] . فجعل خمس الخمس لجميع ذَوِي القربى، فاقتضى اشتراكهم فيه. ولأنه مال مستحق بالقرابة، فاستوى فيه القاصي والداني، كالميراث. وما ذكره أبُو إسحاق من المشقة.. فلا يلزم الإمام تفريقه على ما قرره، ولكن إذا حصل سهم لذوي القربى في مقر إقليم.. فرقه على ذَوِي القربى في ذلك الإقليم، وإذا حصل سهم لذوي القربى في إقليم غيره.. فرقه أيضًا على ذوي القربى فيه، ثم كذلك في جميع الأقاليم، ثم يقابل بين ما فرقه عليهم في كل إقليم وبين عددهم، فإن كان قد وصل إلى كل من في إقليم قدر حقه في جميع الأقاليم.. فلا كلام، وإلا.. رد الفضل على من بقي له، كالرجل إذا دفع زكاته إلى الإمام.. فليس على الإمام أن يوصل زكاة الرجل الواحد إلى جميع الأصناف، بل لو أوصلها إلى رجل واحد.. أجزأ، ولكن على الإمام أن يساوي بين الأصناف فيما يعطيهم من زكاة الرعية كلها.

(12/231)


[مسألة: سهم اليتامى]
وأمَّا سهم اليتامى: فإنه يصرف إلى كل صغير لا أب له إذا كان محتاجًا؛ لأن اليتيم من بني آدم من فقد الأب، والبالغ لا يسمى يتيمًا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد الحلم» وهل يدخل فيه الصغير الذي لا أب له إذا كان غنيًا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يدخل فيه؛ لأن اليتم في بني آدم: فقد الأب، وذلك يقع على الغني والفقير.
والثاني: لا يدخل فيه؛ لأن غناه بالمال أكثر من غناه بالأب.
إذا ثبت هذا: فإن سهم اليتامى يصرف إلى القاصي والداني من اليتامى في جميع الأقاليم على المنصوص، ولكن لا يكلف الإمام النقل من إقليم إلى إقليم، بل على ما ذكرناه في ذَوِي القربى. وعلى قول أبي إسحاق: يختص يتامى كل إقليم بما يحصل في مغزاهم.
وهل يختص يتامى المرتزقة بهذا السهم؟ وفيه وجهان:
[أحدهما] : قال القفال: يختصون به، كما يختص المرتزقة بأربعة أخماس الغنيمة.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يختصون به؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [الأنفال: 41] [لأنفال: 41] ولم يفرق.

(12/232)


[مسألة: سهم المساكين]
وأما سهم المساكين: فإنه يصرف إلى الفقراء والمساكين؛ لأنهما متقاربان في المعنى، فمتى ذكر أحدهما.. تناولهما، وإن ذكرا معًا.. قسم بينهما.
ويصرف هذا السهم إلى الفقراء والمساكين في جميع الأقاليم، ولكن لا يكلف الإمام النقل من إقليم إلى إقليم، بل بالحساب على المنصوص. وعلى قول أبي إسحاق: يختص مساكين كل إقليم وفقراؤه بما يحصل من هذا السهم في مغزاهم.
وقال أبُو عليّ في " الإفصاح ": إن اتسع سهم اليتامى والمساكين لجميع يتامى البلدان ومساكينهم، وإلا.. فرق على حسب الإمكان.

[مسألة: سهم ابن السبيل]
وأمَّا سهم ابن السبيل: فهو لكل مسافر أو منشئ للسفر وهو محتاج، على ما مَضَى في الزكاة.
ولا يفضل سهم على سهم، كما قلنا في سهام الأصناف في الصدقات.
ويقسم سهم اليتامى والمساكين وأبناء السبيل على جميع الصنف على قدر حاجاتهم، على ما ذكرناه في الصدقات.
ولا يجوز دفع شيء من الخمس إلى كافر من جميع الأصناف؛ لأنه عطية من الله، فلم يكن للكافر فيها حق، كالزكاة.
والله أعلم

(12/233)


[باب الفيء]
الفيء: هو المال الذي يأخذه المسلمون من الكفار بغير قتال، سمي بذلك؛ لأنه يرجع من المشركين إلى المسلمين. يقال: فاء الفيء: إذا رجع، و: فاء فلان: إذا رجع.
والفيء ينقسم قسمين:
أحدهما: أن يتخلى الكفار عن أوطانهم خوفًا من المسلمين، ويتركوا فيها أموالًا فيأخذها المسلمون، أو يبذلوا أموالًا للكف عنهم.. فهذا يخمس ويصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة على ما مَضَى.
والثاني: الجزية التي تؤخذ من أهل الذمة، وعشور تجارة أهل الحرب إذا دخلوا دار الإسلام، ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له، ومال من مات أو قتل على الردة.. ففي هذا قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (لا يخمس؛ لأنه مال مأخوذ من غير قتال، فلم يخمس، كالمال المأخوذ منهم بالبيع) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (يخمس) ، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] الآية [الحشر: 7] وأراد به الخمس؛ لأنها نزلت في أموال بني النضير، وإنما كانت لرسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(12/234)


وأمَّا أربعة أخماس الفيء: فقد كان للنَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في حياته، ينفق منها على أهله سنة، وما بقي يصرفه في السلاح والكراع عدة في سبيل الله.
والدليل عليه: ما رَوَى [مالك بن أوس بن الحدثان] قال: (اختصم عليّ والعباس في أموال بني النضير إلى عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال عمر: إن أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله خاصة مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ينفق منها على أهله وعياله سنة، وما بقي يصرفه في الكراع والسلاح، فتوفي رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوليها أبُو بكر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بمثل ذلك) . وكان هذا القول بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد، فدلَّ على: أنه إجماع.
إذا ثبت هذا: فما كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في حياته من الفيء والغنيمة.. لا ينتقل إلى ورثته، وكذلك جميع الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لا يورثون.
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولم أعلم أن أحدًا من أهل العلم قال: إن ذلك لورثتهم) .
وذهب قوم لا يعتد بخلافهم ـ وهم الشيعة وأتباعهم ـ إلى: أن الأنبياء، صَلَّى الله

(12/235)


عليهم وسَلَّم، يورثون، وأن نبينا، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورثته ابنته فاطمة وحجبت العباس.
دليلنا: ما ذكرناه من حديث عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ورُوِي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقسم ورثتي من بعدى دينارًا. ما تركته بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي.. فهو صدقة ألا إن الأنبياء لا يورثون» .
قال الشيخ أبُو حامد: ومعنى قوله هاهنا (عاملي) أي: مؤنة تجهيزي.
وفيما يفعل بأربعة أخماس الفيء بعد موت النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وموت زوجاته قولان:
أحدهما: أنه يصرف إلى المرتزقة، ويسمون أهل الديوان، وهم المرابطون للثغور، المقيمون فيها، دون الذين يغزون إذا نشطوا؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان يستحق ذلك؛ لما ألقى الله به في قلوب الكفار من الرعب والهيبة، وهذا المعنى بعد موته لا يوجد إلا في المرتزقة، فوجب أن يكون لهم.
والثاني: أنه يصرف إلى جميع مصالح المسلمين؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان يستحقه في حياته لفضيلته وشرفه، وهذا لا يوجد في غيره بعد موته، فوجب أن يصرف إلى المصالح، كما قلنا في سهمه من الخمس:
وحكى المسعوديُّ [في " الإبانة "] قولًا ثالثًا: أن جميع الفيء يصرف إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] الآية [الحشر: 7] . وهذا ليس بشيء؛ لأن المراد بالآية في الفيء: الخمس منه؛ بدليل: ما ذكرناه من إجماع الصحابة فيه.
فإذا قلنا: إنها تكون للمرتزقة.. فإنه يصرف جميعه إليهم، ولا يصرف ما زاد على كفايتهم منه إلى غيرهم.

(12/236)


وإن قلنا: إنه يصرف إلى مصالح المسلمين.. فإنه يبتدئ بالأهم فالأهم، والأهم هو أرزاق المقاتلة، فيصرف إليهم منه قدر كفايتهم، وما زاد على قدر كفايتهم.. يصرف في أرزاق القضاة وبناء القناطر والمساجد وما أشبهها.

[مسألة: وضع سجل بأسماء الغزاة ورواتبهم وعريف على كل طائفة]
ويكون العطاء مرة في السنة] :
وينبغي للإمام أن يضع ديوانًا ـ وهو دفتر فيه أسماء المقاتلة، وقدر أرزاقهم لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كان له ديوان فيه أسماء المقاتلة) . ويستحب أن يجعل على كل طائفة من المقاتلة عريفًا يستدعيهم للغزو ويقبض أرزاقهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

(12/237)


{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] [الحجرات: 13] ولـ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل على كل عشرة يوم حنين عريفًا» .
ويجعل الإمام العطاء في السنة مرة أو مرتين؛ لأنه يشق العطاء في كل أسبوع أو في كل شهر.

[فرع: يبدأ بالعطاء بأقارب المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
َ -، ويقدر العطاء على حسب كفايتهم] :
إذا أراد الإمام وضع الديوان وإعطاء مال الفيء.. فإنه يبدأ بقريش قبل سائر الناس؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قدموا قريشًا ولا تتقدموها» ، ولما رَوَى أبُو هُرَيرَة، قال: (قدمت إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، من عند أبي موسى الأشعري بثمانمائة ألف درهم، فلما صَلَّى الصبح.. اجتمع إليه نفر من أصحاب النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لهم: قد جاء الناس مال لهم لم يأتهم مثله منذ كان الإسلام، أشيروا علي بمن أبدأ؟ فقالوا: بك يا أمير المؤمنين؛ إنك ولي ذلك، فقال لا، ولكن أبدأ برسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأقرب فالأقرب. فوضع الديوان على ذلك) .
ومعنى قولهم: (بك يا أمير المؤمنين) أي بقرابتك.
ومعنى قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أبدأ برسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أي بقرابته.
ويقدم بني هاشم وبني المطلب على سائر قبائل قريش؛ لأن بني هاشم بنو أجداد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبني المطلب بنو أعمامه. ولا يقدم هاشمي على مطلبي، ولا مطلبي على هاشمي إلا بالسن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد» .
ورُوِي: (أن عمر لما أراد قسمة المال قال: أبدأ ببني هاشم، ثم قال: حضرت رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يعطيهم وبني المطلب، فإذا كان السن في الهاشمي.. قدمه على المطلبي.. وإذا كان في المطلبي.. قدمه على الهاشمي) . فوضع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

(12/238)


الديوان على ذلك، وأعطاهم عطاء القبيلة الواحدة.
ثم يعطي بعد بني هاشم وبني المطلب بني عبد شمس ـ وهم بنو أمية ـ ويقدمهم على بني نوفل؛ لأن عبد شمس أخو هاشم والمطلب لأب وأم، ونوفلًا أخوهم لأب لا غير.
ثم يعطي بني عبد العزى وبني عبد الدار، ويقدم بني عبد العزى على بني عبد الدار؛ لأن خديجة زوج النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بني أسد بن عبد العزى. ولأن فيهم حلف المطيبين وحلف الفضول: وهم قوم اجتمعوا في الجاهلية، فتحالفوا على: أن يدفعوا الظالم وينصروا المظلوم، وقالوا: إن بيتنا هذا يقصده الناس من الآفاق فأخرجوا من طيب أموالكم وأعدوه لأضيافكم.

(12/239)


وروت عائشة: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «شهدت حلف الفضول، ولو دعيت إليه لأجبت» .
واختلف الناس: لم سمي حلف المطيبين؟
فقال بعضهم: إنما سموا بذلك؛ لأنهم أخرجوا من طيب أموالهم ما أعدوه للضيف.
وقال بعضهم: إنما سموا بذلك؛ لأن عاتكة بنت عبد المطلب أخرجت قدحًا فيه طيب فطيبتهم به.
واختلفوا: لما سمي حلف الفضول؟
فقال بعضهم: إنما سموا بذلك؛ لأنهم أخرجوا ما أعدوه للضيف من فضول أموالهم.
وقال بعضهم إنما سموا بذلك؛ لأنه كان فيهم جماعة اسمهم فضل.
وقال بعضهم: بل اجتمع فيهم فضل وفضيل وفضالة.
ثم يعطي الأقرب فالأقرب، حتى يستكمل سائر قبائل قريش، فإن استوى اثنان في درجة واحدة في النسب.. قدم أسنهمًا؛ لما ذكرناه في حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، في بني هاشم وبني المطلب. فإن استويا في السن.. قدم أقدمهما هجرة وسابقة إلى الإسلام. فإذا انقضت قريش.. قدم الأنصار على غيرهم من العرب؛ لأن لهم الآثار الحميدة في الإسلام؛ لأنهم آووا النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونصروه وآثروه وأصحابه على أنفسهم في المنازل والأموال.
ثم يعطي سائر قبائل العرب قبل العجم، ولا يقدم أحدًا منهم على غيره إلا بالسن والسابقة إلى الإسلام. ثم يعطي العجم بعدهم، ولا يقدم أحدًا على أحد إلا بالسن والسابقة إلى الإسلام والهجرة، وهذا التقديم إنما هو في بداية العطاء.

(12/240)


فأما قدر العطاء: فإن الإمام يتعرف عيال كل واحد منهم وأسعار البلاد، ويعطي كل واحد منهم قدر كفايته، فإن استوى اثنان في قدر الكفاية.. لم يفضل أحدهما على الآخر بشرف ولا سابقة إلى الإسلام ولا هجرة؛ لما روي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لما ولي الخلافة.. سوى بين الناس في العطاء وأعطى العبيد، فقال له عمر: أتجعل من هاجر في سبيل الله كمن دخل في الإسلام كرهًا؟ فقال أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنما عملوا لله، وأجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ، فلما ولي عمر الخلاقة.. فاضل بين الناس وأعطى العبيد، ولما أفضت الخلافة بعد عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه إلى علي سوى بين الناس وأسقط العبيد) ، فاختار الشافعي، مذهب عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن العطاء إنما هو لأنهم أرصدوا أنفسهم للجهاد وهم متساوون في ذلك فوجب أن يساوي بينهم.

[فرع: لا يمنح عبد وغيره ممن لا يجب عليهم القتال]
] : ولا يعطى من الفيء عبد. وبه قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال أبُو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (يعطى العبيد الذين يشتغلون بالجهاد ويخدمون السادة فيما يتعلق بالقتال) .
دليلنا: أن العبد ليس من أهل القتال، بدليل: أنه لا يتعين عليه القتال وإن حضر الصف.

(12/241)


ولا يعطى من الفيء صبي، ولا مجنون، ولا امرأة، ولا ضعيف لا يقدر على الجهاد؛ لأنه ليس من أهل القتال.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وهل يجب تمليك زوجات المرتزقة وأهليهم ما يخصهم؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب، كما يجب تمليك المرتزقة.
والثاني: لا يجب؛ لأنهم أتباع المرتزقة.

[فرع: المرض الذي يصيب بعض المقاتلة ولا يرجى زواله]
يسقط الحق من الفيء] : وإن مرض بعض المقاتلة، فإن كان مرضًا يرجى زواله وإن طال.. فإن حقه لا يسقط من الفيء، بل يعطى كما كان يعطى قبل المرض؛ لأن الإنسان لا يخلو في الغالب من المرض. فلو قلنا: إن حقه يسقط بالمرض.. أدى إلى الضرر.
وإن كان مرضًا لا يرجى زواله، كالفالج والزمانة.. سقط حقه؛ لأنه قد خرج عن أن يكون من المقاتلة بحال، فيصير كالذرية.

[فرع: موت فرد من المرتزقة وقد خلف ذرية]
وإن مات أحد المرتزقة وخلف زوجة وأولادًا صغارًا.. فهل يعطون بعد موته؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يعطون؛ لأنهم إنما أعطوا في حياته تبعًا له، فإذا مات المتبوع.. سقط التابع.
والثاني: أنهم يعطون. قال أصحابنا البغداديون: لأن في ذلك مصلحة للجهاد؛ لأن المجاهد: متى علم أن ذريته وزوجته يعطون بعد موته.. اشتغل بالجهاد، ومتى علم أنهم لا يعطون بعد موته.. اشتغل بالكسب لهم، فيتعطل الجهاد.

(12/242)


وقال الخراسانيون: العلة فيه: أن الصغير لعله إذا بلغ.. أثبت اسمه في ديوان المرتزقة.
فعلى علة البغداديين: تعطى الذرية، ذكورًا كانوا أو إناثًا. فإن كانوا ذكورًا.. أعطوا إلى أن يبلغوا، فإذا بلغوا وكانوا يصلحون للجهاد.. قيل لهم: أنتم بالخيار: بين أن تثبتوا أنفسكم في ديوان المرتزقة وتأخذوا كفايتكم من الفيء، وبين أن لا تثبتوا أنفسكم في ديوان المرتزقة بل تكونوا من أهل الصدقات الذين إذا نشطوا.. غزو، فتكون كفايتكم في الصدقة. وإن بلغوا زمنى أو عميًا.. أعطوا الكفاية من الفيء؛ لأنهم لا يصلحون للجهاد.
وإن كانت الذرية إناثًا.. فإنهن يعطين الكفاية إلى أن يبلغن ويتزوجن، أو يكون لهن كسب يستغنين به.
وأمَّا الزوجة: فإنها تعطى إلى أن تتزوج.
وإن كانت الذرية خنثى مشكلًا.. فعلى علة أصحابنا البغداديين هو كالبنت، وعلى علة الخراسانيين: هل يعطى بعد موت أبيه؟ فيه وجهان خرجهما القاضي أبُو الفتوح:
أحدهما: لا يعطى شيئًا؛ لأنه لا يتوهم إثبات اسمه؛ لأنه ليس من أهل القتال.
والثاني: يعطى؛ لجواز أن يزول إشكاله ويثبت اسمه.
وعلة البغداديين: أصح؛ لأنها تجمع الذرية من الذكور والإناث. وعلة الخراسانيين تختص بالذرية من الرجال.

[مسألة: إعطاء الورثة من الفيء باعتبار القسمة والحول]
] : قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإذا صار مال الفيء إلى الوالي، ثم مات رجل قبل أن يأخذ عطاءه.. أعطيته ورثته. وإذا مات قبل أن يصير إليه المال ذلك العام.. لم يعطه ورثته) .

(12/243)


واختلف أصحابنا فيه.
فقال الشيخ أبُو حامد، وأكثر أصحابنا: إذا مات رجل من المرتزقة بعد حؤول الحول.. وجب صرف نصيبه إلى ورثته؛ لأنه مات بعد وجوب القسمة، وسواء حصل في يد الإمام أو لم يحصل في يد الإمام، لأن أهل الفيء معينون معلومون. وإن مات قبل حلول الحول.. لم يجب صرف نصيبه إلى ورثته؛ لأنه مات قبل أن يستحق نصيبه، وقول الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إذا صار مال الفيء إلى الوالي) أراد: إذا استحقه في يد الوالي.
وقال القاضي أبُو الطيب: بل هي على ظاهرها. فإذا مات رجل من المرتزقة بعد أن صار مال الفيء في يد الوالي.. دفع عطاؤه إلى ورثته، وإن مات قبل أن يصير في يده.. لم يدفع. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: إن مات بعد جمع المال وبعد الحول.. وجب دفع نصيبه إلى ورثته. وإن مات قبل الحول وقبل جمع المال.. فلا حق له. وإن مات بعد جمع المال وقبل حؤول الحول.. ففيه قولان:
أحدهما: لا شيء له؛ لأن الاعتبار بحؤول الحول كالزكاة، ولم يعش إلى ذلك الوقت.
والثاني: يعطى وارثه بقدر ما مَضَى من الحول؛ لأن المال قد جمع وقد حصل من المجاهد الجهاد بما مَضَى من الحول.
وهذان القولان مأخوذان من القولين في الذمي إذا مات أو أسلم في أثناء الحول.. فهل تؤخذ منه الجزية لما مَضَى من الحول؟

(12/244)


[فرع: طلب التطوع في المرتزقة]
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : لو جاء رجل وطلب إثبات اسمه في ديوان المرتزقة، فإن كان غناء في القتال، وفي المال سعة.. أثبت الإمام اسمه، وإلا.. لم يثبت اسمه.

[مسألة: مصرف ما فضل من الفيء بعد العطاء]
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن فضل من الفيء شيء بعد ما وصفت من إعطاء العطاء.. وضعه الإمام في إصلاح الحصون والازدياد في الكراع والسلاح) .
واختلف أصحابنا في تأويل هذا:
فمنهم من قال: هذا على القول الذي يقول: (إن أربعة أخماس الفيء للمقاتلة) .
فعلى هذا: يعطيهم الإمام من الفيء أولًا كفايتهم، وما فضل عن كفايتهم.. فإنه يشتري به السلاح والكراع ويصلح به الحصون؛ لأن ذلك من مصالحهم ولا بد لهم منه، فإذا لم يفعله الإمام.. فعلوه من أموالهم، فإن فضل من الفيء شيء بعد ذلك.. صرفه إليهم على قدر كفايتهم.
فأما على القول الذي يقول: (إنه للمصالح) .. فلا يزيدهم على قدر كفايتهم.
ومنهم من قال: إنما قال هذا على القول الذي يقول: إن أربعة أخماس الفيء للمصالح.
فعلى هذا: يبدأ بكفايتهم، فإن فضل منه فضل.. فإنه يصرف في سد الثغور، وشراء السلاح، والكراع وإصلاح الحصون. وأمَّا على القول الذي يقول: إن أربعة أخماس الفيء للمقاتلة.. فإن جميعه يصرف إليهم.

(12/245)


قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن ضاق عن مبلغ العطاء.. فرقه بينهم بالغًا ما بلغ) . وأراد بذلك: إذا حصل في يد الإمام شيء من الفيء يضيق عن قدر كفايتهم.. فإنه يدفع لكل واحد منهم ما يخصه منه على قدر كفايته، ويتم له الباقي من بيت المال.

[فرع: يعطى من الفيء أرزاق الحكام وولاة الصلاة والأحداث لأهل الفيء]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويعطى من الفيء أرزاق الحكام، وولاة الأحداث والصلاة لأهل الفيء، وكل من قام بأمر أهل الفيء ممن لا غنى لأهل الفيء عنه) .
واختلف أصحابنا في تأويل هذا:
فمنهم من قال: هذا على القول الذي يقول: (إن أربعة أخماس الفيء للمصالح) .. فيبدأ بكفاية أهل الفيء، ثم يصرف الباقي في الكراع، والسلاح، وسد الثغور، وأرزاق الحكام. فأما على القول الذي يقول: (إنه للمقاتلة) . فإن جميعه يصرف إليهم.
ومنهم من قال: هذا على القول الذي يقول: (إنه للمقاتلة) ؛ لأن حكام أهل الفيء ومن يصلي بهم وولاة أحداثهم ـ وهم من يلي مصالحهم منهم- فوجب أن يرزقوا من الفيء إذا لم يوجد من يتطوع لهذه الأمور.

[فرع: كون الفيء مما لا ينقل]
وإن كان في الفيء ما لا ينقل، كالأرض والدور.. فخمسه لأهل الخمس. وأمَّا أربعة أخماسه: فقد قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (تكون وقفًا للمسلمين، تستغل وتقسم عليهم في كل عام) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا:
فمنهم من قال: هذا على القول الذي يقول: (إن أربعة أخماس الفيء تكون للمصالح) ؛ لأن المصلحة فيها أن تكون وقفا ًتستغل كل سنة. فأما على القول الذي يقول: (إن أربعة أخماس الفيء للغانمين) .. فلا تكون وقفًا، بل يجب قسمتها بين الغانمين ليتصرفوا فيها بما شاءوا، كأربعة أخماس الغنيمة.

(12/246)


ومنهم من قال: بل تصير وقفًا على القولين؛ لأنا إن قلنا: إنها للمصالح.. فالمصلحة فيها أن تكون وقفًا، وإن قلنا: إنها للمقاتلة.. فإنها تصير وقفًا ليصرف الإمام غلتها في مصالحهم.
والفرق بينها وبين الغنيمة: أنه لا مدخل لاجتهاد الإمام في الغنيمة، ولهذا لا يجوز أن يفضل بعضهم على بعض في الغنيمة، ولاجتهاده مدخل الفيء؛ ولهذا يجوز أن يفضل بعضهم على بعض في القسمة، فتحصل من هذا: أنا إذا قلنا: إنها للمصلحة.. كانت وقفًا وجهًا واحدًا، وإن قلنا: إنها للمقاتلة.. فهل تصير وقفًا؟ فيه وجهان:
وأمَّا خمس الأرض: فإن سهم المصالح، وسهم اليتامى، وسهم المساكين، وسهم ابن السبيل، يكون وقفًا وجهًا واحدًا، وفي سهم ذَوِي القربى وجهان.
وكل موضع قلنا: يكون وقفًا.. فهل يفتقر إلى تلفظ الإمام بالوقف؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصبَّاغ:
أحدهما: يفتقر إلى ذلك، كسائر الوقوف.
والثاني: لا يفتقر إلى ذلك؛ لأن وقفه وجب بالشَّرعِ، فلم يحتج إلى اللفظ به، كما أنه لو وجب رق النساء والصبيان من أهل الحرب.. لم يحتج إلى لفظ الإمام باسترقاقهم، فهذا مثلها.
إذا ثبت هذا: فروى الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (ما من أحد إلا وله في هذا المال حق أعطيه أو منعه إلا ما ملكت أيمانكم) . فتأوله أصحابنا ثلاثة تأويلات:

(12/247)


أحدها: أنه أراد به المحتاجين لا الأغنياء.
الثاني: أنه أراد به المحتاجين والأغنياء؛ لأن ما يأخذه المجاهدون من المال ينتفع به الأغنياء؛ لأنهم يسقطون الجهاد عنهم لقيامهم به.
والثالث: أنه أراد ما من أحد إلا وله في بيت المال حق، فللفقراء حق في الصدقات، وللأغنياء حق في الفيء يأخذونه إذا كانوا مرابطين، وإن لم يكونوا مرابطين.. أخذوه من سهم الغزاة.
وبالله التوفيق

(12/248)


[باب الجزية]
الكفار على ثلاثة أضرب:
ضرب: لهم كتاب ـ وهم اليهود والنصارى ـ فيجوز إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم.
وضرب: لهم شبهة كتاب ـ وهم المجوس ـ فيجوز إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم أيضًا.
وضرب: لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب ـ وهم عَبَدَة الأوثان ـ فلا يجوز إقرارهم على دينهم ببذل الجزية.
وقال مالك: (تؤخذ الجزية من كل مشرك إلا مشركي قريش؛ لأنهم ارتدوا بعد أن أسلموا) .

(12/249)


وقال أبو حَنِيفَة: (تؤخذ الجزية من كل مشرك إلا من عَبَدَة الأوثان من العرب، فلا تؤخذ منهم الجزية) .
وقال أبُو يوسف: لا تؤخذ الجزية من العرب، سواء كانوا من أهل الكتاب، أو من عَبَدَة الأوثان.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يبذلوا الجزية، ولم يفرق.
والدليل على: أن الجزية تؤخذ من المجوس ما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من مجوس هجر البحرين» ورُوِي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - توقف في أخذ الجزية منهم، فقال له عبد الرحمن بن عوف: «شهدت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من مجوس هجر وقال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب» .
إذا ثبت هذا: فإن كتاب اليهود التوراة، وكتاب النصارى الإنجيل، وأمَّا المجوس: فلا خلاف أنه ليس لهم كتاب اليوم، وهل كان لهم كتاب؟ فيه قولان:

(12/250)


أحدهما: أنه لم يكن لهم كتاب ـ وبه قال أبو حَنِيفَة ـ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] [الأنعام: 156] ، ولما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كتب إلى قيصر، كتب إليه: (من محمد بن عبد الله إلى عظيم الروم {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ} [آل عمران: 64] الآية [آل عمران: 64] . ولما كتب إلى كسرى كتب إليه: (من محمد بن عبد الله إلى كسرى) . ولم يخاطبهم بأنهم أهل كتاب، وهم مجوس، فدلَّ على أنهم لا كتاب لهم.
والثاني: أنهم كان لهم كتاب، وهو الأصح؛ لما رُوِيَ عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (أنا أعلم من على وجه الأرض بأمر المجوس، كان لهم علم يعلمونه، وكتاب يدرسونه، وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته، فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فجاءوا ليقيموا عليه الحد، فامتنع، ودعا أهل مملكته، وقال: ما أعلم دينًا خيرًا من دين آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقد أنكح بناته بنيه، وأنا على دينه، فبايعه قوم، وقاتل الذين يخالفون حتى قتلهم، فأصبح وقد أسري بكتابهم ومحي العلم من صدورهم فأصبحوا أميين) .
وأمَّا الآية: فلا تدل على أنه لم ينزل الكتاب على غير اليهود والنصارى، لأن الله تَعالَى قال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} [الأعلى: 18] [الأعلى: 18] ولقوله تَعالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] [الشعراء: 196] وأمَّا كتاب النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلأن الروم كان لهم كتاب موجود؛ فلذلك خاطبهم به، والمجوس ليس لهم كتاب موجود، فلذلك لم يخاطبهم به.

(12/251)


[مسألة: تؤخذ الجزية من نسل الكتابيين]
] : ويجوز أخذ الجزية من أولاد من له كتاب أو شبهة كتاب، ومن نسلهم أبدًا، سواء بدلوا أو لم يبدلوا، أو غيروا أو لم يغيروا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] . فأمر الله النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أن يقاتلوا أهل الكتاب إلى أن يبذلوا الجزية، ومعلوم: أن الكفار الذين أنزل عليهم الكتاب لم يدركهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما أدرك نسلهم، فثبت: أن الآية تناولت نسلهم ولم يفرق، ولأن لهم حرمة بآبائهم، فجاز إقرارهم ببذل الجزية.
هذا الكلام في أولاد إسرائيل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأما من دخل في دين أهل الكتاب بعد أن لم يكن منهم، مثل عَبَدَة الأوثان من العرب.. فينظر فيه: فإن دخل معهم قبل نسخ الدين الذي دخل فيه بشريعة بعده، فإن دخل معهم قبل أن يبدلوا.. كان حكمه وحكم نسله حكمهم.
وقال أبُو يوسف: لا تؤخذ منهم الجزية.
دليلنا: ما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث خالدًا، فأغار على دومة الجندل، وأخذ أكيدر بن حسان رجلًا من كندة أو غسان، فصالحه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بذل الجزية» .
وروي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذًا إلى اليمن، فأخذ منهم الجزية وعامتهم عرب» ، و «صالح أهل نجران على بذل الجزية وهم عرب» .

(12/252)


وإن دخل في دينهم بعد تبديله.. نظرت: فإن دخل في دين من لم يبدل.. فحكمه وحكم أولاده حكمهم. وإن دخل في دين من بدَّل منهم.. لم تؤخذ منه ولا من أولاده الجزية؛ لأنه لم تلحقه فضيلة الكتاب ولا حرمة لآبائه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : هل تؤخذ الجزية من أولاده؟ فيه قولان، بناءً على القولين في أولاد المرتدين: هل تؤخذ منهم الجزية؟
وإن دخل في دينهم بعد أن نسخ بشريعة بعده.. لم يقر على دينه ببذل الجزية.
وقال المزني: يقر ببذل الجزية، وكذلك قال: تؤخذ ممن دخل في دين من بدَّل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] [المائدة: 51] .
ودليلنا: أنه دخل في دين باطل، فلم تؤخذ منه الجزية، كالمسلم إذا ارتد. وأمَّا الآية: فالمراد بها في الكفر والإثم.
وإن دخل داخل في دينهم بعد التبديل، ولم يعلم: هل دخل في دين من بدَّل منهم أو في دين من لم يبدل، أو لم يعلم: هل دخل في دينهم قبل نسخه أو بعد نسخه، كنصارى العرب وهم: بهراء وتنوخ وتغلب.. أقروا على دينهم بالجزية تغليبًا لحقن دمائهم، ولم تحل مناكحتهم ولا ذبائحهم للمسلمين تغليبًا للحظر؛ لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذ الجزية من نصارى العرب وحرم على المسلمين مناكحتهم وذبائحهم) .

(12/253)


[فرع: المتمسكون بالصحف الأولى قبل التوراة وفرقتا السامرة والصابئين]
واختلف أصحابنا في المتمسكين بصحف آدم وإبراهيم وإدريس، وزبور داود: فمنهم من قال لا يقرون ببذل الجزية، ولا تحل مناكحتهم ولا ذبائحهم، واختلف هؤلاء في تعليله.
فمنهم من قال لأن كتبهم ليست بكلام الله منزل، وإنما هي بعض أحكام أنزلت بالوحي، ومثل هذا موجود في شرعنا مثل ما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أتاني جبريل وأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية» .
ومنهم من قال: كانت كلامًا لله، ولكن كانت مواعظ ولم تكن أحكامًا، فلم تكن لها حرمة الكتب المنزلة.
وقال أبُو إسحاق: يقرون ببذل الجزية وتحل مناكحتهم وذبائحهم؛ بقوله تَعالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] إلى قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] ولم يفرق. ولأن المجوس يقرون ببذل الجزية ولهم شبهة كتاب.. فلأن يقر هؤلاء ولهم كتاب موجود أولى.
وأمَّا السامرة والصابئون: فقطع الشافعي، في موضع: (أن السامرة من اليهود، وأن الصابئين من النصارى) ، وتوقف في حكمهم في موضع آخر، وقال: (إن كانوا يوافقونهم في أصول دينهم.. فهم منهم، وإن خالفوهم في الفروع، أو خالفوهم في أصول دينهم.. فليسوا منهم) .
فقال أكثر أصحابنا: إنما توقف الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في حكمهم؛ لأنه لم يكن يعرف مذهبهم، ثم اتضح له مذهبهم، وأنهم يوافقونهم في أصول دينهم، وأنهم أهل كتاب.

(12/254)


وقال أكثر المتكلمين: إنهم يخالفونهم في أصول دينهم، ويقولون: الفلك حي ناطق مدبر، والكواكب السبعة آلهة. وبه قال أبُو سعيد الإصطخري؛ فإنه أفتى القاهر بالله بقتلهم، فضمنوا له مالًا، فتركهم.
ومن كان أحد أبويه وثنيًا والآخر كتابيًا.. فقد مَضَى بيان حكمه في (النكاح) .

[فرع: لا تعقد الذمة للكبير بعد النسخ وتعقد للصغير]
وماذا لو غزا الإمام قومًا لا يعرفهم؟] : قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إذا مات كتابي وخلف ابنين؛ أحدهما كبير لا يدين بدين أهل الكتاب، والآخر صغير، ثم لما نزل القرآن دخل الكبير في دين أهل الكتاب.. لم يقر عليه ولم تؤخذ منه الجزية؛ لأنه دخل في دين أهل الكتاب بعد النسخ. فإن بلغ الصغير وأظهر دين أهل الكتاب.. أقر عليه وأخذت منه الجزية؛ لأنه تابع لأبيه في الدين) .
وإن غزا الإمام قومًا من المشركين لا يعرف دينهم، وادعوا أنهم من أهل الكتاب من بني إسرائيل، وأن آباءهم دخلوا في دين أهل الكتاب قبل نسخه، أو دخلوا في دين غير مبدل.. أقرهم وأخذ منهم الجزية؛ لأنه لا يعرف دينهم إلا من جهتهم.
فإن رجعوا كلهم وقالوا: لسنا من أهل الكتاب، أو دخل آباؤنا في دين منسوخ أو مبدل، أو أسلم اثنان منهم وعدلًا وشهدا بذلك.. نبذ إليهم عهدهم وصاروا حربًا لنا.
وإن رجع بعضهم دون بعض.. نبذ العهد إلى من رجع دون من لم يرجع. فإن شهد بعضهم على بعض بذلك.. لم تقبل شهادتهم؛ لأن شهادتهم غير مقبولة قبل إسلامهم.

[مسألة: أقل الجزية]
وأقل ما يقبل من الذمي دينار في كل سنة، فإن لم يبذل إلا دينارًا في كل سنة قبل منه، غنيًا كان أو فقيرًا.

(12/255)


وقال أبو حَنِيفَة: (يجب على الغني في كل سنة ثمانية وأربعون درهمًا، من صرف اثني عشر بدينار فيكون عليه أربعة دنانير، وعلى المتوسط أربعة وعشرون درهمًا وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر درهمًا) .
وقال مالك: (إن كان من أهل الذهب.. فالواجب عليه في كل سنة أربعة دنانير. وإن كان من أهل الورق.. فالواجب عليه في كل سنة ثمانية وأربعون درهمًا) .
وقال الثوريُّ: الجزية ليست بمقدرة، وإنما الواجب ما رآه الإمام باجتهاده من قليل أو كثير.
دليلنا: ما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذًا إلى اليمن، وقال: «خذ من كل حالم دينارًا، أو عدله معافريا» . ورَوَى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب من كل حالم دينارًا أو عدله معافريا» .
والمعافري: ثوب منسوب إلى المعافر. ولم يفرق بين الغني والفقير والمتوسط.
إذا ثبت هذا: فإن المستحب للإمام أن لا يخبر الذمي: أن أقل الواجب عليه دينار، بل يماكسه ليزيد عليه، ويجعل الجزية عليهم على ثلاث طبقات: على الفقير المعتمل دينار، وعلى المتوسط ديناران، وعلى الغني أربعة دنانير، لما رُوِيَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه صالح أهل الشام على أن يأخذ من الغني ثمانية وأربعين درهمًا، ومن المتوسط أربعة وعشرين درهمًا، وممن دونه دينارًا) . ولأنه يخرج بذلك من الخلاف لأبي حَنِيفَة.
وإن التزم رجل منهم أكثر من دينار.. لزمه، فإن امتنع بعد ذلك من التزام ما زاد

(12/256)


على الدينار.. أجبر عليه إلا أن يلحق بأهل الحرب ويمتنع، ثم يبذل الدينار، فإنه يجب قبوله.

[فرع: امتناع أهل الكتاب من اسم الجزية وطلب أخذها باسم الصدقة]
وإن امتنع قوم من أهل الكتاب من أداء الجزية باسم الجزية.، وطلبوا أن تؤخذ منهم الجزية باسم الصدقة، وتؤخذ منهم مثلي ما يؤخذ من المسلمين، ورأى الإمام أن يصالحهم على ذلك.. جاز؛ لما رُوِيَ: (أن ثلاث قبائل من العرب، وهم: تنوخ وبهراء وبنو تغلب دانوا بدين النصارى، وأشكل أمرهم: هل دخلوا في النصرانية قبل التبديل أو بعده؟ فأقرهم عمر على دينهم، وطلب أن يأخذ منهم الجزية، فامتنعوا وقالوا: نحن عرب لا نؤدي الجزية كما تؤدي العجم ولكن خذها منا باسم الصدقة كما تأخذ من العرب، فامتنع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن ذلك وقال: الصدقة على المسلمين، ولا أقركم إلا بالجزية، فقالوا: خذ منا ضعف ما تأخذه من المسلمين، فامتنع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ففروا من ذلك ولحق بعضهم بالروم، فقال له النعمان بن زرعة ـ أو زرعة بن النعمان ـ: يا أمير المؤمنين، إن فيهم بأسا وشدة، وإنهم عرب يأنفون من الجزية، فلا تعن عدوك عليك بهم، فخذ منهم الجزية باسم الصدقة، فبعث إليهم عمر وردهم وأضعف عليهم الصدقة) .
قال المسعوديُّ: [في " الإبانة "] : ولو استصوب الإمام أن يضرب عليهم نصف الصدقة.. جاز.
فإن صالحهم على أن يأخذ منهم الجزية باسم الصدقة، وكان لصبي من أهل الذمة أو لامرأة منهم مال يبلغ النِّصَاب.. لم تؤخذ منهما.
وقال أبُو حَنِيفَة: (تؤخذ منهما) .

(12/257)


دليلنا: أنها جزية في الحقيقة، ولا صدقة ولا جزية عليهما.
وإن أضعف الصدقة.. فإنه يأخذ من كل خمس من الإبل شاتين، ومن خمس وعشرين من الإبل ابنتي مخاض، ولا يأخذ منها حقة كما لو كانت خمسين.
وإن ملك رجل منهم عشرين من الغنم، أو بعيرين ونصفا.. فهل يؤخذ منه شيء؟ فيه قولان حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: لا يؤخذ منه شيء؛ لأن ما يؤخذ منه إنما يؤخذ باسم الصدقة، والصدقة لا تؤخذ إلا من نصاب.
والثاني: يؤخذ منه ما يؤخذ من النِّصَاب؛ لأن من ملك ما تجب فيه الشاة من الإبل.. أخذت منه، كالمسلم إذا ملك خمسا من الإبل.
وإن وجبت عليه حقتان فلم يوجدا معه.. أخذ منه ابنتا لبون، وهل يضعف عليه الجبران؟ فيه قولان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: يضعف عليه، فيؤخذ منه ثماني شياه، كما تضعف الصدقة.
والثاني: لا يضعف؛ لأن هذا تضعيف التضعيف، وذلك أنا ضعفنا حتى إذا أخذنا مكان الحقة حقتين، ثم إذا انتقلنا إلى ابنتي لبون فأخذنا منه مع ابنتي لبون أربع شياه.. فهذا جبران مضاعف، ولولا التضعيف.. لأخذنا منه شاتين كما يؤخذ من المسلم.
وما يؤخذ منهم باسم الصدقة.. يصرف مصرف الفيء لا مصرف الصدقة؛ لأنه جزية في الحقيقة؛ ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فرض الله الصدقة على المسلمين، والجزية على المشركين) وقال عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا آخذ من مشرك صدقة) .
فإن بلغ ما يؤخذ منهم باسم الصدقة دينارين أو أكثر، فطلبوا أن يؤخذ منهم من كل واحد منهم دينار باسم الجزية.. وجب حط ما زاد على الدينار وأخذ الدينار؛ لأن الزيادة على الدينار لتغير الاسم، وقد رضوا باسم الجزية.

(12/258)


[فرع: لا يصح أخذ الجزية باسم الصدقة بأقل من دينار]
وماذا لو حصل بيع أرض؟] :
وإذا صالحهم الإمام على أن يأخذ منهم الجزية باسم الصدقة.. فلا بد أن يكون ما يؤخذ من كل واحد منهم يبلغ دينارا؛ لأن أقل الجزية دينار. فإن شرط ذلك في العقد.. صح، وإن لم يشرط ذلك، ولكن غلب على ظن الإمام أن ما يؤخذ من كل واحد منهم لا ينقص عن دينار.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأن الظاهر أن الثمار والمواشي لا تختلف.
والثاني: لا يصح؛ لأنه قد ينقص عن الدينار.
واختلف أصحابنا في كيفية صلح عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لنصارى العرب على إضعاف الصدقة:
فقال أبُو إسحاق: إنما صالحهم على ذلك؛ لأنه علم أن لهم أموالا ظاهرة من المواشي والزروع يحصل من زكاتها قدر الدينار وأكثر.
ومنهم من قال: صالحهم على ذلك وشرط: إن بلغ ما يأخذه من كل واحد منهم باسم الصدقة قدر الدينار.. فلا كلام، وإلا وجب عليهم تمام الدينار.
فإن ضرب الجزية على ما يخرج من الأرض من الزروع والثمار باسم الصدقة، فباع رجل منهم أرضه من مسلم أو ذمي.. صح البيع، فإن بقي مع البائع من الأموال الزكاتية ما يبلغ ما ضرب عليها من الجزية باسم الصدقة الدينار أو أكثر.. لم يطالب بأكثر من ذلك. وإن لم يبق له مال، أو بقي له مال لا يفي ما ضرب عليه بالدينار.. انتقلت الجزية إلى رقبته. وأمَّا الذي باعه إلى مسلم.. فلا يطالب بما ضرب على الأرض من الجزية؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الجزية» .

(12/259)


وإن باعها من ذمي.. نظرت: فإن كان ممن وقع عقد الذمة معه على أن تؤخذ منه الجزية باسم الصدقة.. ازدادت جزيته لما اشتراه من أرض وماشية وما أشبهه، وكذلك لو اشترى شيئا من أموال الزكاة من مسلم أيضا. وإن وقع عقد الذمة معه بشيء يؤديه باسم الجزية.. لم تزدد جزيته بما اشتراه من المال من مسلم ولا ذمي؛ لأن جزيته على رقبته.

[مسألة: وجوب الجزية في آخر الحول]
وتجب الجزية في آخر الحول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارا في كل سنة» فإن مات الذمي أو أسلم بعد انقضاء الحول.. لم تسقط عنه الجزية.
وقال أبُو حَنِيفَة: (تسقط) .
دليلنا: أنه حق ثبت في الذمة، فلم يسقط بالموت والإسلام كالدين.
وإن مات أو أسلم في أثناء الحول.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه شيء ـ وبه قال أبُو حَنِيفَة ـ لأنه حق يعتبر في وجوبه الحول، فلم يتعلق حكمه ببعض الحول، كالزكاة.
والثاني: يجب عليه من الجزية بقدر ما مَضَى من الحول، وهو الأصح؛ لأنه حق يجب بالمساكنة، فوجب عليه بقدر ما سكن، كما لو استأجر دارا ليسكنها سنة، فسكنها بعض السنة وفسخت الإجارة. فإن مات وعليه ديون وجزية، وضاقت تركته عن الجميع.. فهو كما لو مات وعليه دين وزكاة.

(12/260)


[مسألة: اشتراط الضيافة على أهل الذمة]
وإذا عقد الإمام الذمة لقوم.. جاز أن يشترط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح أهل أيلة على ثلاثمائة دينار وكانوا ثلاثمائة رجل، وعلى ضيافة من يمر بهم من المسلمين» .
ورُوِي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وضع الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق ثمانية وأربعين درهما وضيافة ثلاثة أيام لكل من مر بهم من المسلمين) ، ولأن في ذلك
مصلحة
للغني والفقير من المسلمين.
أما الغني: فلأنه إذا دخل إليهم.. فلا بد له من شيء يشتريه لقوته وقوت دوابه، فإذا لم يكن عليهم ضيافة.. ربما امتنعوا من البيع إليه للإضرار به، وإذا كانت عليهم الضيافة.. بادروا إلى البيع منه مخافة أن ينزل عليهم.
وأمَّا الفقير: فإذا لم تكن عليهم ضيافة.. لا يطعمونه، فيهلك جوعا.
إذا ثبت هذا: فإنما تكون الضيافة زيادة على أقل الجزية؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح أهل أيلة على ثلاثمائة دينار ـ وكانوا ثلاثمائة رجل ـ وضيافة من يمر بهم من المسلمين» ، ولأنا لو جعلنا الضيافة من الدينار.. لم يتحقق استيفاء الدينار منه؛ لأنه قد لا يمر به أحد من المسلمين. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: هل تحتسب الضيافة من الجزية؟ فيه وجهان:

(12/261)


أحدهما: تحتسب؛ إذ لا شيء عليهم سوى الجزية، والضيافة مال ينتفع به المسلمون.
والثاني: لا تحتسب؛ لأن للجزية مصارف معلومة، وقد ينزل بهم من لا تصرف إليه الجزية.
ولا يشترط عليهم الضيافة إلا برضاهم؛ لأنها زائدة على أخذ الجزية، فلا يلزمهم ذلك إلا برضاهم.
ويشترط عليهم أن يكون عدد من يضاف من الفرسان والرجالة من المسلمين معلوما، وعدد أيام ما يضاف كل رجل من المسلمين معلوما، فيقال: يضاف المسلم يوما أو يومين أو ثلاثا. ولا تزاد ضيافة الواحد من المسلمين على ثلاثة أيام لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الضيافة ثلاثة أيام وما زاد.. فهو صدقة»
ويشترط قدر الطعام والأدم لكل رجل من المسلمين. فيقال لكل رجل من المسلمين كذا وكذا رطلا من الخبز، وكذا وكذا رطلا من الأدم، ويكون ذلك من جنس طعامهم وإدامهم؛ لما رُوِيَ: أن أهل الشام من أهل الجزية أتوا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقالوا: إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم، فقال لهم عمر: (أطعموهم مما تأكلون ولا تزيدوهم على ذلك) .

(12/262)


ويذكر علف الدواب، تبنا أو شعيرا أو قتا، فإن أطلق ذكر العلف.. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (اقتضى التبن والحشيش؛ لأنه أقل العلف بالإطلاق) .
ويجوز شرط الضيافة على الغني منهم والمتوسط، وأمَّا الفقير: فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخُ أبُو إسحاق: لا تشترط الضيافة عليه وإن كانت عليه الجزية؛ لأن الضيافة تتكرر، فلا يمكنه القيام بها.
وقال الشيخُ أبُو حامد وبعض أصحابنا: يجوز شرطها على الفقير، كما يجوز شرطها على الغني والمتوسط، ولكن لا يساوي بينهم في عدد من يضيف كل واحد منهم من المسلمين، ولكن يجعل عدد من يضيفون على مراتب، كما قلنا في قدر جزيتهم، فإن شرط على الغني ضيافة عشرين.. كان على المتوسط ضيافة عشرة، وعلى الفقير ضيافة خمسة، ولكن يتساوون في جنس الطعام إلا إن كانوا يتساوون في قدر الجزية.. فإنهم يتساوون في عدد من يضيفونه.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : ولو حال الحول وقد بقي على واحد منهم شيء من الضيافة.. استوفي منه.
إذا ثبت هذا: فإن وفوا بما شرط عليهم من الضيافة.. فقد أدوا ما عليهم. وإن امتنع بعضهم منها.. أجبره الإمام عليها. وإن امتنعوا كلهم وقاتلوا الإمام.. فقد نقضوا العهد والذمة، فإن طلبوا بعد ذلك أن تعقد لهم الذمة بأقل الجزية من غير ضيافة.. وجب العقد لهم بذلك، ولكن يلزمهم الوفاء بالضيافة إلى حين الامتناع؛ لأنه قد لزمهم بالالتزام الأول، وإنما يسقط عنهم بالامتناع الضيافة بعد الامتناع.

(12/263)


[مسألة: لا يكلف الصبي بالجزية]
ولا تؤخذ الجزية من صبي؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] . فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يعطوا الجزية، والصبي لا يقاتل. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارا» ورُوِي: عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن لا يأخذوا الجزية من النساء والصبيان) .
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن بذل الذمي الجزية عن ولده الصغير.. قيل له: أتبذله من مال للصغير أو من مالك؟ فإن قال: أبذله من مال الصغير.. لم يجز أخذه؛ لأن الصغير لا جزية عليه. وإن قال: أبذله من مالي.. أخذ منه؛ لأنه بذل زيادة على جزيته) .
إذا ثبت هذا: فإن ولد الذمي تابع لأبيه في الأمان ما لم يبلغ، فإذا بلغ.. زال حكم التبع، وقيل له: لا يجوز إقرارك في بلاد الإسلام بغير جزية، فإن لم يبذل الجزية.. صار حربا لنا، وإن اختار أن يبذل الجزية.. فهل يفتقر إلى استئناف عقد الذمة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يفتقر إلى استئناف عقد الذمة؛ لأنه عقد دخل فيه قبل البلوغ، فإذا بلغ.. لزمه، كإسلام أبيه.
فعلى هذا: يلزمه جزية أبيه، فإن كان أبوه قد بذل في جزيته أكثر من دينار.. لزم الولد مثل ذلك. فإن قال الابن: لا ألتزم إلا دينارا.. لم يقبل منه إلا أن يمتنع بالقتال ثم يبذل الدينار، فيجب قبوله منه. ولا يلزم الولد جزية جده من قبل الأم؛ لأنه لا جزية على أمه، فلا يلزمه جزية أبيها.

(12/264)


والوجه الثاني: أنه يفتقر إلى استئناف عقد، وهو الأصح؛ لأن عقد الأب إنما كان لنفسه وإنما تبعه الولد لصغره، فإذا بلغ.. زال التبع.
فعلى هذا: يرفق الإمام به ليلتزم أكثر من الدينار، فإن لم يرض إلا بالتزام الدينار لا غير.. وجب قبول ذلك منه وإن كان أبوه قد التزم أكثر منه.

[فرع: امتناع السفيه ووليه من دفع الجزية يخرجهما من ديار المسلمين]
فإن بلغ الذمي غير رشيد.. فإن الحجر لا يفك عنه. فإن اتفق السفيه ووليه على عقد الذمة له وبذل الجزية.. عقدت له الذمة، وإن امتنعا من ذلك.. أخرجا من دار الإسلام.
وإن اختلف السفيه ووليه. فطلب أحدهما أن تعقد الذمة للسفيه بالجزية وامتنع الآخر.. كان الاعتبار بإرادة السفيه من ذلك؛ لأنه سبب لحقن دمه.

[مسألة: لا جزية على المجنون]
] : ولا تؤخذ الجزية من المجنون المطبق.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: تؤخذ منه الجزية؛ لأن حالات جنونه كحالات نومه. وليس بشيء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] وفيها أربعة أدلة:
أحدها: قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [التوبة: 29] والمجنون لا يقاتل.
الثاني: قوله {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة: 29] والمجنون لا يدين.
الثالث: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] ومعناه حتى يضمنوا، والمجنون لا يصح ضمانه.

(12/265)


الرابع: قوله {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ومعناه: راضون بجريان أحكام الإسلام عليهم، والمجنون لا رضا له.
وإن كان يجن يوما ويفيق يوما، أو يجن في بعض الحول دون بعض.. لفقت أيام الإفاقة، فمتى بلغت حولا.. وجبت عليه الجزية.
فإن أفاق النصف الأول من الحول وجن الثاني.. فهل يجب عليه الجزية للنصف الأول؟ فيه قولان. كما لو كان مشركا فأسلم أو مات في نصف الحول.
وإن جن النصف الأول من الحول وأفاق الثاني بعد ذلك، فإن اتصلت به الإفاقة حولا.. وجبت عليه الجزية في آخره. وإن لم تتصل.. لفقت له الإفاقة على ما مَضَى.. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال القفال: إذا جن يوما وأفاق يوما، أو جن في بعض الحول وأفاق في البعض.. فإن الاعتبار بآخر الحول، فإن كان مفيقا فيه.. لزمته الجزية للحول، وإن كان مجنونا فيه.. لم تلزمه الجزية للحول، كما أن الاعتبار في يسار العاقلة وإعسارهم في آخر الحول.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يعتبر أكثر الحول) .
دليلنا: أن أيام الجنون لا جزية فيها؛ بدليل: أنها لو اتصلت.. لم تجب عليه جزية، ولا مزية لأحدهما على الآخر، فاعتبر كل واحد منهما بنفسه.

[مسألة: لا جزية على المرأة]
ولا تؤخذ الجزية من المرأة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] ، والمرأة لا تقاتل. ولقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارا» ، والحالم اسم للرجل. ولما رَوَيْنَاهُ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن لا يأخذوا الجزية من النساء والصبيان) .

(12/266)


ولا تؤخذ الجزية من الخنثى المشكل؛ لجواز أن تكون امرأة.
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن بذلت المرأة الجزية.. عرفها الإمام أنها لا تجب عليها، فإن بذلتها بعد ذلك.. قبلها الإمام منها، وتكون هبة منها تلزم بالقبض) .
فإن شرطت على نفسها الجزية ثم امتنعت بعد ذلك من بذلها.. لم تجبر عليها؛ لأنها لم تلزم بالبذل.
فإن دخلت المرأة دار الإسلام بأمان للتجارة.. لم يؤخذ منها شيء من تجارتها؛ لأن لها المقام في دار الإسلام بغير عوض على التأبيد.
وإن دخلت الحجاز للتجارة بأمان.. جاز أن يشترط عليها العوض؛ لأنها ممنوعة من المقام في الحجاز.

[فرع: لا تقبل الجزية من النساء والصبيان بدل الرجال]
وإن حاصر الإمام حصنا فيه رجال ونساء وصبيان، فإن امتنع الرجال من أداء الجزية وبذلوا أن يؤدوا الجزية عن النساء والصبيان.. لم يقبل ذلك؛ لأنه لا يجوز أن تؤخذ الجزية ممن لا تجب عليه وتترك ممن تجب عليه.
وإن كان في الحصن نساء لا رجال معهن، وطالبن الإمام أن يعقد لهن الذمة، وبذلن الجزية.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز أن تعقد لهن الذمة، بل يتوصل إلى فتح الحصن ويسبيهن؛ لأنهن غنيمة للمسلمين.
والثاني: يلزمه أن يعقد لهن الذمة بغير جزية على أن تجري عليهن أحكام الإسلام، كما قلنا في الحربية.
فإن أخذ الإمام منهن على ذلك مالا، فإن لم يعلمهن أن الجزية لا تجب عليهن..

(12/267)


وجب رده إليهن، وإن أعلمهن أو علمن ذلك لم يجب رده إليهن؛ لأنه هبة لزمت بالقبض.

[مسألة: لا تجب الجزية على العبد]
ولا تجب الجزية على العبد ولا على سيده بسببه؛ لما رُوِيَ: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا جزية على العبد» ، ورُوِي ذلك عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا مخالف لهذا، والعمل عليه.
وإن كان بعضه حرا وبعضه عبدا.. لم تجب عليه الجزية.
ومن أصحابنا من قال: يجب عليه من الجزية بقدر ما فيه من الحرية، وليس بشيء؛ لأنه لا يقتل بالكفر، فلم تجب عليه الجزية، كالصبي والمرأة.
فإن أعتق العبد، فإن كان من أولاده عَبَدَة الأوثان.. قيل له: إقرارك في دار الإسلام مشركا لا يجوز، فإما أن تسلم، وأمَّا أن نبلغك دار الحرب وتكون حربيا لنا.

(12/268)


وإن كان من أولاد أهل الذمة.. قيل له: إقرارك في دار الإسلام بغير جزية لا يجوز، فإن اخترت أن ترجع إلى دار الحرب وتكون حربا لنا.. فارجع، وإن اخترت عقد الذمة ببذل الجزية.. أقررناك. فإن اختار عقد الذمة ببذل الجزية.. نظرت: فإن كان الذي أعتقه مسلما.. كانت جزيته ما يقع عليها التراضي، وإن كان الذي أعتقه ذميا.. فهل يفتقر إلى عقد الذمة بما يقع عليه التراضي من الجزية، أو لا يفتقر إلى عقد الذمة بل تلزمه الجزية لمولاه؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق، ووجههما ما ذكرناه في الصبي إذا بلغ.

[فرع: إجراء الجزية على الشيوخ وأصحاب الصوامع والفقير غير المعتمل]
وهل تؤخذ الجزية من الشيوخ الذين لا قتال فيهم، ومن الزمنى، وأصحاب الصوامع المشتغلين بالعبادة؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على القولين في جواز قتلهم إذا أسروا.
ومنهم من قال: لا يقرون بغير جزية قولا واحدا. والفرق بين القتل والجزية: أن القتل يجري مجرى القتال، فإذا لم يكن فيه قتال.. لم يقتل. والجزية أجرة المسكن، فلم تسقط عنهم.
وهل تجب الجزية على الفقير الذي ليس بمعتمل؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تجب عليه الجزية - وبه قال أبُو حَنِيفَة ـ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل أهل الجزية طبقات، وجعل أدناهم الفقير المعتمل، فدلَّ على أنه لا جزية على غير المعتمل، ولأنه حق يجب بالحول، فلم يجب على الفقير، كالزكاة.
فعلى هذا: إن طلب من الإمام أن يعقد له الذمة.. عقدت له الذمة على شرط جريان أحكام الإسلام عليه، فإذا أيسر.. استؤنف له الحول، فإذا تم.. طولب بالجزية.
والقول الثاني: تجب عليه الجزية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] [التوبة: 29] فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يعطوا الجزية، ومعناه: حتى

(12/269)


يضمنوا، ولم يفرق، ولأنه مشرك مكلف حر، فلم يجز إقراره بدار الإسلام بغير جزية، كالمعتمل.
فإذا قلنا بهذا: ففيه وجهان:
أحدهما: تعقد له الذمة بالجزية في ذمته، وينظر بها إلى أن يوسر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] [البقرة: 280] .
والثاني: لا نقره عليه إلا بدفع الجزية. فإن قدر على تحصيلها، وإلا.. رددناه إلى دار الحرب؛ لأنه يمكنه أن يمنع وجوبها عليه بالإسلام. هذا ترتيب العراقيين من أصحابنا.
وقال الخراسانيون: في الفقير غير المعتمل قولان، واختلفوا في موضع القولين فمنهم من قال: القولان في الدفع، وأمَّا الوجوب.. فيجب قولا واحدا.
ومنهم من قال: القولان في الوجوب.

[مسألة: ضبط أسماء وصفات أهل الذمة بالديوان وتعيين العرفاء]
وأخذ الجزية برفق] :
إذا عقد الإمام الذمة لقوم.. فإنه يكتب أعدادهم في الديوان، ويكتب أسماءهم، ويصف كل واحد منهم بالصفة التي لا تختلف على طول الأيام، من الطول والقصر أو البياض والسواد وما أشبه ذلك.
ويجعل لكل عشرة أو عشرين ـ على ما يراه ـ عريفا؛ ليخبره بمن يخرج منهم من الجزية بالموت أو الإسلام، وبمن يدخل من أولادهم بالبلوغ في الجزية.
والذي يقتضي المذهب: أن العريف يكون مسلما؛ لأن أهل الذمة غير مأمونين على ذلك. وتؤخذ منهم الجزية كما يؤخذ الدين من غير أذى في قول ولا فعل، ويكتب لمن أخذ منه جزيته كتابا، ليكون له حجة إذا طلبه.

(12/270)


[مسألة: نظر الإمام الجديد في شأن أهل الذمة]
إذا مات الإمام أو عزل، وقام غيره مقامه.. فإنه ينظر في أهل الذمة: فإن كان الإمام الذي قبله عقد لهم الذمة عقدا صحيحا.. أقرهم عليه؛ لأنه عقد مؤبد. وإن كان فاسدا.. غيره إلى الصحة؛ لأنه منصوب لمصالح المسلمين، وهذا من مصالحهم.
فإن ادعى قوم من أهل الذمة أن الإمام عقد لهم الذمة ولا بينة.. رجع إليهم؛ لأنه لا يمكن التوصل إلى ذلك إلا من جهتهم. فإن ادعوا أنه عقد لهم الذمة على أقل من دينار.. قيل لهم: هذا عقد فاسد، فإما أن تعقدوا عقدا صحيحا، وإلا.. رددناكم إلى دار الحرب وكنتم حربا لنا؛ لأن أقل الجزية دينار.
قيل للشيخ أبي حامد: أليس الثوري يجيز العقد بما أداه إليه اجتهاد الإمام، فيجب إذا صح عقد الإمام لهم بدون الدينار أن لا ينقض حكمه؟ فقال: إن الإجماع قد حصل بعد الثوريّ: أن الجزية لا تجوز أن تنقص عن دينار.
وإن ادعوا أن الأول عقد لهم الذمة على الدينار عن كل رجل منهم.. فالقول قولهم مع أيمانهم. واليمين هاهنا مستحبة؛ لأن دعواهم لا تخالف الظاهر. فإن أسلم منهم اثنان وعدلا وشهدا أن الإمام الأول عقد لهم الذمة على أكثر من دينار، أو شهد بذلك رجلان مسلمان من غيرهم.. أخذوا بما عقد عليهم الأول؛ لأن ذلك قد لزمهم.
فإن قال بعضهم: عقد لنا الذمة على دينارين عن كل رجل، ولكن لا نؤدي إلا دينارا.. أخذ كل واحد بدينارين إلا أن يمتنعوا بالقتال ثم يبذلوا الدينار عن كل رجل منهم، فيجب قبوله.
وإن قالوا: كنا نؤدي إلى الأول عن كل رجل دينارين دينارا جزية ودينارا تطوعا.. فالقول قولهم مع أيمانهم؛ لأنه لا يعلم إلا من جهتهم. واليمين هاهنا واجبة؛ لأن

(12/271)


دعواه تخالف الظاهر، فمن حلف.. لم يلزمه إلا دينار، ومن نكل.. لزمه الديناران.
وإن غاب ذمي سنين، ثم قدم وهو مسلم، وادعى أنه أسلم من حين غاب.. ففيه قولان:
أحدهما: يؤخذ منه جزية ما مَضَى من السنين التي في غيبته؛ لأن الأصل بقاؤه على الكفر.
والثاني: يقبل قوله مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الجزية.
وبالله التوفيق

(12/272)


[باب صفة عقد الذمة]
لا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو من النائب عنه؛ لأنه من المصالح العظام.
وإذا طلب قوم من الكفار أن تعقد لهم الذمة وهم ممن يجوز عقد الذمة لهم.. قال أصحابنا البغداديون: وجب على الإمام عقدها لهم.
وقال الخراسانيون: فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه إلا أن يرى المصلحة في عقدها لهم، كما قلنا في الهدنة.
والثاني: يجب عليه، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] . فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يبذلوا الجزية، فدلَّ على: أنهم إذا بذلوا الجزية.. وجب رفع القتال عنهم.
ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا بعث أميرا على سرية أو جيش، أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين وقال: إذا لقيت عدوك من المشركين.. فادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك.. فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا.. فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك.. فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا.. فاستعن بالله وقاتلهم» .

[مسألة: عقد الذمة من حيث التأبيد وشرطاه وتفسير اليد والصغار]
قال أصحابنا البغداديون: ولا يصح عقد الذمة إلا مؤبدا.

(12/273)


وقال الخراسانيون: فيه وجهان:
أحدهما: يصح مؤقتا؛ لأنه عقد أمان، فصح مؤقتا، كالهدنة.
والثاني: لا يصح إلا مؤبدا، وهو الأصح؛ لأن عقد الذمة إنما يصح بالتزام أحكام المسلمين، وذلك يقتضي التأبيد.
إذا ثبت هذا: فإن عقد الذمة إنما يصح بالتزام شرطين:
أحدهما: أن تجعل عليهم جزية في كل حول، على ما مَضَى.
والثاني: أن يلتزموا أحكام المسلمين في حقوق الآدميين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] .
ومعنى قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] أي: يلتزموها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] والمراد به: التزموا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وسميت الجزية جزية لأنها من جزى يجزي: إذا قضى، قال الله تَعالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] [البقرة: 48] أي: لا تقضي. وتقول العرب: جزيت ديني، أي قضيته.
ومعنى قَوْله تَعَالَى: {عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] أي: عن قوة المسلمين، وقيل: عن منة عليهم بحقن دمائهم، واليد: يعبر بها عن القدرة والمنة، وقيل: عن يد: يعطيه من يده إلى يده، ولا يبعث بها. وقيل: يعطيه نقدا لا نسيئة.
وأمَّا (الصغار) : فقال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " المختصر ": (هو جريان أحكام الإمام عليهم؛ لأنهم إذا تحاكموا إليه.. حكم عليهم بحكمه، وهو ذل لهم وصغار؛ لأنهم يعتقدون بطلانه، ولا يقدرون على الامتناع منه) .
وقال: في " الأم ": (الصغار: هو التزامهم بجريان أحكامنا عليهم في عقد الذمة) .
فيكون الصغار على ما قاله في " الأم ": هو نفس التزامهم بجريان أحكام

(12/274)


الإسلام. وعلى ما قاله في " المختصر ": (الصغار) : هو جريان أحكام الإسلام عليهم. والصحيح: ما قاله في " الأم ".
وقال غير الشافعي: (الصغار) : هو أن تؤخذ منهم الجزية وهم قيام والآخذ جالس، وقال بعضهم: (الصغار) : أن تؤخذ منهم الجزية وهم قيام باليسار.

[فرع: لا فرق في الجزية بين أهل الكتاب]
ولا فرق في الجزية بين يهود خيبر وغيرهم، وما يدعيه أهل خيبر: أن معهم كتابا من علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بإسقاط الجزية عنهم.. لا يصح؛ لأنه لم يذكره أحد من علماء المسلمين، ولأنهم ادعوا فيه شهادة سعد بن معاذ ومعاوية، وتأريخه بعد موت سعد وقبل إسلام معاوية.

[مسألة: طلب مخالفة الذمي في الزي وغيره]
] : وإذا عقد الإمام الذمة لقوم من المشركين.. فإنه يأمرهم أن يخالفوا المسلمين في الزي والملبس، فيكون فيما يظهرون من ثيابهم لون يخالف لون ثيابهم، واللون الأصفر أولى باليهود، واللون الأدكن أولى بالنصارى، واللون الأسود أولى بالمجوس؛ لأن ذلك عادتهم. ويشدون الزنار ـ وهو: خيط غليظ فوق ثيابهم ـ وإن لبسوا القلانس.. جعلوا فيها خرقا، وإن لبسوا الخفاف.. كانت من لونين. ويجعل في رقبة كل واحد منهم خاتم من رصاص أو صفر. وإن كان لهم شعر.. أمروا بجز النواصي؛ لما رَوَى عبد الرحمن بن غنم في الكتاب الذي كتبه لعمر حين صالح

(12/275)


نصارى أهل الشام: (فشرطنا: أن لا نتشبه بهم في لباسهم في شيء من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين، وأن نشد الزنانير في أوساطنا، وأن نجز مقاديم رؤوسنا، ولا نتشبه بهم في مراكبهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله) ، ولأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير» . وقال النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إذا «لقيتم المشركين في طريق.. فلا تبدؤوهم بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق.. فاضطروهم إلى أضيقها» . وإذا خالف أهل الذمة المسلمين في الزي والملبس بما ذكرناه.. أمكن المسلم أن يأتي بالسنة المشروعة في حق المسلم والذمي، وإذا لم يخالفوهم بذلك.. ربما ابتدأ المسلم بالسلام على الذمي ظنا منه أنه مسلم، أو ترك السلام على المسلم، أو اضطره إلى أضيق الطرق ظنا منه أنه ذمي، فأمر الذمي بالغيار في اللباس، والزي،

(12/276)


والزنار؛ ليتميز. وإن شرط عليهم أحدها.. أخذوا به؛ لأن التميز يحصل به.
وإنما أمروا بالخاتم في رقابهم؛ ليتميزوا عن المسلمين في الحالة التي يتجردون فيها عن الثياب، وربما اجتمع موتى المسلمين وموتى أهل الذمة ولا ثياب عليهم، فلا يتميزون للصلاة عليهم إلا بذلك.
ولا يمنع أهل الذمة من لبس العمامة والطيلسان.
وقال أبُو حَنِيفَة وأحمد: (يمنعون) .
دليلنا: أن التمييز يحصل بالغيار والزنار، فلم يمنعوا من لبسهما، كالقميص.
وهل يمنعون من لبس الديباج، والذهب؟ فيه وجهان:
أحدهما: يمنعون؛ لما فيه من التجبر والتعظيم.
والثاني: لا يمنعون، كما لا يمنعون من لبس المرتفع من القطن والكتان.

[فرع: يمنع أهل الذمة من ركوب الخيل]
] : ويمنعون من ركوب الخيل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] [الأنفال: 60] وأهل الذمة: عدو الله وعدونا، فلو كانوا يركبونها.. لكانوا يرهبوننا بها، ولأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» وأراد به: الغنيمة. فينبغي أن تكون الخيل لمن يسهم له ويستحق الغنيمة.
ويمنعون أن يتقلدوا السيوف والسكاكين؛ لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قال المسعودي [في " الإبانة "] ويمنعون من ركوب البغال، كالخيل.
وقال سائر أصحابنا: لا يمنعون من ركوب البغال والحمير، ولكن يركبونها

(12/277)


بالأكف دون السروج، ويكون الركابان من خشب، ويركبونها على شق؛ لما رُوِي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كتب إلى عماله يأمرهم أن يجعل أهل الكتاب المناطق في أوساطهم) وأراد به: الزنانير، و: (أن يركبوها على شق) أي: عرضا: هذا قول أكثر أصحابنا.
وقال الشيخُ أبُو حامد: يركبون مستويا، قال: لأن أصحابنا قالوا: تكون الركابان من خشب، وهذا يدل على أنهم يركبون مستويا.

[فرع: مغايرة نساء أهل الذمة في اللباس وغيره]
وتؤخذ نساء أهل الذمة بلبس الغيار والزنار والخاتم في رقابهن، وإن لبسن الخفاف.. كانت من لونين؛ لما رُوِي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كتب إلى أمراء الآفاق أن مروا نساء أهل الأديان أن يعقدن زنانيرهن) .
قال الشيخُ أبُو حامد: ويكون زنارها فوق ثيابها.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق وابن الصبَّاغ: أن زنارها يكون تحت إزارها؛ لأنه إذا كان فوق الإزار.. فإنه يكشف ويصف جسمها.
والذي يقتضي المذهب: أنهما أرادا بذلك الإزار الظاهر الذي تستر به رأسها وعنقها فوق الثوب الذي تشد به حقويها ليحصل التمييز به، فأما إذا كان مستورا لا يظهر.. فلا فائدة فيه.

[فرع: فيما يتأدب به أهل الذمة مع المسلمين]
ولا يبدؤون بالسلام، ويضطرون إلى أضيق الطريق؛ لما ذكرناه من الخبر.
وإن قعدوا مع المسلمين في مجلس.. لم يقعدوا في صدر المجلس؛ لأن في ذلك إعزاز لهم. وإن قعدوا في مجلس، وأراد المسلمون القعود فيه.. قاموا منه

(12/278)


للمسلمين؛ لما رُوِي في كتاب أهل الشام لعمر: (وشرطنا: أن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس) .

[مسألة: لا يرتفع أهل الذمة بالبناء على المسلمين]
وإذا أراد أهل الذمة بناء منزل في محلة المسلمين.. منعوا أن يكون بناؤهم أعلى من بناء من يليهم من المسلمين؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» ، وهل يمنعون من مساواتهم في البناء؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يمنعون؛ لأنهم لا يستطيلون بذلك على المسلمين.
والثاني ـ وهو الأصح ـ: أنهم يمنعون؛ لأنه لا تتميز دار الذمي عن دار المسلم إلا بذلك.
فعلى هذا: يكون أقصر من بناء من حواليه من المسلمين.
وهل يمنعون من الاستعلاء في البناء في غير محلة المسلمين؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق:
أحدهما: لا يمنعون؛ لأنه يؤمن، مع البعد، أن يعلوا على المسلمين.
الثاني: يمنعون؛ لأنهم يتطاولون على المسلمين.
وإن ملك الذمي دارا أعلى من دور جيرانه من المسلمين ببيع أو هبة.. أقرت كما هي على ملكه؛ لأنه هكذا ملكها. فإن انهدمت أو نقضها وأراد بناءها.. لم يكن له أن يعليها على بناء جيرانه من المسلمين. وهل له أن يساوي بناءهم؟ على الوجهين:

[فرع: لا يظهرون شرب الخمر ونحوه من المحرمات]
ويمنعون من إظهار شرب الخمور، وأكل الخنازير وبيعها، وضرب الناقوس، والجهر بالتوراة والإنجيل، وإظهار عبادة الصليب، وإظهار أعيادهم، ورفع الصوت على موتاهم؛ لما رُوِيَ: (أن نصارى العرب شرطوا ذلك لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أنفسهم)

(12/279)


[مسألة: تصنيف البلاد الإسلامية من حيث تنفيذ الأحكام وبناء الكنائس ونحوها]
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويشرط عليهم أن لا يحدثوا كنيسة، ولا بيعة، ولا مجتمعا لصلواتهم) .
وجملة ذلك: أن البلاد التي ينفذ فيها حكم الإسلام على ثلاثة أضرب:
أحدها: بلد بناها المسلمون كبغداد والكوفة والبصرة؛ لأن الكوفة والبصرة بناهما عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فهذا لا يجوز لأهل الذمة أن يحدثوا فيها كنيسة، ولا بيعة، ولا صومعة؛ لما رُوِيَ: (أن عمر لما صالح النصارى.. كتب بينه وبينهم: وأن لا يحدثوا في بلادهم وما حولها ديرا ولا بيعة، ولا صومعة راهب) . ورُوِي عن ابن عبَّاس: أنه قال: (أيما مصر مصرته العرب.. فليس للعجم أن يبنوا فيه كنيسة) ولا مخالف له في الصحابة.
وأمَّا الكنائس والبيع وبيوت النار الموجودة في هذه البلاد في زماننا.. فيحتمل أن تكون بناها المشركون في قرية أو برية فأقرهم الإمام عليها، فلما بناها المسلمون.. اتصل البناء بذلك.
والضرب الثاني: بلد بناه المشركون ثم ملكه المسلمون بالقهر، فإن لم يكن فيها كنائس ولا بيع، أو كانت ولكن هدمها المسلمون حين ملكوها.. فحكمها حكم البلد الذي بناه المسلمون، فإن عقد الإمام الذمة لقوم وشرط لهم أن يبنوا فيها البيع والكنائس، ويظهروا فيها الخمر والخنزير والصليب.. كان العقد فاسدا.
وإن كان فيها بيع وكنائس لم يهدمها المسلمون حين ملكوها، فإذا أراد الإمام أن يقرهم عليها.. فهل يجوز؟ فيه وجهان:

(12/280)


أحدهما: يجوز؛ لأنا إنما نمنع من إحداث البيع والكنائس فيها، فأما إقرارهم على ما كان فيها.. فلا يمنع منه.
والثاني: لا يجوز، وهو الأصح؛ لأن المسلمين قد ملكوا جميع البلاد، وتلك البيع والكنائس ملك للغانمين، ولا يجوز إقرارها في أيدي الكفار.
والضرب الثالث: بلد بناه المشركون ثم فتحه الإمام صلحا، فينظر فيه: فإن صالحهم على أن تكون الدار لهم دوننا وإنما يؤدون إلينا الجزية.. فلهم أن يحدثوا فيها البيع والكنائس، ويظهروا فيها الخمر والخنزير والصليب؛ لأن هذه الدار دار شرك، فلهم أن يفعلوا فيها ما شاؤوا.
وأمَّا إن صالحهم على أن تكون الدار لنا دونهم، فإن صالحهم على أن لهم إحداث البيع والكنائس فيها.. كان لهم ذلك؛ لأنه إذا جاز أن يصالحهم على أن لهم نصف الدار ولنا النصف.. فلأن يجوز أن تكون لنا الدار ولهم البيع والكنائس أولى.
وكل موضع قلنا: يجوز إقرار البيع والكنائس في بلد وانهدمت.. فهل يجوز إعادتها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لما رُوِيَ: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا تبنى كنيسة في دار الإسلام، ولا يجدد ما خرب منها ".

(12/281)


والثاني: يجوز، وبه قال أبُو حَنِيفَة؛ لأنه إذا جاز تشييد ما تشعث منها.. جاز إعادة ما انهدم منها.

[مسألة: حماية أهل الذمة ممن يؤذيهم]
وإذا عقد الإمام الذمة لقوم من المشركين.. وجب عليه منع من قصدهم من المسلمين وأهل الحرب وأهل الذمة، سواء كانوا في بلد الإسلام أو بلد لهم منفردين بها، وسواء شرطوا عليه المنع في العقد أو أطلقوه؛ لأنهم إنما بذلوا الجزية لحفظهم وحفظ أموالهم، فلزم الإمام ذلك بمقتضى العقد. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: إن كانوا في بلد لهم منفردين.. فهل يجب على الإمام منع الكفار عنهم من غير أن يشرطوا عليه المنع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه؛ لأن ذلك من مقتضى العقد.
والثاني: لا يلزمه؛ لأن الطائفتين كفار، ولا يضرون بالمسلمين ولا بدارهم.
وكل موضع قلنا: يلزمه المنع عنهم، فلم يمنع عنهم حتى مَضَى الحول.. لم تجب عليهم جزية ذلك الحول، وإن لم يمنع عنهم بعض الحول.. لم تجب عليهم جزية تلك المدة التي لم يمنع فيها؛ لأن الجزية عوض عن المنع ولم يوجد.
فإن أخذ المسلمون منهم مالا لهم بغير حق.. وجب على الإمام استرجاعه إن كان باقيا، أو استرجاع عوضه إن كان تالفا إلا الخمر؛ فإنها إذا تلفت.. فلا يجب عوضها؛ لأنه لا قيمة لها.
وإن أخذ أهل الحرب منهم مالا لهم وظفر به الإمام.. رده إليهم. فإن قتلوا منهم أو أتلفوا عليهم مالا.. لم يجب عليهم ضمان ذلك؛ لأنهم لم يلتزموا أحكام الإسلام.

(12/282)


وإن أغار أهل الهدنة على أهل الذمة فأخذوا منهم مالا.. رده الإمام منهم إن كان باقيا، أو رد عوضه منهم إن كان تالفا؛ لأنهم قد التزموا بالهدنة حقوق الآدميين.
وإن نقضوا الهدنة وامتنعوا عن الإمام بالقتال.. فهل يجب عليهم ضمان ما أتلفوه من نفس ومال؟ فيه قولان، كأهل البغي.

[فرع: شرط عدم المنع من أهل الذمة في العقد]
وإن شرط في عقد الذمة أن لا يمنع عنهم أهل الحرب.. نظرت: فإن كان أهل الذمة في وسط بلاد الإسلام أو في طرف منها.. كان الشرط والعقد باطلين؛ لأنه عقد على تمكين أهل الحرب من بلاد الإسلام.
وإن كانوا في دار الحرب، أو فيما بين دار الحرب ودار الإسلام.. كان الشرط والعقد صحيحين؛ لأن ذلك لا يتضمن تمكين أهل الحرب من دخول دار الإسلام.
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (ويكره هذا الشرط) وقال في موضع: (لا يكره) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (يكره) أراد: إذا كان الإمام هو الذي طلب الشرط؛ لأن في ذلك إظهار وهن على المسلمين.
وحيث قال: (لا يكره) أراد: إذا كان أهل الذمة هم الذين طلبوا الشرط؛ لأنه لا وهن على المسلمين في ذلك.

[مسألة: الحكم بين المشركين أو بينهم وبين المسلمين]
وإن تحاكم مشركان إلى حاكم المسلمين، فإن كانا معاهدين.. لم يلزمه الحكم بينهما، بل هو بالخيار: بين أن يحكم بينهما وبين أن لا يحكم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

(12/283)


{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] الآية [المائدة: 42] وهذا الآية نزلت في من وادعهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يهود المدينة قبل فرض الجزية.
وقيل: نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، ثم جاءا إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسألانه عن ذلك فرجمهما.
قال الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وهذا أشبه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة: 43] [المائدة: 43] يعنى: أنهم تركوا حكم الله في التوراة الذي حكم به من رجم الزاني.
فإن حكم الحاكم بين المعاهدين.. لم يلزمهما حكمه.. وإن دعا الحاكم أحدهما ليحكم بينهما.. لم يلزمه الحضور.
وإن كانا ذميين على دين واحد.. فهل يلزمه الحكم بينهما؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه الحكم بينهما، بل هو بالخيار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] [المائدة: 42] ولم يفرق. ولأنهما لا يعتقدان شريعته، فلم يلزمه الحكم بينهما، كالمعاهدين.
والثاني: يلزمه الحكم بينهما؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] الآية [المائدة: 49] وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. ولقوله تَعالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] . و (الصغار) : جريان أحكامنا عليهم، فلولا أنه يلزمه الحكم بينهما.. لم تجر عليهم أحكام الإسلام. ولأنه يلزمه الدفع عنهما، فلزمه الحكم بينهما كالمسلمين، بخلاف المعاهدين؛ فإنه لا يلزمه الدفع عنهما.
فعلى هذا: إذا حكم بينهما.. لزمهما حكمه. وإن استدعاه أحدهما على الآخر فأحضره.. لزمه الحضور. وإن كانا على دينين.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: هي على قولين.
و [الثاني] : منهم من قال: يلزمه الحكم بينهما قولا واحدا؛ لأن كل واحد منهما

(12/284)


لا يرضى بحكم حاكم من أهل دين الآخر، بخلاف إذا كانا على دين واحد؛ فإننا إذا لم نحكم بينهما.. ترافعا إلى حاكم من أهل دينهما، فحكم بينهما.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا وقع منه التداعي في حقوق الله تَعالَى، فأما في حقوق الآدميين.. فيلزمه الحكم بينهما قولا واحدا؛ لأن حقوق الله تقبل المسامحة، بخلاف حقوق الآدميين.
ومنهم من قال: القولان في حقوق الآدميين، فأما في حقوق الله تَعالَى.. فيلزمه الحكم بينهما فيها قولا واحدا؛ لأن حق الله إذا لم يحكم به.. ضاع، وحق الآدمي يطالب به الآدمي، فلا يضيع.
ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو الأصح؛ لأنه يجب على الحاكم أن يحكم بين المسلمين في الجميع، فكذلك بين أهل الذمة.
وإن تحاكم إليه ذمي ومعاهد.. فهو كما لو تحاكم إليه ذميان. وإن تحاكم إليه مسلم مع ذمي أو معاهد.. لزمه الحكم بينهما قولا واحدا؛ لأنه لا يجوز أن يتحاكم المسلم مع خصمه إلى حاكم من الكفار. وإذا حكم بينهما.. لم يحكم إلا بحكم الإسلام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] [المائدة: 49] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] [المائدة: 42] .

[فرع: جناية الذمي بما يوجب حدا أو تعزيرا]
وإذا فعل الذمي شيئا محرما عليه في شرعنا وشرعهم، كالقتل، والزنا، والقذف، والسرقة.. وجب عليه ما يجب على المسلم من العقوبة؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل يهوديا قتل جارية على أوضاح لها» .

(12/285)


و: «رجم يهوديين زنيا بعد إحصانهما»
وإن كان محرما في شرعنا، غير محرم في شرعهم، كشرب الخمر.. لم يجب عليه الحد؛ لأنه مباح عندهم، لكن: إن أظهر شربه.. عزره على ذلك؛ لأنه إظهار منكر في دار الإسلام.

[مسألة: ما يشترط عليهم كحرمة كتاب الله ورسوله]
وتصنيف ما يذكر في العقد من حيث الوجوب وعدمه] :
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويشرط عليهم: أن من ذكر كتاب الله أو محمدا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسوء) إلى آخر كلامه.
وجملة ذلك: أن ما يجب على أهل الذمة على خمسة أضرب:
أحدها: ما يجب ذكره في العقد، وإن لم يذكر في العقد.. لم يصح العقد، وهو: بذل الجزية، والتزام أحكام المسلمين. فإن امتنعوا من أداء الجزية أو التزام أحكام المسلمين.. انتقضت ذمتهم؛ لأن الذمة لم تنعقد إلا بهما.
الضرب الثاني: ما لا يجب ذكره في العقد، ولكن إطلاق العقد يقتضيه، فإذا ذكر في العقد.. كان تأكيدا، وهو: تركهم قتال المسلمين، فمتى قاتلوا المسلمين منفردين أو مع أهل الحرب.. انتقضت ذمتهم، سواء شرط عليهم في العقد أو لم يشرط؛ لأن الأمان هو: أن نأمن منهم ويأمنوا منا، وهذا ينافي الأمان.
الضرب الثالث: ما لا يجب ذكره في العقد. قال ابن الصبَّاغ: ولا يقتضيه الإطلاق. وقال الشيخُ أبُو حامد: بل يقتضيه الإطلاق. ونص الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - من ذلك على ستة أشياء:

(12/286)


أحدها: أن لا يزني الذمي بمسلمة.
الثاني: أن لا يصيبها باسم النكاح.
الثالث: أن لا يفتن مسلما عن دينه.
الرابع: أن لا يقطع عليه الطريق.
الخامس: أن لا يؤوي عينا للمشركين.
السادس: أن لا يعين على المسلمين بدلالة.
وأضاف إليها أصحابنا: أن لا يقتل مسلما. فمتى فعل الذمي شيئا من هذه الأشياء.. نظرت: فإن لم يشترط عليه في العقد ترك هذه الأشياء.. لم تنتقض ذمته بذلك، بل يجب عليه الحد فيما يوجب الحد منها، والتَّعزِير فيما لا يوجب الحد؛ لبقاء ما يقتضيه العقد: من التزام أداء الجزية، والتزام الأحكام، والكف عن قتال المسلمين. وإن شرط عليهم ترك هذه الأشياء في العقد، ففعلوا شيئا منها.. فهل تنتقض ذمتهم؟
قال الشيخُ أبُو حامد: فيه قولان، وأكثر أصحابنا ذكرهما وجهين:
أحدهما: لا تنتقض ذمتهم بذلك؛ لأن ما لا تنتقض الذمة بفعله إذا لم يشرط تركه.. لم تنتقض بفعله وإن شرط تركه، كإظهار الخمر والخنزير، وعكسه قتال المسلمين.
والثاني: تنتقض ذمتهم، وهو الأصح؛ لما رُوِيَ: أن نصرانيا استكره مسلمة على الزِّنَى، فرفع إلى أبي عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: (ما على هذا صالحناكم، وضرب عنقه) . ولأن فيها ضررا على المسلمين. فإذا شرط عليهم تركها، فخالفوا.. كانوا ناقضين للذمة، كالامتناع من الجزية.
والضرب الرابع: اختلف أصحابنا في وجوب ذكره في العقد؛ وهو: أن لا يذكروا الله تَعالَى ولا رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا دينه بما لا يجوز.

(12/287)


فقال أبُو إسحاق: لا يصح عقد الذمة حتى يشترط عليهم ذلك في العقد، فمتى ذكر في العقد، فخالفوا.. انتقضت ذمتهم، كما قلنا في التزام الجزية، والتزام أحكام الإسلام.
وقال أكثر أصحابنا: حكمه حكم الأشياء السبعة، لا يجب ذكره في العقد. فإن لم يشترط عليهم تركه في العقد.. لم تنتقض ذمتهم بفعله. وإن شرط عليهم تركه.. فهل تنتقض ذمتهم؟ على القولين أو على الوجهين؛ لأن في ذلك ضررا على المسلمين، فكان حكمه حكم الأشياء التي فيها ضرر عليهم.
وقال أبُو بكر الفارسي من أصحابنا: من سب رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. وجب قتله حدا؛ لا لأنه انتقضت ذمته - ولم يذكر الشيخ أبُو حامد في " التعليق " غيره - ولـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يؤمن ابن خطل والقينتين» ؛ لأنهم كانوا يسبونه. ورُوِي: أن رجلا قال لابن عمر: سمعت راهبا يشتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (لو سمعته.. لقتلته؛ إنا لم نعطه الأمان على هذا) .
والأول أصح؛ لأن ابن خطل والقينتين كانوا مشركين لا أمان لهم قبل هذا.
الضرب الخامس: أنا قد ذكرنا أنه لا يجوز إحداث كنيسة ولا بيعة في دار الإسلام، ولا يرفعون أصواتهم بالتوراة والإنجيل، ولا يضربون الناقوس، ولا يظهرون الخمر والخنزير، ولا يطيلون بناءهم فوق بناء المسلمين، ولا يتركون لبس الغيار والزنار.. فهذه الأشياء لا يجب ذكرها في العقد. فإن خالفوا وفعلوا شيئا منها.. لم تنتقض ذمتهم سواء شرطت عليهم في العقد أو لم تشرط.
واختلف أصحابنا في علته: فمنهم من قال: لأنه لا ضرر على المسلمين في ذلك.

(12/288)


ومنهم من قال: لأنهم يتدينون بأكثرها.
هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا آووا عينا للمشركين، أو زنوا بمسلمة، أو سبوا مسلما، أو سرقوا ماله.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تنتقض ذمتهم بذلك.
والثاني: لا تنتقض.
والثالث: إن شرط عليهم أن لا يفعلوا ذلك، فخالفوا.. انتقضت ذمتهم. وإن لم يشرط عليهم.. لم تنتقض ذمتهم.
إذا ثبت هذا: فكل من فعل منهم ما يوجب نقض ذمته.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز قتله ولا استرقاقه، بل يجب رده إلى مأمنه؛ لأنه كافر حصل في دار الإسلام، فصار كالكافر إذا دخل بأمان صبي.
فعلى هذا: يستوفى ما وجب عليه من الحد، ثم يرد إلى مأمنه.
والثاني: أن الإمام فيه بالخيار: بين القتل، والاسترقاق، والمن، والفداء، وهو الأصح؛ لأن أبا عبيدة بن الجراح قتل النصراني الذي استكره المرأة المسلمة على الزِّنَى قبل أن يرده إلى مأمنه، ولا مخالف له. ولأنه كافر لا أمان له، فهو كالحربي إذا دخل دار الإسلام متلصصا.

[مسألة: لا يقيم مشرك في الحجاز]
ولا يجوز لأحد من الكفار الإقامة في الحجاز، ولا يجوز للإمام أن يصالحهم على ذلك، فإن فعل.. كان الصلح فاسدا؛ لما رَوَى ابن عبَّاس: أنه قال: «أوصى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلاثة أشياء؛ قال: " أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» قال ابن عبَّاس: ونسيت الثالث! ورُوِى عمر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(12/289)


قال: «لأخرجن اليهود من جزيرة العرب» وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» . والمراد بجزيرة العرب في هذه الأخبار: الحجاز؛ وهي: مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها. وسمي حجازا؛ لأنه حجز بين تهامة ونجد. والحجاز بعض جزيرة العرب؛ فإن جزيرة العرب - في قول الأصمعي - من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام في العرض. وفي قول أبي عبيدة: ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمين في الطول، وما بين يبرين إلى السماوة في العرض.
و (حفر أبي موسى) : قريب من البصرة.

(12/290)


والدليل على أن المراد بهذه الأخبار الحجاز لا غير: ما روى أبُو عبيدة بن الجراح: أن آخر ما تكلم به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن قال: «أخرجوا اليهود من الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب» ؛ لـ: (أنه صالحهم على ترك الربا، فنقضوا العهد) . ورُوِي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجلى أهل الذمة من الحجاز، فلحق بعضهم بالشام، وبعضهم بالكوفة) . و: (أجلى أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوما من

(12/291)


اليهود من الحجاز، فلحقوا بخيبر. وأجلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوما فلحقوا بخيبر أيضا، وأقروا فيها وهي من جزيرة العرب) . وما رُوِي أن أحدا من الخلفاء الراشدين أجلى من في اليمن من أهل الذمة وإن كانت من جزيرة العرب، فدلَّ على ما ذكرناه. ورُوِي: (أن نصارى نجران أتوا عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالوا له: إن الكتاب بيدك والشفاعة على لسانك، وإن عمر أخرجنا من أرضنا، فردنا إليها. فقال عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن عمر كان رشيدا في فعله، وإني لا أغير شيئا فعله عمر) .
ونجران ليست من الحجاز، وإنما لنقضهم الصلح الذي صالحهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ترك الربا.
فإن دخل داخل منهم الحجاز بغير إذن الإمام.. أخرجه وعزره إن كان عالما أن دخوله لا يجوز. وإن استأذن الإمام بعضهم في الدخول.. نظر الإمام: فإن كان في دخوله مصلحة للمسلمين؛ إما لأداء رسالة، أو عقد ذمة، أو هدنة، أو حمل ميرة، أو متاع فيه منفعة للمسلمين.. جاز له أن يأذن له في الدخول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] [التوبة: 6] . فأجاز: أن يسمع المسلمون المشرك القرآن، وذلك يتضمن الدخول.
فإن كان في تجارة لا يحتاج المسلمون إليها.. لم يأذن له في الدخول إلا بشرط أن

(12/292)


يأخذ من تجارته شيئا؛ لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمر أن يؤخذ من أنباط الشام من حمل القطنية من الحبوب العشر، ومن حمل الزيت والقمح نصف العشر) .
ولا يجوز لمن دخل منهم الحجاز بإذن الإمام أن يقيم في موضع أكثر من ثلاثة أيام؛ لما رُوِيَ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجلى اليهود والنصارى من الحجاز، وأذن لمن دخل منهم تاجرا أن يقيم ثلاثا) . ولأنه لا يصير مقيما بالثلاث، ويصير مقيما بما زاد.
فإن أقام في موضع ثلاثة أيام، ثم انتقل منه إلى موضع وأقام فيه ثلاثة أيام، ثم كذلك يقيم في كل موضع ثلاثا فما دون.. جاز؛ لأنه لم يصر مقيما في موضع.
فإن كان له دين في موضع ولم يمكنه أن يقبضه في ثلاث.. لم يمكن من الإقامة أكثر من ثلاث، بل يوكل من يقبضه له.
وإن دخل الحجاز بإذن الإمام ومرض.. جاز له أن يقيم في موضع حتى يبرأ وإن زادت إقامته على ثلاث؛ لأن المريض يشق عليه الانتقال. فإن مات فيه وأمكن نقله إلى غير الحجاز من غير تغير.. لم يدفن في الحجاز؛ لأنه إذا لم يجز له أن يقيم فيه وهو حي.. فلأن لا يجوز دفن جيفته فيه أولى. وإن لم يمكن نقله إلا مع التغير.. دفن؛ لأنه إذا لم يجب نقل المريض للمشقة.. فالميت أولى.

[فرع: لا يمنع أهل الذمة من ركوب البحر الأحمر]
قال الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يمنع أهل الذمة من ركوب بحر الحجاز والاجتياز فيه؛ لأنه لا حرمة للبحار، ولهذا لم يبعث أحد من الأنبياء صلوات الله

(12/293)


عليهم إلى البحار. ويمنعون من الإقامة في سواحل بحر الحجاز وجزائره؛ لأن لها حرمة أرض الحجاز) .

[مسألة: لا يدخل أحد من الكفار الحرم]
ولا يجوز لأحد من الكفار دخول الحرم بحال.
وحكى ابن الصباغ: أن أبا حَنِيفَة قال: (يجوز لهم دخوله، ولهم أن يقيموا فيه مقام المسافر، ويجوز لهم - عنده - دخول الكعبة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] [التوبة: 28] . ففيها ثلاثة أدلة:
أحدها: قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] [التوبة: 28] ولم يرد أنهم أنجاس الأبدان؛ لأنهم إذا أسلموا.. فهم طاهرون، وإنما أراد نجس الأديان. فنزه الحرم عن دخولهم إليه لشرفه. ولأنه رُوِيَ: «أن الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كانوا إذا حجوا وبلغوا الحرم.. نزعوا نعالهم ودخلوا حفاة؛ إجلالا للحرم» .
والثاني: قَوْله تَعَالَى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] [التوبة: 28] وأراد به: الحرم؛ لأن كل موضع ذكر الله المسجد الحرام.. فالمراد به: الحرم.
والدليل عليه: قوله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] [الإسراء: 1] وأراد به: الحرم؛ لأنه أسرى به من بيت خديجة. وقال الله تَعالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27] [الفتح: 27] ، وقال تَعالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] وأراد به: الحرم.
الثالث: أنه قال في سياق الآية: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] [التوبة: 28] . وإنما خافوا العيلة بانقطاع المشركين عن التجارة في الحرم، لا عن المسجد نفسه.
ورُوِي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحجن مشرك بعد عامي هذا» .

(12/294)


ورُوِي: أنه قال: «لا يدخلن مشرك المسجد الحرام» .
إذا ثبت هذا: فإن جاء بعضهم يحمل ميرة إلى الحرم.. خرج إليه من يشتري منه. وإن جاء ليسلم رسالة.. خرج إليه من يستمع منه ذلك، فإن قال: لا أؤدي الرسالة إلا إلى الإمام.. خرج إليه الإمام، ولا يأذن له في الدخول. فإن دخل منهم داخل إلى الحرم.. أخرج، فإن كان عالما أن ذلك لا يجوز.. عزر، وإن كان جاهلا.. نهي عن العود، فإن عاد.. عزر.
فإن صالحه الإمام على الدخول إلى موضع من الحرم بعوض.. لم يجز. فإن دخل إلى ذلك الموضع.. أخذ منه الإمام العوض المشروط عليه؛ لأنه قد حصل له المعوض. وإن دخل إلى دون ذلك المكان.. استحق عليه من العوض بقدر ما دخل. فإن مرض.. أخرج، وإن مات.. لم يدفن فيه؛ لأن جيفته أعظم من دخوله. فإن دفن فيه.. نبش وأخرج إلى الحل إلا أن يكون قد تقطع.. فلا يخرج؛ لـ: (أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر بنقل من مات منهم ودفن فيه قبل الفتح) .
إذا ثبت هذا: فإن الحرم من طريق المدينة على ثلاثة أميال، ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال، ومن طريق العراق على تسعة أميال، ومن طريق نجد على عرفة على تسعة أميال، ومن طريق جدة على عشرة أميال.

[فرع: يدخل الكافر المسجد بإذن مسلم]
فأما سائر المساجد: فلا يجوز للكفار دخولها بغير إذن المسلمين؛ لأنهم ليسوا من أهلها. فإن استأذن أحد منهم مسلما في الدخول، فإن كان للأكل أو النوم.. لم

(12/295)


يأذن له في الدخول؛ لأنه يرى ابتذال المسجد تدينا. وإن كان لاستماع القرآن أو علم أو ذكر.. أذن له في الدخول؛ لأنه ربما كان سببا لإسلامه.
ورُوِي: (أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اجتاز بباب أخته، فسمعها تقرأ سورة (طه) .. فأسلم) . وقال جبير بن مطعم: (سمعت القرآن، فكاد قلبي أن يتصدع.. فأسلمت) .
وكذلك: إن كان له حاجة إلى مسلم في المسجد، أو للمسلم إليه حاجة.. جاز له أن يدخل إليه.
وإن قدم على الإمام وفد من المشركين، فإن كان للمسلمين فضول منازل.. أنزلوهم فيها. وإن لم يكن لهم فضول منازل، وكان للإمام دار مرسوم للوفد.. أنزلهم فيها. وإن لم يكن لهم شيء من ذلك.. جاز له أن ينزلهم في المسجد، لما روي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد» و: «لما قدم سبي بني قريظة وبني النضير.. أنزلهم في المسجد إلى أن وجه بهم، فبيعوا» .
وهل يجوز للمسلم أن يأذن للكافر الجنب في دخول المسجد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه إذا منع المسلم الجنب من دخوله وإقامته فيه.. فلأن يمنع الكافر الجنب من دخوله أولى.

(12/296)


والثاني: يجوز له، لأن الكافر لا يعتقد تعظيمه فلم يمنع منه، والمسلم يعتقد تعظيمه فمنع منه. فإن دخل الكافر المسجد بغير إذن ولا حاجة له إلى مسلم فيه.. عزر إن كان عالما، ولا يعزر إن كان جاهلا، بل ينهى عن ذلك، فإن عاد.. عزر، لما رُوِيَ: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان على المنبر فنظر مجوسيا دخل المسجد، فنزل وضربه وأخرجه)
هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: إن شرط عليه أن لا يدخل.. عزره، وإن لم يشرط عليه.. فهل يعزره؟ فيه وجهان.

[مسألة: منع أهل الحرب دخول دار الإسلام بغير إذن الإمام]
أو رسالة وماذا لو اتجروا؟] :
ويمنع أهل الحرب من دخول دار الإسلام بغير إذن الإمام؛ لأن في دخولهم ضررا على المسلمين؛ لأنهم يتجسسون أخبارهم ويطلعون على عوراتهم، وربما اجتمعوا أو غلبوا على شيء من بلاد الإسلام. فإن دخل منهم رجل دار الإسلام.. سئل، فإن قال: دخلت بغير أمان ولا رسالة.. كان الإمام فيه بالخيار: بين القتل والاسترقاق، والمن، والفداء، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما رأى أبا سفيان بن حرب.. قال: «يا رسول الله، هذا أبُو سفيان، قد أمكن الله منه بلا أمان، ولا إيمان، فقال العباس: قد أمنته» وإن قال: دخلت برسالة.. قبل قوله؛ لأنه يتعذر إقامة البينة على الرسالة. وإن قال: دخلت بأمان مسلم.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقبل قوله؛ لأن الظاهر أنه لا يدخل من غير أمان، والأصل حقن دمه.
والثاني: لا يقبل قوله؛ لأنه يمكنه إقامة البينة على الأمان. والأول أصح.
وإن استأذن رجل منهم الإمام في الدخول، فإن كان للمسلمين مصلحة في دخوله؛ بأن يدخل لأداء رسالة، أو عقد ذمة، أو هدنة، أو حمل ميرة، أو متاع يحتاجه المسلمون.. جاز له أن يأذن له في الدخول بغير عوض يؤخذ منه. وإن كان

(12/297)


لتجارة لا يحتاج إليها المسلمون.. فالمستحب للإمام أن يأذن لهم في الدخول، ويشترط عليهم عشر تجارتهم؛ لـ (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أذن لهم في الدخول واشترط عليهم عشر تجارتهم) . فإن اشترط عليهم أقل من ذلك أو أكثر.. جاز؛ لأن ذلك إلى اجتهاد الإمام. وإن رأى أن يأذن لهم في الدخول من غير شرط عوض.. جاز، وإن أذن لهم في الدخول مطلقا من غير أن يشترط دفع العوض ولا عدمه.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يجوز للإمام أن يطالبهم بعوض؛ لأنه إنما يستحق العوض عليهم بالشرط ولم يشترط، فهو كما لو أذن لهم بغير عوض.
و [الثاني] : منهم من قال: يستحق عليهم العشر؛ لأن مطلق الإذن يحمل على المعهود في الشَّرع، وقد تقرر ذلك بفعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فحمل الإطلاق عليه.
هذا مذهبنا: وقال أبُو حَنِيفَة: (إن كان أهل الحرب لا يأخذون من المسلمين العشر إذا دخلوا بلادهم.. لم يأخذ الإمام منهم شيئا. وإن كانوا يأخذون من المسلمين العشر.. أخذ منهم الإمام العشر) .
دليلنا: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذ منهم العشر) ، ولم ينقل أنه سأل: هل يأخذون من المسلمين العشر أو لا يأخذون؟ ولا مخالف له في الصحابة.
وأمَّا أهل الذمة: فيجوز لهم أن يتجروا في بلاد المسلمين بغير عوض يؤخذ منهم إلا أن يشترط عليهم مع الجزية: إن اتجروا في بلاد الإسلام أخذ منهم نصف العشر.. فيجب عليهم ذلك؛ لما رُوِيَ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شرط على أهل الذمة مع الجزية إذا اتجروا في بلاد الإسلام نصف العشر من تجارتهم) .

(12/298)


وأمَّا دخولهم أرض الحجاز للتجارة: فهم كأهل الحرب إذا دخلوا دار الإسلام للتجارة، وقد مَضَى.
وإن دخل أهل الذمة إلى أرض الحجاز لتجارة لا يحتاج المسلمون إليها، ولم يشرط عليهم الإمام عوضا، ولا شرط أنهم يدخلونها بغير عوض.. فهل يجب عليهم نصف العشر لتجارتهم؟ فيه وجهان، كما قلنا في أهل الحرب إذا دخلوا بلاد الإسلام من غير شرط.
وما يؤخذ من أهل الذمة بالشرط لدخولهم أرض الحجاز أو لتجارتهم في بلاد الإسلام إن اشترط عليهم.. فإنه يؤخذ منهم في السنة مرة، كما قلنا في الجزية.
وأما ما يؤخذ من أهل الحرب لدخولهم دار الإسلام.. ففيه وجهان:
أحدهما: يؤخذ منهم في السنة مرة، كما قلنا في أهل الذمة.
والثاني: يؤخذ منهم في كل مرة يدخلون؛ لأن أهل الذمة في قبضته، فلا يضيع الحق بتأخيره، وأهل الحرب ليسوا في قبضته، فلا يؤمن أن يتجروا أكثر السنة، فإذا قاربوا آخر السنة.. رجعوا إلى دار الحرب، ثم لا يعودون، فيضيع المال المشروط عليهم.
وأمَّا الذي يؤخذ منهم: ينظر في الإمام: فإن شرط عليهم أن يأخذ من تجارتهم.. أخذ من متاعهم الذي معهم، سواء باعوه أو لم يبيعوه.
وإن شرط عليهم أن يأخذ من ثمن تجارتهم، فإن باعوه.. أخذ منهم، وإن كسد ولم يبيعوه.. لم يأخذ منهم شيئا.

[فرع: كتابة ما يأخذه الإمام من تجار أهل الذمة]
وإذا أخذ الإمام من أهل الحرب العشر، أو من أهل الذمة نصف العشر.. كتب لهم كتابا بما أخذه؛ لأنه ربما مات الإمام وخلفه غيره فيطالبهم، فإذا كان معهم كتاب.. لم يطالبهم بشيء.
قال الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وأحب للإمام أن يحدد في كل وقت وثائق أهل

(12/299)


الذمة وأهل الحرب بما كان بينهم من ذمة، وجزية، وأمان، وفي أي وقت استوفى ذلك؛ ليكون ظاهرا يرجع إليه، ويشهد على ذلك؛ لأنه ربما مات الشهود الأولون، كما يستحب للقضاة تجديد السجلات والوقوف، والإشهاد عليها كلما مَضَى وقت يخاف فيه موت الشهود؛ لئلا تنسى شروطها) .
وبالله التوفيق

(12/300)


[باب الهدنة]
الهدنة والمهادنة والمعاهدة والموادعة شيء واحد؛ وهو: العقد مع أهل الحرب على الكف عن القتال مدة، بعوض وبغير عوض.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] إلى قوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] [التوبة: 1-4] .
ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح سهيل بن عمرو على ترك القتال عشر سنين» .
إذا ثبت هذا: فلا يصح عقد الهدنة لجميع المشركين، أو لصقع إلا للإمام أو للوالي من قبله على إقليم يهادن أهل إقليمه.

(12/301)


فأما آحاد الرعية: فلا يجوز لهم ذلك؛ لأن ذلك من الأمور العظام التي تتعلق بمصلحة المسلمين، فلو جوزنا ذلك لآحاد الرعية.. لتعطل الجهاد.
فإذا أراد الإمام أن يعقد الهدنة مع جميع المشركين، أو مع أهل إقليم أو صقع عظيم.. نظرت: فإن كان مستظهرا عليهم، ولم ير مصلحة في عقد الهدنة.. لم يجز له عقدها، بل يقاتلهم إلى أن يسلموا، أو يبذلوا الجزية إن كانوا من أهل الكتاب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] [التوبة: 41] ولقوله تَعالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] . فأمر بالجهاد والقتال، والأمر يحمل على الوجوب. ولقوله تَعالَى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد: 35] [محمد: 25] .
وإن رأى الإمام مع استظهاره المصلحة في الهدنة؛ بأن يرجو أن يسلموا، أو يبذلوا الجزية، أو يعينوه على قتال غيرهم.. جاز له أن يعقد لهم الهدنة أربعة أشهر فما دونها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1] إلى قَوْله تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] [التوبة: 1-2] . قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وكان ذلك في أقوى ما كان رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فتح مكة.. هرب منه صفوان بن أمية، فقال له النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سح في الأرض أربعة أشهر» وكان مستظهرا عليه وعلى جميع الكفار، وإنما كان يرجو إسلامه، فأسلم بعد ذلك.
ولا يجوز للإمام أن يعقد الهدنة مع استظهاره سنة فما زاد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] . وهذا عام في جميع الأوقات، إلا ما خصه الدليل. ولأن السنة مدة تجب فيها الجزية، فلم يجز إقرارهم فيها بغير جزية. وهل يجوز عقد الهدنة فيما زاد على أربعة أشهر ودون السنة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لعموم الأمر بالقتال إلا ما خصه الدليل، ولم يرد الدليل إلا في أربعة أشهر.

(12/302)


والثاني: يجوز؛ لأنها مدة تقصر عن مدة الجزية، فجاز فيها عقد الهدنة، كأربعة أشهر.
وإن كان الإمام غير مستظهر على المشركين؛ أما لقلة عدد المسلمين، أو كثرة عدد المشركين، أو لضعف ثبات المسلمين في القتال، أو لقلة ما في يده من المال بالنسبة لما يحتاج إليه من المال في قتالهم.. فللإمام أن يهادنهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] [الأنفال: 61] و (السلم) : الصلح.
وله أن يهادنهم مع استظهارهم ما يرى فيه المصلحة من السنة وما زاد عليها إلى عشر سنين لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح سهيل بن عمرو في الحديبية على ترك القتال عشر سنين، وكتب في الكتاب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو: على وضع القتال عشر سنين» وإنما هادنهم هذه المدة؛ لأنه جاء إلى المدينة ليقيم لا ليقاتل، وكان بمكة مسلمون مستضعفون، فهادنهم حتى أظهر من بمكة إسلامه، فكثر المسلمون فيهم.
قال الشعبي: لم يكن في الإسلام فتح مثل صلح الحديبية.
هذا ترتيب الشيخ أبي إسحاق وابن الصبَّاغ. وذكر الشيخ أبُو حامد في " التعليق ": أن القرآن ورد بجواز الهدنة أربعة أشهر، و «عقد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الهدنة مع سهيل بن عمرو عشر سنين، ثم نقض الهدنة قبل انقضاء العشر» .
واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: نقض النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الهدنة.. نسخ للهدنة فيما زاد على أربعة أشهر.
ومنهم من قال: ليست بنسخ. وهو الأصح؛ لأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقد الهدنة سنة ست

(12/303)


من الهجرة عشر سنين على أن يعود معتمرا سنة سبع ويقيم بمكة ثلاثا، فعاد في سنة سبع واعتمر، وأخلت له قريش مكة وخرجوا منها، فقال لهم: " إنِّي أريد أن أتزوج فيكم وأطعم "، فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج، فخرج فسار إلى سرف على عشرة أميال من مكة، فتزوج ميمونة وبنى بها في ذلك الموضع، وأقام على الهدنة بعد ذلك قدر سنة، ثم وقع بعد ذلك بين بني بكر وبين خزاعة شر، وكانت خزاعة حلفا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبنو بكر حلفا لقريش، فأعانت قريش حلفاءها على حلفاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فانتقضت هدنتهم، فسار إليهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفتح مكة. فثبت أن الهدنة فيما زاد على

(12/304)


أربعة أشهر غير منسوخة، لأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام على الهدنة قدر سنتين.
فإذا قلنا: إن الهدنة منسوخة فيما زاد على أربعة أشهر.. لم يجز عقدها فيما زاد على أربعة أشهر لا لحاجة ولا لضرورة. وإن قلنا: إنه ليس بمنسوخ، فإن زاد الإمام عقد الهدنة كحاجة الضرورة؛ بأن كان المدد بعيدا عنه ويخاف سير المشركين.. فكم المدة التي يجوز عقد الهدنة إليها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز عقدها لأقل من السنة، ولا يجوز إلى سنة؛ لأن السنة مدة الجزية، فلا يجوز إقرارهم فيها من غير عوض.
والثاني: يجوز عقدها لسنة؛ لأنهم إنما لا يجوز إقرارهم في دار الإسلام سنة بغير عوض، وأمَّا الهدنة.. فهي كف عن القتال، فجاز إلى سنة من غير عوض.
وإن كان ذلك لضرورة؛ بأن كان العدو قد نزل على المسلمين وخافهم الإمام.. ففي المدة قولان:
أحدهما: لا تجوز إلا إلى سنة.
والثاني: تجوز إلى عشر سنين.
ولا يجوز عقد الهدنة إلى أكثر من عشر سنين بحال، بلا خلاف على المذهب. وقال أبُو حَنِيفَة وأحمد بن حنبل: (يجوز ذلك على ما يراه الإمام، كما يجوز الصلح على أداء الخراج من غير تقدير مدة) .
دليلنا: أن الله تَعالَى أمر بالقتال عاما في جميع الأوقات، وإنما خصصناه بما قام عليه الدليل، ولم يقم الدليل إلا في عشر سنين؛ بفعل النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلح الحديبية، فبقي ما زاد على مقتضى عموم الأمر. فإن عقد الهدنة إلى أكثر من عشر سنين.. لم

(12/305)


يصح العقد فيما زاد على العشر. وهل يصح العقد في العشر؟ على القولين، بناء على تفريق الصفقة. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: يصح في العشر، وتبطل فيما زاد قولا واحدا؛ لأنه يجوز فيما بين المسلمين والكفار ما لا يجوز بين المسلمين وحدهم. والأول هو المشهور.
إذا ثبت هذا: فإن المسعودي قال: [في " الإبانة "] : إذا طلب المشركون عقد الهدنة.. فالظاهر: أنه لا يجب على الإمام عقدها؛ إذ لا منفعة للمسلمين في ذلك. ومن أصحابنا من قال: إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك؛ بأن يرجو إسلامهم.. وجب عليه ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] الآية [التوبة: 6] .

[مسألة: عقد الهدنة مطلقا]
وإذا عقد الإمام الهدنة مطلقا.. لم يصح العقد؛ لأن الإطلاق يقتضي التأبيد، والهدنة لا يصح عقدها على التأبيد. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: يصح العقد، فإن كان الإمام مستظهرا.. انصرف إلى أربعة أشهر في أحد القولين، وإلى سنة في الثاني. وإن كان غير مستظهر.. انصرف العقد إلى عشر سنين.

[فرع: الهدنة من غير مدة ولكنها علقت بالمشيئة]
] : وإن هادنهم الإمام إلى غير مدة على أن له أن ينقض متى شاء.. جاز؛ لأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح أهل خيبر مطلقا، ولكن قال: «أقركم ما أقركم الله تَعالَى» . وفي بعض الأخبار: " أقركم ما شئنا ". فإن قال غير النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أقركم ما أقركم الله أو إلى أن يشاء الله.. لم تصح الهدنة؛ لأن ذلك لا يعلم إلا بالوحي، وقد انقطع الوحي بموت النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(12/306)


وإن قال: هادنتكم إلى أن يشاء فلان - وهو رجل، مسلم، أمين، عاقل، له رأي - جاز، فإذا شاء فلان أن ينقض.. نقض. وإن قال: هادنتكم إلى أن تشاءوا أو إلى أن يشاء رجل منكم.. لم يصح؛ لأنه جعل الكفار محكمين على الإسلام، وقد قال النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» .

[فرع: المدة التي يقر الحربي بها في دار الإسلام]
وإن دخل رجل من دار الحرب إلى دار الإسلام برسالة، أو بأمان، أو لحمل ميرة يحتاجها المسلمون، أو تاجرا.. قال الشيخُ أبُو حامد: فإنه يجوز للإمام أن يقره في دار الإسلام ما دون السنة بغير عوض؛ لأنه في حكم العقود، ولا يجوز له أن يقره سنة؛ لأن الجزية تجب فيها. فإذا قارب السنة.. قال له الإمام: إقرارك في دار الإسلام سنة بلا عوض لا يجوز، فإن كان وثنيا.. أمره أن يلحق بدار الحرب. وإن كان كتابيا.. قال له: إما أن تلحق بدار الحرب، أو تعقد لك الذمة وتبذل الجزية.
وقال ابن الصبَّاغ: يجوز له أن يقره أربعة أشهر بلا عوض، ولا يجوز له أن يقره سنة بغير عوض. وهل له أن يقره ما زاد على أربعة أشهر ودون السنة بغير عوض؟ على القولين في الهدنة مع استظهار الإمام.

[فرع: عقد الهدنة إلى مدة بشرط عوض]
ويجوز عقد الهدنة إلى مدة على أن يؤخذ من الكفار مال؛ لأن في ذلك مصلحة للمسلمين.
وأمَّا عقد الهدنة على مال يؤخذ من المسلمين، فإن لم يكن هناك ضرورة، لكن كان الإمام محتاجا إلى ذلك؛ بأن بلغه سير العدو وخافهم، أو كانوا قد ساروا ولم يلتقوا، أو التقوا ولم يظهروا على المسلمين ولا خيف ظهورهم.. فلا يجوز بذل العوض لهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة: 111] [التوبة: 111] .

(12/307)


قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فأخبر الله تَعالَى: أن المؤمنين إذا قتلوا أو قُتلوا.. استحقوا الجنة، فاستوى الحالتان في الثواب، فلم يجز دفع العوض لدفع الثواب، ولأن في ذلك إلحاق صغار بالمسلمين، فلم يجز من غير ضرورة) .
وإن كان هناك ضرورة بأن أسروا رجلا من المسلمين.. فيجوز للإمام ولغيره أن يبذل مالا لتخليصه؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فادى العقيلي برجلين من أصحابه بعدما أسلم العقيلي واسترق وحصل من جملة الأموال» فدلَّ على جواز بذل الأموال لاستنقاذ الأسارى من المسلمين.
وإن كان المسلمون في حصن، وأحاط المشركون بهم ولم يمكنهم الخروج منه ولا المقام فيه، أو التقى المسلمون والمشركون في مكان، وأحاط المشركون بهم من جميع الجهات، وكان المسلمون قليلا والمشركون كثيرا، وخاف الإمام هلاك المسلمين، أو التقوا وخاف الإمام هزيمة المسلمين.. فيجوز له في هذه المواضع أن يبذل للمشركين مالا ليتركوا قتالهم؛ لما رُوِيَ: «أن الحارث بن عمرو الغطفاني - رأس غطفان - قال للنبي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن جعلت لي يا محمد شطر ثمار المدينة، وإلا.. ملأتها عليك خيلا ورجلا؟ فقال له النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حتى أشاور السعود " - يعني: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وسعد بن زرارة - فشاورهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، فقالوا: يا رسول الله، إن كان هذا بأمر من السماء.. فتسليما لأمر الله، وإن كان هذا برأيك.. فرأينا لرأيك تبع، وإن لم يكن بأمر من السماء ولا برأيك.. فوالله ما كنا نعطيهم في الجاهلية بسرة ولا تمرة إلا قراء أو شراء، فكيف وقد أعزنا الله بالإسلام وبك يا رسول الله؟! وفي رواية: أن الحارث أنفذ إليه رسولا بذلك، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرسوله: " أوتسمع؟ " ولم يعطه شيئا.» .

(12/308)


وذكر الشيخ أبُو حامد: أن القبائل لما أحاطت بالمدينة عام الخندق.. وافق النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشركين على أن يجعل لهم ثلث ثمار المدينة وعلى أن ينصرفوا. ثم استشار سعد بن معاذ رئيس الأوس وسعد بن عبادة رئيس الخزرج، فأجاباه بنحو ما ذكرناه، فلم يعطهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئا.
فإن قيل: فإن كان النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون مضطرين إلى ذلك وقد فعله.. فكيف جاز له نقضه؟ وإن لم يكونوا مضطرين.. فكيف فعله؟ فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظن أن الحال حال ضرورة، وأن الأنصار قد ملوا القتال، فلما بان له قوة نياتهم في القتال.. علم أن الحال ليس بحال ضرورة، فنقض ما كان فعله، كما رُوِيَ: «أنه أقطع الأبيض بن حمال ملح مأرب، فقيل له: إنه كالماء العد من ورده.. أخذه، قال: فلا إذن» ؛ لأنه كان ظن في الابتداء أنه من المعادن التي يحتاج فيها إلى الحفر، فلما تبين له الحال.. نقض ما كان فعله.
والثاني: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن عقد الهدنة، ولم يكن بذل المال لهم، وإنما كان هَايَأَ المشركين على ذلك وهم بالعقد، فلما علم قوة نية الأنصار.. لم يعقد. فلو لم يجز بذل المال عند الضرورة.. لما شاورهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك.
إذا ثبت هذا: فهل يجب بذل المال عند الضرورة؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين في وجوب الدفع عن نفسه بالقتال، أو بأكل الميتة إذا اضطر إليها.
قال الشيخُ أبُو إسحاق: وإن قبض الكفار منهم المال على ذلك.. لم يملكوه؛

(12/309)


لأنه مال مأخوذ بغير حق، فلم يملكوه، كالمأخوذ بالقهر.
هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : لا يجوز أن يشترط الإمام للكفار مالا على المسلمين بحال، وكذلك: إذا كان في أيدي الكفار مال للمسلمين.. فلا يجوز للإمام أن يعاقدهم على أن يترك ذلك المال لهم. ولو كان في أيديهم أسير.. فلا يجوز أن يعاقدهم على أن يردوا ذلك الأسير إليهم. وإن انفلت منهم.. لم يجز معاقدتهم على أن يرد ذلك الأسير إليهم.

[مسألة: لا ترد المسلمات لأجل الهدنة]
ولا يجوز عقد الهدنة على رد من جاء من المسلمات منهم إلينا؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقد الصلح في الحديبية، ثم جاءته بعد ذلك أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مسلمة، فجاء أخواها يطلبانها، فأراد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يردها عليهما، فمنعه الله من ردها بقوله تَعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] الآية [الممتحنة: 10] فقال النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الله تَعالَى قد منع من الصلح في النساء» ولم يردها عليهم، ولأنه لا يؤمن أن تزوج بمشرك، أو تفتن عن دينها لنقصان عقلها.
واختلف أصحابنا على أي وجه عقد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الهدنة: فقال أبُو إسحاق: يحتمل معاني:
أحدها: أنه كان عقدها بشرط أن يرد عليهم من جاءه من المسلمات، وكان ذلك الشرط صحيحا حال العقد، إلا أن الله تَعالَى نسخه ومنع من ردهن بالآية.
والثاني: أنه كان شرط ردهن في العقد، ولكن كان ذلك الشرط فاسدا، وهل كان النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم فساده؟ فيه وجهان:

(12/310)


أحدهما: أنه لم يكن علم فساده، بل ظنه صحيحا، ثم بين الله تعالى فساده. والنَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجوز عليه الخطأ لكن لا يقر عليه، وغير النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجوز عليه الخطأ ويقر عليه.
والوجه الثاني: أنه كان علم فساده، ولكن اضطر إلى ذلك العقد فعقده، واعتقد أنه لا يفي به ولكن اعتقد أنه يفي بموجبه وهو: رد المهر.
والاحتمال الثالث: أنه كان عقد الهدنة مطلقا من غير شرط رد المسلمات، ولكن العقد اقتضى الكف والأمان وأن نكف عن أموالهم ليكفوا عن أموالنا، والبضع يجري مجرى الأموال.
هذا ترتيب الشيخ أبي حامد. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل كان شرط النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد المسلمات؟ فيه قولان، وفائدة ذلك نذكرها فيما بعد إن شاء الله تَعالَى.

[فرع: عقد الهدنة لرد المسلمين المهاجرين]
] : ولا يجوز عقد الهدنة على رد من جاء من المسلمين منهم إلينا، ممن لا عشيرة له تمنع عنه. ويجوز عقدها على رد من جاء من المسلمين منهم إلينا، ممن له عشيرة تمنع عنه. ولا يجوز عقدها على رد من جاء من المسلمين منهم إلينا مطلقا؛ لأنه يدخل فيه من له عشيرة ومن لا عشيرة له؛ لأن من لا عشيرة له يخاف عليه أن يفتن عن دينه؛ ولهذا تجب عليه الهجرة. ومن له عشيرة تمنع عنه لا يخاف عليه أن يفتن عن دينه؛ ولهذا يستحب له أن يهاجر ولا يجب عليه؛ ولهذا المعنى: «فادى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العقيلي بعد أن أسلم برجلين من أصحابه» ؛ لأن العقيلي كان له عشيرة تمنع منه.
ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن ينفذ أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى مكة عام الحديبية، فامتنع وقال: ليس لي بها رهط ولا عشيرة، وأراد أن ينفذ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال

(12/311)


مثل ذلك، فأنفذ عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه كان له بها رهط وعشيرة، وهم: بَنُو أمية، فلما دخل مكة.. أكرموه، واستمعوا رسالته، وقالوا له: إن اخترت أن تطوف بالبيت.. فطف، فقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فثاروا عليه وهموا بقتله» هذا ترتيب أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : يجوز عقدها على رد من جاء منهم مسلما من غير تفصيل.
إذا ثبت هذا: فإن عقدت الهدنة على ما لا يجوز، مثل: أن عقدت على بذل مال لهم في غير حال الضرورة، أو على أن لا يردوا ما حصل في أيديهم من أموال المسلمين، أو على أن نرد إليهم من جاءنا من المسلمين والمسلمات، وما أشبه ذلك، أو عقدت الذمة على ما لا يجوز عقدها عليه.. كان العقد فاسدا؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل عمل ليس عليه أمرنا.. فهو رد» ورُوِي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (ردوا الجهالات إلى السنة) .
وإن عقدت الهدنة عقدا صحيحا.. وجب الوفاء بها إلى انقضاء مدتها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] [المائدة: 1] ، ولقوله تَعالَى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] [التوبة: 4] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] [التوبة: 7] .
«ورَوَى سليمان بن عامر: أنه كان بين معاوية وبين الروم هدنة، فأراد أن يغير عليهم، فقال له عمرو بن عبسة: سمعت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من كان بينه وبين قوم عهد.. فلا يحل عقدة ولا يشدها حتى يمضي أمدها، أو ينبذ إليهم عهدهم على سواء» . فانصرف معاوية ذلك العام.

(12/312)


وإذا عقد الإمام الهدنة، ثم مات أو عزل، ثم ولي إمام بعده.. وجب عليه الوفاء بما عقده الإمام قبله؛ لما رُوِيَ: أن نصارى نجران قالوا لعلي كرم الله وجهه: إن الكتاب بيديك، والشفاعة إليك، وإن عمر قد أجلانا من أرضنا، فردنا إليها، فقال علي: (إن عمر كان رشيدا في أمره، وإني لا أغير أمرا فعله عمر) . ولأن الأول فعله باجتهاده، فلم يجز لمن بعده نقضه باجتهاده.

[فرع: عقد الهدنة مع المشركين ومنعهم]
إلا من بعضهم على بعض وأهل الحرب] :
إذا عقد الإمام الهدنة لقوم من المشركين.. فعليه أن يمنع عنهم كل من قصدهم من المسلمين وأهل الذمة؛ لأن عقد الهدنة اقتضى ذلك. ويجب على المسلمين وأهل الذمة ضمان ما أتلفوه عليهم من نفس ومال، والتَّعزِير بقذفهم، ولا يجب على الإمام أن يمنع بعضهم من بعض، ولا يمنع عنهم أهل الحرب؛ لأن الهدنة لم تعقد على حفظهم، وإنما عقدت على ترك قتالهم، بخلاف أهل الذمة؛ فإنهم قد التزموا أحكام المسلمين، فلذلك وجب على الإمام منع كل من قصدهم، وهؤلاء لم يلتزموا أحكام المسلمين.

[مسألة: جاءت حرة مسلمة إلى بلد له إمام وتفسير آية الممتحنة]
إذا جاءت منهم حرة مسلمة إلى بلد فيه الإمام أو نائب عنه.. فقد ذكرنا: أنه لا يجوز ردها إليهم. فإن جاء بعض قرابتها، مثل أبيها أو أخيها يطلبها.. فإنها لا ترد إليه، ولا يجب أن يرد إليه مهرها. فإن كان لها زوج وجاء يطلبها.. فإنها لا ترد إليه، وهل يجب على الإمام أن يرد إليه مهرها؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] الآية إلى قوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] .

(12/313)


والثاني: لا يجب - وهو اختيار الشافعيُّ، والمزني، وبه قال أبُو حَنِيفَة وأحمد ـ وهو الأصح، لأن البضع ليس بمال، والأمان لا يدخل فيه إلا المال، ولهذا: لو أمن مشركا.. لم تدخل امرأته في الأمان. ولأنه لو ضمن البضع بالحيلولة.. لضمنه بمهر المثل، ولا خلاف أنه لا يضمنه بمهر المثل.
وهذان القولان مأخوذان من كيفية هدنة النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية:
فإن قلنا: إنه كان شرط في العقد رد من جاءه من المسلمات، ثم نسخه الله تَعالَى ونهاه عن ردهن، وأمره برد مهرهن.. فعلى هذا: لا يجب على غير النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأئمة رد المهر؛ لأن ذلك إنما لزم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشرط. وإن قلنا: إن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عقد الهدنة مطلقا، واقتضى الإطلاق الكف عن المال، والبضع يجري مجرى المال.. وجب على غيره من الأئمة رد المهر، لأن هذا يوجد في منع غير النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ردها إليهم.
قال ابن الصبَّاغ: ورأيت بعض أصحابنا ذكر: أنه إن كان قبل الدخول.. وجب رد المهر قولا واحدا؛ لأن المرأة إذا أسلمت قبل الدخول تحت الكافر.. سقط مهرها.
قال: وهذا سهو من هذا القائل؛ لأن كلامنا في رد الإمام المهر: من سهم المصالح، فأما المرأة: فلا يجب عليها رد ما غلبت عليه الكفار.
ولو كانت أمة فجاءت مسلمة.. فإنه يحكم بحريتها.
إذا ثبت هذا: فتكلم الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في تفسير هذه الآية وهي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] فمعنى قوله: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] أي: اختبروهن، فإن علمتموهن مؤمنات، يعني: إن ظننتم ذلك بقولهن، والعلم يعبر به عن الظن؛ لأنه جار مجراه في وجوب العمل به. {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] لأن بالإسلام وقع التحريم بينهن وبين الكفار. فإن كان قبل الدخول. فقد انفسخ النكاح، وإن كان بعد الدخول.. وقف الفسخ على انقضاء العدة. {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] وهو: رد المهر

(12/314)


{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] أباح الله تَعالَى للمسلمين التزوج بهن، وأراد: إذا كان قبل الدخول أو بعد الدخول وبعد انقضاء العدة وقبل إسلام زوجها الأول {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] يعني: مهورهن. {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وهن المسلمات إذا ارتددن عن الإسلام، وأراد: قبل الدخول أو بعد الدخول إذا لم ترجع إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] وأراد بذلك: أن المسلمة إذا ارتدت وهربت إلى دار الحرب، أو الذمية إذا نقضت العهد ولحقت بدار الحرب، والزوج مقيم في دار الإسلام.. فلزوجها أن يطالبهم بمهرها. وإذا جاءت منهم امرأة مسلمة إلى دار الإسلام.. فلزوجها أن يطالبهم بمهرها.
وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10] . قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يحتمل هذا تأويلين:
أحدهما: أنه أراد بذلك المسلمة إذا ارتدت وهربت إلى دار الحرب وزوجها في دار الإسلام، وجاءت امرأة منهم مسلمة، وجاء زوجها يطلبها.. فإن الإمام يكتب إلى ملك الكفار فيقول: ادفعوا مهر المرأة التي هربت من عندنا إليكم إلى زوج المرأة التي هربت من عندكم إلينا، ونحن ندفع إليكم مهر المرأة التي هربت من عندكم إلينا إلى زوج المرأة التي هربت من عندنا إليكم. فإن تساوى المهران.. فلا كلام، وإن اختلفا.. رجع صاحب الفضل بما بقي له، فالمعاقبة المقاصة.
والتأويل الثاني: أنه أراد بذلك: أن المرأة إذا هربت إلى دار الحرب مرتدة.. فلم يرد على زوجها مهرها، فإن المسلمين إذا غنموا منهم غنيمة.. وجب دفع مهرها إلى زوجها من تلك الغنيمة) .
قال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا ارتدت امرأة منا وهربت إليهم، فإن كان الإمام

(12/315)


قد اشترط أن من جاءهم منا كافرا لم يردوه علينا.. لم تسترد تلك المرأة، وغرم الإمام مهرها لزوجها؛ لأنه هو الذي حال بينه وبينها بعقد الهدنة.

[فرع: جاءت مسلمة ولحقها زوجها يطلبها]
إذا جاءت منهم امرأة مسلمة، وجاء زوجها في طلبها، فإن قلنا: لا يجب رد مهرها.. فلا تفريع، وإن قلنا: يجب رد مهرها عليه.. فإنما يجب ذلك إذا كان الزوج قد سمى لها مهرا صحيحا ودفعه إليها، فأما إذا لم يسم لها مهرا صحيحا، أو سمى لها مهرا صحيحا ولم يدفعه إليها، أو سمى لها مهرا فاسدا كالخمر والخنزير سواء دفعه أو لم يدفعه.. فلا يجب رده إليه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] وهذا لم ينفق.
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإنما يرد الإمام عليه ما دفعه إليها مهرا، فأما ما أنفقه على العرس أو ما دفعه إليها بالنفقة والكسوة.. فلا يجب رده إليه؛ لأن ذلك ليس ببدل عن البضع، وإنما هو بدَّل عن التمكين من الاستمتاع بها؛ ولا يجب ذلك إلا إذا جاءت إلى بلد فيه الإمام أو النائب عنه ومنع منها، فيجب دفعه من سهم المصالح؛ لأنه من المصالح. فأما إذا جاءت إلى بلد ليس فيه الإمام ولا النائب عنه وإنما فيه المسلمون، ثم جاء زوجها يطلبها.. وجب عليهم منعه منها؛ لأن ذلك أمر بالمعروف، ولا يجب رد مهرها إلى زوجها؛ لأنه لا نظر لهم في سهم المصالح) . هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن كان الإمام شرط أن من جاءني منكم مسلما رددته.. لم يجب غرامة مهرها؛ لأنها لم تجئ إليه. وإن كان قد شرط أن من جاء المسلمين منكم مسلما رددناه.. غرم مهرها.

[فرع: قبضت مهرها ثم وهبته له ثم أسلمت وهاجرت]
وإن قبضت صداقها من زوجها، ثم وهبته له، ثم أسلمت وجاءت إلى بلد فيه

(12/316)


الإمام، وجاء زوجها يطلبها.. فهل يجب رده عليه؟ فيه قولان بناء على القولين في غير المدخول بها إذا وهبت لزوجها صداقها وطلقها قبل الدخول.. فهل يجب عليها أن تغرم نصفه له؟ فيه قولان.

[فرع: جاءت امرأة من الكفار وجنت]
إذا جاءت امرأة منهم وجنت.. نظر فيها: فإن أسلمت عندهم ثم جاءت عاقلة ثم جنت، أو جاءت إلى دار الإسلام عاقلة ثم أسلمت ثم جنت.. فإنه لا يجوز ردها إليهم؛ لأن إسلامها قد صح، ويجب رد مهرها؛ لأن الحيلولة حصلت بالإسلام.
وإن جاءت مجنونة ولم يعلم إسلامها قبل الجنون إلا أنها وصفت الإسلام في حال جنونها.. فإنه لا يجوز ردها إليهم؛ لجواز أن تكون قد أسلمت قبل جنونها، ولا يجب رد مهرها إليهم قبل إفاقتها؛ لجواز أنها وصفت الإسلام في حال جنونها. فإن أفاقت ووصفت الإسلام.. وجب رد مهرها، وإن وصفت الكفر.. ردت إلى زوجها، ولم يجب رد مهرها.
وإن جاءت وهي مجنونة ولم يعلم إسلامها قبل جنونها ولا وصفت الإسلام حال جنونها.. قال الشيخُ أبُو حامد: فإنه لا يجوز ردها؛ لأن الظاهر منها لما جاءت إلى دار الإسلام أنها قد أسلمت. ولا يجب رد مهرها قبل الإفاقة؛ لجواز أنها غير مسلمة. فإن أفاقت ووصفت الإسلام.. وجب رد مهرها، وإن وصفت الكفر.. ردت، ولم يجب رد مهرها.

[فرع: جاءت صغيرة إلى دار الإسلام]
وإن جاءت منهم صغيرة ووصفت الإسلام.. فإنه لا يجوز ردها إليهم وإن لم يحكم بإسلامها؛ لأن الظاهر أنها تصف الإسلام بعد البلوغ، فإذا ردت إليهم فتنوها وزهدوها عن الإسلام. فإذا بلغت ووصفت الإسلام.. رد مهرها إلى زوجها، وإن

(12/317)


وصفت الكفر.. قرعت وأنبت، فإن أقامت على ذلك.. ردت إلى زوجها. وإن جاء زوجها يطلبها قبل بلوغها.. فهل يجب رد مهرها؟
قال الشيخُ أبُو حامد وابن الصبَّاغ: فيه قولان، وحكاهما الشيخ أبُو إسحاق وجهين:
أحدهما: لا يجب رده إليه، لأنا لم نتحقق إسلامها، فلم يجب رد مهرها، كالمجنونة.
والثاني: يجب رده إليه، لأن وصفها الإسلام منع ردها إليه، فوجب دفع مهرها إليه كالبالغة. فعلى هذا: إذا بلغت ووصفت الكفر.. ردت إليه واسترجع منه ما دفع إليه من المهر.

[فرع: قدمت لدار الإسلام ثم ارتدت]
وإن قدمت امرأة مسلمة منهم ثم ارتدت.. لم ترد إليهم؛ لأنه يجب قتلها. فإن جاء زوجها يطلبها، فإن جاء بعد قتلها.. لم يجب رد مهرها إليه؛ لأن الحيلولة بينهما حصلت بالقتل، وإن طلبها قبل قتلها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق:
أحدهما: لا يجب دفعه إليه؛ لأن منعه منها لإقامة الحد عليها لا بالإسلام.
والثاني - ولم يذكر ابن الصبَّاغ غيره -: أنه يجب دفعه إليه؛ لأن الحيلولة بينهما حصلت بحكم الإسلام.

[فرع: جاءت لدار الإسلام مسلمة ولها زوج فمات أحدهما]
وإن جاءت امرأة منهم مسلمة ولها زوج، فمات أو ماتت.. نظرت: فإن مات، أو ماتت قبل وصول الزوج إلى دار الإسلام أو بعد وصوله له وقبل مطالبته بها.. لم يجب رد المهر؛ لأن الحيلولة بينهما حصلت بالموت. وإن وصل إلى البلد وطالب

(12/318)


بها، ثم مات أو ماتت.. وجب رد المهر؛ لأن الحيلولة وجدت حال الحياة. فإن كانت هي الميتة.. وجب دفع المهر إليه، وإن كان الزوج هو الميت.. دفع المهر إلى ورثته.

[فرع: جاءت منهم مسلمة أو كافرة أسلمت ثم طلقت]
إذا جاءت منهم امرأة مسلمة، أو كافرة ثم أسلمت، ثم طلقها الزوج.. نظرت: فإن كان الطلاق بائنا، فإن طلقها قبل المطالبة.. لم يجب دفع المهر إليه؛ لأن الحيلولة حصلت بإبانته لها لا بالمنع. وإن طالب بها فمنع، ثم أبانها.. وجب دفع المهر إليه؛ لأنه لما طالب بها فمنع.. استحق المهر، فلم يسقط ذلك بالبينونة.
وإن طلقها طلاقا رجعيا.. قال الشيخُ أبُو حامد: فإن طلقها بعد المطالبة والمنع.. وجب دفع المهر إليه؛ لأنه استحقه بالمنع، فلم يسقط بالطلاق الرجعي. فإن طلقها قبل المطالبة.. لم يجب دفع المهر إليه؛ لأنه غير ممسك لها زوجة، فإن راجعها في عدتها ثم طالب بها.. وجب دفع المهر إليه.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق: إذا طلقها طلاقا رجعيا.. لم يجب المهر؛ لأنه تركها برضاه. ولعله أراد: إذا طلقها قبل المطالبة.

[فرع: جاءت مسلمة ثم أسلم زوجها]
إذا جاءت منهم امرأة مسلمة ثم أسلم زوجها، فإن كان بعد الدخول.. نظرت: فإن أسلم قبل انقضاء عدتها.. فهما على النكاح، ولا يجب له المهر. فإن كان قد طالب بمهرها قبل إسلامه وأخذه.. رده؛ لأن البضع قد عاد إليه. وإن أسلم بعد انقضاء عدتها.. فقد وقعت الفرقة بينهما، وأمَّا المهر: فإن كان قد طالب بها قبل إسلامه وأخذه.. لم يرده، وإن طالب بها قبل إسلامه فمنع منها، ثم أسلم قبل أن يأخذ مهرها.. وجب دفع المهر إليه؛ لأنه قد وجب له بمنعها منه قبل إسلامه، فلم يسقط بإسلامه.

(12/319)


وحكى القاضي أبُو الطيب في " المجرد " عن أبي إسحاق وجها آخر: أنه لا مهر له؛ لأنه لم يستقر له بالقبض، فهو كما لو أسلم قبل قبض العوض في البيع الفاسد.. فإنه لا يستحق قبضه. والأول أصح. وإن أسلم قبل أن يطالب بها.. لم يجب دفع المهر إليه؛ لأنه لما أسلم.. التزم أحكام الإسلام، وليس من أحكام الإسلام المطالبة بالمهر لأجل الحيلولة بالإسلام. وهكذا ذكر الشيخ أبُو حامد وابن الصبَّاغ.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق: إذا أسلم بعد انقضاء العدة، فإن كان قد طالب بها قبل انقضاء العدة.. وجب المهر؛ لأنه قد وجب قبل البينونة. وإن لم يطالب إلا بعد انقضاء العدة.. لم يجب؛ لأن الحيلولة حصلت بالبينونة باختلاف الدين. فيأتي على تعليل الشيخ أبي إسحاق هذا: أن المرأة إذا دخل بها وأسلمت وجاءت إلى بلاد الإسلام، ولم يطالب بها زوجها إلا بعد انقضاء عدتها.. أنه لا يجب دفع المهر.
وإن أسلم الزوج قبل الدخول.. فذكر الشيخ أبُو حامد في " التعليق ": أن حكمه حكم ما لو أسلم بعد انقضاء عدتها وكانت مدخولا بها.. فتقع الفرقة بينهما، وأمَّا المهر: فإن طالب بها ثم أسلم.. وجب له المهر، فإن أسلم ثم طالب بها.. لم يجب له المهر. وذكر ابن الصبَّاغ: أنه لا يجب له المهر؛ لأنها بانت بإسلامها. فإذا أسلم بعد ذلك.. لم يكن له المطالبة بالمهر.

[فرع: يدفع المهر إذا صادقته المرأة على الزوجية]
كل موضع قلنا: يجب فيه دفع المهر إليه.. فإنما يجب دفعه إليه إذا صادقته المرأة على الزوجية، وأنها قبضت منه المهر الذي ادعاه. وإن أنكرت عين النكاح.. لم يقبل قوله حتى يقيم شاهدين، ذكرين، مسلمين، عدلين. فإن أقام شاهدا وأراد أن يحلف معه، أو أقام شاهدا وامرأتين.. لم يثبت النكاح؛ لأن النكاح لا يثبت بذلك.
وإن صادقته على الزوجية، أو أقام البينة عليها واختلفا فيما قبضته منه من الصداق، وأقام على ذلك شاهدا وحلف معه، أو شاهدا وامرأتين.. حكم له به؛ لأنه

(12/320)


مال. وإن لم يكن معه بينة.. قال ابن الصبَّاغ: فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم القبض.
وذكر الشيخ أبُو حامد في " التعليق ": أنهما إذا اختلفا.. قال الشافعي: (نظر الإمام قدر مهر مثل المرأة - ويمكن معرفة ذلك من التجار المسلمين الذين يدخلون دار الحرب، أو من أسارى المسلمين الذي يتخلصون منهم- واستحلف الرجل أنه أصدقها ذلك القدر، وسَلَّمه إليها) ؛ لأنه لا يجوز أن يكون أصدقها أقل من مهر مثلها. فإن أقامت بينة بعد ذلك أنه كان أصدقها أقل من ذلك.. استرجع منه الفضل، وإن أقام بينة أنه أصدقها أكثر منه.. سلم إليه الفضل.

[فرع: جاءت أمة لهم مسلمة]
وإن جاءت أمة لهم مسلمة إلى بلد فيه الإمام.. فقد صارت حرة؛ لأنها ملكت نفسها بالقهر، فإن جاء مولاها يطلبها.. فإنها لا ترد إليه؛ لأنها قد صارت حرة، وهل يجب رد قيمتها؟ قال الشيخُ أبُو حامد: فيه قولان، كما قلنا في المهر.
وقال القاضي أبُو الطيب: لا يجب دفع القيمة إليه قولا واحدا؛ لأنها صارت حرة، وليس المانع الإسلام، كما لو أسلمت قبل الدخول ثم جاء زوجها يطلب مهرها.
قال ابن الصبَّاغ: والأول أصح؛ لأن الإسلام هو المانع من ردها إليه، ولو كانت حرة غير مسلمة.. لم يمنع منها. وقول القاضي: (أنها إذا أسلمت قبل الدخول.. لم يجب دفع المهر إليه) ليس بصحيح، بل في وجوب دفع المهر إليه بإسلامها قبل الدخول قولان، وإنما لا يجب إذا أسلم الزوج؛ لأنه التزم أحكام الإسلام.
هكذا ذكر الشيخ أبُو حامد وابن الصبَّاغ. وأمَّا الشيخ أبُو إسحاق فقال: إن فارقتهم وهي مشركة ثم أسلمت.. صارت حرة؛ لأن الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض، ولا يجوز ردها إلى سيدها، وهل يجب رد قيمتها؟ فيه طريقان:
أحدهما: أنه على قولين.

(12/321)


والثاني: لا يجب قولا واحدا، وهو الصحيح. وإن أسلمت وهي عندهم ثم هاجرت.. لم تصر حرة؛ لأنهم في أمان منا، وأموالهم محظورة علينا، فلم يزل الملك فيها بالهجرة. فإن جاء سيدها يطلبها.. لم ترد إليه؛ لأنها مسلمة، فلم يجز ردها إلى مشرك، فإن طالب بقيمتها.. وجب دفعها إليه، كما لو غصب منهم مال وتلف. قلت: والذي يقتضي المذهب في هذا: أنه لا يجب دفع قيمتها إليه من بيت المال، بل يؤمر بإزالة ملكه عنها ببيع أو غيره؛ لأنه لا يحكم لها بحرية، فتكون كأمة الكافر إذا أسلمت وهي تحت يده.
فإن كانت هذه الأمة مزوجة فجاء زوجها يطلبها.. فإنها لا ترد إليه، فإن كان قد دفع مهرها إلى سيدها، فإن كان زوجها حرا.. فهل يجب دفع المهر إليه؟ على القولين. وإن كان زوجها عبدا.. فلها أن تختار الفسخ إذا أعتقت، فإن فسخت النكاح.. لم يجب رد مهرها؛ لأنا لم نحل بينه وبينها، وإنما حال بينهما الفسخ، وإن لم تختر الفسخ.. وجب رد مهر مثلها، ولكن لا يجب رده إلا إن حضر العبد وطالب بها وحضر سيده وطالب بالمهر؛ لأن المهر له.
هذا ترتيب أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: إذا جاءت منهم الأمة مسلمة، فجاء زوجها في طلبها.. لم نغرم له مهرها؛ لأنه غير مالك لبضعها على الحقيقة. ولو جاء سيدها.. لم نغرم له شيئا؛ لأنا نقول له: قد عقدت عليها عقدا جعلت غيرك أحق بها منك. وإن جاء الزوج والسيد.. غرمنا قيمتها لسيدها، ومهرها لزوجها.

[مسألة: أسلم وهاجر إلى دار الإسلام وجواز رده إن كان له عشيرة تمنعه]
وإن أسلم حر منهم وهاجر إلى دار الإسلام، فإن كانت له عشيرة تمنع عنه.. جاز له العودة إليهم. فإن لم تكن له عشيرة تمنع عنه.. لم يجز له الرجوع إليهم.

(12/322)


وإن عقد الإمام الهدنة على رد من جاء من الرجال مسلما ممن له عشيرة، فأسلم رجل منهم له عشيرة وهاجر إلى الإمام وجاء من يطلبه.. فإنه يرده إليهم؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد أبا بصير وأبا جندل على من جاء يطلبهما» ، ولسنا نريد بالرد أنه يكرهه على الرجوع؛ لأنه لا يجوز إجبار المسلم على الإقامة في دار الحرب، ولكن الإمام يقول لطالبه: لا نمنعك من رده إن قدرت، ولا نعينك عليه، ويقول للمسلم في الظاهر: إن اخترت الرجوع.. لم نمنعك منه. ويشار عليه في الباطن: أن يهرب من البلد إذا علم أنه قد جاء من يطلبه، فإن جاء من يطلبه وأخذه.. أشير عليه في الباطن: أن يهرب منه في الطريق. وعلى هذا يحمل ما روي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد أبا بصير وأبا جندل» . أي: خلى بينهم وبين الرجوع؛ لا أنه أكرههما. وقيل: إن أبا بصير قتل اثنين في الطريق ورجع وقال: قد وفيت لهم يا رسول الله، ونجاني الله منهم. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا جاء من يطلبه، فإن كان له أب شفيق أو قرابة يعلم أنه لا يستذل بينهم.. رد إليهم. وإن لم يكن له قرابة، وخفنا أن يستذل بينهم.. لم يرد إليهم.
وأمَّا كيفية الرد: فإن كان الإمام قد شرط لهم أن كل من أتى مسلما حمله إليهم.. وجب حمله إليهم، وإن شرط أن يخلي بينه وبينه.. لم يجب حمله، وخلي سبيله، ثم يحملونه إن شاؤوا. ولا بأس أن يشار على المطلوب بقتل طالبه أو الهرب منه تعريضا لا تصريحا؛ لأجل العهد؛ لما رُوِيَ: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأبي جندل حين رد إلى أبيه: (إن دم الكافر مثل دم الكلب) يعرض له بقتل طالبه الكافر.

(12/323)


[فرع: جاء صبي أو مجنون وجاء من يطلبه]
وإن جاء صبي منهم ووصف الإسلام وجاء من يطلبه.. لم يجز رده إليهم؛ لأنه إن لم يكن له عشيرة.. ربما قتل، وإن كانت له عشيرة.. ربما فتن عن دينه إذا بلغ.
وهكذا: إن جاء منهم مجنون فوصف الإسلام في حال جنونه.. لم يجز رده إليهم؛ لئلا يفتنوه عن دينه. وكذلك لو لم يصف الإسلام؛ لأن الظاهر أنه مسلم.
فإذا بلغ الصبي، وأفاق المجنون، ووصفا الإسلام، فإن لم يكن لهما عشيرة تمنع عنهما.. لم يجز له ردهما. وإن كان لهما عشيرة تمنع منهما.. جاز له ردهما. وإن كانا وصفا الكفر.. رددناهما إلى مأمنهما.

[فرع: جاء عبد مسلم فطلبه مولاه]
قال الشيخُ أبُو حامد وابن الصبَّاغ: وإن جاءنا عبد لهم مسلم، ثم جاء سيده يطلبه.. لم يجز رده إليه؛ لأنه قد صار حرا بقهره لسيده، وهل يجب رد قيمته إليه؟ فيه قولان، كما قلنا في مهر المرأة.
وعلى ما ذكره الشيخ أبُو إسحاق في الأمة: إن فارقهم مشركا ثم أسلم.. صار حرا، وهل يجب رد قيمته؟ على الطريقين، الصحيح: لا يجب قولا واحدا. وإن أسلم عندهم.. لم يصر حرا، ولم يجز رده إليهم، بل يجب رد قيمته.

[مسألة: أمور تنقض الهدنة]
إذا عقد الإمام الهدنة لقوم من المشركين فقاتلوا المسلمين، أو آووا عينا عليهم، أو كاتبوا أهل الحرب بأخبارهم، أو قتلوا مسلما أو ذميا، أو أخذوا لهم مالا..

(12/324)


انتقضت هدنتهم، فيجوز للإمام غزوهم وقتالهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] [التوبة: 7] فدلَّ على: أنهم إذا لم يستقيموا لنا.. لم نستقم لهم. ولقوله تَعالَى: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} [التوبة: 4] [التوبة: 4] فدلَّ على: أنهم إذا ظاهروا علينا.. لم نتم لهم عهدهم إلى مدتهم.
ولا يفتقر نقض الهدنة هاهنا إلى حكم الإمام بنقضها؛ لأن ما تظاهروا به لا يحتمل غير نقض الهدنة.
وإن نقض الهدنة بعض المعاهدين دون بعض.. نظرت في الذين لم ينقضوا: فإن لم ينكروا على الناقضين بقول ولا فعل.. انتقضت هدنتهم جميعا؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وادع بني قريظة، فأعان منهم حيي بن أخطب وأخوه وآخر أبا سفيان بن حرب على النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الخندق، وسكت الباقون، فجعل النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك نقضا للهدنة في حق جميعهم وسار إليهم، فقتل رجالهم وسبى ذراريهم» وأيضا: فـ: (إن

(12/325)


النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صالح مشركي قريش عام الحديبية.. دخل بَنُو بكر في جملة قريش وكانوا حلفاءهم، ودخلت خزاعة في جملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحالفوه، فحارب بَنُو بكر خزاعة، وأعان نفر من قريش بني بكر على خزاعة، وأمسك سائر قريش، فجعل النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك نقضا لعهدهم، وسار إلى مكة وفتحها) . وقيل: لم يعن أحد من قريش بني بكر، وإنما قتل رجل من بني بكر رجلا من خزاعة، فسكتت قريش ولم تنكر على بني بكر، فجعل النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك نقضا لعهدهم. ولأنه لما كان عقد الواحد للهدنة عقدا لجميعهم؛ بدليل: أن سهيل بن عمرو لما عقد الهدنة له ولمشركي قريش، وعقد أبُو سفيان الأمان له ولقريش.. كان نقض الواحد نقضا له وللراضي بنقضه.
وإن نقض بعضهم العهد، وأنكر الباقون على الناقضين نقضهم بقول أو فعل ظاهر، أو اعتزلوهم، أو أرسلوا إلى الإمام بأنا منكرون ما فعلوه مقيمون على العهد.. انتقض العهد في حق الناقضين دون الآخرين؛ لأن المنكرين لم ينقضوا العهد ولا رضوا بنقضه. فإن كان الذين لم ينقضوا غير مختلطين بالناقضين.. غزا الإمام الناقضين دون الذين لم ينقضوا. وإن كانوا مختلطين بهم.. لم يجز أن يبيتهم ويقتلهم؛ لأنه يقتل من نقض ومن لم ينقض، بل يرسل إلى الذين لم ينقضوا بأن يتميزوا عن الناقضين أو بتسليم الناقضين إن قدروا، فإن لم يفعلوا أحد هذين الأمرين

(12/326)


مع القدرة عليه.. انتقضت الهدنة في حق الجميع؛ لأنهم صاروا مظاهرين لأهل الحرب. فإن لم يقدروا على أحدهما.. كان حكمهم حكم الأسارى من المسلمين مع المشركين، وقد مَضَى بيانه.
ومن اعترف منهم أنه نقض العهد، أو قامت عليه البينة.. فلا كلام. ومن لم تقم عليه البينة أنه نقض وادعى أنه لم ينقض.. قبل قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم نقضه.
إذا ثبت هذا: وفعلوا ما يوجب النقض.. نظرت: فإن كان ذلك الفعل لا يجب به حق؛ مثل: أن آووا عينا للمشركين على المسلمين، أو كاتبوا المشركين بأخبار المسلمين.. فقد صاروا حربا لنا، ويجب ردهم إلى مأمنهم، ولا شيء عليهم فيما فعلوه.
وإن فعلوا ما يجب به حق، فإن كان الحق محضا للآدمي، كالقصاص، وضمان المال، وحد القذف.. استوفي منهم؛ لأن عقد الهدنة اقتضى الكف عن أموالنا وأعراضنا وأموالهم وأعراضهم، فإذا لم يكفوا.. لزمهم الضمان. وإن كان الحق محضا لله تَعالَى؛ بأن زنوا بمسلمة، أو شربوا الخمر.. لم يجب عليهم الحد؛ لأنهم لم يلتزموا بالهدنة حقوق الله تَعالَى. وإن كان الحق لله إلا أنه يتعلق بحق الآدمي؛ بأن سرق سارق منهم نصابا من مال مسلم أو ذمي أو معاهد من حرز مثله.. فهل يجب عليه القطع؟ فيه قولان، مَضَى ذكرهما.

[فرع: ظهور أمارة نقض أو غدر]
وإن ظهر من المعاهدين أمارة تدل على نقضهم وغدرهم.. قال الشيخُ أبُو حامد: انتقضت هدنتهم. وقال الشيخُ أبُو إسحاق وابن الصبَّاغ: جاز للإمام أن ينبذ إليهم عهدهم، وهو المنصوص؛ لأن الشافعيَّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ينبذ إليهم عهدهم) ؛

(12/327)


لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] [الأنفال: 58] .
قال ابن الصبَّاغ: ولا يكفي أن يقع في نفس الإمام خوف منهم حتى يكون ذلك عن دلالة. قال الشيخُ أبُو إسحاق: ولا تنتقض الهدنة هاهنا إلا بحكم الإمام بنقضها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} [الأنفال: 58] .
فإن خاف الإمام من أهل الذمة الخيانة.. لم ينبذ إليهم عهدهم؛ لأن عقد الذمة معاوضة يقتضي التأبيد، فلم ينتقض بخوف الخيانة، وعقد الهدنة مؤقت ويقتضي الكف عن القتال، فإذا خيف منهم الخيانة.. جاز نقضه.

[مسألة: دخول الحربي دار الإسلام بأمان يشمل النفس والمال والولد]
إذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان.. فإن الأمان ينعقد له ولماله وأولاده الصغار؛ لأن الأمان يقتضي الكف عن ذلك. فإن عقد الأمان لنفسه وماله وأولاده الصغار.. كان ذلك تأكيدا.
فإن رجع إلى دار الحرب وترك ماله في دار الإسلام، فإن رجع إليها بإذن الإمام لشغل له ثم يعود له أو برسالة من الإمام.. فإن الأمان يكون باقيا لنفسه وماله، كالذمي إذا رجع إلى دار الحرب تاجرا. وإن رجع إلى دار الحرب ليستوطنها.. انتقض أمانه في حق نفسه، ولم ينتقض في ماله وأولاده الصغار الذين في دار الإسلام؛ لأن الأمان قد ثبت في حق الجميع، فإذا انتقض في حق نفسه.. لم ينتقض في ماله وأولاده الصغار، كأم الولد إذا بطل حقها بموتها.. لم يبطل حق ولدها.
وأمَّا ولده الصغير: فإنه ما لم يبلغ.. فهو في أمان، فإن بلغ.. قيل له: قد كنت في أمان تبعا لغيرك، والآن فقد زال تبعك لغيرك، فإما أن تسلم وإمَّا أن تعقد

(12/328)


الذمة ببذل الجزية- إن كان من أهل الجزية- وإمَّا أن تلحق بدار الحرب.
وأمَّا ماله: فيحفظ له، فإن مات أو قتل في دار الحرب.. انتقل إلى ورثته الحربيين، ولا ينتقل إلى ورثته من أهل الذمة. وهل يبطل حكم الأمان في ماله؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يبطل الأمان - وبه قال أحمد، وهو اختيار المزني - لأن من ورث مالا.. ورثه بحقوقه، والأمان من حقوقه، فورث. وإن لم يكن له وارث.. كان فيئا.
والثاني: يبطل الأمان في ماله - وبه قال أبُو حَنِيفَة، وهو اختيار أبي إسحاق المَروَزِيّ - لأنه لما مات.. انتقل إلى وارثه وهو كافر لم يكن بيننا وبينه أمان، فلم يكن له أمان، كسائر أمواله. فإذا قلنا بهذا: فنقل المزني أنه يكون مغنوما.
قال أصحابنا: وليس هذا على ظاهره؛ لأن الغنيمة ما أخذ بالقهر والغلبة، وهذا أخذ بغير قهر ولا غلبة، فيكون فيئا. وقال أبُو علي ابن خيران: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (يغنم) أراد: إذا عقد الأمان لنفسه ولم يشترطه لوارثه بعده.
وحيث قال: (لا يغنم) أراد: إذا شرط الأمان لنفسه ولوارثه بعده. والطريق الأول أصح.
وإن مات أو قتل في دار الحرب، وله أولاد صغار في دار الإسلام.. فهل يبطل الأمان فيهم؟ على الطريقين في ماله.
وكذلك الحكم في الذمي إذا نقض الذمة ولحق بدار الحرب وترك ماله وأولاده الصغار في دار الإسلام.. فهو كالحربي على ما مَضَى.

(12/329)


[فرع: أعطي أمانا فاكتسب أو خلف مالا ومات]
وإن دخل الحربي علينا بأمان ومعه مال أو اكتسب مالا في دار الإسلام، ومات في دار الإسلام وهو على أمانه.. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في (السير) : (فإن ماله يرد إلى وارثه) . واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: فيه قولان، كما لو رجع إلى دار الحرب للاستيطان.
ومنهم من قال: يرد إلى وارثه قولا واحدا؛ لأنه مات على أمان، فكان الأمان باقيا في المال.
فإذا رجع إلى دار الحرب للاستيطان فمات فيها.. فقد مات بعد بطلان الأمان في حق نفسه، فبطل في ماله في أحد القولين.. وإن رجع إلى دار الحرب للاستيطان، ولكن رجع بإذن الإمام لتجارة أو رسالة، فمات في دار الحرب.. ففي ماله الذي في دار الإسلام الطريقان فيه إذا مات في دار الإسلام وهو على الأمان.

[فرع: جاء بأمان وعاد للاستيطان وماله عندنا ثم أسر]
وإن دخل الحربي إلينا بأمان، فرجع إلى دار الحرب للاستيطان، وترك ماله في دار الإسلام وأسر.. فإن ملكه لا يزول بالأسر، فإن فادى به الإمام أو من عليه.. فماله باق على ملكه، وإن قتله.. فهو كما لو مات أو قتل في دار الحرب على ما مَضَى، وإن استرقه.. زال ملكه عن ماله؛ لأن الاسترقاق يزيل التملك وهل يبطل الأمان في ماله؟ يبنى على القولين فيه إذا مات في دار الحرب: فإذا قلنا: يبطل.. نقل إلى بيت المال. وإن قلنا: لا يبطل.. كان ماله موقوفا ولا ينتقل إلى وارثه؛ لأنه حي.
فإن عتق.. كان المال له. وإن مات على الرق.. قال أكثر أصحابنا: ينتقل إلى

(12/330)


بيت المال فيئا؛ لأن العبد لا يورث. وحكى الشيخُ أبُو إسحاق: أن أبا علي بن أبي هُرَيرَة حكى قولا آخر: أنه لوارثه؛ لأنه ملكه في حريته.

[فرع: دخل بأمان فنقضه ورجع لدار الحرب ثم رجع إلى دارنا]
فرع: [دخل بأمان فنقضه ورجع لدار الحرب للاستيطان ثم رجع إلى دارنا] :
وإن دخل الحربي بأمان، فنقض العهد ورجع إلى دار الحرب للاستيطان وترك ماله، ثم رجع إلى دار الإسلام بغير أمان ليأخذ ماله.. فهل يجوز سبيه؟
قال ابن الحداد: لا يجوز سبيه؛ لأنا لو سبيناه.. أبطلنا ملكه وأسقطنا حكم الأمان في ماله. فمن أصحابنا من وافقه، ومنهم من خالفه، وقال: يجوز سبيه؛ لأن أمانه في نفسه قد بطل، وبثبوت الأمان في ماله لا يثبت الأمان لنفسه، كما لو أدخل ماله إلى دار الإسلام بأمان.. فإن الأمان لا يثبت لنفسه. ولهذا: لو أرسل ماله بضاعة مع رجل له أمان في نفسه ولما معه من المال.. فإن الأمان لا يثبت لصاحب المال.

[فرع: دخل دار الحرب بأمان وأعطاه حربي مالا يتجر به عندنا]
فرع: [دخل مسلم أو ذمي دار الحرب بأمان وأعطاه حربي مالا يتجر به عندنا] :
إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان، فدفع إليه حربي مالا ليشتري به شيئا من دار الإسلام.. فإن مال الحربي يكون في أمان؛ لأن المسلم يصح أمانه وقد أخذه على ذلك. وإن دخل الذمي دار الحرب بأمان، فدفع إليه الحربي مالا ليشتري به شيئا من دار الإسلام، فرجع الذمي به إلى دار الإسلام.. فقد حكى الربيع فيه قولين:
أحدهما: يكون الأمان لذلك المال، كما لو كان دفعه إلى مسلم.
والثاني: لا يكون له أمان؛ لأن أمان الذمي لا يصح.
قال أصحابنا: هذا القول من كيس الربيع، بل يجب رده إلى الحربي قولا واحدا؛ لأن الذمي وإن لم يصح أمانه إلا أن الحربي قد اعتقد صحة الأمان لماله، فوجب رده إليه، كما لو دخل الحربي بأمان صبي.

(12/331)


[مسألة: دخل مسلم دار حرب بأمان فاقترض أو سرق مالا]
وإن دخل المسلم دار الحرب بأمان، فاقترض من حربي مالا أو سرقه، أو كان أسيرا فخلوه وأمنوه، فسرق لهم مالا وخرج.. وجب عليه رده. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يلزمه) .
دليلنا: أنه منهم في أمان فكانوا منه في أمان فلزمه رده، كما لو اقترض أو سرق من ذمي مالا.

[فرع: اقترض حربي مالا فأسلم المستقرض أو دخل إلينا بأمان]
وإن اقترض حربي من حربي مالا، فأسلم المستقرض أو دخل إلينا بأمان، وجاء المقرض يطالبه بما أقرضه.. قال أبُو العباس: لزمه أن يرد عليه ما أقرضه، كما قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا تزوج حربي بحربية فأصدقها، ثم أسلما وجاءا إلى دار الإسلام.. لزمه المهر) ، فإذا لزمه المهر في حال الشرك.. وجب أن يلزمه رد القرض في حال الشرك.
قال أبُو العباس: ويحتمل قولا آخر: أنه لا يلزمه رد القرض؛ لأن الشافعيَّ، قال: (إذا تزوج حربي بحربية ودخل بها، ثم أسلم وخرج إلى دار الإسلام فماتت، فجاء ورثتها يطالبونه بمهرها.. لم يلزمه مهرها؛ لأنه فات في حال الشرك) .
قال أبُو العباس: وهذا ضعيف في القياس، ويشبه أن يكون تأويل هذا: أنه تزوجها بغير مهر.. فلا يلزمه شيء؛ لأنه فات في حال الشرك.

[فرع: الهدية حال الحرب غنيمة]
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " حرملة ": (إذا أهدى المشرك إلى الأمير أو إلى رجل من المسلمين هدية والحرب قائمة.. كانت غنيمة؛ لأنه أهدى ذلك خوفا من الجيش. وإن أهدى إليه قبل أن يرتحلوا من دار الإسلام.. لم تكن غنيمة، وينفرد بها المهدى

(12/332)


إليه) . وبه قال محمد بن الحَسَن. وقال أبُو حَنِيفَة: (تكون للمهدى إليه بكل حال) .
دليلنا: أنه مال حصل بظهور الجيش، فأشبه ما أخذوه قهرا.

[فرع: أخذ مشرك جارية مسلم فوطئها فأتت بولد ثم ظهر المسلمون عليه]
] : قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأسارى: (لو أخذ مشرك جارية مسلم، فوطئها وأتت منه بولد، ثم ظهر المسلمون عليه.. كانت الجارية والولد للمسلم. فإن أسلم واطئها. دفع ثمن الجارية إلى مالكها. ويأخذ من واطئها عقرها وقيمة أولادها يوم سقطوا) . قال أبُو العباس: أما قوله: (إن الجارية والولد ملك للمسلم) فلأن المشرك لم يملكها بالحيازة، فهو كالغاصب، إلا أنه لم يلزمه المهر؛ لأنه ليس من أهل الضمان للمسلم؛ ولهذا: لو أتلفها.. لم يلزمه ضمانها. وأمَّا قوله: (إذا أسلم واطئها دفع ثمن الجارية إلى مالكها، ولزمه عقرها وقيمة أولادها) فتأويلها: أن يكون وطئها بعدما أسلم، فيكون عليه المهر، والولد حر للشبهة؛ وهو قوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم على شيء.. فهو له» ولزمه قيمة الولد؛ لأنه أتلفه بالشبهة.

[فرع: ابتاع حربي عبدا مسلما ورجع به لدار الحرب ثم ظهر المسلمون]
وماذا لو حصل وصية؟] :
وإن دخل حربي دار الإسلام، وابتاع عبدا مسلما ورجع به إلى دار الحرب، ثم ظهر المسلمون عليه، فإن قلنا: لا يصح ابتياع الكافر للعبد المسلم.. رد إلى من

(12/333)


باعه، وإن قلنا: يصح ابتياعه له.. كان غنيمة.
وإن أوصي بعبد مسلم لكافر، فإن قلنا: يصح شراؤه له.. صحت الوصية له به، وإن قلنا، لا يصح شراؤه له.. ففي الوصية له به وجهان:
أحدهما: لا يصح، كالشراء. فعلى هذا: إن أسلم الموصى له قبل موت الموصي.. لم يكن له أن يقبل الوصية؛ لأنها قد وقعت باطلة.
والثاني: إن قلنا: إن الوصية موقوفة، فإن أسلم الموصى له قبل موت الموصي.. فله أن يقبل الوصية. وإن مات الموصي قبل إسلام الموصى له.. لم يكن له أن يقبل الوصية؛ لأن لزوم الوصية حال موت الموصي، فاعتبر حال الموصى له بتلك الحال.
وإن أوصي بعبد كافر لكافر.. صحت الوصية، فإن أسلم العبد قبل موت الموصي.. فهو كما لو أوصى له بعبد مسلم على ما مَضَى، وإن أسلم بعد موت الموصي، وقبل قبول الموصى له به.. بني على القولين: متى يملك الموصى له الوصية؟
فإن قلنا: إنه يملك بالموت، أو نتبين بالقبول أنه ملكه بالموت.. صحت الوصية.
وإن قلنا: تملك بالقبول.. كانت مبنية على القولين في الشراء.
وبالله التوفيق

(12/334)


[باب خراج السواد]
سواد العراق من الموصل إلى عبادان في الطول، ومن القادسية إلى حلوان في العرض. ولا تدخل البصرة في حكم أرض السواد وإن دخلت في هذا الحد؛ لأنها كانت أرضا سبخة وأحياها عُثمانَ بن أبي العاص وعتبة بن غزوان بعد الفتح، إلا موضعا من شرقي دجلتها يسمى الفرات، ومن غربي دجلتها يسمى نهر المرأة.. فإنه داخل في حكم أرض السواد.

(12/335)


وإنما سميت هذه الأرض أرض السواد؛ لأن الجيش لما خرجوا من البادية.. رأوا هذه الأرض والتفاف شجرها فسموها السواد. ولا خلاف: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فتحها عنوة وردها إلى أهلها، واختلف الناس في كيفية ردها إلى أهلها:
فمذهب الشافعي: (أنه قسمها بين الغانمين، ثم استنزل الغانمين عنها برضاهم، فنزلوا عنها وردوها إلى أهلها) . وقال الأَوزَاعِي ومالك: (لم يقسمها، وإنما صارت وقفا بنفس الغنيمة) . وقال أبُو حَنِيفَة: (لم يقسمها بين الغانمين، وإنما أقرها في أيدي أهلها وهم المجوس، وضرب عليهم الجزية) .
دليلنا: ما رُوِيَ: عن جرير بن عبد الله البجلي أنه قال: كانت بجيلة ربع الناس يوم القادسية، فقسم لهم عمر ربع السواد، فاستغلوها ثلاث سنين أو أربعا، ثم قدمت على عمر، فقال عمر: (لولا أنِّي قاسم مسؤول.. لتركتكم على ما قسم لكم، ولكني أرى أن تردوها عليّ، قال: فعاوضني عن حقي نيفا وثمانين دينارا) . فثبت أنها لم تصر وقفا، وإنما قسمها وعاوضه عن حقه.
فإن قيل: فقد ملكوها بالقسمة، فكيف استردها منهم؟
فالجواب: أنه لم يكرههم على الرد، وإنما سألهم أن يردوها برضاهم، فمنهم من طابت نفسه برد حقه بغير عوض، ومنهم من لم يرد نصيبه إلا بعوض؛ بدليل

(12/336)


ما رُوِيَ: (أن أم كرز قدمت على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالت: إن أبي قتل يوم القادسية، وإن سهمه ثابت ولا أترك حقي، فقال عمر: قد علمت ما فعل قومك، فقالت: لا أترك حقي حتى تركبني ناقة ذلولا عليها قطيفة حمراء، وتملأ كفي ذهبا. قال: ففعل عمر لها ذلك، فعدت الدنانير التي في كفها، فإذا هي ثمانون دينارا) .
وهذا «كما رُوِيَ: أن وفد هوازن لما سبيت ذراريهم.. وفدوا إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسألوه أن يرد عليهم، فخيرهم بين الأحساب والأموال، فاختاروا الأحساب، فقال: " أما نصيبي ونصيب أهلي.. فهو لكم، وأسأل سائر الناس " فسأل الناس أن يردوا عليهم عن طيب أنفسهم، فردوه عليه» . وأمَّا قول عمر: (لولا أنِّي قاسم مسؤول.. لتركتكم على ما قسم لكم) فله تأويلان:
أحدهما: أنه رأى إن تركهم على ما قسم لهم من تلك الأرض.. انشغلوا بعمارتها عن الجهاد، وتعطل الجهاد؛ لأن أكثر الصحابة قد كان غنم منها.
والثاني: أنه نظر في العاقبة وخشي أن من جاء بعد ذلك من المسلمين لا شيء لهم؛ لأن أرض السواد قد صارت لأولئك الذين غنموا، فأحب عمر أن يكون لمن يأتي من المسلمين فيها نفع؛ بدليل: ما رَوَى زيد بن أسلم، عن أبيه: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (لولا أنِّي أخشى أن يبقى الناس ببانا لا شيء لهم.. لتركتكم على ما قسم لكم، ولكني أحب أن يلحق آخر الناس أولهم) ، وتلا قَوْله تَعَالَى:

(12/337)


{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] [الحشر: 10] قال: يعني ما تركوا لنا وخلفوا علينا. و (الببان) : أن يتساوى الناس في الشيء، إما في الغنى أو في الفقر.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا فيما فعله عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أرض السواد:
فقال أبُو العباس وأبو إسحاق: باعها إلى أهلها المجوس بثمن مجهول القدر، يؤخذ منهم في كل سنة جزء معلوم؛ لأن الناس يتبايعون في أرض السواد من عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى وقتنا هذا ولا ينكره أحد من العلماء، فثبت أنه باعها منهم.
فعلى هذا: يجوز بيعها وهبتها ورهنها.
وقال أبُو سعيد الإصطخري وأكثر أصحابنا: وقفها على المسلمين، ثم أجرها من المجوس على أجرة مجهولة القدر، يؤخذ منهم كل سنة شيء معلوم. وهذا هو المنصوص في " سير الواقدي "؛ لما رُوِي عن سفيان الثوري أنه قال: (جعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أرض السواد وقفا على المسلمين ما تناسلوا) . ورَوَى بكير بن عامر: (أن عتبة بن فرقد اشترى أرضا من أرض السواد، فأتى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخبره، فقال: ممن اشتريتها؟ فقال: من أهلها، فقال: فهؤلاء أهلها المسلمون، أبعتموه شيئا؟ قالوا: لا، قال: فاذهب واطلب مالك) .
وأمَّا قوله: (إنها تباع من غير إنكار) فغير صحيح؛ لما رَوَيْنَاهُ من حديث عمر.
وقال شبرمة: لا أجيز بيع أرض السواد، ولا هبتها، ولا وقفها.

(12/338)


فعلى هذا: لا يجوز بيعها ولا وقفها ولا هبتها.
فإن قيل: فالبيع عندكم لا يصح إلا بثمن معلوم، وكذلك الإجارة لا تصح إلا إلى مدة معلومة وأجرة معلومة، فكيف صح بيعها أو إجارتها على ما ذكرتم؟
فالجواب: أن البيع لا يصح إلا بثمن معلوم، والإجارة لا تصح إلا إلى مدة معلومة وبأجرة معلومة إذا كانت المعاملة في أموال المسلمين، فأما إذا كانت في أموال الكفار.. فلا يفتقر إلى ذكر ذلك؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل في البدأة الربع، وفي الرجعة الثلث» وهذا عوض مجهول؛ لأنه معاملة في أموال الكفار.
فإذا قلنا: إنها مبيعة إليهم.. فالمنازل في أرض السواد دخلت في البيع.
وإن قلنا: إنها وقف.. فهل دخلت المنازل في الوقف؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها وقف.. كالمزارع.
والثاني: أنها لم تدخل في الوقف؛ لأنا لو قلنا: إنها دخلت في الوقف.. أدى إلى خرابها. قال الشيخُ أبُو إسحاق: وأمَّا الثمار: فهل يجوز لمن هي في يده الانتفاع بها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، وعلى الإمام أن يأخذها ويبيعها، ويصرف ثمنها في مصالح المسلمين؛ لما رُوِيَ: عن أبي الوليد الطيالسي أنه قال: أدركت الناس بالبصرة يحمل إليهم التمر من الفرات.. فلا يقدمون على شرائه.
والثاني: يجوز لمن في يده الأرض الانتفاع بثمرتها؛ لأن الحاجة تدعو إليه، فجاز كما تجوز المساقاة والمضاربة على جزء مجهول.
وعندي: أن هذين الوجهين إنما يكونان في ثمرة الأشجار التي كانت موجودة في أرض السواد يوم ردها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أهلها.
فإذا قلنا: إن الأرض وقف، وأجرها ممن هي في يده؛ لأن الأرض إذا

(12/339)


استأجرها إنسان وفيها أشجار.. لم تدخل الأشجار في الإجارة، ولم يملك المستأجر ثمرتها، فتكون على الوجه الأول غير داخلة في الإجارة، بل هي وقف على المسلمين، فتصرف في مصالح المسلمين.
وعلى الوجه الثاني: دخلت في الإجارة؛ لموضع الحاجة إلى ذلك.
فأما إذا قلنا: إن عمر باعها.. فإن الأشجار الموجودة يوم البيع وما غرس فيها بعد ذلك ملك لمن ملك الأرض، وثمرتها ملك له وجها واحدا.

[مسألة: في مساحة أرض السواد ومبلغ ما جبي منه ومصرفه]
] : وأمَّا مساحة أرض أهل السواد: فقد مسحها عُثمانَ بن حنيف وارتفعت اثنين وثلاثين ألف جريب.
وقال أبُو عبيد: ارتفعت ستة وثلاثين ألف ألف جريب.
وأمَّا قدر ما يؤخذ منها من الخراج في كل سنة: فإنه يؤخذ من جريب الشعير درهمان، ومن جريب الحنطة أربعة دراهم، ومن جريب الشجر والقضب ستة دراهم، ومن جريب النخل ثمانية دراهم، ومن جريب الكرم عشرة دراهم.
ومن أصحابنا من قال: يؤخذ من جريب الكرم ثمانية دراهم، ومن جريب النخل عشرة دراهم.
والأول هو المشهور: لما رُوِيَ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعث إلى الكوفة ثلاثة: عمار بن ياسر أميرا على الجيش والصلاة، وعبد الله بن مَسعُودٍ قاضيا وحافظا لبيت المال، وعثمان بن حنيف ماسحا. وفرض لهم كل يوم شاة، نصفها مع السواقط

(12/340)


لعمار بن ياسر، والنصف الآخر بين عبد الله بن مَسعُودٍ وعثمان بن حنيف، ثم قال: وإن قرية يؤخذ منها كل يوم شاة لسريع خرابها. فمسح عُثمانَ بن حنيف أرض السواد وضرب عليها الخراج، فجعل على جريب الشعير درهمين، وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم، وعلى جريب الرطبة والشجر ستة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، وعلى جريب الكرم عشرة دراهم، وأنفذه إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فرضي به وأجازه) .
ووافقنا أبُو حَنِيفَة في هذا كله إلا في الشعير والحنطة؛ فإنه قال: (يؤخذ من جريب الشعير قفيز ودرهم، ومن جريب الحنطة قفيز ودرهمان) .
وقال أحمد: (يؤخذ من كل واحد منهما قفيز ودرهم) .
دليلنا: ما ذكرناه من الخبر؛ فإنه لم يجعل عليهم قفيزا.
وما يؤخذ من الخراج يصرف في مصالح المسلمين، الأهم فالأهم؛ لأنه للمسلمين، فصرف في مصالحهم.
وأمَّا مبلغ ما جبي من أرض العراق: فقد ذكر الشيخ أبُو إسحاق: أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بلغ جباؤها معه ألف ألف وسبعة وثلاثين ألف ألف درهم.
وذكر الشيخ أبُو حامد وابن الصبَّاغ: أن عمر بن الخطاب جباها في كل سنة مائة ألف ألف وستين ألف ألف درهم، ولم يزل يتناقص حتى بلغ زمن الحجاج ثمانية عشر ألف ألف درهم، فلما ولي عمر بن عبد العزيز.. عاد في السنة الأولى إلى ثلاثين ألف ألف درهم، وفي السنة الثانية إلى ستين ألف ألف درهم، وقال: لئن عشت.. لأبلغن

(12/341)


به إلى ما كان في أيام عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فمات في تلك السنة. هكذا ذكر الشيخ أبُو حامد وابن الصبَّاغ.
وأمَّا الشيخ أبُو إسحاق: فذكر: أن عمر بن عبد العزيز جباها مائة [ألف] وأربعة وعشرين ألف ألف درهم.
والله أعلم، وبالله التوفيق

(12/342)