البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الحدود] [باب حد الزِّنَى]

(12/343)


كتاب الحدود
باب حد الزِّنَى الزِّنَى محرم، والدليل على تحريمه: الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تَعالَى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32] [الإسراء: 32] وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] [الفرقان: 68] .
وأمَّا السنة: فروي عن عبد الله بن مَسعُودٍ «أنه قال: سألت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: " أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك " قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك» .

(12/345)


وأمَّا الإجماع: فإن الأمة أجمعت على تحريمه، ولم يحله الله في شرع نبي من الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وسلامه، وكان أهل الجاهلية يتشرفون عنه.
إذا ثبت هذا: فإن الحد يجب في الزِّنَى. وكان الحد في الزِّنَى في أول الإسلام: الحبس والإيذاء بالكلام. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] الآية [النساء: 15] . قال أكثر أصحابنا: المراد بالحبس: للثيب، والمراد بالأذى بالكلام: للأبكار من الرجال والنساء؛ بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] فأضافهن إلينا، وأراد بذلك: من أحصن بكم؛ إذ لا فائدة في إضافة ذلك إلى الزوجات إلا اعتبار الثيوبة. ولأن الله تَعالَى جعل حد الثيب في الانتهاء أغلظ من حد البكر، فدلَّ على: أن حد الثيب في الابتداء كان أغلظ أيضا.
وقال أبُو الطيب ابن سلمة: لم تتناول الآية الثيب قط، وإنما المراد بالحبس: للأبكار من النساء، وبالأذى بالكلام: للأبكار من الرجال.
وقد نسخ الحد بالحبس والأذى، فجعل حد البكر الجلد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] [النور: 2] ، وجعل حد الثيب الرجم. وهو إجماع الأمة إلا قوما من الخوارج؛ فإنهم قالوا: لا يرجم الثيب وإنما يجلد.
والدليل على أن الثيب يرجم إذا زنَى: ما رُوِي «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خطب وقال: (إن الله بعث محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبيا، وأنزل عليه كتابا، وكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فتلوناها ووعيناها: " الشيخ والشيخة إذا زنيا.. فارجموهما البتة " وقد رجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده، وإني أخشى أن يطول بالناس زمان فيقول قائل: لا رجم في كتاب الله، فيضل قوم بترك فريضة أنزلها الله، الرجم حق على كل من زنى من رجل أو امرأة إذا أحصنا، ولولا أنِّي أخشى أن يقول الناس: زاد عمر في المصحف

(12/346)


كتاب الله. لأثبتها في حاشية المصحف) ،» وكان هذا في ملأ من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فلم ينكر عليه أحد ذلك.
وروى عبادة بن الصامت: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خذوا عني، خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» ورَوَى ابن عمر: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم يهوديين زنيا» .
وروى أبُو هُرَيرَة، وزيد بن خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن رجلين اختصما إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله. وقال الآخر: أجل - وكان أفقههما - اقض يا رسول الله بيننا وأذن لي أن أتكلم. فقال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تكلم " فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا - يعني: أجيرا- فزنى بامرأته، فأخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة وجارية، ثم سألت رجلا من أهل العلم، فقال: الرجم على امرأة هذا، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام؟ فقال النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لأقضين بينكما بكتاب الله: أما غنمك وجاريتك.. فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام.

(12/347)


واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت به.. فارجمها فغدا إليها، فاعترفت، فرجمها» ورُوِي: «أن ماعز بن مالك الأسلمي اعترف عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزِّنَى أربع مرات، فرجمه»
وروى بريدة: «أن امرأة من غامد أتت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: فجرت، فقال، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارجعي " فرجعت، فلما كان من الغد.. أتته وقالت: أتريد يا رسول الله، أن تردني كما رددت ماعزا؟ فوالله إنِّي لحبلى. فقال لها: " ارجعي حتى تضعي " فلما وضعته.. أتته، فقال لها: " ارجعي حتى تفطمي " فلما فطمته.. أتته ومعها ولدها وفي يده كسرة، فقالت: قد فطمته وهو هذا، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجمها، فحفر لها إلى صدرها ورجمت. وكان فيمن رجمها خالد بن الوليد، فرماها بحجر فقطر عليه قطرة من دمها فسبها، فقال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تسبها يا خالد! فلقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس.. لغفر الله له " ثم أمر بها فصَلَّى عليها، ثم دفنت» .
و (صاحب المكس) : هو صاحب الضريبة.
وروى عمران بن الحصين: «أن امرأة من جهينة اعترفت بالزِّنَى عند النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي حبلى، فدعا النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليها، وقال: " أحسن إليها حتى تضع، فإذا وضعت. فَجِئْ بها " فلما وضعت.. جاء بها، فأمر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجمها، وأن يصلى عليها» .

(12/348)


ورُوِي: أن عمر وعليا، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رجما، ولا مخالف لهما في الصحابة.
فإن قيل: فإذا كان الحد ثبت بالقرآن بالحبس والأذى، ثم ثبت الرجم بالسنة.. فكيف جاز نسخ القرآن بالسنة، والشافعيُّ لا يجيز نسخ القرآن بالسنة، وإن كان بعض أصحابنا يجيزه؟ فالجواب: أن على قول أبي الطيب ابن سلمة لا يوجد نسخ القرآن بالسنة هاهنا؛ لأن الآية في الحبس والأذى لم تتناول الثيب، وإنما تتناول البكر، وقد نسخ ذلك بالقرآن؛ وهو قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] [النور: 2] .
وعلى قول أكثر أصحابنا: أن الآية تتناول الثيب فلم ينسخ القرآن بالسنة، وإنما نسخت بالقرآن وهي الآية التي ذكرها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنها التي نزلت: (الشيخ والشيخة) ثم نسخ رسم هذه الآية وبقي حكمها. وقيل: إن الحبس المذكور في القرآن ليس بحد، وإنما هو أمر بالحبس لكي يذكر الحد فيما بعد؛ لأنه قال تَعالَى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] [النساء: 15] ، ثم وردت السنة ببيان السبيل المذكور، ولهذا قال، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذوا عني، خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» .
ولا يجلد المحصن مع الرجم، وهو قول أكثر أهل العلم.
وقال أحمد وإسحاق وداود: (يجلد ثم يرجم) . واختاره ابن المنذر، لحديث عبادة بن الصامت. ورُوِي: أن عليا كرم الله وجهه جلد شراحة يوم الخميس،

(12/349)


ورجمها يوم الجمعة، وقال: (جلدت بكتاب الله، ورجمت بسنة رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
دليلنا: ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم ماعزا ولم يجلده» فدلَّ على: أن الجلد مع الرجم منسوخ. «ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرجل الذي سأله: " على ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمها " فغدا عليها فاعترفت، فرجمها.» ولم يذكر الجلد. و: «رجم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهوديين اللذين زنيا، ولم يجلدهما» وحديث عبادة منسوخ؛ لأنه كان أول ما نقل عن الحبس؛ بدليل «قوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قد جعل الله لهن سبيلا» وأمَّا حديث علي: فمحمول على أنها زنت وهي بكر، فلم يجلدها حتى صارت ثيبا، ثم زنت. ويحتمل أنه ظن أنها بكر فجلدها، ثم بان أنها ثيب فرجمها. وقد رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بامرأة زنت فجلدها، فقيل له بعد جلدها: إنها ثيب، فرجمها» .

[مسألة: لا يحد الصغير والمجنون ولا يرجم المملوك عندنا]
ولا يجب حد الزِّنَى على صغير ولا على مجنون؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» ، ولأنهما إذا سقط عنهما التكليف في العبادات والإثم في المعاصي.. فلأن لا يجب عليهما حد الزِّنَى - ومبناه على الإسقاط - أولى.
فأما المملوك: فلا يجب عليه الرجم، سواء كان بكرا أو ثيبا.

(12/350)


وقال أبُو ثور: (يجب عليه الرجم إذا زنَى بعد أن صار ثيبا؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» ولم يفرق بين الحر والمملوك) . ولأنه حد لا يتبعض فاستوى فيه الحر والمملوك، كالقطع في السرقة. وهذا خطأ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] [النساء: 25] فجعل على الأمة مع إحصانها نصف ما على المحصنات من العذاب، والرجم لا يتنصف.
ومعنى قَوْله تَعَالَى: {أحصن} بفتح الهمزة أي: أسلمن. وعلى قراءة من قرأها بضم الهمزة، أي: تزوجن.
وروى أبُو هُرَيرَة، وزيد بن خالد الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» «إذا زنت أمة أحدكم.. فليجلدها، فإذا زنت.. فليجلدها، فإذا زنت.. فليبعها ولو بضفير ". قال ابن شهاب: لا أدري " فليبعها» «قاله في الثالثة أو في الرابعة؟» و (الضفير) : هو الحبل الخلق من الشعر. ولأن الحد بني على التفضيل، فإذا لم يتبعض.. سقط فيه المملوك، كالشهادة والميراث.
ومعنى قولنا: (بني على التفضيل) أي: أن حد المملوك في الجلد على النصف من حد الحر؛ لأن الحر أفضل، وحد الثيب أغلظ من حد البكر؛ لأن الثيب أفضل، ونساء النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضاعف عليهن العذاب لو أتين بفاحشة؛ لأنهن أفضل. وفيه احتراز من القطع في السرقة؛ لأنه لم يبن على المفاضلة، بل يستوي فيه الجميع.

(12/351)


وقولنا: (إذا لم يتبعض) احتراز من الجلد، ومن عدد الزوجات، والطلاق في حق المملوك؛ فإن ذلك يتبعض.

[مسألة: شروط الإحصان والرجم]
] : قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإذا أصاب الحر، أو أصيبت الحرة بعد البلوغ بنكاح صحيح.. فقد أحصنا، فمن زنَى منهما.. فحده الرجم) .
وجملة ذلك: أن البكر عبارة عمن ليس بمحصن، والثيب عبارة عن المحصن.
و (الإحصان) في اللغة: يقع على المنع؛ قال الله تَعالَى: {فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} [الحشر: 14] [الحشر: 14] أي: مانعة. وقال تَعالَى: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] [الأنبياء: 80] أي: لتمنعكم. والإحصان في القرآن يقع على أربعة أشياء:
أحدها: الحرية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] [المائدة: 5] يعني: الحرائر من الذين أوتوا الكتاب.
والثاني: الزوجية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] [النساء: 23-24] وأراد بالمحصنات هاهنا: المزوجات. فمنع من وطء المزوجات من النساء، وأباح ما ملكت أيماننا إذا كن مزوجات، يعني: المسبيات.
والثالث: الإسلام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] [النساء: 25] يعني: فإذا أسلمن.
الرابع: العفة عن الزِّنَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] [النساء: 24] يعني: أعفاء عن الزِّنَا.
وأمَّا المحصن الذي يجب عليه الرجم إذا زنَى فهو: البالغ العاقل الحر إذا وطئ في نكاح صحيح. واختلف أصحابنا في شرائط الإحصان والرجم:
فمنهم من قال: إن للإحصان أربع شرائط: البلوغ، والعقل، والحرية،

(12/352)


والإصابة بنكاح صحيح. وللرجم شرطان: الإحصان والزنى.
فعلى هذا: إذا وطئ في نكاح صحيح وهو بالغ عاقل حر.. صار محصنا، فإذا زنَى بعد ذلك.. وجب عليه الرجم. وإن وطئ في نكاح صحيح وهو صغير أو مجنون أو مملوك.. لم يصر محصنا، فإذا زنَى بعد ذلك.. لم يجب عليه الرجم.
ومنهم من قال: ليس للإحصان إلا شرط واحد؛ وهو الوطء في نكاح صحيح، فأما البلوغ والعقل والحرية.. فإنها من شرائط وجوب الرجم.
فعلى هذا: للرجم خمس شرائط: الإحصان- وهو الوطء في نكاح صحيح- والبلوغ، والعقل، والحرية، والزنى. فإذا وطئ في نكاح صحيح وهو صغير أو مجنون أو مملوك.. صار محصنا، فإذا بلغ أو أفاق أو أعتق، ثم زنَى.. وجب عليه الرجم؛ لأنه وطئ في نكاح صحيح. ولأنه لو وطئ امرأة في نكاح صحيح وهو صغير أو مجنون أو مملوك يحصل به الإحلال للزوج الأول، فوجب أن يحصل به الإحصان، كما لو وطئ وهو بالغ عاقل حر. ولأن عقد النكاح لا يعتبر فيه الكمال، فكذلك الوطء.
وحكى الشيخُ أبُو حامد أن من أصحابنا من قال: الرق مانع من الإحصان، والصغر ليس بمانع من الإحصان. فعلى هذا: إذا وطئ الصغير في نكاح صحيح. صار محصنا، وإذا وطئ المملوك في نكاح صحيح.. لم يصر محصنا.
والفرق بينهما: أن الصغر ليس بنقص في النكاح؛ ولهذا يجوز أن يتزوج الحر الصغير بأربع. والرق نقص في النكاح؛ ولهذا لا يجوز أن يتزوج العبد بأكثر من اثنتين. ومنهم من قال: الصغر مانع من الإحصان، والرق ليس بمانع من الإحصان؛ لأن الصغير غير مكلف، والمملوك مكلف.
والصحيح هو الأول، وقد نص عليه الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة، وعامة الفقهاء - لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» فأوجب الرجم

(12/353)


على الثيب، وقد قلنا: إن المراد بالثيب: المحصن، فلو كان الإحصان يحصل بالوطء في حال الصغر والجنون والرق.. لأدى إلى إيجاب الرجم على الصغير والمجنون والمملوك. ولأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنَى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس» فأثبت القتل بالزِّنَى بعد الإحصان. وقد ثبت: أن الصغير والمملوك والمجنون لا يقتلون بالزِّنَى، فدلَّ على: أن عدم الصغر والجنون والرق شرط في الإحصان. هذا إذا كان الزوجان ناقصين، سواء اتفق نقصهما أو اختلف.
فأما إذا كان أحدهما كاملا والآخر ناقصا؛ بأن كان أحدهما بالغا عاقلا حرا والآخر صغيرا أو مجنونا أو مملوكا.. فهل يصير الكامل منهما محصنا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصير محصنا- وبه قال أبُو حَنِيفَة - لأنه وطء لم يصر به أحدهما محصنا، فلم يصر الآخر محصنا، كوطء الشبهة.
والثاني: يصير الكامل منهما به محصنا، وهو الصحيح؛ لأنه حر مكلف وطئ في نكاح صحيح، فكان محصنا، كما لو كانا كاملين.
هذا ترتيب القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق، وقال الشيخُ أبُو حامد: إذا كان الزوج حرا عاقلا، والزوجة أمة.. فإن الزوج يصير محصنا قولا واحدا. وكذلك: إذا كان الزوج عبدا، والزوجة حرة بالغة عاقلة.. فإنها تصير محصنة قولا واحدا. فأما إذا كان أحدهما حرا بالغا عاقلا، والآخر صغيرا أو مجنونا.. فهل يصير الحر البالغ العاقل محصنا؟ على القولين.

[فرع: الإسلام ليس بشرط في الإحصان عندنا]
] : الإسلام ليس بشرط في الإحصان في الزِّنَا، فإذا زنَى ذمي وجدت فيه شرائط إحصان المسلم.. وجب عليه الرجم. وقال مالك وأبو حَنِيفَة: (الإسلام شرط في الإحصان في الزِّنَا، فلا يجب الرجم على الذمي إذا زنَى) .
دليلنا: ما رَوَى ابن عمر: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم يهوديين زنيا» . ولقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . ولم يفرق.

(12/354)


[فرع: المسلم المحصن إذا ارتد لا يبطل إحصانه]
المسلم المحصن إذا ارتد.. لم يبطل إحصانه. وقال أبُو حَنِيفَة: (يبطل إحصانه) .
دليلنا: أنه محصن، فلا يبطل إحصانه بالردة، بل إذا أسلم ثم زنَى.. لزمه حكم المحصن، كإحصان القذف.

[فرع: وطء امرأته في دبرها أو أمته لا يثبت الإحصان]
وماذا لو كان بشبهة أو بنكاح فاسد؟] :
إذا وطئ امرأته في دبرها، أو وطئ أمته.. لم يصر محصنا. وإن وطئ امرأة بشبهة أو في نكاح فاسد.. فهل يصير محصنا؟ فيه قولان حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: لا يصير محصنا؛ لأنه وطء في غير ملك صحيح.
والثاني: أنه يصير محصنا؛ لأن حكمه حكم الوطء في النكاح الصحيح في العدة والنسب، فكذلك في الإحصان.

[مسألة: حد الزاني غير المحصن]
مسألة: [غير المحصن إذا زنَى فحده الجلد والتغريب عندنا] :
وأمَّا البكر - وهو: من ليس بمحصن - رجلا كان أو امرأة وإن كانت قد ذهبت عذرتها، فإذا زنَى أحدهما وكان حرا.. كان حده مائة جلدة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] [النور: 2] ، ويغربان سنة. وبه قال أبُو بكر وعمر وعثمان وعلي، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق.
وقال أبُو حَنِيفَة وحماد: (لا يجب التغريب على الرجل ولا على المرأة، وإنما هو على سبيل التَّعزِير إن رأى الإمام.. فعله، وإلا.. لم يجب التغريب على الرجل ولا المرأة) . وقال مالك: (يجب التغريب على الرجل دون المرأة) .
دليلنا: ما رَوَى عبادة بن الصامت: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البكر بالبكر جلد مائة

(12/355)


وتغريب عام» ولم يفرق بين الرجل والمرأة. وروى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل الذي سأله: «على ابنك جلد مائة وتغريب عام» ولفظه على الإيجاب. ولأن ما كان حدا للرجل.. كان حدا للمرأة، كالجلد والرجم.

[فرع: حد العبد والأمة إذا زنيا الجلد]
] : وأمَّا العبد والأمة إذا زنيا.. فإنه يجب على كل واحد منهما خمسون جلدة، سواء تزوجا أو لم يتزوجا. وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة وأحمد.
وقال ابن عبَّاس: (إن لم يتزوجا.. فلا حد عليهما، وإن تزوجا- يعني: وطئا في نكاح صحيح- فحد كل واحد منهما إذا زنَى خمسون جلدة) . وبه قال طاووس وأبو عبيد القاسم بن سلام. وقال داود: (إذا تزوجت الأمة ثم زنت.. وجب عليها خمسون جلدة، وأمَّا العبد إذا زنَى.. فيجب عليه مائة جلدة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] [النساء: 25] والمراد بقوله: {فإذا أحصن} بفتح الهمزة على قراءة من قرأ بالفتح: إذا أسلمن، وعلى قراءة من قرأ بالضم: إذا تزوجن، فنجعل القراءتين كالآيتين، فأفادت الآية: أنه لا يجب عليها الرجم، وإن كانت متزوجة.. فإنما يجب عليها نصف ما على المحصنات من العذاب وهن مسلمات وأراد به من الجلد؛ لأن الرجم لا يتنصف، فإذا ثبت هذا في الأمة.. قسنا العبد عليها؛ لأن حدها إنما نقص لنقصها بالرق، وهذا موجود في العبد، فساواها في الجلد.

[فرع: مقدار تغريب المملوك لو قلنا بوجوب تغريبه]
وهل يجب التغريب على المملوك؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب - وبه قال مالك وأحمد - لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا زنت أمة أحدكم.. فليجلدها الحد» فأمر بالجلد ولم يأمر بالتغريب، فاقتضى الظاهر: أن الجلد جميع

(12/356)


حدها. ولأن في تغريبه تفويت منفعة على السيد. ولأن التغريب يراد لإلحاق العار به والنَكَال ولا عار عليه في ذلك؛ لأن للسيد تغريبه متى يشاء.
والثاني: يجب عليه التغريب، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] [النساء: 25] وهذا عام في الجلد والتغريب. ولما رُوِيَ: (أن ابن عمر جلد أمة له زنت ونفاها إلى فدك) . ولأنه حد يتبعض، فوجب على المملوك، كالجلد. وأمَّا الخبر: فليس سكوته عنه يدل على أنه لا يجب. وقول الأول: (إن في ذلك تفويت منفعة على سيده) لا يصح؛ لأن لسيده أن يستخدمه وإن كان مغربا بالإجارة وغيرها، والعار والنَكَال يلحق بالمملوك إذا علم أنه غرب بالزِّنَا.
فإذا قلنا: لا يجب تغريب المملوك.. فلا كلام. وإذا قلنا: يجب تغريبه.. فكم يجب تغريبه؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يجب تغريبه سنة؛ لأنها مدة مقدرة بالشَّرعِ، فاستوى فيها الحر والعبد، كمدة العنة والإيلاء.
والثاني: لا يجب تغريبه إلا نصف السنة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] [النساء: 25] . ولأنه حد يتبعض، فكان المملوك فيه على النصف من الحر كالجلد، وما ذكره الأول.. ينتقض بعدة الوفاة.
وقال أبُو إسحاق: يغرب نصف السنة قولا واحدا. قال الشيخُ أبُو حامد: وهو الأصح مذهبا وحجاجا، فأما الحجاج: فما ذكرناه. وأمَّا المذهب: فكل موضع ذكر الشافعيُّ فيه تغريب المملوك قال: (يغرب نصف السنة) .

[فرع: زنَى البكر ثم أحصن ثم زنَى]
فإن زنَى وهو بكر، فلم يحد حتى أحصن ثم زنَى.. ففيه وجهان:

(12/357)


أحدهما: يرجم ويدخل فيه الجلد والتغريب؛ لأنهما حدان يجبان بالزِّنَى فتداخلا، كما لو زنَى ثم زنَى وهو بكر.
والثاني: لا يدخل الجلد في الرجم، بل يجلد، ثم يرجم؛ لأنهما حدان مختلفان فلم يتداخلا، كحد السرقة والشرب.
فعلى هذا: يجلد ثم يرجم ولا يغرب؛ لأن التغريب يحصل بالرجم.

[مسألة: فيما يوجب الحد من الإيلاج]
والوطء الذي يجب به الحد: أن يغيب الحشفة في الفرج؛ لأن أحكام الوطء تتعلق بذلك ولا تتعلق بما دونه، والحد من أحكام الوطء، فتعلق بذلك ولم يتعلق بما دونه. فإن وجدت امرأة أجنبية مع رجل في لحاف واحد ولم يعلم منهما غير ذلك.. لم يجب عليهما الحد.
وقال إسحاق ابن راهويه: يجب عليهما الحد؛ لما رُوِي عن عمر وعلي أنهما قالا: (يجلد كل واحد منهما مائة جلدة) .
دليلنا: ما رَوَى ابن مَسعُودٍ: «أن رجلا أتى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إنِّي وجدت امرأة في البستان، فأصبت منها كل شيء غير أنِّي لم أنكحها.» ورُوِي: «نلت منها - حراما- ما ينال الرجل من امرأته إلا الجماع، فقال النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] » [هود: 114] ورُوِي أنه قال له: " استغفر الله وتوضأ "، ولم يوجب عليه الحد. وما رُوِي عن عمر وعلي، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.. فقد رُوِي عن عمر خلاف ذلك في قصة المغيرة بن شعبة؛ فإن زيادا قال: رأيت استا تنبو ونفسا يعلو،

(12/358)


ورجليها في عنقه كأنهما أذنا حمار، ولم أعلم ما وراء ذلك. فلم يوجب الحد على المغيرة.
ويعزران على ذلك؛ لأنه معصية ليس فيها حد ولا كفارة، فوجب فيه التَّعزِير.

[فرع: وجدت الخلية حاملا]
إذا وجدت امرأة حاملا ولا زوج لها.. سئلت، فإن اعترفت بالزِّنَى.. وجب عليها الحد. وإن أنكرت الزِّنَى.. لم يجب عليها الحد. وقال مالك: (يجب عليها الحد) .
وقد رُوِي عن عمر: أنه قال: (الرجم واجب على كل من زنَى من الرجال والنساء إذا كان محصنا إذا ثبت هذا بشهادة، أو اعتراف أو حمل) .
دليلنا: أنه يحتمل أنه من وطء بشبهة أو إكراه، و: (الحد يدرأ بالشبهة) . وما رُوِي عن عمر.. فقد رُوِي عنه خلافه؛ وذلك أنه رُوِيَ: أنه أتي بامرأة حامل، فسألها، فقالت: لم أحس حتى ركبني رجل، فقال عمر: (دعوها) .

[مسألة: الإكراه على الزِّنَى]
إذا أكره رجل امرأة على الزِّنَى.. وجب عليه الحد دونها؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، ولما ذكرناه عن عمر في التي قبلها.
ويجب لها المهر عليه.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب) .
دليلنا: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مهر البغي» ، و (البغي) : الزانية، وهذه ليست

(12/359)


بزانية ولا هي ملكه، فوجب لها المهر، كما لو وطئها بشبهة.
وإن أكره رجل على الزِّنَى، فزنا.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق والمسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: يجب عليه الحد؛ لأن الوطء لا يتأتى إلا بالشهوة، ولا يوجد ذلك إلا من المختار.
والثاني: لا يجب عليه الحد - ولم يذكر ابن الصبَّاغ غيره- لأنه مكره على الزِّنَى، فلم يجب عليه الحد، كالمرأة.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إن أكرهه السلطان أو الحاكم.. لم يجب عليه الحد. وإن أكرهه غيرهما.. وجب عليه الحد استحسانا) .
دليلنا: أنه مكره على الوطء، فلم يجب عليه الحد، كما لو أكرهه السلطان.

[مسألة: الجهل في تحريم الزِّنَى]
ولا يجب حد الزِّنَا على من زنَى وهو لا يعلم تحريم الزِّنَى؛ لما رُوِيَ: أن رجلا قال: زنيت البارحة، فسئل، فقال: ما علمت أن الله حرمه، فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فكتب عمر: (إن كان علم أن الله قد حرمه.. فحدوه، وإن لم يعلم.. فأعلموه، فإن عاد.. فارجموه) . وكذلك رُوِي عن عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.
فإن زنَى رجل وادعى أنه لم يعلم تحريمه، فإن كان قد نشأ بين المسلمين.. لم

(12/360)


يقبل قوله؛ لأن ذلك خلاف الظاهر، وإن كان قريب العهد بالإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة من المسلمين.. قبل قوله؛ لأن الظاهر أنه لا يعلم.
فإن وطئ المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن، وادعى أنه لم يعلم تحريمه.. فيه وجهان:
أحدهما: لا تقبل دعواه إلا أن يكون قريب العهد بالإسلام أو نشأ في بادية، كما لو وطئ غير المرهونة، أو وطئ المرهونة بغير إذن الراهن وادعى الجهل بتحريم الزِّنَا.
والثاني: يقبل قوله؛ لأن معرفة ذلك يحتاج إلى فقه.

[مسألة: وجد امرأة على فراشه فظنها زوجته]
وإذا وجد رجل امرأة على فراشه فظنها زوجته أو أمته فوطئها.. لم يجب عليه الحد. وقال أبُو حَنِيفَة: (يجب عليه الحد، إلا إن زفت إليه امرأة ليلة الزفاف، فقيل له: زففنا إليك امرأتك، فوطئها.. فلا يجب عليه الحد) .
دليلنا: أنه وطئ امرأة معتقدا أنها زوجته، فلم يجب عليه الحد، كما لو زفت إليه امرأة وقيل له: هذه امرأتك، فوطئها.

[فرع: من يجب عليه الحد إذا زنَى بمن لا يجب عليه وعكسه]
وإن زنَى بالغ بصغيرة، أو عاقل بمجنونة، أو مستيقظ بنائمة، أو مختار بمكرهة، أو عالم بالتحريم بجاهلة بالتحريم.. وجب الحد على الرجل دون المرأة- وبه قال أبُو حَنِيفَة - لأنه من أهل وجوب الحد عليه، فوجب الحد عليه، كما لو كانت مساوية له.
وإن زنَى حربي مستأمن بمسلمة.. وجب الحد على المرأة دون الرجل؛ لأنها من أهل وجوب الحد.
وإن زنَى مجنون بعاقلة فمكنته من نفسها، أو زنَى صغير بكبيرة، أو جاهل بالتحريم بعالمة، أو استدخلت ذكر نائم في فرجها.. وجب الحد على المرأة دون الرجل. وقال أبُو حَنِيفَة: (الاعتبار بالرجل، فإذا سقط عنه الحد.. لم يجب عليها؛ لأنها تابعة له) .

(12/361)


دليلنا: أن سقوط الحد عن أحد الواطئين بمعنى يخصه لا يوجب سقوطه عن الآخر، كما لو زنَى المستأمن بمسلمة.
وإن كان أحد الزانيين ثيبا والآخر بكرا.. وجب على الثيب الرجم، وعلى البكر الجلد والتغريب؛ لأن كل واحد منهما منفرد بسبب ذلك.

[مسألة: استأجرها للزنَى أو تزوج ذات رحم محرم]
إذا استأجر امرأة ليزني بها، فزنى بها، أو تزوج ذات رحم محرم، كأمه، أو أخته، أو امرأة أبيه، أو امرأة ابنه، أو امرأة طلقها ثلاثا ولم تتزوج بزوج غيره، أو امرأة معتدة في عدتها، أو تزوج خامسة فوطئها مع علمه بتحريمها.. وجب عليه الحد. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه الحد بجميع ذلك) .
دليلنا: ما رَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وقع على ذات رحم محرم له.. فاقتلوه» ولأنه وطء في غير ملك، محرم بدواعيه غير مختلف فيه، فإذا تعمده.. وجب عليه الحد، كالزنى.

(12/362)


فقولنا: (في غير ملك) احتراز من وطء أحد الشريكين للجارية المشتركة بينهما. ومنه إذا وطئ أخته التي ملكها. وقولنا (محرم بدواعيه) احتراز من وطء زوجته الحائض. وقولنا: (غير مختلف فيه) احتراز من الأنكحة الفاسدة.
وإن ملك أمه أو أخته فوطئها.. فهل يجب عليه الحد؟ فيه قولان، وحكاهما الخراسانيون وجهين:
أحدهما: لا يجب عليه الحد؛ لأنه وطء في ملكه، فلم يجب عليه الحد وإن كان محرما، كما لو وطئ امرأته الحائض.
والثاني: يجب عليه الحد؛ لأن ملكه لها لا يبيح له وطأها بحال، فوجب عليه فيه الحد، كوطء الأجنبية.

[فرع: الوطء في النكاح الفاسد لا يوجب الحد]
وإن تزوج امرأة بنكاح فاسد بولي غير مرشد، أو بنكاح متعة، أو نكح امرأة بغير ولي فوطئها.. لم يجب عليه الحد.
وقال الصيمري: إن كان شافعيا يعتقد أن النكاح بلا ولي لا يصح، وجب عليه الحد بوطء المرأة في النكاح بلا ولي.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: إذا وطئها في النكاح بلا ولي.. وجب عليه الحد بكل حال؛ لأن الأخبار في بطلانه ظاهرة.
والأول أصح؛ لأنه مختلف في صحته، فلم يجب به الحد، كما لو نكح امرأة من ولي فاسق ووطئها.

(12/363)


[فرع: وطء جارية الغير أو المشتركة بينهما]
إذا أباح له الغير وطء جاريته فوطئها.. وجب عليه الحد إذا كان عالما بتحريم ذلك. وقال أبُو حَنِيفَة: (إن أباحت له زوجته جاريتها فوطئها.. لم يجب عليه الحد) .
دليلنا: أنه وطء مجمع على تحريمه، فوجب به الحد، كما لو كانت لغير زوجته.
وإن زنَى بجارية له عليها قصاص.. وجب عليه الحد.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه الحد) .
دليلنا: أنه زنَى بجارية لا يملكها، ولا له فيها شبهة ملك، فوجب عليه الحد، كما لو كانت مرهونة عنده.
وإن زنَى بجارية مشتركة بينه وبين غيره.. لم يجب عليه الحد، سواء علم بتحريمها أو لم يعلم. وقال أبُو ثور: (يجب عليه الحد) .
دليلنا: أنه اجتمع في الوطء ما يوجب الحد والإسقاط، فغلب الإسقاط؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهة، وملكه لبعضها شبهة في إسقاط الحد فسقط.

[مسألة: حرمة اللواط وحده]
اللواط محرم- وهو: إتيان الذكور في أدبارهم - وهو من الكبائر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [النمل: 54] [النمل: 54] فسماه فاحشة، وقد قال الله تَعالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] [الأعراف: 33] ، ولأن الله تَعالَى قال: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165] {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166] [الشعراء: 165-166] فوبخهم الله تَعالَى على ذلك وسماهم بذلك عادين، ولأن الله تَعالَى عاقب على هذا الفعل في الدنيا بما لم يعاقب على ذنب؛ قال الله تَعالَى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود: 82] [الآية: هود: 82] .

(12/364)


ورَوَى حذيفة: «أن جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - احتمل أرضهم فرفعها حتى سمع أهل سماء الدنيا صوت كلابهم، وأوقد تحتهم نارا، وقلبهم عليها» .
وروى معاوية بن قرة: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لجبريل: ما أحسن ما أثنى عليك ربك بقوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21] [التكوير: 20-21] فما قوتك وما أمانتك؟! فقال جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أما أمانتي: فما أمرت بشيء قط عدوت به إلى غيره، وأمَّا قوتي: فهو أنِّي قلعت مدائن قوم لوط من الأرض السفلى، وكانت أربع مدائن، في كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فهويت بها في الهواء حتى سمع أهل السماء الدنيا صياح الدجاج ونباح الكلاب، ثم ألقيتها» .
وروى ابن عبَّاس: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط - قالها ثلاثا- من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط. فاقتلوا الفاعل والمفعول به» .

(12/365)


وأجمع المسلمون: على تحريمه.
إذا ثبت هذا: فمن فعله وهو ممن يجب عليه الحد.. وجب عليه الحد، وفي حده قولان:
أحدهما: يقتل، بكرا كان أو ثيبا- وبه قال ربيعة ومالك وأحمد وإسحاق - ولما رَوَى ابن عبَّاس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله من يعمل عمل قوم لوط - ثلاثا- ثم قال: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط.. فاقتلوا الفاعل والمفعول به» .
ورُوِي: (أن خالد بن الوليد وجد رجلا في بعض ضواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، فكتب بذلك إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فذكر أبُو بكر ذلك للصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فكان علي كرم الله وجهه أشدهم فيه قولا، فقال: هذا ذنب لم تعص الله به أمة من الأمم إلا أمة واحدة وقد علمتم ما صنع الله بها، وأرى أن يحرق بالنار. فكتب أبُو

(12/366)


بكر بذلك إلى خالد فأحرقه) ، فأخذ بذلك ابن الزبير في إمارته.
ورُوِي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه أحرق لوطيا) . ورُوِي عنه أنه قال: (يرجم) .
وعن ابن عبَّاس روايتان:
إحداهما: (أنه يرجم) .
والثانية: (أنه ينظر أطول حائط في تلك القرية، فيرمى منه منكسا، ثم يتبع بالحجارة) . ورُوِي عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (يرمى عليه حائط) .
وهذا إجماع من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على قتله، وإن اختلفوا فيما يقتل به.
والقول الثاني: أنه كالزنى في الفرج، فيجلد ويغرب إن كان بكرا، ويرجم إن كان ثيبا. وهو المشهور من المذهب - وبه قال الحَسَن البَصرِيّ، وعطاء، والنخعي، وقتادة، والأَوزَاعِي، وأبو يوسف، ومحمد - لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى الرجل الرجل.. فهما زانيان» فسماه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زنَى، وقد تقرر حد الزِّنَى في البكر والثيب، ولأنه

(12/367)


فرج يجب في الإيلاج فيه الحد، ففرق فيه بين البكر والثيب، كفرج المرأة.
وما رُوِي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.. محمول على أنهم فعلوا ذلك في الثيب.
هذا مذهبنا، وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب فيه الحد، وإنما يجب فيه التَّعزِير) .
قال الشيخُ أبُو حامد: ولا يوافقه على هذا المذهب أحد.
وأمَّا المسعودي [في " الإبانة "] : فقال: خرج في هذا قولا ثالثا في إتيان البهيمة، وليس بمشهور. وما ذكرنا للقولين دليل على أبي حَنِيفَة. فأما إذا قلنا: إنه كالزاني في الفرج.. فلا كلام. وإذا قلنا: إنه يقتل بكل حال.. قال الشيخُ أبُو إسحاق: فكيف يقتل؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] قولين:
أحدهما: أنه يقتل بالسيف؛ لأن إطلاق القتل ينصرف إلى القتل بالسيف، كما قلنا في قتل الردة.
والثاني: يقتل بالرجم؛ لأنه قتل يجب بالزِّنَى، فكان بالرجم، كقتل الثيب إذا زنَى في الفرج.

[فرع: وطء امرأة في دبرها أو عبد]
وإذا وطئ امرأة أجنبية في دبرها.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخُ أبُو إسحاق والمسعودي [في " الإبانة "] : هو كما لو وطئها في قبلها.
وقال الشيخُ أبُو حامد: هو كما لو وطئ رجل في دبره؛ لأنهما فرجان محرمان لا يستباحان بحال. فإن وطئ امرأته في دبرها.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخُ أبُو حامد وبعض أصحابنا الخراسانيين: لا يجب عليه الحد قولا واحدا؛ لأنها محل لشهوته، ولأنه مختلف في إباحته، فكان مالك يبيحه!

(12/368)


وقال بعض أصحابنا الخراسانيين: هو كما لو وطئ أخته في ملكه.. هل يجب عليه الحد؟ على قولين:
فإن لاط الرجل بعبده.. فاختلف أصحابنا الخراسانيون فيه:
فمنهم من قال: هو كما لو لاط بعبد غيره؛ لأنه لا يستباح بحال.
ومنهم من قال: هو كما لو وطئ أخته في ملكه، فيكون على قولين.

[فرع: من حرم مباشرتها بالوطء حرم ما دونه]
ومن حرمت مباشرته بالوطء في الفرج بحكم الزِّنَى واللواط.. حرمت مباشرته فيما دون الفرج بشهوة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ} [المؤمنون: 6] [المؤمنون: 5-6] وهذا ليس بواحد منهم.
وقولنا: (بحكم الزِّنَى) احتراز من امرأته الحائض والمحرمة والصائمة.
فإن باشر من يحرم عليه مباشرته فيما دون الفرج بشهوة.. لم يجب عليه الحد؛ لحديث الرجل الذي أخبر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أصاب من امرأة كل شيء غير الجماع، ولم يوجب عليه الحد. ويجب عليه التَّعزِير؛ لأنه معصية لا حد فيها ولا كفارة.

[رع: يحرم السحاق وفيه التَّعزِير]
فرع: يحرم السحاق وفيه التَّعزِير] :
ويحرم إتيان المرأة المرأة؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتت المرأة المرأة.. فهما زانيتان» . فإن ساحقت المرأة المرأة.. لم يجب عليها الحد.

(12/369)


وقال مالك: (يجب على كل واحدة منهما حد؛ وهو مائة جلدة) .
دليلنا: أنها مباشرة لا إيلاج فيها، فلم يجب فيها الحد، كما لو باشر الرجل المرأة فيما دون الفرج. ويعزران؛ لأنها معصية لا حد فيها ولا كفارة.

[مسألة: إتيان البهيمة فيه التَّعزِير]
ويحرم إتيان البهيمة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] [المؤمنون: 5-7] .
فإن فعل ذلك من يجب عليه حد الزِّنَى.. فما الذي يجب عليه؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يجب قتله، بكرا كان أو ثيبا- وبه قال أبُو سلمة بن عبد الرحمن - لما رَوَى ابن عبَّاس: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتى بهيمة.. فاقتلوه، واقتلوا البهيمة» قيل لابن عبَّاس: ما شأن البهيمة تقتل؟ فقال: لأنها ترى، فيقال: هذه وهذه، وقد فعل بها ما فعل. وروى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وقع على بهيمة.. فاقتلوه، واقتلوا البهيمة» . ولأن هذا الفرج لا يستباح بحال، فغلظ فيه الحد.

(12/370)


فعلى هذا: كيف يقتل؟ فيه وجهان:
أحدهما: بالسيف.
والثاني: بالرجم، وقد مضى دليلهما.
والقول الثاني: أنه كالزنى في فرج المرأة، فيجلد ويغرب إن كان بكرا، ويرجم إن كان ثيبا؛ لأنه فرج يجب بالإيلاج فيه الغسل، ففرق فيه بين البكر والثيب كفرج المرأة.
والثالث: أنه لا يجب فيه الحد، وإنما يجب فيه التَّعزِير، وبه قال أكثر أهل العلم؛ لأن الحد إنما يجب بالإيلاج في فرج يبتغي منه كمال اللذة، وفرج البهيمة مما تعافه النفس ولا يفعله إلا السفهاء، فلم يجب به الحد، كشرب البول.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: لا يجب فيه التَّعزِير قولا واحدا.
وأمَّا البهيمة المفعول بها.. فاختلف أصحابنا فيها: فذكر الشيخ أبُو حامد: أنها إن كانت مما تؤكل.. فلا خلاف أنها تذبح. ولأي معنى تذبح؟ فيه وجهان:
أحدهما: تذبح؛ لكي لا تلد ولدا مشوها؛ لما رُوِيَ: أن راعيا أتى بهيمة فولدت ولدا مشوها.
والثاني: أنها تذبح؛ لئلا يقال: هذه وهذه قد فعل بها؛ لما رَوَيْنَاهُ عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فإذا ذبحت.. فهل يحل أكلها؟ يبنى على العلتين:
فإن قلنا: تذبح لئلا تأتي بولد مشوه.. حل أكلها. وإن قلنا: تذبح لكي لا يعير بها.. لم يحل أكلها. وإن كانت مما لا يحل أكلها.. فهل تذبح؟ فيه وجهان:

(12/371)


أحدهما: تذبح؛ لما ذكرناه من العلتين في التي يؤكل لحمها.
والثاني: لا تذبح؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة» ، وهذه تذبح لا لمأكلة.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق وابن الصبَّاغ: هل تذبح البهيمة المفعول بها؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجب ذبحها للخبرين.
والثاني: لا يجب ذبحها؛ لأن البهيمة لا تذبح لغير مأكلة، والخبرين ضعيفان.
والثالث: إن كانت مما يؤكل.. وجب ذبحها. وإن كانت مما لا يؤكل.. لم يجب ذبحها.
فإذا قلنا: يجب ذبحها وكانت مملوكة.. فهل يحل أكلها؟ فيه وجهان. فإذا قلنا: يجب ذبحها، فذبحت.. نظرت:
فإن كان الذي فعل بها مالكها.. فلا ضمان عليه، كما لو أتلفها. وإن فعل بها غيره.. فهل يجب عليه ضمانها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: لا يجب عليه ضمانها؛ لأنها تقتل حدا، كما يقتل المملوك حدا.
والثاني: يجب عليه ضمانها، وهو قول العراقيين من أصحابنا؛ لأنه حيوان أتلف من غير جناية. فعلى هذا: إن كانت مما لا يؤكل.. وجب عليه جميع قيمتها. وإن كانت مما يؤكل، فإن قلنا: لا يحل أكلها.. وجب عليه جميع قيمتها. وإن قلنا: يحل أكلها.. وجب عليه ما بين قيمتها حية ومذبوحة. وعلى من يجب؟ فيه وجهان، حكاهما أبُو علي الطبري والمسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: يجب في بيت المال؛ لأنها قتلت في مصلحة المسلمين.
والثاني: يجب على الفاعل بها، وهو المشهور من المذهب؛ لأنه هو السبب في إتلافها.

(12/372)


[مسألة: الإقرار بالزِّنَى]
إذا أقر من يجب عليه حد الزِّنَى مرة واحدة أنه زنَى.. وجب عليه الحد. وبه قال مالك، وأبو ثور، والحسن البَصرِيّ، وعثمان البتيُّ، وحماد بن أبي سليمان. ورُوِي ذلك عن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق: (لا يجب عليه الحد حتى يقر أربع مرات) . فأما ابن أبي ليلى وأحمد فقالا: (إذا أقر أربع مرات في مجلس واحد أو مجالس.. لزمه الحد) . وأمَّا أبُو حَنِيفَة وأصحابه فقالوا: (لا يجب عليه الحد حتى يقر أربع مرات في أربعة مجالس) .
دليلنا: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل الذي سأله: «على ابنك جلد مائة وتغريب عام. واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمها» والاعتراف يقع على المرة الواحدة.
ورُوِي: «أن الغامدية قالت: يا رسول الله، إنِّي قد فجرت، فقال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارجعي " فلما كان من الغد أتته، وقالت: أتريد أن تردني كما رددت ماعزا؟ والله إنِّي لحبلى، فقال لها: " ارجعي " فجاءت في اليوم الثالث، فقال لها: " ارجعي حتى تضعي ". فلما وضعت.. قال لها: " ارجعي حتى تفطمي ولدك " فلما فطمته.. أتته، فأمر برجمها.» ولم ينقل أنها اعترفت عنده إلا مرة واحدة. وروى عمران بن الحصين: «أن امرأة من جهينة جاءت إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعترفت بالزِّنَى وهي حبلي، فدعا النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليها وقال له: " أحسن إليها حتى تضع، فإذا وضعت.. فجئ بها " فلما وضعت.. جاء بها، فأمر بها النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشبكت عليها ثيابها - يعني شدت- ورجمت» . ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أتى من هذه القاذورات شيئا.. فليستتر بستر الله؛ فإن من أبدى لنا صفحته.. أقمنا عليه حد الله» و (الصفحة) : الاعتراف. ولم يفرق.

(12/373)


[فرع: إقرار الأخرس بالزِّنَى]
إذا أقر الأخرس أنه زنَى.. وجب عليه الحد. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه الحد) .
دليلنا: أن من صح إقراره بغير الزِّنَى.. صح إقراره بالزِّنَى، كالناطق.

[فرع: أقر الرجل بالزِّنَى وأنكرت المرأة]
وإذا أقر رجل أنه زنَى بامرأة، وأنكرت.. وجب عليه الحد دونها.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه الحد) .
دليلنا: ما روى سهل بن سعد الساعدي: «أن رجلا اعترف أنه زنَى بامرأة، وجحدت المرأة، فحد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل» . ولأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل السائل: «على ابنك جلد مائة وتغريب عام» فجلده النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغربه، وقال: «اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمها» ، ولا يجوز أن يكون جلد الابن وغربه إلا بإقراره دون أبيه، وعلق رجم المرأة على اعترافها.

[فرع: رجوعه في الإقرار بالزِّنَى يقبل]
] : وإن أقر أنه زنَى، ثم رجع عن إقراره، وقال: لم أزن.. قبل رجوعه ولم

(12/374)


يحد. وبه قال أبُو حَنِيفَة، وهو إحدَى الروايتين عن مالك.
وقال أبُو ثور: (لا يقبل رجوعه) . وهي الرواية الأخرى عن مالك.
دليلنا: ما رُوِي عن نعيم بن هزال أنه قال: «كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي، فوقع على جارية من الحي، فأخبر بذلك أبي، فقال له: بادر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن ينزل فيك قرآن، فأتى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعترف عنده بالزِّنَى فأعرض عنه، ثم اعترف فأعرض عنه، فقال له النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الآن أقررت أربعا، فبمن؟ " قال: بفلانة. فقال النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لعلك لمست؟ " قال: لا، قال: " لعلك قبلت؟ " قال: لا، قال: " لعلك نظرت؟ " قال: لا، قال: " جامعتها؟ " قال: نعم، فأمر برجمه فرجم، فلما أصابه حر الحجارة.. قال: ردوني إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن قومي غروني - يعني: هزالا حين قال له: بادر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبروا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك فقال: هلا رددتموه» .
ورُوِي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لهزال: «هلا سترته بثوبك يا هزال»
فموضع الدليل: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعرض عنه ليرجع، فلما لم يرجع.. عرض له بالرجوع، ثم قال: «هلا رددتموه؟» وإنما قال ذلك لعله أن يرجع، فلو لم يقبل رجوعه.. لم يكن لذلك فائدة. والمستحب للإمام: أن يعرض للمقر بالزِّنَى بالرجوع؛ للخبر.
والله أعلم وبالله التوفيق

(12/375)


[باب إقامة الحد]
إذا وجب حد الزِّنَى أو السرقة أو الشرب على حر.. لم يجز استيفاؤه إلا للإمام أو لمن فوض إليه الإمام ذلك؛ لأن الحدود في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي زمن الخلفاء الراشدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لم تستوف إلا بإذنهم، ولأن استيفاءها يفتقر إلى نظر واجتهاد، فلا يصح استيفاؤها إلا من الإمام أو النائب عنه.
وأمَّا حد القذف: فيصح استيفاؤه للإمام، فإن تحاكم المتقاذفان إلى رجل من الرعية يصلح أن يكون حاكما.. فهل يصح حكمه فيه واستيفاؤه له؟ فيه وجهان، نذكرهما في موضعهما إن شاء الله.

[مسألة: حكم حضور الإمام والشهود موضع الرجم وابتداؤهم به]
ويجوز للإمام أن يحضر موضع الرجم، ولا يلزمه الحضور.
وحكي: أن أبا حَنِيفَة قال: (يلزمه الحضور) .
دليلنا: أنه رجم في زمن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماعز، والغامدية، والجهنية، واليهوديان، ولم يرو: (أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حضر رجم أحدهم) .
وإن ثبت الزِّنَى بالبينة.. لم يلزم البينة حضور الرجم، فإن حضروا.. لم يلزمهم البداية بالرجم. وكذلك إذا حضر الإمام.. لم يلزمه البداية بالرجم، وبه قال مالك.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يلزم البينة الحضور ويلزمهم البداية بالرجم، ثم الإمام، ثم الناس) . وإن ثبت الزِّنَى باعتراف الزاني.. لزم الإمام البداية بالرجم، ثم الناس.
دليلنا: أنه قد رجم جماعة في زمن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يرو: (أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ برجم

(12/376)


أحدهم) . ولأنه قتل بحق الله تَعالَى، فلم يكن من شرطه أن يبتدئ به الإمام أو الشهود، كالقتل بالردة.

[فرع: استحباب حضور طائفة ليروا الحد ومقدار عددهم]
والمستحب للإمام إذا أراد أن يقيم الحد: أن يحضره طائفة من المسلمين يشهدون إقامته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] [النور: 2] . واختلف الناس في عددهم:
فمذهبنا: أن الطائفة هاهنا أربعة.
وذهب ابن عبَّاس إلى: (أن الطائفة هاهنا واحد فما فوقه) . وذهب عطاء وأحمد إلى: (أن الطائفة هاهنا اثنان فما فوقهما) . وذهب الزهري إلى: أنها ثلاثة. وذهب ربيعة إلى: أنها خمسة. وذهب الحَسَن البَصرِي إلى: أنها هاهنا عشرة.
دليلنا: أن الأربعة هو العدد الذي يثبت به الزِّنَى، فوجب أن يكونوا هم العدد الذين يحضرون إقامة الحد.
قال الشيخُ أبُو حامد: قال الشافعي: (جعل الطائفة هاهنا أربعة فأكثر، وفي صلاة الخوف ثلاثة فأكثر، وقَوْله تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] [التوبة: 122] واحدا فأكثر) .

[مسألة: تخيير السيد في إقامة الحد على العبد]
] : وإن وجب الحد على مملوك.. فللمولى أن يجعل إقامة الحد على ذلك إلى الإمام أو إلى النائب عنه.
وإن أراد أن يقيم ذلك بنفسه، فإن كان حد الزِّنَى أو القذف أو الشرب وجب على المملوك بإقراره.. جاز للمولى إقامته. وبه قال جماعة من الصحابة، ومن التابعين: الحَسَن والنخعي وعلقمة والأسود. ومن الفقهاء: مالك وسفيان والأَوزَاعِي.

(12/377)


وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه: (لا يجوز للمولى إقامة الحد على مملوكه، وإنما يجوز له تعزيره) .
دليلنا: ما روى علي بن أبي طالب: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أقيموا الحدود على من ملكت أيمانكم» . ورَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها.. فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت.. فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الثالثة فتبين زناها.. فليبعها ولو بحبل من شعر» . ومعنى قوله: (لا يثرب عليها) أي: لا يوبخها ولا يعيرها. وقيل: معناه لا يبالغ في جلدها حتى تدمى. ورُوِي: أن رجلا جاء إلى ابن مَسعُودٍ، فقال له: إن أمة لي زنت؟ فقال: (اجلدها) ، فقال: الرجل: إنها لم تحصن؟ فقال عبد الله بن مَسعُودٍ: (إحصانها إسلامها) . ورُوِي: (أن أمة لأنس زنت، فأمر بعض أولاده أن يقيم عليها الحد) . ورُوِي: (أن غلاما لابن عمر سرق، فقطع يده) . و: (زنت أمة له، فجلدها ونفاها إلى فدك) . و: (سرقت أمة لعائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -

(12/378)


فقطعتها) . ورَوَى الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أن فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت لها أمة فزنت فجلدتها) . ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فدل على: أنه إجماع لا خلاف فيه.

[فرع: تغريب المملوك وسماع المولى للبينة]
وهل للمولى أن يغرب مملوكه بالزِّنَى؟ إذا قلنا: يجب عليه التغريب.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي العباس -: أنه ليس له أن يغربه، وإنما يغربه الإمام؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا زنت أمة أحدكم.. فليجلدها الحد» ولم يذكر التغريب.
والثاني - وهو المذهب -: أن للمولى أن يغربه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» والتغريب من الحد. ولما رَوَيْنَاهُ عن ابن عمر.
وحكى الشيخ أبُو حامد: أن من أصحابنا من قال: يغربه من جلده، فإن جلده الإمام.. غربه. وإن جلده المولى.. غربه. وإن شهدت البينة على المملوك بما يوجب الحد.. فهل يملك المولى سماعها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يملك ذلك؛ لأن البينة تحتاج إلى البحث عن العدالة، وذلك أمر يفتقر إلى الاجتهاد، فكان إلى الحاكم. فعلى هذا: يسمع الحاكم البينة، فإذا ثبت عدالتها وحكم بها الحاكم.. أقام المولى الحد.
والثاني: أن للمولى أن يسمع البينة بذلك، ويقيم بها الحد، وهو المذهب؛ لأن من جاز له إقامة الحد.. جاز له سماع البينة فيه، كالحاكم. وأمَّا البحث عن

(12/379)


العدالة: فيمكن المولى ذلك كما يمكن الحاكم.
وهل للمولى أن يقيم الحد بعلمه؟ هو كالحاكم: هل له أن يقضي في الحدود بعلمه؟ على ما يأتي في القضاء، إن شاء الله تَعالَى.

[فرع: قطع السيد يد عبده في السرقة]
وهل للمولى أن يقطع مملوكه في السرقة؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبُو العباس: ليس له ذلك؛ لأن ما يقطع به السارق مختلف فيه، فافتقر إلى الحاكم، بخلاف الحد في الزِّنَى؛ فإنه مجمع على سببه، ولأن السيد يملك على عبده من جنس الجلد في الحد؛ وهو التَّعزِير، ولا يملك عليه من جنس القطع.
والثاني: يجوز له القطع، وهو المنصوص؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» ولم يفرق. ولـ " أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، قطع عبدا له سرق ". و: (قطعت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أمة لها سرقت) . ولا مخالف لهما في الصحابة. ولأن من ملك إقامة حد الزِّنَى.. ملك إقامة حد السرقة، كالحاكم. وإن ارتد المملوك.. فليس للسيد أن يقتله على قول أبي العباس، وله أن يقتله على المنصوص؛ لـ: (أن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قتلت أمة لها سحرتها) . والقتل بالسحر لا يكون إلا بالردة.

[فرع: شروط إقامة السيد الحد على مملوكه]
وأمَّا المولى الذي يملك إقامة الحد على مملوكه. فلا خلاف على المذهب: أن المولى إذا كان رجلا، بالغا، عاقلا، عالما، مسلما، حرا، عدلا.. فله إقامة الحد على مملوكه؛ لما ذكرناه. وهل للوصي أن يقيم الحد على رقيق الصغير؟ فيه وجهان حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] بناء على أن له تزويج أمته أو عبده؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق: إن كان المولى يقيم الحد بنفسه.. فيحتاج أن يكون عدلا، عالما، قويا، له بطش. فإن وكل من يقيم له الحد.. فيحتاج أن يكون

(12/380)


عدلا، عاقلا، عالما. وإن كان فاسقا أو جاهلا.. لم يكن له إقامة الحد؛ لأنها ولاية في إقامة الحد، فمنع الفسق والجهل منه، كولاية الحاكم.
والثاني: يجوز أن يكون فاسقا جاهلا، وهو المنصوص في القديم؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» . وهذا خطاب يعم الجميع، ولأنها ولاية بحق الملك، فلم يمنع الفسق والجهل منها، كولاية النكاح.
وهل للكافر أن يقيم الحد على مملوكه؟ فيه وجهان حكاهما الخراسانيون، وتعليلهما ما ذكرناه في الفاسق. وهل للمرأة أن تقيم الحد على مملوكها؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المذهب: أن لها أن تقيم الحد؛ لما رُوِيَ: (أن فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلدت أمة لها زنت) ، و: (قطعت عائشة أمة لها سرقت) . ولا مخالف لهما في الصحابة.
والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هُرَيرَة: أنه ليس لها ذلك؛ لأنه ولاية على الغير، فلم تملكه المرأة، كولاية النكاح.
فعلى هذا: فيمن يقيم الحد على مملوكها وجهان:
أحدهما: ولي المرأة، كما يزوج أمتها.
والثاني: لا يملكه إلا الحاكم؛ لأن ذلك يستفاد بالولاية العامة وبولاية الملك، فإذا بطلت ولاية الملك في ذلك.. بقيت الولاية العامة في ذلك؛ وهي ولاية الحاكم.
وإن كان المولى مكاتبا.. فهل له أن يقيم الحد على مملوكه؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه ليس من أهل الولاية.
والثاني: له ذلك؛ لأنه يستفاد بالملك، فملكه المولى، كسائر التصرفات.

(12/381)


وإن كان عبد بين اثنين شريكين.. لم يجز لأحدهما أن يقيم عليه الحد بغير إذن شريكه؛ لأنه ليس له أن يحكم في ملك شريكه.

[مسألة: هيئة الجلد وصفته]
إذا كان المحدود بكرا.. نظرت فيه: فإن كان صحيحا قويا، والزمان معتدل الحر والبرد.. فإنه يجلد ولا يجرد ولا يقيد. وقال أبُو حَنِيفَة: (يجرد عن الثياب) .
دليلنا: ما رُوِي عن ابن مَسعُودٍ: أنه قال: (ليس في هذه الأمة مد، ولا تجريد، ولا غل، ولا صفد) . ولا مخالف له في الصحابة.
ويفرق الضرب على أعضائه ويتوقى الوجه والمذاكير؛ لما رَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ضرب أحدكم.. فليتوق الوجه» . ورُوِي: أن عليا كرم الله وجهه حد رجلا، فقال للجلاد: (اضربه وأعط كل عضو منه حقه، واتق وجهه ومذاكيره) . ورُوِي ذلك عن ابن عمر. ولأن الوجه يتبين فيه

(12/382)


الشين، والمذاكير مقتل. وهل يتوقى الرأس؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الماسرجسي واختيار ابن الصبَّاغ: أنه يتوقاه؛ لأنه مقتل، ويخاف منه العمى وزوال العقل. وكذلك الخاصرة مثله.
والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا: أنه لا يتوقى الرأس؛ لما رُوِي عن أبي بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال للجلاد: (اضرب الرأس؛ فإن الشيطان فيه) ، ولأنه يكون مغطى في العادة فلا يخاف تشويهه، ولأن ضربه بالسوط لا يخاف منه الموت.
ويضرب بسوط بين سوطين، لا جديد فيجرح، ولا خلق فلا يؤلم؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يجلد رجلا، فأتي بسوط خلق، فقال: " فوق هذا " فأتي بسوط جديد، فقال: " بين هذين " فأتي بسوط قد لان فضرب به» وكذلك رُوِي عن علي وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

(12/383)


ويضرب ضربا بين ضربين، فلا يرفع الجلاد يده حتى يرى بياض إبطه، ولا يضعها وضعا يسيرا، ولكن يرفع ذراعه ويضرب؛ لما رُوِي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (سوط بين سوطين، وضرب بين ضربين) . وعن عمر وعلي وابن مَسعُودٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أنهم قالوا للجلاد: (لا ترفع يدك حتى يرى بياض إبطك) . ولأنه إذا رفع يده.. وقع الضرب شديدا، وربما جرحه، وإذا وضع يده وضعا يسيرا.. لم يحصل به الألم.
ويضرب الرجل قائما، وتترك له يده يتقي بها، ولا يقيد ولا يمد ولا يجرد عن ثيابه، بل يترك عليه قميص أو قميصان، ولا تترك عليه جبة محشوة ولا فرو؛ لأنه يمنع من وصول الألم إليه. وتجلد المرأة جالسة.
وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: تجلد قائمة، كالرجل.
دليلنا: ما رُوِي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (تضرب المرأة جالسة) ، ولأن ذلك أستر لها.
وتشد عليها امرأة ثيابها في حال الضرب؛ لئلا ينكشف بدنها، وتضرب ضربا بين ضربين، لما رَوَيْنَاهُ عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ورُوِي: أن جارية أقرت عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالزِّنَى، فقال: (أذهبت الجارية حسنها وجمالها) . ثم قال لرجلين: (اضرباها ولا تخرقا لها جلدا) .

(12/384)


وإن كان البكر مريضا أو مقطوعا أو محدودا.. أخر جلده حتى يبرأ من مرضه أو قطعه ويسكن ألم حده الأول، وكذلك: إن كان الزمان شديد الحر أو البرد.. أخر جلده إلى أن يعتدل الزمان؛ لأن المقصود من جلده النَكَال والردع لا القتل، فلو جلدناه في هذه الأحوال.. لم يؤمن أن يموت من ذلك.
وإن كان نضو الخلق لا من علة لكنه نحيف الخلقة، أو كان به مرض لا يرجى زواله كالمسلول والزمن.. فإنه لا يحد حد الأقوياء، ولكن يضرب بإثكال النخل؛ وهو قضبانه. فيجمع مائة شمراخ، فيضرب بها دفعة واحدة، أو يضرب بأطراف الثياب والنعال. وقال مالك: (لا يضرب إلا بالسوط مائة مفرقة، فإن لم يمكن.. أخر جلده) . وقال أبُو حَنِيفَة: (يجمع مائة سوط، ويضرب بها دفعة واحدة) .
دليلنا: ما رَوَى أبُو داود بإسناده، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، «أنه أخبره بعض أصحاب النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأنصار: أنه اشتكى رجل منهم حتى ضني، فعاد جلده على عظمه، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش إليها، فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه.. أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالوا: ما رأينا أحدا من الناس نزل به من الضر مثل الذي هو به، فلو حملناه إليك.. لتفسخت عظامه، ولم يبق عليه إلا جلد على عظم، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذوا مائة شمراخ واضربوه بها ضربة واحدة» وهذا نص في موضع

(12/385)


الخلاف. ولأنه لا يمكن ضربه بالسوط؛ لأنه يؤدي إلى تلفه، ولا يمكن تركه؛ لأنه يؤدي إلى تعطيل الحد. فإن سرق نضو الخلق أو المريض الذي لا يرجى زوال مرضه.. فهل يقطع؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقطع؛ لأنه ليس المقصود من الحد القتل، كما أنه ليس المقصود من الجلد القتل، فلما لم يجز جلده بالسوط.. لم يجز قطعه.
والثاني: يقطع، وهو المذهب؛ لأنه لا يمكننا أن نقطعه قطعا لا يخاف منه؛ إذ كل القطع يخاف منه السراية، فتركه يؤدي إلى إسقاط الحد، بخلاف الجلد.

[فرع: وقت الحد على الحامل وماذا لو مات المحدود؟]
وإن وجب الجلد على امرأة وهي حبلى.. لم تجلد حتى تضع؛ لأن جلدها ربما كان سببا لتلف ولدها، وربما كان سببا لتلفها؛ لأنها تضعف بالحمل. وكذلك: إذا ولدت.. لم يجز حدها ما دامت نفساء؛ لأن خروج الدم منها يضعفها، فهي كالمريضة.

(12/386)


إذا ثبت هذا: فكل موضع قلنا: (يجوز فيه إقامة الحد) فأقامه الإمام فمات المحدود.. لم يجب ضمانه؛ لأن الحق قتله.
وكل موضع قلنا: (لا يجوز إقامة الحد فيه) فأقامه الإمام فيه، فإن كانت المرأة حاملا ثم تلف حملها.. وجب على الإمام ضمانه؛ لأنه متعد بذلك. فإن لم يعلم الإمام بكونها حاملا.. فهل يجب ضمانه في ماله أو في بيت المال؟ فيه قولان مَضَى توجيههما. وإن علم الإمام بكونها حاملا.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يجب ضمانه في ماله قولا واحدا؛ لأن بيت المال إنما يحمل خطأ الإمام، وهذا عمد إليه.
و [الثاني] : منهم من قال: فيه قولان، وهو الأصح؛ لأن إتلاف الجنين لا يتأتى فيه العمد المحض، وإنما يتلف بعمد الخطأ.
وإن تلف المحدود.. فقد نص الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على: (أن الإمام إذا أقام الحد على رجل في شدة حر أو برد، فمات المحدود.. أنه لا يجب ضمانه) .
ونص الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على: (أنه إذا أمر الخاتن، فختنه في شدة حر أو برد، فمات المختون.. وجب ضمانه) .
فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى وخرجهما على قولين:
أحدهما: لا يجب عليه ضمانه؛ لأنه تلف بما هو مستحق عليه.
والثاني: يجب عليه ضمانه؛ لأنه تعدى بذلك.
ومنهم من قال لا يجب عليه ضمان المحدود؛ لأن الحد منصوص عليه، ويجب عليه ضمان المختون؛ لأن الختان مجتهد فيه. فإذا قلنا: يجب الضمان.. فكم يجب؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب جميع الدية؛ لأنه مفرط.
والثاني: لا يجب عليه نصف الدية؛ لأنه مات من واجب ومحظور.
وفي محل الوجوب قولان:

(12/387)


أحدهما: في ماله.
والثاني: في بيت المال.

[مسألة: تغريب البكر]
ويغرب البكر الحر سنة مع الجلد، وفي العبد قولان، وقد مَضَى الدليل عليهم.
ولا تجوز الزيادة على السنة للخبر. وأقل مسافة التغريب ما تقصر إليه الصلاة.
وقال أبُو عليّ بن أبي هُرَيرَة: يكفي التغريب إلى دون مسافة القصر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وتغريب عام» . ولم يفرق. والمذهب الأول؛ لأن ما دون مسافة القصر في حكم بلد الإقامة.
وإن رأى الإمام أن يغرب إلى أكثر من مسافة القصر.. جاز؛ لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، غرب من المدينة إلى الشام) ، و: (غرب عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، منها إلى مصر) .
وإن كان الزاني غريبا في البلد الذي زنَى فيه.. لم يقنع منه بالإقامة في تلك البلد، بل يخرج منها إلى بلد تقصر إليه الصلاة من البلد الذي زنَى فيه. فإن أراد أن يرجع إلى وطنه وبينهما مسافة القصر أو أكثر.. منع من ذلك؛ لأن المقصود بالتغريب تعذيبه، وذلك لا يحصل برجوعه إلى وطنه. وهل يجزئ التغريب سنة متفرقة؟
يحتمل أن يكون على وجهين، كتعريف اللقطة سنة متفرقة.

(12/388)


فإذا انقضت السنة.. كان بالخيار: بين أن يرجع إلى وطنه، وبين أن لا يرجع؛ لأن الواجب قد حصل.

[فرع: تغريب المرأة]
وهل تغرب المرأة وحدها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعوديُّ [في " الإبانة "] :
أحدهما: تغرب وحدها؛ لأنه سفر واجب، فهو كالهجرة.
والثاني: لا تغرب وحدها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسافر المرأة إلا ومعها زوجها، أو ذو رحم محرم لها» .
فإذا قلنا بهذا: فهل يجب على ذي رحمها أن يسافر معها؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أكثر أصحابنا: لا يلزمه السفر معها؛ لأن السفر وجب عليها، فلم يجب على ذي رحمها، كما قلنا في سفرها للحج.
و [الثاني] : قال أبُو العباس: يلزمه الخروج معها، ولا يمتنع أن يجب على الإنسان قطع مسافة لأجل الغير، كما لو أمر الإمام قوما في الغزو وكان على طريقهم عدو يخافونه.. فإن على الإمام أن يبعث معهم جيشا ليجوزوا بهم على ذلك العدو.
والأول أصح. فعلى هذا: أن تطوع ذو رحمها بالخروج معها، أو لم يتطوع ولكن وجدت امرأة ثقة فتطوعت بالخروج معها وكان الطريق آمنا.. لزمها السفر بذلك.
وإن لم يتطوع ذو رحمها بالخروج، ولا وجدت امرأة ثقة تطوع بالخروج معها في طريق مأمون.. فإنه يستأجر ذو رحمها أو امرأة ثقة لتخرج معها. ومن أين يستأجر؟ فيه وجهان:
أحدهما: من مالها؛ لأن ذلك واجب عليها، فإن لم يكن لها مال.. فمن بيت المال؛ لأن في ذلك مصلحة.
والثاني: يستأجر من بيت المال؛ لأنه حق الله تَعالَى فكانت مؤنته من بيت المال،

(12/389)


فإن لم يكن فيه شيء، أو كان ولكنه يحتاج إليه لما هو أهم من ذلك.. كان من مالها؛ لأن ذلك واجب عليها.

[مسألة: يعتبر حال الزاني لإقامة الحد]
وإن كان الزاني ثيبا.. نظر فيه: فإن كان صحيحا قويا، والزمان معتدل الحر والبرد.. رجم. وإن كان مريضا، أو كان في شدة حر أو برد.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال ابن الصبَّاغ: إن ثبت زناه بالبينة.. رجم. وإن ثبت بإقراره.. ففيه وجهان: أحدهما: يؤخر رجمه إلى أن يبرأ من مرضه ويعتدل الزمان؛ لأنه لا يؤمن أن يرجع عن إقراره بعد أن رجم بعض الرجم، فيؤدي ذلك مع المرض الشديد أو مع شدة الحر أو البرد إلى إتلاف نفسه.
والثاني: يرجم ولا يؤخر؛ لأن الزِّنَى قد ثبت عليه ووجب رجمه، فلم يؤخر كما لو ثبت زناه بالبينة. وما ذكره الأول: يبطل بالزِّنَى إذا ثبت بالبينة؛ فإنه يجوز أن يرجع الشهود بهد أن رجم بعض الرجم، فيسقط عنه الرجم، ومع هذا لا يؤخر الرجم.
وقال الشيخُ أبُو إسحاق: هل يؤخر الرجم مع شدة المرض أو شدة الحر أو البرد؟
فيه وجهان، ولم يفرق بين أن يثبت الزنى بالبينة أو بالإقرار، إلا أن تعليله يدل على أنه أراد إذا ثبت الزِّنَى بالإقرار؛ لأنه قال: يؤخر؛ لأنه ربما يرجع عن إقراره في حال الرجم.
وقال الشيخُ أبُو حامد: إن كان مريضا.. فإن الرجم يؤخر بكل حال، سواء كان مما يرجى زواله أو مما لا يرجى زواله. وإن كان في شدة الحر أو البرد.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يرجم في الحال.

(12/390)


الثاني: إن ثبت بالإقرار.. لم يرجم، وإن ثبت بالبينة.. رجم، ودليلهما ما مَضَى.
الثالث: إن ثبت زناه بالبينة.. أخر رجمه، وإن ثبت بالإقرار.. رجم، لأنه هتك نفسه بإقراره. والأول أصح.

[فرع: حفر للمرجومة دون المرجوم]
فرع: [يحفر للمرجومة دون المرجوم] :
وإذا أريد رجم الزاني.. نظرت: فإن كان رجلا.. لم يحفر له، سواء ثبت زناه بالبينة أو بالإقرار؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحفر لماعز بن مالك» . فيدور الناس حوله ويرجمونه. وإن كان المرجوم امرأة.. فهل يحفر لها؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخُ أبُو حامد: إن ثبت زناها بالبينة.. حفر لها؛ لأنها عورة. وإن ثبت زناها بإقرارها.. لم يحفر لها؛ لأنها ربما هربت فيكون رجوعا، ولا يمكنها ذلك.
وقال القاضي أبُو حامد: إن ثبت زناها بالبينة.. فهو بالخيار: بين أن يحفر لها وبين أن لا يحفر لها. وإن ثبت زناها بإقرارها.. لم يحفر لها.
وقال القاضي أبُو الطيب: هو بالخيار: بين أن يحفر لها أو لا يحفر لها، وسواء ثبت زناها بالبينة أو بالإقرار؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حفر للغامدية إلى ثدييها» ، و: (لم يحفر للجهنية) . وكان ثبت زناهما بالإقرار.
وقال الشيخُ أبُو إسحاق: يحفر للمرأة، ولم يفرق بين أن يثبت زناها بالبينة أو بالإقرار؛ لأن ذلك أستر لها.

[فرع: إقامة الرجم على الحبلى]
وإن وجب الرجم على امرأة حبلى.. لم ترجم حتى تضع؛ لما ذكرناه في الغامدية والجهنية.

(12/391)


ورُوِي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، أراد أن يرجم امرأة حاملا، فقال له معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن كان لك سبيل عليها.. فليس لك سبيل على ما في بطنها فتركها) .
فإن وجد للولد من ترضعه.. رجمت بعد ما تسقيه الأم اللِّبَأ، لأنه لا يعيش إلا بذلك. وإن لم توجد له من ترضعه.. لم ترجم حتى تفطمه؛ لما ذكرناه في الخبر في الغامدية.

[فرع: هرب الزاني من الرجم]
وإن هرب المرجوم في حال الرجم.. نظرت: فإن ثبت زناه بالبينة.. اتبع ورجم إلى أن يموت؛ لأنه لا سبيل إلى تركه.
وإن ثبت زناه بإقراره.. لم يتبع؛ لما رُوِيَ: «أن ماعز بن مالك لما وجد ألم الحجارة.. فر من بين أيديهم، فتبعوه ورجموه حتى مات، ثم ذكروا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هلا خليتموه حين سعى من بين أيديكم» . ولأنه لو رجع عن إقراره.. لقبل رجوعه، فكان الظاهر من حاله: أنه لما هرب منهم.. أنه رجع عن إقراره.
فإن هرب ولم يصرح بالرجوع، فتبعوه ورجموه حتى قتلوه.. لم يجب عليهم ضمانه؛ لـ: (أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يوجب عليهم ضمان ماعز بن مالك) . ولأن هربه يحتمل الرجوع وغيره، فلم يجب عليهم الضمان بالشك.

(12/392)


[فرع: يغسل المرجوم ويصَلَّى عليه إن كان مسلماً]
ويغسل المرجوم ويصَلَّى عليه إن كان مسلما.
وقال مالك: (لا يصَلَّى عليه) .
دليلنا: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالغامدية فرجمت، وصَلَّى عليها، ودفنت» . و: «أمرهم أن يصلوا على الجهنية) ، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: نصلي عليها وقد زنت؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة.. لوسعتهم، وهل وجدت شيئا أفضل من أن جادت بنفسها لله تَعالَى!» .

[فرع: لا يقام الحد في المسجد]
] : ويكره إقامة الحد في المسجد. وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة.
وقال ابن أبي ليلى: لا يكره.
دليلنا: ما رُوِيَ «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود» . فإن أقيم الحد في المسجد.. سقط به الفرض؛ لأن النهي يعود إلى المسجد لا إلى الحد، فسقط به الفرض، كالصلاة في الدار المغصوبة.
وبالله التوفيق

(12/393)


[باب حد القذف]
القذف محرم، وهو من الكبائر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية (النور: 4)
فأوجب فيه الحد، وجعله مانعاً من قبول الشهادة لا للتهمة، وسمى القاذف فاسقاً، وأثبت منه التوبة، وكل واحد من هذه الأشياء يدل على تحريمه.
ولقوله تَعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} [النور: 23] الآية (النور: 23)
ورَوَى حذيفة بن اليمان: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قذف محصنة يبطل عمل مائة سنة» .
«ورَوَى ابن عمر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أقام الصلوات الخمس، واجتنب الكبائر السبع.. نودي يوم القيامة ليدخل من أي أبواب الجنة شاء" فقال رجل لابن عمر: أحفظتهن عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: نعم: "الشرك بالله تَعالَى، وعقوق

(12/394)


الوالدين، والقتل، وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والزنا» وقيل: أكل الربا، والزنا أشهر.
ورَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله. وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله تَعالَى، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات» .
وأجمعت الأمة: على تحريم قذف المحصنة والمحصن.

[مسألة: يعتبر وجوب الحد بالمقذوف ومقداره بالقاذف]
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإذا قذف البالغ حراً بالغاً مسلماً، أو حرة بالغة مسلمة.. حد ثمانين) . وجملة ذلك: أن القاذف يجب عليه الحد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية (النور: 4)
وروت عمرة «عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: (لما أنزل الله سبحانه عذري.. صعد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر فذكر الله تَعالَى، ثم تلا - تعني: آيات من كتاب الله تَعالَى - ثم نزل فأمر بأن يجلد الرجلان والمرأة حدودهم» تعني: حسان بن ثابت، ومسطح ابن أثاثة، وحمنة بنت جحش.

(12/395)


إذا ثبت هذا: فلا يجب حد القذف إلا على مكلف. فإن كان القاذف صغيراً أو مجنوناً.. لم يجب عليه الحد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ، ولأن الصغير والمجنون لا حكم لقولهما، فلا يجب به الحد.
ويجب الحد بقذف المحصنة والمحصن، فإن قذف من ليس بمحصن.. لم يجب على القاذف الحد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية (النور: 4) فاشترط الإحصان في المقذوفة، فدلَّ على: أنه لا يجب الحد بقذف من ليس بمحصن.
وللإحصان في حق المقذوف خمس شرائط: البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، والعفة عن الزِّنَى.

(12/396)


فإن قذف صغيراً أو مجنوناً.. لم يجب عليه حد القذف، لأن ما رماهما به من الزِّنَى لو تحقق.. لم يجب عليهما به حد، فلم يجب على قاذفهما به حد.
وإن قذف مملوكاً.. لم يجب عليه به حد، لأن الرق يمنع من كمال حد الزِّنَى، فمنع من وجوب الحد على قاذفه. وإن قذف كافراً.. لم يجب عليه الحد، لما رَوَى ابن عمر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أشرك بالله.. فليس بمحصن»
وإن قذف من عرف زناه ببينة أو بإقراره.. لم يجب عليه الحد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية (النور: 4) فلما وجب الحد على القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء على زنَى المقذوف.. فدلَّ على: أنه إذا أتى بأربعة شهداء على زناه أنه لا حد عليه. وقسنا إقرار المقذوف بالزِّنَى على ثبوت زناه بالبينة.
إذا تقرر هذا: فإن وجوب الحد يعتبر بالمقذوف. وأمَّا كمال الحد ونقصانه.. فيعتبر بالقاذف، فإن كان القاذف حراً.. وجب عليه ثمانون جلدة للآية، وإن كان مملوكاً.. لم يجب عليه إلا أربعون جلدة. وبه قال أبُو بكر الصدِّيق وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأرضاهم، وأكثر أهل العلم.
وقال عمر بن عبد العزيز: يجب على المملوك ثمانون جلدة. وبه قال الزهريُّ وداود، وحكى ذلك عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.
دليلنا: ما رُوِيَ عن عبد الله بن عامر بن ربيعة: أنه قال: أدركت أبا بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف إلا

(12/397)


أربعين سوطاً، وما رأيت أحداً ضرب المملوك المفتري على الحر ثمانين جلدة قبل أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فدلَّ على: أنه إجماع. ولأنه حد يتبعض، فكان المملوك فيه على النصف من الحر، كالجلد في الزِّنَى. وفيه احتراز من القطع في السرقة.

[فرع: المقذوف أو القاذف إذا كان مبعضاً]
فإن كان المقذوف بعضه حر وبعضه مملوك.. لم يجد الحد على قاذفه. وكذلك: إذا كان القاذف بعضه حر وبعضه مملوك.. لم يجب عليه حد الحر، وإنما يجب عليه حد المملوك، لأنه ناقص بالرق، ولهذا لا تثبت له الولاية ولا تقبل شهادته ولا يقتل الحر به، فكان كالمملوك في ذلك.

[فرع: قذف امرأة أو رجل وطئ وطئاً حراماً]
ً) : وإن قذف رجل رجلاً وطئ وطئاً حراماً، أو امرأة وطئت وطئاً حراماً، والوطء الحرام على أربعة أضرب:
ضرب: حرام محض، وهو: الزِّنَى. وكذلك: إذا وطئ أمه أو أخته بعقد النكاح وهو عالم بتحريمه، أو وطئ المرتهن الجارية المرهونة وهو عالم بتحريمه، أو وطئ جارية والده مع العلم بتحريمه.. أو وطئ الجارية التي أصدقها لزوجته مع العلم بتحريمه.. فهذا الوطء يجب به الحد على الواطئ ويسقط به إحصانه، فلا يجب الحد على قاذفه.
والضرب الثاني: وهو وطء حرام لعارض، وهو: إذا وطئ زوجته الحائض أو

(12/398)


النفساء أو الصائمة أو المحرمة.. فهذا لا يجب عليه الحد بهذا الوطء، ولا يسقط به إحصانه، فيجب الحد على قاذفه.
والضرب الثالث: وطء حرام بكل حال إلا أنه في ملك، كمن وطئ أمه أو أخته في ملكه، فإن قلنا: يجب عليه الحد بوطئها.. سقط إحصانه بذلك، فلا يجب الحد على قاذفه. وإن قلنا: لا يجب عليه الحد.. لم يسقط إحصانه بذلك، فيجب الحد على قاذفه.
والضرب الرابع: وطء حرام في غير ملك إلا أنه مختلف فيه، كمن وطئ امرأة في نكاح بلا ولي ولا شهود، أو في نكاح الشغار، أو نكاح المتعة، أو وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره.. فهذا الوطء لا يجب به الحد على الواطئ، ولكن هل يسقط به إحصانه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط به إحصانه، فلا يجب الحد على قاذفه، لأنه وطء محرم في غير ملك، فهو كالزنا.
والثاني: لا يسقط به إحصانه ويجب الحد على قاذفه، لأنه وطء لا يجب به الحد على الواطئ، فهو كما لو وطئ امرأته الحائض. وكذلك: إذا وطئ امرأة أجنبية ظنها زوجته.. فهو كما لو وطئ في النكاح بلا ولي.

[فرع: قذف الوالد ولده]
وإن قذف الوالد ولده وإن سفل.. لم يجب عليه الحد. وبه قال أبُو حَنِيفَة وأحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يكره له أن يحده، فإن حده.. جاز)
وقال أبُو ثور وابن المنذر: (يجب له الحد عليه) .

(12/399)


دليلنا: أن الحد يسقط بالشبهة، وما يسقط بالشبهة.. لا يثبت للولد على الوالد، كالقصاص.
وإن قذف أم ابنه وكانت محصنة أجنبية منه.. وجب لها عليه حد القذف. فإن ماتت قبل أن تستوفيه، ولا وارث لها غير ابنه منها.. سقط الحد عن أبيه، لأنه إذا لم يثبت له الحد على أبيه ابتداء.. لم يثبت له عليه إرثا، كالقصاص. وإن كان لها وارث مع ابن القاذف.. كان له أن يستوفي جميع الحد، لأن حد القذف يثبت لبعض الورثة.

[فرع: ما يصنعه الحاكم إذا رفع إليه القاذف]
وإذا رفع القاذف إلى الحاكم، فإن علم أن المقذوف غير محصن.. لم يكن له أن يحد القاذف. وإن أقر القاذف بإحصان المقذوف، أو قامت به بينة.. حد القاذف.
وإن جهل الحاكم حال المقذوف.. فهل يجب عليه السؤال عن حاله؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه السؤال عن إحصانه، لأنه شرط في الحكم بالحد على القاذف، فوجب على الحاكم السؤال عنه، كعدالة الشاهد.
والثاني: لا يجب عليه، لأن البلوغ والعقل يعلمان بالنظر إليه، والظاهر من حاله الإسلام والحرية والعفة عن الزِّنَى.
وإن أقام القاذف بينة على زنَى المقذوف.. لم يجب الحد على القاذف. فإن طولب القاذف بالحد، فسأل أن ينظر إلى أن يقيم البينة على زنَى المقذوف.. أنظر ثلاثة أيام، لأن ذلك قريب.
وإن قال: القاذف للمقذوف: احلف أنك ما زنيت.. لم يحد القاذف حتى يحلف المقذوف أنه ما زنَى، لأن اليمين تعرض عليه ليخاف فيقر. ولو خاف المقذوف من

(12/400)


اليمين فأقر أنه زنَى.. لم يجب الحد على القاذف. فإن حلف المقذوف أنه ما زنَى.. وجب الحد على القاذف. وإن نكل عن اليمين.. ردت اليمين على القاذف، فإن حلف أن المقذوف زنَى.. سقط الحد عن القاذف، لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كإقرار المدعى عليه في أحد القوانين، أو كبينة يقيمها المدعي، ولو ثبت زنَى المقذوف بإقراره أو بالبينة.. لم يجب الحد على القاذف، وكذلك هذا مثله. ولا يجب حد الزِّنَى على المقذوف بيمين المدعي، لأن يمينه لإسقاط حد القذف، وحد الزِّنَى حق لله تَعالَى، فلا يثبت بيمين القاذف.

[فرع: سقوط حق المحصن من حد القاذف بزنا ونحوه]
وإن قذف رجل رجلاً محصناً أو امرأة محصنة، فلم يحد القاذف حتى زنَى المقذوف أو وطئ وطئاً حراماً سقط به إحصانه.. سقط حد القذف عن القاذف. وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة.
وقال المزني وأبو ثور) لا يسقط عنه حد القذف، لأن الاعتبار بالحدود في حال الوجوب لا فيما يؤول إليه الحال، كما لو قذف مسلماً وقبل أن يقام عليه الحد ارتد المقذوف، وكما لو زنَى عبد فقبل أن يقام عليه الحد عتق، أو زنَى بكر فقبل أن يقام عليه الحد صار ثيباً) .
وهذا خطأ، لأن العفة عن الزِّنَى لا يعلمها الحاكم من المقذوف إلا بغلبة الظن.
فإذا زنَى المقذوف قبل إقامة الحد على القاذف.. احتمل أن يكون الزِّنَى حادثاً بعد القذف، فلم يسقط إحصانه حال القذف، واحتمل أن يكون هذا الزِّنَى كاشفاً لزنا كان يستتر به، لأن العادة أن الإنسان يظهر الطاعات ويستر المعاصي، فإذا أكثر من المعاصي.. أظهرها الله عليه، ولهذا رُوِيَ: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كان يجلد رجلاً في الزِّنَى فقال: والله يا أمير المؤمنين ما زنيت قبل هذا. فقال عمر (كذبت، إن الله تَعالَى أكرم من أن يهتك عبده في أول دفعة) . وإذا كان الأمر كذلك.. صار إحصانه

(12/401)


مشكوكاً فيه حال القذف، وذلك شبهة، فيسقط به الحد عن القاذف.
وأمَّا استدلالهما بردة المقذوف قبل إقامة الحد.. فإن فيها وجهين:
أحدهما: يسقط إحصانه، كالزنا
والثاني: لا يسقط إحصانه.
والفرق بينها وبين الزِّنَى: أن الردة طريقها الديانات، ولم تجر العادة أن الإنسان يخفي دينه بل يظهره، ولهذا يبذل أهل الكتاب الجزية لإظهار دينهم، فلم تكن ردته قادحة في إسلامه المتقدم قبل القذف، وليس كذلك الزِّنَى، فإن العادة كتمانه، فإذا ظهر.. دل على تقدم مثله.
وأمَّا استدلالهما بحرية الزاني وثيوبته قبل إقامة الحد عليه: فلا يشبه مسألتنا، لأن هذا تغير حال من يقام عليه الحد، وفي مسألتنا: لو تغير حال من يقام عليه الحد.. لم يتغير الحد، وإنما كلامنا فيه إذا تغير حال من يقام عليه الحد لأجله.

[مسألة: القذف بلفظ صريح يوجب الحد وماذا لو كان غير صريح؟]
إذا قذف غيره بلفظ صريح، كقوله: زنيت، أو أنت زان، أو يا زاني، أو ما أشبه ذلك.. وجب عليه حد القذف، سواء نوى به القذف أو لم ينو، لأنه لا يتحمل غير القذف.
وإن قذفه بلفظ ليس بصريح في القذف ولكنه كناية يحتمل الزِّنَى وغيره، بأن يقول لغيره: يا فاجر، يا خبيث، يا حلال يا ابن الحلال. أو يقول: أما أنا فلست بزان، أو لم تحمل بي أمي من زنَى، أو لم تزن بي أمي، وما أشبه ذلك، فإن أقر أنه نوى به القذف.. وجب عليه الحد، لأن ما لا يعتبر فيه الشهادة.. كانت الكناية فيه مع النية بمنزله الصريح، كالطلاق والعتاق. وفيه احتراز من النكاح، فإنه تعتبر فيه الشهادة

(12/402)


ويصح بلفظ الإنكاح والتزويج، ولا يصح بالكناية عنهما وهو ما يؤدي معناهما.
وإن لم ينوِ به القذف.. فإنه لا يكون قذفاً، سواء قال: ذلك في حال الرضا أو في حال الغضب والخصومة. وبه قال الثوريُّ وأبو حَنِيفَة وأصحابه.
وقال مالك وأحمد وإسحاق: (إن قال: ذلك في حال الرضا.. لم يكن قذفاً من غير نية، وإن قال: ذلك في حال الغضب والخصومة.. كان قذفاً من غير نية) .
دليلنا: ما رُوِيَ: «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترد يد لامس؟ فقال له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "طلقها" قال: أنِّي أحبها. فقال: "أمسكها» . فعرض الرجل بقذف امرأته بالزِّنَى، ولم يجعله النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاذفاً بالتعريض.
ورُوِي: «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن امرأتي أتت بولد أسود ونحن أبيضان؟ فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل لك من إبل؟ " قال: نعم، قال: "وما ألوانها؟ " قال: حمر، قال"هل فيها من أورق؟ " قال: نعم، إن فيها لورقاً، قال: "فأنى ترى ذلك؟ " فقال لعل عرقاً نزعها. فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وهذا لعل عرقاً نزعه» فعرض الرجل بقذف امرأته بالزِّنَى، ولم يجعله النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاذفاً لها بظاهر التعريض".
ولأن التعريض بالقذف لا يكون قذفاً، كما أن التعريض بالسب لا يكون سباً، بدليل ما رُوِيَ: أن المشركين كانوا يعرضون بسب النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقولون:
مذمما عصينا ... وأمره أبينا
فكنوا عن محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ: (مذمم) فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أما ترون كيف عصمني الله منهم؟ وإنهم ليسبون مذمماً وإنما أنا محمد»

(12/403)


ولأنه يحتمل القذف وغيره، فلم يجعل قذفاً بظاهره، كما لو قاله حال الرضا.

[فرع: ألفاظ لا تعتبر قذفاً]
وإن قال لرجل: يا قواد، يا مؤاجر.. فهو كناية في القذف.
وإن قال له: بارك الله عليك، وما أحسن وجهك، وما أشبه ذلك.. لم يكن قذفاً وإن نوى به القذف بالزِّنَى، لأنه لا يحتمل القذف، فلو أوقعنا فيه القذف.. لوقع القذف بالنية من غير لفظ، وهذا لا يصح.

[فرع: الرمي باللواطة]
وإن قال رجل أو امرأة: لطت، أو لاط بك فلان باختيارك.. فهو قذف، لأنه قذفه بزنا يوجب الحد، فهو كما لو قذفه بالزِّنَى في الفرج.
وإن قال لرجل: يا لوطي.. فقال: القاضي أبُو الطيب والشيخ أبُو إسحاق: يرجع إليه: فإن قال: أردت أنه على دين قوم لوط.. لم يجب عليه الحد، لأنه يحتمل ذلك. وإن قال: أردت أنه يعمل عمل قوم لوط.. وجب عليه الحد.
قال ابن الصبَّاغ: وهذا فيه نظر؛ لأن هذا مستعمل في الرمي بالفاحشة، فينبغي أن لا يقبل قوله: (إنِّي أردت أنه عليّ دينهم) ، بل يكون قذفا، وبه قال مالك.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يكون قذفا بحال) وبناه على أصله: أن اللواط لا يوجب الحد، فكذلك القذف به، وقد مَضَى الدليل على: أنه يوجب الحد.

[مسألة: قوله لأنثى يا زانية فقالت له يا زان أو بك زنيت]
وإن قال رجل لامرأته أو غيرها: يا زانية، فقالت له: يا زان.. كان كل واحد منهما قاذفاً لصاحبه.

(12/404)


وقال أبُو حَنِيفَة: (يصير قصاصاً، فلا يجب على واحد منهما حد)
دليلنا: أن القصاص لا يجب في القذف، فلم تقع به المقاصة.
فإن قال رجل لامرأته: يا زانية فأجابته فقالت: زنيت بك، أو: بك زنيت.. فإنه يكون قاذفاً لها بظاهر القول، فيجب عليه الحد. فإن أقام البينة أو لاعنها، وإلا.. حد لها.
وأمَّا جوابها له بقولها: بك زنيت أو زنيت بك.. فلا يكون قذفاً له بظاهره من غير نية، لأنه يحتمل القذف له، ويحتمل الإقرار على نفسها بالزِّنَى دونه، ويحتمل الجحود والإنكار عن الزِّنَى. فاحتمال القذف له أنها أرادت أنك زنيت بي قبل النكاح، فيكون ذلك قذفاً له واعترافا على نفسها بالزِّنَى. واحتمال الاعتراف على نفسها بالزِّنَى دونه: أنها أرادت أنك وطئتني قبل النكاح وأنت مجنون، أو استدخلت ذكرك وأنت نائم قبل النكاح، أو وطئتني قبل النكاح وأنت تظن أنِّي زوجتك وقد علمت أنك أجنبي. واحتمال جحودها عن الزِّنَى من وجهين:
أحدهما: أنها أرادت لم يصبني غيرك بالنكاح، فإن كان ذلك زنَى.. فبك زنيت.
والثاني: أنها أرادت إن كنت زنيت.. فمعك زنيت، أي: فكما لم تزن أنت.. لم أزن أنا، كما لو قال رجل لغيره: سرقت، فيقول: معك سرقت، أي أنِّي لم أسرق كما لم تسرق.
فإذا احتمل قولها هذه الاحتمالات.. لم يجعل قذفاً له من غير نية منها لقذفه، فيرجع إليها:
فإن قالت: إنِّي أردت به الاحتمال الأول وأنه زنَى بي قبل النكاح.. فقد قذفته بالزِّنَى واعترفت على نفسها بالزِّنَى، فيجب عليها حد الزِّنَى وحد القذف للزوج، ويسقط عن زوجها حد قذفها.
وإن قالت: أردت الاحتمال الثاني.. فقد اعترفت على نفسها بالزِّنَى، فلا يجب على الزوج حد القذف لها، ولا تكون قاذفة له.

(12/405)


وإن قالت: أردت به الجحود عن الزِّنَى على أي الوجهين كان، فإن صدقها الزوج على ذلك.. سقط عنها عهدة هذا الكلام. وإن كذبها وادعى أنها أرادت قذفه.. فالقول قولها مع يمينها، لأنها أعلم بما أرادت. فإن حلفت.. برئت، وكان على الزوج حد القذف لها، وله إسقاطه بالبينة أو باللعان. وإن نكلت عن اليمين.. ردت اليمين على الزوج فيحلف: أنها أرادت قذفه بالزِّنَى أو الاعتراف على نفسها بالزِّنَى، فإذا حلف.. سقط عنه حد القذف، ووجب عليها حد القذف له، ولا يجب عليها حد الزِّنَى، لأن ذلك من حقوق الله تَعالَى، فلا يثبت بيمينه عليها.
وإن قال رجل لامرأة أجنبية: يا زانية، فقالت: بك زنيت أو زنيت بك.. فإنه يكون قاذفاً لها بظاهر هذا القول.
قال المسعوديُّ (في الإبانة) : ولا يرجع إليها بهذا، بل يكون قولها قذفاً له.

[فرع: قال لامرأة: يا زانية فأجابته أنت أزنى مني]
وإن قال رجل لامرأته: يا زانية، فقالت له: أنت أزنى مني.. فإنه يكون قاذفاً لها بظاهر هذا القول، ولا تكون قاذفة له بظاهر هذا القول من غير نية، لأنه يحتمل القذف وغيره. فاحتمال القذف: أنها أرادت أنِّي زانية وأنت زان، وأنت أكثر زنَى مني.
واحتمال غير القذف: أنه ما وطئني غيرك في النكاح، فإن كان ذلك زنَى.. فأنت أزنى مني، لأنك أحرص على ذلك، والعمل لك. فيرجع إليها، فإن أرادت الاحتمال الأول.. فقد اعترفت على نفسها بالزِّنَى وبالقذف له، فيجب عليها حد الزِّنَى وحد القذف، ويسقط عنه حد القذف لها. وإن قالت: أردت به الاحتمال الثاني، فإن صدقها على ذلك سقط عنها عهدة هذا الكلام، ووجب لها عليه حد القذف، وله إسقاطه بالبينة أو باللعان. وإن كذبها، وادعى أنها أرادت قذفه.. فالقول قولها مع يمينها على ما مَضَى.
وإن قال رجل لامرأة أجنبية: يا زانية، فقالت: أنت أزنى مني.. فإنه يكون قاذفاً لها بظاهر هذا القول. والذي يقتضي المذهب: أنها لا تكون قاذفة له بظاهر هذا

(12/406)


القول، بل يرجع إليها، فإن قالت: أردت أنِّي زانية وهو أزنى مني.. فقد اعترفت على نفسها بالزِّنَى واعترف بقذفه، فيجب عليها حد الزِّنَى وحد القذف، ويسقط عنه حد القذف. وإن قالت: لست بزانية ولا هو بزان، فإن صدقها على ذلك.. سقط عنها عهدة هذا الكلام، فيجب لها عليه حد القذف. وإن كذبها وادعى: أنها أرادت أنها زانية وأنه أزنى منها.. فالقول قولها مع يمينها. فإن حلفت.. وجب لها عليه حد القذف، وإن نكلت وحلف.. وجب عليها حد القذف، وسقط عنه حد القذف، ولا يجب عليها حد الزِّنَى بيمينه، لأنه حق لله تَعالَى، فلا يثبت بيمينه.

[فرع: قوله: هي أزنى من فلان أو هو أزنى الناس]
وإن قال رجل لامرأته أو لغيرها: أنت أزنى من فلان أو من فلانة.. فإنه يكون قاذفاً بظاهر هذا القول، لأن قوله: (أزنى) على وزن أفعل، ولفظة: (أفعل) لا تستعمل إلا فيما يشتركان فيه ثم ينفرد أحدهما بزيادة - كما لو أن رجلاً قال: زيد أفقه من عمرو.. اقتضى قوله هذا: أنهما مشتركان في الفقه إلا أن زيدا أكثر فقهاً منه - فيرجع إليه، فإن قال: أردت أن فلاناً زان، وأنت أزنى منه.. فقد اعترف لهما بالقذف. وإن قال لا أعرف فلاناً، أو أعرفه وليس هو بزان، فإن صدقته على ذلك.. سقط عنه عهدة هذا الكلام. وإن كذبته.. حلف لها: أنه ما قذفها.
وإن قال لغيره: أنت أزنى الناس.. لم يكن هذا قذفاً بظاهره، فيرجع إليه، فإن قال: أردت أنه أزنى من جميع الناس.. لم يكن ذلك قذفاً، لأنا نعلم أن جميع الناس ليسوا بزناة، فيكون هذا أزنى منهم. وإن قال: أردت به أنه أزنى من زناة الناس، أو قال له ابتداء: أنت أزنى من زناة الناس.. كان قاذفاً له، فيجب عليه حد القذف لهذا المخاطب، ولا يجب عليه الحد لزناة الناس، لأنه قد قذف جماعة غير معينين.

(12/407)


[مسألة: قوله لامرأة: يا زان]
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو قال لها: يا زان.. كان قذفاً، وهذا ترخيم منه) وجملة ذلك: أنه إذا قال لامرأته أو غيرها: يا زان.. فإنه يكون قاذفاً لها بظاهر هذا القول، لأن المفهوم من قوله: أنه أراد رميها بالفاحشة، فكان قذفاً، كما لو قذفها بالعجمية.
إذا ثبت هذا: فاعترض ابن داود على الشافعيُّ، في هذا بشيئين:
أحدهما: بقوله (وهذا ترخيم) فقال: الترخيم إنما يصح بأسماء الألقاب، فأما بالأسماء المشتقة من الفعل: فلا يصح فيها الترخيم.
والثاني: أنه قال: الترخيم إنما يصح بإسقاط حرف من الكلام، فأما بإسقاط حرفين.. فلا يصح.
فأجاب أصحابنا عن اعتراضه الأول بأن قالوا: هذا باطل، لترخيمهم لمالك وحارث، فإنهما اسمان مشتقان من الفعل. وأجابوا عن الثاني بأجوبة منها:
أن الشافعيَّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال في بعض كتبه: (إذا قال لها: يا زاني.. كان قاذفاً) وإنما غلط المزني فنقل: (إذا قال لها: يا زان) . ومنهم من قال: إذا كان الحرف الذي قبل الحرف الأخير حرف اعتلال.. سقط في الترخيم، كقولهم في عُثمانَ: يا عثم. ومنهم من قال: إذا كان المراد منه مفهوماً.. صح الترخيم وإن سقط حرفان أو أكثر، لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لأبي هُرَيرَة: "يا أبا هر» .

[فرع: قوله لرجل: يا زانية]
) : إذا قال لرجل: يا زانية.. كان صريحاً في القذف عندنا في ظاهر هذا القول. وبه

(12/408)


قال محمد. وقال أبُو حَنِيفَة وأبو يوسف: (لا يكون قذفاً) .
دليلنا: أن كل كلمة فهم معناها.. لزم المتكلم حكمها وإن كان لحنا، كما لو قال لامرأة: زنيت يا هذا، أو لرجل: زنيت يا هذه.
وقوله لرجل: يا زانية مفهوم المعنى، وهو: أنه رماه بالفاحشة وألحق به المعرة، فلزمه حكم هذه الكلمة، لأن لها مخرجاً في اللغة، وذلك أنه قد يشير إلى نفسه وذاته، فيكون معناه: يا نفسا زانية ويا ذاتاً زانية، فيصح التأنيث في هذا فوجب الحكم فيها بالقذف.

[فرع: قوله زنأت في الجبل كناية]
وإن قال لغيره: زنأت في الجبل.. فإنه لا يكون قاذفاً بظاهر هذا القول، إلا أن يقر أنه أراد به الزِّنَى.. فيكون قذفاً. وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه: (يكون قاذفاً بظاهره) .
دليلنا: أن قوله: زنأت في الجبل حقيقة في الصعود والارتقاء، يقال: زنأت تزنأ زنئاً وزنوئاً. ويقال: في الزِّنَى الذي هو الوطء: زنيت تزني زنَى، فإذا كان ذلك حقيقة في الصعود.. حمل على الإطلاق، ولم يحمل على المجاز إلا بدليل.
فأما إذا قال لغيره: زنأت ولم يقل: في الجبل.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يكون قذفاً بظاهره، لأنه لم يقترن به ما يدل على الصعود.
والثاني: - وهو قول أبي الطيب ابن سلمة -: إن كان هذا القائل عامياً.. كان هذا القول قذفاً بظاهره، لأن العامي لا يفرق بين زنيت وزنأت. وإن كان لغوياً.. لم يكن

(12/409)


قذفاً بظاهره، لأن حقيقة هذا القول عنده: الصعود، كما قلنا فيمن قال لامرأته: أنت طالق أن دخلت الدار - بفتح الهمزة-.
وإن قال: زنأت في الجبل.. ففيه ثلاثة أوجه حكاها المسعوديُّ [في " الإبانة "] :
أحدها: أنه قذف، وقوله: (في الجبل) بيان المحل.
والثاني: لا يكون قذفاً بظاهره.
والثالث: إن كان لا يعرف العربية.. لا يكون قذفاً، وإن كان يعرف العربية.. كان قذفاً.

[مسألة: قوله زنَى فرجك أو يدك أو بدنك أو نحو ذلك]
إذا قال رجل لامرأة: زنَى فرجك، أو قال لرجل: زنَى ذكرك أو أيرك.. كان صريحاً في القذف، لأن ذلك صريح في الفاحشة.
وإن قال لرجل أو لامرأة: زنَى دبرك.. كان صريحاً في القذف.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يكون ذلك قذفاً) بناء على أصله: أن الحد لا يجب بالوطء في الدبر، وقد دللنا عليه، ونقول هاهنا: لأنه أضاف الزِّنَى إلى سبيل يجب بالزِّنَى فيه الحد، فكان قذفاً صريحاً، كما لو قال لامرأة زنَى فرجك.
وإن قال: زنت عينك، أو يدك، أو رجلك.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه صريح في القذف- وهو ظاهر ما نقله المزني - لأنه أضاف الزِّنَى إلى بعض منه، فهو كما لو أضافه إلى الفرج أو إلى الذكر.
والثاني: أنه ليس بصريح في القذف، وإنما هو كناية فيه. قال الشيخُ أبُو حامد:
ولعله أصح، لأن لهذه الأعضاء زنايين:
زنا ليس بفاحشة، وهو النظر من العينين، والبطش من اليدين، والمشي من الرجلين. وزنا هو فاحشة، وهو مشاركة هذه الأعضاء للفرج، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، ويصدق ذلك ويكذبه الفرج»

(12/410)


فبين: أن الزِّنَى لا يتحقق من هذه الأعضاء إلا بمعاونة الفرج.
فإذا احتمل الزِّنَى بهذه الأعضاء هذين الاحتمالين.. لم يكن إضافة الزِّنَى إليها صريحاًَ في القذف، كقوله: يا حلال يا ابن الحلال، ولأنه لو قال: زنت عيني، أو يدي، أو رجلي.. لم يكن ذلك إقراراً منه بالزِّنَى، فإذا أضاف ذلك إلى غيره.. لم يكن صريحاً في القذف.
فإن قلنا: أنه صريح وادعى أنه لم يرد به الزِّنَى الحقيقي.. لم يقبل منه.
وإن قلنا: إنه كناية.. رجع إليه، فإن قال: أردت به الزِّنَى الحقيقي.. لزمه حد القذف، وإن قال لم أرد به الزنى الحقيقي.. فالقول قوله مع يمينه، لأنه أعلم بما أراده، وإن قال لرجل: زنَى بدنك.. قال الشيخُ أبُو إسحاق: فهل هو صريح أو كناية؟ فيه وجهان، والذي يقتضي المذهب في هذا: أن يقال: يبنى على الوجهين الأولين:
فإذا قلنا: إنه إذا أضاف الزِّنَى إلى عضو من أعضاء البدن غير القبل والدبر يكون صريحاً في القذف.. فيكون هاهنا صريحاً وجهاً واحداً.
وإن قلنا هناك: يكون كناية.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: أنه صريح في القذف، لأنه أضاف الزِّنَى إلي جميع البدن، والقبل والدبر داخل فيه.
والثاني: أنه كناية في القذف، لأنه أضاف الزِّنَى إلى جميع البدن، والزنا بجميع البدن إنما يكون بالمباشرة، فلم يكن صريحاً في القذف.

(12/411)


[فرع: قذف الخنثى]
) : وإن قال للخنثى المشكل: زنيت أو يا زاني.. كان صريحاً في القذف، لأنه رماه بالفاحشة. وإن قال له: زنَى فرجك، أو زنَى ذكرك.. فالذي يقتضيه المذهب: أن يكون فيه وجهان:
أحدهما: أنه صريح.
والثاني: أنه يكون كناية، كما لو أضاف الزِّنَى إلى اليد أو الرجل من المرأة أو الرجل، لأن كل واحد منهما يحتمل أن يكون عضواً زائداً، فهو كسائر أعضاء البدن.
وإن قال له: زنَى فرجك وذكرك.. كان صريحاً في القذف، لأنه لا بد أن يكون أحدهما أصلياً، وقد أضاف الزِّنَى إليه.
وإن قال له: زنَى دبرك.. كان صريحاً في القذف، لأن إضافة الزِّنَى إلى الدبر من الرجل أو المرأة صريح في القذف، ولا بد أن يكون الخنثى أحدهما.

[فرع: قوله: لا ترد يد لامس]
وإن قال: فلانة لا ترد يد لامس.. لم يكن صريحاً في القذف، لـ «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترد يد لامس» ، فلم يجعله النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاذفاً لها بذلك.

[فرع: قوله زُنَي بك وأنت مكرهة]
إذا قال لامرأة: زنَى بك رجل وأنت مكرهة.. كان قاذفاً لرجل غير معين، ولا يجب عليه الحد، لأنه غير معين، ولا يكون قاذفاً للمرأة، لأنه رماها بوطء ليست بزانية فيه وهل يعزر لها؟ فيه وجهان

(12/412)


أحدهما: لا يعزر لها، لأنه رماها بوطء لا حد عليها فيه ولا عار.
والثاني: يعزر، لأنه قد آذاها بحصول ماء حرام في رحمها، وذلك طعن عليها فلزمه التَّعزِير لها.

[فرع: قوله: زنيت بصبي أو ركبت رجلاً أو ساحقت امرأة]
وإن قال: زنيت بفلان وهو صبي يجامع مثله.. كان قاذفاً لها، لأنه يوجد منه الوطء الذي يجب به الحد عليها. وإن كان صبياً لا يجامع مثله.. لم يكن قاذفاً لها، لأن القذف ما احتمل الصدق والكذب، وفي هذا الموضع يعلم كذبه لا غير، فلم يكن به قاذفاً.
وإن قال لامرأة: ركبت رجلاً حتى دخل ذكره في فرجك.. كان قاذفاً لها، لأنه رماها بالفاحشة. وإن قال لامرأة: ساحقت فلانة أو زنيت بفلانة.. لم يكن قاذفاً لها، لأنه لو تحقق ذلك منهما.. لم يجب عليهما الحد، فلم يكن قاذفاً بذلك، ويعزر، لأنه آذاها بذلك.

[مسألة: إنكار نسبة الولد له]
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو ولدت امرأته ولداً، فقال: زوجها: ليس بابني.. فإنه لا يكون عليه حد ولا لعان حتى ينفيه) . وجملة ذلك: أن الرجل إذا أتت امرأته بولد، فقال: هذا الولد ليس مني أو ليس بابني.. فإنه لا يكون قاذفاً لها بظاهر هذا القول، لأنه يحتمل: أنه أراد به ليس مني أو ليس بابني وأنه من الزِّنَى. ويحتمل: أنه ليس مني أو ليس بابني لا لأنه من الزِّنَى ولكنه ليس يشبهني خلقاً ولا خلقاً، ويحتمل: أنه ليس مني أو ليس بابني، بل من زوج قبلي. ويحتمل: أنه ليس بابني وليس مني وأنها استعارته أو التقطته. وإذا احتمل هذا القول القذف وغيره.. لم يكن قذفاً بظاهره، كما لو قال له: يا حلال يا بن الحلال، ويرجع في تفسير ذلك إليه، فإن قال: أردت أنه من الزِّنَى.. كان قاذفاً لها. وإن قال: أردت أنه

(12/413)


ليس بابني، لأنه لا يشبهني خلقاً ولا خلقا، فإن صدقته على ذلك.. فلا كلام وإلا.. كان القول فيه قوله مع يمينه، لأنه أعلم بما أراد. وإن قال: أردت أنه من زوج قبلي، فإن لم يعرف لها زوج قبله.. قيل له: لا يقبل منك هذا التفسير، لأنك فسرته بما لا يحتمله، فعليك أن تفسره بما يحتمله. وإن كان قد عرف لها زوج قبله وصدقته على أنه أراد به ذلك.. لم يكن قاذفاً لها - والكلام في نفي نسب الولد عنه في ذلك قد مَضَى في اللعان - وإن كذبته في ذلك، فقالت: ما أردت بذلك إلا القذف؟ كان القول قوله مع يمينه، لأنه أعلم بما أراد.
وإن قال: أردت أنه ليس بابني، بل استعارته أو التقطته، وصدقته على أنه أراد ذلك، أو كذبته وحلف أنه أراد ذلك.. لم يكن قاذفاً لها، والكلام في نفي نسبه عنه قد مَضَى في اللعان.

[فرع: قذف زوجته ونفى ولدها باللعان ثم قال: أجنبي للولد: لست بابنه]
وإن قذف رجل زوجته ونفى نسب ولدها باللعان، ثم قال رجل أجنبي لذلك الولد: لست بابن فلان.. لم يكن ذلك صريحاً في القذف، لأنه يحتمل: أنه أراد لست بابن فلان، لأنه لا بنوة بينكما، ويحتمل: أنه أراد لست بابن فلان، بل إنك من الزِّنَى، فيرجع إليه، فإن قال: أردت أنه ليس بابنه، لأنه لا بنوة بينهما في الشَّرع، فصدقته المرأة على ذلك، أو كذبته وحلف على ذلك.. لم يكن قاذفاً لها. وإن قال: أرد أنك لست بابنه، بل من الزِّنَى.. كان قاذفاً للمرأة، فيجب لها عليه حد القذف.
وإن قذف امرأة ونفى نسب ولدها باللعان، ثم أكذب نفسه.. لحقه نسب الولد. فإن قال رجل أجنبي لهذا الولد بعد أن أكذب الزوج نفسه: لست بابن فلان.. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (حد) ، وقال: في الزوج - إذا قال لهذا الولد: لست بابني -: (لا يكون صريحاً في القذف، وإنما يرجع إليه في التفسير) ، واختلف أصحابنا فيهما على أربعة طرق:

(12/414)


فـ (الطريق الأول) : منهم من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى، وجعلهما على قولين:
أحدهما: أنه صريح في القذف فيهما، لأن الظاهر من هذا القول نفي النسب.
والثاني: أنه كناية فيهما، لأنه يحتمل: أنه أراد لست بابنه - أي -: لا تشبهه في الخلق أو الخلق.
و (الطريق الثاني) : منهم من قال: بل هو كناية فيهما، لأنه يحتمل القذف وغيره. فإذا احتملهما.. لم يجعل قذفاً بظاهره، وحمل كلامه في الأجنبي عليه إذا اعترف: أنه أراد به القذف. وقوله في الأب إذا لم يعترف: أنه لم يرد القذف.
و (الطريق الثالث) : منهم من حملهما على ظاهرهما، فجعل ذلك كناية في الأب، لأنه قد يحتاج إلى تأديب ولده بالفعل والقول، فيقول: لست بابني على سبيل الردع والزجر، وجعل ذلك صريحاً من الأجنبي، لأنه ليس له أن يؤدب ولد غيره بفعل ولا بقول.
و (الطريق الرابع) : قال أبُو إسحاق: هي على اختلاف حالين:
فحيث جعله كناية أراد: إذا قال ذلك قبل استقرار نسب الولد، بأن يقول ذلك الأب أو الأجنبي حال وضع الولد، لأنه لم يستقر نسبه من الأب، لأن له أن ينفيه باللعان.
وحيث جعله صريحاً أراد: إذا قال: ذلك الأب أو الأجنبي بعد استقرار نسب الولد بتكذيب الأب نفسه بعد ذلك، لأنه لا سبيل إلى نفيه بحال. قال الشيخُ أبُو حامد: وهذا أسد الطرق، والله أعلم.

[مسألة: قوله لعربي يا نبطي]
وعكسه] :
وإن قال لعربي: يا نبطي.. لم يكن قاذفا بظاهر الكلام، لأنه يحتمل القذف

(12/415)


وغيره، فيرجع إليه في تفسيره، فإن قال: أردت أنه نبطي اللسان، لأنه لا فصاحة له، أو نبطي الدار، لأنه ولد في دارهم، وصدقه المقذوف أنه أراد ذلك، أو كذبه وحلف القاذف أنه أراد ذلك.. لم يلزمه الحد، ولكن يلزمه التَّعزِير، لأنه قد أوهم أنه قذفه. وإن قال: أردت إن جدته زنت بنبطي وأتت بأبيه من نبطي، أو أن أمه زنت بنبطي وأتت به منه.. فقد قذف جدته أو أمه، فإن كانت محصنة.. وجب لها عليه حد القذف. وإن كانت غير محصنة.. لم يجب عليه حد القذف. وإن قال: أردت نفي نسبه من العرب إلى النبط بغير زنا.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه الحد - وبه قال أبُو حَنِيفَة - لما رُوِيَ: أن ابن عبَّاس سئل عمن قال لنبطي: يا عربي، فقال: (لا حد عليه) . وعن الشعبي أنه قال: كلنا أنباط، يريد به: في الأصل. ولأن الله تَعالَى أوجب حد القذف بالقذف في الزِّنَى، وهذا لم يقذف بالزِّنَى، فلم يجب عليه الحد.
والثاني: يجب عليه حد القذف، وهو ظاهر النص، لأن الشافعيَّ، قال: (فإن قال: عنيت نبطي الدار أو اللسان.. أحلفته: ما أراد أن ينسبة إلى النبط. فإن نكل.. حلف المقذوف: أنه أراد نفيه، وحد له) . وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، والليث، وأحمد، وإسحاق، واختاره ابن الصبَّاغ، لما رَوَى الأشعث بن قيس: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا أوتى برجل يقول: إن كنانة ليست من قريش.. ألا جلدته»
ورُوِي عن ابن مَسعُودٍ: أنه قال: (لا حد إلا في اثنين: قذف المحصنة، أو نفي رجل من أبيه) . ومثل هذا لا يقوله إلا توقيفاً.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : فإن قال لقرشي: لست من قريش، أو لتيمي: لست من تيم.. نظرت: فإن قال: أردت به أنه ليس من صلب قريش.. لم يصدق، وكان قاذفاً. وإن قال: أردت أن واحدة من أمهاته في الجاهلية زانية.. لم يكن قذفاًًًً؛

(12/416)


لأنها غير محصنة. وإن قال: أردت أن واحدة من أمهاته في الإسلام زانية.. لم يكن قذفا، لأنها غير معينة، فصار كما لو قال: في هذا البلد زان.

[فرع: قذف غير محصن وعرض به لمحصن]
وإن قذف غير محصن بالزِّنَى، أو عرض بالقذف للمحصن، ولم يقر أنه أراد به الزِّنَى.. فإنه يعزر على ذلك، لأنه آذاه بذلك.

[مسألة: حد القذف حق للمقذوف]
عندنا] :
حد القذف حق للمقذوف، ولا يستوفى إلا بمطالبته، ويسقط بعفوه أو إبرائه. وإن مات قبل الاستيفاء أو العفو أو إبرائه.. ورث عنه.
وقال أبُو حَنِيفَة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (حد القذف حق لله تَعالَى لا حق للمقذوف فيه، فلا يسقط بعفوه وإبرائه. ولا يورث عنه) . إلا أنه وافقنا: أنه لا يستوفى إلا بمطالبته.
دليلنا: ما رُوِيَ: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا أن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» فأضاف العرض إلينا، والحد إنما يجب بتناول العرض، فإذا كان العرض للمقذوف.. وجب أن يكون ما وجب في مقابلته، كما أنه أضاف الدم والمال إلينا، ثم المال والدم ملك لنا، وما وجب في مقابلتهما.. ملك لنا.
وأيضاً ما رُوِيَ: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان يقول: تصدقت بعرضي» والتصدق بالعرض لا يكون إلا بالعفو عما وجب له

(12/417)


فيه ولأنه حق على البدن، إذا ثبت بالاعتراف.. لم يسقط بالرجوع، فكان للآدمي كالقصاص. وفيه احتراز من حد الزِّنَى وحد الشرب. ولأنه لا خلاف أنه لا يستوفى إلا بمطالبة الآدمي فكان حقاً له، كالقصاص.

[فرع: طلب القذف من القاذف وموت المقذوف قبل الاستيفاء أوالعفو]
فرع: [طلب القذف من القاذف وموت المقذوف قبل الاستيفاء أو العفو] :
إذا قال رجل لآخر: اقذفني فقذفه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه الحد، كما لو قال له: اقطع يدي، فقطع يده.. فإنه لا يجب عليه القصاص.
والثاني: يجب عليه الحد، لأن العار يلحق بعشيرته، فلم يملك الإذن فيه.
وإن قذف حياً محصناً، فمات المقذوف قبل استيفاء الحد أو العفو.. فقد قلنا: أنه ينتقل إلى وارثه، وفيمن يرث ذلك عنه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يرثه جميع الورثة، لأنه موروث، فكان لجميع الورثة كالمال.
والثاني: يرثه جميع الورثة إلا من يرثه بالزوجية.. فإن لا يرثه، لأن الحد يجب لدفع العار، ولا يلحق أحداً من الزوجين عار الآخر بعد الموت، لأنه لا زوجية بينهما بعد الموت.

(12/418)


والثالث: يرثه من كان يرثه من الرجال بالتعصيب، لأنه حق ثبت لدفع العار، فاختص به الرجال من العصبات، كولاية النكاح.
وإن قذف ميتاً.. كان الحد لوارثه فإن كان في الورثة زوج أو زوجة وقلنا: إنه إذا قذف حياً ثم مات فإنه لم يورث الحد عنه بالزوجية.. فها هنا أولى. وإن قلنا هناك: يورث عنه بالزوجية.. فهاهنا وجهان. والفرق بينهما: أن هناك الزوجية كانت قائمة عند ثبوت الحد، وهاهنا الزوجية قد ارتفعت بالموت، فلا يثبت للباقي منهما الإرث بالزوجية.
وإذا انتقل الحد إلى جماعة من الورثة، فعفا بعضهم عن حقه من الحد.. ثبت جميع الحد لباقي الورثة، لأن الحد جعل للردع، ولا يحصل الردع إلا بما جعله الله تَعالَى للردع.
هذه طريقة أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن لباقي الورثة أن يستوفوا جميع الحد، لما ذكرناه.
والثاني: يسقط جميع الحد، كما قلنا في القصاص.
والثالث: تسقط من الحد حصة العافي، وتبقى حصة من لم يعف، لأنه يتبعض، فتسقط حصة العافي دون الباقي، كالدين والدية.
وإن قذف رجلاً، فمات المقذوف ولا وارث له، أو قذفه بعد موته ولا وارث له معين.. ثبت الحد للمسلمين، ويستوفيه السلطان، لأنه ينوب عنهم في الاستيفاء كما ينوب عنهم في القصاص.

[فرع: قذف المملوك أو الحر وحصول موت أو جنون ونحوه قبل الاستيفاء أو العفو]
] : وإن قذف مملوكا.. ثبتت المطالبة بالتَّعزِير للمملوك، والعفو عنه دون السيد، لأنه ليس بمال ولا له بدَّل هو المال، فكان للمملوك دون السيد، كفسخ النكاح بالعيب، فإن مات المملوك قبل الاستيفاء أو العفو.. ففيه ثلاثة أوجه:

(12/419)


أحدها: أنه ينتقل إلى مولاه، لأنه ثبت للعبد، فانتقل إلى مولاه بعد موته، كمال المكاتب.
والثاني: يسقط، لأن العبد لا يورث، وإنما المولى يملك عنه من جهة الملك، فلما لم يملك ذلك في حياته.. لم يملكه عنه بعد موته.
والثالث: يكون لعصباته، لأنه ثبت لنفي العار، فكان عصباته أحق به.
وإن ثبت لرجل الحد، فجن أو أغمى عليه قبل الاستيفاء أو العفو.. لم يكن لوليه استيفاؤه، لأنه حق ثبت للتشفي فلم يكن لوليه استيفاؤه في حال الجنون والإغماء، كالقصاص.

[فرع: أقر بزناه من امرأة ثم أكذب نفسه]
إذا قال: الرجل: زنيت بفلانة.. وجب عليه حد الزِّنَى، وإن كانت المرأة محصنة.. وجب لها عليه حد القذف، فلو قال: الرجل: كذبت ولم أزن.. سقط عنه حد الزِّنَى، لأنه إذا ثبت بالإقرار.. فإنه يسقط بالرجوع، وهل يسقط عنه حد القذف؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة "
أحدهما: لا يسقط، لأنه حق لآدمي، فلم يسقط بالرجوع،
كما لو رماها بالزِّنَى بغيره ثم أكذب نفسه.
والثاني: يسقط عنه، لأن قوله: (زنيت بفلانة) إقرار واحد، وكلام واحد، والمقصود منه الإقرار بالزِّنَا، فإذا رجع في الزِّنَا.. قبل رجوعه في جميع موجب الإقرار.

[مسألة: قذف جماعة رجال أو نساء]
] : إذا قذف الرجل جماعة رجال أو جماعة نساء.. نظرت: فإن قذف كل واحد منهم بكلمة، بأن قال لكل واحد منهم: زنيت، أو يا زاني.. وجب لكل واحد منهم حد

(12/420)


وإن قذفهم بكلمة واحدة.. نظرت فإن كانوا جماعة لا يجوز أن يكونوا كلهم زنَاة، كأهل اليمن أو أهل بغداد.. لم يجب عليه الحد لأن القذف هو ما احتمل الصدق أو الكذب ونحن نقطع بكذبه هاهنا، ويعزر على الكذب، لحق الله تَعالَى، وإن كانوا جماعة يجوز أن يكونوا كلهم زناة، كالعشرة والمائة وما أشبه ذلك.. ففيه قولان:
(أحدهما) قال في القديم: (يجب لهم حد واحد) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية (النور: 4) فأوجبت ثمانين جلدة بقذف المحصنات، وذلك اسم للجمع. ولأن الحد يجب على القاذف لإزالة المعرة عن المقذوف، والمعرة تزول عن الجماعة إذا حد القاذف ثمانين جلدة، ولأن الحدود، إذا كانت من جنس واحد.. تداخلت، كما لو زنَى ثم زنَى
والثاني: قال في الجديد: (يجب لكل واحد منهم حد) . وهو الصحيح لأنها حقوق مقصودة لآدميين، فإذا ترادفت.. لم تتداخل كالقصاص.
فقولنا: (مقصودة) احتراز من الآجال في الديون، وقولنا: (لآدميين) احتراز من الحدود لله تعالى. وأمَّا الآية: فلم تتضمن قذف الواحد لجماعة من المحصنات، وإنما تضمنت قذف جماعة لجماعة، لأنه قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور: 4] الآية:

[فرع: خاطب زوجة وأجنبية بأنهما زناة أو أن زوجته زنت بفلان]
وإن قال لزوجته وأجنبية: زنيتما.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: يجب لكل واحدة منهما هاهنا حد قولا واحداً لأن مخرجه عن قذفه لهما مختلف، لأن حد الأجنبية لا يسقط إلا بالبينة أو إقرار المقذوف، وحد الزوجة يسقط بالبينة أو باللعان.
وإن قال لزوجته: زنيت بفلان. ولم يلاعن اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان. ومنهم من قال: يجب لهما حد واحد قولا واحداً، لأنه رماها بزنا واحد، هذا إذا اجتمعا على المطالبة.

(12/421)


فأما إذا جاءت الزوجة فطالبت بحدها فحد لها، ثم جاء الرجل فطالب بحده.. بني على ما يجب عليه لهما، فإن قلنا: يجب لهما حدان.. حد له حد آخر، وإن قلنا: لا يجب لهما إلا حد واحد.. لم يحد له هاهنا.
وإن عفت الزوجة عن حدها.. سقط حدها ولا يسقط حده، لأنهما حقان لآدميين، فلم يسقط حق لأحدهما بسقوط حق الآخر كالديون فيحد له إذا طلب.

[فرع: وجوب حدين على القاذف أو أكثر]
وإذا وجب على القاذف حدان لاثنين.. نظرت فإن وجب لأحدهما بعد الآخر حد للأول، ثم يحد للثاني، لأن حق الأول أسبق فإن كان المحدود حرا.. لم يحد له حتى يبرأ ظهره من ألم الحد الأول لأن الموالاة بينهما ربما أدت إلى قتلة وإن كان عبداً ففيه وجهان.
أحدهما: يوالي بينهما، لأنهما كالحد الواحد على الحر.
والثاني: لا يوالي بينهما عليه، لأنهما حدان فلا يوالي بينهما كالحر.
وإن وجب لهما الحد في حالة واحدة.. أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. حد له أولا، والكلام في الموالاة على ما مضى.
وإن قال لزوجته: يا زانية بنت الزانية.. فقد قذف شخصين بكلمتين، فيجب لكل واحدة منهما حد، فإن جاءت إحداهما وطالبت بحدها والأخرى غائبة، أو حاضرة ولم تطالب.. حد للتي طالبت بحدها. وإن جاءتا وطالبت كل واحدة منهما بحدها.. ففيه وجهان:
(أحدهما) : من أصحابنا من قال: نبدأ بحد البنت، لأنه بدأ بقذفها
والثاني: - وهو المنصوص -: (أنه يبدأ بحد الأم، لأن حدها مجمع عليه، وحد

(12/422)


البنت مختلف في وجوبه. ولأن حد الأم آكد، لأنه لا يسقط إلا بالبينة، وحد البنت يسقط بالبينة أو اللعان) . وإن قال لها: يا زانية بنت الزانيين.. وجب لها حد وهل للأبوين حد أو حدان؟ على قولين. والكلام في الاستيفاء على ما مضى.

[مسألة: قذف رجلا فحد ثم قذفه فيعزر وماذا لو قذفه أو زوجته بزنايين؟]
إذا قذف رجل رجلا أو امرأة ليست بزوجة له بزنا، فحد القاذف، ثم قذفه بذلك الزِّنَى الذي حد للمقذوف فيه.. لم يجب عليه الحد، وإنما يعزر للأذى.
وقال بعض الناس: يجب عليه الحد.
دليلنا: ما رُوِيَ: (أن أبا بكرة، ونافعا، وشبل بن معبد، شهدوا على المغيرة بالزِّنَى عند عمر، ولم يصرح زياد بالشهادة على الزِّنَى عليه، فجعل عمر الثلاثة قذفة، فحدهم، ثم قال أبُو بكرة للمغيرة بعد ذلك: قد كنت زنيت، فهم عمر بجلده، فقال له عليّ: إن كنت تريد تحده.. فأرجم صاحبك - يعني: إن جعلت قوله هذا هو القذف الأول.. فقد حددته له وإن جعلته استئناف شهادة أخرى.. فقد تمت الشهادة، فارجم المغيرة - فتركه عمر، وأقرته الصحابة على ذلك) ولأن القذف: ما احتمل الصدق والكذب، وقد علم كذبه، فلا معنى لإيجاب الحد عليه.
وإن قذفه بزنا، ثم قذفه بزنا آخر، فإن كان قد أقيم عليه الحد للأول أو عفا عنه المقذوف.. أقيم عليه الحد للثاني.. وإن لم يقم عليه الحد للأول ولا عفا عنه المقذوف.. ففيه قولان:
(أحدهما) : قال في القديم: (يجب عليه حدان، لأنهما حقان لآدمي، فلم يتداخلا، كالدينين)
والثاني: قال في الجديد: (يجب عليه حد واحد) ، وهو الصحيح، لأنهما حدان من جنس لمستحق واحد فتداخلا، كما لو زنى ثم زنى، أو شرب ثم شرب

(12/423)


وإن قذف امرأة بزنا فلم يحد لها ولم تعف عنه، ثم تزوجها، ثم قذفها بزنا آخر.. ففيه طريقان:
(أحدهما) : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالأولى.
(والثاني) : منهم من قال: يجب عليه هاهنا لها حدان قولا واحداً، لأن مخرجه من القذفين مختلف.

[مسألة: قذفت فأقرت ثم حدت ثم قذفت]
وإذا قذف الرجل امرأته أو قذفها أجنبي فأقرت بالزِّنَى فحدت، أو قامت البينة على زناها، ثم قذفها الزوج أو غيره بذلك الزِّنَى أو بغيره.. لم يجب عليه الحد، لأنها غير محصنة، ويعزر للأذى.
وإن قذف الرجل زوجته ولاعنها وأجابت لعانه.. فقد سقط إحصانها في حقه فإن قذفها بذلك الزِّنَى أو بزنا آخر أضافه إلى ما بعد اللعان.. لم يجب عليه الحد، لأن الحد لدفع المعرة عنها، ولم تدخل عليها معرة بهذا القذف، لأنها قد دخلت عليها بالقذف الأول، فلم يؤثر هذا القذف شيئا آخر.
وإن قذفها بزنا آخر أضافه إلى حال الزوجية أو إلى ما قبل القذف الأول أو بعده ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه الحد، وإنما يعزر، لأن اللعان حجة يسقط بها إحصانها في حق الزوج، فوجب أن يسقط إحصانها في الحال وفيما بعد وفي حال الزوجية كلها، كما لو أقام عليها البينة، وكما لو قذف أجنبيا ولم يطالب بحده حتى مر زمان طويل فطالب بحده فأقام القاذف بينة على زناه، فإن حصانته تسقط في الحال وفيما قبل.
والثاني: يجب عليه الحد لأن اللعان إنما يسقط إحصانها في حقه في الحالة التي

(12/424)


يوجد فيها وفيما بعدها، ولا يسقط فيما تقدم، فوجب عليه الحد لما رماها به.
هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: إذا لاعنها ثم رماها بذلك الزِّنَى.. فلا حد عليه، وإن رماها بزنا آخر.. ففيه وجهان.
أحدهما: لا حد عليه، لأنه أقام الحجة على زناها مرة فهو كما لو أقام عليها البينة.
والثاني: يجب عليه الحد لأن، هذا قذف بغير ذلك الزِّنَى.
وإن قذف زوجته فلم يلاعن وحد لها ثم قذفها بذلك الزِّنَى.. لم يحد، وإنما يعزر، لما ذكرناه في قصة المغيرة. وإن قذفها بزنا آخر.. ففيه وجهان.
أحدهما - وهو قول ابن الحداد -: أنه لا يحد لها، لأنه قد حد لها مرة.
والثاني: يحد لها، لأنه رماها بزنا آخر.

[فرع: قذفها زوج فأجابت اللعان ثم قذفها أجنبي]
وإن قذف رجل زوجته، فلاعنها وأجابت لعانه، ثم قذفها أجنبي.. نظرت فإن كان قذفها بزنا آخر غير الذي قذفها به الزوج.. حد لها بلا خلاف، وإن قذفها بالزِّنَى الذي قذفها به الزوج.. حد لها إلا إن أقام البينة على زناها.. فلا يحد لها بحال.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إن لاعنها الزوج، ونفى حملها، وكان الحمل حيا.. حد الأجنبي. وإن لم ينف حملها، أو نفاه ولكن مات الولد.. لم يحد لها الأجنبي)
دليلنا: ما رَوَى عكرمة عن ابن عبَّاس: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق بين المتلاعنين، وقضى: أن لا يدعى الولد لأب، وأنها لا ترمى ولا ولدها، فمن رماها أو ولدها فعليه الحد» . ولم يفرق بين أن يكون الولد حيا أو ميتا. ولأن اللعان إنما جعل حجة في حق الزوج، فلم يسقط إحصانها به إلا في حق الزوج.

(12/425)


[فرع: قذف زوجته فلاعنها ولم تجب فحدت ثم قذفها هو أو أجنبي]
وإن قذف الرجل امرأته، فلاعنها ولم تجب لعانه، فحدت في الزِّنَى، ثم قذفها الزوج.. لم يحد لها، لأنها محدودة بإقامة الحجة عليها، فهو كما لو أقام البينة على زناها. وإن قذفها أجنبي بذلك الزِّنَى.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا حد عليه، لأنه قذفها بزنا حدت فيه، فهو كما لو حدت بالبينة.
والثاني: يجب عليه الحد، لأن اللعان حجة يختص بإقامتها الزوج، فأختص بسقوط إحصانها به دون الأجنبي

[مسألة: سماع الإمام للقذف]
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: [وليس للإمام إذا رمى رجل رجلا بالزِّنَى أن يبعث إليه فيسأله عن ذلك]
وجمله ذلك: أن السلطان أو الحاكم إذا سمع رجلا يقول: زنى رجل.. لم يحده، لأن المقذوف غير معين، ولا يسأله عن المقذوف، لأن الحد يدرأ بالشبهة. وإن سمع رجلا يقول: قال رجل: إن فلانا زنى.. لم يكن قاذفا لأنه حاك فإن اعترف المحكي عنه أنه قال: فلان زنى.. كان قاذفا، وإن أنكر.. لم يلزمه القذف بقول الذي قال: سمعته - وحده - لأن القذف لا يثبت بشاهد، ولا يلزم الحاكي بذلك شيء، لأن كل واحد منهما يكذب صاحبه والحد يدرأ بالشبة.
فأما إذا سمع السلطان أو الحاكم رجلا يقول: زني فلان.. قال الشيخُ أبُو حامد المستحب له: أن يبعث على المقذوف ويعلمه بذلك، لأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أنيسا إلى المرأة التي قال: الرجل إن ابني كان عسيفا على هذا وإنه زني بامرأته، فقال:

(12/426)


«يا أنيس اغد على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمها»
وأمَّا قول الشافعي: (ليس للإمام إذا رمى رجل رجلا بالزِّنَى.. أن يبعث إليه فسأله عن ذلك) فله ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن تأويله: أن يذكر للإمام: أنه استفاض في الناس أن فلانا زنى، فلا يبعث إليه لأنه ليس له قاذف بعينه. ويفارق حديث أنيس، لأنه كان لها قاذف بعينه.
(والثاني) : قال أبُو العباس: تأويله، أن رجلا قذف زوجته برجل بعينه، فلاعنها الزوج لعانا مطلقا، وقلنا: إن حد المرمي يسقط بلعانه.. فإن الإمام لا يبعث إلى المرمي، لأن حده قد سقط. ويفارق حديث أنيس لأن هناك لم يسقط حدها.
(والثالث) : قال أبُو إسحاق: تأويله، إذا قذف الرجل امرأته برجل بعينه.. فإن الإمام لا يبعث إلي المرمي ويعرفه بثبوت الحد له قبل أن يلتعن الزوج، لأن صحة لعانه لا تفتقر إلى مطالبة المرمي به بالحد، بل إذا طالبت المرأة بذلك، فلاعنها الزوج. صح اللعان ويسقط حدهما. ويفارق حديث أنيس، لأن هناك لا يسقط حدها بلعان قاذفها. هكذا ذكره الشيخ أبُو حامد.
وأمَّا الشيخ أبُو إسحاق فقال: هل يلزم السلطان أن يبعث إلى المقذوف ويعلمه بذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه - لأنه قد ثبت له حق لا يعلم به، فلزمه إعلامه به، كما لو ثبت له عنده مال لا يعلم به، فإن كذبه المقذوف.. حد القاذف له، وإن صدقه المقذوف.. حد المقر بالزِّنَى به.
والثاني: لا يلزمه إعلامه؛ لقول النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»

(12/427)


[مسألة: قذف رجل رجلا آخر بالعبودية]
وإن قذف رجل رجلا، فقال: القاذف للمقذوف: أنت عبد فقال: المقذوف: بل أنا حر.. نظرت فإن كان المقذوف حراً معروف الحرية، مثل أن يعرف أن أبويه حران.. فالقول قوله بلا يمين. وإن عرفت عبودية المقذوف، فادعى أنه قد أعتق.. فالقول قول القاذف، لأن الأصل عدم العتق.
فإن اتفقا على أنه كان عبداً ثم أعتق، واختلفا في وقت القذف، فادعى القاذف أن القذف كان قبل العتق، وادعى المقذوف أن العتق كان قبل القذف.. فالقول قول القاذف مع يمينه، لأن الأصل بقاء العبودية عليه وبراءة ظهره من الحد.
وإن كان المقذوف مجهول الحال.. ففيه طريقان مَضَى ذكرهما في (الجنايات) .

[فرع: أقام بينة على قذفه أو أقر القاذف بقذفه وادعى الجنون وقتها]
وإن أقام رجل على رجل البينة أنه قذفه، أو أقر القاذف بقذفه، وقال: قذفته وعقلي ذاهب من الجنون، وقال: المقذوف: بل قذفتني وأنت ثابت العقل. فإن لم يعلم للقاذف حال جنون.. فالقول قول المقذوف مع يمينه، لأن القاذف يدعي طرآن الجنون عليه، والأصل عدمه وإن عرف للقاذف حالة جنون ففيه قولان.
أحدهما: أن القول قول المقذوف مع يمينه؛ لأن صحته موجودة في الحال وهو يدعي طرآن الجنون عليه حالة القذف والأصل عدم الجنون.
والثاني: أن القول قول القاذف مع يمينه، وهو الأصح، لأنه قد ثبت له حالة جنون، وما يدعيه كل واحد منهما ممكن، والأصل براءة ذمة القاذف من الحد

(12/428)


[فرع: قوله زنيت يوم كنت نصرانية]
وإن قال لامرأة مسلمة: زنيت وكنت نصرانية يوم الزِّنَى، فقالت: صدقت قد كنت نصرانية ولكني ما زنيت.. لم يجب عليه الحد، لأنه أضاف الزِّنَى إلى حال ليست بمحصنه فيه ويعزر للأذى. فإن قال لها: زنيت، ثم قال: أردت في الحال التي كنت فيه نصرانية، وقالت: بل أردت في الحال.. فالقول قولها مع يمينها، لأن الظاهر يخالف قوله، فإذا حلفت.. لزمه الحد، وإن قال لها: زنيت يوم كنت نصرانية، وقالت: لم أكن نصرانية ولا بينة معه أنها كانت نصرانية.. ففيه قولان:
أحدهما: القول قولها مع يمينها، لأن الظاهر ممن بدار الإسلام أنه مسلم، فإذا حلفت.. حد لها.
والثاني: أن القول قوله مع يمينه، وهو الأصح، لأن دار الإسلام تجمع المسلمين والنصارى، وما قاله محتمل، والأصل براءة ذمته من الحد، فإذا حلف.. لم يلزمه الحد، ويلزمه التَّعزِير.
وإن أقرت أنها كانت نصرانية، وادعت أنها أسلمت.. فالقول قول القاذف مع يمينه، لأن الأصل بقاؤها على النصرانية.
وكذلك: لو اتفقا على إسلامها وقد قذفها، واختلفا في السابق منهما.. فالقول قول القاذف مع يمينه، لأن الأصل عدم إسلامها وبراءة ظهره من الحد.
وإن قذف مسلمة وادعى أنها ارتدت وأنكرت.. فالقول قولها مع يمينها، فإذا حلفت.. لزمه الحد؛ لأن الأصل عدم ردتها.

[فرع: قوله زنيت وكنت مملوكة]
وإن قال لامرأة: زنيت وكنت مملوكة يومئذ، فقالت: كنت مملوكة ولم أزن فلا حد عليه، لأنه أضاف الزِّنَى إلى حالة ليست بمحصنة فيها ويعزر، لأنه آذاها وإن قال لها: زنيت، ثم قال: أردت في الحال الذي كنت أمة فيها ثم أعتقت بعد

(12/429)


ذلك، فقالت: بل أردت القذف في الحال.. فالقول قولها مع يمينها، فإذا حلفت لزمه الحد، لأن الظاهر معها. فإن قالت: لم أكن أمة.. ففيه قولان:
أحدهما: القول قول المقذوفة مع يمينها، لأن الظاهر ممن في الدار الحرية.
والثاني: القول قول القاذف، وهو الأصح، لأن الدار تجمع الأحرار والمماليك، والأصل براءة ذمته من الحد.

[مسألة: ادعى على آخر أنه قذفه أو أكل ماله وأقام شاهدين أو شاهدا واحداً]
وإن ادعى رجل على آخر أنه قذفه فأنكر، فأقام عليه شاهدين أنه قذفه، فإن عرف الحاكم عدالتهما.. حكم بشهادتهما وحد القاذف وإن عرف فسقهما.. لم يحكم بشهادتهما. وإن جهل حالهما فسأل المقذوف الحاكم أن يحبس القاذف إلى أن يعرف حالهما.. حبسه لأن البينة قد كملت، والظاهر منهما العدالة.
وإن أقام المقذوف شاهداً واحداً، فسأل الحاكم أن يحبس له القاذف إلى أن يقيم الآخر.. ففيه قولان:
أحدهما: يحبسه، لأن جنايته قد قويت بإقامة الشاهد فهو كما لو أقام شاهدين، ولأنه لو ادعى على رجل حقا وقدمه إلى الحاكم ولم يتفرغ الحاكم لهما فإن له أن يلازمه إلى أن يتفرغ الحاكم ويحكم بينهما، وهذا ضرب من الحبس، فدلَّ على ما ذكرناه.
والثاني: لا يحبسه لأن البينة لم تكمل، فلم يحبس.
وإن ادعى رجل مالا، وأقام عليه شاهدين، ولم يعلم الحاكم عدالتهما ولا فسقهما.. فهل للحاكم أن يحبسه إلى أن يبحث عن حالهما؟ فيه وجهان:
المذهب: أن له أن يحبسه، لما ذكرناه في الحد.
والثاني: قال أبُو سعيد الإصطخري: ليس له أن يحبسه

(12/430)


والفرق بينهما: أن القاذف ربما هرب ففات الحد. والمال لا يفوت بهربه. وإن ادعى عليه مالا وأقام عليه شاهداً.. فليس له أن يحلف المدعي مع شاهده حتى يبحث عن عدالته، وهل يحبس المدعى عليه إلى أن يعرف عدالته؟
إن قلنا بقول الإصطخري في التي قبلها: لا يحبس.. فهاهنا أولى وإن قلنا هناك بالمذهب.. حبس هاهنا لأن الشاهد مع اليمين حجة في المال.

[فرع: قذفه وادعى أنه كان صغيرا]
وإن قذف غيره، فقال: القاذف: قد قذفتك وكنت صغيراً يوم القذف، وقال: المقذوف بل كنت بالغا يومئذ ولا بينة لهما.. فالقول قول القاذف مع يمينه، لأن الأصل عدم البلوغ. فإذا حلف.. كان عليه التَّعزِير. وكذلك إن أقام القاذف.. البينة أنه كان صغيرا يوم القذف. وإن أقام المقذوف بينة أنه كان بالغا يوم القذف.. وجب عليه الحد.
وإن أقام كل واحد منهما بينة، فإن كانتا مطلقتين، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة.. فهما قذفان، لأنه يمكن استعمالهما على ذلك فيجب على القاذف التَّعزِير بقذفه وهو صغير، والحد بقذفه وهو كبير إن ادعاهما المقذوف.
وإن كانتا مؤرختين تأريخا واحداً.. فهما متعارضتان، فإن قلنا: إنهما تسقطان.. كان كما لو لم يكن لهما بينة، ويحلف القاذف، ولا يحد بل يعزر، وإن قلنا تستعملان.. فلا تجيء القسمة، لأن القسمة لا تجيء في القذف، ولا يجيء الوقف، لأن القذف لا يجوز وقفه، ولكن يقرع بينهما، فإن خرجت القرعة للقاذف.. لم يحد ولكن يعزر، وإن خرجت للمقذوف.. حد القاذف. وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ على قولين يأتي بيانهما إن شاء الله تَعالَى.
وبالله التوفيق

(12/431)


[باب قطع السرقة]
الأصل في ثبوت القطع في السرقة: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تَعالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] (المائدة: 38)
ورُوِي: عن ابن مَسعُودٍ: (أنه كان يقرأ: "والسارقون والسارقات فاقطعوا أيديهما ") ورُوِي: " فاقطعوا أيمانهما "
وأمَّا السنة: فما «رُوِيَ: أنه قيل لصفوان بن أمية: إن من لم يهاجر هلك، فهاجر إلى المدينة فنام في المسجد، فسرق رداؤه من تحت رأسه، فانتبه فصاح، فأخذ

(12/432)


السارق وجاء به إلى النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "فقطع يده، فقال: يا رسول الله، ما أردت هذا، هو عليه صدقة، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هلا قبل أن تأتينا به!»
وأمَّا الإجماع: فلا خلاف في ثبوت القطع في السرقة.
إذا ثبت هذا: فـ (السارق) : من يأخذ الشيء عليّ وجه الاستخفاء و (المختلس) : من يأخذ الشيء عيانا مثل أن يمد يده إلي منديل إنسان فيأخذه من رأسه. و (المنتهب) من يأخذ الشيء عيانا بالغلبة، ولا يجب القطع على المختلس والمنتهب والجاحد والخائن وقال أحمد: (يجب عليهم القطع)
دليلنا: ما روى جابر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على المختلس، ولا على المنتهب، ولا على الجاحد، ولا على الخائن قطع» ، ولأن السارق يأخذ المال

(12/433)


على وجه الاستخفاء، فلا يمكن انتزاع الحق منه بالحكم، فجعل القطع ردعا له، والمنتهب والمختلس والجاحد والخائن يأخذون المال على وجه يمكن انتزاع الحق منهم، فلا حاجة إلى إيجاب القطع عليهم.

[مسألة: شروط القطع وماذا لو كان السارق أو الزاني حربيا أو معاهداً؟]
ولا يجب القطع في السرقة إلا على من يسرق وهو بالغ، عاقل، مختار، مسلماً كان أو كافراً، ملتزما لأحكامهم نصابا من المال يقصد إلى سرقته من حرز مثله لا شبهة له فيه، على ما يأتي تفصيل ذلك. فإن سرق صبي أو مجنون.. لم يجب عليه القطع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] (المائدة: 38) والصبي والمجنون لا كسب لهما، ورُوِي أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق»
ورَوَى ابن مَسعُودٍ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بجارية قد سرقت، فوجدها لم تحض، فلم يقطعها» ورُوِي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه أتي بغلام قد سرق، فقال: اشبروه، فكان ستة أشبار إلا أنملة واحدة، فلم يقطعه فسماه: نميلة)

(12/434)


وعن عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه أتي بغلام قد سرق فشبروه، فنقص عن خمسة أشبار، فلم يقطعه) و: (عن عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، مثله) ولا مخالف لهم في الصحابة، وإن سرق وهو سكران. فهل يجب عليه القطع؟ فيه قولان، مَضَى تعليلهما في الطلاق، ولا يجب القطع على من أكره على السرقة. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وإن نقب رجل دار رجل، وأخرج منه مالا قيمته النِّصَاب وهو يظن أنه الدار دار نفسه والمال ماله.. وجب عليه القطع خلافا لأبي حنيفة ويجب القطع على المسلم بسرقة مال الذمي، وعلي الذمي بسرقة مال المسلم، وقد مَضَى بيان ذلك. وأمَّا الحربي: فلا يجب عليه القطع بسرقة مال المسلم، لأنه لم يلتزم أحكام الإسلام.
وهل يجب القطع على المعاهد، ومن دخل إلينا بأمان، بسرقة مال المسلم؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القطع، لأنه حد لله تَعالَى، فلم يجب عليه، كحد الزِّنَى والشرب.
والثاني: يجب عليه لأنه يجب لصيانة مال المسلم.
هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: هل يجب عليه القطع؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يجب.

(12/435)


والثاني: لا يجب.
والثالث: إن شرط عليه عند المعاهدة والأمان أنه لا يسرق، فسرق.. قطع وإن لم يشرط عليه.. لم يقطع ومنهم من قال: هو على القول الثالث قولا واحداً وأمَّا الحد في الزِّنَى: فأختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هو كقطع السرقة، على ما مَضَى. ومنهم من قال لا يجب الحد في الزِّنَى قولا واحدا بكل حال لأنه حق محض لله تَعالَى.

[فرع: سرقة العبد من غير مال سيده]
وإن سرق العبد من غير مال سيده.. نظرت: فإن كان غير آبق من سيده.. وجب عليه القطع بلا خلاف. وإن كان آبقا من سيده.. وجب عليه القطع عند أكثر أهل العلم. وقال ابن عبَّاس وسعيد بن العاص: (لا يقطع)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] (المائدة: 38) وهذا عام.
ورُوِي: (أن ابن عمر أبق له عبد، فسرق، فبعث به إلى سعيد بن العاص ليقطعه، فامتنع من ذلك، وقال لا أقطع آبقا، فقطعة ابن عمر، وقال: في أي كتاب الله تَعالَى وجدتم أن الآبق لا يقطع؟ !) ولأنه إذا وجب القطع على غير الآبق.. فلأن يجب على الآبق أولى، لأنه يحتاج إلى حراسة المال عنه لحاجته إليه.

[مسألة: نصاب القطع في السرقة]
وأمَّا قدر المال الذي يقطع به السارق.. فاختلف العلماء فيه:
فمذهبنا: أنه لا يقطع فيما دون ربع دينار، ويقطع في سرقة ربع دينار فصاعداً فإن سرق غير الذهب من المتاع.. قوم به، فإن بلغت قيمته ربع دينار - والدينار هو

(12/436)


مثقال الإسلام - قطع. وإن نقص عن ذلك.. لم يقطع، وبه قال أبُو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وعائشة في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وفي الفقهاء: الليث، والأَوزَاعِي، وأحمد، وإسحاق. وذهب داود وشيعته إلى: أن القطع يجب في سرقة ما قل وكثر من المال) . وبه قال الخوارج، والحسن البَصرِيّ واختاره ابن بنت الشافعي. وذهب عُثمانَ البتيُّ إلى: أنه يقطع في سرقة درهم من دراهم الإسلام، ولا يقطع فيما دون ذلك، وذهب زياد بن أبي زياد إلى: أنه يقطع بسرقة درهمين، ولا يقطع بما دونهما. وذهب أبُو هُرَيرَة، وأبو سعيد الخدري إلى: (أنه يقطع بسرقة أربعة دراهم، ولا يقطع بسرقة ما دونها)
وذهب النخغي إلى: أنه يقطع بسرقة خمسة دراهم، ولا يقطع بما دونها.
وذهب مالك: (إلي أنه يقطع في ربع دينار أو ثلاثة دراهم، فإن سرق غير الذهب والفضة قوم بالدراهم، فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم. قطع، وإن لم تبلغ قيمته ثلاثة دراهم.. لم يقطع) وذهب أبُو حَنِيفَة إلى: (أنه لا يقطع إلا في سرقة عشرة دراهم) وهي قيمة الدينار عنده. وبه قال ابن مَسعُودٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقطعوا السارق في ربع دينار، فأما بدون ربع دينار.. فلا تقطعوه» وهذا يبطل قول جميع المخالفين.

(12/437)


[فرع: سرقة ربع دينار تبرا ونحوه]
فإن سرق ربع دينار تبرا - وهو الذهب الذي ليس بخالص - لم يقطع، لأنه إذا خلص.. لم يأت منه ربع دينار، وإن سرق ربع دينار ذهبا مضروبا.. قطع للخبر. وإن سرق ربع دينار ذهبا خالصا غير مضروب، أو حليا من ذهب وزنه ربع دينار وقيمته أقل من ربع دينار مضروب.. ففيه وجهان.
[أحدهما] : قال أبُو سعيد الإصطخري، وأبو علي بن أبي هُرَيرَة: لا يقطع، لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب القطع في ربع دينار» . والدينار: إنما يقع على المضروب، وربع دينار خالص لا يجيء منه ربع دينار.
والثاني: قال أكثر أصحابنا: يجب عليه القطع، وهو المذهب، لأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا قطع إلا في ربع دينار» ولم يرد أنه يختص بربع دينار مضروب، وإنما يريد ما يقوم مقامه أو ما يقع به عليه اسم الربع، وهذا يقع عليه اسم ربع دينار، وقيمته ربع دينار مضروب.

[فرع: قطع السارق للثمار والبقول والطبيخ ونحوه]
ويجب القطع بسرقة الثمار الرطبة، كالرطب والعنب والتين والتفاح وما أشبهها، وبسرقة البقول والرياحين والطعام الرطب كالشواء والطبيخ والهريسة، إذا بلغت قيمته نصابا، وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب القطع بسرقة شيء من ذلك بحال)
وقال الثوريُّ: إن مما يبقى يوما ويومين وأكثر، مثل الفواكه.. وجب عليه القطع بسرقتها. وإن كان مما لا يبقى، مثل الشواء والهريسة وما أشبههما.. لم يجب القطع. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] (المائدة: 38) فعم

(12/438)


ولم يخص، «ورُوِى عمر بن شعيب عن أبيه، عن جده أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الثمر المعلق؟ هل فيه قطع؟ فقال؟ "لا قطع إلا فيما آواه الجرين، أو بلغ قيمته قيمة المجن ففيه القطع» ، وقيمة المجن كانت يومئذ ربع دينار أو ثلاثة دراهم، وصرف الدينار باثني عشر. ورُوِي: (أن عُثمانَ قطع في أترجة قيمتها ثلاثة دراهم) ولأنه سرق ما قيمته نصاب من حرز مثله لا شبهة له فيه، فقطع، كما لو سرق ربع دينار.
وأمَّا ما رُوِيَ عن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا قطع في ثمر ولا كثر» فـ: (الثمر)

(12/439)


هو معروف، و: (الكثر) هو جمار النخيل، وقيل: هو الفسلان الصغار من النخل، وإنما لم يوجب فيهما القطع على عادة أهل الحجاز، لأن بساتينهم لا حوائط عليها فهي غير محروزة.

[فرع: القطع فيما يتمول إذا بلغ ثمنه نصاباً]
ويجب القطع بسرقة كل ما يتمول إذا بلغت قيمته نصابا، سواء كان أصله على الإباحة، مثل الصيود، والطيور، والخشب، والحشيش، والقار، والنفط أو غير ذلك، وقال أبُو حَنِيفَة: (ما كان أصله على الإباحة إذا ملك ثم سرق.. لا يجب فيه القطع، إلا الساج فإنه يجب فيه القطع) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] (المائدة 38) فعم، ولم يخص. ورُوِي: (أن «النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم» ، فنقل الحكم والسبب، وأجمعنا على: أن القطع لم يجب بسرقة المجن بعينه، وإنما كان ذلك، لأن قيمته نصاب، فاقتضى الظاهر: أن كل من سرق ما تبلغ قيمته هذا القدر.. أنه يجب عليه القطع. وإن سرق ترابا أو ما قيمته نصاب.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه القطع، لما ذكرناه.

(12/440)


والثاني: لا يجب عليه القطع، لأنه عام الوجود لا يتمول في العادة، فلا تدعو النفس إلى سرقته.
وإن سرق مصحفا أو كتاب فقه أو غير ذلك يساوي نصابا، أو عليه حلية تبلغ قيمته مع ذلك نصابا.. وجب عليه القطع. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه القطع)
دليلنا: أنه نوع مال فتعلق بسرقته القطع، كسائر الأموال.

[مسألة: نقب جماعة حرزا واشتركوا في إخراج المال]
وإن نقب جماعة حرزا، ودخلوا وأخرجوا منه المال، فإن بلغت قيمة ما أخرجوه ما يصيب كل واحد منهم نصابا.. وجب عليهم القطع. وإن نقص عن ذلك.. فلا قطع على واحد منهم. وبه قال أبُو حَنِيفَة والثوريُّ وإسحاق، وقال مالك وأحمد وأبو ثور: (يجب القطع على جميعهم، كما لو اشتركوا في قتل إنسان) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقطعوا السارق في ربع دينار، فأما بدون ربع دينار.. فلا تقطعوه» وكل واحد منهم لم يسرق ربع دينار فلم يقطع، ويخالف اشتراكهم في القتل، فإنا لو لم نوجب عليهم القصاص.. لجعل الاشتراك طريقا إلى إسقاط القصاص، بخلاف السرقة لأن كل واحد منهم لا يقصد في العادة إلى سرقة ما دون الربع لقلته.

[فرع: نقبوا حرزا وانفرد كل واحد منهم بإخراج المال]
وإن اشترك جماعة في نقب حرز، فدخلوه وأخرج كل واحد منهم مالا انفرد بإخراجه، فإن بلغت قيمة ما أخرجه كل واحد منهم نصابا بنفسه.. وجب عليه القطع وإن لم يبلغ نصابا.. لم يقطع. وبه قال مالك.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يضم ما أخرجوه بعضه إلى بعض، فإن كان قيمة الجميع مما يصيب كل واحد منهم نصاب.. وجب عليه القطع)

(12/441)


دليلنا: أن كل واحد منهم سرق دون النِّصَاب، فلم يجب عليه القطع، كما لو انفرد بالنقب.
وإن نقب جماعة حرزاً ودخلوا، فأخرج بعضهم المال، ولم يخرج الباقون شيئا.. فإن بلغت قيمة ما أخرجه كل واحد منهم نصابا.. وجب عليهم القطع، ولم يجب على الذين لم يخرجوا. وقال أبُو حَنِيفَة: (القياس: أن لا يجب القطع إلا على المخرج، وإن كان ما أخرجه بعضهم يبلغ قيمة ما يصيب كل واحد منهم نصابا قطعتهم كلهم استحسانا) .
دليلنا: أن من لم يخرج المال.. ليس بسارق، فلم يجب عليه القطع، كما لو لم يدخل.

[فرع: نقب حرزا على طعام أو مال فأخذه شيئا فشيئا]
وإن نقب رجل حرزا على طعام، فأخرج الطعام قليلا قليلا حتى بلغ قيمة ما أخذه ربع دينار.. ففيه وجهان.
أحدهما: لا يجب عليه القطع، لأن ما أخذه في المرة الأولى لا يبلغ نصابا وما أخذه بعده أخذه من حرز مهتوك فلم يجب عليه القطع.
والثاني: يجب عليه القطع، وهو الأصح، لأنه أخذ نصابا من حرز هتكه، فوجب عليه القطع، كما لو أخذه دفعة واحدة.
وإن نقب حرزا وأخذ منه ثمن دينار وخرج، ثم عاد وأخذ منه ثمنا آخر.. ففيه ثلاثة أوجه:
[أحدها] : قال أبُو إسحاق المَروَزِيُّ: لا يلزمه القطع، لأن الذي سرقه أولا دون النِّصَاب، والذي سرقه ثانيا أخذه من حرز مهتوك.
و [الثاني] : قال أبُو العباس: يلزمه القطع، وهو الأصح، لأنه أخذ نصابا من حرز هتكه بنفسه، فلزمه القطع، كما لو أخذه دفعة واحدة.
و [الثالث] : قال أبُو عليّ ابن خيران: إن أخذ الثمن الثاني بعد أن علم صاحب

(12/442)


الدار بالنقب، أو علم الناس به.. لم يجب عليه القطع لأنه أخذه من حرز مهتوك. وإن أخذه قبل أن يعلم بالنقب.. وجب عليه القطع، لأنه أخذ النِّصَاب من حرز هتكه بنفسه وهذا طريق أصحابنا البغداديين، وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إن كان المسروق منه عالما بإخراج الثمن الأول قبل أن يخرج الثمن الثاني.. فلا يجب على السارق القطع وإن كان غير عالم بالثمن الأول قبل إخراج الثمن الثاني.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يجب عليه القطع، كما لو أخرج الثاني بعد علم المسروق منه بالأول.
والثاني: يجب عليه القطع، لأن المتاع المسروق قد لا يمكن السارق إخراجه دفعة واحدة، فصار كما لو بطَّ جيب رجل فيه دراهم، فجعلت الدراهم تخرج منه درهما درهما.
والثالث: ينظر فيه: فإن أخرج الأول ووضعه على باب النقب ثم عاد ليأخذ الثاني.. وجب عليه القطع، لأن هذا يعد في العادة سرقة واحدة. وإن أخرج الأول فذهب به إلى داره، ثم عاد وأخرج الثاني.. لم يقطع، لأنهما سرقتان.

[مسألة: السرقة من غير حرز]
ولا يجب القطع فيما سرق من غير حرز، وبه قال مالك، وأبو حَنِيفَة وأحمد. وقال داود: (يجب عليه الحد)
دليلنا: ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن رجلا من مزينة قال: يا رسول الله، كيف ترى في حريسة الجبل فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس في شيء من الماشية

(12/443)


قطع، إلا ما آواه المراح وليس في شيء من الثمر المعلق قطع إلا ما آواه الجرين، فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن.. ففيه القطع» . فأسقط القطع في الماشية إلا ما آواه المراح وفي الثمر المعلق إلا ما آواه الجرين وليس بين الحالين فرق إلا أن الشيء محرز في أحد الوضعين دون الآخر، فدلَّ على أن الحرز شرط في إيجاب القطع. وقوله: (حريسة الجبل) لها تأويلان:
أحدهما: أنه أراد سرقة الجبل، لأن السارق يسمى: الحارس، و (الحريسة) : السرقة.
والثاني: أنها مسروقة الجبل.
إذا ثبت هذا: فالحرز يختلف باختلاف المال المحرز، وقد يكون الحرز حرزاً لبعض الأموال دون بعض.
وقال أبُو حَنِيفَة: (ما كان حرزا لشيء من الأموال.. كان حرزا لجميع الأموال)
دليلنا: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل حرز الماشية المراح، وجعل حرز الثمر المعلق الجرين» ، لأنهما مالان فدلَّ على: أن الحرز يختلف باختلاف الأموال. ولأن كل ما ورد به الشَّرع مطلقا وليس له حد في اللغة ولا في الشَّرع.. كان المرجع في حده إلى العرف والعادة. كما قلنا في التفرق والقبض في البيع، ووجدنا في العرف والعادة أن الأحراز تختلف باختلاف الأموال، فكان الاعتبار في الحكم بالقطع بذلك.
إذا تقرر هذا نظرت: فإن كان المال من الذهب، أو الفضة، أو الجواهر، أو من متاع البزازين أو العطارين، أو الصيادلة فإن ترك في الدكان في السوق، وأغلق عليه الباب وأقفل.. فهو محرز بالنهار. وأمَّا الليل: فإن كان الأمن ظاهرا ً.. فهو محرز بذلك، وإن كان الأمن غير ظاهر، فإن كان في الدكان أو في

(12/444)


السوق حافظ.. فهو مَحرُوز بذلك، وإن لم يكن فيه حافظ.. فهو غير مَحرُوز. وإن لم يقفل عليه فإن كان في الدكان أو في السوق حافظ متيقظ.. فهو مَحرُوز، وإن لم يكن فيه حافظ، أو كان فيه حافظ نائم.. فهو غير مَحرُوز.
وإن ترك ذلك في بيت.. نظرت: فإن كان البيت في البلاد والقرى المسكونة، فإن كان البيت مغلقا.. فهو مَحرُوز، سواء كان في البيت حافظ أو لم يكن، لأن العادة جرت بإحراز المال فيها هكذا. وإن كان البيت غير مغلق، فإن كان في البيت حافظ متيقظ.. فهو مَحرُوز. وإن لم يكن في الدار حافظ أو كان فيه حافظ نائم.. فليس بمحرز إلا أن يكون في الدار خزانة مغلقة.. فما فيها محرز وإن لم يكن في الدار حافظ.
فإن كان البيت في الصحراء أو في البستان فإن كان فيه حافظ متيقظ.. فهو حرز لما فيه وإن لم يكن فيه حافظ.. فهو غير حرز لما فيه، سواء كان البيت مفتوحا أو مقفلا لأن العادة لم تجر بإحراز المال فيه من غير حافظ. فإن كان البيت فيه حافظ نائم، فإن كان البيت مقفلا.. فهو حرز لما فيه، وإن كان غير مقفل.. فليس بحرز لما فيه.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وإن كان داره في ناحية بعيدة من البلد بقرب الصحراء أو الخرابات، فأغلق بابها وغاب عنها.. لم تكن حرزا لما فيها وإن كانت مفتوحة الباب وهو فيها مستيقظ.. فهي حرز لما فيها. وإن كان فيها وهو نائم.. فهل هي حرز لما فيها؟ فيه وجهان. وإن كان الباب مفتوحا لكن أذن للناس في الدخول، مثل الخبازين، فسرق سارق من هذه الدار ورب الدار فيها مستيقظ.. فهل يقطع؟ فيه وجهان.

[فرع: حكم أبواب الغرف في الدور وبيوت الشعر والخيام]
وأمَّا أبواب البيوت في الدار.. فحكمها حكم المتاع في البيوت، فإن كان باب الدار مغلقا.. فهي محرزة، سواء كان في الدار حافظ أو لم يكن إذا كانت الدار في العمران، وسواء كانت أبواب البيوت مفتوحة أو مغلقة

(12/445)


وإن كان باب الدار مفتوحا، فإن كان في الدار حافظ.. فأبواب البيوت محرزة، مغلقة كانت أو مفتوحة. وإن لم يكن في الدار حافظ، فإن كانت أبواب البيوت مغلقة.. فهي محرزة بذلك، وإن كانت غير مغلقة.. فهي غير محرزة.
فأما باب الدار: فهو مَحرُوز بنصبه على الدار، مغلقا كان أو مفتوحا. وأمَّا الحلقة التي على الباب: فإن كانت مسمرة.. فهي محرزة بذلك وإن كانت غير مسمرة.. فهي غير محرزة. وأمَّا الآجر والحجارة واللبن: فإنها محرزة ببنيانها على الحائط، لأن العادة جرت بحفظ ذلك كذلك.
وإن ضرب فسطاطا أو خيمة في صحراء أو برية وشد أطنابه وترك فيه متاعا، فإن كان في الفسطاط أو على بابه حافظ مستيقظ أو نائم.. فالفسطاط وما فيه محرز، لأن عادة الفسطاط وما فيه هكذا يحرز. وإن لم يكن فيه ولا على بابه حافظ فالفسطاط وما فيه غير محرز، لأن العادة لم تجر بأن الفسطاط يضرب في الصحراء ولا يكون فيه أحد. هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال: المسعودي [في " الإبانة "] : إن ضرب الفسطاط في الصحراء مع الجماعة.. فهو بمنزلة الدور ويكون حرزا لما فيها إذا كانت مشدودة الأذيال.
وإن ضرب فسطاطا في مفازة وحده ولم يكن معه من يتقوى به.. فذلك الفسطاط لا يكون حرزاً.

[فرع: حرز الحنطة]
فرع: [ما هو حرز الحنطة؟]
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والحنطة حرزها أن تكون في الجوالقات وتطرح في وسط السوق، ويضم بعضها إلى بعض ويخاط رأسها، أو تشد ويطرح

(12/446)


بعضها إلى بعض ويطرح عليها حلس أو أكسية وتشد)
فمن أصحابنا من قال: هذا الذي قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على عادة أهل مصر لأنهم هكذا يحرزون الحنطة في موضع البيع، فأما في العراق وخراسان: فلا تكون محرزة إلا في البيوت والأقفال.
ومنهم من حمله على ظاهرة في جميع البلاد، لأن ما ثبتت له العرف أنه حرز لشيء في بلد.. كان ذلك حرزا له في جميع البلدان. وأمَّا الحطب.. فحرزه أن يعبأ بعضه على بعض، ويربط بحبل بحيث لا يمكن أن يسل منه شيء إلا بحل رباطه، ومن أصحابنا من قال: هذا حرزه نهارا، وأمَّا بالليل فلا بد من باب يغلق عليه أو ما يقوم مقام الباب والأول أصح.
وأمَّا الأجذاع: فإحرازها أن تطرح على أبواب المساكن لأن العادة جرت بإحرازها كذلك.

[فرع: أخذ حب من أرض مبذورة]
وإن دخل رجل إلى أرض غيره وأخذ من حب مبذور فيها ما يساوي نصابا.. ففيه وجهان حكاهما المسعوديُّ [في " الإبانة "] :
أحدهما: يجب عليه القطع، لأنه سرق البذر من حرز.
والثاني: لا يجب عليه القطع، لأن حرز كل حبة غير حرز الحبة الأولى.

[مسألة: نبش القبر وسرقة ما فيه]
قال الشيخُ أبُو إسحاق: وإن نبش قبرا وسرق منه الكفن فإن كان في برية لم يقطع - لأنه ليس بحرز للكفن وإنما يدفن في البرية للضرورة، وإن كان في مقبرة تلي العمران.. قطع

(12/447)


وقال الشيخُ أبُو حامد وابن الصبَّاغ: إذ نبش قبرا وسرق منه الكفن.. قطع من غير تفصيل. وبه قال ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، والحسن البَصرِيّ، والنخعي، وربيعة، وحماد، ومالك، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق.
وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا سرق كفنا من القبر، فإن كان القبر في موضع حريز، بحيث لو كان هناك مال، فوضع على ظهر الأرض فسرق وجب على سارقه القطع.. قطع سارق الكفن منه. وإن كان القبر في موضع بعيد من العمران. مثل مفازة لا يحتاج السارق في السرقة إلى انتهاز الفرصة.. لم يقطع. وإن كان القبر في مقبرة قريبة من العمران يمر بها الناس، بحيث يحتاج السارق في سرقة الكفن إلى انتهاز الفرصة في السرقة منها.. فهل يقطع؟ فيه وجهان وكذلك ما هو مدفون هناك غير الكفن. هذا مذهبنا، وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه، والثوريُّ، والأَوزَاعِي: (لا يجب القطع على سارق الكفن من القبر بحال) .
دليلنا: قول تَعالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] (المائدة: 38)
و (السارق) : اسم جنس يتناول كل من أخذ الشيء على وجه الاستخفاء، وإن كان كل نوع من السرقة يختص باسم، فيقال لمن نقب: نقاب، ولمن أخذ شيئا من الجيب: طرار، ولمن أخذ الكفن من القبر: نباش، ويسمى: المختفي.

(12/448)


ولهذا: رُوِيَ أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله المختفي والمختفية» وأراد به النباش. وقال: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «من اختفى ميتا.. فكأنما قتله»
ومن الدليل على وجوب القطع عليه: ما روى البراء بن عازب: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: «من حرق.. حرقناه ومن غرق غرقناه ومن نبش.. قطعناه»
ورُوِي: (أن ابن الزبير قطع نباشا بعرفات) ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فدلَّ على أنه إجماع. ولأن القطع إنما وجب إحرازا للمال وصيانة له، وكفن الميت أحق بذلك لأن الحي إذا أخذت ثيابه.. استخلف بدلها، والميت لا يستخلف، فكان إيجاب القطع لصيانة ثيابه أولى.

[فرع: سرقة ما زاد على الكفن أو الطيب المستحب]
فإن كفن الميت في أكثر من خمسة أثواب، أو دفن في تابوت، فسرق سارق ما زاد على خمس أثواب أو سرق التابوت من القبر.. لم يقطع، لأن ذلك غير مشروع في الكفن والدفن، فلم يجعل القبر حرزا له، كما لو دفن في القبر دنانير أو دراهم.
قال: الماسرجسي: وإن أخذ السارق من الطيب الذي طيب به الميت ما يساوي نصابا.. قطع، إلا أن يزيد على القدر المستحب في الطيب.. فلا يقطع السارق بسرقة ما زاد على المستحب،

(12/449)


قال ابن الصبَّاغ: وعندي: أنه لا يجتمع من الطيب المستحب ما يساوي نصابا، لأن المستحب في تطيبه: التجمير بالعود وإن يطرح مع الحنوط وذلك لا يجتمع وإن كان مجتمعاً.. فلا قطع فيه

[فرع: مالكي الكفن]
] واختلف أصحابنا فيمن يملك الكفن:
فمنهم من قال: الكفن باق على ملك الميت لأنه محتاج إليه فكان باقيا على حكم ملكه وإن كان لا يجوز أن يدخل شيء في ملكه ابتداء، كما إذا مات وعليه دين؛ فإن الدين يكون باقيا في ذمته، وإن كان لا يجوز أن يثبت في ذمته دين ابتداء.
ومنهم من قال: إنه غير مملوك لأحد بل لله تَعالَى: لأنه لا يجوز أن يكون مملوكا لورثته، لأنهم لا يملكون التصرف فيه، ولا يجوز أن يكون مملوكا للميت، لأن الميت لا يملك.
ومنهم من قال: إنه مملوك للورثة، وهو الأصح لأنهم يملكون التركة والكفن من جملتها.
فإن كفن الميت بكفن من تركته، فأكل السبع الميت، أو ذهب به سيل وبقي الكفن، فإن قلنا: إن الكفن ملك للورثة.. قسم بينهم. وإن قلنا: إنه ملك للميت، أو لا مالك له.. نقل إلى بيت المال. ومن الذي يطالب بقطع سارق الكفن؟
إن قلنا: إنه ملك للورثة.. فهم المطالبون بقطعة. وإن قلنا: أنه لا مالك للكفن. فإن الإمام أو الحاكم يقطع سارقه من غير مطالبة أحد، كما لو سرق سارق سارية من سواري المسجد وإن قلنا: إن الكفن باق على حكم ملك الميت.. ففيه وجهان.
أحدهما: أن الحاكم لا يقطع السارق إلا بمطالبة الورثة، لأنهم يخلفون الميت.
والثاني: أن الحاكم يقطعه من غير مطالبة منهم، كما يقطع سارق مال الطفل والمجنون الذين لا ولي لهما.

(12/450)


وإن كفن السيد عبده فلمن يكون الكفن ملكا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه ملك للسيد.
والثاني: أنه لا يملكه أحد، ولا يجيء فيه أنه ملك للعبد، لأنه لا يملك إلا بتمليك السيد - على القول القديم - ولم يملكه إياه.

[مسألة: النوم على الشيء أو الثوب حرز له]
وماذا لو كان معه متاع؟]
إذا كان معه ثوب أو شيء خفيف فتركه تحت رأسه ونام عليه، أو فرشه تحته ونام عليه فسرقه سارق من تحت رأسه أو من تحت جنبيه.. قطع لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع سارق رداء صفوان من تحت رأسه» . ولأن العادة في الأشياء الخفيفة أنها تحرز هكذا:
فإن تزحزح عنه في النوم وخرج من تحته، فسرقة سارق.. لم يقطع، لأنه خرج عن أن يكون محرزا. وإن ترك الثوب أو المتاع بين يديه وهو ينظر إليه فهو محرز به. فإن تغفله إنسان وسرقة.. قطع - لأنه محرز به وإن نام أو تشاغل عنه فهو غير مَحرُوز - فإن سرقه إنسان.. لم يقطع.
قال الشيخُ أبُو إسحاق: فكذلك لو تركه خلفه بحيث لا تناله اليد فسرقه سارق.. لم يقطع، لأنه غير مَحرُوز. وقال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (ولو ترك متاعه بين يديه فسرق.. لم يقطع سارقه) قال أصحابنا: أراد بذلك: إذا نام
هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: إذا ترك متاعه في موضع وقعد بقربه بحيث يقع بصره عليه، فإن كان ذلك الموضع لا يمر الناس فيه غالبا، مثل صحراء متباعدة عن الشارع، فتغفله إنسان فسرقة.. قطع وإن كان ذلك الموضع يمر الناس فيه غالبا، أو كان مشتركا بين جماعة الناس، كالمسجد أو قارعة الطريق ففيه وجهان:

(12/451)


أحدهما: لا يجب عليه القطع، لأن ذلك الموضع منتاب للناس، فلا يكون حرزاً.
والثاني: يجب عليه القطع، كالتي قبلها.
وإن وضع متاعه في موضع غير محاط بالجدران، أو كان محاطاً لكن الباب مفتوح، ونام بقربه، فإن كان ذلك الموضع ليس بملك له.. لم يقطع سارق متاعه منه، لأن المكان لا يملكه، فلم يحفظ متاعه بل ضيعه. وإن كان المكان ملكاً له..
ففيه وجهان:
أحدهما: أن المال مَحرُوز، لأن المكان ملكه وهو فيه، وقد جرت العادة بأن ينام صاحب الدار الساعة والساعتين والباب مفتوح.
والثاني: أنه غير مَحرُوز، لأن المكان وإن كان ملكه.. فإن الباب مفتوح والنائم كالغائب.

[فرع: علق ثيابه في الحمام أو المسبح فسرقت]
وإن علق ثيابه في الحمام، فسرقها سارق من هناك، فإن أمر الحمامي أو غيره بمراعاتها فرعاها، وسرقها سارق في حال مراعاته لها.. قطع السارق، لأنها محرزة بمن يراعيها. فإن لم يراعها أحد.. لم يقطع السارق، لأنها غير محروزة، لأن الحمام مستطرق.

[مسألة: أحوال سرقة الجمال]
وإن سرق سارق من الإبل.. فلا يخلو: إما أن يسرق منها وهي في المرعى، أو يسرق منها وهي مناخة، أو يسرق منها وهي مقطرة.

(12/452)


فإن سرق منها وهي في المرعى.. نظرت: فإن كان معها راع وهو ينظر إلى جميعها أو يبلغها صوته إذا زجرها.. قطع، لأنها محرزة. وإن كان لا ينظر إليها، بأن غابت عنه بجبل أو غيره، أو نام عنها، أو تشاغل، أو كان ينظر إليها ولا يبلغها صوته إذا زجرها، لم يقطع لأنها غير محرزة، وإن كان ينظر إلى بعضها دون بعض.. قطع سارق الذي ينظر إليه دون الذي لا ينظر إليه.
وإن سرق منها وهي مناخة، فإن كان معها حافظ ينظر إليها.. فهي محرزة. وإن كان لا ينظر إليها ولكنها معقولة، أو معها حافظ لها بقربها.. فهي محرزة، سواء كان مستيقظاً أو مشتغلاً عنها أو نائماً، لأن العادة جرت: أن الرعاة والمسافرين إذا أرادوا النوم.. عقلوا إبلهم وناموا بقربها، لأن حل العقال: يوقظ النائم وينبه المتغافل. وإن كانت غير معقلة وحافظها نائم بقربها، أو كانت معقلة ولا حافظ معها نائم ولا مستيقظ.. لم يقطع سارقها، لأنها غير محرزة، لأن العادة لم تجر بإحرازها هكذا.
وإن سرق منها وهي مقطرة، فإن كان معها سائق ينظر إليها، ويبلغها صوته إذا زجرها، أو كان لها قائد ينظر إليها إذا التفت وأكثر الالتفات إليها ويبلغها صوته إذا زجرها.. قطع سارقها، لأنها محرزة به. هكذا ذكر الشيخ أبُو إسحاق.
وأمَّا الشيخ أبُو حامد، وأكثر أصحابنا: فلم يشترطوا بلوغ صوته إليها في شيء من ذلك كله. وقال أبُو حَنِيفَة) إذا كان قائدا لها، فليس فيها محرز إلا التي بيده زمامها) .
دليلنا: أن العادة جرت في حفظ الإبل بمراعاتها بالالتفات، فكان ذلك حرزاً لها كالتي زمامها بيده.
إذا ثبت هذا: فإن أصحابنا العراقيين لم يقدروا القطار بعدد، بل اشترطوا ما مَضَى.
وأمَّا المسعوديُّ [في " الإبانة "] : فاشترط أن لا يزيد القطار الواحد على تسع، لأن هذا هو العرف في القطار، فإن زاد القطار على ذلك.. كان ما زاد غير محرز.

(12/453)


قال: وإن كان القطار تسعاً، إلا أن الجمال يقوها في سكة مبنية متقاربة البناء، بحيث يغيب عن الجمال بعض الإبل، فمن سرق مما قد غاب عن عينه شيئاً.. لم يقطع.

[فرع: سرقة جمل مع راكبه]
وإن سرق سارق جملا وعليه راكب، فقال أصحابنا البغداديون: إن كان الراكب له حراً.. لم يقطع السارق، نائما كان الراكب أو مستيقظاً، لأن اليد على الجمل للراكب، ولا يلزم السارق ضمان الجمل، لأنه لم تزل يد الراكب عنه، وإن كان الراكب عليه عبداً.. قطع السارق، لأن اليد ثبتت على العبد وعلى ما في يده.
وقال الخراسانيون: فيه أربعة أوجه:
أحدها: يجب عليه القطع بكل حال، لأنه سرق من المال نصاباً محرزاً عنه لا شبهة له فيه.
والثاني: لا يجب عليه القطع بحال، لأن يد الراكب عليه لم يزلها.
والثالث: ينظر فيه: فإن كان الراكب قوياً، بحيث لو انتبه لم يقدر السارق عليه. لم يقطع السارق، وإن كان ضعيفاً، بحيث لو انتبه يقدر على السارق.. قطع السارق.
والرابع: إن كان الراكب حراً.. لم يقطع، وإن كان عبداً.. قطع، لما مَضَى.

[فرع: السرقة من المتاع المحمول على الإبل المقطرة]
وإن سرق سارق من المتاع المحمول على الإبل المقطرة.. فحكمه حكم من سرق من الأجمال المقطرة. وكذلك: إن سرق الجمل والمتاع المحمول عليه.. قطع.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إن سرق الجمل والمتاع المحمول عليه.. لم يقطع، وإن فتق الجوالق على الجمل وسرق منه المتاع.. قطع) .

(12/454)


دليلنا: نأن الجَمَل وما عليه محرز بصاحبه، فقطع سارقه، كما لو سرق متاعا محرزا بالبيت.

[فرع: سرقة الأنعام ونحوها]
وإن سرق سارق من ماشية غير الإبل، كالبقر والغنم والخيل والبغال والحمير..
فلا يتصور أن تكون مقطرة ولا مناخة، وإنما يتصور أن تكون راعية أو في موضع تأوي إليه. فإن كانت راعية.. فحكمها حكم الإبل الراعية على ما مَضَى.
وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا أرسل الراعي غنمه في سكة، وفي السكة دور وأبوابها مفتوحة إلى تلك السكة.. لم تكن محرزة به، فإذا أوت إلى موضع.. فالحكم فيها وفي الإبل إذا أوت إلى أعطانها واحد، فلا يخلو: إما أن تكون في البلد، أو في الصحراء. فإذا كانت في البلد في بيت، فإن كان معها حافظ مستيقظ.. فهي محرزة، سواء كان باب البيت مغلقاً أو مفتوحاً. وإن كان الحافظ نائما، فإن كان البيت مقفلاً.. فهي محرزة، وإن كان مفتوحاً.. فهي غير محرزة.
وإن كان البيت في الصحراء، فإن لم يكن معها حافظ.. فليست بمحرزة، سواء كان البيت مقفلاً أو مفتوحا. وإن كان معها حافظ مستيقظ.. فهي محرزة، سواء كان باب البيت مفتوحاً أو مقفلا. وإن كان نائما، فإن كان البيت مغلقا.. فهي محرزة، وإن كان مفتوحا.. فهي غير محرزة، كما قلنا في المتاع في البيت.
وإن دخل رجل مراحا لغنم، أو كانت في غير مراح إلا أنها محرزة بحافظ، فحلب من ألبانها أو أخذ من أصوافها ما يساوي نصابا.. قطع؛ لأن حرز الغنم حرز لما فيها من اللبن ولما عليها من الصوف.

[مسألة: لا يجب القطع على السارق إلا بإخراجه المال من الحرز بفعله]
ولا يجب القطع على السارق إلا بأن يخرج المال من الحرز بفعله. فإن دخل مراح غنم ونفرها حتى خرجت.. قطع، لأنها خرجت بفعله. وإن خرجت من غير

(12/455)


تنفير.. لم يقطع، لأنها لم تخرج بفعله. وإن أخذ منها شاة لا تساوي نصابا، فخرج في إثرها شاة تم بها النِّصَاب.. فهل يقطع؟
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : ينظر فيه: فإن كان الأغلب أنها تخرج على إثرها؛ مثل ولدها، أو كانت الشاة التي أخرجها هادية الغنم فتبعها غيرها.. قطع؛ لأن إخراج التابع لها منسوب إليه. وإن لم يكن الأغلب ذلك.. لم يقطع، لأن التي أخرج لا تساوي نصابا، والتي تبعتها لا ينسب خروجها إليها.

[فرع: نقب حرزا وأخذ مالا ثم ألقاه ثم أخذه وماذا لو بطَّ جيبا أو طعاما]
وإن نقب رجل حرزا، ودخل وأخذ المال، ورمى به من النقب إلى خارج الحرز، أو رمى به من فوق حائط الدار، أو فتح الباب ودخل ورمى به، ثم خرج وأخذه.. وجب عليه القطع، لأن المال خرج بإخراجه.
وإن نقب الحرز ولم يدخل الحرز، بل أدخل يده في النقب وأخذ المال، أو دخل في البيت محجنا وتناول به المال أو أخرجه.. وجب عليه القطع. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه القطع إلا إن كان النقب صغيراً لا يمكنه الدخول منه) .
دليلنا: أنه أخرج المال بفعله، فوجب عليه القطع، كما لو كان النقب صغيرا.
وإن كان في جيب رجل أو كمه مال، فبط رجل أسفله، وأخرج منه نصابا.. قطع. وكذلك: إن كان هناك بيت فيه طعام فنقبه رجل، فانثال من الطعام ما يساوي نصابا.. قطع، لأنه خرج بسبب فعله. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: هذه مبنية على من نقب حرزا وسرق منه ثمن دينار، ثم عاد

(12/456)


وسرق منه ثمنا آخر، فإن قلنا هناك: يجب القطع.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: لا يجب القطع.. فهاهنا وجهان.
والفرق: أن هذا ما أخرجه في الدفعة الأولى متميز عما أخرجه في الدفعة الثانية، وهاهنا: الحنطة المنثالة متصلة بعضها ببعض، فصارت كالمنديل يجره من الكيس فيخرج شيء بعد شيء. وحكى صاحب " الفروع " فيها وجهين على الإطلاق.
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه هكذا يخرج.
والثاني: لا يجب عليه القطع؛ لأنه لم يخرج بفعله.

[فرع: أخرج المال من الحرز بواسطة]
وإن نقب حرزا فدخل وترك المال في ماء جار في الحرز وخرج المال بجريان الماء من الحرز.. قطع؛ لأن المال خرج بسبب فعله.
وحكى الشيخُ أبُو حامد وجها آخر: أنه لا يقطع، وليس بشيء.
وإن تركه من ماء راكد في الحرز، وحرك الماء حتى خرج المال من الحرز.. قطع؛ لما ذكرناه. وإن حركه غيره.. لم يقطع؛ لأنه لم يخرج بفعله.
وإن تفجر الماء وخرج بالمال.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه أخرجه بوضعه في الماء، فهو كما لو وضعه في الماء الجاري.
والثاني: لا يجب عليه القطع، لأن الماء لم يكن آلة لإخراجه، وإنما خرج به بسبب حادث.
وإن نقب حرزا وأخذ المال وتركه على النقب في وقت هبوب الريح، فأطارته الريح حتى أخرجته من الحرز.. قطع، كما لو تركه في ماء جار. وإن تركه على النقب.

(12/457)


ولا ريح، ثم هاجت ريح فأطارته حتى أخرجته.. ففيه وجهان، كما لو تركه في ماء راكد، فتفجر الماء وأخرجه.
وإن نقب حرزا فدخله وأخذ المال وتركه على بهيمة، فساق البهيمة أو قادها حتى خرجت بالمال.. قطع؛ لأنها خرجت بسبب فعله.
وحكى الشيخُ أبُو حامد: أن من أصحابنا من قال: إنه لا يقطع، وليس بشيء.
وإن لم يسق البهيمة ولم يقدها، بل خرجت باختيارها.. فأختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع، لأن البهيمة إذا أحست بالمتاع على ظهرها.. سارت في العادة، فصار فعله سببا في إخراج المال.
والثاني: لا يجب عليه القطع، وهو الأصح، لأن للبهيمة قصدا واختيارا، وقد خرجت باختيارها.
وقال أبُو عليّ السنجي: إن وقفت البهيمة بعد وضع المال عليها ساعة، ثم سارت.. لم يقطع وجها واحدا. وإن سارت عقيب الوضع.. فهل يقطع؟ فيه وجهان.
قال: وهكذا لو وضع لؤلؤا على جناح طائر، فإن هيجه حتى خرج من الحرز.. فعليه القطع. وإن لم يهيجه، فمكث الطائر بعد أن شد عليه ساعة، ثم طار.. لم يجب عليه القطع. وإن طار عقيب الشد.. ففيه وجهان.
وإن نقب رجل حرزا وأمر صبيا لا يميز، حرا كان أو عبدا، فأخرج منه نصابا، أو دخل هو ودفع النِّصَاب إلى الصغير وخرج به.. وجب فيه القطع على الرجل، لأن الصغير كالآلة له؛ ولهذا لو أمره بقتل إنسان فقتله.. وجب عليه القتل. هكذا ذكر

(12/458)


بعض أصحابنا. وحكى صاحب " الفروع " في وجوب القطع على الرجل وجهين، كما لو وضع المال على بهيمة، فخرجت به من غير سوق ولا قَوْد.
وإن نقب رجل حرزا، وأمر صغيرا عاقلاً مميزا، فأخرج النِّصَاب.. لم يجب القطع على واحد منهما؛ لأن الرجل لم يخرج المال بفعله، والمميز له اختيار صحيح، فلا يجعل بمنزلة الآلة له، وإنما لم يجب عليه القطع؛ لأنه ليس من أهل التكليف.

[فرع: ذبح شاة أو شق ثوبا في الحرز وخرج به]
وإن نقب رجل حرزا، فدخل وأخذ شاة فذبحها في الحرز، أو ثوبا فشقه في الحرز، ثم خرج بذلك. فإن كان اللحم والثوب بعد شقه يساوي نصابا.. قطع. وإن لم يساوي نصابا.. لم يقطع. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه القطع بالشاة) ؛ لأن الأشياء الرطبة لا يجب القطع بسرقتها عنده.
وقال: في الثوب: (إن خرقه طولا.. لم يجب عليه القطع؛ لأنه بالخيار: بين أن يدفع قيمته ويتملكه. وإن خرقه عرضا.. وجب عليه القطع إذا كانت قيمته نصابا بعد الخرق) .
دليلنا: أنه سرق نصابا لا شبهة له فيه من حرز مثله، فوجب عليه القطع، كما لو وجده مخروقا.
وإن سرق ما يساوي نصابا، ثم نقصت قيمته بعد ذلك فصار لا يساوي نصابا.. لم يسقط القطع عنه. وبه قال مالك. وقال أبُو حَنِيفَة: (يسقط عنه القطع) .
دليلنا: أنه نقصان حدث بعد وجوب القطع، فلم يسقط به القطع، كما لو استعمله السارق فنقصت قيمته.. فإن القطع لا يسقط عنه بلا خلاف.

(12/459)


[فرع: سرق فضة أو ذهبا فصاغها دراهم ودنانير]
فرع: [سرق فضة أو ذهبا فصاغها دارهم ودنانير] :
وإن سرق فضة تساوي نصابا فضربها دراهم، أو سرق نصابا من الذهب فضربه دنانير.. قطع، ووجب عليه رد الدراهم والدنانير. وبه قال أبُو حَنِيفَة.
وقال أبُو يوسف ومحمد: لا يلزمه رد الدراهم والدنانير، وبنيا ذلك على أصلهما فيمن غصب فضة فضربها دراهم، أو ذهبا فضربه دنانير.. أنه يسقط حق صاحبها منها.
دليلنا: أن هذه عين المال المسروق منه، فوجب ردها، كما لو لم يضربها.

[فرع: نقب حرزا وابتلع فيه جوهرة أو تطيب ثم خرج]
وإن نقب حرزا فدخله فابتلع فيه جوهرة تساوي نصابا، أو ابتلع ربع دينار ثم خرج.. فإن الشيخ أبا حامد وابن الصبَّاغ قالا: إن لم تخرج منه الجوهرة أو ربع الدينار.. لم يجب عليه القطع؛ لأنه أهلك النِّصَاب في الحرز بالابتلاع، فلم يجب عليه القطع، كما لو أكل في الحرز طعاما يساوي نصابا. وإن خرجت منه الجوهرة أو ربع الدينار وهو يساوي نصابا.. فهل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه أخرجه من الحرز، فهو كما لو أخرجه بيده أو في فيه.
والثاني: لا يجب عليه القطع، وهو الأصح؛ لأنه بالابتلاع صار في حكم المستهلك؛ بدليل: أن لمالكه أن يطالبه ببدله، فصار بمنزلة ما لو أتلفه في الحرز.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق والمسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا ابتلع الجوهرة في الحرز وخرج.. هل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان، من غير تفصيل. ولعلهما أرادا: إذا خرجت منه بعد الخروج من الحرز. وإن دخل السارق الحرز وأخذ منه طيبا، فتطيب به في الحرز، ثم خرج، فإن لم يمكن أن يجمع منه من الذي تطيب به عند خروجه ما يساوي نصابا.. لم يقطع؛ لأن الذي أخرجه من الحرز لا يساوي نصابا. وإن أمكن

(12/460)


أن يجمع منه ما يساوي نصابا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه قد أخرج من الحرز ما يساوي نصابا، فوجب عليه القطع، كما لو أخرجه في إناء.
والثاني: لا يجب عليه القطع؛ لأنه قد أتلفه في الحرز بالتطيب.

[مسألة: وجوب القطع بعد خروج جميع العين المسروقة من الحرز]
ولا يجب القطع على السارق حتى تنفصل جميع العين المسروقة عن جميع الحرز بفعل السارق، أو بسبب فعله.
فإن نبش قبرا وأخرج الكفن من اللحد، ولم يخرجه عن باقي القبر، ثم خرج وتركه، أو نقب حرزا ودخل وقبض المال في الحرز، ولم يخرج به.. لم يجب عليه القطع؛ لأنه لم يخرجه عن حرزه، ولكن يجب عليه ضمانه؛ لأنه قد قبضه.
وإن أخذ طرف جذع أو طرف عمامة أو ثوب من حرز وجره، فأخرج بعضه عن الحرز، فلحقه الصراخ قبل أن ينفصل جميع الجذع أو العمامة أو الثوب عن جميع الحرز.. لم يجب عليه القطع وإن كان قد خرج من الحرز ما يساوي نصابا؛ لأن بعض العين لا ينفرد عن بعض؛ ولهذا: لو كان على رأسه عمامة وطرفها على نجاسة، فصَلَّى فيها.. لم تصح صلاته، كذلك هذا.
قال: القاضي أبُو الطيب: وكذلك إذا أخذ طرفا من العين، والطرف الآخر في يد صاحبها.. فإنه لا يضمنها؛ لأنه لم تزل يد المالك عن جميع العين. وإن أخرج نصابا من الحرز ثم رده إليه.. لم يسقط عنه القطع. وقال أبُو حَنِيفَة: (يسقط) .
دليلنا: أن القطع قد وجب عليه بالإخراج، فلم يسقط بالرد.

[فرع: اشتركا في نقب حرز وأخرج أحدهما المال وناوله للثاني أو سرقه آخر]
وإن اشترك اثنان في نقب حرز، ودخل أحدهما الحرز وأخذ المال وأخرج يده من جميع الحرز بالمال وناوله الآخر، أو رمى المال من الحرز إلى خارج الحرز فأخذه

(12/461)


الآخر.. فإن الضمان يجب عليهما، وأمَّا القطع.. فإنما يجب على الداخل دون الخارج. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب القطع على أحد منهما) .
دليلنا: أنه قد أخرج المال بفعله، فوجب عليه القطع، كما لو خرج هو به.
وإن اشتركا في نقب الحرز، ودخل أحدهما فأدنى المال إلى النقب من داخل الحرز ولم يخرجه، فأدخل الخارج يده في النقب وأخرج المال.. فإن الضمان يجب عليهما، وأمَّا القطع: قال المسعوديُّ [في" الإبانة "] : فإنه يجب على الخارج لإخراجه المال من الحرز، ولا يجب على الداخل؛ لأنه لم يخرج المال من الحرز.
وإن اشترك اثنان في نقب حرز، فدخل أحدهما وأخذ نصابين وتركهما على بعض النقب، وتناولها الآخر من خارج الحرز.. فحكى أصحابنا العراقيون فيها قولين، وحكاهما المسعوديُّ في [" الإبانة "] وجهين:
أحدهما: يجب عليهما القطع؛ لأنهما اشتركا في النقب وإخراج المال فلزمهما القطع، كما لو نقب معا ودخلا معا وخرجا معا فأخرجا المال.
والثاني: لا يجب عليهما القطع وهو الأصح؛ لأن كل واحد منهما لم يخرج المال من كمال الحرز، فلم يجب عليهما القطع، كما لو دخل أحدهما وأخرج المال إلى قرب النقب ولم يخرجه، وقد مَضَى وتركه.
وإن نقب أحدهما الحرز وحده، ودخل الآخر وأخذ المال.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان كالتي قبلها؛ لأن السرقة تمت بهما، فهي كالأولى.
و [الثاني] : منهم من قال لا يجب عليهما القطع هاهنا قولا واحدا؛ لأن في الأولى اشتركا في النقب وإخراج المال من الحرز، وهاهنا لم يشتركا في ذلك، وإنما انفرد أحدهما بالنقب والآخر بإخراج المال.

(12/462)


وإن نقب أحدهما الحرز ودخل، فأخذ المال ورمى به من داخل الحرز إلى خارجه، وخرج ليأخذه وقد أخذه سارق آخر.. فمن أصحابنا الخراسانيين من قال: هو كما لو اشتركا في النقب، وأخرج أحدهما المال إلى بعض النقب، وأخذه الآخر. ووجه الشبه بينهما: أن الرامي لم يتناول المسروق بعد إخراجه إياه من الحرز. كما أن من أخرج المتاع إلى بعض النقب.. لم يتناوله مخرجا. وقال أصحابنا العراقيون وبعض الخراسانيين: يجب القطع هاهنا على الذي رمى بالمال قولا واحدا؛ لأنه أخرج المال من جميع الحرز، فوجب عليه القطع، كما لو خرج وأخذ المال وغصب منه.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا الخراسانيون في كيفية اشتراكهما في نقب الحرز الذي يختلف فيه الحكم في السارقين على ما مَضَى:
فمنهم من قال لا يكونان مشتركين إلا بأن يأخذ آلة واحدة بأيديهما فينقبا الحرز بها معا، كما أنه لا يجب عليهما القود في اشتراكهما في قطع العضو إلا بأن يأخذا آلة واحدة بأيديهما ويقطعا بها العضو معا. فأما إذا نقب كل واحد منهما بعض الحرز بآلة منفردا بها.. فلا يكونان مشتركين في النقب، كما لو أخذ كل واحد منهما آلة، فقطع بها جانبا من العضو وأبانه الآخر.. فإنه لا قَود على واحد منهما في العضو.
ومنهم من قال: يصيران مشتركين في النقب إذا أخذا آلة واحدة بأيديهما ونقبا بها الحرز معا، كما مَضَى. ويصيران شريكين أيضا إذا أخذ كل واحد منهما آلة وانفرد بنقب بعض الحرز، وهو الأصح؛ لأنهما قد اشتركا في نقب الحرز، فهو كما لو اشتركا في النقب بآلة واحدة معا.

[فرع: مقعد وأعمى يشتركان في سرقة]
وإن حمل أعمى مقعدا وأدخله حرزا، وكان المقعد يدل الأعمى على المال، فأخذا منه ما يساوي نصابا.. ففيه وجهان:

(12/463)


أحدهما: يجب عليهما القطع؛ لأن المال لم يخرج إلا بهما، فهو كما لو اشتركا في إخراجه بالمباشرة.
والثاني: لا يجب القطع إلا على الأعمى، وهو الأصح؛ لأنه هو المباشر لإخراجه.

[مسألة: إخراج متاع من بيت في الدار أو الخان إلى رحبتها]
إذا أخرج السارق المتاع من البيت إلى حجرة الدار - وهي: الصحن - نظرت: فإن كان الصحن مشتركا بين سكان في الدار.. وجب القطع على السارق، سواء كان باب الدار مغلقا أو مفتوحا؛ لأن ما في البيت إنما هو مَحرُوز في البيت لا بباب الدار.
وإن كانت الدار جميعها لواحد.. ففيه أربع مسائل:
إحداهن: أن يكون باب البيت الذي أخرج منه المتاع مفتوحا وباب الدار مغلقا.. لم يجب القطع هاهنا؛ لأن ما في البيت مَحرُوز بباب الدار دون باب البيت، ولم يخرج المال عن حرزه.
الثانية: أن يكون باب البيت مغلقا وباب الدار مفتوحا.. فيجب القطع؛ لأن ما في البيت محرز بباب البيت لا بباب الدار، وقد أخرج المال عن حرزه.
الثالثة: أن يكون باب البيت مفتوحا وباب الدار مفتوحا.. فلا يجب عليه القطع؛ لأن المال غير مَحرُوز.
الرابعة: أن يكون باب الدار مغلقا وباب البيت مغلقا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأن المال مَحرُوز بباب البيت، فإذا خرج منه.. وجب عليه القطع، كما لو أخرجه من الدار إلى السكة.
والثاني: لا يجب عليه القطع، وهو الأصح؛ لأن المال محرز بباب البيت وباب الدار، ولم يخرج المال من كمال الحرز، فلم يجب عليه القطع، كما لو كان المتاع في صندوق مقفل في البيت، فأخرجه من الصندوق إلى البيت.

(12/464)


هذا نقل أصحابنا العراقيين: وقال الخراسانيون: إذا كان لرجل بيت في دار له، فأخرج السارق المتاع من البيت إلى الدار، وكان باب البيت مفتوحاً وباب الدار مفتوحاً.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه أخرجه من حرزه الذي أحرز فيه وإن أخرجه إلى حرز آخر.
والثاني: لا يجب عليه القطع، لأن المتاع أحرز بالبابين جميعاً، فلما لم يخرجه منهما.. لم يكمل الإخراج.
وإن كان في الخان بيوت لجماعة، لكل واحد منهم بيت، وكانت أبواب البيوت مغلقة، وباب الخان مغلقاً، فسرق سارق من ساحة الخان وأخرجه من الخان، فإن لم يكن للسارق بيت في الخان.. قطع. وإن كان له بيت في الخان.. لم يقطع؛ لأنه سرق ما هو غير محرز عنه.
إن كان المتاع في بعض بيوت الخان، فأخرجه من لا بيت له في الخان من البيت المغلق إلى ساحة الخان، والخان مغلق الباب.. فهل يقطع؟ فيه وجهان على ما مَضَى.

[مسألة: سرقة الضيف]
وإن نزل رجل ضيفاً برجل، فسرق الضيف من مال صاحب البيت نصاباً.. نظرت: فإن سرق من متاع في البيت الذي أنزل فيه، أو من موضع غير محرز عنه.. لم يقطع؛ لما رَوَى أبُو الزبير، عن جابر أنه قال: أضاف رجل رجلاً، فأنزله في مشربة له، فوجد متاعاً له قد اختانه، فأتى به أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: (خل عنه فليس بسارق، وإنما هي أمانة اختانها) . ولأنه غير مَحرُوز عنه، فلم يقطع فيه، كما لو أخذ الوديعة التي عنده.

(12/465)


وإن سرقه من موضع مَحرُوز عنه.. قطع، وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يقطع) .
دليلنا: أنه سرق نصاباً، لا شبهة له فيه، محرزاً عنه، فقطع كغير الضيف. وعلى هذا يحمل ما روي: (أن رجلاً مقطوع اليد والرجل قدم المدينة ونزل بأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكان يكثر الصلاة في المسجد، فقال أبُو بكر: ما ليلك بليل سارق، فلبثوا ما شاء الله، ففقدوا حليا لهم، فجعل ذلك الرجل يدعو على من سرق أهل هذا البيت الصالح، فمر رجل بصائغ في المدينة، فرأى عنده حلياً، فقال: ما أشبه هذا بحلي آل أبي بكر! فقال للصائغ: ممن اشتريته؟ فقال: من ضيف أبي بكر، فأخذ ذلك الرجل، فأقر أنه سرقه، فبكى أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقلت: ما يبكيك من رجل سرق؟! فقال: أبكي لغرته بالله، ثم أمر فقطعت يده) ، ولم يأمر بقطعه إلا لأنه كان محرزاً عنه، بدليل الحديث الأول عنه.

[مسألة: سرق اختصاصاً لا يعد مالا ككلب ونحوه أو مما يستهان به كالقشور]
وإن سرق ما ليس بمال، كالكلب والخنزير والخمر.. لم يجب عليه القطع.
وقال عطاء: إن سرق الخمر أو الخنزير من الذمي.. وجب عليه القطع.
دليلنا: أن ذلك ليس بمال؛ بدليل: أنه لا يجب على متلفه قيمته، فلم يجب فيه القطع، كالميتة.
فإن سرق إناء يساوي نصابا فيه خمر أو بول.. ففيه وجهان:

(12/466)


أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه سرق نصاباً.
والثاني: لا يجب عليه القطع - وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها سرقة، سقط القطع في بعضها فسقط في جميعها، كما لو سرق مالا مشتركا بينه وبين غيره، والأول أصح؛ لأن سقوط القطع في الخمر لا يوجب سقوط القطع في الإناء.
وإن سرق قشور الرمان وما أشبهها مما يستهان به.. فهل يجب فيه القطع؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع " و " التجريد ":
أحدهما: لا يجب عليه فيه القطع؛ لأنه لا يتمول.
والثاني: يجب فيه القطع، وهو المذهب؛ لأنه مال.

[فرع: سرقة آلات اللهو أو إناء أو صنم من ذهب أو فضة]
قال الشيخُ أبُو حامد وابن الصبَّاغ: إذا سرق طنبوراً، أو مزماراً، أو غير ذلك من آلة اللهو، فإن كانت قيمته على حاله ربع دينار، وإذا أزيل تأليفه كانت قيمته أقل من ربع دينار.. لم يجب فيه القطع؛ لأن تأليفه محرم لا قيمة له. وإن كان إذا نقض تأليفه وصار خشباً يستعمل في أشياء مباحة يساوي ربع دينار فصاعداً.. وجب القطع بسرقته؛ لأنه سرق ما يساوي ربع دينار. وكذلك: إن كانت قيمته بعد نقضه لمنفعة مباحة لا تبلغ ربع دينار إلا أن عليه حلية تبلغ نصاباً بنفسها، أو تبلغ مع قيمته نصاباً.. وجب بسرقته القطع. وذكر الشيخ أبُو إسحاق: إن كان إذا فصل.. صلح لمنفعة مباحة، وأراد: إذا بلغت قيمته نصاباً بعد ذلك.. فهل يجب بسرقته القطع؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجب؛ لما تقدم ذكره.
والثاني: لا يجب بسرقته القطع - وبه قال أبُو حَنِيفَة - لأنه آلة معصية، فلم يجب بسرقته القطع، كالخمر.
والثالث: وهو قول أبي علي بن أبي هُرَيرَة -: إن أخرجه مفصلاً.. قطع، لزوال المعصية. وإن أخرجه غير مفصل.. لم يقطع؛ لبقاء المعصية.
وإن سرق إناء من ذهب أو فضة، فإن كانت قيمته من غير صنعته تبلغ نصاباً..

(12/467)


وجب بسرقته القطع. وإن كانت قيمته لا تبلغ نصاباً إلا بصنعته.. بني على القولين: هل يجوز اتخاذه؟ فإن قلنا: يجوز اتخاذه.. وجب بسرقته القطع. وإن قلنا: لا يجوز اتخاذه.. لم يجب بسرقته القطع.
وإن سرق صنما من ذهب أو فضة، فإن كانت قيمته لا تبلغ نصابا إلا بصنعته.. لم يجب فيه القطع؛ لأن صنعته لا حكم لها؛ لأنه لا يجوز اتخاذه. وإن كانت قيمته تبلغ نصاباً مفصلاً.. فهو كما لو سرق طنبوراً أو مزماراً، على ما مَضَى.

[مسألة: سرقة العبيد]
وإن سرق عبداً نائماً.. وجب عليه القطع، سواء كان صغيراً أو كبيراً.
وإن كان العبد مستيقظاً.. نظرت: فإن كان صغيرا لا يفرق بين طاعة مولاه وبين طاعة غيره.. وجب عليه القطع. وإن كان كبيراً.. نظرت: فإن كان مجنوناً أو أعجمياً لا يفرق بين طاعة مولاه وبين طاعة غيره.. وجب عليه القطع. وبه قال أبُو حَنِيفَة ومالك. وقال أبُو يوسف: لا يجب القطع بسرقة الآدمي بحال.
دليلنا: أنه حيوان مملوك لا يميز، فوجب بسرقته القطع، كالبهيمة.
وإن كان العبد صغيرا مميزا أو كبيراً عاقلاً مميزاً.. لم يجب بسرقته القطع، لأنه إذا قيل له: تعال إلى موضع كذا.. فذلك خدعة وليس بسرقة بحال.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إلا أن أكرهه على الذهاب به.. فيجب عليه القطع. وإن سرق أم ولد نائمة، أو مجنونة، أو أكرهها على طريقة المسعوديّ. هل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنها مال مقوم؛ بدليل: أنه لو أتلفها.. لوجبت عليه قيمتها، فهي كالأمة القنة.
والثاني: لا يجب عليه القطع؛ لأن معنى المال فيها ناقص؛ بدليل أنه لا يملك نقل ملك الرقبة فيها إلى غيره.

(12/468)


[فرع: سرق حرا صغيراً]
وإن سرق حراً صغيراً:.. لم يجب عليه القطع. وبه قال أبُو حَنِيفَة.
وقال مالك: (يجب عليه القطع)
دليلنا: أنه ليس بمال، فلم يجب عليه القطع، كالحر الكبير.
وإن سرق حراً صغيراً عليه حلي يبلغ نصاباً فصاعداً.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه سرق الحلي مع الصبي، فوجب عليه القطع، كما لو سرق الحلي منفرداً.
والثاني: لا يجب عليه القطع. وبه قال أكثر أصحابنا وأبو حَنِيفَة، وهو الأصح؛ لأن يد الصبي ثابتة على ما معه من الحلي؛ ولهذا: لو وجد منبوذاً ومعه حلي.. كان له الحلي، فلم يجب القطع بسرقته، كما لو سرق متاعاً ومالكه نائم عليه.
إذا ثبت هذا: فإن حرز العبد الصغير المستيقظ، والحر الصغير- إذا سرقه مع الحلي، وقلنا: يجب عليه القطع - دار السيد والولي وما يقرب من الدار، فإن كان يلعب مع الصبيان وسرقه سارق من هناك.. وجب عليه القطع؛ لأن السيد والولي لا ينسبان إلى التفريط بتركهما هنالك.. فأما إذا تباعدا عن باب الدار؛ بأن دخلا سكة أخرى، فسرقهما سارق من هنالك.. لم يجب عليه القطع؛ لأن السيد والولي ينسبان إلى التفريط بتركهما له هناك.

[فرع: سرقة العين الموقوفة]
وإن وقف رجل عينا مما ينقل، فسرقها سارق من غير الموقوفة عليهم، فإن قلنا: إن الملك ينتقل في الوقف إلى الموقوف عليه.. فهل يجب القطع على سارقها؟ فيه وجهان، كالوجهين فيمن سرق أم ولد لغيره نائمة أو مجنونة.

(12/469)


وإن قلنا: إن الملك في الوقف ينتقل إلى الله تَعالَى.. فهل يجب القطع بسرقتها؟ فيه وجهان أيضا حكاهما الشيخ أبُو حامد:
أحدهما: لا يجب فيها القطع؛ لأنها غير مملوكة لآدمي، فلم يجب بسرقتها القطع، كالصيود.
والثاني: يجب بسرقتها القطع؛ لأنه مال ممنوع من أخذه، فوجب بسرقته القطع وإن لم يكن له مالك معين، كستارة الكعبة.
وإن وقف نخلا أو شجراً على قوم، فسرق سارق من غير أهل الوقف عليها ما يساوي نصابا.. وجب عليه القطع وجها واحداً؛ لأن ذلك ملك للموقوف عليه، فوجب بسرقته القطع، كغلة الوقف.

[مسألة: سرق الأموال العامة أو ما فيها شبهة ملك للسارق]
ولا يجب القطع بسرقة مال له فيه شبهة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» .
فإن سرق مسلم من مال بيت المال.. لم يقطع، لما رُوِيَ: أن رجلا سرق من بيت المال، فكتب بعض عمال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إليه بذلك، فقال: (خلوه، لا قطع عليه، ما من أحد إلا وله فيه حق) . ورُوِي: (أن رجلا سرق من خُمس الخمس، فرفع إلى عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، - فلم يقطعه ".

(12/470)


هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا سرق مسلم من بيت المال.. فهل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه القطع؛ لما مَضَى.
والثاني: يجب عليه القطع؛ لأنه مال من جملة الأموال.
قال: والصحيح: أنه ينظر فيه: فإن كان المال الذي سرقه منه من مال الصدقات والسارق فقير.. فلا قطع عليه. وإن كان غنيا.. قطع، لأنه لا حق له فيه.. وإن كان المسروق من مال المصالح، فإن كان السارق فقيرا.. فلا قطع عليه، وإن كان غنيا.. فهل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه لا يجوز للإمام أن يملك الغني من مال المصالح شيئا، فلا شبهة له فيه.
والثاني: لا يجب عليه القطع؛ لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، - (ما من مسلم إلا وله في بيت المال حق) وقد يصرف هذا المال في عمارة القناطر والمساجد، فيكون للغني الانتفاع بها، كما يجوز ذلك للفقير.
وإن سرق ذمي من بيت المال.. قطع؛ لأنه لا حق له فيه بحال.
وإن كفن الإمام رجلا بثوب من بيت المال، فنبشه سارق وأخذ الكفن.. قطع؛ لأن الإمام إذا صرف شيئا من مال بيت المال في جهة.. اختص بها، وانتفت الشبهة فيه لسائر الناس.

[فرع: سرقة الشريك من المال المشترك]
] إذا سرق سارق من مال مشترك بينه وبين غيره.. فذكر الشيخ أبُو حامد: أنه لا يقطع؛ لأن له شبهة في كل جزء منه؛ لأنه لا يحرز عنه.
وحكى المسعوديُّ [في " الإبانة "] فيه قولين:
أحدهما: لا يقطع؛ لأنه ما من جزء إلا وهو مشاع بينهما.
والثاني: يقطع؛ لأن مال شريكه لا شبهة له فيه.

(12/471)


فإذا قلنا بهذا.. نظرت: فإن كان المال متساوي الأجزاء؛ بحيث يجبر الشريك على قسمته بالأجزاء بالقرعة، كالدنانير والدراهم والحنطة والشعير.. ففيه وجهان:
أحدهما: إن كانت الدنانير بينهما نصفين، فسرق نصف دينار.. قطع؛ لأنه تحقق أن ربع الدينار ملك الشريك خاصة.
والثاني: لا يقطع بهذا؛ ولكن يجمع حقه فيما سرق؛ فإن كان المشترك دينارين.. لم يقطع إلا بأن يسرق دينارا وربعا.. ولا يقطع إذا سرق دينارا؛ لأن الدينار حقه، والدنانير متماثلة الأجزاء. وإذا امتنع أحد الشريكين من القسمة.. فللآخر أن يأخذ نصيب نفسه، فيجعل هذا السارق كأنه أخذ نصيب نفسه.
وإن كان المال المشترك غير متساوي الأجزاء؛ مثل الثياب ونحوها.. فإنه يقطع إذا سرق ما يساوي نصف دينار.
والفرق بينهما: أن المال إذا كان متساوي الأجزاء، وأخذ دينارا، وله في جملة المال دينار.. صار كأنه أخذ مال نفسه. وإذا كان متفاوت الأجزاء.. فلا يجوز له أخذ شيء منه بحال إلا بإذن شريكه، فإذا سرق ما يساوي نصف دينار.. جعل سارقا لربع دينار، فقطع.
وإن سرق السيد من مال من نصفه حر ونصفه عبد له.. ينظر: فإن سرق من المال الذي له بنصفه الحر وقد أخذ السيد نصيبه منه.. قال القفال: لم يقطع؛ لأن له شبهة في ذلك المال؛ لأن المال إنما يكون في الحقيقة لجميع البدن، ونصف بدنه له، فهو كسرقة مال ولده. وقال أبُو عليّ السنجي: يجب عليه القطع؛ لأنه لا شبهة له في هذا المال؛ لأن العبد يملكه بنصفه الحر ملكا تاما؛ ولهذا: يجب عليه فيه الزكاة، ويورث عنه على الصحيح.

[فرع: السرقة من غلة الوقف]
وإن سرق إنسان من غلة الوقف على الناس.. لم يقطع؛ لأنه من الناس. وإن كان الوقف على الفقراء والمساكين، فسرق من غلته فقير أو مسكين.. لم يقطع؛ لأنه من أهل الوقف. وإن سرق منها غني.. قطع؛ لأنه ليس من أهل الوقف.

(12/472)


[فرع: السرقة لستارة الكعبة أو ما يخص المساجد]
وإن سرق ستارة الكعبة.. فنص الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أنه يجب عليه القطع) .
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه القطع) .
دليلنا: ما رُوِيَ: (أن رجلا سرق قبطية من منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقطعه عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) . ومثل هذا لا يخفى على الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، فدلَّ على: أنه إجماع. ولأن ستارة الكعبة تراد للزينة، وإحرازها نصبها عليها، فإذا سرقها سارق.. فقد سرق نصابا لا شبهة له فيه من حرز مثله، فوجب عليه القطع كسائر الأموال.
قال أصحابنا: وعلى قياس هذا: إن سرق سارية من سواري المسجد أو سرق سقف المسجد أو بابه أو تأزيره.. وجب عليه القطع؛ لأن ذلك يراد لحفظ المسجد وزينته، فهو كستارة الكعبة.
فإن سرق مسلم من قناديل المسجد أو حصره.. لم يجب عليه القطع؛ لأن له أن ينتفع بها، فكان ذلك شبهة في سقوط القطع عنه بسرقتها.

[مسألة: سرقة الوالد من مال ولده وعكسه وسرقة ذَوِي الأرحام]
] : وإن سرق الوالد من مال ولده وإن سفل من قبل البنين أو البنات.. لم يجب عليه القطع. وكذلك: إن سرق الولد من مال أحد آبائه أو أمهاته وإن علوا.. لم يجب عليه

(12/473)


القطع. قال الشيخُ أبُو حامد: وهذا إجماع.
وحكى الشيخُ أبُو إسحاق وابن الصبَّاغ: أن أبا ثور قال: (يجب القطع على جميعهم؛ لعموم الآية) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» فأخبر: أن مال الولد للوالد، فلم يجب عليه القطع بسرقته، كما لو أخذ مال نفسه. وإذا ثبت ذلك في الوالد.. ثبت في الولد؛ لأن لكل واحد منهما شبهة في مال الآخر في وجوب النفقة عليه. وأمَّا الآية: فمخصوصة بما ذكرناه.
وإن سرق من مال ذَوِي رحمه غير الوالدين والأولاد؛ بأن سرق من مال أخيه، أو ابن أخيه، أو عمه، أو من أشبههم.. وجب عليه القطع.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إذا سرق من مال ذي رحم محرم له، كالأخ، وابن الأخ، والعم، والخال، ومن أشبههم. لم يجب عليه القطع. وإن سرق من مال ابن العم، وابن الخال، وما أشبههما.. وجب عليه القطع) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] .
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القطع في ربع دينار» وهذا عام. ولأنهما قرابة لا تمنع قبول الشهادة، فلم تمنع القطع في السرقة، كقرابة ابن العم.

[فرع: لا قطع على العبد في سرقته من مال سيده]
ولا على السيد من مال مكاتبه أو المأذون] : وإن سرق العبد من مال سيده.. لم يقطع. قال الشيخُ أبُو حامد: وهو إجماع.
وحكى الشيخُ أبُو إسحاق: أن أبا ثور قال: (يجب عليه القطع) وحكاه ابن الصبَّاغ عن داود.
دليلنا: ما روى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سرق العبد..

(12/474)


فَبِعهُ ولو بِنَش» . و (النَّش) : عشرون درهما، فأمر ببيعه ولم يأمر بقطعه، فدلَّ على: أن القطع لا يجب عليه. ورُوِي عن السائب بن يزيد: أنه قال: (شهدت عبد الله بن عمرو الحضرمي أتى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، - بغلام له، فقال: اقطعه فإنه سرق، فقال: ما الذي سرق؟ قال: مرآة لامرأتي، قيمتها ستون درهما، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أرسله، فلا قطع عليه، خادمكم سرق مالكم) . وكذلك: رُوِيَ عن ابن مَسعُودٍ، ولا مخالف لهما في الصحابة، فدلَّ على: أنه إجماع. ولأن له شبهة في مال سيده؛ لاستحقاقه النفقة في ماله، كالأب إذا سرق مال ابنه. والآية مخصوصة بما ذكرناه.
قال المسعوديُّ [في" الإبانة "] : وإن سرق السيد من مال مكاتبه أو عبده المأذون.. لم يجب عليه القطع.

[فرع: سرقة أحد الزوجين من مال الآخر]
وإن سرق أحد الزوجين من مال الآخر نصابا.. نظرت: فإن سرق من مال غير محرز عليه.. لم يجب عليه القطع. وإن سرق من مال محرز عنه.. فقد قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (لا يجب عليهما القطع) . وقال: في موضع آخر: (يجب عليهما القطع) . واختلف أصحابنا في ترتيب المذهب فيها: فقال الشيخُ أبُو حامد: فيها طريقان:

(12/475)


أحدهما: أنهما على حالين: فالموضع الذي قال: (لا يجب عليهما القطع) أراد: إذا كان مال كل واحد منهما مختلطا بمال الآخر؛ لأنه غير محرز عنه. والموضع الذي قال: (يجب عليهما القطع) أراد: إذا كان مال واحد منهما منفردا عن مال الآخر محرزا عنه.
والطريق الثاني: إذا كان مال أحدهما مختلطا بمال الآخر.. فلا يجب على أحدهما القطع بسرقة مال الآخر قولا واحدا؛ لأنه غير محرز عنه. وإن كان مال أحدهما منفردا عن مال الآخر محرزا عنه.. ففيه قولان - قال: وهو الأصح -:
أحدهما: لا يجب عليه القطع - وهو قول أبي حَنِيفَة - لأن ما لم يقطع عبده بسرقة ماله.. لم يقطع سيده بسرقته. وقد رُوِيَ عن عمر: أنه قال: في غلام الحضرمي الذي سرق مرآة امرأته: (أرسله: فلا قطع عليه، خادمكم أخذ متاعكم) .
ولأن كل واحد من الزوجين له شبهة في مال الآخر؛ أما الزوجة: فلاستحقاقها النفقة في مال الزوج، وأمَّا الزوج: فلأنه يملك الحجر عليها ومنعها من التصرف في مالها- على قول بعض الفقهاء - ولأن العادة أن كل واحد من الزوجين لا يحرز ماله عن الآخر، وإن فعل ذلك.. كان نادرا، فألحق النادر بالغالب.
والثاني: يجب عليهما القطع، وهو الصحيح؛ لعموم الآية والخبر. ولأن الزوجية عقد تستباح به المنفعة، فلم تؤثر في إسقاط القطع، كالإجارة.. وما رُوِيَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.. فيحمل على: أنه سرق من موضع ليس بمحرز عنه.
وذكر القاضي أبُو الطيب والشيخ أبُو إسحاق: إذا سرق أحد الزوجين من مال الآخر ما هو محرز عنه.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجب عليه القطع.

(12/476)


والثاني: لا يجب عليهما القطع؛ لما ذكرناه.
والثالث: يجب القطع على الزوج بسرقة مال الزوجة؛ لأنه لا يستحق حقا في مالها. ولا يجب القطع على الزوجة بسرقة مال الزوج؛ لأن الزوجة تستحق حقا في ماله.
فإذا قلنا: لا يقطع أحدهما بسرقة مال الآخر.. لم يقطع عبد أحدهما بسرقة مال الآخر؛ لما رَوَيْنَاهُ من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأرضاه. وإذا قلنا: يقطع أحدهما بسرقة مال الآخر.. قطع عبد أحدهما بسرقة مال الآخر.

[فرع: سرقا معا وأحدهما ولد صاحب الحرز أو والده]
أو أحدهما صبي والآخر بالغ] :
وإن نقب رجلان حرزا لرجل، ودخلا وأخذا نصابين، وأحدهما ولد صاحب الحرز أو والده، أو نقب صبي وبالغ حرزا وأخذا نصابين.. وجب القطع على الأجنبي والبالغ. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليهما القطع) .
دليلنا: أنه يجب عليه القطع بانفراده بالسرقة، فمشاركة الآخر له في السرقة لا تسقط القطع عنه، كما لو سرق شيئين يجب القطع في أحدهما دون الآخر.

[مسألة: سرقة الرهن من حرز المرتهن ونحوه أو السارق من السارق والغاصب]
إذا سرق السارق الرهن من حرز المرتهن أو العدل، أو سرق العين المستأجرة من حرز المستأجر، أو العين المودعة من حرز المودع، أو العين المستعارة من حرز المستعير، أو مال القراض من حرز العامل.. وجب على السارق القطع؛ لأن المالك قد رضي بهذا الحرز حرزا لماله؛ إلا أن المطالب بالمال أو القطع هو مالك المال دون المرتهن والمستأجر والمودع والمستعير؛ لأنه هو المالك للمال.
فإن سرق سارق نصابا من حرز مثله، فأحرزه في حرز له، فسرقه سارق آخر من حرز هذا السارق.. فإن السارق الأول قد وجب عليه القطع بسرقته، وأمَّا السارق الثاني.. فليس للسارق الأول مطالبته برد النِّصَاب إليه ولا بالقطع؛ لأنه لا حق له فيه -

(12/477)


وهذا وفاق بيننا وبين أبي حَنِيفَة - ولمالك النِّصَاب أن يطالب السارق الثاني برده، وهل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه سرق نصابا لا شبهة له فيه من حرز مثله، فوجب عليه القطع، كالسارق الأول.
والثاني: لا يجب عليه القطع، وهو الصحيح؛ لأن مالك النِّصَاب لم يرض بهذا الحرز حرزا لماله.
وإن غصب رجل من رجل نصابا وأحرزه في حرز مثله، فسرقه سارق من ذلك الحرز.. فإن الغاصب لا قطع عليه، وليس للغاصب مطالبة السارق برد العين المغصوبة إليه قبل أن يطالبه المالك برد النِّصَاب. وقال أبُو حَنِيفَة: (له المطالبة بذلك) .
دليلنا: أنه غير مالك للنصاب، فلم يكن له المطالبة برده إليه كالسارق.
إذا ثبت هذا: فللمالك مطالبة أيهما شاء برد النِّصَاب، وهل يجب القطع على السارق من الغاصب؟ على الوجهين.
وإن غصب رجل من رجل شيئا وأحرزه بحرز مثله، فنقب المغصوب منه حرز الغاصب، فإن أخذ مال نفسه لا غير.. فلا قطع عليه؛ لأنه يستحق أخذه.
وإن سرق معه نصابا من مال الغاصب.. نظرت: فإن كان المال المغصوب منه مخلوطا بمال الغاصب غير مميز عنه.. قال الشيخُ أبُو حامد، وابن الصبَّاغ، وأكثر أصحابنا: لم يجب القطع على المغصوب منه وجها واحداً؛ لأنه لا يمكنه أخذ مال نفسه إلا بأخذ مال الغاصب، وذلك شبهة له في سرقة مال الغاصب، فلم يجب عليه القطع. وإن كان مال الغاصب غير مختلط بمال المغصوب منه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه القطع؛ لأن له هتك الحرز لأخذ مال نفسه، فإذا أخذ مال الغاصب.. فقد أخذه من حرز مهتوك، فلم يجب عليه القطع.

(12/478)


والثاني: يجب عليه القطع؛ لأنه لما أخذ مال الغاصب.. علمنا أنه هتك الحرز ليسرق، فإذا سرق.. وجب عليه القطع.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق: إذا سرق المغصوب منه من مال الغاصب نصابا مع مال نفسه.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يجب عليه القطع.
والثاني: يجب عليه القطع؛ لما مَضَى.
والثالث: إن كان ما سرقه متميزا عن ماله.. قطع؛ لأنه لا شبهة له في سرقته. وإن كان مختلطا بماله.. لم يقطع؛ لأنه لا يتميز ما يجب فيه القطع بما لا يجب فيه القطع، فعلى قوله.. في المال المخلوط وجهان، وفي غير المختلط وجهان.

[فرع: نقب من له دين على حرز من عليه الدين]
وإن كان لرجل على رجل دين، فنقب من له الدين حرزا لمن عليه الدين، وأخذ من ماله قدر دينه، وهو نصاب.. فقد قال الشافعي: (لا قطع عليه) .
وقال أصحابنا: إنما لا يجب عليه القطع إذا كان من عليه الدين مماطلا بما عليه له من الدين مانعا له عنه؛ لأن له أن يتوصل إلى أخذ دينه عند منعه بأي وجه قدر عليه. وإن كان من عليه الدين باذلا له دينه.. وجب عليه القطع؛ لأنه لا حاجة به إلى هتك الحرز، وأخذ ذلك من غير رضا من عليه الدين.
قال ابن الصبَّاغ: فإن كان من عليه الدين غير باذل له دينه، فأخذ من له الدين أكثر من دينه.. كان كالمغصوب منه إذا سرق من مال الغاصب مع مال نفسه على ما ذكرناه، وأراد كما لو سرق المغصوب منه من مال الغاصب نصابا متميزا عن ماله.. فهل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان.

(12/479)


[فرع: سرقة الطعام في المجاعة]
وإن سرق سارق الطعام عام المجاعة.. نظرت: فإن كان الطعام موجودا، وإنما هو غال.. وجب عليه القطع؛ لأنه إذا كان موجودا.. فليس لأحد أخذه بغير إذن مالكه، فهو كالطعام في غير المجاعة. وإن كان الطعام غير موجود.. فلا قطع على من سرقه ليأكله؛ لما رُوِيَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (لا قطع في عام المجاعة) ، ورُوِي عنه: أنه قال: (لا قطع في عام السنة) ، وعام القحط يسمى: السنة.
ورُوِي عن مروان: أنه أتي بسارق فلم يقطعه، وقال: أراه مضطرا إليه. ولأن من اضطر إلى طعام غيره.. فله أن يأخذه ويقاتل صاحبه، وهذا السارق مضطر إليه، فلم يقطع بسرقته.

[فرع: سرقة المؤجر من المستأجر أو المعير من المستعير]
وإن استأجر رجل بيتا فأحرز فيه ماله، فنقبه المؤجر وسرق منه نصابا للمستأجر.. وجب عليه القطع. وبه قال أبُو حَنِيفَة. وقال أبُو يوسف ومحمد: لا يجب عليه القطع.

(12/480)


دليلنا: أنه سرق نصابا لا شبهة له فيه من حرز مثله، فوجب عليه القطع، كما لو سرقه من بيت صاحب المال.
فإن أعار رجل رجلا بيتا، فأحرز فيه المستعير ماله، فنقبه المعير وسرق منه نصابا.. قال الشيخُان: أبُو حامد وأبو إسحاق: فهل يجب عليه القطع؛ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه القطع؛ لأن له الرجوع في عاريته متى شاء، فإن نقب البيت.. فقد رجع في عاريته فهتك حرز نفسه، فلم يجب عليه القطع بالسرقة منه.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يجب عليه القطع) ، لأنه لما أعاره.. ملك المستعير إحراز ماله فيه، فإذا سرق منه المعير.. فقد سرق من حرز حق، فوجب عليه القطع، كما لو أحرزه في داره.
وقال ابن الصبَّاغ والمسعوديُّ [في " الإبانة "] : الوجهان إذا نوى المعير الرجوع في العارية عند النقب، فإذا لم ينو الرجوع عند ذلك.. قطع وجها واحدا.
وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه: (لا يجب عليه القطع) وقد مَضَى الدليل عليه.

[مسألة: هبة أو بيع المسروق منه]
السارق العين المسروقة] :
وإذا وهب المسروق منه العين المسروقة من السارق أو باعها منه.. لم يسقط القطع. قال أصحابنا: سواء وهبها منه أو باعها، قبل أن يترافعا إلى الحاكم أو بعد أن يترافعا؛ فإنه لا يسقط القطع، إلا أنه إذا وهبها منه أو باعها منه بعد أن يترافعا إلى الحاكم.. فلا يسقط القطع ويستوفيه الحاكم منه. وإذا وهبها منه أو باعها منه قبل أن يترافعا إلى الحاكم.. فإن القطع لا يسقط، ولكن لا يمكن استيفاؤه منه؛ لأنه بالهبة والبيع قد سقطت مطالبته له، والإمام لا يقطع السارق إلا بمطالبة المسروق منه به، فإذا لم يكن من يطالب بالقطع.. لم يكن استيفاء القطع.
هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق.

(12/481)


وقال أبُو حَنِيفَة: (إذا وهبها منه وأقبضه إياها.. سقط عنه القطع، سواء كان قبل الترافع إلى الحاكم أو بعد الترافع) .
وقال: قوم من أصحاب الحديث: إن وهبها منه قبل الترافع.. سقط القطع، وإن وهبها منه بعد الترافع.. لم يسقط القطع. وحكي ذلك عن أبي يوسف وابن أبي ليلى.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القطع في ربع دينار» . ولم يفرق بين أن يهبها منه أو لا يهبها. «ورُوِي: أن صفوان بن أمية نام في مسجد المدينة متوسدا رداءه، فسرقه رجل من تحته، فانتبه صفوان وصاح، وأخذ السارق وأتى به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقطعه، فقال: صفوان: يا رسول الله، ما أردت هذا، هو عليه صدقة، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فهلا قبل أن تأتيني به" وقطعه» . فلو كانت الهبة تسقط القطع.. لنبه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على إتمامها. وأمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فهلا قبل أن تأتيني به» ففيه تأويلان:
أحدهما: أنه أراد: فهلا سترت عليه ولم تأتني به.
والثاني: أنه أراد: فهلا وهبت له قبل أن تأتيني به؛ فيسقط استيفاء القطع لسقوط المطالبة.
ولأنه ملك حدث بعد وجوب الحد، فلم يسقط الحد، كما لو زنَى بأمة ثم اشتراها.
إذا ثبت هذا: فذكر الشيخ أبُو إسحاق: أنه إذا وهبها بعد ما رفع إلى السلطان.. لم يسقط القطع. ولا يجوز أن يقال: إنه أراد: إذا وهبها منه قبل أن يرفع إلى السلطان.. يسقط القطع؛ لأنه لم يذكر ذلك، وليس لكلامه دليل خطاب، وإنما أراد به: أنه يسقط الاستيفاء، كما قال سائر أصحابنا.

[مسألة: إقرار السارق بدعوى من المسروق منه أو بدونها]
إذا ادعى رجل على رجل أنه سرق منه نصابا منه حرز مثله، فأقر المدعى عليه بذلك.. لزمه غرم النِّصَاب، والقطع بإقراره مرة. وبه قال مالك، وأبو حَنِيفَة، وأكثر أهل العلم.

(12/482)


وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو يوسف، وزفر، وأحمد، وإسحاق: (لا يلزمه القطع إلا بأن يقر بالسرقة مرتين) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أتى من هذه القاذورات شيئا.. فليستتر بستر الله؛ فإن من أبدى لنا صفحته.. أقمنا عليه حد الله» ولم يفرق بين أن يقر مرة أو مرتين.
فإن رجع عن إقراره.. سقط عنه القطع. وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال ابن أبي ليلى وداود: (لا يسقط عنه القطع) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لأنه يتعلق به صيانة أموال الآدميين. والمذهب الأول؛ لما «رَوَى أبُو أمية المخزومي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى بسارق، فاعترف بالسرقة ولم يوجد معه متاع، فقال له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أخالك سرقت". فقال: بلى، فكرر عليه ذلك ثلاثا وهو يقول: بلى، ثم أمر بقطعه فقطع، ثم قال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تب إلى الله واستغفره" فقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم اغفر له وتب عليه» ، فلولا أن القطع يسقط بالرجوع.. لما عرض له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرجوع.
فإن قطعت بعض يده ثم رجع، فإن كانت يده إذا لم يتم قطعها رجي اندمالها ومنفعتها.. لم يجز قطعها. وإن كانت إذا لم يتم قطعها لا يرجى في تركها منفعة، بل يخشى ضررها.. فالسارق بالخيار: بين أن يقطعها ليستريح منها، وبين أن يتركها.

(12/483)


إذا ثبت هذا: فإن المال لا يسقط برجوعه. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: هل يسقط المال برجوعه عن إقراره بالسرقة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يسقط، كما لو أقر أنه غصب من غيره عينا ثم رجع.
والثاني: يسقط عنه؛ لأنه إقرار واحد، فإذا قبلنا رجوعه فيه في بعض أحكامه.. قبلنا رجوعه في الجميع.
وإن أقر أنه سرق نصابا لرجل من حرز مثله من غير دعوى، فصادقه المقر له.. وجب عليه ضمان النِّصَاب والقطع. وإن كذبه المقر له وقال: كنت وهبته أو أبحته له أو للناس.. لم يجب القطع؛ لأن القطع لا يجب إلا بمطالبة المسروق منه، ولا مطالبة مع ذلك.

[فرع: ادعاء رجل على آخر أنه سرقه]
وإن ادعى رجل على رجل أنه سرق منه نصابا من حرز مثله، وأنكر المدعى عليه، فأقام المدعي شاهدين ذكرين.. وجب عليه الضمان والقطع، ولا يجب عليه ذلك حتى يبين الشاهدان جنس المال وقدر النِّصَاب وصفة الحرز؛ لأن الناس مختلفون في ذلك، فوجب بيانه لينظر الحاكم فيه.
قال: القاضي أبُو الطيب: ويقولا: ولا نعلم أن له فيه شبهة.
قال ابن الصبَّاغ: وينبغي أن يكون هذا تأكيدا، لأن الأصل عدم الشبهة.
فإن قال: المشهود عليه: كذب الشاهدان، ولم أسرق.. لم يلتفت إلى قوله ولم يسقط القطع. وإن قال: المشهود عليه: صدق الشاهدان، كنت أخذته من حرز مثله ولكنه مال لي غصبه مني، أو كنت ابتعته منه أو وهبه لي وأذن لي بقبضه، أو أباحه لي أو للناس، فأنكر المسروق منه ذلك.. لم يسمع قول السارق في إسقاط حقه من المال فيحلف المسروق منه؛ لأن الأصل عدم ما ادعاه السارق، ويأخذ المسروق منه ماله. وأمَّا القطع.. فيسقط.

(12/484)


وقال أبُو إسحاق: لا يسقط؛ لأن هذا يؤدي إلى: أن كل من ثبت عليه قطع السرقة ادعى ذلك، فيسقط القطع. والمذهب الأول؛ لأن القطع حد، والحد يسقط بالشبهة، وذلك شبهة؛ لأنه يجوز صدقه. وهكذا: لو وجد مع امرأته رجلا يزني بها، فقال: هذه زوجتي، فكذبته.. فإنه يسقط الحد عنه.
وإن ادعى عليه أن سرق منه نصابا من حرز مثله، فأنكر المدعى عليه، فأقام المدعي على ذلك شاهدا وامرأتين، أو شاهدا وحلف معه.. ثبت للمدعي المال الذي ادعاه؛ لأنه يثبت بذلك المال، وأمَّا القطع: فلا يثبت؛ لأن القطع ليس بمال ولا المقصود منه المال. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: لا يثبت القطع، وهل يثبت المال؟ فيه قولان:
أحدهما: يثبت؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يثبت؛ لأن المال هاهنا تبع للقطع، فإذا لم يثبت القطع.. لم يثبت المال؛ لأنها شهادة واحدة، فلم تتبعض.
وإن ادعى على رجل أنه سرق نصابا من حرز مثله، فأنكر المدعى عليه، ولا بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه. فإن حلف.. لم يجب عليه غرم ولا قطع. وإن نكل.. حلف المدعي وثبت له الغرم، ولا يثبت القطع؛ لأنه حد لله تَعالَى، فلا يثبت بيمين المدعي.

[فرع: شهدا أنه سرق نصابا من رجل غائب أو أقر بذلك]
أو أنه غصبه منه غصبا] :
وإن شهد شاهدان على رجل أنه سرق نصابا من حرز مثله لرجل، والمسروق منه غائب.. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لا يقطع السارق حتى يحضر المسروق منه) وقال: (لو شهد أربعة على رجل بأنه زنَى بأمة لرجل وهو غائب.. حد، ولا يعتبر حضور السيد) . واختلف أصحابنا فيهما على ثلاثة طرق:
فـ[الطريق الأول] : قال أبُو العباس: لا يقطع حتى يحضر المسروق منه، ولا يقام الحد حتى يحضر سيد الأمة قولا واحدا؛ لأن الحد يسقط بالشبهة، ويجوز أن

(12/485)


يكون عند الغائب شبهة يسقط بها الحد؛ بأن يقول في السرقة: كنت وهبته له أو أوقفته عليه، وفي الزِّنَى يجوز أن يقول: كنت وقفتها عليه، ومن نقل إقامة الحد قبل حضور السيد.. فخطأ.
و [الطريق الثاني] : نقل أبُو إسحاق جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين:
أحدهما: لا يجوز إقامة الحدين قبل حضور المالكين؛ لما ذكرناه.
والثاني: يجوز، لأن الحد قد وجب في الظاهر، فلا يجوز تأخيره.
و [الطريق الثالث] : حملهما أبُو الطيب ابن سلمة على ظاهرهما، فقال لا يجوز القطع قبل حضور المالك، ويجوز إقامة حد الزِّنَى قبل حضور السيد؛ لأن الحد في السرقة يسقط بإباحة المالك، والحد في الزِّنَى لا يسقط بالإباحة. ولأن قطع السرقة أوسع في الإسقاط؛ ولهذا: لو سرق مال والده.. لم يقطع، ولو زنَى بأمة والده.. حد. وإن أقر رجل أنه سرق نصابا من حرز مثله لرجل غائب، أو زنَى بجارية لرجل وهو غائب.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: تبنى هذه على التي قبلها، وهو: إذا ثبتت بالسرقة والزنا بالبينة، فإن قلنا: يقطع السارق ويحد الزاني قبل حضور المالك.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: لا يقطع السارق ولا يحد الزاني حتى يحضر المالك.. فهاهنا وجهان.
والفرق بينهما: أن ذلك إذا ثبت بالبينة.. جاز أن تكون البينة كاذبة. وإذا ثبت ذلك بإقراره.. فقد أقر على نفسه.
وذكر الشيخ أبُو حامد: إذا أقر بالسرقة ابتداء من غير دعوى.. لم يقطع حتى يحضر المسروق منه، فيطالبه.
وقال أبُو إسحاق: يقطع ولا ينتظر حضوره؛ لأن القطع قد لزم بإقراره، فلا معنى لانتظاره.
والمذهب: أنه لا يقطع؛ لأن الحد يسقط بالشبهة، ويجوز أن يكون عند الغائب

(12/486)


شبهة يسقط بها القطع. فإذا قلنا: يقطع.. فلا كلام. وإذا قلنا: لا يقطع.. فهل يحبس السارق إلى أن يحضر المسروق منه؟ قال الشيخُان: فيه وجهان:
أحدهما: يحبس؛ لأن الحد قد وجب في الظاهر، وإنما أخر استيفاؤه خوف أن يكون هناك شبهة يسقط بها القطع، فوجب حبسه، كما لو وجب القطع لصبي أو مجنون.
والثاني: إن كانت غيبة المسروق منه قريبة.. حبس السارق إلى أن يقدم. وإن كانت بعيدة.. لم يحبس؛ لأن على السارق ضررا في الحبس إلى أن يحضر من الغيبة البعيدة، ولا ضرر عليه في الحبس إلى أن يحضر من الغيبة القريبة.
فإن أقر رجل أنه غصب من رجل غائب مالا.. لم يحبسه الحاكم.
والفرق بينهما: أن من أقر بالغصب.. أقر بحق للمغصوب منه، فلا يتعلق للحاكم به مطالبة، فلم يستحق حبسه. ومن أقر بالسرقة.. أقر بما يتعلق به للحاكم مطالبة، وهو القطع، فملك حبسه. وقال ابن الصبَّاغ: هل يحبس السارق؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحبس؛ لما مَضَى.
والثاني: إن كانت العين المسروقة تالفة.. حبس. وإن كانت باقية.. نظرت: فإن كانت غيبته قريبة.. أخذت منه العين وحبس. وإن كانت بعيدة.. أخذت منه العين ولم يحبس.

[فرع: أقرا بسرقة عين ذات نصاب أو ادعى السارق أنها ملك لسيده]
أو لفلان أذن له فيها] :
وإن أقر رجلان بسرقة عين قيمتها نصاب من حرز مثلها.. وجب عليهما القطع. فإن رجع أحدهما عن إقراره، وأقام الآخر على إقراره.. سقط القطع عن الراجع ولم يسقط عن الآخر؛ لأن حكم كل واحد منهما معتبر بنفسه.
وإن قال أحدهما: هذه العين لي، وصدقه شريكه، أو ادعاها شريكه لنفسه، وكذبهما المسروقة منه.. لم يقبل قولهما في ملك العين، ويسقط القطع عنهما على المذهب. وأمَّا إذا ادعاها لنفسه وكذبه شريكه، وقال: بل سرقناها.. فإن القطع يسقط عن الذي ادعاها أنها له، وهل يسقط القطع عن شريكه المكذب؟ فيه وجهان:

(12/487)


[أحدهما] : قال ابن القاص وابن الصبَّاغ: لا يسقط عنه القطع؛ لأنه مقر بالسرقة ولا يدعي شبهة.
و [الثاني] : قال القفال: يسقط عنه القطع؛ لجواز صدق شريكه المدعي أنها له. ألا ترى أن رجلا لو سرق عينا من رجل، فقال: المسروق منه: العين للسارق، كنت وهبتها له أو أبحتها له.. سقط القطع؟ وكذلك هذا مثله.
فأما إذا قال أحدهما: هذه العين لشريكي الذي أخذها معي وأخذتها مع بإذنه، فقال: شريكه: ليست لي، وإنما سرقناها.. قال: الطبري في " العدة ": فلا قطع على هذا المدعي؛ لأن ما ادعاه محتمل. وهل يجب القطع على شريكه؟ فيه وجهان بناء على الوجهين، إذا شهدا على رجل بما يوجب القتل فقتل، ثم رجعا عن الشهادة، وقال أحدهما: تعمدنا الشهادة عليه ليقتل، وقال الآخر: بل أخطأنا.. فلا قَود على الذي قال: أخطأنا، وهل يجب الوقود على المقر بعمدها؟ فيه وجهان.
وإن شهد شاهدان على عبد لرجل أنه سرق نصابا لرجل من حرز مثله.. وجب عليه القطع. فإن قال: العبد: المال الذي سرقته لسيدي، فإن صدقه السيد.. سقط القطع عن العبد. وإن قال: السيد: المال ليس لي.. فقد قال ابن القاص: يسقط القطع عن العبد.
فمن أصحابنا من سلم له ذلك؛ لأن العبد ادعى ما لو ثبت.. سقط عنه به القطع، فصار كالحر إذا سرق وادعى أنه يملك ما سرقه.
ومنهم من قال لا يسقط عنه القطع؛ لأنه لا يدعي لنفسه شيئا، وإنما ادعى ملكه لمن لا يدعيه، فلم يسقط عنه القطع.
وإن قال: السارق: هذه العين لفلان وقد أذن لي في أخذها، فقال: فلان: ليست لي.. فهل يسقط القطع عن السارق؟ على الوجهين في العبد.

[مسألة: قيام البينة على سرقة عبد نصابا أو أقر هو أو سيده بذلك]
إذا قامت البينة على عبد لرجل أنه سرق لغيره نصابا.. وجب عليه القطع. فإن كان

(12/488)


باقيا.. وجب رده، سواء كان في يد العبد أو في يد سيده. وإن كان تالفا.. بيعت رقبة العبد لإيفاء حق المسروق منه.
وإن أقر السيد على عبده أنه سرق لغيره نصابا وكذبه العبد.. لم يقطع العبد؛ لأن السيد لا يملك من عبده إلا المال، والقطع ليس من المال، ويقبل إقرار السيد عليه بالمال، فيباع به.
وإن أقر العبد أنه سرق من غير سيده أقل من نصاب، أو نصابا من غير حرز، فإن صدقه المولى.. كان كما لو قامت عليه البينة في وجوب ضمان ذلك في رقبته. وإن كذبه المولى.. لم يقبل إقرار العبد على السيد في تعلق ذلك برقبته؛ لأنه متهم في إزالة ملك السيد عنه، فتعلق ذلك بذمته إلى أن يعتق.
وإن أقر العبد بسرقة تقتضي القطع، فإن صدقه المولى.. فلا كلام، وإن كذبه المولى.. لزمه القطع.
وقال المزني وأحمد ومحمد بن جرير الطبري وأبو يوسف وزفر: (لا يقبل إقراره) .
دليلنا: أنه لا يتهم في الإقرار بما يوجب قطعه. فإن كان المسروق في يد السيد.. لم يقبل إقرار العبد عليه، بل يتعلق بذمته إلى أن يعتق. وإن كان المسروق في يد العبد أو تالفا.. فهل يقبل إقراره على المولى بالمال المسروق؟ فيه قولان:
أحدهما: يقبل؛ لأنه إقرار واحد، وقد زالت التهمة عنه فيه، فإذا قبل في بعضه.. قبل في جميعه.
والثاني: لا يقبل؛ لأنه إقرار بالمال، فلم يقبل على السيد، كما لو أقر بالمال في غير السرقة. واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا كان المال المسروق باقيا في يد العبد، فأما إذا كان

(12/489)


تالفاً.. فلا يقبل إقراره قولا واحدا في حق المولى في تعلق المال برقبته، بل يتعلق بذمته إلى أن يعتق؛ لأن المسروق إذا كان باقيا.. فالإقرار يتعلق به، وإذا كان تالفا.. لم يتعلق الإقرار بالمسروق، وإنما يتعلق برقبة العبد، فلم يقبل إقراره، كما لو أقر بغصب مال أو إتلافه. ومنهم من قال: القولان إذا كان المسروق تالفا:
أحدهما: يقبل على المولى، فتباع رقبته.
والثاني: لا يقبل، فيتعلق بذمته إلى أن يعتق.
فأما إذا كان المسروق باقيا في يده.. فلا يقبل على المولى قولا واحدا، بل يتعلق بذمته إلى أن يعتق؛ لأن يد العبد كيد المولى. ولو أقر بعين في يد المولى.. لم يقبل، فكذلك إذا أقر بعين في يده.
ومنهم من قال: القولان في الحالين، سواء كان المسروق باقيا أو تالفا؛ لأن العبد وما في يده في حكم ما في يد المولى، فإذا قبل إقرار العبد على المولى في أحدهما.. قبل في الآخر، وإذا لم يقبل إقراره في أحدهما.. لم يقبل في الآخر.

[مسألة: لا عفو ولا شفاعة إذا ثبتت السرقة الموجبة للقطع لدى السلطان]
وإذا ثبتت السرقة الموجبة للقطع عند السلطان أو الحاكم.. لم يجز له أن يعفو عنه، ولا لغيره أن يشفع إليه في ذلك؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق، فأمر به فقطع، فقيل: يا رسول الله، ما كنا نرى أنك تبلغ به هذا؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو كانت فاطمة بنت محمد.. لأقمت عليها الحد» .
ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقطع امرأة من بني مخزوم، فاجتمع أهلها وأقرباؤها، وقالوا: نسأل أسامة بن زيد، فإنه حب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل رسول الله، في أمرها، فسألوه، فسأله، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "لا تسألوني في حد" ثم صعد المنبر، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم؛ لأنهم كانوا: إذا سرق فيهم الشريف..

(12/490)


تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع.. قطعوه. والذي بعثني بالحق نبيا: لو سرقت فاطمة.. لقطعتها» . ورُوِي: «أن الزبير شفع في سارق، فقيل له: حتى يأتي السلطان، فقال: إذا بلغ السلطان.. فلعن الله الشافع والمشفع، كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
ولأن الحد لله، فلا يجوز العفو عنه ولا الشفاعة فيه: كسائر حقوق الله.

[مسألة: ما يقطع من السارق وماذا لو سرق ثم قطع ثم سرق وهكذا؟]
إذا سرق أول مرة.. قطعت يده اليمنى؛ لقول تَعالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] ، ورُوِي عن ابن مَسعُودٍ: أنه كان يقرؤها: "فاقطعوا أيمانهما". والقراءة الشاذة تجري مجرى أخبار الآحاد. ورُوِي «عن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: في السارق: "إذا سرق.. فاقطعوا يده اليمنى". و: (أتي النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسارق، فقطع يمينه»

(12/491)


ورُوِي ذلك عن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولا مخالف لهما.
وإن سرق ثانيا بعد أن قطعت يده اليمنى.. قطعت رجله اليسرى. وبه قال عامة أهل العلم إلا عطاء؛ فإنه قال: تقطع يده اليسرى.
دليلنا: ما رُوِيَ: «أن نجدة الحروري كتب إلى ابن عبَّاس يسأله: هل قطع رسول الله، في المرة الثانية اليد أو الرجل؟ فكتب إليه: (بل قطع الرجل بعد اليد» .
فإن سرق بعد أن قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى.. قطعت يده اليسرى. فإن سرق بعد ذلك.. قطعت رجله اليمنى. وبه قال مالك وأحمد وإسحاق.
وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه والأَوزَاعِي: (لا يقطع في الثالثة ولا في الرابعة، بل

(12/492)


يحبس) . ورُوِي ذلك عن عليّ بن أبي طالب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] واسم اليد يقع على اليمنى واليسرى. وروى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: في السارق: «إن سرق.. فاقطعوا يده، ثم إن سرق.. فاقطعوا رجله، ثم إن سرق.. فاقطعوا يده، ثم إن سرق.. فاقطعوا رجله» . وروى جابر: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق فقطع يده، ثم أتي به ثانيا فقطع رجله، ثم أتي به ثالثا فقطع يده، ثم أتي به رابعا فقطع رجله، ثم أتي به خامسا.. فقتله» و: (قطع أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، يد الرجل الذي سرق من بيته الحلي- وكان مقطوع اليد والرجل- عند ذلك) ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة. وكذلك فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فإن سرق خامسا.. فإنه يحبس ويعزر، ولا يقتل.

(12/493)


وقال: عُثمانَ بن عفان وعبد الله بن عمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز: (يقتل) ؛ لحديث جابر.
دليلنا: ما ذكرناه من حديث أبي هُرَيرَة؛ فإنه بين حكم السارق ولم يذكر القتل. وأمَّا حديث جابر.. فمحمول على أنه قتله بزنا أو ردة.

[فرع: مكان قطع اليد والرجل حدا]
وإذا أراد الإمام قطع يد السارق.. فإنه يقطعها من مفصل الكوع. ورُوِي عن بعض السلف أنه قال: تقطع الأصابع دون الكف. وهي إحدَى الروايتين عن عليّ.
وقالت الخوارج: يقطع من المنكب.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] . وإطلاق اسم اليد ينصرف إلى اليد من الكوع؛ بدليل ما رُوِيَ: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في اليد خمسون من الإبل» ، واليد التي يجب بها خمسون إنما هي اليد من الكوع. ورُوِي عن أبي بكر: أنه قال: (إذا سرق.. فاقطعوا يده اليمنى من الكوع) . وكذلك رُوِيَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. ولأن البطش يقع بذلك.
وإذا أراد قطع رجله.. فإنه يقطعها من مفصل القدم.
ورُوِي عن عليّ: أنه قال: (يقطع من شطر القدم) . وبه قالت الرافضة وأبو ثور.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن سرق.. فاقطعوا رجله» ، وإطلاق اسم الرجل إنما ينصرف إلى الرجل من مفصل القدم، بدليل: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الرجل خمسون من الإبل» ، وذلك إنما ينصرف إلى الرجل من مفصل القدم.

(12/494)


[فرع: قطع السارق الذي فقد إحدَى يديه ونحو ذلك]
إذا قطعت يده اليمنى بجناية أو قصاص، أو سقطت بآكلة، ثم سرق.. قطعت رجله اليسرى، كما لو سرق فقطعت يده اليمنى ثم سرق ثانيا.
وإن سرق ويده اليمنى غير مقطوعة، فقطعت ظلما أو بقصاص، أو سقطت بآكلة.. قال أصحابنا البغداديون: سقط عنه القطع في هذه السرقة. وبه قال أبُو حَنِيفَة. وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : تقطع رجله اليسرى.
والأول هو المشهور؛ لأن القطع في السرقة تعلق بيده اليمنى، فإذا سقطت.. سقط القطع. ويخالف: إذا سرق ولا يمين له؛ فإن القطع لم يتعلق بها وإنما يتعلق بالعضو الذي يقطع بعدها. وإن سرق وله يد يمين تامة الأصابع، وله يد يسار شلاء أو ناقصة الأصابع، أو لم يكن له يسار.. قطعت يده اليمنى.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إن لم يكن له يسار، أو كانت له يسار ناقصة الإبهام أو ناقصة إصبعين من الأصابع الأربع، أو كانت شلاء.. لم تقطع يده اليمنى) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السارق: «إذا سرق.. فاقطعوا يمينه» ولم يفرق.
وإن سرق وله كف يمين لا أصابع لها.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز قطعها، بل تقطع رجله اليسرى؛ لأن الكف ليس له بدَّل مقدر، فأشبه الذراع.
والثاني: يقطع كف يده، وهو المذهب؛ لأنه بقي بعض ما يقطع في السرقة، فلم ينتقل إلى العضو بعدها مما بعده مع وجوده، كما لو بقي في كفه أنملة.
وإن سرق وله يد شلاء، فإن قال: أهل الخبرة: لا يخاف من قطعها هلاكه..
قطعت ولم ينتقل إلى العضو الذي بعدها، كالصحيح. وإن قالوا: يخاف من قطعها هلاكه.. لم يقطع، وقطعت رجله اليسرى؛ لأنها كالمعدومة.

[فرع: تداخل حدود السرقة]
وإن سرق من رجل سرقة تقتضي القطع، ثم سرق من آخر سرقة تقتضي القطع قبل

(12/495)


القطع، ثم سرق ثالثا ورابعا.. فإنه يقطع العضو الذي وجب قطعه للسرقة الأولى ويقع ذلك عن جميع السرقات؛ لأنها حقوق لله تَعالَى فتداخلت، كما لو زنَى ثم زنَى.
وإن سرق من رجل عينا فقطعت يده فيها، ثم ردت العين إلى مالكها فسرقها هذا السارق مرة ثانية.. قطعت رجله. وكذلك: إذا سرقها ثالثا.. قطعت يده. وإن سرقها رابعا.. قطعت رجله. وقال أبُو حَنِيفَة: (إذا قطع بسرقة عين مرة.. لم يقطع بسرقتها، سواء سرقها من مالكها الأول أو من غيره) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سرق.. فاقطعوا يده، ثم إن سرق.. فاقطعوا رجله، ثم إن سرق.. فاقطعوا يده، ثم إن سرق.. فاقطعوا رجله» ولم يفرق.

[فرع: كيفية قطع اليد]
ويجلس السارق إذا أريد قطعه؛ لأنه أمكن. ويضبط؛ لئلا يتحرك فيتعدى القطع إلى موضع آخر. ويخلع كفه، وهو: أن يشد حبل في يده من فوق كوعه، وحبل في كفه، ثم يجر الحبل الذي فوق كوعه إلى جانب مرفقه، والحبل الذي بكفه إلى جانب أصابعه حتى يبين مفصل الكف، ويقطع بسكين حاد أو بحديدة حادة قطعة واحدة، ولا يقطع بسكين غير حاد، ولا قليلا قليلا؛ لأن القصد إقامة الحد دون التعذيب. ثم يحسم موضع القطع، وهو: أن تترك يده بعد القطع في زيت أو سمن مغلي؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي برجل أقر أنه سرق شملة، فقال: " اقطعوه واحسموه» ، ورُوِي ذلك: عن أبي بكر وعمر، ولا مخالف لهما. ولأن بالحسم ينقطع الدم، فلا يتلف.
والمستحب: أن يأمر الإمام من يتولى ذلك الحسم.
ولا يحسم السارق إلا بإذنه؛ لأنه مداواة، فإن لم يأذن.. لم يحسم. ويكون ثمن

(12/496)


الدهن وأجرة القاطع من بيت المال؛ لأنه فيه مصلحة، فإن لم يكن في بيت المال شيء.. كان ذلك من مال السارق.
فإن قال: السارق: أنا أقطع يدي بنفسي.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يمكن من ذلك، كما قلنا في (القصاص) .
والثاني: يجوز تمكينه من ذلك؛ لأن القصد ردعه، وذلك يحصل بقطعه بنفسه، بخلاف القطع في القصاص؛ فإن القصد منه التشفي، وذلك لا يحصل بقطعه.
والمستحب: أن تعلق يده على رقبته بعد القطع، ويترك ساعة؛ لما روى فضالة بن عبيد: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق، فأمر به فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه» ، ولأن في ذلك ردعا له ولغيره من الناس.

[مسألة: قطع اليسرى بدَّل اليمنى]
إذا وجب على السارق قطع يمينه، فقال له القاطع: أخرج يمينك، فأخرج يساره ظنا منه أنها يمينه أو أن قطعها يجزئ عن قطع اليمين فقطعها.. اختلف أصحابنا فيه:
فذكر القاضي أبُو الطيب والشيخ أبُو إسحاق فيه وجهين:
أحدهما: يجزئ قطعها عن اليمين، وهو المنصوص؛ لأن الحق لله تَعالَى ومبناه على المسامحة.
والثاني: لا يجزئ؛ لأنه قطع غير العضو الذي تعلق به القطع فلم يجزه، كما قلنا في (القصاص) . فعلى هذا: إن قال: القاطع: علمت أنها اليسار أو أن قطعها لا يجزئ عن اليمين.. وجب عليه القصاص في اليسار.
وإن قال: ظننتها اليمين، أو أن قطعها يجزئ عن اليمين.. وجب عليه

(12/497)


ديتها. وقال الشيخُ أبُو حامد: يرجع إلى القاطع، فإن قال: علمت أنها اليسار، أو أنها لا تجزئ عن اليمين وعمدت إلى قطعها.. وجب عليه القصاص في اليسار، ووجب قطع يمين السارق.
وإن قال: القاطع: لم أعلم أنها اليسار، أو علمتها اليسار وظننتها تجزئ عن اليمين.. فالقول قوله مع يمينه، ولا قصاص عليه، بل عليه دية اليسار، وهل يسقط القطع عن يمين السارق؟ فيه قولان. قال أبُو إسحاق المَروَزِيُّ: إذا وجب على السارق القطع في يمينه، فسقطت يساره بآكلة.. سقط القطع عن اليمين. قال الشيخُ أبُو حامد: وأظنه أخذه من أحد القولين في هذه المسألة. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الشافعيَّ، إنما أسقط القطع عن اليمين فيها على أحد القولين - إذا أخذت اليسار بنية القطع عن اليمين بسرقة- وهذا المعنى غير موجود فيه إذا سقطت اليسار بآكلة.

[مسألة: في السرقة القطع ورد المسروق معا]
إذا سرق نصابا يجب فيه القطع، فإن كان النِّصَاب باقيا.. وجب قطع السارق، ووجب عليه رد المال المسروق بلا خلاف. وإن كان تالفا.. لزمه القطع والغرم عندنا. وبه قال الحَسَن البَصرِيّ، وحماد، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبُو حَنِيفَة والثوريُّ: (لا يجمع بين الغرم والقطع، فإذا ثبت المسروق منه السرقة عند الحاكم.. فإنه يقطعه ولا غرم عليه. وإن طالبه المسروق منه بالغرامة، وغرم.. سقط القطع عنه) . وقال مالك: (يقطع بكل حال، فإن كان موسراً.. كان عليه الغرم، وإن كان معسراً.. فلا غرم عليه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القطع في ربع دينار» ولم يفرق. ولأنه حد لله تَعالَى يجب بإيقاع فعل في عين، فإذا وجب رد العين مع بقائها.. جاز أن يجب الحد وغرم العين مع تلفها، كما لو غصب جارية وزنا بها.
وبالله التوفيق

(12/498)


[باب حد قاطع الطريق]
الأصل في حد قاطع الطريق: قوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] [المائدة: 33] .
وهذه الآية نزلت في قطاع الطريق. وبه قال ابن عبَّاس، ومالك، وأبو حَنِيفَة وأكثر أهل العلم. وقال بعض الناس: نزلت في أهل الذمة إذ نقضوا الذمة ولحقوا بدار الحرب. وقال ابن عمر: (نزلت في المرتدين من العرنيين) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] [المائدة: 34] فأمر بقتلهم وصلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم، وأسقط عنهم بالتوبة من قبل أن يقدر عليهم هذه الأحكام، وهذا إنما يكون في قطاع الطريق. فأما أهل الذمة والمرتدون إذا أسلموا.. حقنوا دماءهم قبل القدرة عليهم وبعد القدرة عليهم.
إذا ثبت هذا: فاختلف العلماء في ترتيب الأحكام المذكورة في هذه الآية في قطاع الطريق:
فمذهبنا: أنهم إذا أشهروا السلاح وأخافوا السبيل حتى صار الناس يفزعون من الاجتياز فيها خوفاً منهم.. فقد صاروا محاربين بذلك وإن لم يأخذوا شيئا، فيجب

(12/499)


على الإمام طلبهم؛ لأنه إذا تركهم.. أفسدوا بأخذ الأموال والقتل. فإن هربوا.. تبعهم إلى أن يخرجوا من بلاد الإسلام، فإن أدركهم.. عزرهم بما أداه اجتهاده إليه، ويحبسهم. قال أبُو العباس: والأولى أن يحبسهم في غير بلدهم؛ لتلحقهم الوحشة.
فإن أخذوا المال ولم يقتلوا.. قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإن قتلوا ولم يأخذوا المال.. قتلهم ولم يصلبهم. وإن قتلوا وأخذوا المال.. قتلهم وصلبهم. وإن فعلوا شيئا من ذلك وهربوا.. تبعهم الإمام، فإن ظفر بهم.. أقام عليهم من الحدود ما وجب عليهم، وإن لم يظفر بهم.. تبعهم حتى يخرجوا من بلاد الإسلام.
وحكى المسعوديُّ [في " الإبانة "] : أن أبا الطيب ابن سلمة خرج قولا آخر: أنهم إذا أخذوا المال وقتلوا.. فإنه يقطعون لأخذ المال، ثم يقتلون لأجل القتل، ويصلبون للجمع بين ذلك. والمشهور هو الأول، وبه قال ابن عبَّاس، وقتادة، وحماد، وأبو مجلز، والليث، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إذا أخافوا السبيل.. وجب عليهم التَّعزِير- كما قلنا- وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال.. وجب عليهم القتل- كما قلنا- وإن أخذوا المال ولم يقتلوا.. قطعوا- كما قلنا - وإن قتلوا وأخذوا المال.. فالإمام فيهم بالخيار: بين أن يقتلهم ويصلبهم، أو يصلبهم ويقطعهم، أو يقطعهم ويقتلهم ويصلبهم) ، والنفي عنده الحبس. وقال مالك: (إذا أشهروا السلاح وأخافوا السبيل.. فقد لزمتهم هذه الأحكام المذكورة في الآية، إلا أنها تختلف باختلاف أحوالهم، فينظر الإمام فيهم: فمن كان منهم ذا رأي.. قتله، وإن كان جلدا ولا رأي له.. قطعه، ومن لم يكن ذا رأي ولا جلد.. حبسه) .
وقال ابن المسيب والحسن ومجاهد: إذا شهروا السلاح وأخافوا السبيل.. فالإمام فيهم بالخيار بين أربعة أشياء: بين أن يقتلهم، أو يقتلهم ويصلبهم، أو يقطع أيديهم وأرجلهم، أو يحبسهم.
دليلنا: ما رُوِيَ عن ابن عبَّاس: أنه قال: في قطاع الطريق: (إذا قتلوا وأخذوا المال.. قتلوا وصلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال.. قتلوا ولم يصلبوا. وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا.. قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، و [إذا أخافوا السبيل ولم

(12/500)


يأخذوا مالا] .. ينفيهم، وإذا هربوا.. يطلبهم حتى يؤخذوا فتقام عليهم الحدود) . ولا يقول مثل هذا إلا توقيفا، وإن قاله تفسيرا للآية.. فهو ترجمان القرآن وأعرف بالتأويل. ولأن العقوبات تختلف باختلاف الأجرام؛ ولهذا اختلف حد الزِّنَى في البكر والثيب، واختلف حد الزِّنَى والقذف والشرب. ولأن الله تَعالَى بدأ في الآية بالأغلظ فالأغلظ، وهذا يدل على أنها على الترتيب، كما أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ في كفارة الظهار لما كانت على الترتيب، ولما كانت كفارة اليمين على التخيير.. بدأ بالأخف فالأخف.

[مسألة: الأمكنة التي تعتبر فيها جناية قطاع الطريق وشروط تعلق الأحكام بهم]
] : وحكم قطاع الطريق إذا أخذوا المال وقتلوا، أو أخذوا المال ولم يقتلوا، أو قتلوا ولم يأخذوا المال من المصر أو البلد.. حكمهم إذا فعلوا ذلك في الصحراء. وبه قال الأَوزَاعِي، والليث، وأبو ثور، وأبو يوسف.
وقال مالك: (قطاع الطريق الذين تتعلق بهم هذه الأحكام هو: أن يفعلوا ذلك على ثلاثة أميال من المصر فصاعدا، فإن فعلوا ذلك على أقل من ثلاثة أميال أو كانوا في المصر.. لم تتعلق بهم هذه الأحكام) .
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا تتعلق بهم هذه الأحكام إلا إذا كانوا في البرية، فأما إذا كانوا في مصر أو قرية، أو بين قريتين متقاربتين.. فلا تتعلق بهم هذه الأحكام) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية [المائدة: 33] . ولم يفرق بين أن يكون ذلك في الصحراء أو في المصر. ولأنه إذا وجبت عليهم هذه الحدود إذا فعلوا ذلك في الصحراء وهو موضع الخوف.. فلأن يجب عليهم ذلك إذا فعلوا ذلك في المصر وهو موضع الأمن أولى.
إذا ثبت هذا: فإنما تتعلق بهم هذه الأحكام في المصر إذا كان قوم عددهم يسير في قرية، فاجتمع قوم من قطاع الطريق وأشهروا السلاح عليهم وغلبوا أهل القرية ولم

(12/501)


يتمكنوا من دفعهم، وأخذوا منهم المال وقتلوا، أو فعلوا أحدهما، وكذلك إذا غلبوا على طرف من المصر. فأما إذا أمكن أهل القرية منعهم، فلم يمنعوهم.. فلا تتعلق بهم هذه الأحكام.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وإن اجتمع عدد يسير على آخر القافلة في المواضع المنقطعة، فأخذوا المال وقتلوا، أو خرج الواحد والاثنان والثلاثة على آخر القافلة واستلبوا منهم شيئا، أو اعترضوهم بغير سلاح.. لم يكن حكمهم حكم قطاع الطريق؛ لأنهم غير ممتنعين ولا قاهرين لمن يقصدونهم، فهم كالمختلسين.
قال القفال: والمكابرون بالليل، وهو أن يهجم جماعة بالليل على بيت رجل بالمصابيح ويخوفونه بالقتل إن صاح أو استغاث.. حكمهم حكم قطاع الطريق.
وقال سائر أصحابنا: ليسوا بقطاع الطريق؛ لأنهم يرجعون إلى الخفية ولا يجاهرون، بل يبادرون مخافة أن يتشاعر الناس بهم. وإن خرج قطاع الطريق بالعصي والحجارة.. فهم محاربون. وقال أبُو حَنِيفَة: (ليسوا بالمحاربين) .
دليلنا: أن العصي والحجارة من جملة السلاح الذي يأتي على النفس، فأشبه الحديد.

[فرع: أخذ نصاب السرقة من حرز المثل على وجه القهر]
والغلبة يثبت حكم قطع الطريق] :
ولا يتعلق حكم قطع الطريق بأخذ المال إلا إن كان المال المأخوذ نصابا، فأما بدون النِّصَاب.. فلا يتعلق به حكم قطع الطريق.
وخرج أبُو عليّ ابن خيران قولا آخر: أنه لا يعتبر فيه النِّصَاب، كما لا يعتبر التكافؤ في القتل في المحاربة في أحد القولين. والأول أصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القطع في ربع دينار» ولم يفرق بين السرقة وبين قطع الطريق. ولأنا لو لم نعتبر النِّصَاب في قطع الطريق.. لأوجبنا تغليظَيْن؛ قطع الرجل وسقوط اعتبار النِّصَاب، وهذا لا سبيل إليه.
ويعتبر فيه الحرز: فإن أخذ المال من غير حرز؛ لأن أخذ مالا مضيعا.. لم يتعلق

(12/502)


به حكم قاطع الطريق. ولا يعتبر أن يأخذ المال فيه على وجه الاستخفاء، بل إذا أخذ النِّصَاب من حرز مثله بالقهر والغلبة مع إشهاره السلاح وإخافته السبيل.. تعلق به حكم قاطع الطريق؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه، فوجب عليه القطع، كالسارق.
قال المسعوديُّ [في" الإبانة "] : وسواء أخذ النِّصَاب من مالك واحد أو ملاك.
فأما في السرقة: فإذا سرق ربع دينار من مالكين: فإن كان من حرز واحد.. قطع. وإن كان من حرزين.. لم يقطع. وسواء كان ربع الدينار الذي في الحرزين ملك واحد أو ملك جماعة؛ فإنه لا يوجب القطع. ولو أخذ في قطع الطريق ثلث دينار، وكان معه ردء وأخذ سدس دينار.. قطع الذي أخذ الثلث دون الذي أخذ السدس.
وإذا قطع قاطع الطريق على الواحد أو الجماعة.. تعلق به حكم قاطع الطريق إذا كان قاهرا لهم.

[فرع: حكم الردء الذي لم يباشر في أخذ المال أو القتل]
وماذا لو كان القاطع للطريق امرأة؟] :
ولا يجب حد قطع الطريق إلا على من باشر أخذ المال والقتل، فأما من حضر فكثر وهيب، وكان ردءا لهم أو طليعة.. فلا يجب عليه قطع ولا قتل، وإنما يعزر ويحبس. وقال أبُو حَنِيفَة: (يجب على المكثر والمهيب - وهو الردء - ما يجب على من أعانه من القطع والقتل) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنَى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق» . وهذا لم يفعل أحد هذه الأشياء الثلاثة، فلم يجز قتله. ولأنه حد يجب بارتكاب معصية، فلم يجب على المعين، كما لو شد رجل امرأة لآخر حتى زنَى بها.
وإن كان في قطاع الطريق امرأة فأخذت المال أو قتلت.. وجب عليها حد قطاع الطريق. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليها ولا على من كان ردءا لها) .

(12/503)


دليلنا: أن كل من يلزمه الحد في السرقة.. لزمه حكم قطاع الطريق، في قطع الطريق كالرجل.
وإن كان قطاع الطريق جماعة فأخذوا المال.. اعتبر أن يكون قدر ما أخذه كل واحد منهم يبلغ نصابا، فإن كان فيهم صبي أو مجنون.. فإنه يجب على شريكه في أخذ المال القطع إذا بلغت حصته نصابا، وهل يجب على شريكه في القتل القتل؟ فيه قولان بناء على القولين في عمد الصبي: هل هو عمد أو خطأ؟

[فرع: أخذ المحارب المال وما يترتب عليه من قطع]
وإذا أخذ المحارب المال ولم يقتل.. قطعت يده اليمنى من مفصل الكوع، ورجله اليسرى من مفصل القدم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] [المائدة: 33] . وهو قول ابن عبَّاس ولا مخالف له. ولأن المحارب يساوي السارق في أخذ المال على وجه لا يمكن الاحتراز منه فساواه في قطع اليد وزاد عليه في شهر السلاح وإخافة السبيل فغلظ عليه بقطع الرجل.
فإذا قطعت يده اليمنى.. فإنها تحسم بالنار، ثم تقطع رجله اليسرى وتحسم بالنار في مكان واحد؛ لأنهما حد واحد. فإن لم يكن له إلا إحداهما.. قطعت لا غير. وإن لم يكن له واحدة منهما.. قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى؛ لأنه قد فقد ما يتعلق به القطع ابتداء، فانتقل إليه ما بعدهما، كما لو سرق ولا يمين له.
فإن أخذ المال وليس له إلا كف يده اليمنى أو قدم رجله اليسرى، أو ليس على أحدهما أنملة من الأصابع.. فهل يقطعان، أو ينتقل عنهما إلى اليد اليسرى والرجل اليمنى؟ فيه وجهان، كما قلنا فيه إذا سرق وليس له إلا كف اليد اليمنى ولا أنملة عليها.

[فرع: قتل المحارب وماذا لو عفا ولي المقتول عنه؟]
وإن قتل المحارب ولم يأخذ المال.. وجب قتله قودا لولي المقتول ويتحتم قتله

(12/504)


لحق الله تَعالَى، فلا يجوز للإمام تركه؛ فوجوب القتل عندنا حق للآدمي وانحتامه حق لله تَعالَى. وقال بعض الناس: لا يتحتم القتل، بل إن شاء الولي قتل، وإن شاء عفا عنه، كالقتل في غير المحاربة.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية [المائدة: 33] . فعين القتل، فمن قال: إنه على التخيير.. خالف ظاهر الآية. ولأن الله تَعالَى ذكر القتل هاهنا وأطلقه ولم يضفه إلى ولي المقتول، فلو كان ذلك إلى اختيار ولي المقتول.. لأضافه إليه، كما أضاف إليه القتل في غير المحاربة في قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] [الإسراء: 33] فعلم أن المخاطب بالقتل في المحاربة هم الأئمة دون الأولياء. ورُوِيَ «عن ابن عبَّاس: أنه قال: (نزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالحد فيهم: أن من قتل ولم يأخذ المال.. قتل» . والحد لا يكون إلا حتما، ولا مخالف له من الصحابة. ولأن ما أوجب عقوبة في غير المحاربة.. تغلظت العقوبة فيه بالمحاربة، كأخذ المال.
وإن قتل المحارب من لا يكافئه.. فهل يجب قتله به؟ فيه قولان مَضَى ذكرهما في (الجنايات) . الصحيح: لا يجب. هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: هل القتل في المحاربة حق لله تَعالَى أو للآدمي؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه حق لله لا حق للآدمي فيه، إذ لو كان حقا للآدمي.. لسقط بعفوه، ولا خلاف أنه لا يسقط بعفوه.
والثاني: أنه حق للآدمي؛ لأن القصاص في غير المحاربة حق للآدمي.. فلأن يكون له في المحاربة أولى، إلا أن انحتام القتل وجب تغليظا عليه؛ لقطعه الطريق.

(12/505)


ولهذين القولين فوائد:
منها: إذا قتل في المحاربة من لا يكافئه.. فإن قلنا: أنه حق لله تَعالَى.. قتل به. وإن قلنا: أنه حق للآدمي.. لم يقتل به.
الثانية: إذا قتل المحارب جماعة.. فإن قلنا: إنه حق لله تَعالَى.. قتل بجميعهم، ولا شيء للأولياء؛ لأن الحدود تتداخل. وإن قلنا: أنه حق للآدمي.. قتل بأولهم، ووجب للباقين الدية في ماله.
الثالثة: إذا عفا ولي الدم عن القاتل، فإن قلنا: إن القتل حق لله تَعالَى.. كان كما لو لم يعف، فيقتل ولا شيء لولي المقتول. وإن قلنا: أنه حق للآدمي.. سقط بعفوه ما كان حقا له؛ وهو قتله قصاصا، ووجبت له الدية في ماله، إلا أن المحارب يقتل لله تَعالَى، كما لو كان عليه قتل قصاص وقتل ردة وعفا ولي القصاص.. فإنه يقتل للردة.

[فرع: ارتكاب المحارب جناية لا توجب حدا كقطع مفصل ونحوه]
وإن قتل قاطع الطريق رجلا خطأ أو عمد خطأ، أو أخافه عمدا أو خطأ.. فإنه لا يجب عليه القصاص بذلك قولا واحدا؛ لأن هذه الجنايات لا يجب بها القصاص في غير المحاربة، فلم يجب بها في المحاربة. وإن قطع يده من المفصل، أو جرحه جراحة يثبت بها القصاص.. وجب عليه القصاص، وهل يتحتم قطعه؟ فيه قولان:
أحدهما: يتحتم؛ لأن ما أوجب العقوبة في غير المحاربة.. تغلظ بالمحاربة بانحتام القود، كالنفس.
والثاني: لا يتحتم؛ لأن الله تَعالَى ذكر حدود المحاربة؛ وهي: القتل، وقطع اليد والرجل من خلاف، والصلب. فدلَّ على أن ذلك جميع حدود المحاربة، فلو

(12/506)


كان انحتام القصاص في ما دون النفس من حدود المحاربة. لذكره كما ذكر غيره.
هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: إن كانت الجناية في المحاربة فيما دون النفس مما يوجب حدا في غير المحاربة، كقطع اليد والرجل.. انحتم القصاص بها في المحاربة بلا خلاف على المذهب؛ لأنها تجب حدا في غير المحاربة، فانحتم القود فيها في المحاربة، كالنفس. وإن كانت الجناية فيما دون النفس لا توجب حدا في غير المحاربة، كالموضحة وقطع الأذن وما أشبههما.. فهل يتحتم القصاص بها في المحاربة؟ فيه وجهان؛ لأن ذلك لا يوجب حدا في الشَّرع.

[فرع: أخذ المحارب المال مع القتل وما يترتب عليه من الحد]
وإذا أخذ المحارب المال وقتل.. فقد ذكرنا: أنه يقتل ويصلب.
وخرج أبُو الطيب ابن سلمة قولا آخر: أنه تقطع يده ورجله، ثم يقتل، ثم يصلب. وحكى ابن القاص في " التلخيص " عن الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه قال: (يصلب قبل القتل ثلاثا، ثم ينزل ويقتل) . ومن أصحابنا من قال لا يقتل، بل يصلب حيا حتى يموت جوعا وعطشا؛ لأن الصلب يراد للزجر، ولا ينزجر بصلبه بعد موته. وقال أبُو يوسف: يصلب حيا ثلاثا، فإن مات، وإلا.. قتل وهو مصلوب.
والمذهب الأول، وما حكاه ابن القاص لا يعرف للشافعي؛ لأن كل معصية توجب عقوبة في غير المحاربة.. غلظت تلك العقوبة في المحاربة تغليظا واحدا، كما قلنا فيه إذا أخذ المال ولم يقتل.. فإنه تقطع يده ورجله، فكذلك إذا أخذ المال وقتل.. فإنه يغلظ بالقتل والصلب. وقول أبي الطيب: إنه يقطع ثم يقتل.. لا يصح؛ لأن القتل يحصل به من النَكَال أكثر من القطع.
وقول من قال: يصلب حيا حتى يموت.. باطل أيضا؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن تعذيب الحيوان» . وهذا حيوان، وقال: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قتلتم.. فأحسنوا القتلة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» . وقوله: إن الصلب يراد لزجره.. غير صحيح؛

(12/507)


إنما يراد لزجر غيره، وذلك يحصل بصلبه بعد موته.
إذا ثبت أنه يصلب بعد موته.. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإنه يصلب على خشبة ثلاثة أيام، ثم ينزل ويغسل ويكفن ويصَلَّى عليه ويدفن في مقابر المسلمين؛ لأنه مسلم قتل بحق، فهو كالمقتول في القصاص) . قال: القاضي أبُو الطيب: قال الماسرجسي: إنما نص الشافعيُّ، على صلبه ثلاثا في البلاد الباردة أو البلاد المعتدلة، فأما في البلاد الحارة.. فإنه إذا خيف تغيره قبل الثلاث.. فإنه يحنط ليمكن غسله وتكفينه. وقال أبُو عليّ ابن أبي هُرَيرَة: يصلب حتى يسيل صديده، ولا يحنط أبدا. وليس بشيء؛ لأن هذا يؤدي إلى إبطال وجوب غسله وتكفينه ودفنه.
هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: يصلب ثلاثا، وهل ينزل بعد الثلاث إن لم يسل صديده؟ فيه قولان:
أحدهما: لا ينزل حتى يسيل صديده؛ لأن الصلب إنما يسمى صلبا بسيلان صديد المصلوب، وهو الودك، فما لم يتغير لا يذوب صديده.
والثاني: ينزل بعد الثلاث؛ لئلا يتغير فيتأذى به الناس. فإذا قلنا بهذا: فخيف تغيره قبل الثلاث.. فهل ينزل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا ينزل؛ لأن التنكيل لا يحصل بدون الثلاث.
والثاني: ينزل؛ لأنا إنما ننزله بعد الثلاث حتى لا يتغير على الصليب، فإذا خيف ذلك قبل الثلاث.. أنزل.
وإن مات قبل أن يقتل.. فهل يجب صلبه بعد موته؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد: أنه لا يصلب؛ لأن الصلب صفة للقتل وتابع له، وقد سقط القتل بالموت فسقط الصلب.

(12/508)


والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب: إنه يصلب بعد موته؛ لأنهما حقان، فإذا تعذر أحدهما.. وجب الآخر.

[مسألة: اجتماع حد محاربة وقصاص]
إذا لزمه قتل في المحاربة وقصاص فيما دون النفس في غير المحاربة، فإن عفا من وجب له القصاص فيما دون النفس.. ثبت له الدية في ماله وقتل في المحاربة. وإن اختار أن يقتص منه فيما دون النفس.. اقتص منه، ثم قتل في المحاربة حتما.
ويقدم القصاص في الطرف، سواء تقدم القتل عليه أو تأخر. فإن لزمه القصاص فيما دون النفس في المحاربة، وقتل في المحاربة.. فإنه يقتص منه فيما دون النفس، ويقتل في المحاربة. وقال أبُو حَنِيفَة: (يدخل الجرح في القتل) .
دليلنا: أنهما حقان مقصودان لآدميين، فلم يتداخلا، كما لو وجبا في غير المحاربة.
وإن قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى من رجل في غير المحاربة، وأخذ المال في المحاربة ولم يقتل.. فمن قطعت يده ورجله بالخيار: بين أن يعفو عنه، وبين أن يقتص. فإن عفا عنه.. قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى؛ لأخذ المال في المحاربة. وإن اختار به القصاص.. قدم القصاص على القطع في المحاربة، سواء تقدم أخذ المال أو الجناية؛ لأن حق الآدمي آكد، فإذا اقتص منه.. لم يقطع للمحاربة حتى يبرأ من قطع القصاص؛ لأنهما حقان يجبان بسببين مختلفين.
وإن قطع اليد اليسرى والرجل اليمنى من رجل في المحاربة، وأخذ المال في المحاربة ولم يقتل، فإن قلنا: إن القصاص فيما دون النفس لا يتحتم في المحاربة؛ فإن عفا عن القصاص.. قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى؛ لأخذ المال في المحاربة. وإن اختار القصاص، أو قلنا: إنه يتحتم.. قدم القطع للقصاص في اليد اليسرى

(12/509)


والرجل اليمنى على القطع في المحاربة، سواء تقدمت الجناية أو أخذ المال؛ لأن حق الآدمي آكد، ولكن لا يقطع للمحاربة حتى يبرأ من قطع القصاص؛ لأنهما حقان يجبان بسببين مختلفين.
وأمَّا إذا قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى من رجل في غير المحاربة، وأخذ المال في المحاربة ولم يقتل، فإن اختار المجني عليه العفو عن القصاص وعفا.. قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى للمحاربة. وإن اختار القصاص.. قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في القصاص، وسقط القطع للمحاربة؛ لأن العضو الذي تعلق به القطع قد فات.
وإذا قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى من رجل في المحاربة، وأخذ المال في المحاربة ولم يقتل، فإن قلنا: إن القصاص فيما دون النفس لا يتحتم في المحاربة.. فهو كما لو قطعها في غير المحاربة، وقد مَضَى. وإن قلنا: يتحتم.. قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى للقصاص، وسقط القطع للمحاربة؛ لأن القصاص حق آدمي، والقطع في المحاربة حق لله تَعالَى.. فقدم حق الآدمي عليه. هكذا ذكر الشيخ أبُو حامد وابن الصبَّاغ.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق: أنه إذا قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى في المحاربة، وأخذ المال ولم يقتل، وقلنا: يتحتم القصاص فيما دون النفس في المحاربة.. نظرت: فإن تقدم أخذ المال.. سقط قطع المحاربة؛ لما مَضَى. وإن تقدمت الجناية.. لم يسقط القطع للمحاربة، بل تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى؛ لأن اليد اليمنى والرجل اليسرى استحقا بالجناية قبل أخذ المال، فيصير كمن أخذ المال بالمحاربة وليس له يد يمنى ولا رجل يسرى، فتعلق قطع المحاربة باليد اليسرى والرجل اليمنى.

[مسألة: توبة قطاع الطرق]
وإذا تاب قاطع الطريق.. نظرت: فإن تاب بعد قدرة الإمام عليه.. لم يسقط عنه شيء مما وجب عليه من حدود المحاربة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] [المائدة: 34] فشرط في الغفران وفي سقوط أحكام المحاربة عنهم أن تكون التوبة قبل القدرة عليهم، فدلَّ على أنها إذا كانت بعد

(12/510)


القدرة عليهم.. لم يؤثر ذلك؛ لأن المحارب إذا حصل في قبضة الإمام.. وجب عليه إقامة الحد عليه، وإذا تاب في هذه الحال.. فالظاهر: أنه تاب للتقية من إقامة الحد عليه، فلم يسقط.
فأما إذا تاب قبل قدرة الإمام عليه.. فإنه تسقط عنه الحدود التي يختص وجوبها بالمحاربة قولا واحدا؛ وهي: قطع الرجل، وانحتام القتل عليه، والصلب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] [المائدة: 34] .
ولا تسقط حقوق الآدميين - وهو: حد القذف، وضمان الأموال، والقصاص- بالتوبة بحال، سواء كان محاربا أو غير محارب.
وأمَّا الحدود التي تجب لحق الله تَعالَى ولا يختص وجوبها بالمحاربة؛ كحد الزِّنَى، واللواط، وحد الخمر، والسرقة.. فهل تسقط بالتوبة عن المحارب وغير المحارب؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تسقط بالتوبة - وبه قال أبُو حَنِيفَة - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] [النور: 2] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شرب الخمر.. فاجلدوه» ولم يفرق بين أن يتوب وبين أن لا يتوب. ولأنه حد لا يختص بالمحاربة، فلم يسقط بالتوبة، كحد القذف.
والثاني: يسقط بالتوبة، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] [المائدة: 34] فأخبر: أن المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه.. غفر له جميع ما كان منه، وقال تَعالَى:

(12/511)


{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] إلى قوله: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39] [المائدة: 38-39] فأخبر: أنه إذا تاب وأصلح.. فإن الله يتوب عليه ويغفر له. والظاهر: أنه لا يتعلق عليه شيء بعد ذلك. وقال في الزِّنَى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16] [النساء: 16] . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التوبة تجب ما قبلها» . ورُوِي: «أن رجلا أتى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أنِّي أصبت حدا فأقمه عليّ، فقال: "أليس توضأت فصليت؟ " فقال: بلى، قال: "فلا حد عليك» فالظاهر: أنه إنما سقط عند الحد بصلاح العمل. ولأنه حد خالص لله، فسقط بالتوبة، كالحد الذي يختص بالمحاربة.
فإذا قلنا بهذا: فإن كانت هذه الحدود وجبت عليه في حال المحاربة.. سقطت عنه بالتوبة، ولا يشترط عليه في سقوط الحد مع التوبة إصلاح العمل. وإن كانت وجبت عليه في غير المحاربة.. لم تسقط عنه حتى يقرن مع التوبة إصلاح العمل.
والفرق بينهما: أن المحارب مظهر للمعاصي، فإذا تاب.. فالظاهر من حاله أنه لم يتب تقية، وإنما رجع عما كان عليه. وغير المحارب غير مظهر للمعاصي، فإذا تاب.. فالظاهر: أنه تاب تقية، فلم يحكم بصحة توبته حتى يقترن به إصلاح العمل، ويشترط إصلاحه للعمل مدة يوثق بتوبته فيها.
وأمَّا قطع اليد لأخذ المال في المحاربة.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبُو إسحاق: لا يختص بالمحاربة؛ لأنه لا يجب إلا بأخذ نصاب، فهو كالقطع في السرقة.
وقال أبُو عليّ بن أبي هُرَيرَة، وأبو عليّ الطبري: يختص بالمحاربة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية [المائدة: 33] فعلق قطع اليد والرجل

(12/512)


بالمحاربة، فدلَّ على أنهما يختصان معا بالمحاربة. ولأنه وجب لأخذ المال مجاهرة، وقطع اليد في السرقة يجب لأخذ المال من حرزه على وجه الاستخفاء.. فكانا مختلفين.
فعلى قول أبي إسحاق: إذا تاب قاطع الطريق قبل القدرة عليه.. هل يسقط عنه قطع اليد؟ على قولين.
وعلى قول أبوي عليّ: يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه قولا واحدا.
هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا تاب قاطع الطريق قبل الظفر به.. فالصحيح: أن ما كان حقا لله تَعالَى كالقطع ونحوه.. فإنه يسقط، وما كان حقا لآدمي، كانحتام القصاص.. لا يسقط. وقيل: يسقط القصاص أيضا. وليس بشيء. وإن تاب بعد الظفر به.. ففيه قولان:
أحدهما: حكمه حكم ما لو تاب قبل الظفر به؛ لأن ما يسقط بتوبة أو غيرها لا فرق فيه قبل الظفر به أو بعد الظفر به، كسقوط قطع السرقة الواجب بالإقرار، وعكسه القصاص.
والثاني: لا يسقط؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] [المائدة: 34] . قال: وعلى هذا خرج أصحابنا وجهين في حد الزِّنَى والشرب: هل يسقط بالتوبة؟
وبالله التوفيق

(12/513)


[باب حد الخمر]
الخمر محرم، والأصل فيه: الكتاب والسنة والإجماع.
والخمر المجمع على تحريمه هو: عصير العنب الذي قد اشتد وقذف زبده.
أما الكتاب: فقوله تَعالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] [البقرة: 219] فأخبر: أن فيهما منفعة وإثما، وأن الإثم أكبر من المنفعة. وهذا يدل على التحريم. وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ} [المائدة: 90] إلى قَوْله تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] [المائدة: 90-91] . وفي هاتين الآيتين سبعة أدلة:
أحدها: أن الله تَعالَى قرن بين الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وقدمه عليها، وهذه الأشياء كلها محرمة، فدلَّ على تحريم الخمر.
والثاني: أن الله تَعالَى سماها رجسا، و (الرجس) : اسم للشيء النجس، وكل نجس حرام.

(12/514)


الثالث: قَوْله تَعَالَى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] ، وما كان من عمل الشيطان فهو محرم.
الرابع: قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ، ولا يأمر باجتناب محرم.
الخامس: قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] وضد الفلاح الفساد.
السادس: قَوْله تَعَالَى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91] وما صدَّ عن ذلك فهو محرم.
السابع: قَوْله تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وهذا أبلغ كلمة في الزجر عن الشيء.
ويدل على تحريمه من الكتاب قَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] [الأعراف: 33] و (الإثم) : هو الخمر، قال الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول
واختلف الناس في سبب نزول تحريم الخمر:
فقيل: إن السبب أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: (لا ينتهى عن هذه الخمور حتى يأتي أحدنا وقد ضرب فجرح وكلم) ، فأنزل الله تَعالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] الآية [البقرة: 219] ، فاختلف الناس فيها، فقال بعضهم: هي مباحة لذكر المنفعة فيها. وقال بعضهم: هي محرمة لذكر الإثم فيها. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اللهم بين لنا بيانا شافيا، فأنزل الله تَعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] [النساء: 43] الآية. فقالوا: إنما حرم شربها في وقت الصلاة دون غيره، فقال عمر: اللهم بين لنا بيانا شافيا، فأنزل الله تَعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ} [المائدة: 90] الآيتين إلى قَوْله تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] [المائدة: 90-91] فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: انتهينا يا ربنا) . وقيل: إن سبب نزول تحريم الخمر: «أن رجلا من

(12/515)


الأنصار شوى بعيرا ودعا سعدا، فأكل وشرب معه وسكر، فرمى وجه سعد بلحي البعير، فكسر أنفه، فنزل تحريمها» .
وأمَّا السنة: فما رَوَى الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإسناده عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شرب الخمر في الدنيا.. حرمها في الآخرة» .
ورَوَى ابن عمر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله الخمرة، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومشتريها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه» .
ورَوَى عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الخمر أم الخبائث» .

(12/516)


ورُوِي «عن أنس: أنه قال: (كنت أسقي أبا طلحة وأبي بن كعب وأبا أيوب الأنصاري، فأتاهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبُو طلحة: قم إلى الجرار فاكسرها، فقمت إليها، فضربت أسفلها بمهراس فكسرتها» .
ورُوِي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «شارب الخمر كعابد وثن» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله حرم الكلب وحرم ثمنه، وحرم الخنزير وحرم ثمنه، وحرم الخمر وحرم ثمنها» .
وأمَّا الإجماع: فأجمعت الصحابة ومن بعدهم من المسلمين: على تحريمها.
ورُوِي عن قدامة بن مظعون وعمرو بن معد يكرب: أنهما قالا: (هي حلال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93] الآية [المائدة: 93] فقال قدامة: فلنشرب ونتق، فأنكر عليهما الصحابة ذلك، فرجعا عن ذلك) . وأمَّا الآية.. فلها تأويلان:

(12/517)


أحدهما: أنه أراد ذلك قبل تحريمها.
والثاني: أنه أراد: فيما طعموا من المباحات الطيبات.
فمن استحل شربها بعد ذلك.. فهو كافر، وعليه يتأول قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شارب الخمر كعابد وثن» يعني: إذا اعتقد إباحتها.
إذا ثبت هذا: فمن شرب منها وهو مسلم، عاقل، بالغ، مختار.. وجب عليه الحد، سواء شرب منها قليلا أو كثيرا، سكر أو لم يسكر؛ لما رَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شرب الخمر.. فاجلدوه، فإن عاد.. فاجلدوه، فإن عاد.. فاجلدوه، ثم إن عاد.. فاقتلوه» والقتل في الرابعة منسوخ؛ لما روى قبيصة بن ذؤيب: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي برجل شرب الخمر فجلده، فأتي به ثانيا وقد شرب فجلده، فأتي به ثالثا وقد شرب فجلده، فأتي به رابعا وقد شرب فجلده، ولم يقتله» . وأجمعت الأمة: على ذلك أيضا.

(12/518)


[مسألة: حرمة ما أسكر كثيره وقليله وأنواعه]
وما عدا الخمر من الأشربة المسكرة؛ كعصير العنب المطبوخ، ونبيذ التمر والزبيب والذرة والشعير، وغير ذلك.. فيحرم قليلها وكثيرها، ويجب بشربها الحد. وبه قال عمر، وعلي، وابن عبَّاس، وابن عمر، وأبو هريرة، وسعد ابن أبي وقاص، وابن مَسعُودٍ، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن الفقهاء: مالك، والأَوزَاعِي، وأحمد، وإسحاق، وقال أبُو حَنِيفَة: (الأشربة على أربع أضرب:
أحدها: الخمر - وهو عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده - فيحرم قليله وكثيره، ويجب على شاربه الحد- ولم يشترط أبُو يوسف ومحمد أن يقذف زبده، وقالا: إذا اشتد وغلى.. كان خمرا-.
والثاني: المطبوخ من عصير العنب، فإذا ذهب أقل من ثلثيه.. فهو حرام، ولا حد على شاربه إلا إذا سكر. وإن ذهب ثلثاه.. فهو حلال إلا ما أسكر منه.
وإن طبخه عنبا.. ففيه روايتان:
إحداهما: أنه يجري مجرى عصيره.
والمشهور: أنه حلال وإن لم يذهب ثلثاه.
الثالث: نقيع التمر والزبيب، فإن طبخ بالنار.. فهو مباح، ولا حد على شاربه إلا إذا أسكر، فيحرم القدر الذي يسكر، وفيه الحد. وإن لم تمسسه النار.. فهو حرام، ولا حد على شابه إلا إذا أسكر.
الرابع: نبيذ الحنطة والذرة والشعير والأرز والعسل ونحو ذلك.. فهو حلال،

(12/519)


سواء كان نيئا أو مطبوخا، إلا أنه يحرم المسكر منه، ولا حد على شاربه سكر أو لم يسكر) .
دليلنا: ما رَوَى النعمان بن بشير: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البر خمرا، وإن من الشعير خمرا» . ورَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والكرم» .
ورَوَى ابن عمر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» .
ورُوِي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حرمت الخمرة بعينها، والمسكر من كل شراب» .
ورُوِي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أسكر كثيره.. فقليله حرام» .

(12/520)


وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أسكر الفرق منه.. فملء الكف منه حرام» . و (الفرق) بسكون الراء -: مكيال يسع مائة وعشرين رطلا. وبنصب الراء: يسع ستة عشر رطلا. والخبر رُوِيَ بنصب الراء.
ولأن الله تَعالَى حرم الخمر ونبه على المعنى الذي حرمها لأجله؛ وهو: أن الشيطان يوقع فيها العداوة والبغضاء ويصد بها عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذه المعاني موجودة في هذه الأشربة، فوجب أن يكون حكمها حكم الخمر في التحريم والحد.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في هذه الأشربة: هل يقع عليها اسم الخمر؟
فمنهم من قال: يقع عليها اسم الخمر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من الشعير خمرا، وإن من البر خمرا» . ورُوِي عن عمر وأبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: (الخمر ما خامر العقل) . فعلى هذا: يحتج على تحريم هذا الأشربة بالآية. وقال أكثر أصحابنا: لا يقع عليها اسم الخمر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمت الخمرة بعينها، والمسكر من كل شراب» فلو كان اسم الخمر يطلق على هذه المسكرات.. لاكتفى بقوله: «حرمت الخمرة بعينها» . فعلى هذا: لا يدل على تحريم هذه الأشربة إلا السنة والقياس.

(12/521)


[فرع: بيع المسكر]
كل شراب مسكر لا يجوز بيعه، وهو نجس. وقال أبُو حَنِيفَة: (يجوز بيعه إلا الخمر) .
وقال أبُو يوسف ومحمد: لا يجوز بيع نقيع التمر والزبيب، ويجوز بيع باقيها.
دليلنا: أنه شراب فيه شدة مطربة، فلم يجز بيعه، كالخمر.

[فرع: طبخ اللحم أو عجن الدقيق والند بخمر]
قال ابن الصبَّاغ: وإن طبخ لحما بخمر وأكل مرقها.. حد. وإن أكل اللحم.. لم يحد؛ لأن عين الخمر موجود في المرقة وليس بموجود في اللحم، وإنما فيه طعمه.
وإن عجن دقيقا بخمر وخبزه، فأكل الخبز.. لم يحد؛ لأن عين الخمر أكلتها النار. قال ابن الصبَّاغ: وإن استعطَى الخمر أو احتقن.. لم يحد؛ لأنه ليس بشرب ولا أكل. وفيما قاله ابن الصبَّاغ نظر؛ لأن حكم الاستعاط والاحتقان حكم الشرب في إبطال الصوم، فكان حكمه حكم الشرب في الحد.
قل ابن الصبَّاغ: وإن ثرد بالخمر وأكله، أو اصطبغ بها.. حد؛ لأنها غير مستهلكة. وإن عجن الند بالخمر.. كان نجسا، ولم يجز بيعه. وإذا تبخر به.. فهل ينجس؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين في دخان سائر النجاسات.

[مسألة: حد الحر أو العبد في شرب الخمر]
فإن كان المحدود في الخمر حرا.. جلد أربعين جلدة. ورُوِي ذلك عن أبي بكر

(12/522)


- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال مالك وأبو حَنِيفَة والثوريُّ: (الواجب عليه ثمانون جلدة، ولا يجوز النقصان عنه) . واختاره ابن المنذر.
دليلنا: ما روى عبد الرحمن بن الأزهر قال: «أتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشارب الخمر، فقال: "اضربوه"، فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، وحثوا عليه التراب، ثم قال: "بكتوه".. فبكتوه» . و (التبكيت) : أن يقال للرجل: أما خشيت الله، أما اتقيت الله؟
فلما كان زمن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.. أتي بشارب، فسأل من حضر ذلك الضرب، فقومه، فضرب أبُو بكر في الخمر أربعين جلدة، ثم عمر، ثم تتابع الناس في الخمر، فاستشار عمر الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فضربه ثمانين) .
ورَوَى أنس: (أن «النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بشارب خمر، فأمر عشرين رجلا فضربه كل واحد ضربتين بالجريد والنعال» . روى أبُو ساسان قال: (شهدت عُثمانَ بن عفان وقد أتي بالوليد بن عقبة وقد شهد عليه حمران وآخر معه بالخمر، فشهد أحدهما أنه شربها

(12/523)


وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عُثمانَ: ما تقيأها حتى شربها، فقال لعلي: دونك ابن عمك فاجلده، فقال علي للحسن: اجلده، فقال: ولِّ حارها من تولى قارها- يعني: ولِّ شديدها من تولى هينها ولينها - فقال عليّ: لا، ولكنك ضعفت وعجزت، قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده، فأخذ السوط وجلده وعلي يعد، فلما بلغ أربعين.. قال: «حسبك، جلد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين» وجلد أبُو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين وكلاهما سنة، وهذا أحب إلي) .
وإن كان المحدود عبدا.. فالواجب عليه عشرون جلدة؛ لأنه حد يتبعض، فكان العبد على النصف من الحر، كالجلد في الزِّنَى.
فإن رأى الإمام أن يحد الحر أكثر من الأربعين إلى الثمانين، وتكون الزيادة على الأربعين تعزيرا، أو يحد العبد أكثر من عشرين إلى أربعين، وتكون الزيادة على العشرين تعزيرا.. جاز؛ لما رَوَى أبُو وبرة الكلبي قال: (أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر، فأتيته ومعه عُثمانَ وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير، فقلت: إن خالدا يقرأ عليك السلام، ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه؟ فقال عمر: فما ترون؟ فقال عليّ: إنه إذا شرب.. سكر، وإذا سكر.. هذى، وإذا هذى.. افترى، فيحد حد المفتري، فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال. فجلد خالد ثمانين، وجلد عمر ثمانين، وكان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا أتي بالرجل المنهمك بالشرب.. جلدة ثمانين، وإذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة.. جلده أربعين) ، ويدل عليه قول عليّ: «جلد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين» وأبو بكر أربعين

(12/524)


، وعمر ثمانين، وكلاهما سنة، وهذا أحب إلي) . ومعناه: الاقتصار على حد الخمر سنة، وضم التَّعزِير إليه سنة، فإن قيل: فالتَّعزِير لا يبلغ عندكم أربعين؟
قلنا: لا يجوز له أن يبلغ به الأربعين على زلة واحدة، فأما إذا كانت زلات.. فلا يمنع أن يبلغ به أربعين، وهاهنا منه زلات الهذيان والافتراء.

[فرع: جلد الشارب فمات]
فإن جلد الإمام الحر في الخمر أربعين فمات منه، أو جلد العبد عشرين فمات.. كان دمه هدرا؛ لما رُوِيَ: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لما جلد ابنه عبيد الله في الخمر.. جعل عبيد الله يقول: قتلتني، فقال عمر: (الحق قتلك) . ولأنه مات من حد، فلم يضمنه، كما لو مات من حد الزِّنَى.
وإن رأى الإمام أن يبلغ في الحر ثمانين أو بالعبد أربعين، فبلغ به ذلك فمات.. لم يهدر دمه؛ لما رُوِيَ عن عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (ما أحد أقيم عليه حدا فيموت فأجد في نفسي منه شيئا إلا الخمر؛ فإنه شيء أحدثناه بعد موت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمن مات منه.. فديته في بيت المال، أو على عاقلة الإمام) . وأراد به الزيادة على الأربعين؛ لأنه قد ذكر: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلد في الخمر أربعين» .
إذا ثبت هذا: فلا خلاف أنه لا يضمن جميع الدية؛ لأنه مات من حد ومن غير حد، فينظر فيه: فإن جلده ثمانين فمات.. وجب عليه نصف ديته، وهدر نصف ديته. وإن جلده إحدَى وأربعين جلدة فمات.. ففيه قولان:

(12/525)


أحدهما: يجب نصف ديته ويهدر النصف؛ لأنه مات من مضمون وغير مضمون، فسقط نصف ديته ووجب نصفها، كما لو جرح نفسه جراحات، وجرحه آخر جراحات، ومات من الجميع.
والثاني: أن الدية تقسم على عدد الجلدات، فيسقط من ديته أربعون جزءا، ويجب جزء من واحد وأربعين جزءا؛ لأن السياط تتساوى في الظاهر في السراية والألم، بخلاف الجراحات. وما وجب من ديته.. فهل يجب في بيت المال، أو على عاقلة الإمام؟ فيه قولان، مَضَى ذكرهما في (الجنايات) .
وإن أمر الإمام رجلا، أن يجلد رجلا في القذف ثمانين جلدة، فجلده إحدَى وثمانين جلدة، فمات المحدود.. وجب على الجلاد الضمان. وكم يجب عليه؟ على هذين القولين:
أحدهما: يجب عليه نصف الدية.
والثاني: يجب عليه جزء من واحد وثمانين جزءا من الدية، إلا أن يكون الإمام قد قال للجلاد: اضرب وأنا أعد، فتركه حتى زاد على الثمانين ومات المحدود.. فإن الضمان يجب على الإمام؛ لأنه هو الذي اختار الزيادة؛ إذ لم يأمره بالقطع. وكم يجب عليه؟ على القولين.
فإذا قال الإمام للجلاد: اضرب ما شئت وما اخترت.. لم يكن له أن يزيد على الحد، فإن زاد عليه.. ضمن. وإن أمر الإمام الجلاد أن يجلد في الخمر ثمانين، فجلد إحدَى وثمانين جلدة، فمات المحدود، فإن قلنا: تقسم الدية على عدد الجلدات.. سقط من ديته أربعون جزءا من أحد وثمانين جزءا، ووجب على الإمام أربعون جزءا من هذا الأصل، وعلى الجلاد جزء من هذا الأصل. وإن قلنا: تقسم الدية على أنواع الجلد.. ففيه وجهان:
أحدهما: يسقط من ديته الثلث، ويجب على الإمام الثلث، وعلى الجلاد الثلث؛ لأنه اجتمع في الجلد ثلاثة أنواع: حد واجب، وتعزير، ومحرم.

(12/526)


والثاني: يسقط من ديته النصف، ويجب النصف على الإمام والجلاد بينهما نصفين؛ لأن الجلد نوعان: مضمون وغير مضمون، فسقط النصف لأجل ما ليس بمضمون، ووجب النصف لأجل ما هو مضمون، فكان بين الضامنين نصفين.

[مسألة: آلة ضرب المحدود]
] : وبم يضرب المحدود في الخمر؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أكثر أصحابنا - أنه يضرب بالنعال والأيدي وأطراف الثياب؛ لما روى عبد الرحمن بن أزهر: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بشارب فقال: "اضربوه" فضربوه بالنعال والأيدي وأطراف الثياب وحثوا عليه التراب» . وروى أنس: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بشارب، فأمر عشرين رجلا، فضربه كل واحد منهم ضربتين بالجريد والنعال» . ولأن حد الخمر لما كان أخف من غيره في العدد.. فوجب أن يكون أخف من غيره في الصفة.
والثاني - وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد -: أنه يضرب بالسوط؛ لما رُوِيَ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، جلد ابنه عبيد الله بالسوط لما شرب الطلاء) . و: (ضرب عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، الوليد بن عقبة بالسوط) . ومن قال بهذا.. تأوَّل الخبرين الأولين: على أن المحدود كان مريضا أو نضو الخلق ضعيفا.
فإذا قلنا: يضرب بالسوط، فضرب به فمات.. لم يجب ضمانه.
وإذا قلنا: يضرب بالنعال والأيدي، فضرب بالسوط فمات.. فهل يضمن؟ فيه وجهان - حكاهما ابن الصبَّاغ مأخوذان من القولين إذا ضربه في شدة حر أو برد:
أحدهما: يضمن؛ لأنه فعل ما ليس له.
والثاني: لا يضمن؛ لأنه وقع موقع الحد. فإذا قلنا: يضمن.. فكم يضمن؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يضمن جميع الدية؛ لأنه تعدى بجميع الضرب، فضمن جميع الدية، كما لو ضربه بما يجرح فمات.
والثاني: يضمن بقدر ما زاد ألم السوط على ألم النعال.

(12/527)


والثالث: يضمن نصف الدية؛ لأن قدر الضرب بالأيدي والنعال مستحق، وما زاد عليه متعد به، فصار بعضه مضمونا وبعضه غير مضمون، فسقط النصف لما هو غير مضمون، ووجب النصف لما هو مضمون.
وهل يجب ذلك في بيت المال، أو على عاقلة الإمام؟ على القولين.

[مسألة: الإقرار والشهادة من غير تفسير في الخمر والشم]
مسألة: [الإقرار والشهادة من غير تفسير يوجبان الحد في الخمر بخلاف الشم ونحوه] :
ولا يجب حد الخمر حتى يقر أنه شرب خمرا، أو أنه شرب مسكرا، أو شرب شرابا يسكر منه غيره، أو تقوم عليه بينة بذلك. ولا يفتقر في الشهادة عليه إلى أن يقول الشاهد: إنه شرب شرابا مسكرا وهو غير مكره، ولا مع علمه أنه يسكر؛ لأن الظاهر من فعله الاختيار والعلم.
والفرق بينه وبين الشهادة على الزِّنَى حيث قلنا: لا يحكم عليه حتى يفسر الشاهد الزِّنَى.. أن الزِّنَى يعبر به عن الصريح وعن دواعيه، وشرب الخمر لا يعبر به عن غيره.
فإن وجد الرجل سكران، أو شم منه رائحة الخمر، أو تقيأ خمرا أو مسكرا.. لم يقم عليه الحد. وبه قال أكثر أهل العلم. ورُوِي عن عُثمانَ: (أنه لما شهد عنده رجلان على الوليد بن عقبة، فشهد أحدهما عليه أنه شرب الخمر، وشهد الآخر أنه تقيأها، فقال: ما تقيأها إلا وقد شربها، فحده) .
ورُوِي: (أن ابن مَسعُودٍ، قدم حمص، فسألوه أن يقرأ لهم شيئا من القرآن، فقرأ سورة يوسف، فقال له رجل: ما هكذا أنزلت! فقال ابن مَسعُودٍ: قرأت عليكم كما قرأت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل الرجل ينازعه، فشم منه ابن مَسعُودٍ، رائحة الخمر، فقال: أتشرب النجس وتكذب بالقرآن؟! والله لا أبرح حتى أحدك، فحده) .

(12/528)


دليلنا: أنه يحتمل أنه أكره على شربها، ويحتمل أنه ظن أنه لا يسكر، فلا يلزمه الحد بالشك. وما رُوِيَ عن عُثمانَ وابن مَسعُودٍ. فقد رُوِيَ عن عمر: (أنه شم من ابنه عبيد الله رائحة الشراب فسأله، فقال: شربت الطلاء، فقال عمر: إنِّي سائل عنه، فإن كان مسكرا.. حددتك، فسأل عنه، فقيل: إنه مسكر، فحده، ولم يحده بشم الرائحة) . وكذلك رُوِيَ عن ابن الزبير.

[مسألة: تداخل حد الشرب يوجب حدا واحدا وماذا لو تقادم العهد قبل إقامته؟]
إذا شرب الخمر، فلم يحد حتى شرب ثانيا وثالثا.. حد للجميع حدا واحدا، كما قلنا في حد الزِّنَى.
وإن شرب الخمر، فمضى عليه زمان ولم يحد ولم يتب.. فإن الحد لا يسقط عنه، وكذلك سائر الحدود.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يسقط بتقادم العهد حد الشرب وحد الزِّنَى دون حد القذف) .
دليلنا: أنه حد فلم يسقط بتقادم العهد، كحد القذف.

[مسألة: اجتماع أسباب الحدود]
وإن اجتمع عليه حدود بأسباب؛ بأن زنَى وهو بكر، وسرق، وشرب الخمر، وقذف.. فإنها لا تتداخل؛ لأن أسبابها مختلفة. فإن اجتمع عليه الحد في الزِّنَى، وحد القذف.. قدم حد القذف، سواء تقدم القذف أو تأخر.
واختلف أصحابنا في علته: فقال أبُو إسحاق وغيره: إنما قدم؛ لأنه حق آدمي.
وقال أبُو عليّ بن أبي هُرَيرَة: إنما قدم؛ لأنه أخف. والأول أصح.

(12/529)


وإن اجتمع حد القذف وحد الشرب. فعلى تعليل أبي إسحاق: يقدم حد القذف. وعلى تعليل أبي عليّ بن أبي هُرَيرَة: يقدم حد الشرب. فإن اجتمع مع ذلك القطع في السرقة.. قدمت هذه الحدود على القطع؛ لأنها أخف.
ولا يقام عليه حد حتى يبرأ ظهره من ألم الحد الذي قبله.
فإن سرق نصابا في غير المحاربة ونصابا في المحاربة.. قطعت يمينه لأحد النصابين، وتقطع رجله لأخذ المال في المحاربة، وهل يوالى بين قطع اليد والرجل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يوالى بينهما، بل لا يقطع حتى تندمل اليد؛ لأن اليد قد قطعت في السرقة بغير المحاربة، والرجل قطعت لأخذ المال في المحاربة، وهما سببان مختلفان.
والثاني: يوالى بينهما، وهو الأصح؛ لأنهما حد واحد.
فإن اجتمع عليه حد الزِّنَى، وحد القذف، وحد الشرب، والقطع لأخذ المال في المحاربة، والقتل في غير المحاربة.. فإن هذه الحدود تقام عليه على ما مَضَى، ثم تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى. قال الشيخُ أبُو حامد: فإذا اندملتا.. قتل قصاصا.
وقال ابن مَسعُودٍ: (يقتصر على القتل وحده) . وبه قال النخعي.
دليلنا: الظواهر في وجوب هذه الحدود، ولم تفرق.
وإن اجتمع عليه حد الزِّنَى، وحد القذف والشرب، وأخذ المال في المحاربة، والقتل في المحاربة.. فإن هذه الحدود تقام عليه، ثم يقتل ولا يقطع للمحاربة؛ لأن المحارب إذا أخذ المال وقتل.. لم يلزمه القطع، وإنما يقتل ويصلب. وهل يجب التفريق بين هذه الحدود؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب التفريق بينها؛ لأنه إذا والى بين حدين.. لم يؤمن أن يموت قبل استيفاء ما بعدهما.

(12/530)


و [الثاني] : قال أبُو إسحاق: تجوز الموالاة بينهما؛ لأن القتل في المحاربة متحتم عليه، فلا معنى للتفريق. والأول أصح.
وإن اجتمعت عليه هذه الحدود، وقتل في المحاربة، وقتل في غير المحاربة.. فإن هذه الحدود تقام عليه على ما مَضَى، ولا تقطع اليد والرجل للمحاربة؛ لما مَضَى. فإن كان القتل للمحاربة وجب عليه قبل القتل في غير المحاربة.. قتل للمحاربة وصلب، ووجبت الدية في ماله للقتل في غير المحاربة. وإن كان القتل في غير المحاربة وجب عليه القتل للمحاربة.. فولي المقتول بالخيار: بين أن يقتص منه وبين أن يعفو؛ فإن عفا عنه.. قتل للمحاربة وصلب. وإن اقتص منه الولي للقتل في غير المحاربة.. صلب للقتل في المحاربة.
وروى الحارث بن سريج البقال عن الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه قال: (لا يصلب؛ لأن الصلب إنما يجب إذا قتل للقتل في المحاربة) وهذا يدل على صحة قول الشيخ أبي حامد إذا مات قاطع الطريق: أنه لا يصلب.
والله أعلم وبالله التوفيق

(12/531)


[باب التَّعزِير]
التَّعزِير: اسم يختص بالضرب الذي يضربه الإمام أو خليفته؛ للتأديب في غير الحدود. فأما ضرب الرجل زوجته، وضرب المعلم للصبي.. فلا يسمى تعزيرا، وإنما يسمى تأديبا.
فإذا فعل الإنسان معصية ليس فيها حد ولا كفارة، كوطء الأجنبية فيما دون الفرج، والسرقة فيما دون النِّصَاب أو من غير حرز، أو القذف بغير الزِّنَى، أو الجنايات التي ليس فيها أرش.. فللإمام أن يعزره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] [النساء: 34] فأجاز للزوج أن يضرب زوجته للنشوز، والنشوز معصية، فدلَّ على: أن كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.. يجوز الضرب لأجلها.
ورَوَى عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا قطع في الثمر المعلق إلا ما آواه الجرين، فإذا آواه الجرين وبلغت قيمته ثمن المجن.. ففيه القطع، وإن لم تبلغ قيمته ثمن المجن.. ففيه الغرم وجلدات نَكَالا» . ورَوَى أبُو بردة بن نيار: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجلد أحد فوق عشر جلدات في غير حد من حدود الله» . فدلَّ على: أنه يجوز ضرب عشر جلدات في غير الحدود. ورُوِي: «أن

(12/532)


النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عزر إنسانا» . ورُوِي: (أن معن بن زائدة زور على عمر كتابا، فعزره) . ورُوِي: أن علياً سئل عن قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا خبيث، فقال: (هن فواحش، فيهن تَعزِير، وليس فيهن حد) .
إذا ثبت هذا: فإن التَّعزِير غير مقدر، بل إن رأى الإمام أن يحبسه.. حبسه. وإن رأى أن يجلده.. جلده. ولا يبلغ به أدنى الحدود؛ فإن كان حرا.. لم يبلغ به أربعين جلدة، بل ينقص منها ولو جلدة. وإن كان عبدا.. لم يبلغ به عشرين جلدة. وبه قال أبُو حَنِيفَة ومحمد. وحكى الشيخُ أبُو حامد: أن من أصحابنا من قال لا يبلغ بتعزير الحر عشرين جلدة.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: ينظر في المعصية التي يعزر لأجلها، فإن كانت من جنس الشرب، مثل أن يكون قد أدار كأس الماء على جماعة على هيئة إدارة كأس الخمر.. عزر دون الأربعين. وإن كانت من جنس القذف؛ بأن يشتم إنسانا بما ليس بقذف.. فإنه يضرب دون الثمانين. وإن كانت من جنس الزِّنَى؛ مثل أن يطأ أجنبية فيما دون الفرج أو يقبلها.. فإنه يضرب دون المائة.
وقال أبُو يوسف وابن أبي ليلى: يجوز أن يبلغ بالتَّعزِير خمسا وسبعين، ولا يزاد عليه. وقال مالك والأَوزَاعِي: (له أن يضرب في التَّعزِير أي عدد شاء على حسب ما يؤدي إليه اجتهاده) .
والأول أصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بلغ بما ليس بحد حدا.. فهو من المعتدين» .

(12/533)


ورَوَى أبُو بردة بن نيار أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجلد أحد فوق عشر جلدات في غير حد من حدود الله» . وعند المخالف: يجوز أن يجلد مائة في غير الحد.
فإن قيل: فالخبر يدل على أنه لا يجوز الزيادة على العشر في غير الحد؟
قلنا: قد أجمعت الأمة: على أنه يجوز الزيادة على العشر ما لم يبلغ به أدنى الحدود، فيستدل بالإجماع على نسخ ظاهر الخبر. ورُوِي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه كتب إلى أبي موسى: (أنه لا يبلغ بنَكَال أكثر من عشرين سوطا) . ورُوِي: (ثلاثين سوطا) . ورُوِي: (ما بين الثلاثين إلى الأربعين) . ولأن العقوبة إذا علقت في الشَّرع بجرم.. لم تتعلق بما دونه، كالقطع لما علق بسرقة النِّصَاب لم يتعلق بما دونه.
ويكون الضرب في التعزير بين الضربين، كما قلنا في الحد. وقال أبُو حَنِيفَة: (الضرب في التَّعزِير يكون أشد من الضرب في الزِّنَى، ثم الضرب في الشرب دون الضرب في الزِّنَى، ثم الضرب في القذف) . وقال الثوريُّ: الضرب في القذف أشد من الضرب في الشرب.
دليلنا: أن التَّعزِير أخف من الحد في عدده، فلا يجوز أن يزاد عليه في إيلامه ووجعه.

[فرع: جواز التَّعزِير وتركه]
قال الشيخُ أبُو إسحاق: إن رأى السلطان ترك التَّعزِير.. جاز تركه إذا لم يتعلق به حق آدمي. وقال الشيخُ أبُو حامد: التَّعزِير ليس بواجب، بل الإمام بالخيار: إن شاء فعله، وإن شاء تركه. ولم يفرق بين أن يتعلق به حق آدمي أو لا يتعلق. وقال أبُو حَنِيفَة: [إن غلب على ظن الإمام أنه لا يصلح الرجل إلا التَّعزِير.. فالتَّعزِير واجب،

(12/534)


ولا يجوز للإمام تركه. وإن غلب على ظنه أنه يصلحه الجلد وغيره.. فليس ذلك بواجب] .
دليلنا: ما رُوِيَ: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أقيلوا ذَوِي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود» .
ورُوِي: «أن الزبير ورجلا من الأنصار اختصما إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شراج الحرة- و (الحرة) : هي الأرض الملبسة بالحصى، و (الشراج) : هي الساقية التي فيها الماء - فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اسق يا زبير أرضكم، ثم أرسل الماء إلى جارك". فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك يا رسول الله؟! فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى تبلغ أصول الجدر» .
فموضع الدليل: أن الأنصاري اتهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قضى للزبير؛ لأنه ابن عمته، وهذا يستحق به القتل فضلا عن التَّعزِير، فترك النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعزيره.
فمن أصحابنا من قال: إنما أمر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزبير أن يسقي أرضه إلى أن يبلغ الماء إلى الجدر، وذلك زائد على ما تستحقه من الشرب، تعزيرا للأنصاري حين قال ما قال، وكان ذلك حين كانت العقوبات في الأموال.
ومنهم من قال: بل كان أمر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير في المرة الأولى أن يأخذ أقل من حقه من السقي، فلما قال الأنصاري ما قال.. أمره النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يستوفي جميع حقه، وهو: أن يبلغ الماء إلى أصول الجدر، وإذا بلغ ذلك.. كان إلى الكعب.
وكان قول الأنصاري هذا يقتضي التَّعزِير، وإنما ترك النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعزيره على ما مَضَى. ولأنه ضرب غير محدود، فلم يكن واجبا، كضرب الزوج زوجته، وكما لو غلب على ظن الإمام أنه يصلحه الضرب وغير الضرب.

(12/535)


[فرع: موت المعزر يوجب الضمان]
إذا عزر الإمام رجلا فمات.. وجب ضمانه.
وحكى الطبري في " العدة " وجها آخر: أن التَّعزِير نوعان:
[أحدهما] : نوع واجب، كتعزير من قذف أمة أو ذمية، أو وطئ أجنبية فيما دون الفرج، فإذا عزر فيه الإمام فأدى إلى التلف.. لم يضمنه الإمام.
و [الثاني] : نوع لا يجب؛ مثل: أن يسيء أدبه في مجلس القاضي، فإذا عزره القاضي ومات.. وجب ضمانه. والأول أصح.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إن غلب على ظن الإمام أنه لا يصلحه إلا الضرب، فضربه فمات.. لم يجب ضمانه؛ لأنه تَعزِير واجب. وإن غلب على ظنه أنه يصلحه الضرب وغيره، فضربه ومات.. وجب ضمانه) .
دليلنا: ما رُوِيَ عن عليّ: أنه قال: (ما من أحد أقيم عليه الحد فيموت، فأجد في نفسي منه شيئا إلا حد الخمر - ورُوِي - إلا ما كان من شارب الخمر؛ فإنه شيء أحدثناه بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمن مات منه.. فديته على عاقلة الإمام) . أو قال: (في بيت المال) ، والذي أحدثوه بعد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الزيادة على الأربعين، وهو التَّعزِير، فثبت أنه إذا مات من التَّعزِير.. وجب ضمانه. وكذلك في قصة المرأة التي أرسل إليها عمر فأسقطت جنينا ميتا، فحكم عليّ بـ (أن دية الجنين على عاقلة عمر) . ولم يخالفه أحد، فدلَّ على أنه: إجماع. ولأنه ضرب غير محدود، له عنه مندوحة، فكان مضمونا، كالضرب في النشوز.
فقولنا: (غير محدود) احتراز من الضرب في الحد؛ فإنه محدود. وقولنا: (له عنه مندوحة) احتراز من ضرب الرائض للدابة؛ فإنه لا مندوحة له عنه؛ لأنه لا يمكن

(12/536)


تأديبها إلا بالضرب، وهذا قد كان يمكنه تأديبه بالزجر بالكلام والحبس.
وهل يجب ذلك على عاقلة الإمام، أو في بيت المال؟ على القولين.

[مسألة: أزال السلعة من رجل فمات]
إذا كان على إنسان سلعة - وهي: كالجوزة تكون بين الجلد واللحم، تكون على الرأس والبدن، قال ابن الصبَّاغ: وهي بكسر السين، والسلعة - بفتح السين-: هي الشجة - فإن قطعها منه إنسان فمات.. نظرت: فإذا كانت على إنسان غير مولى عليه، فإن قطعها بإذنه.. فلا ضمان عليه. وإن قطعها بغير إذنه، أو أكرهه على قطعها.. لزمه القود إن كان ممن يجب له عليه القود.
وإن كانت على مولى عليه، فإن قطعها من لا ولاية له عليه.. فعليه القود، أو الدية إن لم يكن ممن يجب له عليه القود. وإن قطعها ولي عليه، فإن كان أبا أو جدا.. لم يلزمه القود، ووجبت عليه ديته. وإن كان غيرهما من الأولياء.. ففيه قولان، مَضَى ذكرهما في (الجنايات) .
وإن كان القاطع إماما.. فهل تجب الدية في ماله، أو على عاقلته؟ على القولين.
وبالله التوفيق